شرح التبصرة والتذكرة الدكتور ماهر ياسين فحل
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا .
أما بعد :
الحمد لله ثُمَّ الحمد لله الذي مَنَّ علينا بتحقيق كتاب " شرح التبصرة والتذكرة " للإمام العلاّمة الحافظ العراقي ، والحمد لله الذي مَنَّ علينا بالصحة والتمكين حتَّى أنهينا هذا السفر العظيم المبارك ، والحمد لله الذي مَنَّ علينا بمعرفة السُّنَّة النبوية وخدمتها ، والله وحده عليم بالجهد الذي بذلناه في خدمة هذا الكتاب النفيس ، الذي نعدّه موسوعة في مصطلح الحديث ؛إذ أن لهذا الكِتَاب أهمية بالغة بَيْنَ بقية كتب مصطلح الْحَدِيْث ؛ لِمَا فِيْهِ من دراسات قلَّ نظيرها ، ولِمَا فِيْهِ من استدراكات وإضافات عَلَى أعظم إمام كَتَبَ في المصطلح ألاَ وَهُوَ ابن الصَّلاَح ، إذ يعدّ عمل ابن الصَّلاَح في كتابه " مَعْرِفَة أنواع علم الحديث " نواة لكتاب الحافظ العراقي هذا ، إذ قام الحافظ بإضافات واستدراكات ، وأوضح ما خفي وشرح ما كان يستحق الشرح ، حتَّى أصبح هذا الكتاب أنفس كتاب في مصطلح الحديث وأحسنها .
ومن العجب أنّ كُتُباً أقلّ شأناً منه قد عني بها المحقّقون ، غير أن أحداً منهم لم يأخذ على عاتقه خدمة هذا السفر العظيم ، من هنا شمّرنا عن ساعد الجدّ وأخذنا على أنفسنا تحقيق هذا الكتاب الفريد ، وقطعنا دونه جميع الأعمال والأشغال حتَّى خرج بهذه الحُلّة التي بين يديك .
طبعات الكتاب
طبع الكتاب عدة طبعات ، بلغت – حسب علمنا – ثلاثاً ، فيما يأتي وصف موجز لكلّ منها :
أ. الطبعة المصرية القديمة : طبعة خطأً باسم " فتح المغيث بشرح ألفية الحديث " ، صحّحها رجال جمعية النشر والتأليف الأزهرية ، وعلَّق عليها محمود ربيع ، سنة 1355 ه – 1937 م . ولم يتيسر لنا الاطلاع عليها .
ب. الطبعة الفاسية : وهي الطبعة التي حقّقها الأستاذ محمد بن الحسين العراقي الحسيني ، في سنة 1355 ه – 1937 م ، وطبعت بالمطبعة الجديدة بفاس في المغرب .
وهي طبعة تكاد تخلو من علامات الترقيم والشكل سواء لمتن الألفية أو لشرحها ، علاوة على ما فيها من التصحيف والتحريف والخطأ والذهول ، والخلط في تعيين الرجل المقصود بالكلام ، ومن غير تخريج للأحاديث والآثار ، ولا مراجعة لموارد العراقي في شرحه ، … إلى غير ذلك مما لا يخفى على لبيب .
جـ. طبعة دار الكتب العلمية : وهي طبعة مُخْرَجَةٌ عن الطبعة الفاسية ، لم يكن فيها جديد إلاّ إعادة تنضيد حروفها .
فلمّا رأينا الأمر زاد عن حدّه ، حتّى انقلب الصواب إلى ضدّه ، مع حاجة الناس إليه ، وكثرة تعويلهم عليه ، استخرنا الله تعالى في إعادة العمل في خدمته بما ييسره لنا جلّ ذكره ، فكان هذا الذي يراه القرّاء الكرام أمام أنظارهم وبين أياديهم الكريمة ، محتسبين لله ما صرفناه فيه من الجهد والمال ابتغاء للمثوبة ورجاء الفوز يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلب سليم .
اللهم فأحسن عاقبتنا في الأمور كلّها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة .
القسم الأول
الدراسة
الباب الأول : ابن الصلاح ومقدمته
الباب الثاني : العراقي وكتابه " شرح التبصرة والتذكرة "
الباب الأول
ابن الصلاح ومقدمته
ويشمل :
الفصل الأول : دراسة تحليلية لسيرة ابن الصَّلاَح .
الفصل الثاني : دراسة عن مقدمة ابن الصَّلاَح .
الفصل الأول
دراسة تحليلية لسيرة ابن الصلاح
المبحث الأول
اسمه ونسبه وولادته :
هو تقي الدين،أبو عَمْرو، عثمان بن صلاح الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر النصري الكردي الأهل الشرخاني الشهرزوري الأصل ، الموصلي النشأة،الدمشقي الموطن والوفاة ، الشافعي المذهب.ولد سنة (577)ه،بشهرزور.
المبحث الثاني
أسرته ونشأته وطلبه للعلم :
نشأ ابنُ الصلاح في بيت عِلم وورع ورئاسة في الفقه ، إذ كان والده إماماً مُفتياً رأساً في الفقه على مذهب الإمام الشافعي - رحمه الله - ، وولي فيما بعد التدريس في إحدى المدارس بحلب ، فكان والده أوّل مشايخه وأبرزهم .
كما تلقّى ابن الصلاح علومه على مشايخه في مسقط رأسه،والذين كان أغلبهم من الأكراد،ومما يدلّ على نباهته وعلو همته ونشاطه في طلب العلم-وَهُوَ لم يزل في مقتبل العمر- ما يذكر من أنّه أعاد على والده قراءة كتاب " المهذب " أكثر من مرة ، ولم يختطّ شاربه بعدُ. ومن ثَمَّ انتقل به والده إلى مدينة الموصل ، فاشتغل بها مدة وسمع بها.
ولم تقرّ عين أبي عمرو بأن يأخذ العلم عن شيوخ بلده فقط،فارتحل في طلب بغيته، وسافر إلى بغداد ، وإلى قزوين ، فلازم بها الإمام الرافعي ، حتى أتقن عليه جملة من العلوم، وإلى بلاد خراسان وأقام هناك زمناً، وأكثر فيها من سماع الحديث وتحصيله.
ومن ثَمَّ ألقى ابن الصلاح عصا ترحاله في بلاد الشام، وكان أوّل مقامه في مدينة القدس،ثُمَّ ورد دمشق بصحبة أبيه وأسرته فاتخذها سكناً، وذلك في سنة630ه.
ولا يفوتنا أنْ نذكر أنّه سافر إلى بلاد الحجاز لأداء فريضة الحجّ .
المبحث الثالث
شيوخه :
تتلمذَ ابنُ الصلاح على عدّة من الشيوخ ، سواء كانوا من مسقط رأسه ، أو من البلد التي استوطنها ، أو من البلاد الأخرى خلال أسفاره ورحلاته ، وكانت السمة المميزة لمشايخه أن أكثرهم كانوا من أهل الحديث ، وأبرزهم :
1 - أبو جعفر عبيد الله بن أحمد بن السمين .
2 - ضياء الدين أبو أحمد عبد الوهاب بن أبي منصور علي بن علي البغدادي المعروف ابن سكينة ، ت 607 ه .
3 – عماد الدين أبو حامد محمد بن يونس بن محمد الموصلي الفقيه ت 608 ه.
4 – أبو القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم القزويني الرافعي ت 624 ه ، وغيرهم .
المبحث الرابع
تلامذته
رُزِق أبو عمرو القبول بين الناس ، فتسابق طلاب العلم على التتلمذ عليه ، والانتهال من معين ما أوتيه من العلوم ، ومن أبرز تلامذته :
1 - شمس الدين عبد الرحمن بن نوح بن محمد المقدسي . ت 654 ه .
2 – شمس الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خلّكان الإربليت(681)ه .
3 – الحَافِظ أمين الدين عَبْد الصمد بن عَبْد الوهاب بن الحسن بن عساكر الدمشقي ، ثُمَّ المكي . ت(686)ه .
4– تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري المشهور بالفركاح.ت(690)هوغيرهم
المبحث الخامس
تدريسه
كان أبو عمرو ملماً بجوانب متعددة من فنون العلوم المختلفة ، زيادةً إلى طيب خلقه وكرم أصله ، مع الزهد والتواضع وحب الخير ، فوقع عليه الاختيار ليتولى التدريس في العديد من المدارس آنذاك ، منها :
1 ـ المدرسة الناصرية بالقدس .
2 ـ المدرسة الرواحية بدمشق .
3 ـ دار الحديث الأشرفية ، وهو أول من وليها ودرّس فيها من أهل الحديث ، وبقي في مشيختها ثلاث عشرة سنة ، وفيها أملى كتابه " علوم
الحديث " .
4 ـ مدرسة ست الشام ( زمرد خاتون بنت أيوب ) ت 616 ه .
ولقد أدّى ما أسند إليه حقّ القيام ، وكان يتحمل أعباء المدارس ثلاثتها ( الرواحية ، وست الشام ، ودار الحديث الأشرفية ) من غير إخلال أو تقصير .
المبحث السادس
آثاره العلمية
لَمَّا كان ابن الصلاح متضلِّعاً من تلك العلوم ، استطاع بفضل الله أولاً، ثُمَّ بما تمتع به من ذكاء وحافظة وجودة فَهْم ، أنْ يصنف العديد من المؤلفات ، منها :
1 - أدب المفتي والمستفتي .
2 - شرح الورقات لإمام الحرمين في أصول الفقه .
3 - صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته عن الإسقاط والسقط .
4 - فتاوى ومسائل ابن الصلاح في التفسير والحديث والأصول والفقه .
5 – علوم الحديث ، أو مقدمة ابن الصلاح. وغيرها .
المبحث السابع
وفاته
بعد عمر مِلْؤُهُ العلم والخير والصلاح ، انتقل الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح إلى جوار ربه الكريم ، وذلك صباح يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة 643 ه بدمشق ، ودُفن في مقابر الصوفية خارج دمشق – تغمده الله برحمته –.
الفصل الثاني
دراسة عن مقدمة ابن الصلاح
المبحث الأول
آراء العلماء في الكتاب
لقد كتب الله سبحانه وتعالى لهذا الكتاب - أعني علوم الحديث لابن الصلاح - القبول لدى الناس ، ولابد لمصنَّف ألّفه مثل هذا الإمام أن يصبح مَدْرَسَ أهل العلم وطلبته وفلكهم الذي لا يجاوزوه ، ومنهلهم الذي لا يصدرون إلا عنه ولا يردون إلا منه ، فهو الحَكَم لمشكلاتهم ، والفصل لمعضلاتهم أبان لهم عن جوهر معانيه ، واستزادهم فائدة عما فيه ، فأقبل الناس عليه ، وأصبح أحد دعائم مسلماتهم ، وانتهى إليه المتعلِّمون ، وبه استنار المستبصرون . وليس أدلّ على ما قدّمناه ممّا سطّرته أياديهم ، إشادة بهذا المصنَّف والمصنِّف ، فقد قال الإمام النووي ( ت 676 ه ) : (( هو كتاب كثير الفوائد ، عظيم العوائد ، قد نبَّه المصنِّف – رحمه الله – في مواضع من الكتاب وغيره ، على عظم شأنه ، وزيادة حسنه وبيانه ، وكفى بالمشاهدة دليلاً قاطعاً ، وبرهاناً صادعاً )) .
وقال الخويي ( ت 693 ه ) في منظومته :
وخير ما صنف فيها واشتهر
كتاب شيخنا الإمام المعتبر
وهو الذي بابن الصلاح يعرف
فليس من مثله مصنف
وقال ابن رشيد ( ت 721 ه ) : (( الذي وقفت عليه وتحصل عندي من تصانيف هذا الإمام الأوحد أبي عمرو ابن الصلاح – رحمه الله – كتابه البارع في معرفة أنواع علم الحديث وإنّه كلّما كتبت عليه متمثلاً :
لكل أناس جوهر متنافس
وأنت طراز الآنسات الملائح ))
وقال ابن جماعة (ت733ه) : ((واقتفى آثارهم الشيخ الإمام الحافظ تقي الدين أبو عمرو بن الصلاح بكتابه الذي أوعى فيه الفوائد وجمع،وأتقن في حسن تأليفه ما صنع)).
وقال الزركشي ( ت 794 ه ) : (( وجاء بعدهم الإمام أبو عمرو بن الصلاح فجمع مفرّقهم ، وحقّق طرقهم ، وأجلب بكتابه بدائع العجب ، وأتى بالنكت والنخب ، حتى استوجب أن يكتب بذوب الذهب )) .
وقال الأبناسي ( ت 802 ه ) : (( وأحسن تصنيف فيه وأبدع، وأكثر فائدة
وأنفع : "علوم الحديث" للشيخ العلاّمة الحافظ تقي الدين أبي عمرو بن الصلاح فإنّه فتح مغلق كنوزه ، وحلّ مشكل رموزه )) .
وقال ابن الملقن ( ت 804 ه ) : (( ومن أجمعها : كتاب العلامة الحافظ تقي الدين أبي عمرو بن الصلاح – سقى الله ثراه ، وجعل الجنة مأواه – فإنه جامع لعيونها ومستوعب لفنونها )) .
وقال العراقي ( ت 806 ه ) : (( أحسن ما صنف أهل الحديث في معرفة الاصطلاح كتاب " علوم الحديث " لابن الصلاح ، جمع فيه غرر الفوائد فأوعى ، ودعا له زمر الشوارد فأجابت طوعاً )) .
وقال ابن حجر (ت 852 ه): (( فجمع شتات مقاصدها ، وضمَّ إليها من غيرها نخب فوائدها ، فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره ، فلهذا عكف الناس عليه وساروا بسيره،فلا يحصى كم ناظم له ومختصر،ومستدرك عليه ومقتصر،ومعارض له ومنتصر)).
وقال السيوطي ( ت 911 ه ) : (( عكف الناس عليه ، واتخذوه أصلاً يرجع إليه )) .
وبهذا نكاد أن ننقل إجماع الأئمة ، منذ أن رأى كتاب " علوم الحديث " النور إلى يوم الناس هذا ، دليلاً على مكانته ، وغزارة علمه وفوائده شاهداً على علوِّ كعبه ونصرة حزبه ، فرحم الله مؤلفه وجامعه ، وأسبل عليه نعمه وفضائله، إنّه سميع مجيب .
المبحث الثاني
توظيف العلماء جهودهم خدمة لكتاب ابن الصلاح :
لعلّ كتاباً في مصطلح الحديث لم يخدم كما خدم كتاب ابن الصلاح ؛ إذ كَانَ هُوَ المحرك الفعلي الَّذِي تولدت عَنْهُ عشرات، بل مئات المؤلفات التي أغنت المكتبة الإسلامية ، وساهمت بمجموعها في إكمال حلقات هذا العلم المبارك .
وقد اختلفت اتجاهات المؤلفين في طبيعة بحوثهم لتطوير وتعزيز القيمة العلمية لهذا الكتاب فمنهم الناظم ، ومنهم الشارح ، ومنهم المختصر ، ومنهم المنكت توضيحاً واستدراكاً فلهذا ارتأينا - خدمة لتقسيمات البحث العلمي المنظم - أن نوزعها على النحو الآتي ، وبالله التوفيق .
أ. المختصرات :
لعلّ هذا الطابع من التصنيف الذي كان كتاب ابن الصلاح المحفِّز لها هو الأكثر نظراً إلى أن من ألّف في هذا اللون يبغي تقليص حجم الكتاب الأصلي ؛ وذلك باختزال الألفاظ وتكثيف الفكر والمعاني ، وحذف الأمثلة التي لا حاجة لها والابتعاد عن المناقشات غير الضرورية ، وزيادة الفوائد والآراء ، مع مخالفة ترتيب الأصل أحياناً ، تسهيلاً لطلبة العلم وغيرهم .
ومن أبرز تلك المختصرات :
1- إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق ، للإمام النووي (ت 676 ه ) .
2- التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير ، للإمام النووي أيضاً وهو اختصار لكتابه السابق .
3- المنهج المبهج عند الاستماع لمن رغب في علوم الحديث على الاطلاع ، لقطب الدين القسطلاني ( ت 686 ه ) .
4- أصول علم الحديث ، لعلي بن أبي الحزم القرشي الطبيب المشهور بابن النفيس
( ت 689 ه ) .
5- الاقتراح ، للإمام ابن دقيق العيد (ت 702 ه ) .
6- الملخص ، لرضي الدين الطبري ( ت 722 ه ) .
7- رسوم التحديث ، للجعبري ( ت 732ه ) .
8- المنهل الروي ، لبدر الدين بن جماعة ( ت 733 ه ) .
9- مشكاة الأنوار ، للبارزي ( ت 738 ه) .
10- الخلاصة في علوم الحديث ، للطيـبي ( ت 743 ه ) .
11 – الكافي ، لتاج الدين التبريزي ( ت 746 ه ) .
12 - الموقظة ، للإمام الذهبي ( ت 748 ه ) .
13 – المختصر ، لعلاء الدين المارديني المشهور بابن التركماني ( ت 750 ه) .
14 – مختصر ، لشهاب الدين الأندرشي الأندلسي ( ت 750 ه) .
15 – مختصر ، للحافظ العلائي ( ت 761 ه) .
16 – الإقناع ، لعز الدين بن جماعة ( ت 767 ه) .
17 – اختصار علوم الحديث ، للحافظ ابن كثير (ت 774 ه) .
18 – التذكرة في علوم الحديث ، لسراج الدين ابن الملقن (ت 804 ه) .
19 – المقنع في علوم الحديث ، لسراج الدين ابن الملقن أيضاً .
20 - نخبة الفكر ، للحافظ ابن حجر العسقلاني ( ت 852 ه) .
21 – المختصر ، للكافيجي ( ت 879 ه) .
22 – مختصر بهاء الدين الأندلسي ( …؟ ) .
ب. المنظومات :
ظهر منذ عهد مبكر نسبياً ، تيّار في الشعر العربي ، انتقل إلى علماء الفنون المختلفة يسمى : الشعر التعليمي ، خصّص نطاق عمله في نظم الكتب المهمة في مجالات العلم تسهيلاً لطالبي العلوم في حفظها ، ومن ثَمَّ الغوص في معانيها . وعلى أي حال فقد كان نصيب كتاب " علوم الحديث " لابن الصلاح عدداً من المنظومات التي لا يستهان بها ، وسواء أكانت تلك المنظومات ذات جدة وحداثة أم لا ؟ فإنّها مثّلت جانباً من جوانب اهتمام العلماء واعتنائهم بهذا السفر العظيم . والذي يهمنا هنا أن نسلِّط الضوء عليها كوَصَلاَتٍ في تاريخ هذا العلم المبارك ، وليس من شرطنا أن تكون هذه المنظومة قد احتوت كل المادة العلمية لكتاب ابن الصلاح ، بل يكفي أن يكون هذا الكتاب هو المرجع الأول بالنسبة لها ، وعلى هذا نجد أن بعض هذه المنظومات مطوّلة ، وبعضها مختصرة ، وبعضها متوسطة ، ولعلّ من أبرز من نظمه :
1. شمس الدين الخُوَيي ( ت 693 ه ) ، وسمّى منظومته باسم " أقصى الأمل والسول في علوم حديث الرسول " ، توجد منه عدة نسخ خطية .
2. أبو عثمان سعد بن أحمد بن ليون التجيـبي ( ت 750 ه ) .
3. زين الدين العراقي ( ت 806 ه ) المسمّى : التبصرة والتذكرة .
4. محمد بن عبد الرحمن بن عبد الخالق المصري البرشنسي (ت 808 ه) وسمّى منظومته : " المورد الأصفى في علم حديث المصطفى " .
5. شمس الدين محمد بن محمد بن محمد الدمشقي المعروف بابن الجزري ( ت 833 ه) وسمّى منظومته " الهداية في علم الرواية " .
6. جلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر السيوطي ( ت 911 ه) ومنظومته مشهورة باسم " الألفية " .
7. رضي الدين محمد بن محمد الغزي ( ت 935 ه ) ، وسمّى نظمه " سلك الدرر في مصطلح أهل الأثر " .
8. منصور سبط الناصر الطبلاوي ( ت 1014 ه ) .
ج . الشروح :
قد كان للجانب الشمولي في كتاب ابن الصلاح أثره الواضح في أن أحداً لم يتصدَّ لشرح الكتاب نفسه ، وإنما انعكس هذا الجانب على شرح مختصراته ومنظوماته ، لذا سنتناول أبرزها على اعتبار أن أصلها الأصيل هو كتاب ابن الصلاح ، ومن ذلك :
شروح ألفية العراقي .
نزهة النظر ، للحافظ ابن حجر ( ت 852 ه) وما يتعلق بها .
تدريب الراوي للسيوطي ( ت 911 ه ) .
البحر الذي زخر ، للسيوطي ( ت 911 ه) شرح فيه ألفيته .
د. التنكيت :
النُّكَت : جمع نُكْتَةٍ ، وهي مشتقة من الفعل الثلاثي الصحيح ( نَكَت ) ، وهو ذو اشتقاقات مختلفة ، أجملها ابن فارس فقال : (( النون والكاف والتاء أصل واحد يدلّ على تأثير يسير في الشيء كالنكتة ونحوها،ونكت في الأرض بقضيبه ينكت : إذا أثر فيها ))
أما في الاصطلاح فالنكتة : مسألة لطيفة أخرجت بدقة نظر وإمعان فكر ، من نكت رمحه بأرض إذا أثر فيها،وسميت المسألة الدقيقة نكتةً؛لتأثير الخواطر في استنباطها .
وقد كان نصيب ابن الصلاح من كتب النكت شيئاً دلّ على مدى تعمّق الدارسين في فهم معانيه ومدلولاته ، حسب اللون العلمي الذي يغلب على ذلك المنكت ، فنرى الأصولي يُغَلِّب المباحث الأصولية في طريق تقرير مسائل الكتاب المهمة ، وهذا ما نلمسه جلياً في نكت الزركشي ، والْمُحَدِّث يجعل همّه المباحثات الحديثية ، وهو منهج واضح نراه في نكت العراقي وشيخه مغلطاي ، وهكذا بالنسبة إلى الفقيه كما وقع للبلقيني وابن جماعة وغيرهم .
وعلّ الفطن من القرّاء عرف من العرض السابق أسماء بعض من كتب نكتاً على كتاب ابن الصلاح ، ولكننا نودّ أن نجعل الأمر استقصائياً استقرائياً ، فجمعنا مَن وقع في علمنا أنه ساهم في هذا الجانب ، سواء عن طريق الكتابة والبحث المباشر على كتاب ابن الصلاح أو العمل غير المباشر عن طريق التعليق على فروع كتاب ابن الصلاح ، وأهم هذه الكتب :
1. إصلاح كتاب ابن الصلاح ، لشمس الدين محمد بن أحمد بن عبد المؤمن الأسعردي الدمشقي ثُمَّ المصري المشهور بابن اللبان ( ت 749 ه ) .
2. إصلاح كتاب ابن الصلاح ، للإمام العلاّمة علاء الدين أبي عبد الله مغلطاي بن قليج ابن عبد الله البكجري الحنفي ( ت 762 ه) .
3. النكت على مقدمة ابن الصلاح ، للإمام بدر الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي ( ت 794 ه ) .
4. الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح ، للشيخ برهان الدين إبراهيم بن موسى بن أيوب الأبناسي ( ت 802 ه ) .
5. محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصَّلاَح ، لسراج الدين أبي حفص عمر بن رسلان البلقيني ( ت 805 ه ) .
6. التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح ، للحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي ( ت 806 ه ) .
7. شرح علوم الحديث ، لعز الدين محمد ابن أبي بكر بن عبد العزيز بن جماعة الحموي ( 819 ه ) .
8. النكت على كتاب ابن الصلاح ، للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني ( 852 ه ) .
الباب الثاني
الحافظ العراقي
وكتابه " شرح التبصرة والتذكرة "
الفصل الأول
دراسة تحليلية لسيرة الحافظ العراقي
لا بد لنا وقد خضنا غمرة تحقيق كتاب شرح التبصرة والتذكرة أن نعرج على تعريف موجز بمؤلف الكتاب ، ليس بالطويل المملّ ولا بالقصير المخلّ ، لا سيّما أن هذا العمل يُعدّ مفتاحاً للولوج إلى معرفة أكثر بالمؤلف ، تعين القارئ على تكوين صورة مجملة عنه ، توضح مكانته العلمية والمدة الزمنية التي عاشها .
ويشتمل هذا الفصل على ثمانية مباحث نوردها تباعاً :
المبحث الأول
اسمه ، ونسبه ، وكنيته ، وولادته :
هو عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم الكردي الرازياني العراقي الأصل المهراني المصري المولد الشافعي المذهب . كنيته : أبو الفضل ، ويلقّب بـ(زين الدين).وُلِدَ في اليوم الحادي والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة ( 725 ه ) .
المبحث الثاني
أسرته :
أقام أسلاف الحافظ العراقي في قرية رازيان – من أعمال إربل – إلى أن انتقل والده وهو صغير مع بعض أقربائه إلى مصر ، إذ استقر فيها وتزوج من امرأة
مصرية ولدت له الحافظ العراقي . وكانت أسرته ممن عُرفوا بالزهد والصلاح والتقوى، وقد كان لأسلافه مناقب ومفاخر ، وكانت والدته ممن اشتهرن بالاجتهاد في العبادات والقربات مع الصبر والقناعة .
أمّا والدُه فقد اختصَّ – منذ قدومه مصر – بخدمة الصالحين ، ولعلَّ من أبرز الذين اختصَّ والده بخدمتهم الشيخ القناوي . ومن ثَمَّ ولد للمتَرجَمِ ابنٌ أسماه : أحمد وكنَّاه : أبا زرعة ، ولقَّبه : بولي الدين ، وكذلك بنت تدعى : خديجة ، صاهره عليها : الحافظ نور الدين الهيثمي ورزق منها بأولاد ، وأشارت بعض المصادر أنَّ له ابنتين أخريين : جويرية وزينب .
المبحث الثالث
نشأته :
وُلِد الحافظ العراقي – كما سبق – في مصر ، وحمله والده صغيراً إلى الشيخ القناوي ؛ ليباركه ، إذ كان الشيخ هو البشير بولادة الحافظ ، وهو الذي سمَّاه أيضاً ؛ ولكنَّ الوالد لَمْ يقم طويلاً مَعَ ولده ، إذ إنَّ يدَ المنونِ تخطَّفته والطفل لَمْ يزل بَعْد طريَّ العود ، غضَّ البنية لَمْ يُكمل الثالثة من عمره ، وَلَمْ نقف عَلَى ذكر لِمَن كفله بَعْدَ رحيل والده ، والذي يغلب عَلَى ظننا أنّ الشَّيْخ القناوي هُوَ الَّذِي كفله وأسمعه ؛ وذلك لأن أقدم سماع وجد له كان سنة ( 737 ه ) بمعرفة القناوي وكان يُتَوقّعُ أن يكون له حضور أو سماع من الشيخ ، إذ كان كثير التردد إليه سواء في حياة والده أو بعده ، وأصحاب الحديث عند الشيخ يسمعون منه ؛ لعلوِّ إسناده .
وحفظ الزينُ القرآنَ الكريمَ والتنبيه وأكثر الحاوي مَعَ بلوغه الثامنة من عمره ، واشتغل في بدء طلبه بدرس وتحصيل علم القراءات ، وَلَمْ يثنِ عزمه عَنْهَا إلا نصيحة شيخه العزّ بن جَمَاعَة ، إذ قَالَ لَهُ : (( إنَّهُ علم كَثِيْر التعب قليل الجدوى ، وأنت متوقد الذهن فاصرف همَّتك إِلَى الْحَدِيْث )) . وكان قد سبق له أن حضر دروس الفقه على ابن عدلان ولازم العماد محمد بن إسحاق البلبيسي ، وأخذ عن الشمس بن اللبان ، وجمال الدين الإسنوي الأصولَ وكان الأخير كثير الثناء على فهمه ، ويقول : (( إنَّ ذهنه صحيح لا يقبل الخطأ )) ، وكان الشيخ القناوي في سنة سبع وثلاثين – وهي السنة التي مات فيها – قد أسمعه على الأمير سنجر الجاولي ، والقاضي تقي الدين بن الأخنائي المالكي ، وغيرهما ممّن لم يكونوا من أصحاب العلوِّ .
ثمَّ ابتدأ الطلب بنفسه ، وكان قد سمع على عبد الرحيم بن شاهد الجيش وابن عبد الهادي وقرأ بنفسه على الشيخ شهاب الدين بن البابا ، وصرف همَّته إلى التخريج وكان كثير اللهج بتخريج أحاديث " الإحياء " وله من العمر -آنذاك- عشرون سنة وقد فاته إدراك العوالي مما يمكن لأترابه ومَن هو في مثل سنّه إدراكه ، ففاته يحيى بن المصري – آخر مَن روى حديث السِّلَفي عالياً بالإجازة – والكثير من أصحاب ابن عبد الدائم والنجيب بن العلاّق ، وكان أوّل مَن طلب عليه الحافظ علاء الدين بن التركماني في القاهرة وبه تخرّج وانتفع ، وأدرك بالقاهرة أبا الفتح الميدومي فأكثر عنه وهو من أعلى مشايخه إسناداً ، ولم يلقَ من أصحاب النجيب غيره ، ومن ناصر الدين محمد بن إسماعيل الأيوبي، ومن ثَمَّ شدَّ رحاله – على عادة أهل الحديث – إلى الشام قاصداً دمشق فدخلها سنة ( 754 ه ) ، ثُمَّ عادَ إليها بعد ذلك سنة ( 758 ه ) ، وثالثة في سنة ( 759 ه ) ، ولم تقتصر رحلته الأخيرة على دمشق بل رحل إلى غالب مدن بلاد الشام ، ومنذ أول رحلة له سنة ( 754 ه ) لم تخلُ سنة بعدها من الرحلة إمّا في الحديث وإمّا في الحجّ ، فسمع بمصر ابن عبد الهادي ، ومحمد بن علي القطرواني ، وبمكة أحمد بن قاسم الحرازي ، والفقيه خليل إمام المالكية بها ، وبالمدينة العفيف المطري ، وببيت المقدس العلائي ، وبالخليل خليل بن عيسى القيمري ، وبدمشق ابن الخباز ، وبصالحيتها ابن قيم الضيائية ، والشهاب المرداوي ، وبحلب سليمان بن إبراهيم بن المطوع ، والجمال إبراهيم بن الشهاب محمود في آخرين بهذه البلاد وغيرها كالإسكندرية ، وبعلبك ، وحماة ، وحمص ، وصفد ، وطرابلس ، وغزّة ، ونابلس … تمام ستة وثلاثين مدينة . وهكذا أصبح الحديث ديدنه وأقبل عليه بكليته ، وتضلّع فيه رواية ودراية وصار المعول عليه في إيضاح مشكلاته وحلّ معضلاته ، واستقامت له الرئاسة فيه ، والتفرد بفنونه ، حتّى إنّ كثيراً من أشياخه كانوا يرجعون إليه ، وينقلون عنه – كما سيأتي – حتَّى قال ابن حجر : (( صار المنظور إليه في هذا الفن من زمن الشيخ جمال الدين الأسنائي … وهلمَّ جرّاً ، ولم نرَ في هذا الفنّ أتقن منه ، وعليه تخرج غالب أهل عصره )) .
المبحث الرابع
مكانته العلمية وأقوال العلماء فيه :
مما تقدّم تبيّنت المكانة العلمية التي تبوّأها الحافظ العراقي ، والتي كانت من توفيق الله تعالى له ، إذ أعانه بسعة الاطلاع ، وجودة القريحة وصفاء الذهن وقوة الحفظ وسرعة الاستحضار ، فلم يكن أمام مَن عاصره إلاّ أن يخضع له سواء من شيوخه أو تلامذته . ولعلّ ما يزيد هذا الأمر وضوحاً عرض جملة من أقوال العلماء فيه ، من ذلك :
1. قال شيخه العزُّ بن جماعة : (( كلّ مَن يدّعي الحديث في الديار المصرية سواه فهو مدَّعٍ )) .
2. قال التقي بن رافع السلامي : (( ما في القاهرة مُحَدِّثٌ إلاّ هذا ، والقاضي عزّ الدين ابن جماعة )) ، فلمَّا بلغته وفاة العزّ قال : (( ما بقي الآن بالقاهرة مُحَدِّثٌ إلاّ الشيخ زين الدين العراقي )) .
3. قال ابن الجزري : (( حافظ الديار المصرية ومُحَدِّثُها وشيخها )) .
4. قال ابن ناصر الدين : (( الشيخ الإمام العلاّمة الأوحد ، شيخ العصر حافظ الوقت … شيخ الْمُحَدِّثِيْن عَلَم الناقدين عُمْدَة المخرِّجِين )) .
5. قال ابن قاضي شهبة : (( الحافظ الكبير المفيد المتقن المحرّر الناقد ، محَدِّث الديار
المصرية ، ذو التصانيف المفيدة )) .
6. قال التقي الفاسي : (( الحافظ المعتمد ، … ، وكان حافظاً متقناً عارفاً بفنون الحديث وبالفقه والعربية وغير ذلك ، … ، وكان كثير الفضائل والمحاسن )) .
7. وقال ابن حجر : حافظ العصر ، وقال : (( الحافظ الكبير شيخنا الشهير )) .
8. وقال ابن تغري بردي : (( الحافظ ، … شيخ الحديث بالديار المصرية ، … وانتهت إليه رئاسة علم الحديث في زمانه )) .
9. وقال ابن فهد : (( الإمام الأوحد ، العلاّمة الحجة الحبر الناقد ، عمدة الأنام حافظ الإسلام ، فريد دهره ، ووحيد عصره ، من فاق بالحفظ والإتقان في زمانه ، وشهد له في التفرّد في فنه أئمة عصره وأوانه )) . وأطال النفس في الثناء عليه .
10. وقال السيوطي: (( الحافظ الإمام الكبير الشهير ،… حافظ العصر )) .
ويبدو أنّ الأمر الأكثر إيضاحاً لمكانة الحافظ العراقي ، نقولات شيوخه عنه وعودتهم إليه ، والصدور عن رأيه ، وكانوا يكثرون من الثناء عليه ، ويصفونه بالمعرفة ، من أمثال السبكي والعلائي وابن جماعة وابن كثير والإسنوي .
ونقل الإسنوي عنه في " المهمات " وغيرها ، وترجم له في طبقاته ولم يترجم لأحد من الأحياء سواه ، وصرّح ابن كثير بالإفادة منه في تخريج بعض الشيء .
ومن بين الأمور التي توضّح مكانة الحافظ العراقي العلمية تلك المناصب التي تولاها ، والتي لا يمكن أن تسند إليه لولا اتفاق عصرييه على أولويته لها ، ومن بين ذلك :
تدريسه في العديد من مدارس مصر والقاهرة مثل : دار الحديث
الكاملية ، والظاهرية القديمة ، والقراسنقرية ، وجامع ابن
طولون والفاضلية ، وجاور مدةً بالحرمين .
كما أنّه تولّى قضاء المدينة المنورة ، والخطابة والإمامة فيها ، منذ الثاني عشر من جُمَادَى الأولى سنة ( 788 ه ) ، حتى الثالث عشر من شوال سنة ( 791 ه ) ، فكانت المدة ثلاث سنين وخمسة أشهر .
وفي سبيل جعل شخصية الحافظ العراقي بينة للعيان من جميع جوانبها ، ننقل ما زَبَّره قلم تلميذه وخِصِّيصه الحافظ ابن حجر في وصفه شيخه ، إذ قال في مجمعه :
(( كان الشيخ منور الشيبة ، جميل الصورة ، كثير الوقار ، نزر الكلام ، طارحاً للتكلف ، ضيق العيش ، شديد التوقي في الطهارة ، لطيف المزاج ، سليم الصدر ، كثير الحياء ، قلَّما يواجه أحداً بما يكرهه ولو آذاه ، متواضعاً منجمعاً ، حسن النادرة والفكاهة ، وقد لازمته مدّة فلم أره ترك قيام الليل ، بل صار له كالمألوف ، وإذا صلَّى الصبح استمر غالباً في مجلسه ، مستقبل القبلة ، تالياً ذاكراً إلى أن تطلع الشمس ، ويتطوع بصيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر وستة شوال ، كثير التلاوة إذا ركب … )) ، ثُمَّ ختم كلامه قائلاً : (( وليس العيان في ذلك كالخبر )) .
المبحث الخامس
شيوخه :
عرفنا فيما مضى أنَّ الحافظ العراقي منذ أن أكبَّ على علم الحديث ؛ كان حريصاً على التلقي عن مشايخه ، وقد وفّرت له رحلاته المتواصلة سواء إلى الحج أو إلى بلاد الشام فرصة التنويع في فنون مشايخه والإكثار منهم .
والباحث في ترجمته وترجمة شيوخه يجد نفسه أمام حقيقة لا مناص عنها ، وهي أنَّ سمة الحديث كانت الطابع المميز لأولئك المشايخ ، مما أدَّى بالنتيجة إلى تنّوع معارف الحافظ العراقي وتضلّعه في فنون علوم الحديث ، فمنهم من كان ضليعاً بأسماء الرجال ، ومنهم من كان التخريج صناعته ، ومنهم من كان عارفاً بوفيات الرواة ، ومنهم من كانت في لغة الحديث براعته … وهكذا . وهذا شيء نلمسه جلياً في شرحه هذا بجميع مباحثه ، وذلك من خلال استدراكاته وتعقباته وإيضاحاته والفوائد التي كان يطالعنا بها على مرِّ صفحات شرحه الحافل .
ومسألة استقصاء جميع مشايخه – هي من نافلة القول – فضلاً عن كونها شبه متعذرة سلفاً ، لاسيّما أنه لم يؤلف معجماً بأسماء مشايخه على غير عادة المحدّثين ، خلافاً لقول البرهان الحلبي من أنه خرّج لنفسه معجماً .
لذا نقتصر على أبرزهم ، مع التزامنا بعدم إطالة تراجمهم :
1 – الإمام الحافظ قاضي القضاة علي بن عثمان بن إبراهيم المارديني ، المشهور بـ (( ابن التركماني )) الحنفي ، مولده سنة ( 683 ه ) ، وتوفي سنة ( 750 ه ) ، له من التآليف : " الجوهر النقي في الرد على البيهقي ، وغيره .
2 – الشيخ المُسْنِد المعمر صدر الدين أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم الميدومي المصري ، ولد سنة ( 664 ه ) ، وهو آخر من روى عن النجيب الحراني ، وابن العلاق ، وابن عزون ، وتوفي سنة ( 754 ه ) .
3 – الإمام الحافظ العلاّمة علاء الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي الدمشقي ثم المقدسي ، ولد سنة ( 694 ه ) ، وتوفي سنة ( 761 ه ) ، له من التصانيف : " جامع التحصيل "، و " الوشي المعلم "، و " نظم الفرائد " وغيرها .
4 – الإمام الحافظ العلاّمة علاء الدين أبو عبد الله مغلطاي بن قُليج بن عبد الله البكجري الحكري الحنفي ، مولده سنة ( 689 ه ) ، وقيل غيرها ، برع في فنون الحديث ، وتوفي سنة ( 762 ه ) ، من تصانيفه : ترتيب كتاب بيان الوهم والإيهام وسمّاه : " منارة الإسلام " ، ورتّب المبهمات على أبواب الفقه ، وله شرح على صحيح البخاري ، وتعقّبات على المزي ، وغيرها .
5 – الإمام العلاّمة جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي ، شيخ الشافعية ، ولد سنة ( 704 ه ) ، وتوفي سنة ( 777 ه ) ، له من التصانيف : طبقات الشافعية ، والمهمات ، والتنقيح وغيرها .
المبحث السادس
تلامذته :
تبين مما تقدّم أنّ الحافظ العراقي بعد أن تبوأ مكان الصدارة في الحديث وعلومه وأصبح المعوّل عليه في فنونه بدأت أفواج طلاب الحديث تتقاطر نحوه ، ووفود الناهلين من معينه تتجه صوبه ، لاسيّما وقد أقرَّ له الجميع بالتفرد بالمعرفة في هذا الباب ، لذا كانت فرصة التتلمذ له شيئاً يعدّه الناس من المفاخر ، والطلبة من الحسنات التي لا تجود بها الأيام دوماً .
والأمر الآخر الذي يستدعي كثرة طلبة الحافظ العراقي كثرة مفرطة ، أنه أحيا سنة إملاء الحديث – على عادة المحدّثين – بعد أن كان درس عهدها منذ عهد ابن الصلاح فأملى مجالس أربت على الأربعمائة مجلس ، أتى فيها بفوائد ومستجدات (( وكان يمليها من حفظه متقنة مهذّبة محرّرة كثيرة الفوائد الحديثية )) على حد تعبير ابن حجر .
لذا فليس من المستغرب أن يبلغوا كثرة كاثرة يكاد يستعصي على الباحث
سردها ، إن لم نقل أنها استعصت فعلاً ، فضلاً عن ذكر تراجمهم ، ولكن القاعدة تقول : (( ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه )) وانسجاماً معها نعرّف تعريفاً موجزاً بخمسة من تلامذته كانوا بحقّ مفخرة أيامهم وهم :
1 – الإمام برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن أيوب الأبناسي ، مولده سنة ( 725 ه ) ، وهو من أقران العراقي ، برع في الفقه ، وله مشاركة في باقي الفنون، توفي سنة ( 802 ه )، من تصانيفه : الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح،وغيره.
2 – الإمام الحافظ نور الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي القاهري ، ولد سنة ( 735 ه ) ، وهو في عداد أقرانه أيضاً ، ولكنه اختص به وسمع معه ، وتخرّج به ، وهو الذي كان يعلّمه كيفية التخريج ، ويقترح عليه مواضيعها ، ولازم الهيثمي خدمته ومصاحبته ، وصاهره فتزوج ابنة الحافظ العراقي ، توفي سنة ( 807 ه ) ، من تصانيفه : مجمع الزوائد ، وبغية الباحث ، والمقصد العلي ، وكشف الأستار ، ومجمع البحرين ، وموارد الظمآن ، وغيرها .
3 – ولده : الإمام العلاّمة الحافظ ولي الدين أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين العراقي الأصل المصري الشافعي المذهب ، ولد سنة ( 762 ه ) ، وبكّر به والده بالسماع فأدرك العوالي ، وانتفع بأبيه غاية الانتفاع ، ودرّس في حياته ، توفي سنة ( 826 ه ) ، من تصانيفه : " الإطراف بأوهام الأطراف " و " تكملة طرح التثريب " و " تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل " ، وغيرها .
4 – الإمام الحافظ برهان الدين أبو الوفاء إبراهيم بن محمد بن خليل الحلبي المشهور بسبط ابن العجمي ، مولده سنة ( 753 ه ) ، رحل وطلب وحصّل ، وله كلام لطيف على الرجال ، توفي سنة ( 841 ه ) ، من تصانيفه : " حاشية على الكاشف " للذهبي و " نثل الهميان " و " التبيين في أسماء المدلّسين " و " الاغتباط فيمن رمي بالاختلاط " وغيرها .
5 – الإمام العلاّمة الحافظ الأوحد شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني المعروف بابن حجر ، ولد سنة ( 773 ه ) ، طلب ورحل ، وألقي إليه الحديث والعلم بمقاليده ، والتفرد بفنونه ، توفي سنة ( 852 ه ) ، من تصانيفه: "فتح الباري" و "تهذيب التهذيب" وتقريبه و" نزهة الألباب "، وغيرها.
المبحث السابع
آثاره العلمية :
لقد عرف الحافظ العراقي أهمية الوقت في حياة المسلم ، لذا فقد عمل جاهداً على توظيف الوقت بما يخدم السنة العزيزة ، بحثاً منه أو مباحثة مع غيره فكانت (( غالب أوقاته في تصنيف أو إسماع )) كما يقول السخاوي ، لذا كثرت تصانيفه وتنوعت ، مما حدا بنا – من أجل جعل البحث أكثر تخصصاً – إلى تقسيمها على قسمين : قسم خاصّ بمؤلفاته التي تتعلق بالحديث وعلومه ، وقسم يتضمن مؤلفاته في العلوم الأخرى ، وسنبحث كلاً منهما في مطلب مستقل .
المطلب الأول
مؤلفاته فيما عدا الحديث وعلومه :
تنوعت طبيعة هذه المؤلفات ما بين الفقه وأصوله وعلوم القرآن ، غير أنَّ أغلبها كان ذا طابع فقهي ، يمتاز الحافظ فيه بالتحقيق ، وبروز شخصيته مدافعاً مرجّحاً موازناً بين الآراء .
على أنَّ الأمر الذي نأسف عليه هو أنَّ أكثر مصنفاته فُقدت ، ولسنا نعلم سبب ذلك ، وقد حفظ لنا مَنْ ترجم له بعض أسماء كتبه ، تعين الباحث على امتلاك رؤية أكثر وضوحاً لشخص هذا الحافظ الجليل ، وإلماماً بجوانب ثقافته المتنوعة المواضيع .
ومن بين تلك الكتب :
1 – أجوبة ابن العربي .
2 – إحياء القلب الميت بدخول البيت .
3 – الاستعاذة بالواحد من إقامة جمعتين في مكان واحد .
4 – أسماء الله الحسنى .
5 – ألفية في غريب القرآن .
6 – تتمات المهمات .
7 – تاريخ تحريم الربا .
8 – التحرير في أصول الفقه .
9 – ترجمة الإسنوي .
10 – تفضيل زمزم على كلّ ماء قليل زمزم .
11 – الرد على من انتقد أبياتاً للصرصري في المدح النبوي .
12 – العدد المعتبر في الأوجه التي بين السور .
13 – فضل غار حراء .
14 – القرب في محبة العرب .
15 – قرة العين بوفاء الدين .
16 – الكلام على مسألة السجود لترك الصلاة (13) .
17 – مسألة الشرب قائماً .
18 – مسألة قصّ الشارب .
19 – منظومة في الضوء المستحب .
20 – المورد الهني في المولد السني .
21 – النجم الوهاج في نظم المنهاج .
22 – نظم السيرة النبوية .
23 – النكت على منهاج البيضاوي .
24 – هل يوزن في الميزان أعمال الأولياء والأنبياء أم لا ؟ .
المطلب الثاني
مؤلفاته في الحديث وعلومه :
هذه الناحية من التصنيف كانت المجال الرحب أمام الحافظ العراقي ليظهر إمكاناته وبراعته في علوم الحديث ظهوراً بارزاً ، يَتَجلَّى لنا ذلك من تنوع هذه التصانيف ، التي بلغت ( 42 ) مصنفاً تتراوح حجماً ما بين مجلدات إلى أوراق معدودة ، وهذه التصانيف هي :
1 – الأحاديث المخرّجة في الصحيحين التي تُكُلِّمَ فيها بضعف أو انقطاع .
2 – الأربعون البلدانية .
3 – أطراف صحيح ابن حبان .
4 – الأمالي .
5 – الباعث على الخلاص من حوادث القصاص .
6 – بيان ما ليس بموضوع من الأحاديث .
7 – تبصرة المبتدي وتذكرة المنتهي .
8 – ترتيب من له ذكر أو تجريح أو تعديل في بيان الوهم والإيهام .
9 – تخريج أحاديث منهاج البيضاوي .
10- تساعيات الميدومي .
11- تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد .
12- التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح .
13- تكملة شرح الترمذي لابن سيد الناس .
14- جامع التحصيل في معرفة رواة المراسيل .
15- ذيل على ذيل العبر للذهبي .
16- ذيل على كتاب أُسد الغابة .
17- ذيل مشيخة البياني .
18- ذيل مشيخة القلانسي .
19 – ذيل ميزان الاعتدال للذهبي .
20- ذيل على وفيات ابن أيبك .
21- رجال سنن الدارقطني .
22- رجال صحيح ابن حبان .
23- شرح التبصرة والتذكرة .
24- شرح تقريب النووي .
25- طرح التثريب في شرح التقريب .
26- عوالي ابن الشيخة .
27- عشاريات العراقي (13) .
28- فهرست مرويات البياني (14) .
29- الكلام على الأحاديث التي تُكُلِّمَ فيها بالوضع ، وهي في مسند الإمام أحمد .
30 – الكلام على حديث : التوسعة على العيال يوم عاشوراء .
31- الكلام على حديث : صوم ستٍّ من شوال .
32- الكلام على حديث : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه .
33- الكلام على حديث : الموت كفّارة لكل مسلم .
34- الكلام على الحديث الوارد في أقل الحيض وأكثره .
35- المستخرج على مستدرك الحاكم .
36- معجم مشتمل على تراجم جماعة من القرن الثامن .
37- المغني عن حمل الأسفار في الأسفار بتخريج ما في الإحياء من الأحاديث والآثار.
38- مشيخة عبد الرحمن بن علي المصري المشهور بابن القارئ .
39- مشيخة محمد بن محمد المربعي التونسي وذيلها .
40- من روى عن عمرو بن شعيب من التابعين .
41- من لم يروِ عنهم إلا واحد (13) .
42- نظم الاقتراح (14) .
المبحث الثامن
وفاته :
تتفق المصادر التي بين أيدينا على أنَّه في يوم الأربعاء الثامن من شعبان سنة (806ه) فاظت روح الحافظ العراقي عقيب خروجه من الحمام عن عمر ناهز الإحدى وثمانين سنة ، وكانت جنازته مشهودة ، صلّى عليه الشيخ شهاب الدين الذهبي ودفن خارج القاهرة رحمه الله .
ولما تمتع به الحافظ العراقي في نفوس الناس ، فقد توجع لفقده الجميع ، ومن صور ذلك التوجع أن العديد من محبيه قد رثاه بغرر القصائد ، ومنها قول ابن الجزري :
رحمة الله للعراقي تترى
حافظ الأرض حبرها باتفاق
إنني مقسم أليَّة صدق
لم يكن في البلاد مثل العراقي
ومنها قصيدة ابن حجر ومطلعها :
مصاب لم ينفس للخناق
أصار الدمع جاراً للمآقي
ومن غرر شعر ابن حجر في رثاء شيخه العراقي قوله في رائيته التي رثا بها شيخه البلقيني :
نعم ويا طول حزني ما حييت على
عبد الرحيم فخري غير مقتصر
لَهْفِيْ على حافظ العصر الذي اشتهرت
أعلامه كاشتهار الشمس في الظهر
علم الحديث انقضى لَمَّا قضى ومضى
والدهر يفجع بعد العين بالأثر
لَهْفِيْ على فَقْدِ شيخَيَّ اللذان هما
أعزّ عنديَ من سمعي ومن بصري
لَهْفِيْ على من حديثي عن كمالهما
يحيي الرميم ويلهي الحي عن سمر
اثنانِ لم يرتقِ النسران ما ارتقيا
نسر السما إن يلح والأرض إن يطر
ذا شبه فرخ عقاب حجة صدقت
وذا جهينة إن يسأل عن الخبر
لا ينقضي عجبي من وفق عمرهما
العام كالعام حتى الشهر كالشهر
عاشا ثمانين عاما بعدها سنة
وربع عام سوى نقص لمعتبر
الدين تتبعه الدنيا مضت بهما
رزية لم تهن يوما على بشر
بالشمس وهو سراج الدين يتبعه
بدر الدياجي زين الدين في الأثر
الفصل الثاني
دراسة كتاب شرح التبصرة والتذكرة
المبحث الأول
منهجه في شرحه
لم يلتزم المؤلفون القدامى - لاسيّما الشرّاح منهم - بنهج واحد يسيرون عليه في أثناء شروحهم ، بل كانت ثمّة خطوط عريضة يضعها الشارح نصب عينيه ، من غير التفات إلى الجزئيات ، ومما يزيد الطين بلّة - كما يقولون - أن السواد الأعظم منهم لم يفصحوا عن مناهجهم ، وتركوا الباب مشرعاً على مصراعيه للباحثين في الإدلاء بدلائهم لاستنباط منهج الشارح .
وقد كان من بين هؤلاء : الحافظ العراقي ، فلم يوضّح لنا منهج شرحه ، ولا أسلوب كتابته إلا أننا وبعد هذا الوقت الطويل الذي قضيناه برفقته استطعنا أن نتلمس بعض الأسس التي اعتمدها الحافظ العراقي في شرحه ، والتي يمكن إيجازها بما يأتي :
1- تعددت شروح الألفية - كما سيأتي الكلام عنها - ولكن جميعها التزمت منهج البسط وهو الكلام عن البيت الشعري مقطّعاً ؛ وذلك من خلال إيضاح معاني مفرداته ومن ثم معناه العام . في حين انفرد العراقي في شرحه بأن كانت طريقته تمتاز بجمع الأبيات ذات الموضوع والمغزى المتحد في مكان واحد ، ومن ثَمَّ توضيح المراد بها من حيث المعنى والدلالة اللغوية والإعرابية . وهذا نهج مستفيض في أثناء شرحه – يلحظه كلّ متأنٍ - فليس بحاجة إلى تمثيل .
2- بروز المنحى القائم على إيراد الأمثلة ، إذ لا يكاد يورد شرحاً إلا مع التمثيل كتمثيله للتعليق المجزوم به ، وتمثيله لتسمية غير المجزوم به معلقاً ، وغيرها .
3- التنبيه على المواقع الإعرابية التي تحتلها بعض مفردات النظم ، وتغيُّر موقعها الإعرابي بتغيُّر حركتها ، نحو : إعرابه لكلمة : (( معتصماً )) ، وكلمة : (( موقوف )) ،
وكلمة : (( ظناً )) ، وغيرها .
4- جمعه أقوال العلماء وإيرادات بعضهم على بعض ، وأجوبة تلك الاعتراضات ، وتوظيفها بما يخدم منهجه في الشرح ؛ بغية التوصل إلى نتيجة أقرب ما تكون إلى السلامة من الانتقاد ، مدعمة بالأدلة ، مقنعة للمحاجج .
ونجد ذلك واضحاً في مباحث تعريف الحسن . وفي مبحث تحقيق ما يستفاد من سكوت أبي داود وفي مباحث معنى قول الترمذي وغيره : حسن صحيح ، وفي مباحثات تعليل حديث البسملة ، وغيرها .
5- لم يكن نظم الحافظ العراقي وشرحه مجرد تضمين لكتاب ابن الصلاح ، خالياً عن الفوائد ، بل كان خلاصة جهود ابن الصلاح مضافاً إليها ما أفاده العراقي خلال رحلته العلمية الممتدّة على طول سني حياته . لذا فلم يخلُ هذا المصنَّف من استدراكات وتعقبات على صاحب الأصل ( ابن الصلاح ) هذا خلا زوائده التي سنبحثها مستقلة فيما بعد ، ومن ذلك : استدراكه على ابن الصلاح فيما يتعلق بزيادات الحميدي على الصحيحين ، واستدراكه على تمثيل ابن الصلاح بعفان والقعنبي على ما حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر . واستدراكه عليه في ذكر الخلاف في مرسل الصحابي . وغيرها .
6- تعقباته على أقوال وتصرفات بعض الأئمة تأييداً أو استدراكاً ، مثل : ردّه على قول ابن طاهر في شرط الشيخين . وردّه على صنيع ابن دقيق العيد والذهبي فيما يتعلق بـ" المستدرك " . ومثل تنبيهه على أن أبا الفتح اليعمري لا يشترط في كل حسن أن يأتي من وجه آخر . وغيرها .
7- تنبيهه على ضبط بعض المفردات الواردة في نَظْمِه ، لإصابة الغرض المقصود منه ، مثل ضبطه للفظة : (( مبهماً )) ، وضبطه للفظة : (( معتصماً )) ، وغيرهما .
8- بدا منهج الشرح اللغوي للمفردات واضحاً ، مثل بيانه لمعاني : المرحمة ، والرسم ، والجفلى ، وغيرها .
9- بيانه بعض قيود ومحترزات بعض التعريفات التي يرى إمكان الإيراد عليه عند مَن لم يفهم الخارج بتلك المحترزات .
10- فيما يختص بالنصوص التي ينقلها ، كان له إزاءها منهجان :
الأول : التدليل على انتهائه بقوله : انتهى بعد النص ، وهذا القسم أقل من الثاني وقد لجأ إليه الحافظ في أثناء مناقشاته ، أو عندما يروم تعقب ذلك القول ، أو غير ذلك من الأسباب ، والدواعي الحاملة له على هذا الصنيع .
الثاني : عدم تدليله على انتهاء النص - وهو الأكثر - وذلك إما لكون النص ظاهر الانتهاء ، أو لكونه أورده باختزال أو غير ذلك .
11- فيما يتعلق بحرفية النص المنقول ، لم يلتزم العراقي كثيراً من الأحيان بحرفيته ، فكان كثير التصرف حذفاً وإضافةً ، وقد أشرنا إلى بعض ذلك وأغفلنا الكثير لما رأينا الأمر قد تفاقم خشية إثقال الحواشي .
12- كان طابع النقاش العلمي آنذاك يمتاز بعرض النتيجة ومن ثم ملاحظة الاعتراضات عليها والتي تسمى إيرادات أو اعتراضات ، ومما يشيد تلك النتيجة أن يجاب عن اعتراضاتها المتوقعة مسبقاً ، وهذا ما انتهجه العراقي في شرحه .
13- توضيحه لمصادر كلام بعض العلماء ، مثل بيانه لمصدر تحديد النووي لمعنى مصطلح : على شرط الشيخين . ومثل بيانه لمصدر كلام ابن الصلاح في تصحيح حديث (( لولا أن أشق ...)) من طريق محمد بن عمرو .
14- كان الحافظ العراقي حريصاً على إفادة القارئ : وبما أنه التزم أن يكون شرحه مختصراً ؛ لذا كان من منهجه أن يحيل إلى كتبه الأخرى في المواطن التي تحتاج إلى إسهاب ولا يحتمل المقام ذلك .
15- نقل أقوال الأئمة التي تعضد ما يروم التدليل عليه ، وتوظيفها بمثابة ركائز تعزّز مراده .
16- وضع العراقي الأمانة العلمية نصب عينيه ، فكان حريصاً على نسبة كل قول وفائدة إلى صاحبها إيماناً منه بأن بركة العلم نسبته إلى أهله ، إلا أنه خالف هذا النهج في موطن واحد فقط نقل فيه بضعة عشر نصاً عن جامع الخطيب حذف أسانيد الخطيب منها وساقها تباعاً من غير نسبة إليه وكان هذا من الحافظ العراقي لسببين اثنين :
الأول : طول أسانيد الخطيب - لاسيما مع بضعة عشر نصاً - والتزامه الاختصار غير المخل في شرحه .
الثاني : أنه لم يغفل قرينة تدل على عدم كون النص له ، وهي قوله قبل سياقته النص : " روينا " وهذا إمعان منه في العمل بمقتضى أمانته العلمية .
17- فهمه دقائق وإشارات كلام ابن الصلاح ، فهماً منقطع النظير . وعليه يصدق قول الشاعر :
إِذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوْهَا
فَإِنَّ القَوْلَ مَا قَالتْ حَذَامِ
18- لقد كانت لزوائد الحافظ العراقي على ابن الصلاح أهمية علمية كبيرة ، تمخضت عنها دراسات حاولت الكشف عن جدية تلك الزوائد ، وبذلك أسهمت في إثراء المكتبة العلمية بمؤلفات ، ومن ثم وفّرت مادة بحث جديدة للدارسين انصبت اهتماماتهم حولها، أو ضمنها من جاء بعده في مؤلفاتهم طلباً للكمال وسدّاً للإعواز .
ولم تكن تلك الزيادات شيئاً نادراً أو قليلاً ليستهان بها ، وإنما كانت من الكثرة الكاثرة بمكان ، ويكفيك لتعلم غزارة هذه الزوائد أننا في الجزء الأول فقط أحصينا له قرابة خمسين موطناً ما بين زيادة واستدراك وتعقب على ابن الصلاح .
19- كان من منهج الحافظ العراقي أنه لم يترك الأمور على علاتها من غير ترجيح وإنما كان ذا شخصية فذة بارزة في شرحه ، يصحّح ويختار ويرجح في ضوء اجتهاده ، غير ملتفت إلى مخالفة ابن الصلاح أو موافقته .
20-لم يلتزم الحافظ العراقي في نظمه ومن ثم شرحه ترتيب ابن الصلاح ، لاسيّما أن ابن الصلاح لم يخرج كتابه دفعة واحدة ، وإنما أملاه شيئاً فشيئاً فخرج على غير الترتيب المقصود .
لذا حاول العراقي أن يرتّب مباحث الكتاب على وضع مناسب حسب اجتهاده فقدّم وأخّر ، وهذّب وعدّل ، ومن ذلك :
أ- أنه قدّم موضوع " أول من صنف في الصحيح " على موضوع " تصحيح الأحاديث في العصور المتأخّرة ".
ب- دمج بين المنقطع والمسند والمعضل ، بخلاف ابن الصلاح الذي فرّق بينها في كتابه .
ج- قدّم قول البرذعي في مبحث المقطوع ، في حين ذكره ابن الصلاح في نهاية المنقطع .
المبحث الثاني
مصادره في شرحه :
لقد بات من مسلمات الأمور في طبيعة أي بحث علمي أن تتناسب القيمة العلمية مع مصادر ذلك البحث تناسباً طردياً ، وغير خافٍ على القراء أن إغناء جوانب البحث العلمي بكثرة مراجعة المصادر يعدّ دعامة قوية تعزز النتائج والنظريات التي يقدّمها أي باحث .
ولسنا نشك أن هذا الأمر كان من أبرز جوانب شرح الحافظ العراقي ، فقد لملم شعث الفوائد من بطون الكتب ، وجمع غرر العوائد من ملاحظة تصرفات النقاد وحفاظ الأثر ، لذا فقد أغنى في نظرنا شرحه غناءً مفرطاً بكثرة مصادره ، سواء تلك الأصلية في مجال كتابته أو التي احتاجها بصورة عرضية ، الأمر الذي دعانا - في سبيل إثبات ذلك - إلى إحصاء جميع تلك المصادر وقد امتاز منهجه في ذكر مصادره بمميزات منها :
أ- أنه كان كثير التصرف في نقله النصوص لا يلتزم حرفية فيه .
ب- أنه كان كثير التجوّز في إطلاق أسماء المؤلفات ، فمثلاً يسمي كتاب شيخه العلائي " جامع التحصيل " ثم لا يلبث بعد صفحة واحدة أن يسميه " المراسيل " وهكذا في عشرات الكتب ، وقد ارتأينا جمعها تحت مسمًى واحد ، هو اسم الشهرة لذلك المصنَّف ، مراعين مقصد الحافظ في ذلك .
جـ- أنه لم يسر على نمط واحد في شرحه بشأن العزو إلى تلك المصادر ، وإنما كانت له ثلاث طرق :
الأولى : أن يذكر اسم العالم الذي ينقل عنه فقط ، من غير ذكر لاسم كتابه أو الواسطة التي نقل عنه بها .
الثانية : قد يذكر اسم المؤلف مقروناً بذكر اسم مصنفه .
الثالثة : أن يذكر اسم الكتاب فقط ، وهو أقل هذه الأقسام .
وبغية جعل الأمر أكثر وضوحاً أمام القارئ الكريم ، فقد جعلنا مصادره مرتبة حسب هذا التقسيم مراعين الترتيب الزمني في القسمين الأوليين ، والترتيب الهجائي في القسم الثالث ، مثبتين عدد مرات رجوعه إليها ، مستغنين عن ذكر الصفحات خشية تضخم الكتاب. ومن الله العون والسداد .
أ. مصادره التي اكتفى فيها بذكر اسم العلم فقط ، وهي :
الربيع بن خثيم ( قبل 65 ه) . رجع إليه مرة واحدة .
ابن إسحاق ( محمد بن إسحاق بن يسار المطّلبي (150 ه) أو بعدها . رجع إليه أربع مرات .
معمر بن راشد .( 153 ه) رجع إليه مرة واحدة .
مالك بن أنس . (179ه ) . رجع إليه مرة .
عبد الله بن المبارك المروزي ( 181 ه) . رجع إليه مرتين .
أبو داود الطيالسي ( سليمان بن الجارود 204 ه) مرة واحدة .
الشافعي ( محمد بن إدريس 204 ه) . ست مرات .
الواقدي ( محمد بن عمر بن واقد 207 ه) مرتين .
عبد الرزاق بن همام الصنعاني ( 211 ه ) مرتين .
الأصمعي ( عبد الملك بن قُرَيب 215 ه) مرة .
أبو بكر الحميدي ( 219 ه) . مرة .
أبو عبيد القاسم بن سلاّم ( 224 ه) مرة ،
ابن سعد ( محمد بن سعد 230 ه) ست عشرة مرة .
يحيى بن معين ( 233 ه) إحدى عشرة مرة .
علي بن المديني ( علي بن عبدالله بن جعفر السعدي 234 ه) ست مرات
ابن أبي شيبة ( عبد الله بن محمد العبسي 235 ه) مرتين .
عبد الملك بن حبيب الأندلسي القرطبي المالكي ( 238 ه) مرة .
خليفة بن خياط العصفري (240 ه) ثلاث عشرة مرة .
أحمد بن حنبل ( أحمد بن محمد بن حنبل 241 ه) عشر مرات.
محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي ( 242 ه) مرة .
أحمد بن صالح المصري الطبري ( 248 ه ). مرتين .
عبد بن حميد ( 249 ه) . مرة .
الفلاّس ( عمرو بن علي 249 ه) مرتين .
الجوزجاني ( إبراهيم بن يعقوب السعدي 259 ه) مرتين .
العجلي ( أحمد بن عبد الله بن صالح الكوفي 261 ه) خمس مرات .
يعقوب بن شيبة (262 ه) مرة .
أبو زرعة الرازي ( عبيد الله بن عبد الكريم 264 ه) ثماني مرات .
المروذي ( 275 ه) مرة .
ابن قتيبة ( عبد الله بن مسلم بن قتيبة 276 ه) ثلاث مرات .
أبو حاتم الرازي ( محمد بن إدريس الحنظلي 277 ه) ستّاً وعشرين مرة .
الفسوي ( يعقوب بن سفيان 277 ه) مرة .
أبو بكر بن أبي خيثمة ( أحمد بن زهير بن حرب 279 ه) مرتين .
ابن أبي الدنيا ( عبد الله بن محمد بن عبيد 281 ه ) مرة .
أبو زرعة الدمشقي ( عبد الرحمن بن عمرو بن عبدالله 281 ه) مرتين.
المبرّد ( محمد بن يزيد 285 ه) مرة .
ابن وضاح ( محمد بن وضاح بن يزيد المرواني 287 ه) مرة .
صالح جزرة ( صالح بن محمد بن عمرو 293 ه ). مرة .
البرديجي ( أحمد بن هارون 301 ه) مرة .
أبو بكر عبد الله بن أبي داود ( 310 ه) مرة .
محمد بن جرير الطبري ( 310 ه) ثلاث مرات .
ابن خزيمة ( محمد بن إسحاق 311 ه) مره .
أبو العباس السَّرَّاج ( محمد بن إسحاق بن إبراهيم الثقفي 313 ه) مرة .
أبو الفضل الهروي ( محمد بن أحمد بن عمار الجارودي الهروي 317 ه ) مرة .
الطحاوي ( أحمد بن محمد بن سلامة 321 ه) . مرتين .
ابن دريد ( محمد بن حسن بن دريد الأزدي 321 ه) . مرة .
العقيلي ( محمد بن عمرو بن موسى 322 ه) خمس مرات .
ابن أبي حاتم ( عبد الرحمن بن محمد بن إدريس 327 ه). ثلاث عشرة مرة .
أبو بكر الصيرفي ( محمد بن عبد الله 330 ه) ثلاث مرات .
ابن الأعرابي ( أحمد بن زياد البصري 340 ه) . مرتين .
ابن الأخرم ( محمد بن يعقوب 344 ه) . مرة .
ابن يونس ( عبد الرحمن بن أحمد بن يونس 347 ه). ثلاث مرات.
أبو علي النيسابوري ( الحسين بن علي بن يزيد 349 ه) . مرتين .
ابن قانع (عبد الباقي بن قانع بن مرزوق 351 ه) إحدى عشرة مرة.
ابن السكن ( سعيد بن عثمان بن سعيد البغدادي 353 ه) . مرة .
ابن حبان ( محمد بن حبان بن أحمد 354 ه). سبعاً وخمسين مرة .
الرامهرمزي ( الحسن بن عبد الرحمن بن خلاّد 360 ه) اثنتين وعشرين مرة .
الطبراني ( سليمان بن أحمد بن أيوب 360 ه) أربع مرات .
ابن عدي ( عبد الله بن عدي الجرجاني 365 ه) . اثنتي عشرة مرة .
الأزهري ( محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي 370 ه) مرة .
أبو عبد الله (محمد بن خفيف الشيرازي 371 ه) مرة .
أبو الفتح الأزدي ( محمد بن الحسين بن أحمد الموصلي 374 ه) مرتين .
أبو عمرو بن أبي جعفر أحمد بن حمدان الحيري ( 376 ه ). مرة .
ابن زبر ( محمد بن عبد الله بن أحمد 379 ه) إحدى عشرة مرة .
العسكري ( الحسن بن عبد الله بن سعيد 382 ه ) مرة .
أبو عبيد الله المرزباني ( محمد بن عمران بن موسى البغدادي 384 ه) مرة .
الدارقطني ( علي بن عمر البغدادي 385 ه) . سبعاً وعشرين مرة .
الخطّابي ( حمد بن محمد بن إبراهيم 388 ه) سبع مرات .
المعافى بن زكريا النهرواني ( 390 ه) . مرة .
الجوهري ( إسماعيل بن حماد 393 أو 400 ه) ست عشرة مرة .
ابن فارس ( أحمد بن فارس بن زكريا 395 ه) ثلاث مرات .
أبو عبد الله بن منده ( 395 ه) أربع عشرة مرة .
الكلاباذي ( أحمد بن محمد بن الحسين 398 ه) . مرة .
أبو بكر الباقلاني ( محمد بن الطيب البصري 403 ه) . سبع عشرة مرة .
أبو الحسن القابسي ( 403 ه) . مرة .
الحاكم ( محمد بن عبد الله بن محمد 405 ه) . تسعاً وخمسين مرة .
عبد الغني بن سعيد الأزدي ( 409 ه) مرتين .
ابن الحذّاء ( محمد بن يحيى التميمي 416 ه) . مرتين .
الإسفراييني ( إبراهيم بن محمد بن إبراهيم 418 ه) مرتين .
البرقاني ( أحمد بن محد بن أحمد 425 ه) . مرة .
حمزة السهمي ( حمزه بن يوسف بن إبراهيم 427 ه ) مرة .
أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي (429 ه) . مرتين .
أبو نعيم الأصبهاني ( أحمد بن عبد الله بن أحمد 430 ه) . ست مرات .
أبو عمرو الداني ( عثمان بن سعيد بن عثمان 444 ه) . مرتين .
أبو نصر السجزي ( عبيد الله بن سعيد بن حاتم 444 ه) . مرة .
الخليلي ( الخليل بن عبد الله بن أحمد القزويني 446 ه) خمس مرات .
ابن حزم ( علي بن أحمد بن سعيد 456 ) . ثلاث مرات .
البيهقي ( أحمد بن الحسين بن علي 458 ه) تسع مرات .
ابن سيده (علي بن إسماعيل المرسى 458 ه ) ست مرات .
أبو القاسم الفوراني ( 461 ه) مرة .
الخطيب البغدادي ( أحمد بن علي بن ثابت 463 ه) إحدى وخمسين ومائة مرة .
ابن عبد البر ( يوسف بن عبد الله بن محمد 463 هجريه ) أربعاً وخمسين مرة .
أبو الوليد الباجي ( سليمان بن خلف بن سعيد 474 ه ) مرة .
ابن ما كولا ( علي بن هبة الله بن علي 475 ه) أربع عشرة مرة .
ابن الصباغ ( عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد 477 ه) أربع مرات .
إمام الحرمين ( عبد الملك بن عبد الله بن يوسف 478 ه)أربع مرات.
أبو عبد الله الحميدي ( محمد بن فتوح بن عبد الله الأندلسي 488 ه)ثلاث مرات.
أبو المظفر السمعاني ( منصور بن محمد التميمي 489 ه) تسع مرات .
أبو علي البرداني ( أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي 498 ه) مرة .
أبو علي الجياني ( الحسين بن محمد الغساني 498 ه) ست مرات .
الغزالي ( محمد بن محمد بن محمد 505 ه ) مرتين .
محمد بن طاهر المقدسي ( 507 ه) . خمس مرات .
أبو بكر السمعاني ( محمد بن منصور بن محمد التميمي 510 ه) . مرة .
أبو زكريا بن منده ( يحيى بن عبد الوهاب الأصبهاني511 ه) خمس عشرة مرة .
البغوي ( الحسين بن مسعود بن محمد 516 ه). أربع مرات .
ابن فتحون ( محمد بن خلف بن سليمان 520 ه) أربع مرات .
ابن السيد ( عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي521 ه)مرة .
البيضاوي ( عبد الله بن محمد بن محمد 537 ه) مرة .
أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي( 538 ه) .مرة .
عياض بن موسى بن عياض اليحصبي(544 ه) سبعاً وسبعين مرة .
ابن ناصر ( محمد بن ناصر بن محمد 550 ه) . مرتين .
عبد الرحيم بن عبد الخالق اليوسفي( 574 ه)مرة .
السلفي ( أحمد بن محمد بن أحمد 576 ه) . مرتين .
ابن بشكوال ( خلف بن عبد الملك بن مسعود 578 ه). مرتين .
الحازمي ( محمد بن موسى بن عثمان 584 ه) خمس مرات .
ابن الجوزي ( عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن 597 ه) تسع مرات .
فخر الدين الرازي ( محمد بن عمر بن حسين 606 ه) إحدى عشرة مرة
الرافعي ( عبد الكريم محمد بن عبد الكريم 623 ه) خمس مرات .
ابن القطان ( علي بن محمد بن عبدالملك 628 هجرية) سبع مرات.
الآمدي ( علي بن أبي علي بن محمد 631 ه) سبع عشرة مرة.
الضياء المقدسي ( محمد بن عبد الواحد بن أحمد 643 ه ) مرة .
ابن الحاجب ( عثمان بن عمر بن أبي بكر 646 ه) عشر مرات.
أبو العباس القرطبي ( أحمد بن عمر بن إبراهيم 656 ه) مرة .
الزكي عبد العظيم بن عبد القوي المنذري ( 656 ه) . مرة .
أبو شامة ( عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم 665 ه) مرتين .
النووي ( يحيى بن شرف 676 ه) تسع عشرة مرة .
ابن خلكان ( أحمد بن محمد بن أبي بكر 681 ه) . مرة .
جمال الدين الظاهري ( أحمد بن محمد بن عبدالله 696 ه) مرة .
ابن دقيق العيد ( محمد بن علي بن وهب 702 ه) . إحدى عشرة مرة.
ابن رشيد ( محمد بن عمر بن محمد 721 ه) مرة .
ابن الموّاق ( محمد بن يحيى 721 ه) . ثلاث مرات .
أبو الفتح اليعمري (محمد بن محمد بن محمد بن سيد الناس 734 ه) أربع مرات .
المزي ( يوسف بن عبدالرحمن بن يوسف 742 ه)أربع عشرة مرة .
تاج الدين التبريزي ( 746 ه ) . مرة .
الذهبي ( محمد بن أحمد بن عثمان 748 ه) خمس مرات .
محمود بن خليفة المنبجي ( 767 ه) . مرتين .
أبو جعفر بن النرسي . مرة .
أبو الحسين محمد بن أبي الحسين بن الوزان . مرة .
أبو عبيد الآجري . خمس مرات .
ب. مصادره التي صرّح فيها باسم الكتاب مع مؤلفه ، وهي :
مالك في المدونة . مرة .
مالك في الموطأ . ثلاث مرات.
الشافعي في اختلاف الحديث . مرة .
الشافعي في الأم . مرة .
الشافعي في الرسالة . ثلاث مرات .
ابن سعد في الطبقات . أربع مرات .
أحمد في المسند . ثلاث مرات .
البخاري في التاريخ الكبير . أربع عشرة مرة .
البخاري في رفع اليدين . مرة .
البخاري في القراءة خلف الإمام . مرة .
مسلم في التمييز . ثلاث مرات .
مسلم في الطبقات . مرتين .
مسلم في الكنى . مرة .
مسلم في المنفردات والوحدان . مرة .
أبو داود في المراسيل . مرة .
ابن قتيبة في المعارف . مرة .
يعقوب الفسوي في التاريخ . مرة .
ابن أبي خيثمة في الإعراب . مرة .
الترمذي في العلل. مرتين .
ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان . مرة .
ابن أبي الدنيا في النية . مرة .
المبرد في الكامل . مرة .
ابن الجارود في الكنى . مرة .
البزار في مسنده .مرة .
البزار في معرفة من يترك حديثه أو يقبل . مرتين .
البرديجي في الأسماء المفردة . مرة .
البرديجي في جزء لطيف . مرة .
النسائي في التمييز . مرة .
النسائي في حديث الفضيل بن عياض . مرة .
النسائي في الكنى . ثلاث مرات .
ابن خزيمة في صحيحه . مرة .
أبو الفضل الهروي في مشتبه أسماء المحدثين . مرة .
الطحاوي في شرح مشكل الآثار . مرة .
العقيلي في الضعفاء . مرة .
ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل . سبع مرات .
ابن أبي حاتم في العلل . مرة .
الصيرفي في الدلائل . أربع مرات .
الصيرفي في شرح رسالة الشافعي . مرة .
أبو العرب في كتاب الضعفاء . مرة .
ابن يونس في تاريخ الغرباء . مرة .
ابن يونس في تاريخ مصر . مرة .
أبو عمر الكندي في كتاب الموالي . مرة .
ابن حبان في الثقات . اثنتي عشرة مرة .
ابن حبان في كتاب الخلفاء . مرة .
ابن حبان في صحيحه . مرتين .
ابن حبان في الضعفاء . ثلاث مرات .
ابن حبان في معرفة الصحابة . مرة .
الرامهرمزي في المحدث الفاصل . ثلاث مرات .
الآجري في التصديق بالنظر إلى الله . مرة .
الطبراني في حديث محمد بن جحادة . مرة .
الطبراني في حديث من كذب علي . مرة .
الطبراني في مسند الشاميين . مرة .
الطبراني في المعجم الكبير . ثلاث مرات .
محمد بن الحسين بن إبراهيم الأثري السجستاني في فضائل الشافعي . مرة .
ابن عدي في الكامل . خمس مرات .
أبو الشيخ في طبقات الأصبهانيين . أربع مرات .
الأزهري في تهذيب اللغة . مرة .
الإسماعيلي في حديث الأعمش .مرة .
الإسماعيلي في المستخرج . مرة .
أبو أحمد الحاكم في الكنى . مرة .
العسكري في معرفة الصحابة . مرتين .
الدارقطني في الأخوة والأخوات . مرة .
الدارقطني في العلل . مرتين .
الدارقطني في القضاء باليمين مع الشاهد . مرة .
الدارقطني في المؤتلف . مرة .
الخطّابي في معالم السنن . ثلاث مرات .
الوليد بن بكر الغمري في الوجازة . مرتين.
الجوهري في الصحاح . مرة .
أبو عبد الله بن منده في القراءة والسماع والمناولة . مرتين .
أبو عبد الله بن منده في معرفة الصحابة . خمس مرات .
الكلاباذي فيمن أخرج له البخاري في صحيحه . مرة .
الحاكم في تاريخ نيسابور . ثلاث مرات .
الحاكم في علوم الحديث . خمس عشرة مرة .
الحاكم في المدخل إلى الإكليل . مرة .
الحاكم في المستدرك . خمس مرات .
عبد الغني بن سعيد الأزدي في إيضاح الإشكال . مرتين .
عبد الغني بن سعيد في كتاب عمدة المحدِّثين . مرة .
غنجار في تاريخ بخارى . مرتين .
البرقاني في اللقط . مرة .
أبو نعيم في تاريخ أصبهان . مرتين .
أبو نعيم في معرفة الصحابة . مرة .
أبو نعيم في علوم الحديث . مرة .
أبو القاسم الطحان في ذيله على تاريخ مصر . مرة .
أبو يعلى الخليلي في الإرشاد . أربع مرات .
محمد بن الحسين التميمي الجوهري في الإنصاف . مرة .
الماوردي في الحاوي . مرتين .
ابن حزم في المحلى . مرتين .
البيهقي في الاعتقاد . مرتين .
البيهقي في الدلائل . مرة .
البيهقي في الزهد . مرة .
البيهقي في السنن . ثلاث مرات .
البيهقي في شعب الإيمان . مرة .
البيهقي في المدخل . سبع مرات .
البيهقي في المعرفة . ثلاث مرات .
الخطيب في التفصيل لمبهم المراسيل . مرة .
الخطيب في تلخيص المتشابه . مرة .
الخطيب في تمييز المزيد في متصل الأسانيد . مرة .
الخطيب في الجامع . ست مرات .
الخطيب في السابق واللاحق . مرة .
الخطيب في القول في علم النجوم . مرة .
الخطيب في الكفاية . تسع مرات .
الخطيب في المتفق والمفترق . ثلاث مرات .
الخطيب في المدرج . مرتين .
الخطيب في الموضح لأوهام الجمع والتفريق . أربع مرات .
ابن عبد البر في الاستذكار . مرة .
ابن عبد البر في الاستيعاب . أربع مرات .
ابن عبد البر في البسملة . مرة .
ابن عبد البر في بيان آداب العلم .مرتين .
ابن عبد البر في التقصي . مرة .
ابن عبد البر في التمهيد . ست مرات .
الداودي في شرح مختصر المزني . مرة .
أبو القاسم بن منده في القنوت . مرة .
أبو القاسم بن منده في المستخرج . مرة .
ابن ماكولا في الإكمال .مرتين .
أبو إسحاق الشيرازي في اللمع . مرة .
ابن الصَّبَّاغ في الشامل . مرة .
ابن الصَّبَّاغ في العدة . إحدى عشرة مرة .
إمام الحرمين في الإرشاد .مرة .
إمام الحرمين في البرهان . ثلاث مرات .
الحميدي في تاريخ الأندلس .مرة .
الحميدي في الجمع بين الصحيحين . مرة .
الجياني في تقييد المهمل .سبع مرات .
الروياني في البحر .مرة .
الغزالي في الإحياء . مرة .
الغزالي في المستصفى . ثلاث مرات .
الغزالي في المنخول .مرتين .
محمد بن طاهر في أطراف الغرائب .مرة .
محمد بن طاهر في شروط الأئمة .مرة .
محمد بن طاهر في العلو والنـزول . مرة .
محمد بن طاهر في مسألة الانتصار . مرة .
أبو زكريا بن منده في معرفة الصحابة .مرة .
أبو زكريا بن منده في من عاش مائة وعشرين من الصحابة. ثلاث مرات.
البغوي في التهذيب . مرة .
البغوي في المصابيح . مرتين .
ابن فتحون في ذيل الاستيعاب . ست مرات .
عبد الغافر الفارسي في السياق . مرة .
عبد الغافر الفارسي في مجمع الغرائب . مرة .
الزمخشري في الفائق . مرة .
الزمخشري في المفصل . مرة .
ابن العربي في شرح الترمذي . مرة .
عياض في الإلماع . خمس مرات .
عياض في المشارق . عشر مرات .
الحازمي في الاعتبار . مرة .
الحازمي في شروط الأئمة . مرتين .
ابن السمعاني في ذيل تاريخ بغداد . مرتين .
ابن خير في برنامجه . مرة .
السلفي في جزء له في القراءة . مرة .
ابن بشكوال في المبهمات . مرة .
أبو موسى المديني في ذيل معرفة الصحابة . مرتين .
ابن الجوزي في التحقيق . مرة .
ابن الجوزي في التلقيح . خمس مرات .
ابن الجوزي في العلل المتناهية . مرة .
ابن الجوزي في الموضوعات . مرتين .
ابن الأثير الجزري في النهاية . مرة .
فخر الدين الرازي في المحصول . مرة .
الرافعي في التذنيب . مرة .
الرافعي في الشرح الكبير . خمس مرات .
ابن النقطة في تكملة الإكمال . مرتين .
ابن الدبيثي في الذيل . مرة .
النباتي في ذيل الكامل . مرة .
ابن الصلاح في فتاويه . مرة .
عبد الغني المقدسي في الكمال . مرة .
ابن النجار في الذيل . مرة .
ابن باطيش في مشتبه النسبة 0 مرة
القرطبي في المفهم .مرتين
الرشيد العطار في الغرر المجموعة .مرة
النووي في الإرشاد .مرة
النووي في التقريب والتيسير . أربع مرات .
النووي في التهذيب .مرة
النووي في الخلاصة . مرة .
النووي في زياداته في الروضة . مرة .
النووي في شرح مسلم . مرتين .
النووي في شرح المهذب . أربع مرات .
النووي في مختصر المبهمات . مرة .
القرافي في شرح التنقيح . مرة .
محب الدين الطبري في تقريب المرام . مرة .
ابن دقيق العيد في الاقتراح. ثماني مرات .
ابن دقيق العيد في خطبة الإلمام . مرة .
ابن دقيق العيد في شرح الإلمام . مرة .
ابن الموّاق في بغية النقاد . مرتين .
أبو الفتح اليعمري في شرح الترمذي . مرتين .
الحافظ عبد الكريم الحلبي في تاريخ مصر . مرة .
الحافظ عبد الكريم الحلبي في القدح المعلّى . مرة .
المزي في الأطراف . ثلاث مرات .
المزي في التهذيب . ست مرات .
الذهبي في تاريخ الإسلام . مرة .
الذهبي في العبر . ثلاث مرات .
الذهبي في مختصر المستدرك . مرة .
الذهبي في مشتبه النسبة . ست مرات .
الذهبي في معجمه . مرة .
الذهبي في ميزان الاعتدال . تسع مرات .
ابن التركماني في الدر النقي . مرة .
العلائي في جامع التحصيل . أربع مرات .
العلائي في الوشي المعلم . مرتين .
جـ. مصادره التي ذكر فيها اسم الكتاب فقط ، وهي :
الإحياء . مرة .
الاستيعاب . مرتين .
الأم . مرة .
أمالي ابن سمعون . مرة .
الإمام . مرة .
بيان أسماء ذوي الكنى . مرة .
تاريخ أبي بكر بن أبي خيثمة . مرة .
تاريخ البخاري . مرة .
تاريخ الخطيب . مرة .
تاريخ خليفة . مرة .
تهذيب الكمال . مرة .
تهذيب اللغة . مرة .
جزء ابن عرفة . مرة .
جزء الأنصاري . مرتين .
جزء الغطريف . مرة .
الدلائل والاعلام . مرة .
الزهد . مرة .
سنن البيهقي . مرة .
شرح الترمذي . مرة .
الصحاح . أربع مرات .
طبقات ابن سعد . مرة .
العبر . مرة .
العمدة . مرة .
العين . مرة .
" الغريبين " . مرة .
الغيلانيات . مرة .
كتاب ابن خزيمة . مرة .
كتاب ابن معين . مرة .
كتاب أبي أحمد الحاكم . مرة .
كتاب أحمد بن حنبل . مرة .
كتاب الأمير . مرة .
الكفاية . مرة .
المحصول . إحدى عشرة مرة .
المحكم . تسع مرات .
المدونة . مرة .
مسند أبي داود الطيالسي . مرة .
مسند أحمد . خمس مرات .
المطالع . مرة .
معجم الطبراني . مرة .
معرفة الصحابة . مرة .
الموطأ . سبع مرات .
الموضوعات . مرة .
المبحث الثالث
دراسة عروضية لنظم ألفية الحافظ العراقي :
نظم الحافظ العراقي ألفيته هذه على بحر الرجز ووزنه :
مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ
مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ
وهو بحرٌ كثيرةٌ أوزانُهُ ، متعددةٌ ضروبُهُ ، واسعةٌ زحافاتُهُ وهو عَذبُ الوزن واضحه ؛ إذ هو من البحور ذات التفعيلة الواحدة ، مكرَّرُها كما أن في كثرة زحافاته مجالاً لإرادة التصرف في الكلام ، وسعةً في إقامة الجمل ؛ إذ ليس بمستطاعٍ لشاعر الإتيان بثلاثة مقاطع قصيرة متتابعة في غير ( مُتَعِلُنْ ب ب ب – ) إحدى أشكال تفعيلة الرجز ( مستفعلن - - ب - ) ، فضلاً عن أشكال ( مُسْتَفْعِلُنْ ) الأخرى مثل : ( متفعلن ب – ب – ) و ( مُسْـتَعِلنْ – ب ب – ) و ( مُسْـتَفْعِلْ – – – ) . . . الخ .
وهذا من غير شكّ تارك للناظم الفرصة واسعة في النَّظْم والتصرف في التعبير بحسب متطلبات المعنى ، ولَمَّا كان النظم في المتون العلمية في مسيس الحاجة لهكذا سعة في الجوازات ، رُئِي أكثرها منظوماً على هذا البحر هذا الأمر الذي أفاد منه الحافظ العراقي في نظمه للتبصرة فجاءت على هذا البحر بكل أشكاله وتفعيلاته بل لا يكاد بيت يشبه سابقاً له أو لاحقاً في وزن أو ضرب لكثرة ما أفاده من هذا التعدد في أشكال البحر ، فقد جاء ضرب البيت الأول ( مُسْـتَعِلُنْ – ب ب – ) ، والثاني ( مَفْعُوْلُنْ - - - ) ، والثالث ( مُتَفْعِلُنْ ب – ب – ) ، والرابع ( فعولن ب - - ) ، والخامس ( مُسْتَفْعِلُنْ - - ب - ) وهكذا دواليك ، هذه الإفادة من الحافظ تركت له الفرصة واسعة للتعبير على حساب الجمال الصوتي والتناسب بين الأبيات ، فقد جاءت بعض الانتقالات بين هذا الشكل أو ذاك قوية ثقيلة تركت تبايناً صوتياً واضحاً في أذن المستمع ، وإن كان مثل هذا مغتفراً في المتون العلمية ، إذ ليس من وَكْدِ الناظم فيها جمال الإيقاع بقدر تحقيق الدقة العلمية في وزن صحيح مقبول .
وعوداً إلى بحر الرجز وما يحققه من سعة في التصرف ضمن القالب الشعري ، فإنّ التقفية الداخلية المستعملة في المتون العلمية تعدّ شكلاً آخر من أشكال الحرية في صياغة العبارة العلمية في قالب شعري ، فالقافية التي طالما كانت شكلاً لازماً في القصيدة العربية تفرض نفسها نمطاً صوتياً يتحكم في صياغة البيت الشعري كلّه الأمر الذي يفرض على الشاعر نهاية صوتية واجبة التحقيق ، فضلاً عن الشكل الشعري الواجب أيضاً،لذلك كان في التقفية الداخلية التي استعملها الحافظ العراقي مجالاً للتخلص من هذا القيد - والذي لا تنكر قيمته الصوتية-لأن الدقة في التعبير العلمي مقدمة على الإبداع الصوتي وهذه التقفية التي حقّقت التوافق ما بين عروض البيت وضربه سهَّلت كثيراً حفظ البيت الشعري .
على أن الحافظ العراقي لم يكتفِ بكل ما أتاحه له بحر الرجز من جوازات ؛ ليفيد من مبدأ الضرورة الشعرية بشكل واسع جداً ، حتى أصبحت الضرورة شيئاً ثابتاً في أبيات " التبصرة " ، وهذا يدلّل بشكل واضح على تمكن الحافظ وقدرته على الإفادة مما تتيحه اللغة من ضرورات وإن كان في تكرار بعضها في البيت الواحد ثقل كان يمكن تجاوزه ، ومن أبرز الضرورات في نظم الحافظ :
1. إدراج الهمزة ، كقوله ( 78 ) :
في البابِ غيرهُ فذَاكَ عِنْدَهْ
مِنْ رأيٍ اقْوَى قَالَهُ ابنُ مَنْدَهْ
وقوله ( 139 ) :
مَعْرِفَةُ الرَّاوي بالاخْذِ عَنْهُ
وَقِيْلَ : كُلُّ مَا أتانا مِنْهُ
وقوله ( 153 ) :
تَدْلِيْسُ الاسْنَادِ كَمَنْ يُسْقِطُ مَنْ
حَدَّثَهُ ، وَيَرْتَقِي بِـ(عَنْ) وَ(أنْ)
2. تسكين بعض الحروف المتحركة :
كقوله ( 82 ) :
كَمُسْنَدِ الطَّيَالِسيْ وَأَحْمَدَا ……………
وقوله ( 162 ) :
…………… وَلِلْخَلِيْلِيْ مُفْرَدُ الرَّاوي فَقَطْ
3. قصر الممدود ،
كقوله ( 136 ) :
…………… مِنْ دُلْسَةٍ رَاويْهِ ، واللِّقَا عُلِمْ
وقوله ( 170 ) :
…………… خَاتَمَهُ عِنْدَ الخَلا وَوَضْعِهْ
4. صرف الممنوع من الصرف ،
كقوله ( 809 ) :
…………… أو سَهْلٌ او جَابِرٌ او بِمَكَّةِ
وقوله ( 816 ) :
وَقِيْلَ : إِفْرِيْقِيَّةٍ وَسَلَمَهْ ……………
وقد يجمع الحافظ بين ضرورتين في موضع واحد ، كقوله ( 864 ) :
وَاعْنِ بِالاسْمَا والكُنَى وَقَدْ قَسَمْ ………………
والأصل ( بالأسماء ) فقصر الممدود وأدرج الهمزة .
وقوله ( 867 ) :
……………… النُّوْنُ فِي أبي قَطَنْ نُسَيْرُ
فقد سكّن النون من ( قطنْ ) وأدغمها في نون ( نسير ) .
وقد تتوالى الضرورات في شطر واحد مما يولد ثقلاً في قراءة البيت ،
كقوله :
…………… أو سَهْلٌ او جَابِرٌ او بِمَكَّةِ
فقد أدرج الهمزة في موضعين في ( أو ) الثانية والثالثة مما يجعل البيت مستثقلاً عند قراءته .
وقد يُعَلّق الحافظ – رحمه الله – معنى البيت بالبيت الذي يليه ، وهذه ما يسمى بالتضمين ، وهو عيب عند العروضيين ، كقوله ( 7 ، 8 ) :
فَحَيْثُ جَاءَ الفِعْلُ والضَّمِيْرُ
لِوَاحِدٍ وَمَنْ لَهُ مَسْتُوْرُ
كَـ(قَالَ) أو أطْلَقْتُ …
…………………..
وقوله ( 51 ، 52 ) :
يَقْدَحُ فِي أَهْلِيَّةِ الوَاصِلِ أو
مُسْنَدِهِ عَلَى الأَصَحِّ ، وَرَأوا
أَنَّ الأصَحَّ : الْحُكْمُ للرَّفْعِ وَلَوْ
……………………
وهكذا تنقّل الحافظ العراقي في أبيات نظمه عَلَى وفق ما يتيحه له هذا البحر من أشكال في تفعيلاته ، وما يجوّزه له من الزحافات والعلل ، زيادة على الضرورات التي غطّت مساحة واسعة من نظمه ، مما أعطاه رونقاً وجمالاً خاصّاً وسهولةً وعذوبة وفّرت الجوَّ الملائم تسهيلاً وإفادة لمبتغي هذا العلم .
المبحث الرابع
شروح الألفية :
نظراً لما تمتعت به ألفية العراقي من ثراء الأسلوب ، واحتواء المعاني ، وسلاسة الألفاظ ، وترتيب الأفكار والموضوعات ، فقد أصبحت ديدن طلاب هذا العلم والمشتغلين فيه ، لاسيما وقد كان وكْدُ الناظم الأول تلخيص كتابٍ هو العمدة في هذا الباب ، ألا وهو كتاب ابن الصلاح .
فلم يكن بدعاً من الأمر أن يتوالى عليها الشراح ، ويضعون عصارة أفكارهم ، درراً نفيسة تحلي جيدَ الألفية ، وتلبسها ثوباً قشيباً تقرُّ به عين ناظمها ، ومن ثمَّ عيون المحبين لهذا العلم الشريف .
ولا غرو هناك أن تختلف طبائع هذه الشروح تبعاً لتمرس الشارح في هذا العلم ، وتذوقه لحلاوة النقد والتعليل ، والتخريج والتأصيل ، وإفادته في المجال العلمي الذي يبرع فيه ، ولعلنا لا نغادر أرض الواقع والحقيقة إذا قلنا : أن شرح الحافظ العراقي من أكثر الشروح أصالة في مادته العلمية ، وأوفرها إغناءً لجوانب البحث العلمي ، سواء أكان في مجاله الأصيل ، أم في المجالات الطارئة الأخرى لغوية كانت أم عروضية ، أم نحوية ، وسواء أكان توضيحه لتلك المباحث بشكل مطول أم مختزل ؟
ثمَّ إن تلك الشروح تختلف طولاً واختصاراً حسب إشباع الشارح للمادة العلمية ، وتبعاً لمقدراته ، ونحن في صدد عرضنا لأهم شروح الألفية نود التنبيه على أن تحقيقنا لهذا الشرح ليس الأخير في بابه ، بل ستصدر قريباً شروح محققة على غرار هذا الشرح – إن شاء الله تعالى - .
وأهم هذه الشروح :
1 – الشرح الكبير ، للناظم الحافظ أبي الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي ( 806 ه ) .
2 – الشرح المتوسط – وهو كتابنا هذا – للناظم .
3- النكت الوفية بما في شرح الألفية ، للبقاعي : إبراهيم بن عمر بن حسن
( 885 ه).
3 – شرح ألفية العراقي ، لابن العيني : زين الدين أبو محمد عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد الحنفي ( 893 ه ) .
5 – فتح المغيث بشرح ألفية الحديث ، للحافظ شمس الدين أبي الخير محمد بن
عبد الرحمن بن محمد السخاوي ( 902 ه ) .
6 – شرح ألفية الحديث ، للحافظ جلال الدين أبي الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ( 911 ه ) .
7 – فتح الباقي على ألفية العراقي ، لقاضي القضاة زين الدين أبي يحيى زكريا بن محمد ابن أحمد بن زكريا الأنصاري السنكي ثم القاهري (926 ه)
8 – شرح ألفية العراقي ، لأمير بادشاه : شمس الدين محمد أمين بن محمود البخاري الحسيني ( 972 ه ) .
9 – شرح ألفية العراقي ، للمناوي : زين الدين محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين ( 1031 ه ) .
10 – شرح ألفية العراقي ، للأجهوري : نور الدين أبي الإرشاد عَلِيّ بن مُحَمَّد بن
عبد الرحمن بن علي المالكي ( 1066 ه ) .
11 – نهاية التعريف بأقسام الحديث الضعيف ، للدمنهوري : أحمد بن عبد المنعم بن يوسف ابن صيام ( 1192 ه ) .
12 – شرح ألفية العراقي لابن كيران : أبي عبد الله محمد الطيب بن عبد المجيد بن
عبد السلام الفاسي ( 1227 ه ) .
13 – معراج الراقي لألفية العراقي ، للبطاوري : المكي بن محمد بن علي الرباطي ( 1354 ه ) .
القسم الثاني
التحقيق
وفيه ثلاثة فصول :
الفصل الأول : التعريف بالكتاب
الفصل الثاني : وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق
الفصل الثالث : منهج التحقيق
الفصل الأول
التعريف بالكتاب
المبحث الأول
مادته ومحتواه :
كلنا يعلم جيداً أن الحافظ العراقي في نظمه هذا كان يحاول احتواء كتاب ابن الصلاح في علوم الحديث ، فمن البدهي أن يكون شرح هذا النظم في موضوع الأصل ، لذا فقد كانت مادة علوم الحديث أو مصطلح الحديث المادة الأصلية في الكتاب ، غير أن الكتاب لا يخلو من مباحثات في علوم متنوعة كاللغة والصرف والنحو والعروض والتاريخ والسير وغيرها ، دلّت بمجموعها على تضلع الحافظ العراقي من علوم شتى وتنوع معارفه واختلاف مشاربه ، كما أن الكتاب لم يكن اختصاراً مجرداً ، أو تقنيناً رتيباً ، بل امتاز بأن أتى الشارح فيه بغرر الفوائد ، ونفائس العوائد ، استدراكاً وتصحيحاً وتعقباً وإيضاحاً ، وزيادات ضمتها دفتا هذا السفر العظيم أكملت في نهاية المطاف مشوار علم مصطلح الحديث .
وفي اعتقادنا – ونحن نكتب هذه الأسطر – أنه لم يأت بعد الحافظ العراقي حافظ يدانيه أو يقاربه سوى الحافظ ابن حجر ، الذي صنف أيضاً في علم مصطلح الحديث كتاباً ، لعلنا لا نكذب أنفسنا إن قلنا أن الحافظ العراقي كان مادته الأولى فيه ، وإن كانت لابن حجر روعة الترتيب والابتكار .
لذا فإن في وسعنا القول أن الحافظ العراقي يعدُّ المؤسس الثاني والمُنَظِّر الأخير لعلم المصطلح ، وإن استدركت عليه بعض الأشياء ، فهي لا تخل بروح التجديد التي امتلكها الحافظ العراقي ، في أثناء شرحه فالحكم هنا للأغلبية لا للكلية .
وقد احتوى هذا الكتاب في تضاعيفه على مفاتيح علم الحديث ، ضمنها نبذاً من علومه على اختلاف موادها ، فمن التواريخ إلى المتون ثمَّ ضبطها ثم المعرفة بالرجال ثمَّ بجرحهم وتعديلهم ثمَّ … ثمَّ إلى ألوان العلوم يتقلب القارئ فيها بين رياض أزهارها ، يقطف ورودها ويجني ثمارها بإدامة النظر في هذا العلم وتتبع شوارده ، وقنص فوائده ، وملاحظة مواضع كلام أهل الشأن فيه ، والله الهادي والموفق للحق بإذنه .
المبحث الثاني
اسم الكتاب :
قد اعترى الناس شيء من الاضطراب في تحديد اسم هذا الكتاب ، فمنهم من يسميه : شرح ألفية الحديث ، ومنهم من يسميه : شرح التبصرة والتذكرة ، ومنهم من يسميه : فتح المغيث ، ومردُّ ذلك كله إلى الاختلاف في تسمية النَّظْم أصلاً .
والحق أن الذي ظهر لنا من خلال بحثنا أن الذين أسموه : " فتح المغيث " مخطئون خطأً محضاً ، فلا متابع لهم البتة في هذه التسمية ، وقد يدَّعِي مدعٍ أن هذا الاسم عَلَمٌ على شرح المصنف الكبير الذي لم يتمه . والجواب : أن أحداً لم يذكر هذا الشيء ، ولعل أقرب من تحدّث عن هذا الشرح هو البقاعي ، وقد نقلنا لك كلامه فيما مضى ، وها نحن نعيده لك ابتغاء الفائدة ، قال البقاعي في نكته ( 3 / ب ) : (( قوله : رأيته كبير الحجم ، أيّ : ظننت أنَّه إذا كمل يكون كبيراً ، وإلا فهو لم يوجد منه إلا قطعة يسيرة وصل فيها إلى الضعيف )).
فهذا نص كلام البقاعي ، ونحن نعتقد جزماً أن الحافظ لو كان سماه لما تردد البقاعي في إيراد اسمه ومن ثمَّ التعليق عليه ، وهذه هي مهمة من يتصدى للتنكيت على كتاب ما . ثمَّ إن الحافظ العراقي نفسه عندما كان يعزو إليه في هذا الشرح فيما يقارب العشرة مواطن لا يزيد على قوله : (( الشرح الكبير )) .
أمّا الذين أسموه شرح ألفية العراقي أو ألفية الحديث للعراقي ، فهؤلاء متجوزون في هذه التسمية ، خشية الالتباس بألفية الحديث للسيوطي ، فإن الناظم لم يصرح البتة في نظمه بأنه جعلها ألفية ، وهذا هو المطابق للواقع ، إذ زادت أبيات النظم على الألف ببيتين وهذه التفاتة قلّ من تنبّه عليها ، وهي السرُّ في عدم قوله في النَّظْم ألفتها ، على الرغم من تصريحه في الشرح بذلك .
وعلى هذا فإن الراجح – في نظرنا – إن اسم الكتاب هو : " شرح التبصرة والتذكرة " تبعاً لتسمية النظم بـ " التبصرة والتذكرة " ، لا سيّما أنَّهُ قَالَ في النظم :
نظمتُها تبصرةً للمبتدي
تذكرةً للمنتهي والمسْنِدِ
مع قول الحافظ السخاوي في شرحه لهذا البيت : (( وأشير بالتبصرة والتذكرة إلى لقب هذه المنظومة )) .
ولم ينص الحافظ العراقي في أثناء شرحه على اسم يكون علماً على شرحه هذا ، الأمر الذي يضطرنا إلى القول بأن الحافظ العراقي ترك شرحه هذا من غير اسم ، ولما كان سمى نظمه ، فيكون هذا شرح لذلك النظم ، وعليه استقر رأينا في تسميته بـ : " شرح التبصرة والتذكرة " ، والله أعلم .
المبحث الثالث
تاريخ إكمال الشرح :
أشار الحافظ العراقي إلى تاريخ إكماله لشرحه هذا ، وذلك في ختامه فقال : (( وكَمُل هذا الشرح عليها في يوم السبت التاسع والعشرين ، في شهر رمضان المعظم قدره ، سنة إحدى وسبعين وسبعمائة ، بالخانقاه الطشتمرية خارج القاهرة المحروسة )) .
الفصل الثاني
وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق
اعتمدنا في تحقيقنا على نسخ لمتن الألفية ونسخ للشرح ، لذا سنجعل لكل منهما قسماً :
القسم الأول : نسخ المتن ، اعتمدنا على ثلاث نسخ خطية فيما يأتي وصفها :
1- النسخة الأولى : وهي النسخة المحفوظة في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد –حرسها الله– تحت الرقم ( 8 / 2899 مجاميع ) ، تقع في ( 48 ) ورقة خطها نسخي جميل واضح ومشكول ، وهي حديثة العهد ، إذ نسخت في سنة 1208 ه . ورمزنا لها ( أ ) .
2- النسخة الثانية ، وهي النسخة المحفوظة في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد تحت الرقم ( 2818 ) تقع في ( 55 ) ورقة ، كتبت بخط نسخ واضح ومشكول تظهر عليها آثار المقابلة ، وعلى حواشيها نقولات عدة عن شرح العراقي ، وشرح زكريا الأنصاري ، ونكت البقاعي ، كتبها محمد أمين بن أحمد أفندي المدرس ، وانتهى منها في سنة 1244ه ، وعلى طرتها بعض التملكات وصورة وقفيتها ، ورمزنا لها بالرمز ( ب ) .
3- النسخة الثالثة : تقع ضمن مجموع محفوظ في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد تحت الرقم ( 1 / 2955 مجاميع ) تقع في ( 52 ) ورقة ، وخطها نسخي جميل واضح جداً ومشكول ، وهي أقدم هذه النسخ إذ كتبت في سنة 1118 ه على يد رجل لم يدون سوى اسمه : عبد الغفور ، وعلى طرتها تظهر صورة وقفيتها على المدرسة الأمينية ، ورمزنا لها بالرمز ( جـ ) .
القسم الثاني : نسخ الشرح ، اعتمدنا فيها على أربع نسخ هي :
1- النسخة الأولى : وهي النسخة المحفوظة في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد – حرسها الله - تحت الرقم ( 2951 ) تقع في ( 166 ) ورقة ، خطها نسخي واضح جداً ، على حواشيها آثار المقابلة ، وعليها نقولات من بعض الشروح وتوضيحات ، وهي نسخة قليلة الخطأ والسقط ، أهمل ناسخها كتابة اسمه ، وتاريخ النسخ ، ولم يدون سوى اليوم فقال : (( وقع الفراغ من نسخ هذا الكتاب المبارك نهار الخميس )) ، وعلى طرتها ختم الوقفية على المدرسة الأمينية ، ورمزنا لها بالرمز ( ص ) .
2- النسخة الثانية : نسخة مكتبة أوقاف بغداد تحت الرقم ( 2490 ) تقع في ( 217 ) ورقة ، كتبت بخط نسخ جميل واضح مقروء ، وهي مشكولة في الغالب قليلة الخطأ ، وقد تغير خطها في بعض الصفحات الأخيرة ، وتظهر فيها آثار المقابلة ، إذ قوبلت على نسخة العلاّمة عبد الرحمن العمادي ، ونسخة العلاّمة محمد بن هلال الحلبي ، وقرئت على العلاّمة محمد بن عمر السفيري في سنة 949 ه ، فهي إذن مكتوبة قبل هذا التاريخ ، وناسخها محمد بن الحاج يحيى بن الشيخ عبيد الشافعي الحلبي ، وعلى طرتها تملكات ووقفيات على المدرسة العلية ، ورمزنا لها بالرمز ( ن ) .
3- النسخة الثالثة : نسخة تحتضنها مكتبة الأوقاف العامة في بغداد برقم ( 2889 ) تقع في ( 256 ) ورقة ، خطها نسخي واضح ومقروءة ، وهي مشكولة مقابلة ، في بعض حواشيها نقولات ، وهي قليلة الخطأ ولا يكاد يوجد سقط فيها ، نسخت سنة 830 ه ولا يعلم اسم ناسخها ، وهي مقروءة من قبل الشيخ محمد ناصر الدين القادري الشافعي، وفي آخرها وقفية والي بغداد سليمان باشا على مدرسته ، ورمزنا لها بالرمز ( ق ) .
4- النسخة الرابعة : نسخة محفوظة في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد برقم ( 3318 ) تقع في ( 170 ) ورقة ، خطها نسخي جميل واضح ومقروء ، شكل ناسخها أبيات الألفية فقط ، وفي بعض المواطن من حواشيها نقولات ، وهي نسخة كثيرة الخطأ ، سقيمة الضبط ، ولم نعلم اسم ناسخها ، أو تاريخ نسخها ، إلاّ أن في طرتها والصفحة التي تليها تملكات ووقفيات أقدمها وقفية والي بغداد سليمان باشا على المدرسة العلية سنة 1223 ه ، وقد رمزنا لها بالرمز ( س ) .
الفصل الثالث
منهج التحقيق
يمكننا أن نلخص منهج التحقيق الذي سرنا عليه والتزمناه في تحقيقنا لشرح التبصرة والتذكرة في ما يأتي :
1- لم نتخذ واحدة من النسخ أصلاً في تحقيقنا هنا ، فإن هذا عمل قد يحتاج إليه في كتاب قد لا تتوافر منه إلا نسخة أو نسختان في العالم ، أمّا مع كتاب يوجد منه في داخل العراق فقط ثماني عشرة نسخة خطية ، فهذا أمر شبه المتعذر .
2- حاولنا ضبط النص – قدر المستطاع – سواء الألفية أو شرحها ، مستعينين بما نثق به من الكتب المطبوعة ، مثل : النفائس ، وفتح المغيث ، وشرح السيوطي ، وطبعات الكتاب السابقة ، مع مراجعة المصادر المباشرة للمؤلف، ككتب المتون والأسانيد ، وكتب الرجال على اختلاف ألوانها .
3- خرجنا الآيات الكريمات من مواطنها في المصحف ، مع الإشارة إلى اسم السورة ورقم الآية .
4- خرجنا الأحاديث النبوية الكريمة تخريجاً مستوعباً حسب الطاقة ، وأجملنا التخريج عَلَى الصَّحَابِيّ ، وبينا ما فيها من نكت حديثية ، ونبّهنا على مواطن الضعف ، وكوامن العلل مستعينين بما ألّفه الأئمة الأعلام جهابذة الحديث ونقّاد الأثر في هذا المجال .
5- خرّجنا الأبيات الشعرية التي استشهد بها المصنف من دواوين القائلين أو أقدم مصدر ذكرها .
6- خرّجنا أكثر نقولاته عن العلماء وذلك بعزوها إلى كتبهم .
7- تتبّعنا المصنف فيما يورده من المذاهب سواء أكانت لغوية أم فقهية أم غيرها ؟ ووثّقناها من المصادر التي تعنى بتلك العلوم .
8- لم يكن من وكدنا أن نترجم للأعلام الذين يذكرهم الشارح رغم فائدتها التي لا تخفى ، مقدمين دفع مفسدة تضخم الكتاب ، على مصلحة التعريف بهؤلاء الأعلام ، على أن الكتاب لا يخلو من التعريف ببعضهم .
9- قدّمنا للكتاب بدراسة نراها حسب اعتقادنا كافية كمدخل إليه .
10- لم نألوا جهداً في تقديم أي عمل يخدم الكتاب ، وهذا يتجلى في الفهارس المتنوعة التي ألحقناها بالكتاب ، بغية توفير الوقت والجهد على الباحث .
11- قمنا بشكل الألفية وشرحها ، شكلاً متوسطاً ، على حسب ما يقتضيه المقام .
12- علّقنا على المواطن التي نعتقد أنها بحاجة إلى مزيد إيضاح وبيان .
13- ذيّلنا الشرح بالمهم من نكت البقاعي والزركشي وشرح السيوطي وغيرها ، ممّا أغنى الكتاب وتمّم مقاصده .
وبعد هذا كلّه ، فلسنا من الذين يدّعون الكمال لأنفسهم أو أعمالهم ، وليتذكر من يقف على هفوة أو شطحة قلم أن يقدّم النظر بعين الرضا على الانتقاد بعين السخط ، وليضع قول الإمام الشافعي - رحمه الله – نصب عينيه إذ يقول :
وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيْلَةٌ
ولَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي المَسَاويَا
سبحان ربك ربّ العزة عمّا يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله ربّ العالمين .
المحقّقان
صبيحة يوم الجمعة 19 / محرّم / 1422 ه
13 / نيسان / 2001 م
العراق / الأنبار / الرمادي / حي التقدُّم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحمدُ للهِ الذي قَبِلَ بصحيحِ النيّةِ حسنَ العملِ ، وحَملَ الضعيفَ المنقطِعَ على مراسيلِ لُطفِهِ فاتّصلَ ، ورفعَ مَنْ أسندَ في بابهِ ، ووقفَ مَنْ شَذَّ عنْ جنابهِ وانفصلَ ، ووصلَ مقاطيعَ حُبِّهِ ، وأدرجَهُمْ في سلسلةِ حزبهِ ؛ فسكنَتْ نفوسُهُم عن الاضطرابِ والعِللِ ، فموضوعُهُم لا يكونُ محمولاً ، ومقلوبُهُم لا يكونُ مقبُولاً ولا يُحْتَمَلُ .
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَه ، الفردُ في الأزلِ . وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ، أرسلَهُ والدينُ غريبٌ فأصبحَ عزيزاً مشهوراً واكتملَ ، وأوضحَ به معضلاتِ الأُمورِ ، وأزالَ به منكراتِ الدُّهُورِ الأُوَلِ ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلمَ ما علا الإسنادُ ونزَلَ ، وطلعَ نجمٌ وأفلَ .
وبعدُ : فعلمُ الحديثِ خطيرٌ وَقْعُهُ ، كثيرٌ نفعُهُ ، عليه مدارُ أكثرِ الأحكامِ ، وبه يُعْرَفُ الحلالُ والحرامُ ، ولأهلهِ اصطلاحٌ لابدَّ للطالبِ منْ فَهْمِهِ فلهذا نُدِبَ إلى تقديمِ العنايةِ بكتابٍ في علمِهِ . وكنتُ نظمْتُ فيهِ أُرجوزةً أَلَّفْتُهَا ، ولبيانِ اصطلاحِهمُ أَلَّفْتُهُاْ ، وشرعْتُ في شرحٍ لها ، بسطتُهُ وأوضحتُه ، ثم رأيتُه كبيرَ الحجمِ فاستطَلتُهُ ومَلِلتُه ، ثم شرعْتُ في شرحٍ لها متوسطٍ غيرِ مُفْرِطٍ ولا مُفَرِّطٍ ، يُوضِحُ مُشْكِلَهَا ، ويفتحُ مُقْفَلَها ، ما كَثُرَ فأَمَلَّ ، ولا قَصُرَ فأَخَلَّ ، مَعَ فوائدَ لا يستغني عنها الطالبُ النبيهُ ، وفرائدَ لا توجدُ مجتمعةً إلا فيهِ، جعلَهُ اللهُ تعالى خالصاً لوجهِهِ الكريمِ، ووسيلةً إلى جنات النعيمِ .
1.
يَقُوْلُ رَاجِي رَبِّهِ المُقْتَدِرِ
عَبْدُ الرَّحيمِ بنُ الحُسَيْنِ الأَثَريْ
2.
مِنْ بَعْدِ حَمْدِ اللهِ ذِي الآلاءِ
عَلَى امْتِنَانٍ جَلَّ عَنْ إحْصَاءِ
3.
ثُمَّ صَلاَةٍ وسَلامٍ دَائِمِ
عَلَى نَبِيِّ الخَيْرِ ذِي المَرَاحِمِ
4.
فَهَـذِهِ المَقَاصِدُ المُهِمَّهْ
تُوْضِحُ مِنْ عِلْمِ الحدِيْثِ رَسْمَهْ
( الأَثَرِيُّ ) – بفتحِ الهمزةِ والثاءِ المثلثةِ – : نسبةٌ إلى الأَثَرِ ، وهو الحديثُ واشتهرَ بها الحسينُ بنُ عبدِ الملكِ الخلاَّلُ الأثريُّ ، وعبدُ الكريمِ بنُ منصورٍ الأثريُّ ، في آخرينَ .
( والآلاءُ ) : النِّعَمُ ، واحدُها أَلاً بالفتحِ والتنوينِ كَرَحًى ، وقيلَ : بالكسرِ كمِعًى ، وقيلَ : بالكسـرِ وسكونِ اللامِ والتنوينِ كَنِحْـىً ، وقيلَ : بالفتحِ وتركِ التنوينِ كقَفَى . ( والمراحمُ ) : جمعُ مَرْحَمَةٍ ، وهي الرحمةُ . وفي صحيحِ مسلمٍ : (( أنا نبيُّ المَرْحَمْةِ )) ، وفي روايةٍ : الرحمة ، وفي روايةٍ : الملحَمْةِ .
والمرادُ برسْمِ الحديثِ : آثارُ أهلِهِ التي بَنَوا عليها أصولَهُم . والرسمُ في اللغةِ : الأثرُ ، ومنهُ رسمُ الدارِ ، وهو ما كان مِنْ آثارها لاصقـاً بالأرض ، وعَبَّرَ بالرسمِ هنا إشارةً إلى دُرُوْسِ كثيرٍ مِنْ هذا العلمِ ، وإنَّهُ بقيتْ منهُ آثارٌ يُهْتَدَى بها ، ويُبْنَى عليها.
5.
نَظَمْتُهَا تَبْصِرَةً لِلمُبتَدِيْ
تَذْكِرَةً لِلْمُنْتَهِيْ وَالْمُسْنِدِ
6.
لَخَّصْتُ فيهَا ابْنَ الصَّلاحِ أَجْمَعَهْ
وَزِدْتُهَا عِلْماً تَرَاهُ مَوْضِعَهْ
( المسنِدُ ): بكسرِ النونِ فاعلُ أسندَ الحديثَ ، أي : رواهُ بإسنادِهِ . وأَما عبدُ اللهِ ابنُ محمدِ المُسْنَدي ، فهو – بفتحهَا – أحدُ شيوخِ البخاريِّ .
وقولهُ : ( لخصتُ فيها ابنَ الصلاحِ ) ، أي : كتابَ ابنِ الصَّلاحِ . والمرادُ مسائلُهُ وأقسامُهُ دونَ كثيرٍ من أمثلتِهِ وتعاليلِهِ ونسبةِ أقوالٍ لقائليها وما تكررَ فيهِ .
وقولُه : ( وزدتُها علماً ) : اعْلَمْ أَنَّ ما زدتُهُ فيها على ابنِ الصلاحِ أكثرُهُ مَيَّزْتُ أولَهُ بقولي : " قلت " ولم أميّزْ آخرَه ، بل قدْ يتميزُ بالواقعِ إِنْ كانَ آخرَ مسألةٍ في تلكَ الترجمةِ المترجَمِ عليها ، وأميزُ ما لمْ يقعْ آخرَ الترجمةِ في هذا الشرحِ إِنْ شاءَ اللهُ تعالى . ومِنَ الزياداتِ ما لم أميزْ أولَهُ بقولي : قلتُ . إذْ هو مُمَيَّزٌ بنفسِهِ عند مَنْ لَهُ معرفةٌ ؛ بأَنْ يكونَ حكايةً عَمَّنْ هو متأخّرٌ عن ابن الصلاح كالنـوويِّ ، وابنِ دقيـقِ العيدِ ، وابن رُشَيدٍ ، وابنِ سَيِّدِ الناسِ كما ستراهُ . وكذلك إذا تُعقّبَ كلامُ ابنِ الصلاحِ بِرَدٍّ أو إيضاحٍ له ، فهو واضحٌ في أنّهُ مِنَ الزياداتِ ، وكذلك إذا تُعقبَ كلامُ مَنْ هو متأخرٌ عن ابنِ الصلاحِ بطريقٍ أولى . ومن الزياداتِ ما لَمْ أُميّزْ أولَها ولا تميزَتْ بنفسِها بما تقدمَ ؛ فأميزُهَا في الشرحِ ، وهي مواضعُ يسيرةٌ رأيتُ أنْ أجمعَهَا هنا لتُعْرَفَ .
فمنها في آخرِ البابِ الأولِ قولُه : ( ولُمْ منْ عَمَّمَهُ ) .
ومنها: في التدليسِ النقلُ عن الأكثرينَ أنّهمُ قبلوا ما صرحَ ثقاتُ المدلّسينَ بوصلِهِ .
ومنها : قولي في آخرِ القسمِ الثالثِ من أقسامِ المجهولِ : ( وفيه نظرٌ ) .
ومنها : في مراتبِ التعديلِ ومراتبِ الجرحِ زيادةُ ألفاظٍ لم يذكرْهَا ابنُ الصلاحِ مَيَّزْتُها هناكَ في الترجمتينِ المذكورتينِ .
ومنها : قولي في صُوَرِ المناولةِ : ( وأعلاَها ) .
ومنها قولي : ( فيما إذا ناولَ واستّردَّ عند المحقِّقين ) .
ومنها في آخر المناولةِ قولي : ( يُفيدُ حيثُ وقعَ التَّبيُّنُ ) .
ومنها قولي في كتابةِ الحديثِ : ( وكَتْبِ السَّهْمِي ) .
ومنها : تقطيعُ حروفِ الكلمةِ المُشْكِلَةِ في هامشِ الكتابِ .
ومنها : استثناءُ الحاءِ مما يُنَقَّطُ أسفلَ من الحروفِ المُهْمَلَةِ .
ومنها : بيانُ أَنَّ مُسْنَدَ يعقوبَ بنِ شيبةَ ما كَمُلَ .
ومنها : ذكرُ العسكريِّ فيمَنْ صَنَّفَ في التصحيفِ .
ومنها : - في المُؤتَلِفِ والمُختَلِفِ - استثناءُ الحِزامي الذي أُبْهِمَ اسمُهُ ، فإنَّ فيه الخلافَ في الراءِ والزاي .
7.
فَحَيْثُ جَاءَ الفِعْلُ والضَّميْرُ
لِـواحِدٍ وَمَـنْ لَـهُ مَسْتُـوْرُ
8.
كَ(قَالَ)أوْ أَطْلَقْتُ لَفْظَ الشَّيْخِ مَا
أُرِيْـدُ إلاَّ ابْنَ الصَّـلاحِ مُبْهَمـا
هذا بيانُ ما اصطلَحْتُ عليهِ للاختصارِ ، أي : إذا أتى فعلٌ لواحدٍ لا لجماعةٍ ، أو اثنينِ ، ولم يُذْكَرْ فاعلُهُ معهُ . ولا قبلهُ ؛ فالمرادُ بفاعلِهِ الشيخُ أبو عَمْرو ابنُ الصلاحِ . كقولِه : وقالَ : ( بانَ لي بإمعانِ النظرِ ) . وكذا إذا أتى بضميرٍ موَحدٍ لا يعودُ على اسمٍ تقدم قَبلَهُ ؛ فالمرادُ به ابنُ الصلاحِ كقولهِ : كذا له وقيل ظَنَاً وَلَدَى . وكذا إذا أُطلِقَ الشيخُ فالمرادُ به ابنُ الصلاحِ ، كقولهِ : فالشيخُ فيما بعدُ قد حَقَّقَهُ . وقولُه: ( مُبْهَماً ) بالباءِ الموحّدةِ وفتحِ الهاءِ ، ويجوزُ كسرُهَا .
9.
وَإِنْ يَكُنْ لاثْنَيْنِ نَحْوُ (الْتَزَمَا)
فَمُسْلِمٌ مَعَ البُخَارِيِّ هُمَا
10.
وَاللهَ أرجُوْ في أُمُوْرِي كُلِّهَا
مُعْتَصِماً في صَعْبِهَا وَسَهْلِهَا
أي : وإِنْ يكن الفعلُ أو الضميرُ المذكورانِ لاثنينِ ، كقولهِ : ( واقطعْ بصحَّةٍ
لما قدْ أَسندَا ) ، وكقولهِ : ( وأَرْفَعُ الصحيحِ مَرْوِيُّهُمَا ) ، فالمرادُ بذلك : البخاريُّ ومسلمٌ . وقوله : ( معتصَماً ) بفتحِ الصادِ على التمييزِ ، ويجوزُ كسرُها على الحالِ .
أَقْسَامُ الحَدِيْثِ
11.
وَأَهْلُ هَذَا الشَّأْنِ قَسَّمُوا السُّنَنْ
إلى صَحِيْحٍ وَضَعِيْفٍ وَحَسَنْ
12.
فَالأَوَّلُ الْمُتَّصِلُ الإسْنَادِ
بِنَقْلِ عَدْلٍ ضَابِطِ الْفُؤَادِ
13.
عَنْ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَا شُذُوْذِ
وَعِلَّةٍ قَادِحَةٍ فَتُوْذِي
أي : وأهلُ الحديثِ . قال الخطَّابيُّ في " معالمِ السُّنَنِ " : (( اعلموا أَنَّ الحديثَ عندَ أهلِهِ على ثلاثةِ أقسامٍ : حديثٌ صحيحٌ ، وحديثٌ حسنٌ وحديثٌ سَقيْمٌ ؛ فالصحيحُ عندَهُم : ما اتّصلَ سندُهُ وعُدِّلَتْ نَقَلَتُهُ )) . فلمْ يشترطِ الخطَّابيُّ في الحدِّ ضَبْطَ الراوي ، ولا سلامَةَ الحديثِ من الشذوذِ والعلّةِ . ولا شكَ أَنَّ ضَبْطَ الراوي لابُدَّ منِ اشتراطِه ؛ لأنَّ مَنْ كَثُرَ الخطأُ في حديثِهِ ، وفَحُشَ ؛ استحقَ التْركَ ، وإنْ كانَ عدلاً .
وأما السلامةُ من الشذوذِ والعلةِ ، فقالَ الشيخُ تقيُّ الدينِ ابنُ دَقيقِ العيدِ في " الاقتراح " : (( إِنَّ أصحابَ الحديثِ زادوا ذلكَ في حدِّ الصحيحِ . قال : وفي هذينِ الشرطينِ نظرٌ على مقتضى نَظَرِ الفقهاءِ ، فإنَّ كثيراً من العِلَلِ التي يُعَلِّلُ بها المحدِّثونَ لا تجرِي على أُصولِ الفقهاءِ )) .
قلتُ : قد احترزْتُ بقولي: ( قادحةً )، عن العلةِ التي لا تقدحُ في صحّةِ الحديثِ . فقولي : ( المتّصلُ الإسنادِ ) ، احترازٌ عمّا لم يتصلْ وهو المنقطعُ ، والمرسلُ ، والمعضلُ ، وسيأتي إيضاحُها . وقولي : ( بنقلِ عدلٍ ) ، احترازٌ عما في سندِهِ مَنْ لم تُعْرَفْ عدالتُهُ ، إما بأنْ يكونَ عُرِفَ بالضعفِ أو جُهِلَ عيناً ، أو حالاً ، كما سيأتي في بيانِ المجهولِ . وقولي : ( ضابطٌ ) ، احترازٌ عمّا في سندِهِ راوٍ مغفّلٌ ، كثيرُ الخطأ ، وإِنْ عُرِفَ بالصدقِ والعدالةِ . وقولي : و ( غيرُ ما شذوذٍ وعلةٍ قادحةٍ ) ، احترازٌ عن الحديثِ الشاذِّ والمعللِ ، بعلةٍ قادحةٍ . وما : هنا مُقْحَمَةٌ . ولم يذكُرِ ابنُ الصلاحِ في نفسِ الحدِّ قادحةً ولكنه ذكرَهُ بعد سَطْرٍ فيما احْتَرَزَ عنه ، فقال : (( وما فيـهِ علةٌ قادحـةٌ )) . قالَ ابنُ الصلاحِ :
(( فهذا هو الحديثُ الذي يُحْكَمُ له بالصحةِ بلا خلافٍ بين أهلِ الحديث )) . وإنّما قَيَّدَ نفيَ الخلافِ بأهلِ الحديثِ ؛ لأنَّ بعضَ متأخّري المعتزلةِ يشترطُ العددَ في الروايةِ كالشهادةِ ، حكاهُ الحازميُّ في شروط الأئمة . قال ابنُ دقيقِ العيد : (( لو قِيْلَ : في هذا : الحديثُ الصحيحُ المجمعُ على صحتِهِ ، هو كذا وكذا إلى آخرِه لكانَ حسناً ؛ لأَنَّ مَنْ لا يشترطُ مثلَ هذهِ الشروطِ ، لا يحصُرُ الصحيحَ في هذه الأوصافِ . قال : ومِنْ شرطِ الحدِّ أَنْ يكونَ جامعاً مانعاً )) .
14.
وَبالصَّحِيْحِ وَالضَّعِيفِ قَصَدُوا
في ظَاهِرٍ لاَ الْقَطْعَ ، وَالْمُعْتَمَدُ
15.
إمْسَاكُنَا عَنْ حُكْمِنَا عَلى سَنَدْ
بِأَنَّهُ أَصَحُّ مُطْلَقاً ، وَقَدْ
16.
خَاضَ بهِ قَوْمٌ فَقِيْلَ مَالِكُ
عَنْ نَافِـعٍ بِمَا رَوَاهُ النَّاسِكُ
17.
مَوْلاَهُ وَاخْتَرْ حَيْثُ عَنْهُ يُسْنِدُ
الشَّافِعِيْ قُلْتُ : وعَنْهُ أَحْمَدُ
أي : حيثُ قال أهلُ الحديثِ : هذا حديثٌ صحيحٌ ، فمرادُهُم فيما ظهرَ لنا عملاً بظاهر الإسنادِ ، لا أَنَّهُ مقطوعٌ بصحتِهِ في نفسِ الأمرِ ، لجوازِ الخطأ والنسيانِ على الثقةِ ، هذا هو الصحيحُ الذي عليه أكثرُ أهلِ العلمِ ، خلافاً لِمَنْ قالَ : إنَّ خبرَ الواحدِ يوجبُ العلمَ الظاهرَ ، كحسين بن علي الكرابيسيِّ وغيرِهِ. وحكاه ابنُ الصباغِ في " العُدَّةِ " عن قومٍ مِنْ أصحابِ الحديثِ . قال القاضِي أبو بكرٍ الباقلانيّ : (( إنّهُ قولُ مَنْ لم يُحَصِّلْ علمَ هذا الباب )) ، انتهى . نعم … إنْ أخرجَهُ الشيخانِ أو أحدُهُما فاختارَ ابنُ الصلاحِ القطعَ بصحتِه، وخالفَهُ المحقّقونَ –كما سيأتي – وكذا قولُهم : هذا حديثٌ ضعيفٌ فمرادُهم أنه لم يظهَرْ لنا فيه شروطُ الصحةِ ، لا أنَّهُ كَذِبٌ في نفسِ الأمرِ ، لجوازِ صِدْقِ الكاذبِ ، وإصابةِ مَنْ هو كثيرُ الخطأ .
وقولُهُ : ( والمعتمدُ إمساكُنا عن حُكْمِنا ) إلى آخره. أي: القولُ المُعْتَمَدُ عليهِ ، المختارُ : أنَّهُ لا يُطْلَقُ على إسنادٍ معينٍ بأنَّهُ أصَحُّ الأسانيدِ مُطْلَقاً ؛ لأنَّ تَفَاوُتَ مراتبِ الصحةِ مترتبٌ عَلَى تَمَكُّنِ الإسنادِ مِن شروطِ الصحةِ ، ويعِزُّ وجودُ أعلى درجات القبولِ في كلِ فردٍ فردٍ من ترجمةٍ واحدةٍ بالنسبةِ لجميعِ الرواةِ . قالَ الحاكمُ في عُلومِ الحديثِ : (( لا يمكنُ أنْ يُقْطَعَ الحكمُ في أصحِّ الأسانيدِ لصحابيٍّ واحدٍ )) . وسنذكرُ تتمةَ كلامِهِ في آخرِ هذهِ الترجمةِ . قالَ ابنُ الصلاحِ : (( عَلَى أَنَّ جماعةً مِنْ أئمةِ الحديثِ خاضُوا غَمْرةَ ذلكَ فاضطربَتْ أقوالهُمْ )) . وقوله : ( فقِيلَ : مالكٌ ) ، أي : فقيلَ : أصحُّ الأسانيدِ ما رواهُ مالكٌ عَنْ نافعٍ عن ابن عمر ، وَهُوَ المرادُ بقولِهِ : (مولاهُ) أي : سَيِّدُهُ . وهذا هُوَ قولُ البخاريِّ . وقولُه : ( واختَرْ حيثُ عَنْهُ ) أيْ : عن مالكٍ ، ( يُسْنِدُ الشَّافعيُّ ) ، أي : فعلى هذا إذا زدْتَ في الترجمةِ واحداً فأصحُّ الأسانيدِ ما أسندهُ الشافعيُّ عن مالكٍ بها ، فقال الأستاذُ أبو منصورٍ عبدُ القاهرِ بن طاهرٍ التَّميميُّ : إنَّهُ أَجَلُّ الأسانيدِ ، لإجماعِ أصحابِ الحديثِ أنه لم يكنْ في الرواةِ عن مالكٍ أجلُّ مِنَ الشافعيِّ .
وقولُه : ( قلتُ وعنهُ ) ، أي : وعنِ الشافعيِّ أحمدُ بنُ حنبلٍ ، يريدُ وإنْ زِدْتَ في الترجمةِ آخرَ ، فأصحُّ الأسانيدِ ما رواه أحمدُ عنِ الشافعيِّ عنْ مالكٍ بها ، لاتفاقِ أهلِ الحديثِ على أَنَّ أجلَّ مَنْ أخذَ عن الشافعيِّ مِنْ أهلِ الحديثِ الإمامُ أحمدُ ، ووقعَ لنا بهذهِ الترجمةِ حديثٌ واحدٌ ، أخبرني به أبو عبدِ الله محمدُ بنُ إسماعيلَ ابنُ الخبّازِ، بقراءتي عليه بدمشقَ ، قال : أخبرنا المسلمُ بنُ مكيٍّ ح وأخبرني عليُّ بنُ أحمدَ العرضيُّ ، بقراءتي عليه بالقاهرة ، قال : أخبرتنا زينبُ بنتُ مكيٍّ ، قالا : أخبرنا حنبلٌ ، قال : أخبرنا هبةُ اللهِ بنُ محمدٍ ، قال : أخبرنا الحسنُ بنُ عليٍّ التميميُّ ، قال : أخبرنا أحمدُ بنُ جعفرِ بن حمدانَ ، قال : حدثنا عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ ، قال : حدثني أبي رحمهُ اللهُ ، قال : حدثنا محمدُ بنُ إدريسَ الشافعيُّ ، قال : أخبرنا مالكٌ ، عَنْ نافعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ رحمةُ اللهِ عليهِ ، أنَّ رسولَ اللهِ قالَ : (( لا يبِيعْ بعضُكُم على بَيعِ بعضٍ )) ، ونهى عنِ النَّجَشِ، ونهى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الحبَلَةِ ، ونهى عن المُزَابَنَةِ ، والمزابنةُ: بيعُ الثمرِ بالتمرِ كيلاً ، وبيعُ الكَرْمِ بالزَّبيبِ كيلاً . أخرجَهُ البخاريُّ مُفرَّقاً مِنْ حديثِ مالكٍ .
18.
وَجَزَم ابْنُ حَنْبَلٍ بالزُّهْرِي
عَنْ سَالِمٍ أَيْ : عَنْ أَبِيْهِ البَرِّ
أي : وذهبَ أحمدُ بنُ حنبلٍ ، وكذلك إسحاقُ بنُ راهويه إلى أَنَّ أصحَّ الأسانيدِ ما رواهُ أبو بكرٍ محمدُ بنُ مسلمِ بنِ عُبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ شهابٍ الزهريُّ عنْ سالمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ عن أبيهِ .
19.
وَقِيْلَ : زَيْنُ العَابِدِيْنَ عَنْ أَبِهْ
عَنْ جَدِّهِ وَابْنُ شِهَابٍ عَنْهُ بِهْ
أي: وقيل: أصحُّ الأسانيدِ ما رواهُ ابنُ شهابٍ المذكورُ عن زَيْنِ العابدينَ وهو عليُّ ابنُ الحسينِ ، عن أبيهِ الحُسينِ ، عَنْ جَدِّهِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ ، وهو قولُ عبدِ الرزاقِ ، ورُوِيَ أيضاً عَنْ أبي بكرِ بنِ أبي شيبةَ .
فقوله : ( وابنُ شهابٍ عنهُ بهِ ) ، أي : عَنْ زينِ العابدينَ بالحديثِ . وابنُ : مرفوعٌ على الابتداءِ ، والواوُ : للحالِ ، أي : في حالِ كونِ ابنِ شهابٍ راوياً للحديثِ عنهُ .
20 .
أَوْ فَابْنُ سِيْريْنَ عَـنِ السَّلْمَاني
عَنْهُ أوِ الأعْمَشُ عَنْ ذي الشَّانِ
21 .
النَّخَعِـيْ عَنِ ابْنِ قَيْسٍ عَلْقَمَهْ
عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ وَلُمْ مَـنْ عَمَّمَهْ
أَوْ : هنا في الموضعينِ ليستْ للتخييرِ ، ولا للشكِّ ؛ ولكنها لتنويعِ الخلافِ ، والضميرُ في ( عنهُ ) عائدٌ إلى قولِهِ في البيتِ الذي قبلَهُ ( جَدِّهِ )، يريدُ عليَّ بنَ أبي طالبٍ، أي : وقيلَ : أصحُّ الأسانيدِ ما رواهُ محمدُ بنُ سيرينَ ، عَنْ عَبيدَةَ السَّلْمانيِّ ، عن عَليٍّ ، وهو قولُ عَمْرِو بنِ عليٍّ الفلاّسِ، وعليِّ بنِ المدينيِّ وسليمانَ بنِ حربٍ إلا أَنَّ ابنَ المديني قال: (( أجودُها : عبدُ اللهِ بنُ عَوْنٍ، عن ابنِ سيرينَ، عن عَبيدَةَ عَنْ عليٍّ )) . وقالَ سليمانُ بنُ حربٍ : (( أصحُّهَا : أيوبُ عَنِ ابنِ سيرينَ عَنْ عَبيدةَ عنْ عليٍّ )) وقيل: أصحُّ الأسانيدِ ما رواهُ سليمانُ بنُ مِهْرانَ الأعمشُ ، عن إبراهيمَ بنِ يزيدَ النَّخَعيِّ ، عَنْ علقمةَ بنِ قيسٍ ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ ، وهو قولُ يحيى بنِ مَعينٍ . وهذهِ جملةُ الأقوالِ التي حكاها ابنُ الصلاحِ . وفي المسألةِ أقوالٌ أُخَرُ ذكرتُها في " الشرحِ الكبيرِ " ، وفيه فوائدُ مهمةٌ لا يستغني عنها طالبُ الحديثِ .
وقولُهُ : ( وَلُمْ مَنْ عَمَّمَه ) . أي : وَلُم مَنْ عَمَّمَ الحكمَ في أصحِّ الأسانيدِ في ترجمةٍ لصحابيٍّ واحدٍ ، بلْ ينبغي أنْ تُقَيَّدَ كلُّ ترجمةٍ منها بِصحابيها . قالَ الحاكمُ : (( لا يمكنُ أنْ يُقْطَعَ الحكمُ في أصحِّ الأسانيدِ لصحابيٍّ واحدٍ فنقولُ وباللهِ التوفيقُ : إِنَّ أصحَّ أسانيدِ أهلِ البيتِ : جعفرُ بنُ محمدٍ عن أبيهِ عن جَدِّه ، عَنْ عَليٍّ ، إذا كانَ الراوي عن جعفرٍ ثِقَةً . وأصحُّ أسانيدِ الصِّدِّيقِ : إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ ، عن قَيْسِ بنِ أبي حازمٍ ، عنْ أبي بكرٍ . وأصحُّ أسانيدِ عُمَرَ : الزهريُّ ، عن سالمٍ ، عن أبيهِ عن جَدِّهِ. وأصحُّ أسانيدِ أبي هُريرةَ : الزهريُّ ، عَنْ سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ ، عَنْ أبي هُريرةَ . وأصحُّ أسانيدِ ابنِ عُمَرَ : مالكٌ ، عن نافعٍ ، عن ابنِ عُمَرَ . وأصحُّ أسانيدِ عائشةَ : عُبَيْدُ اللهِ ابنُ عُمَرَ عَنِ القاسمِ، عَنْ عائشةَ. وقالَ يحيى بنُ معينٍ: هذهِ تَرْجَمةٌ مشبّكةٌ بالذَّهبِ. وأصحُّ أسانيدِ ابنِ مسعودٍ : سفيانُ الثوريُّ ، عَنْ منصورٍ ، عَنْ إبراهيمَ ، عَنْ علقمةَ ، عَنِ ابنِ مسعودٍ . وأصحُّ أسانيدِ أنسٍ : مالكٌ ، عن الزهريِّ ، عَنْ أَنَسٍ . وأصحُّ أسانيدِ المكيِّيْنَ : سفيانُ بنُ عُيينةَ ، عَنْ عَمْرِو بنِ دينارٍ ، عَنْ جابرٍ . وأصحُّ أسانيدِ اليمانيِّين : مَعْمَرٌ ، عن هَمّامٍ ، عَنْ أبي هُريرةَ . وأثبتُ أسانيدِ المِصْرِّيْينَ : اللّيْثُ عن يزيدَ بنِ أبي حَبيبٍ ، عَنْ أبي الخيرِ ، عنْ عُقْبَةَ بنِ عامرٍ . وأثبتُ أسانيدِ الشاميِّينَ : الأوزاعيُّ ، عنْ حَسّانَ بنِ عَطيَّةَ ، عن الصَّحابةِ .
وأثبتُ أسـانيدِ الخُراسـانِيِّيْنَ : الحسينُ بنُ واقـدٍ ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ
بُريدَةَ ، عَنْ أبيهِ .
أصحُّ كُتُبِ الحديثِ
22.
أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ في الصَّحِيْحِ
مُحَمَّدٌ وَخُصَّ بِالتّرْجِيْحِ
23.
وَمُسْلِمٌ بَعْدُ ، وَبَعْضُ الغَرْبِ مَعْ
أَبِي عَلِيٍّ فَضَّلُوا ذَا لَوْ نَفَعْ
أي : أَوَّلُ مَنْ صنّفَ في جمعِ الصحيحِ : محمدُ بنُ إسماعيلَ البخاريُّ وكتابُه أصحُّ مِنْ كتابِ مسلمٍ عند الجمهورِ ، وهو الصحيحُ . وقالَ النوويُّ : (( إنَّهُ الصوابُ )) . والمرادُ ما أسندَهُ دون التعليقِ والتراجمِ .
وقولُه : ( ومسلمٌ بعدُ ) ، أي : بعدَ البخاريِّ في الوجودِ والصحةِ . وقوله :
( بعضُ الغربِ ) ، أي : بعضُ أهلِ الغَرْبِ على حذفِ المضافِ ، أي : وذهبَ بعضُ المغاربةِ ، والحافظُ أبو عليٍّ الحسينُ بنُ عليٍّ النيسابوريُّ شيخُ الحاكمِ إلى تَفْضيلِ مسلمٍ على البخاريِّ ، فقالَ أبو عليٍّ : (( ما تحتَ أديمِ السماءِ أصحُّ مِنْ كتابِ مسلمٍ في علمِ الحديثِ )) . وحكى القاضي عياضٌ عَنْ أبي مروانَ الطُّبْنيِّ ، قال : (( كانَ مِنْ شيوخِيْ مَنْ يُفَضِّلُ كتابَ مسلمٍ عَنْ كتابِ البخاريِّ )) . قالَ ابنُ الصَّلاحِ :
(( فهذا إنْ كان المرادُ بِهِ : أَنَّ كتابَ مُسلمٍ يترجحُ بأَنّهُ لَم يُمازِجْهُ غيرُ الصحيحِ ، فهذا لا بأس به ، وإنْ كانَ المرادُ به : أنَّ كتابَ مُسلمٍ أصحُّ صحيحاً ، فهذا مردودٌ على مَنْ
يقولُه )) . انتهى . وعلى كلِّ حالٍ فكتاباهُمَا أصحُّ كُتُبِ الحديثِ .
وأمَّا قولُ الشافعيِّ : (( ما على وَجْهِ الأرضِ بعدَ كتابِ اللهِ أصحُّ مِنْ كِتابِ
مالكٍ )) ، فذاكَ قَبْلَ وجودِ الكتابَيْنِ .
وقولُهُ : ( لو نَفَع ) : يريدُ لو نَفَعَ قولُ من فَضَّلَ مسلماً على البخاريِّ ، فإنه لم يُقْبَلْ مِنْ قائِلِهِ . وقولُهُ : ( في الصحيحِ ) ، متعلقٌ بِصَنَّفَ . وأما أولُ مَنْ صَنَّفَ مطلقاً لا بقيدِ جَمْعِ الصحيحِ ، فقدْ بينتُهُ في " الشرحِ الكبيرِ " .
24.
وَلَمْ يَعُمَّاهُ ولكن قَلَّمَا
عِنْدَ ابْنِ الاخْرَمْ مِنْهُ قَدْ فَاتَهُمَا
25.
وَرُدَّ لكن قَالَ يَحيَى البَـرُّ
لَـمْ يَفُتِ الخَمسَةَ إلاَّ النَّـزْرُ
أي : لَمْ يَعُمَّ البخاريُّ ومسلمٌ كلَّ الصحيحَ ، يريدُ: لَمْ يستوعباهُ في كتابَيْهِمَا ، ولم يلتزما ذلك . وإلزامُ الدارقطنيِّ ، وغيرهِ إياهُما بأحاديثَ ليس بلازمٍ . قال الحاكمُ في خُطْبَةِ المستدركِ : (( ولم يَحْكُمَا ولا واحدٌ منهُما أنَّهُ لم يَصِحَّ منَ الحديثِ غيرُ ما خرَّجَه )) . انتهى .
قالَ البخاريُّ : (( ما أدخلْتُ في كتابي الجامعِ إلا ما صحَّ ، وتركتُ من الصِّحَاح لحالِ الطولِ )) . وقالَ مسلمٌ : (( ليسَ كُلُّ صحيح وضعتُهُ هنا إنّما وضعتُ هنا ما أجمعُوا عليه )) . يريدُ : ما وَجَدَ عندَهُ فيها شرائطَ الصحيحِ المُجمَعِ عليهِ وإنْ لم يظهرِ اجتماعُها في بعضِها عند بعضِهم . قاله ابنُ الصلاحِ .
وقولُهُ : ( ولكن قَلَّمَا عندَ ابنِ الاخرمْ منه ) ، أي : من الصحيحِ . يريدُ أَنَّ الحافظَ أبا عبدِ الله محمدَ بنَ يعقوبَ بنِ الأخرمِ شيخَ الحاكمِ ذكرَ كلاماً معناه : قلَّمَا يفوتُ البخاريَّ ومسلماً مما يَثْبت مِنَ الحديثِ . قالَ ابنُ الصلاحِ : (( يعني : في كتابَيْهِمَا )). ويحيى هو الشيخُ محيي الدينِ النوويُّ، فقالَ في " التقريبِ والتيسيرِ " : (( والصوابُ أَنَّهُ لم يَفُتِ الأُصولَ الخمسةَ إلاَّ اليسيرُ ، أعني الصَّحيحينِ وسنَنَ أبي داودَ والترمذيَّ والنسائيَّ )) .
26.
وَفيهِ مَا فِيْهِ لِقَوْلِ الجُعْفِي
أَحْفَظُ مِنْهُ عُشْرَ أَلفِ أَلْفِ
27.
وَعَلَّهُ أَرَادَ بِالتَّكرَارِ
لَهَا وَمَوْقُوْفٍ وفي البُخَارِي
28.
أَرْبَعَةُ الآلافِ والمُكَرَّرُ
فَوْقَ ثَلاثَةٍ أُلُوْفاً ذَكَرُوا
أي : وفي كلامِ النوويِّ ما فيهِ لقولِ الجُعْفِي – وهو البخاريُّ -: أحفظُ مائةَ ألفِ حديثٍ صحيحٍ . فقوله : ( منه ) ، أي : مِنَ الصحيحِ . وقولُهُ : ( وعَلَّهُ ) أي : ولعلَّ البخاريَّ أرادَ – بالأحاديثِ – المكرَّرَةَ الأَسانيدِ والموقوفاتِ . فقولُهُ : (وموقوفٍ) معطوفٌ على قولِه : ( بالتكرارِ ) . قال ابن الصلاحِ بَعْدَ حكايةِ كلامِ البخاريِّ : (( إلا أَنَّ هذه العبارةَ قَدْ يندرجُ تحتَها عندَهُم آثَارُ الصحابةِ والتابعينَ .
– قال – : وَربُّما عُدَّ الحديثُ الواحدُ المرويُّ بإسنادَيْنِ حديثَيْنِ )) .
وقولُهُ : ( وفي البخاريِّ … ) إلى آخره ، فيه بيانُ عددِ أحاديثِ صحيحِ البخاريِّ، وهي - بإسقاطِ المُكَرَّرِ - أَربعةُ آلافِ حديثٍ على ما قيلَ. وبالمكررِ سبعةُ آلافٍ ومائتانِ وخمسةٌ وسبعونَ حديثاً . كذا جزمَ به ابنُ الصلاحِ ، وهو مُسَلَّمٌ في روايةِ الفِرَبْرِيّ .
وأما روايةُ حمّادِ بنِ شاكرٍ فهي دونَها بمائتي حديثٍ . ودون هذهِ بمائةِ حديثٍ روايةُ إبراهيمَ بنِ مَعْقلٍ . ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ عدةَ أحاديثِ مُسْلِمٍ قالَ النوويُّ : (( إِنَّهُ نحوُ أربعةِ آلافٍ بإسقاطِ المكرَّرِ )) .
الصَحيحُ الزَائدُ على الصَحيحَينِ
29.
وَخُذْ زِيَادَةَ الصَّحِيْحِ إذْ تُنَصّْ
صِحَّتُهُ أوْ مِنْ مُصَنِّفٍ يُخَصّْ
30.
بِجَمْعِهِ نَحوَ ( ابْنِ حِبَّانَ ) الزَّكِيْ
( وَابنِ خُزَيْمَةَ ) وَكَالمُسْتَدْرَكِ
لَمَّا تقدَّمَ أَنَّ البخاريَّ ومسلماً لم يستوعبا إخراجَ الصحيحِ ، فكأنَّهُ قيل : فمِنْ أينَ يُعرفُ الصحيحُ الزائدُ على ما فيهِما ؟ فقالَ : خُذْهُ إذ تُنَصُّ صحتُهُ أي : حيثُ يَنُصُّ على صحتِهِ إمامٌ معتمدٌ كأبي داودَ ، والترمذيِّ ، والنسائيِّ والدارقطنيِّ ، والخطّابيِّ ، والبيهقيِّ في مصنفاتِهِم المعتمدةِ . كذا قَيَّدَهُ ابنُ الصلاحِ بِمصنفاتِهِم ، ولم أقيّدْهُ بها ، بل إذا صحَّ الطريقُ إليهم أنَّهم صحّحُوهُ ولو في غيرِ مصنفاتِهم ، أو صحّحَهُ مَنْ لم يشتهرْ له تصنيفٌ من الأئمةِ كيحيى بنِ سعيدٍ القطّانِ ، وابنِ معينٍ ، ونحوِهما ، فالحكمُ كذلك على الصوابِ . وإنّما قيّدهُ ابنُ الصلاحِ بالمصنفاتِ ؛ لأنَّهُ ذهبَ إلى أنهُ ليس لأَحدٍ في هذهِ الأعصارِ ، أنْ يصححَ الأحاديثَ ، فلهذا لم يعتمدْ على صحةِ السند إلى من صحّحهُ في غيرِ تصنيفٍ مشهورٍ ، وسيأتي كلامُهُ في ذلك .
ويؤخذُ الصحيحُ أيضاً من المصنفاتِ المختصَّةِ بجمْعِ الصحيحِ فقط ، كصحيحِ أبي بكرٍ محمدِ بنِ إسحاقَ بنِ خزيمةَ ، وصحيحِ أبي حاتِمٍ محمدِ بن حبّان البُستيِّ ، المسمَّى بالتقاسيمِ والأنواعِ ، وكتابِ المستدرَكِ على الصحيحينِ لأبي عبدِ اللهِ الحاكمِ . وكذلك ما يوجدُ في المستخرجاتِ على الصحيحينِ من زيادةٍ أو تَتِمَّةٍ لمحذوفٍ ، فهو محكومٌ بصحتِهِ ، كما سيأتي في بابِهِ .
31 .
عَلى تَسَاهُلٍ – وَقَالَ : مَا انْفَرَدْ
بِـهِ فَذَاكَ حَسَنٌ مَا لَمْ يُـرَدّْ
32 .
بِعِلَّـةٍ ، وَالحـقُّ أنْ يُحْكَمْ بِمَا
يَليْقُ ،والبُسْتِيْ يُدَانِي الحَاكِما
أي : على تساهُلٍ في المستدركِ ، وإنّما قَيَّدَ تعلقَ الجارِ والمجرورِ بالمعطوفِ الأخيرِ ، لتكرارِ أداةِ التشبيهِ فيه . وقوله : ( وقال ) ، أي : وقالَ ابنُ الصلاحِ : ما انفردَ الحاكمُ بتصحيحهِ لا بتخريجِهِ فقط ، إنْ لم يكن من قبيلِ الصحيحِ فهو من قبيلِ الحسنِ ، يُحتجُّ به ، ويعملُ بهِ ، إلاَّ أنْ تظهرَ فيه علّةٌ توجِبُ ضعفَهُ .
وقولُهُ : ( والحقُ أنْ يُحْكَمْ بِما يليقُ ) ، هذا من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ وهو متميزٌ بنفسِهِ ؛ لكونِهِ اعتراضاً على كلامهِ. وتقريرُهُ: أنَّ الحكمَ عليه بالحسنِ فقط تَحَكُّمٌ ، فالحقُّ أنَّ ما انفردَ بتصحيحِهِ يُتَتَبَّعُ بالكشفِ عنه ويُحْكَمُ عليه بما يليـقُ بحالِهِ من الصحَّـةِ ، أو الحُسْـنِ ، أوِ الضَّعْـفِ .
ولكنَّ ابنَ الصلاحِ رأيهُ أنَّهُ ليسَ لأَحدٍ أنْ يصحّحَ في هذهِ الأعصارِ ، فلهذا قطعَ النظرَ عن الكشفِ عليهِ .
وقولُه : ( والبستيّ يدانِي الحاكما ) ، أي : وابنُ حبانَ البستيُّ يُقارِبُ الحاكمَ في التساهُلِ ، فالحاكمُ أشدُّ تساهُلاً . قالَ الحازميُّ : (( ابنُ حبانَ أمْكَنُ في الحديثِ من الحاكمِ )) .
الْمُسْتَخْرَجاتُ
33 .
وَاسْتَخْرَجُوا عَلى الصَّحِيْحِ ( كَأَبي
عَوَانَةٍ ) وَنَحْـوِهِ ، وَاجْتَنِبِ
34 .
عَـزْوَكَ ألفَـاظَ المُتُـونِ لَهُمَـا
إذْ خَالَفتْ لَفْظـاً وَمَعْنَـىً رُبَّمَا
المستَخْرَجُ : مَوْضُوعُهُ أنْ يأتيَ المصنِّفُ إلى كتابِ البخاريِّ ، أو مسلمٍ فيخَرِّجَ أحاديثَهُ بأسانيدَ لنفسِهِ من غيرِ طريقِ البخاريِّ ، أو مسلمٍ ، فيجتمعُ إسنادُ المصنِّفِ مع إسنادِ البخاريِّ ، أو مسلمٍ في شيخِهِ ، أو مَنْ فوقَهُ ، كالمستخرَجِ على صحيحِ البخاريِّ لأبي بكرٍ الإسماعيليِّ ، ولأبي بكرٍ البرقانيِّ ولأبي نُعيمٍ الأصبهانيِّ ، وكالمستخرَجِ عَلَى صحيحِ مسلمٍ لأبي عوانةَ ، ولأبي نُعيم أيضاً . والمستخرجونَ لم يلتزموا لفظَ واحدٍ من الصحيحينِ ، بَلْ رَوَوْهُ بالألفاظِ التي وَقعتْ لهم عن شيوخِهِم مع المخالفةِ لألفاظِ الصحيحينِ . وربّما وقعتِ المخالفة أيضاً في المعنى فلهذا قالَ : ( واجتنبْ عزوَكَ ألفاظَ المتونِ لهما ) ، أي : لا تَعْزُ ألفاظَ متونِ المستخرجاتِ للصحيحينِ ، فلا تقلْ : أخرجَهُ البخاريُّ أو مسلمٌ بهذا اللفظِ ، إلا إنْ علمتَ أنَّهُ في المستخرَجِ بلفظِ الصحيحِ ، بمقابلتِهِ عليه ، فلكَ ذلك . فقولُهُ : ( رُبَّما ) متعلّقٌ بمخالفةِ المعنى فقط ؛ لأنَّ مخالفةَ الألفاظِ كثيرةٌ ، كما تقدّم .
35.
وَمَا تَزِيْدُ فاحْكُمَنْ بِصِحَّتِهْ
فَهْوَ مَعَ العُلُوِّ مِنْ فَائِدَتِهْ
36.
وَالأَصْلَ يَعْني البَيْهَقيْ وَمَنْ عَزَا
وَلَيْتَ إذْ زَادَ الحُمَيدِيْ مَيَّزَا
أي : وما تزيدُ المستخرجاتُ ، أو ما يزيدُ المستخْرِجُ على الصحيحِ من ألفاظٍ زائدةٍ عليهِ مـن تتمةٍ لمحذوفٍ ، أو زيادةِ شـرحٍ في حديثٍ ، أو نحوِ ذلكَ ، فاحكُمْ بصحتِهِ ؛ لأنَّها خارجةٌ من مخرجِ الصحيحِ .
وقولُهُ : ( فَهُوَ مَعَ العلوِّ من فائدتِهِ ) ، هَذَا بيانٌ لفائدةِ المستخرَجِ . فمنها : زيادةُ الألفاظِ المذكورةِ ؛ لأنّها رُبَّما دلتْ على زيادةِ حُكمٍ . ومنها : علوُّ الإسنادِ ؛ لأنَّ مصنِّفَ المستخرَجِ لو رَوَى حديثاً مثلاً من طريقِ مسلمٍ ، لَوَقعَ أنزلَ من الطريقِ الذي رواهُ بهِ في المستخرَجِ . مثالُهُ : حديثٌ في مسندِ أبي داودَ الطيالسيِّ ، فلو رواهُ أبو نُعيم مثلاً من طريق مسلمٍ ، لكانَ بينَهُ وبينَ أبي داودَ أربعةُ رجالٍ ، شيخانِ بينه وبين مسلمٍ ، ومسلمٌ وشيخُهُ . وإذا رواهُ من غيرِ طريقِ مسلمٍ ، كان بين أبي نُعيمٍ ، وبين أبي داودَ رجلانِ فقط . فإنَّ أبا نُعيم سمعَ مُسْنَدَ أبي داود على ابنِ فارسٍ بسماعِهِ من يونُسَ بنِ حبيبٍ بسماعِهِ منه ، ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ للمستخرَجِ ، إلا هاتينِ الفائدتينِ . وأشرتُ إلى غيرهما بقولي : ( مِنْ فائِدَتِه ) . فمِنْ فوائدِهِ أيضاً : القوةُ بكثرةِ الطرقِ للترجيحِ عندَ المعارضةِ .
وقولُهُ : ( والأصلُ يعني البيهقيْ وَمن عَزا ) ، كأنَّهُ قيل : فهذا البيهقـيُّ في
" السننِ الكبـرى " ، " والمعرفـةِ " ، وغيرِهِما. والبغـويُّ فـي " شرح السنةِ " ، وغيرُ واحدٍ يروون الحديثَ بأسانيدِهم ، ثم يعزونَهُ إلى البخاريِّ ، أو مسلمٍ ، مع اختلافِ الألفاظِ ، أو المعاني ؟ والجوابُ : إنَّ البيهقيَّ وغيَرهُ ممَّنْ عزا الحديثَ لواحدٍ من الصحيحينِ ، إنّما يريدون أصلَ الحديثِ ، لا عزوَ ألفاظِهِ ، ( فالأصلَ ) : مفعولٌ مقدمٌ .
وقولُهُ : ( وليتَ إذ زادَ الحميديْ مَيَّزَا ) ، أي : إنَّ أبا عبدِ اللهِ الحميديَّ زادَ في كتابِ " الجمعِ بين الصحيحين " ألفاظاً ، وتتماتٍ ليستْ في واحدٍ منهُما من غيرِ تمييزٍ . قال ابنُ الصلاحِ : (( وذاكَ موجودٌ فيهِ كثيراً ، فربَّما نقلَ من لا يميزُ بعضَ ما يجدُهُ فيه عن الصحيحِ ، وهـو مخطئٌ ؛ لكونِهِ زيادةً ليست في الصحيح )) . انتهى .
فهذا مما أُنكرَ على الحميديِّ ؛ لأنَّهُ جمعَ بين كتابينِ، فمِنْ أين تأتي
الزيادةُ ؟
وأما " الجمعُ بين الصحيحينِ " لعبدِ الحقِّ ، وكذلك مختصراتُ البخاريِّ ومسلمٍ، فلك أنْ تنقلَ منها ، وتعزوَ ذاك للصحيحِ ولو باللفظِ ؛ لأنَّهم أتوا بألفاظِ الصحيحِ .
واعلمْ أنَّ الزيادات التي تقعُ في كتاب الحُميديِّ ليسَ لها حكمُ الصحيحِ ، خلافُ ما اقتضاهُ كلامُ ابنِ الصلاحِ ؛ لأنَّهُ ما رواها بسندِهِ كالمستخرَجِ ، ولا ذكرَ أنَّهُ يزيدُ ألفاظاً ، واشترطَ فيها الصحةَ حتى يُقَلَّدَ في ذلك ، فهذا هو الصوابُ .
مَرَاتِبُ الصَّحِيْحِ
37.
وَأَرْفَعُ الصَّحِيْحِ مَرْويُّهُمَا
ثُمَّ البُخَارِيُّ ، فَمُسْلِمٌ ، فَمَا
38.
شَرْطَهُمَا حَوَى ، فَشَرْطُ الجُعْفِي
فَمُسْلِمٌ ، فَشَرْطُ غَيْرٍ يَكْفِي
اعلمْ أنَّ درجاتِ الصحيحِ تتفاوتُ بِحَسَبِ تَمَكُّنِ الحديثِ من شروطِ الصحةِ ، وعدمِ تَمَكُّنِهِ . وإنَّ أصحَّ كُتبِ الحديثِ : البخاريُّ ثم مسلمٌ ، كما تقدمَ أنَّهُ الصحيحُ .
وعلى هذا : فالصحيحُ ينقسمُ إلى سبعةِ أقسامٍ :
أحدُها : -وهو أصحُّها- ما أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ ، وهو الذي يُعبِّرُ عنه أهلُ الحديثِ بقولهم : (( متفقٌ عليهِ )) .
والثاني : ما انفردَ به البخاريُّ .
والثالثُ : ما انفردَ به مسلمٌ .
والرابعُ : ما هو على شَرْطِهِما ولم يخرِّجْهُ واحدٌ منهُما .
والخامسُ : ما هو على شرطِ البخاريِّ وَحْدَهُ .
والسادسُ : ما هو على شرطِ مسلمٍ وَحْدَهُ .
والسابعُ : ما هو صحيحٌ عند غيرِهما من الأئمةِ المعتمدينَ ، وليسَ على شرطِ واحدٍ منهُما .
فقوله : ( ثم البخارِيُّ ) ، أي : ثمَّ مروِيُّ البخاريِّ وَحْدَهُ . ( وشرطَهُمَا ) : مفعولٌ مقدمٌ لِـ ( حَوَى ) .
وقولُهُ : ( فمسلمٌ ) ، أي : فما حَوَى شرطُ مسلمٍ . وقولُه: ( فشرطُ غيرٍ ) أي : فشرطُ غيرِهما منَ الأئمةِ . واستعمالُ – غيرٍ – غيرَ مضافةٍ قليلٌ . ثم ما المرادُ بقولهِم : على شرطِ البخاريِّ ، أو على شرطِ مسلمٍ ؟ فقالَ محمدُ بنُ طاهرٍ في كتابه في " شروطِ الأئمة " : (( شرطُ البخاريِّ ، ومسلمٍ ، أن يُخَرِّجَا الحديثَ المجمعَ على ثِقَةِ نَقَلَتِهِ إلى الصحابيِّ المشهورِ )) ، وليس ما قالَهُ بجيّـدٍ ؛ لأنَّ النَّسائيَّ ضَعَّفَ جماعةً أخـرجَ لهم الشيخانِ ، أو أحدُهُمـا .
وقالَ الحازميُّ في " شروط الأئمةِ " ما حاصلُهُ : إنَّ شَرْطَ البخاريِّ أنْ يُخَرِّجَ ما اتّصلَ إسنادُه بالثقاتِ المتقنينَ الملازمينَ لمن أَخَذُوا عنه ، ملازمةً طويلةً ، وإنَّهُ قد يُخَرِّجُ أحياناً عن أعيانِ الطبقةِ التي تلي هذهِ في الإتقانِ والملازمةِ ، لمَنْ رَوَوا عنه ، فلم يَلْزَمُوهُ إلا ملازمةً يسيرةً . وإنَّ شرطَ مسلمٍ أن يُخَرِّجَ حديثَ هذهِ الطبقةِ الثانيةِ ، وقد يُخَرِّجُ حديثَ مَنْ لم يَسْلَمْ مِنْ غوائلِ الجرحِ ، إذا كانَ طويلَ الملازمةِ لمَنْ أخذَ عنه ، كحمّادِ بنِ سلمةَ في ثابتٍ البُنانيِّ ، وأيوبَ . هذا حاصلُ كلامِهِ .
وقالَ النوويُّ : (( إنَّ المرادَ بقولهم : على شرطِهِما أنْ يكونَ رجالُ إسنادِهِ في كتابيهما ؛ لأنَّهُ ليس لهما شرطٌ في كتابَيْهما ، ولا في غيرهِما )) . وقد أخذَ هذا من ابنِ الصَّلاحِ ، فإنَّهُ لما ذكرَ كتابَ " المستدرَكِ للحاكمِ " ، قالَ : (( إنَّهُ أودَعَهُ ما رآهُ على شرطِ الشيخينِ ، وقد أخرجَا عن رواتِهِ في كتابيهِمَا )) إلى آخرِ كلامِهِ . وعلى هذا عملُ ابنِ دقيقِ العيدِ ، فإنَّهُ ينقلُ عن الحاكمِ تصحيحَهُ لحديث على شرطِ البخاريِّ مثلاً ، ثم يعترضُ عليه بأنَّ فيه فلاناً ، ولم يُخَرِّجْ له البخاريُّ . وكذلك فَعَلَ الذهبيُّ في " مختصرِ المستدْرَكِ " . وليسَ ذلكَ مِنْهم بجيّـدٍ ، فإنَّ الحاكمَ صَرَّحَ في خُطبةِ كتابِهِ " المستدركِ " بخلافِ ما فهموهُ عنه ، فقال : (( وأَنا أَستعينُ اللهَ تعالى على إخراجِ أحاديثَ رواتُها ثقاتٌ ، قد احتجَّ بمثلِها الشيخانِ ، أو أحدُهما )) .
فقولُهُ : بمثلِهَا ، أي : بمثلِ رواتِها ، لا بِهِمْ انْفُسِهِم . ويحتملُ أنْ يُرَادَ : بمثلِ تلك الأحاديثِ . وإنّما يكونُ بمثلِها إذا كانَتْ بنفسِ رواتِهَا . وفيه نظرٌ . وقد بينتُ المثليةَ في " الشرحِ الكبيرِ " .
39.
وَعِنْدَهُ التَّصْحِيْحُ لَيْسَ يُمْكِنُ
فِي عَصْرِنَا، وَقَالَ يَحْيَى:مُمْكِنُ
أي : وعندَ ابنِ الصلاحِ : أنَّهُ تَعَذَّرَ في هذهِ الأَعصارِ الاستقلالُ بإدراكِ الصحيح بِمجردِ اعتبارِ الأسانيدِ ؛ لأنَّهُ ما مِنْ إسنادٍ إلا وفيهِ مَنْ اعتمدَ على ما في كتابِهِ عَرِيًّا عن الضَّبْطِ ، والإتقانِ . قال : فإذا وَجَدنا فيما يُروى من أجزاءِ الحديثِ وغيرِها ؛ حديثاً صحيحَ الإسنادِ ، ولم نجدْهُ في أحدِ الصحيحينِ ، ولا منصوصاً على صحتهِ في شيءٍ من مصنّفاتِ أئمةِ الحديثِ المعتمَدةِ المشهورةِ ، فإنَّا لا نتجاسرُ على جزمِ الحكمِ بصحتِهِ .
وقولُهُ : ( وقال يحيى ) : أي : النوويُّ : (( الأظهرُ عندِي جوازُهُ لِمَنْ تمكَّنَ ، وقَوِيَتْ معرفَتُهُ )). انتهى. وهذا هو الذي عليهِ عملُ أهلِ الحديثِ، فقد صَحَّحَ غيرُ واحدٍ من المعاصرينَ لابنِ الصلاحِ، وبعدَهُ أحاديثَ لم نجدْ لِمنْ تقدمَهُـم فيها تصحيحاً ، كأبي الحسـنِ بنِ القطّانِ ، والضِّيـاءِ المقدسيِّ ، والزّكيِّ عبدِ العظيمِ ، ومَنْ بَعْدَهُم .
……………………………………………………
حُكْمُ الصَّحِيْحَيْنِ ، وَالتَّعْلِيْقِ
40.
وَاقْطَعْ بِصِحَّةٍ لِمَا قَدْ أَسْنَدَا
كَذَا لَهُ ، وَقِيْلَ ظَنّاً وَلَدَى
41.
مُحَقِّقِيْهِمْ قَدْ عَزَاهُ ( النَّوَوِيْ )
وَفي الصَّحِيْحِ بَعْضُ شَيءٍ قَدْ رُوِيْ
42.
مُضَعَّفاً وَلَهُمَا بِلا سَنَدْ
أَشْيَا فَإنْ يَجْزِمْ فَصَحِّحْ ، أو وَرَدْ
43.
مُمَرَّضاً فَلا ، وَلكِنْ يُشْعِرُ
بِصِحَّةِ الأصْلِ لَهُ كَـ ( يُذْكَرُ )
أَي : ما أَسندَهُ البخاريُّ ومسلمٌ ، يريدُ رَوَيَاهُ بإسنادِهِمَا المتّصلِ ، فهو مقطوعٌ بصحتِهِ ، كذا قالَ ابنُ الصلاحِ ، قال: (( والعلمُ اليقينيُّ النظريُّ واقعٌ به ، خلافاً لقولِ مَنْ نَفَى ذلكَ مُحتَجَّاً بأنَّهُ لا يفيدُ في أصْلِهِ إلا الظنَّ وإنَّما تلقَتْهُ الأمةُ بالقبولِ ؛ لأنَّهُ يجبُ عليهم العملُ بالظنِّ ، والظنُّ قد يُخطِئُ قال : وقد كنتُ أمِيْلُ إلى هذا ، وأحسَبُهُ قويّاً ، ثم بانَ لي أنَّ المذهبَ الذي اخترناهُ أوّلاً هو الصحيحُ؛ لأنَّ ظَنَّ مَنْ هو معصومٌ من الخطأ لا يُخْطِئُ ، والأمةُ بإجماعها معصومةٌ مِنَ الخطأ )) … إلى آخرِ كلامِهِ . وقد سبقَهُ إلى نحوِ ذلك محمدُ بنُ طاهرٍ المقدسيُّ، وأبو نصرٍ عبدُ الرحيمِ بنُ عبدِ الخالقِ بنِ يوسفَ . قال النوويُّ : (( وخالفَ ابنَ الصلاحِ المحقّقونَ والأكثرون ، فقالوا : يفيدُ الظنَّ ما لم يتواترْ )) .
وقولُهُ: ( ظناً ) منصوبٌ بفعلٍ محذوف ، أي : يفيدُ ظناً . وقولُهُ: ( بعضُ شيءٍ )، إشارةٌ إلى تقليلِ ما ضُعِّفَ من أحاديثِ الصحيحينِ .
ولمّا ذكرَ ابنُ الصلاحِ: أنَّ ما أسنداهُ مقطوعٌ بصحتِهِ . قال: سوى أحرُفٍ يسيرةٍ ، تكلّمَ عليها بعضُ أهلِ النقدِ ، كالدارقطنيِّ وغيرِهِ ، وهي معروفةٌ عندَ أهلِ الشأنِ . انتهى . وروينا عن محمدِ بنِ طاهرٍ المقدسيِّ ، ومن خَطِّهِ نَقلْتُ قال : سمعتُ أبا عبدِ اللهِ محمدَ بنَ أبي نصرٍ الحميديَّ ببغدادَ يقول : قال لنا أبو محمدٍ بنُ حزمٍ : وما وجدنا للبخاريِّ ومسلمٍ في كتابيهما شيئاً لا يحتمل مخرجاً إلا حديثين . لكلِّ واحدٍ منهُما حديثٌ ، تَمَّ عليهِ في تخريجِهِ الوَهْمُ معَ إتقانِهِمَا وحفظِهِمَا وصحةِ معرفتِهِما . فذكر من عند البخاريِّ حديثَ شَرِيكٍ ، عن أنسٍ في الإسراءِ ، أنَّهُ قبلَ أنْ يُوحَى إليهِ ، وفيهِ شَقُّ صَدْرِهِ . قال ابنُ حزمٍ : والآفةُ من شريكٍ . والحديثُ الثاني عندَ مسلمٍ ، حديثُ عِكْرمةَ بنِ عمّارٍ ، عن أبي زُمَيْلٍ ، عن ابنِ عبّاسٍ ، قال : كانَ المسلمون لا ينظرونَ إلى أبي سُفيانَ ، ولا يقاعِدُوْنَهُ ، فقال للنبيِّ : ثلاثٌ أعْطِينِهنَّ . قال : نعم . قال : عندي أحسنُ العربِ وأجملُهُ أمُّ حبيبةَ بنتُ أبي سفيانَ ، أُزوِّجُكَهَا . قال : نعم … الحديث . قالَ ابنُ حزمٍ : هذا حديثٌ موضوعٌ لاشكَّ في وضْعِهِ ، والآفةُ فيهِ منْ عِكْرمةَ بنِ عمّارٍ . وقد ذكرتُ في "الشرحِ الكبيرِ" أحاديثَ غيرَ هذينِ. وقد أفردتُ كتاباً لما ضُعِّفَ من أحاديثِ الصحيحينِ مع الجواب عنها . فمَنْ أرادَ الزيادةَ في ذلك فليقِفْ عليه ، ففيه فوائدُ مهمّاتٌ .
وقولُهُ : ( ولَهُما بلا سَنَدْ أشيا ) . أي : وللبخاريِّ ومسلمٍ في الصحيحِ مواضعُ لم يَصِلاها بإسنادِهِما ، بل قطعا أوَّلَ أسانيدِهما مما يليهِما . وذكرَ ابنُ الصلاحِ أنَّ ذلك وقعَ في الصحيحينِ . قالَ : (( وأغلبُ ما وقع ذلك في كتاب البخاريِّ ، وهو في كتابِ مسلمٍ قليلٌ جداً )) . قلتُ : في كتابِ مسلمٍ من ذلك موضعٌ واحدٌ في التيمُّمِ . وهو حديثُ أبي الْجُهَيم بنِ الحارثِ بنِ الصِّمَّةِ. أقبلَ رسولُ الله مِنْ نحوِ بئرِ جمل ، … الحديث . قال فيه مسلم: وروى الليثُ بنُ سعدٍ . ولم يوصلْ مسلمٌ إسنادَهُ إلى الليثِ . وقد أسندَهُ البخاريُّ عن يحيى بنِ بكيرٍ عن الليثِ . ولا أعلمُ في كتاب مسلمٍ بعد مقدمةِ الكتابِ حديثاً لم يذكرْهُ إلا تعليقاً غيرَ هذا الحديثِ . وفيه مواضعُ أخرُ يسيرةٌ رواها بإسنادِهِ المتصلِ ، ثم قال : ورواهُ فلانٌ ، وهذا ليس من باب التعليقِ ، إنّما أرادَ ذِكْرَ مَنْ تابعَ رواية الذي أسندَهُ من طريقِهِ عليه ، أو أرادَ بيانَ اختلافٍ في السندِ ، كما يَفْعَلُ أهلُ الحديثِ . ويدلُّ على أنَّهُ ليسَ مقصودُهُ بهذا ادخالَهُ في كتابِهِ ؛ أنَّهُ يقعُ في بعضِ أسانيدِ ذلك مَنْ ليس هو من شرْطِ مسلم ، كعبدِ الرحمنِ بنِ خالدِ بنِ مُسافرٍ . وقد بَيَّنتُ بقيةَ المواضعِ في " الشرحِ الكبيرِ " .
وقولُهُ : ( فإنْ يجزم فصحِّحْ ) ، أي : إنْ أتى به بصيغةِ الجزمِ ، كقولِهِ : قال فلانٌ ، أو رَوَى فلانٌ أو نحوَ ذلكَ ؛ فاحكمْ بصحتِهِ عمَّنْ عَلَّقَهُ عنه ، لأنَّهُ لا يستجيزُ أنْ يجزمَ بذلكَ عنه إلا وقد صحَّ عندَهُ عنه . ثمَّ الحكمُ بصحةِ الحديثِ مطلقاً يتوقفُ على ثقةِ رجالِهِ ، واتصالِهِ من مَوْضِعِ التعليقِ . فإنْ كان فيمَنْ أبرزَهُ مَنْ لا يحتجُّ به ، فليسَ فيهِ إلا الحكمُ بصحتهِ عمَّن أسندَ إليه كقولِ البخاريِّ : وقال بَهْزٌ ، عن أبيهِ ، عن جَدِّهِ ، عن النبيِّ : (( اللهُ أحقُّ أنْ يُسْتَحيَى منه )) . قالَ ابنُ الصلاحِ : (( فهذا ليس من شرطِهِ قطعاً . ولذلكَ لم يوردْهُ الحميديُّ في جَمْعِهِ بين الصحيحينِ )) .
( وإنْ وردَ مُمَرَّضاً )، أي: أُتِي به بصيغةِ التمريضِ ، كقولِهِ : ويُذْكَرُ ، ويُرْوَى ، ويُقَاْلُ ، ونُقِلَ ، ورُوِيَ ، ونحوِها . فلا تحكمنَّ بصحتِهِ . كقولِهِ : ويُرْوَى عن ابنِ عباسٍ وجَرْهَدٍ ومحمّدِ بنِ جَحْشٍ ، عن النـبيِّ : (( الفَخِـذُ عـورةٌ )) ؛ لأنَّ هـذهِ الألفـاظَ استعمالُهـا في الضعيف أكثرُ ، وإن استعملتْ في الصحيحِ . وكذا قولُهُ : وفي البابِ تستعملُ في الأمرينِ معاً . قالَ ابنُ الصلاحِ : ومَعَ ذلك فإيرادُهُ له في أثناءِ الصحيحِ مُشعرٌ بصحةِ أصْلِهِ إشعاراً يؤنسُ به ويركنُ إليه . وحملَ ابنُ الصلاحِ قولَ البخاريِّ : ما أدخلتُ في كتابي " الجامع " ، إلا ما صحَّ . وقول الأئمة في الحكم بصحتِهِ على أنَّ المرادَ مقاصدُ الكتابِ وموضوعُهُ ومتون الأبوابِ دون التراجمِ ونحوها .
44.
وَإنْ يَكُنْ أوَّلُ الاسْنَادِ حُذِفْ
مَعْ صِيغَةِ الجَزْم فَتَعليْقَاً عُرِفْ
45.
وَلَوْ إلى آخِرِهِ ، أمَّا الَّذِي
لِشَيْخِهِ عَزَا بـ ( قالَ ) فَكَذِي
46.
عَنْعَنَةٍ كخَبَرِ المْعَازِفِ
لا تُصْغِ ( لاِبْنِ حَزْمٍ ) المُخَالِفِ
هذا بيانٌ لحقيقةِ التعليقِ ، والتعبيرُ به موجودٌ في كلامِ الدارقطنيِّ والحميديِّ في
" الجمعِ بين الصحيحينِ " . وهو أنْ يُسْقِطَ مِنْ أوَّلِ إسنادِ البخاريِّ أو مسلمٍ من جهتِهِ راوٍ فأكثرَ ، ويعزِيَ الحديثَ إلى مَنْ فوقَ المحذوفِ من رواتِهِ بصيغةِ الجزمِ ، كقولِ البخاريِّ في الصومِ : وقالَ يحيى بنُ كثيرٍ ، عن عمرِ بنِ الحكم بنِ ثوبانَ ، عن أبي هريرةَ قال : (( إذا قاءَ فلا يفطرُ )) . وكقولِ مسلمٍ في التيمُّمِ : ورَوَى الليثُ بنُ سعدٍ ، فذكرَ حديثَ : أقبلَ من نحوِ بئرِ جملٍ … الحديث ، وقد تقدم .
قالَ ابنُ الصلاحِ: (( وكأنَّ التعليقَ مأخوذٌ من تعليقِ الجدارِ، وتعليقِ الطلاقِ ونحوه ، لما يشتركُ الجميعُ فيه من قَطْعِ الاتصالِ )) . قال : ولم أجدْ لفظَ التعليقِ مستعمَلاً فيما سقطَ منه بعضُ رجالِ الإسنادِ مِنْ وَسَطِه أوْ من آخرِهِ ، ولا فيما ليسَ فيه جزْمٌ ، كيُرْوَى ويُذْكَرُ . قلت : استعملَ غيرُ واحدٍ من المتأخّرينَ التعليقَ في غيرِ المجزومِ به ، منهم : الحافظُ أبو الحجاجِ المزيُّ كقولِ البخاريِّ في بابِ مَسِّ الحريرِ من غيرِ لُبْسٍ : ويُروَى فيهِ عن الزُّبيديِّ ، عن الزهريِّ ، عن أنسٍ ، عن النبي ذكره في الأطرافِ ، وعَلَّمَ عليهِ علامةَ التعليقِ للبخاريِّ .
وقوله : ( ولو إلى آخِرِهِ ) ، أي : ولو حذفَ الإسنادَ إلى آخرِهِ واقتصرَ على ذِكْرِ النبيِّ في الحديثِ المرفوعِ ، أو على الصحابيِّ في الموقوفِ ، كقولِهِ في العِلْمِ : وقالَ عمرُ : (( تفقهُوا قبل أنْ تسودوا )) . أي : فإنّهُ يُسمَّى تعليقاً . هكذا حكاهُ ابنُ الصلاحِ عن بعضِهم ، ولم يحكِ غَيْرَهُ . فقالَ : (( إنَّ لفظَ التعليقِ وجدتُهُ مستعملاً فيما حُذِفَ من مبتدأ إسنادِهِ واحدٌ فأكثرُ . حتى إنَّ بعضَهم استعملَهُ في حذفِ كُلِّ الإسنادِ. انتهى )) . ولم يذكر المزيُّ هذا في الاطرافِ في التعليقِ ، بلْ ولا ما اقتصرَ فيهِ على ذِكْرِ الصَّحابيِّ غالباً ، وإنْ كان مرفوعاً .
وقولُهُ : ( أمَّا الذي لشيخِهِ عزا بقالَ فكذي عنعنة ) ، أي : أمَّا ما عزاهُ البخاريُّ إلى بعضِ شيوخِهِ بصيغةِ الجزمِ ، كقولِهِ : قالَ فلانٌ ، وزادَ فلانٌ ، ونحوَ ذلكَ فليسَ حكمُهُ حكمَ التعليقِ عن شيوخِ شيوخِهِ ، ومَنْ فوقَهُم ، بل حكمُهُ حكمُ الإسنادِ المعَنْعَن ، وحكمُهُ - كما سيأتي في موضعِهِ - الاتصالُ بشرطِ : ثبوتِ اللقاءِ ، والسلامةِ من التدليسِ . واللقاءُ في شيوخِهِ معروفٌ ، والبخاريُّ سالمٌ من التدليسِ، فَلَهُ حكمُ الاتصالِ . هكذا جزمَ بهِ ابنُ الصلاحِ في الرابعِ من التفريعاتِ التي تلي النوعَ الحادي عشرَ . ثم قال : وبلغني عَن بعض المتأخّرينَ منْ أهلِ المغربِ أنَّهُ جعلَهُ قسماً من التعليقِ ثانياً ، وأضافَ إليه قولَ البخاريِّ - في غيرِ موضعٍ من كتابِهِ - : وقالَ لي فلانٌ ، وزادنا فلانٌ . فَوَسَمَ كُلَّ ذلك بالتعليقِ المتّصلِ مِن حيثُ الظاهرُ ، المنفصلِ من حيثُ المعنى ، … )) ، وسيأتي حكمُ قولِهِ : قال لنا فلان ، عند ذكرِ أقسامِ التحمُّلِ . وما ذكرَهُ ابنُ الصلاحِ هنا هو الصوابُ . وقد خالَفَ ذلك في مثالٍ مَثَّلَ به في السادسةِ من الفوائدِ في النوعِ الأولِ ، فقالَ: (( وأمَّا الذي حُذِفَ من مبتدأ إسنادِهِ واحدٌ أو أكثرُ . ثمَّ قالَ: مِثالُهُ: قالَ رسولُ الله كذا ، قال ابن عبّاس كذا ، قال مجاهدٌ كذا، قال عفّانُ كذا ، قال القَعْنَبيُّ كذا إلى آخركلامه .
فقولُهُ : قالَ عفانُ كذا قال القعنبيُّ كذا في أمثلةِ ما سقطَ من أولِ إسنادِهِ واحدٌ مخالفٌ لكلامِهِ الذي قدّمْنَاهُ عنه ؛ لأنَّ عفانَ والقعنبيَّ كلاهما شيخُ البخاريِّ حَدَّثَ عنه في مواضعَ من صحيحِهِ متصلاً بالتصريحِ . فيكونُ قولُهُ : قال عفانُ ، قال القعنبيُّ ، محمولاً على الاتّصال ، كالحديث المعنعنِ . وعلى هذا عملُ غيرِ واحدٍ من المتأخّرينَ ، كابنِ دقيقِ العيدِ ، والمزّيِّ . فجعلا حديثَ أبي مالكٍ الأشعَرِيِّ – الآتي ذِكْرُهُ – مثالاً لهذهِ المسألةِ تعليقاً . وفي كلامِ أبي عبدِ الله بنِ منده أيضاً ما يقتضي ذلكَ ، فقالَ في جزءٍ له في اختلافِ الأئمةِ في القراءة ، والسماعِ ، والمناولةِ ، والإجازةِ : أخرجَ البخاريُّ في كتبهِ الصحيحةِ وغيرِها ، قال لنا فلانٌ ، وهي إجازةٌ . وقال فلانٌ ، وهو تدليسٌ . قال : وكذلك مسلمٌ أخرجَهُ على هذا . انتهى كلام ابنِ منده ولم يوافق عليهِ .
وقولُهُ : ( كخبرِ المعازِفِ ) ، هو مثالٌ لما ذَكَرَهُ البخاريُّ عن بعضِ شيوخِهِ من غيرِ تصريحٍ بالتحديثِ ، أو الإخبارِ ، أو ما يقومُ مقامَهُ . كقولهِ : قال هشامُ بنُ عمّار : حدّثنا صَدَقةُ بنُ خالدٍ ، حدثنا عبدُ الرحمنِ بنُ يزيدَ بنِ جابرٍ ، حدثنا عطيّةُ بنُ قيسٍ ، قال : حدّثني عبدُ الرحمنِ بنُ غَنْمٍ ، قال : حدثني أبو عامرٍ ، أو أبو مالكٍ الأشعريُّ ، أنَّهُ سمعَ رسولَ الله ، يقول : (( ليكونَنَّ في أمتي أقوامٌ يستحلونَ الحِرَّ والحريرَ والمعازفَ ، الحديث )) . فإنَّ هذا الحديثَ حكمُهُ الاتصالُ ؛ لأنَّ هشامَ بنَ عَمّارٍ من شيوخِ البخاريِّ حدَّثَ عنه بأحاديثَ ، وخالفَ ابنُ حزمٍ في ذلك ، فقال في " المحلى " : هذا حديثٌ منقطعٌ لم يتصل ما بين البخاريِّ ، وصدقةَ بنِ خالدٍ .
- قال - : ولا يصحُّ في هذا البابِ شيءٌ أبداً . – قال –: وكلُّ ما فيه فموضوعٌ )) . قال ابن الصلاحِ: (( ولا التفاتَ إليهِ في رَدِّهِ ذلك – قال –: وأخطأَ في ذلك من وُجوهٍ – قال –: والحديثُ صحيحٌ معروفُ الاتصالِ بشرطِ الصحيحِ . قالَ : والبخاريُّ قد يفعلُ ذلك لكونِ الحديثِ معروفاً من جهةِ الثقاتِ عن الشخصِ الذي عَلَّقَهُ عنه ، أو لكونِهِ ذكرَهُ في موضعٍ آخرَ من كتابهِ متصلاً ، أو لغيرِ ذلكَ من الأسبابِ التي لا يصحبُها خللُ الانقطاعِ )) . انتهى . والحديثُ مُتَّصِلٌ مِن طُرُقٍ : من طريقِ هشامٍ وغيرهِ . قالَ الإسماعيليُّ في المستخرَج: حدّثنا الحسنُ، وهو ابنُ سفيان النّسوَيُّ الإمامُ قال: حدّثنا هشامُ بنُ عمّارٍ فذكرَهُ .وقال الطبرانيُّ في مسندِ الشاميِّينَ : حدّثنا محمدُ بنُ يزيدَ بنِ عبدِ الصمدِ ، قال : حدّثنا هشامُ بنُ عمّارٍ .
نَقْلُ الحَديثِ مِنَ الكُتبِ المُعتَمَدةِ
47.
وَأخْذُ مَتْـنٍ مِـنْ كِتَابٍ لِعَمَلْ
أوِ احْتِجَاجٍ حَيْثُ سَاغَ قَـدْ جَعَلْ
48.
عَرْضاً لَـهُ عَلى أُصُوْلٍ يُشْتَرَطْ
وَقَالَ (يَحْيَى النَّوَوِيْ) : أصْلٍ فَقَطْ
أي : وأخذُ الحديثِ من كتابٍ من الكتبِ المعتمدةِ ، لعملٍ به ، أوِ احتجاجٍ
به ، إنْ كانَ ممَّنْ يسوغُ له العملُ بالحديثِ ، أو الاحتجاج بهِ ، جعلَ ابنُ الصلاحِ شرطَهُ أنْ يكون ذلك الكتابُ مقابلاً بمقابلةِ ثقةٍ على أصولٍ صحيحةٍ متعددةٍ مرويةٍ برواياتٍ متنوعةٍ . قال النوويُّ : (( فإن قابلَهَا بأصلٍ معتمدٍ محققٍ أجزأَهُ )) . وقال ابنُ الصلاحِ في قسمِ الحَسَنِ حين ذَكَرَ أنَّ نسخَ الترمذيِّ تختلفُ في قولهِ : حسنٌ ، أو : حسنٌ صحيحٌ ، ونحو ذلك : (( فينبغي أن تصحِّحَ أصلَكَ بجماعةِ أصولٍ ، وتعتمدَ على ما اتفقتْ عليه )) . فَقَوْلُهُ هُنَا : يَنْبَغِي ، قَدْ يُشيرُ إلى عدمِ اشتراطِ ذلكَ ، وإنَّما هوَ مستحبٌّ ، وهوَ كذلكَ .
49.
قُلْتُ : ( وَلابْنِ خَيْرٍ ) امْتِنَاعُ
جَزْمٍ سِوَى مَرْوِيِّهِ إجْمَاعُ
لما ذكرَ ابنُ الصلاحِ أنَّ من أرادَ أخذَ حديثٍ من كتابٍ من الكتبِ المعتمدةِ ، أخذَهُ من كتابٍ مقابَلٍ . أحببتُ أنْ أذكرَ أنَّ بعضَ الأئمةِ حكى الإجماعَ على أنَّهُ لا يحلُّ الجزمُ بنقلِ الحديثِ ، إلا لِمَنْ له به روايةٌ ، وهو الحافظُ أبو بكرٍ محمدُ بنُ خيرِ بنِ عمرَ الأمويُّ – بفتحِ الهمزةِ – الإشبيليُّ وهو خالُ أبي القاسمِ السُّهيليِّ . فقال في بَرْنامَجِهِ المشهورِ : وقـد اتفقَ العلماءُ رحمهمُ اللهُ على أنّه لا يصحُّ لمسلمٍ أنْ يقولَ: قالَ رسولُ الله كذا حتَّى يكونَ عندَهُ ذلك القولُ مروياً ، ولو على أقلِّ وجوهِ الرواياتِ لقول رسـول الله : (( مَنْ كَذَبَ عليَّ متعمِّداً فليتبوأ مَقْعَدَهُ من النَّارِ ))
وفي بعضِ الروايـاتِ : (( مَـنْ كَذَبَ عَلـيَّ )) مطلقـاً دونَ تقييـدٍ .
فقولي : ( امتناعُ جزمٍ ) ، مبتدأٌ ومضافٌ إليه ، وإجماعُ : خَبَرُهُ .
القِسْمُ الثَّاني : الحَسَنُ
50.
وَالحَسَنُ المَعْرُوْفُ مَخْرَجاً وَقَـدْ
اشْتَهَرَتْ رِجَالُهُ بِذَاكَ حَـدْ
51.
(حَمْدٌ) وَقَالَ (التِّرمِذِيُّ) : مَا سَلِمْ
مِنَ الشُّذُوْذِ مَعَ رَاوٍ مَا اتُّهِمْ
52.
بِكَذِبٍ وَلَـمْ يَكُـنْ فَرْداً وَرَدْ
قُلْتُ : وَقَدْ حَسَّنَ بَعْضَ مَا انفَرَدْ
53.
وَقِيْلَ : مَا ضَعْفٌ قَرِيْبٌ مُحْتَمَلْ
فِيْهِ ، وَمَا بِكُلِّ ذَا حَدٌّ حَصَلْ
اختلفَ أقوالُ أئمةِ الحديثِ في حَدِّ الحديثِ الحسنِ، فقال أبو سليمانَ الخطّابيُّ، وهو حَمْدُ المذكورُ في أولِ البيتِ الثاني: (( الحسنُ: ما عُرِفَ مَخْرَجُهُ واشتهرَ رجالُهُ . قال : وعليه مدارُ أكثرِ الحديثِ ، وهو الذي يقبلُهُ أكثرُ العلماءِ ، ويستعملُهُ عامةُ الفقهاءِ )) .انتهى. ورأيتُ في كلامِ بعضِ المتأخّرينَ أنَّ في قولِهِ ما عُرِفَ مخرجُهُ احترازاً عن المنقطعِ ، وعن حديثِ المُدَلِّسِ قبلَ أنْ يتبينَ تدليسُهُ . قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ : (( ليسَ في عبارةِ الخطّابيِّ كبيرُ تلخيصٍ . وأيضاً فالصحيحُ قد عُرِفَ مخرجُهُ واشتُهِرَ رجالُهُ. فيدخلُ الصحيحُ في حَدِّ الحَسَنِ . قالَ : وكأنَّهُ يريدُ مما لم يبلغْ درجةَ الصحيحِ )) .
قال الشيخُ تاج الدينِ التبريزيُّ: فيه نظرٌ ؛ لأنَّهُ – أي: ابنُ دقيقِ العيدِ – ذكرَ من بعدُ : أنَّ الصحيحَ أخصُّ من الحسنِ . قالَ : ودخولُ الخاصِّ في حدِّ العامِّ ضروريٌّ . والتقييدُ بما يخرجهُ عنهُ مخلٌ للحدِّ وهو اعتراضٌ متجهٌ .
وقالَ أبو عيسى الترمذيُّ في "العلل" التي في آخر " الجامعِ " : (( وما ذكرنا في هذا الكتاب : حديثٌ حسنٌ ، فإنَّما أردنا به حُسْنَ إسنادِهِ عندنا .كُلُّ حديثٍ يُروى لا يكونُ في إسنادِهِ مَنْ يُتَّهَمُ بالكذبِ ، ولا يكونُ الحديثُ شاذاً ، ويُرْوَى من غيرِ وجهٍ نحوُ ذلك فهو عندنا حديثٌ حسنٌ )) . قال الحافظ أبو عبدِ الله محمدُ بنُ أبي بكرٍ بنِ الموَّاق : إنّهُ لم يَخُصَّ الترمذيُّ الحسنَ بصفةٍ تميزُهُ عن الصحيحِ ، فلا يكونُ صحيحاً إلا وهو غير شاذٍ ، ولا يكونُ صحيحاً حَتَّى يكونَ رواتُهُ غيرَ متهمينَ ، بل ثقاتٌ . قال: فظهرَ من هذا أنَّ الحسنَ عند أبي عيسى صفةٌ لا تخصُّ هذا القسمَ بل قد يَشْركُهُ فيها الصحيحُ . قال : فَكلُّ صحيحٍ عندَهُ حسنٌ ، وليسَ كُلُّ حسنٍ عندَهُ صحيحاً . قال أبو الفتحِ اليعمريُّ : بقي عليه أنهُ اشترطَ في الحسنِ أنْ يُرْوَى من وجهٍ آخرَ ، ولم يشترطْ ذلك في الصحيحِ . قلت : وسنرى في كلامِ أبي الفتحِ بعدَ هذا بدونِ الصفحةِ أنَّهُ لا يشترطُ في كلِّ حسنٍ أنْ يكونَ كذلك ، فتأمَّلْهُ .
وقولُهُ : ( قلتُ وقد حَسَّن بعضَ ما انفرد ) . هذا من الزوائدِ على ابنِ الصَّلاحِ . وهو إيرادٌ على الترمذيِّ ، حيث اشترطَ في الحسنِ أنْ يُروَى من غيرِ وجهٍ نحوُه . ومع ذلك فقد حَسَّنَ أحاديثَ لا تُروَى إلا من وجهٍ واحدٍ ، كحديثِ إسرائيلَ ، عن يوسفَ ابن أبي بردةَ، عن أبيهِ، عن عائشةَ ، قالت: كانَ رسول اللهِ إذا خرجَ من الخلاءِ قال : غفرانكَ . فإنَّهُ قال فيه : حسنٌ غريبٌ لا نعرفُهُ إلا من حديثِ إسرائيلَ ، عن يوسفَ ابن أبي بردةَ . قال : ولا يُعرفُ في هذا البابِ إلا حديثُ عائشةَ . وأجاب أبو الفتحِ اليعمريُّ عن هذا الحديثِ بأنَّ الذي يحتاجُ إلى مجيئِهِ من غير وجهٍ ما كانَ راويه في درجة المستورِ ومَنْ لم تثبتْ عدالتُهُ . قال : وأكثرُ ما في البابِ أنَّ الترمذيَّ عَرّفَ بنوعٍ منه لا بكلِّ أنواعِهِ . وقولُهُ : ( وقيل ما ضَعْفٌ قريبٌ مُحْتَمَلٌ فيه ) . هذا قولٌ ثالثٌ في حدِّ الحسنِ . قالَ ابنُ الجوزيِّ في " العللِ المتناهيةِ " وفي " الموضوعات " : الحديثُ الذي فيه ضَعفٌ قَريبٌ محتَملٌ ، هو الحديثُ الحسنُ . ولم يسمِّ ابنُ الصلاحِ قائلَ هذا القولِ ، بل عزاهُ لبعضِ المتأخِّرينَ ، وأرادَ به ابنَ الجوزيِّ . واعترضَ ابنُ دقيقِ العيدِ على هذا الحدِّ بأنهُ (( ليس مضبوطاً بضابطٍ ، يتميَّزُ به القَدْرُ المحتَملُ من غيرِهِ ، قالَ : وإذا اضطربَ هذا الوصفُ لم يحصلِ التعريفُ المميِّزُ للحقيقةِ )) . وقال ابنُ الصلاحِ بعد ذِكْرِ هذهِ الحدودِ الثلاثةِ : كلُّ هذا مُستبْهَمٌ ، لا يَشْفِي الغليلَ ، قالَ : وليسَ في كلامِ الترمذيِّ ، والخطّابيِّ ما يفصلُ الحسنَ من الصحيحِ . انتهى . وهذا المرادُ بقولِهِ: ( وما بكلِّ ذا حدٌّ حَصَلْ ) . أي : وما بكلِّ قولٍ من الأقوالِ الثلاثةِ حصلَ حدٌّ صحيحٌ للحَسَنِ .
54.
وَقَالَ : بَانَ لي بإمْعَانِ النَّظَرْ
أنَّ لَهُ قِسْمَيْنِ كُلٌّ قَدْ ذَكَرْ
55.
قِسْماً ، وَزَادَ كَونَهُ مَا عُلِّلا
وَلاَ بِنُكْرٍ أوْ شُذُوْذٍ شُمِلاَ
أي : وقال ابنُ الصلاحِ : وقد أمعنْتُ النَظَرَ في ذلك ، والبحثَ ، جامعاً بين أطرافِ كلامِهِم ، ملاحظاً مواقعَ استعمالِهِم ، فتنقحَ لي واتضَحَ أنَّ الحديثَ الحسنَ قسمانِ :
أحدُهما : الحديثُ الذي لا يخلو رجالُ إسنادهِ من مستورٍ لم تتحققْ أهليتُهُ، غيرَ أنَّهُ ليس مغفلاً ، كثيرَ الخطأ فيما يرويه ، ولا هو متهمٌ بالكذبِ في الحديثِ ، أي: لم يظهرْ منه تعمُّدُ الكذبِ في الحديثِ ، ولا سببٌ آخرُ مفسِّقٌ ويكونُ متنُ الحديثِ مع ذلك قد عُرِفَ ، بأنْ رُوِي مثلُهُ أو نحوُهُ من وجهٍ آخرَ ، أو أكثر ، حتى اعتضدَ بمتابعةِ مَنْ تابعَ راويهِ على مثلِهِ ، أو بما لَهُ مِنْ شاهدٍ ، وهو ورودُ حديثٍ آخرَ نحوه ، فيخرجُ بذلك عن أنْ يكونَ شاذاً ، أو منكراً . وكلامُ الترمذيِّ على هذا القسمِ يتنـزلُ .
القسمُ الثاني : أنْ يكونَ راويه من المشهورين بالصدقِ والأمانةِ ، غيرَ أنَّهُ لا يبلغُ درجةَ رجالِ الصحيحِ ؛ لكونهِ يقصُرُ عنهم في الحفِظِ والإتقانِ ، وهو مع ذلك يرتفعُ عن حالِ مَنْ يُعَدُّ ما ينفردُ به من حديثِهِ منكراً . قال : ويعتبرُ في كلِّ هذا مع سلامةِ الحديثِ من أنْ يكونَ شاذاً ، أو منكراً سلامتُهُ من أنْ يكونَ مُعَلّلاً . وعلى القسمِ الثاني يتنـزلُ كلامُ الخطّابيِّ . قال : فهذا الذي ذكرناه جامعٌ لما تفرّقَ في كلامِ مَنْ بلغَنَا كلامُهُ في ذلك . قال : وكأنَّ الترمذيَّ ذَكَرَ أحدَ نوعَي الحَسَنِ ، وذَكَرَ الخطابيُّ النوعَ الآخرَ ، مقتصِراً كلُّ واحدٍ منهما على ما رأى أنَّهُ مشكِلٌ ، معرضاً عمّا رأى أنَّهُ لا يُشْكِلُ أو أنَّهُ غَفَلَ عن البعضِ وذهلَ . وقولُهُ : ( كلٌّ قدْ ذَكَر ) ، أي : كلُّ واحدٍ من الترمذيِّ ، والخطّابيِّ . وقولُه : ( وزادَ ) ، أي : ابنُ الصلاحِ .
والإمعانُ مصدرُ أمْعَنَ . من قولِ الفقهاءِ في التيمُّمِ : أمعنَ في الطلبِ . وكأَنَّهُ مأخوذٌ من الإبعادِ في العَدْوِ. ففي التهذيبِ عن الليثِ بن المظفّرِ: أمعنَ الفرسُ وغيرُهُ ، إذا تباعَدَ في عَدْوِهِ . وفي " الصحاحِ " : أمعَنَ الفرسُ : تباعَدَ في عَدْوِهِ . ويحتملُ أنَّهُ من أمعنَ الماءَ إذا أجرَاهُ . ويحتَملُ غيرَ ذلك . وقد بينتُهُ في " الشرحِ الكبيرِ " .
56.
وَالفُقَهَـاءُ كلُّهُمْ يَستَعمِلُهْ
وَالعُلَمَـاءُ الْجُلُّ مِنْهُمْ يَقْبَلُـهْ
57.
وَهْـوَ بأقْسَامِ الصَّحِيْـحِ مُلْحَقُ
حُجِّيَّـةً وإنْ يَكُنْ لا يَلْحَـقُ
البيتُ الأولُ مأخوذٌ من كلامِ الخطّابيِّ . وقد تقدّم نَقْلُهُ عنه إلا أنَّهُ قال : عامّةُ الفقهاءِ ، وعامةُ الشيءِ يطلقُ بإزاءِ معظمِ الشيءِ ، وبإزاءِ جميعِهِ . والظاهرُ أنَّ الخطابيَّ أرادَ الكُلَّ . ولو أرادَ الأكثرَ لما فَرَّقَ بين العلماءِ والفقهاءِ . وقوله : ( حجيّةً ) ، نصبٌ على التمييزِ ، أي : الحسنُ ملحقٌ بأقسامِ الصحيحِ في الاحتجاجِ به ، وإنْ يكن دونَهُ في الرُّتْبَةِ . قالَ ابنُ الصلاحِ : (( الحسنُ يتقاصرُ عن الصحيحِ )) . قال: (( ومِنْ أهلِ الحديثِ مَنْ لا يفردُ نوعَ الحسنِ ويجعلُهُ مندرجاً في أنـواعِ الصحيحِ ؛ لاندراجهِ في أنواعِ ما يحتجُّ بـه )) . قال : (( وهو الظاهرُ من كلامِ الحاكمِ في تصرفاتِهِ . قال : ثمَّ إنَّ مَنْ سَمَّى الحسنَ صحيحاً لا يُنْكِرُ أنهُ دونَ الصحيحِ المقدّمِ المبينِ أولاً . قال : فهذا إذَنْ اختلافٌ في العبارةِ دون المعنى )) .
58.
فَإنْ يُقَلْ : يُحْتَجُّ بِالضَّعِيْفِ
فَقُلْ : إذا كَانَ مِنَ المَوْصُوْفِ
59.
رُوَاتُهُ بِسُوْءِ حِفْظٍ يُجْبَرُ
بِكَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ يُذْكَرُ
60.
وَإنْ يَكُنْ لِكَذِبٍ أوْ شَذَّا
أوْ قَوِيَ الضَّعْفُ فَلَمْ يُجْبَر ذَا
61.
أَلاَ تَرَى الْمُرْسَلَ حَيْثُ أُسْنِدَا
أوْ أرْسَلُوا كَمَا يَجِيءُ اعْتُضِدَا
لما تقدّمَ أنَّ الحسنَ قاصرٌ عن الصحيحِ ، وإنّما أُلْحِقَ به في الاحتجاجِ . وتقدَمَ أنَّ الحسنَ لا يُشترطُ فيه ثقةُ رجالِهِ ، بل إذا كان فيهم من لا يُتَّهَمُ بالكَذِبِ ورُوِيَ من وَجْهٍ آخرَ كان حسناً، على الشروطِ المتقدمةِ. وغيرُ المتهمِ أعمُّ منْ أنْ يكونَ ثقةً ، أو مستوراً، والمستورُ غيرُ مقبولٍ عند الجمهورِ .
وربّما كان من تابعَهُ مستوراً أيضاً . وكلاهما لو انفردَ لم تَقُمْ به حجّةٌ فكيفَ يحتجُّ به إذا انضمَّ إليهِ مَنْ لا يحتجُّ به منفرداً . وأجابَ عنه ابنُ الصلاحِ بما ذُكرَ في البيتِ الأخيرِ من هذهِ الأبياتِ الأربعةِ . فقالَ بعد قولِهِ : إنَّ الحسنَ متقاصرٌ عن الصحيحِ : (( وإذا استبعدَ ذلك من الفقهاءِ الشافعيةِ مُسْتَبعدٌ ذكرنا له نصَّ الشافعيِّ في مراسيلِ التابعينَ أنَّهُ يقبلُ منها المرسلَ الذي جـاءَ نحوُه مسنداً . وَكَذَلِكَ لَوْ وافقَهُ مرسلٌ آخرُ أرسلَهُ مَنْ أخذَ العلمَ عن غيرِ رجال التابعيِّ الأولِ في كلامٍ لَهُ ذكرَ فِيْهِ وجوهاً من الاستدلالِ عَلَى صحةِ مَخْرجِ المُرْسَلِ بمجيئِهِ من وجهٍ آخرَ )) . ثُمَّ قَالَ في جوابِ سؤالٍ آخرَ : (( لَيْسَ كُلُّ ضعفٍ في الحديثِ يزولُ بمجيئِهِ من وجوهٍ ، بَلْ ذَلِكَ يختلف فمنه ضَعْفٌ يُزِيلُه ذَلِكَ ، بأنْ يكونَ ضَعْفُهُ ناشِئَاً مِنْ ضَعْفِ حفظِ راويه مَعَ كونِهِ مِنْ أهلِ الصِّدْقِ والديانة . فإذا رأينا ما رواهُ قَدْ جاءَ من وجهٍ آخرَ عرفنا أنَّهُ مِمَّا قَدْ حفظَهُ وَلَمْ يختلَّ فِيْهِ ضبطُهُ لَهُ . وَكَذَلِكَ إذا كانَ ضَعْفُهُ من حيثُ الإرسالُ زالَ بنحوِ ذَلِكَ كَمَا في المُرْسَلِ الَّذِي يُرْسِلُهُ إمامٌ حافظٌ ، إذ فِيْهِ ضعفٌ قليلٌ يزولُ بروايتهِ من وجهٍ آخرَ . – قَالَ – : ومن ذَلِكَ ضعفٌ لا يزولُ بنحوِ ذَلِكَ ؛ لقوةِ الضعفِ ؛ وتقاعدِ هذا الجابرِ عن جَبْرِهِ ومقاومتِهِ . وذلك كالضعفِ الذي ينشأُ من كونِ الراوي متهماً بالكذبِ أو كونِ الحديثِ شاذاً . قال : وهذهِ جملةٌ تفاصيلُها تدركُ بالمباشرةِ والبحثِ ، فاعلمْ ذلك فإنَّهُ من النفائِسِ العزيزةِ ، والله أعلمُ . وقولُهُ : ( رواتُهُ ) ، هو مرفوعٌ لسدِّهِ مَسَدَّ الفاعلِ ، وهو مفعولُ قولِهِ : ( الموصوفِ ) . وقوله : ( أوْ أرسلوا كما يجيءُ ) ، يريدُ : أو أرسلوه على الوجهِ الذي يجيءُ لا مطلقاً . وأُشيرَ بقولِهِ : ( يجيء ) إلى موضعِ الكلامِ على المُرْسَلِ .
62 .
وَالحَسَنُ : الْمشهُوْرُ بِالعَدَالَهْ
وَالصِّدْقِ رَاوِيهِ ، إذَا أَتَى لَهْ
63 .
طُرُقٌ اخْرَى نَحْوُهَا مِن الطُّرُقْ
صَحَّحْتُهُ كَمَتْنِ ( لَوْلاَ أنْ أَشُقْ )
64 .
إذْ تَابَعُوْا ( مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو)
عَلَيْهِ فَارْتَقَى الصَّحِيْحَ يَجْرِي
قوله: ( المشهورُ ) ، صفةٌ للحَسَنِ ، لا خبرٌ له. والشرطُ وجوابُهُ في موضعِ الخَبَرِ ، أي: والحَسَنُ الذي راويه مشهورٌ بالصدقِ والعدالةِ ، إذا أتَتْ له طرقٌ أخرى حكمَتْ بصحتِهِ ، كحديثِ محمدِ بنِ عمرو ، عن أبي سلمةَ ، عن أبي هريرةَ ؛ أنَّ رسولَ اللهِ قال : (( لولا أنْ أشقَّ على أمتي لأمرتُهم بالسواكِ عند كلِّ صلاةٍ )) .
قالَ ابنُ الصلاحِ : (( محمدُ بنُ عمرِو بنِ علقمةَ من المشهورينَ بالصدقِ والصيانةِ لكنَّهُ لم يكن من أهلِ الإتقانِ حتَّى ضَعَّفَهُ بعضُهم مِنْ جهةِ سوءِ حفظِهِ . ووثَّقَهُ بعضُهم لصدقِهِ وجلالتِهِ . فحديثُهُ من هذهِ الجهةِ حَسَنٌ ، فلمَّا انضمَّ إلى ذلكَ كونُهُ رُوي من أوجُهٍ أُخَرَ ، زالَ بذلك ما كنا نخشاهُ عليه من جهةِ سوءِ حفظِهِ . وانجبرَ بهِ ذلك النقصُ اليسيرُ ، فصحَّ هذا الإسنادُ ، والتحقَ بدرجةِ الصحيحِ )) . وقد أخذَ ابنُ الصلاحِ كلامَهُ هذا من الترمذيِّ فإنَّهُ قالَ بعدَ أنْ أخرجَهُ من هذا الوجهِ : حديثُ أبي سلمةَ عن أبي هريرةَ عندي صحيحٌ . ثُمَّ قالَ : وحديثُ أبي هريرةَ إنَّما صَحَّ ؛ لأنَّه قد رُوي من غيرِ وَجْهٍ .
وقولُهُ : ( إذ تابعوا محمدَ بنَ عمرٍو ) . ذكرهُ بعد قولِهِ : ( كمتنِ (( لولا أنْ أشقَّ ))). ليعلمَ أنَّ التمثيلَ ليس لمُطْلَقِ هذا الحديثِ، ولكنْ بقيدِ كونِهِ من روايةِ مُحَمَّدِ بنِ عمرو. ولستُ أريدُ بالمتابعةِ كونَهُ رواهُ عن أبي سلمةَ عن أبي هُرَيرَة غيرُ محمدِ بنِ عمرٍو؛ ولكنَّ متابعةَ شيخِهِ أبي سلمةَ عليه عن أبي هريرةَ فقد تابعَ أبا سلمةَ عليه عن أبي هريرةَ ، عبدُ الرحمن بنُ هرمزٍ الأعرجُ ، وسعيد المقبريُّ ، وأبوه : أبو سعيدٍ ، وعطاءٌ مولى أُمِّ صُبَيَّةَ ، وحميدُ بنُ عبدِ الرحمن ، وأبو زرعة بنُ عمرِو بنِ جريرٍ ، وهو متفقٌ عليه من طريقِ الأعْرَجِ . والمتابعةُ قَدْ يُراد بها متابعةُ الشيخِ ، وقد يُراد بها متابعةُ شيخِ الشيخِ ، كما سيأتي الكلامُ عليهِ في فصلِ المتابعاتِ والشواهدِ .
65.
قَالَ : وَمِنْ مَظِنَّةٍ لِلحَسَنِ
جَمْعُ (أبي دَاوُدَ) أيْ في السُّنَنِ
66.
فإنَّهُ قَالَ : ذَكَرْتُ فِيْهِ
ما صَحَّ أوْ قَارَبَ أوْ يَحْكِيْهِ
67.
وَمَا بهِ وَهْنٌ شَدِيْدٌ قُلْتُهُ
وَحَيْثُ لاَ فَصَالِحٌ خَرَّجْتُهُ
68.
فَمَا بِهِ وَلَمْ يُصَحَّحْ وَسَكَتْ
عَلَيْهِ عِنْدَهُ لَهُ الحُسْنُ ثَبَتْ
69.
و(ابْنُ رُشَيْدٍ) قَالَ –وَهْوَ مُتَّجِهْ-
قَدْ يَبْلُغُ الصِّحَّةَ عِنْدَ مُخْرِجِهْ
أي : قال ابنُ الصَّلاحِ : ومن مظانِّه – أي : الحسنِ - سننُ أبي داودَ السجستانيِّ – رحمهُ اللهُ تعالى -. رُوينا عنه أنَّهُ قالَ : ذكرتُ فيه الصحيحَ وما يُشْبِهُهُ ويقارِبُهُ . قال: وروينا عنه أيضاً ما مَعْناهُ أنَّهُ يذكُرُ في كُلِّ بابٍ أصحَّ ما عرفَهُ في ذلكَ البابِ . وقال : ما كان في كتابي من حديثٍ فيه وَهْنٌ شديدٌ فقد بينتُهُ ، وما لم أذكرْ فيه شيئاً فهو صالحٌ وبعضُها أصحُّ من بعضٍ . قال ابنُ الصلاحِ : (( فعلى هذا ما وجدناه في كتابِهِ مذكوراً مطلقاً ، وليس في واحدٍ من الصحيحينِ ، ولا نَصَّ على صحتِهِ أحدٌ ممَّنْ يُميِّزُ بين الصحيحِ والحسنِ عرفناه بأنَّهُ من الحسَنِ عند أبي داودَ . وقد يكونُ في ذلك ما ليسَ بحسَنٍ عند غيرِهِ ، ولا مندرجٍ فيما حقّقنا ضبطَ الحسنِ به )) . ثم ذكرَ كلامَ ابنِ منده في شرطِ أبي داودَ ، والنسائيِّ. وقد ذكرتُهُ بعد هذا بسبعةِ أبياتٍ . وقد اعترضَ أبو عبد اللهِ محمدُ بنُ عمرِ بنِ محمدِ الفِهريُّ الأندلسيُّ المعروفُ بابن رُشَيد ، على كلامِ ابنِ الصَّلاحِ بأنْ قال : (( ليس يلزمُ أنْ يُستفادَ من كونِ الحديثِ لم ينصَّ عليه أبو داودَ بضَعْفٍ ، ولا نَصَّ عليهِ غيرُهُ بصحةٍ أنَّ الحديثَ عند أبي داودَ حسنٌ . إذْ قد يكونُ عنده صحيحاً ، وإنْ لم يكن عندَ غيرِهِ كذلك. وقال أبو الفتح اليعمريُّ: (( وهذا تعقّبٌ حسنٌ )) . انتهى . وهذا معنى قولِهِ : ( وهو مُتَّجِهْ ) ، وهي جملةٌ معترضةٌ . ومعمولُ القولِ قد يبلغُ إلى آخرهِ . وقد يُجابُ عن اعتراضِ ابنِ رُشيد : بأنَّ ابنَ الصلاحِ إنَّما ذكرَ ما لنا أنْ نعرفَ الحديثَ به عندَهُ والاحتياطُ أنْ لا يرتفعَ به إلى درجةِ الصِّحَّةِ، وإنْ جازَ أنْ يبلغَها عند أبي داودَ ؛ لأنَّ عبارتَهُ : فهو صالحٌ ، أي للاحتجاجِ به . فإنْ كان أبو داودَ يَرى الحسنَ رتبةً بين الصحيحِ والضعيفِ ، فالاحتياطُ ما قالَهُ ابنُ الصلاحِ ، وإنْ كان رأيُهُ كالمتقدّمين أنَّهُ ينقسمُ إلى صحيحٍ وضعيفٍ ، فما سكت عنه فهو صحيحٌ ، والاحتياطُ أنْ يُقْالَ صالحٌ كما عَبَّرَ هو عن نفسِهِ .
70 .
وَللإمَامِ ( اليَعْمُرِيِّ ) إنَّما
قَوْلُ (أبي دَاوُدَ) يَحْكي (مُسْلِما)
71 .
حَيثُ يَقُوْلُ : جُمْلَةُ الصَّحِيْحِ لا
تُوجَدُ عِنْدَ ( مَالِكٍ ) وَالنُّبَلا
72 .
فَاحْتَاجَ أنْ يَنْزِلَ في الإسْنَادِ
إلى ( يَزيْدَ بنِ أبي زيَادِ )
73 .
وَنَحْوِهِ ، وإنْ يَكُنْ ذُو السَّبْقِ
قَدْ فَاتَهُ ، أدْرَكَ بِاسْمِ الصِّدْقِ
74 .
هَلاَّ قَضَى عَلَى كِتَابِ ( مُسْلِمِ )
بِمَا قَضَى عَلَيْهِ بِالتَّحَكُّمِ
أي : وللإمامِ أبي الفتحِ محمّدِ بن محمدِ بنِ محمدِ بنِ سَيِّدِ النّاسِ اليَعْمُريِّ تعقّبٌ على كلامِ ابنِ الصَّلاحِ ، فقالَ في شرح الترمذيِّ : لم يَرْسُمْ أبو داود شيئاً بالحسنِ . وعملُه في ذلك شبيهٌ بعملِ مسلم ، الذي لا ينبغي أنْ يحملَ كلامَهُ على غيرِهِ أنّه اجتنبَ الضعيفَ الواهيَ ، وأتى بالقسمينِ الأولِ والثاني ، وحديثُ من مَثَّلَ به من الرواةِ من القسمينِ الأولِ والثاني ، موجودٌ في كتابِهِ دونَ القسم الثالثِ . قال : فهلاَّ ألزمَ الشيخُ أبو عمرٍو مسلماً من ذلك ما ألزَمَ به أبا دوادَ ؟ فمعنى كلامِهِمَا واحدٌ . وقولُ أبي داودَ وما يشبهُهُ ، يعني : في الصِّحَّةِ ، وما يقارِبُهُ ، يعني : فيها أيضاً . قال : وهو نحوُ قولِ مسلمٍ أنَّهُ ليس كُلُّ الصحيحِ نجدُهُ عند مالكٍ ، وشعبةَ وسفيانَ ، فاحتاجَ أنْ ينـزلَ إِلَى مثلِ حديثِ ليثِ بن أبي سُليمٍ ، وعَطَـاءِ بنِ السائبِ ، ويزيـدَ بن أبي زيادٍ ؛ لما يَشْملُ الكُلَّ من اسمِ العدالةِ والصدقِ ، وإنْ تفاوتوا في الحفظِ والإتقانِ ، ولا فرقَ بين الطريقينِ ، غيرَ أنَّ مسلماً شرطَ الصحيحَ فَتَحرَّجَ من حديثِ الطبقةِ الثالثةِ ، وأبا داودَ لم يشترطْهُ فذكرَ ما يشتدُّ وَهنُهُ عندَهُ والتزمَ البيانَ عنهُ . قال : وفي قولِ أبي دوادَ أنَّ بعضَها أصحُّ من بعضٍ ما يشيرُ إلى القَدَرِ المشتَركِ بينَها من الصحَّةِ ، وإنْ تفاوتَتْ فيه لما تقتضيهِ صيغةُ أفْعَلَ في الأكثرِ . انتهى . والجوابُ عمّا اعترضَ به ابنُ سَيِّدِ الناسِ: أنَّ مسلماً التزم الصحةَ في كتابِهِ ، فليس لنا أن نحكمَ على حديثٍ خَرَّجَهُ فيه بأنَّهُ حسنٌ عندَهُ ، لما تقدّمَ من قُصورِ الحَسَنِ عن الصحيحِ . وأبو داودَ قال : إنَّ ما سكت عنه فهو صالحٌ . والصالحُ قد يكونُ صحيحاً ، وقد يكونُ حسناً عند مَنْ يَرَى الحسنَ رتبةً دونَ الصحيحِ. ولم يُنْقَلْ لنا عن أبي داودَ هل يقولُ بذلك ، أو يَرى ما ليس بضعيفٍ صحيحاً ؟ فكانَ الاحتياطُ أنْ لا يرتفعَ بِمَا سكتَ عَنْهُ إِلَى الصِّحَّةِ حَتَّى يعلمَ أنَّ رأيَهُ هُوَ الثاني ، ويحتاجُ إِلَى نَقلٍ . وقولُهُ : ( يحكي مسلماً ) ، أي يشبهُ قولَ مُسْلِم . وقولُهُ: ( حيثُ يقولُ ) ، أي : مُسْلِم ، وكذا قولُهُ: ( فاحتاجَ ) ، أي: مُسْلِم . وقولُهُ : ( فاتَهُ ) ، أي : يزيدَ بنَ أبي زيادٍ ، ونحوه . وقولُهُ : ( هلاّ قضى ) ، أي : ابنُ الصلاحِ . وقولُهُ : ( عَلَيْهِ ) ، أي : على كتابِ أبي داودَ .
75.
وَ ( البَغَوِيْ ) إذْ قَسَّمَ المَصَابحَا
إلى الصِّحَاحِ وَالحِسَانِ جَانِحا
76.
أنَّ الحِسَانَ مَا رَوُوْهُ في السُّنَنْ
رَدَّ عَلَيهِ إذْ بِهَا غَيْرُ الحَسَنْ
أي : والبَغويُّ رُدَّ عليهِ في تسميتِهِ في كتابِ " المصابيحِ " ما رواهُ أصحابُ السُّنَنِ الحِسانَ . إذ في السنن غيرُ الحسَنِ من الضعيفِ والصحيحِ ، إنْ قلنا: الحسنُ ليس أعمَّ من الصحيحِ ، كما سيأتي في بقيّةِ الفصلِ . قال ابنُ الصلاحِ : هذا اصطلاحٌ لا يُعرفُ ، وليس الحسنُ عند أهلِ الحديثِ عبارةً عن ذلكَ .
77.
كَانَ (أبُوْ دَاوُدَ) أقْوَى مَا وَجَدْ
يَرْوِيهِ ، والضَّعِيْفَ حَيْثُ لاَ يَجِدْ
78.
فِي البَابِ غَيْرَهُ فَذَاكَ عِنْدَهْ
مِنْ رَأيٍ اقوَى قَالهُ (ابْنُ مَنْدَهْ)
79.
(وَالنَّسَئيْ) يُخْرِجُ مَنْ لَمْ يُجْمِعُوا
عَليْهِ تَرْكاً ،مَذْهَبٌ مُتَّسِعُ
هذا بيانٌ لكونِ السننِ فيها غيرُ الحسن . قالَ ابنُ الصلاحِ: روينا عنه أي : عن أبي داودَ ما معناهُ أنَّهُ يذكرُ في كلِّ بابٍ أصحَّ ما عرَفَهُ في ذلك الباب . وقال أبو عبد الله ابنُ منده عنه: إنَّهُ يخرجُ الإسنادَ الضعيفَ إذا لم يجدْ في البابِ غيرَهُ ؛ لأنَّهُ أقوى عندَهُ من رأي الرجالِ . وَقَالَ ابنُ منده: إنَّهُ سمعَ محمدَ بنَ سعدٍ الباورديَّ بمصرَ يقولُ : كانَ من مذهبِ أبي عبدِ الرحمنِ النَّسائيِّ أنْ يخرجَ عن كلِّ منْ لم يُجمَعْ على تركهِ .
فقولُهُ : ( والضعيفَ ) أي : ويروِي الضعيفَ . وقولُهُ : ( مذهبٌ متّسعٌ ) ، خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ .
80.
وَمَنْ عَليها أطْلَقَ الصَّحِيْحَا
فَقَدْ أَتَى تَسَاهُلاً صَرِيْحَا
أي : ومَنْ أطلقَ الصحيحَ على كتبِ السُّنن ، فقد تساهَلَ ، كأبي طاهرٍ
السِّلَفيِّ حيث قال في الكتبِ الخمسةِ : اتفقَ على صحتِها علماءُ المشرقِ
والمغربِ . وكأبي عبدِ الله الحاكم حيثُ أطلقَ على الترمذيِّ " الجامعَ الصحيحَ " ، وكذلك الخطيبُ أطلقَ عليه ، وعلى النسائيِّ اسمَ الصحيحِ .
81.
وَدُوْنَهَا في رُتْبَةٍ مَا جُعِلاَ
عَلى المَسَانِيْدِ ، فَيُدْعَى الجَفَلَى
82.
كَمُسْنَدِ (الطَّيَالَسِيْ) و (أحْمَدَا)
وَعَدُّهُ ( لِلدَّارِميِّ ) انْتُقِدَا
أي : ودونَ السننِ في رتبةِ الصحةِ ما صنِّفَ على المسانيدِ ، وهو ما أُفْرِدَ فيـه حديثُ كُلِّ صَحَابِيّ عَلَى حِدَةٍ من غيرِ نَظَرٍ للأبـوابِ . كمسندِ أبي داودَ الطيالسيِّ . ويُقَالُ : إنَّهُ أولُ مسندٍ صنِّفَ . وكمسندِ أحمدَ بنِ حنبلٍ وأبي بكرِ بن أبي شيبةَ ، وأبي بكرٍ البّزارِ ، وأبي القاسم البغويِّ ، وغيرهم . وقد عَدَّ فيها ابنُ الصلاحِ مسندَ الدارميِّ ، فَوَهِمَ في ذلك ؛ لأنَّه مُرتّبٌ عَلَى الأبوابِ ، لا عَلَى المسانيدِ . وأشرتُ إِلَى ذَلِكَ بقولي : ( وَعَدَّهُ ) ، أي : ابنُ الصلاحِ . وقولُهُ : ( فيُدْعَى الجَفَلى ) ، كَنَّى به عن بيانِ كونِ المسانيدِ دونَ السننِ في مرتبةِ الصحةِ ؛ لأنَّ من جَمَعَ مسندَ الصحابيِّ يجمعُ فيه ما يقعُ له من حديثِهِ ، سواءٌ كان صالحاً للاحتجاجِ أم لا ؟ والجَفَلى : بفتح الجيمِ والفاءِ معاً مقصورٌ وهي الدعوةُ العامةُ للطعامِ . فإنَّ الدعوةَ عندَ العربِ على قسمينِ : الجفلى وهي العامةُ ، والنقرى وهي الخاصّةُ . قال طَرَفةُ :
نَحْنُ في المَشْتَاةِ نَدْعُو الجَفَلَى
لا تَـرَى الآدِبَ فينا يَنْتَقِرْ
وفي خطبةِ الإلْمَامِ لِلشَّيخِ تقيِّ الدينِ : ولم أدعُ الأحاديثَ إليهِ الجَفَلَى .
83.
والحُكْمُ لِلإسْنَادِ بِالصِّحَّةِ أوْ
بِالْحُسْنِ دُوْنَ الحُكْمِ لِلمَتْنِ رَأَوْا
84.
وَاقْبَلْهُ إنْ أَطْلَقَهُ مَنْ يُعْتَمَدْ
وَلَمْ يُعَقِّبْهُ بِضَعْفٍ يُنْتَقَدْ
أي : ورأوا الحكمَ للإسنادِ بالصحةِ كقولهم : (( هذا حديثٌ إسنادُهُ صحيحٌ )) ، دونَ قولِهِم : (( هذا حديثٌ صحيحٌ )) . وكذلك حكمُهُم على الإسنادِ بالحسن، كقولهم: (( إسنادُهُ حسنٌ )) دونَ قولِهِم : (( حديثٌ حسنٌ )) ؛ لأنَّهُ قَدْ يصحُّ الإسنادُ لثقةِ رجالِهِ ، ولا يصحُّ الحديثُ لشذوذٍ أو علّةٍ . قال ابنُ الصلاحِ : (( غير أنَّ المصنفَ المعتمدَ منهم إذا اقتصرَ على قولِهِ : إنّهُ صحيحُ الإسنادِ ، ولم يذكرْ له علّةً ، ولم يقدحْ فيه ، فالظاهرُ منه الحكمُ له بأنَّهُ صحيحٌ في نفسهِ ؛ لأنَّ عدمَ العلةِ والقادحِ ، هو الأصلُ والظاهرُ )) . قلتُ: وكذلك إنِ اقتصرَ على قولِهِ : حَسَنُ الإسنادِ ، ولم يُعَقِّبْهُ بضعفٍ ، فهو أيضاً محكومٌ له بالحُسْنِ .
85.
وَاسْتُشْكِلَ الحُسْنُ مَعَ الصِّحَّةِ في
مَتْنٍ ، فَإنْ لَفْظاً يُرِدْ فَقُلْ : صِفِ
86.
بِهِ الضَّعِيْفَ ، أوْ يُرِدْ مَا يَخْتَلِفْ
سَنَدُهُ ، فَكَيْفَ إنْ فَرْدٌ وُصِفْ ؟
أي : واستُشْكِلَ الجمعُ بَيْنَ الصحةِ والحسنِ في حديثٍ واحدٍ ، كقولِ الترمذيِّ وغيرِهِ : (( هَذَا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ )) ؛ لأنَّ الحسنَ قاصرٌ عن الصَّحِيحِ ، كما سبقَ ، فكيفَ يجتمعُ إثباتُ القصورِ ونفيُهُ في حديثٍ واحدٍ. وقد أجابَ ابنُ الصلاحِ بجوابٍ ، ثمَّ جَوَّزَ جواباً آخرَ . وضَعَّفَ الجوابينِ ابنُ دقيقِ العيدِ ، فمزجتُ الجوابينِ بردِّهِما . فقولُهُ : ( فإنْ لفظاً يُردْ ) ، أي : ابنُ الصلاحِ ، فإنَّهُ قالَ : (( إنّه غيرُ مستنكَرٍ أنْ يُرادَ بالحسنِ معناهُ اللُّغويُّ دون الاصطلاحيِّ )) . قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ : (( ويلزمُ عليهِ أنْ يطلقَ على الحديثِ الموضوعِ إذا كان حسنَ اللفظِ أنَّهُ حسنٌ )) .
وقولُهُ : ( أو يُرِدْ ما يختلف سندُهُ ) ، هذا هو الجوابُ الأولُ الذي أجابَ به ابنُ الصلاحِ أنَّ ذلك راجعٌ إلى الإسنادِ بأنْ يكونَ له إسنادانِ : أحدُهما صحيحٌ ، والآخر : حسنٌ . قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ : (( يَرِدُ عليهِ الأحاديثُ التي قيلَ فيها : حسنٌ صحيحٌ مع أنَّهُ ليس لها إلاّ مخرجٌ واحدٌ . وفي كلامِ الترمذيِّ في مواضعَ يقولُ : هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ لا نعرفهُ إلا مِنْ هذا الوجه )) . وهذا معنى قولِهِ: ( فكيفَ إنْ فردٌ وُصِف ) ، أي: فكيفَ إنْ وصفَ حديثٌ فردٌ بأنّهُ حسنٌ صحيحٌ، كحديث العلاءِ بنِ عبدِ الرحمنِ ، عن أبيهِ ، عن أبي هريرةَ : (( إذا بقي نصفُ شعبانَ فلا تصوموا )) ، فقالَ فيه الترمذيُّ : حسنٌ صحيحٌ لا نعرِفُهُ إلا مِنْ هذا الوجهِ على هذا اللفظِ .
87.
وَ ( لأَبِي الفَتْحِ ) في الاقْتِرَاحِ
أنَّ انفِرَادَ الحُسْنِ ذُوْ اصْطِلاَحِ
88.
وَإنْ يَكُنْ صَحَّ فَليْسَ يَلْتَبِسْ
كُلُّ صَحِيْحٍ حَسَنٌ لاَ يَنْعَكِسْ
89.
وَأوْرَدوا مَا صَحَّ مِنْ أفْرَادِ
حَيْثُ اشْتَرَطْنَا غَيْرَ مَا إسْنَادِ
وهذا جوابٌ عن الاستشكالِ المذكورِ ، أجابَ به ابنُ دقيقِ العيدِ في كتاب " الاقتراحِ " ، بعدَ رَدِّ الجوابينِ المتقدّمينِ ، وحاصلُهُ أنَّ الحسنَ لا يُشتَرطُ فيه القصورُ عن الصِّحَّةِ إلا حيثُ انفردَ الحسنُ فيرادُ بالحسنِ حينئذٍ المعنى الاصطلاحيُّ. وأمّا إنِ ارتفعَ إلى درجةِ الصحةِ فالحسنُ حاصلٌ لا محالةَ تبعاً للصحةِ ؛ لأنَّ وجودَ الدرجةِ العُليا ، وهي الحفظُ والإتقانُ ، لا ينافي وجودَ الدنيا ، كالصدقِ ؛ فيصحُّ أنْ يُقالَ : حسنٌ باعتبارِ الصفةِ الدنيا ، صحيحٌ باعتبارِ الصفةِ العليا .
قال : ويلزَمُ على هذا أنْ يكونَ كُلُّ صحيحٍ حسناً ويؤيِّدُهُ قولُهُم : حَسَنٌ في الأحاديثِ الصحيحةِ وهذا موجودٌ في كلامِ المتقدّمين . انتهى . وقد تقدّمَ أنَّ ابنَ الموّاقِ أيضاً ، قال : كُلُّ صحيحٍ عند الترمذيِّ حسنٌ ، وليسَ كلُّ حَسَنٍ صحيحاً .
وقولُهُ : ( وأوردوا إلى آخرهِ ) : هذا إيرادٌ أوردَهُ ابنُ سَيِّدِ الناسِ على ابن الموّاقِ ، فقالَ: قدْ بَقِيَ عَلَيْهِ أنَّهُ اشترطَ في الحسنِ أنْ يُروى نحوُهُ من وجهٍ آخرَ ، ولم يشترطْ ذلك في الصحيحِ ، فانتفى أن يكونَ كلُّ صحيحٍ حسَنَاً . انتهى . فعلى هذا : الأفرادُ الصحيحةُ ليست بحسنةٍ عند الترمذيِّ إذ يشترطُ في الحسنِ أن يُـروى من غير وجـهٍ ، كحديثِ : (( الأعمالُ بالنياتِ )) ، وحديثِ : (( السَّفرُ قِطْعةٌ من العذَابِ )) ، وحديث : (( نهى عن بيعِ الوَلاءِ وعن هِبَتِهِ )) . قلتُ : وجوابُ ما اعترضَ به أنَّ الترمذيَّ إنَّما يشترطُ في الحسنِ ، مجيئَهُ من وجهٍ آخرَ ، إذا لم يبلغْ رُتْبَةَ الصحيحِ ، فإنْ بلغَها لم يشترطْ ذلك بدليلِ قولِهِ في مواضعَ : هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ ، فلمّا ارتفعَ إلى درجةِ الصحةِ أثبتَ له الغرابةَ باعتبارِ فرديَّتِهِ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : الضَّعِيْفُ
90.
أمَّا الضَّعِيْفُ فَهْوَ مَا لَمْ يَبْلُغِ
مَرْتَبَةَ الحُسْنِ ، وإنْ بَسْطٌ بُغِي :
91.
فَفَاقِدٌ شَرْطَ قَبُوْلٍ قِسْمُ
وَاثْنَيْنِ قِسْمٌ غَيْرُهُ ، وَضَمُّوْا
92.
سِوَاهُما فَثَالِثٌ ، وَهَكَذَا
وَعُدْ لِشَرْطٍ غَيْرَ مَبْدُوٍّ فَذَا
93.
قِسْمٌ سِوَاهَا ثُمَّ زِدْ غَيْرَ الَّذِي
قَدَّمْتُهُ ثُمَّ عَلى ذَا فَاحْتَذِي
أي : ما قَصَرَ عَلَى رتبةِ الحسنِ فَهُوَ ضعيفٌ . وقولُ ابنِ الصلاحِ: هُوَ ما لَمْ يجمعْ صفاتِ الصحيحِ ، ولا صفاتِ الحسنِ . فذِكْرُ الصحيحِ غيرُ محتاجٍ إِلَيْهِ ؛ لأنَّ ما قصرَ عن الحسنِ فهو عن الصحيحِ أقصرُ ، وإنْ كان بعضُهُم يقولُ : إنَّ الفردَ الصحيحَ لا يُسَمَّى حسناً ، على رأي الترمذيِّ . فقد تقدّمَ ردُّه وقولُهُ : ( وإنْ بَسْطٌ بُغِي … ) إلى آخره ، أي : وإنْ أُريدَ بَسْطَ أقسامِ الضعيفِ ، فما فُقدَ فيه شرطٌ من شروطِ القبولِ قِسْمٌ . وشروطُ القبولِ هي شروطُ الصحيحِ والحسنِ ، وهي ستةٌ :
- اتصالُ السندِ حيث لم ينجبرِ المرسلُ بما يُؤَكِّدُهُ على ما سيأتي .
- وعدالةُ الرجالِ .
- والسلامةُ من كثرةِ الخطأ والغفلةِ .
- ومجيءُ الحديثِ من وجهٍ آخرَ حيثُ كان في الإسنادِ مستورٌ لم تُعْرَفْ أهليتُهُ ، وليس متّهماً كثيرَ الغَلَطِ .
- والسلامةُ من الشذوذِ .
- والسلامةُ من العلةِ القادحةِ .
فما فقد فيه الاتّصالُ قسمٌ ، ويدخل تحتَهُ قسمان :
الأولُ : المنقطعُ ، الثاني : المرسلُ الذي لم ينجبرْ .
وقولُهُ : ( واثنينِ قسمٌ غيرُهُ ) ، أي : وما فقد فيه شرطٌ آخرُ مع الشرطِ المتقدّمِ ، قسمٌ آخرُ ويدخلُ تحتَهُ اثنا عَشَرَ قِسْمَاً ؛ لأنَّ فقدَ العدالةِ يَدْخُلُ تحتَهُ الضعيفُ والمجهولُ وهذه أقسامُهُ .
الثالث : مرسلٌ في إسنادِهِ ضعيفٌ . الرابعُ : منقطعٌ فيه ضعيفٌ . الخامسُ : مرسلٌ فيه مجهولٌ . السادس : منقطعٌ فيه مجهولٌ . السابعُ : مرسلٌ فيه مغفَّلٌ كثيرُ الخطأ ، وإنْ كانَ عدلاً . الثامنُ : منقطعٌ فيهِ مغفَّلٌ كذلك . التاسعُ : مرسلٌ فيه مستورٌ ، ولم ينجبر بمجيئِهِ من وجهٍ آخرَ . العاشرُ : منقطعٌ فيه مستورٌ ، ولم يَجِئ من وجهٍ آخرَ . الحادي عشر : مرسلٌ شاذٌّ . الثاني عشر : منقطعٌ شاذٌ . الثالث عشر : مرسلٌ معلّلٌ . الرابعَ عشر : منقطعٌ معللٌ .
وقولُهُ: (وضموا سواهما فثالث) ، أي : وضموا إلى فقدِ الشرطينِ المتقدمَينِ فقدَ شرطٍ ثالثٍ ، فهو قسمٌ ثالثٌ من أصلِ الأقسامِ. ويدخل تحتَهُ عشرَةُ أقسامٍ ، وهي هذهِ:
الخامس عشر : مرسلٌ شاذٌّ فيه عدلٌ مغفلٌ كثيرُ الخَطَأ . السادسَ عشرَ : منقطعٌ شاذٌّ فيه مغفلٌ كذلك . السابعَ عشرَ : مرسلٌ معللٌ فيه ضعيفٌ . الثامنَ عشرَ : منقطعٌ معللٌ فيه ضعيفٌ . التاسعَ عشرَ : مرسلٌ معللٌ فيه مجهولٌ . العشرونَ : منقطعٌ معللٌ فيه مجهولٌ . الحادي والعشرون : مرسلٌ معللٌ فيه مغفلٌ كذلك . الثاني والعشرونَ : منقطعٌ معللٌ فيه مغفلٌ كذلك . الثالث والعشرون : مرسلٌ معللٌ فيه مستورٌ ولم ينجبر . الرابعُ والعشرون : منقطعٌ معللٌ فيه مستورٌ كذلك .
وقولُهُ: (وهكذا) ، أي: وهكذا فافعلْ إلى آخرِ الشروطِ ، فخذ ما فَقَدَ فيه الشرطَ الأولَ ، وهو الاتصالُ مع شرطينِ آخرينِ ، غيرَ ما تقدم، وهما السلامةُ من الشذوذِ والعلةِ. ثم خذ ما فُقِدَ فيه شرطٌ آخرُ مضموماً إلى فَقْدِ هذهِ الشروطِ الثلاثةِ ، وهي هذهِ :
الخامسُ والعشرون : مرسلٌ شاذٌّ معللٌ . السادسُ والعشرون : منقطعٌ شاذٌّ معللٌ . السابع والعشرون : مرسلٌ شاذٌّ معللٌ فيه مغفلٌ كثيرُ الخطأ . الثامنُ والعشرون : منقطعٌ شاذٌّ معللٌ فيه مغفلٌ كذلك .
وقوله : ( وعُدْ لشرطٍ غَيرَ مبدوٍّ ) ، أي : وَعُدْ فابدأ بما فُقِدَ فيه شرطٌ واحدٌ غيرَ ما بدأتَ به أولاً ، وهو ثقةُ الرواةِ ، وتحتَهُ قسمانِ وهما :
التاسعُ والعشرون : ما في إسنادِهِ ضعيفٌ . الثلاثون : ما فيه مجهولٌ .
وقولُهُ : ( ثُمَّ زِدْ غيرَ الذي قدمتُهُ ) ، أي : ثم زِدْ على فَقْدِ عدالةِ الراوي فَقْدَ شرطٍ آخرَ غيرَ ما بدأتَ به ، وتحتهُ قسمان وهُما :
الحادي والثلاثون : ما فيه ضعيفٌ وعلّةٌ . الثاني والثلاثون : ما فيه مجهولٌ وعلةٌ .
وقولُهُ: ( ثم على ذا فاحتذي ) ، أي: ثم احذُ على هذا الحذوِ . وأدخلتِ الياءُ في آخرِهِ ؛ لضرورةِ القافيةِ ، والمرادُ فكمل هذا العملُ الثاني الذي بدأتَ فيهِ بفَقْدِ الشرطِ المثنى به ، كما كَمَّلْتَ الأولَ، أي فَضُمَّ إلى فقدِ هذينِ الشرطينِ فقدَ شرطٍ ثالثٍ، ثم عُدْ فابدأْ بما فُقِدَ فيه شرطٌ آخرُ غيرُ المبدوِّ به ، والمثنى به . وهو سلامةُ الراوي من الغَفْلَةِ ثم زِدْ عليهِ وجودَ الشذوذِ أوِ العلَّةِ أو هما معاً . ثمَّ عُدْ فابدأْ بما فُقِدَ فيه الشرطُ
الرابعُ ، وهو عدمُ مجيئه من وجهٍ آخرَ حيث كان في إسنادِهِ مستورٌ . ثم زِدْ عليهِ وجودَ العِلَّةِ . ثمَّ عُدْ فَابدَأْ بما فُقِدَ فيه الشرطُ الخامسُ ، وهو السلامةُ من الشذوذِ . ثم زدْ عليه وجودَ العلةِ معه ، ثم اخْتِمْ بفَقْدِ الشرطِ السادسِ .
ويدخلُ تحتَ ذلك أيضاً عشرةُ أقسامٍ ، وهي : الثالثُ والثلاثونَ : شاذٌّ معلّلٌ فيه عدلٌ مغفلٌ كثيرُ الخطأ . الرابعُ والثلاثونَ : ما فيه مغفلٌ كثير الخطأ . الخامسُ والثلاثون : شاذٌّ فيهِ مغفلٌ كذلك. السادسُ والثلاثون: معللٌ فيه مغفلٌ كذلك. السابعُ والثلاثون: شاذٌّ معللٌ فيه مغفلٌ كذلك. الثامنُ والثلاثونَ: ما في إسنادِهِ مستورٌ لم تُعْرفْ أهليتُهُ، ولم يُرو من وجهٍ آخرَ. التاسعُ والثلاثون: معللٌ فيه مستورٌ كذلك . الأربعون : الشاذُّ . الحادي والأربعون : الشاذُّ المعلل . الثاني والأربعون : المعللُ . فهذهِ أقسامُ الضعيفِ باعتبارِ الانفرادِ ، والاجتماع . وقد تركتُ من الأقسامِ التي يظنُّ انقسامُهُ إليها بحسَبِ اجتماعِ الأوصافِ عدّةُ أقسامٍ ، وهي : اجتماعُ الشذوذِ ، ووجودُ ضعيفٍ أو مجهولٍ أو مستورٍ في سندِهِ ؛ لأنَّه لا يمكنُ اجتماعُ ذلك على الصَّحِيْحِ ؛ لأنَّ الشّذوذَ تفردُ الثقةِ فلا يمكنُ وصفُ ما فيه راوٍ ضعيفٌ، أو مجهولٌ أو مستورٌ بأنَّهُ شاذٌّ ، واللهُ أعلمُ .
ومن أقسامِ الضعيفِ ما لَهُ لقبٌ خاصٌّ كالمُضطَرِبِ ، والمَقْلوبِ ، والمَوضوعِ ، والمُنْكَرِ ، وهو بمعنى الشاذِّ كما سيأتي .
94.
وَعَدَّهُ (البُسْتِيُّ) فِيما أوْعَى
لِتِسْعَةٍ وَأرْبَعِيْنَ نَوْعَا
أي : عَدَّ أبو حاتِم محمّدُ بنُ حبّانَ البستيُّ أنواعَ الضعيفِ تسعةً وأربعينَ نوعاً . وقولُهُ : ( أوعَى ) ، أي : جمعَ ، حكاه صاحبُ " المشارقِ ". ويقال : وَعَى العلمَ ، وأوعاه : حَفِظَهُ وجمعَهُ .
المـَرْفُـوْعُ
95.
وَسَمِّ مَرْفُوْعاً مُضَافاً لِلنَّبِيْ
وَاشتَرَطَ (الخَطِيْبُ) رَفْعَ الصَّاحِبِ
96.
وَمَنْ يُقَابِلْهُ بِذي الإرْسَالِ
فَقَدْ عَنَى بِذَاكَ ذَا اتِّصَالِ
اختلفَ في حدِّ الحديثِ المرفوعِ، فالمشهورُ أنَّهُ: ما أُضيف إلى النبي قولاً له، أو فعلاً سواءٌ أضافَهُ إليه صحابيٌّ أو تابعيٌّ ، أو مَنْ بعدَهما ، سواءٌ اتّصلَ إسنادُهُ أم لا .
فعلى هذا يدخلُ فيه المتصلُ والمرسلُ والمنقطعُ والمعضلُ. وقال الخطيبُ : هـو ما أخبرَ فيه الصحابيُّ عن قـولِ الرسـولِ ، أو فعلِهِ . فعلى هذا لا تدخلُ فيه مراسيلُ التابعينَ ومَنْ بعدَهُم . قال ابنُ الصلاحِ : (( ومَنْ جَعَلَ من أهلِ الحديثِ المرفوعَ في مُقَابَلَةِ المُرْسَلِ ، فقد عَنَى بالمرفوعِ المتصلَ )) .
المُسْـنَدُ
97.
وَالمُسْنَدُ المَرْفُوْعُ أوْ مَا قَدْ وُصِلْ
لَوْ مَعَ وَقْفٍ وَهوَ في هَذَا يَقِلْ
98.
وَالثالِثُ الرَّفْعُ مَعَ الوَصْلِ مَعَا
شَرْطٌ بِهِ ( الحَاكِمُ ) فِيهِ قَطَعَا
أُخْتُلِفَ في حَدِّ الحديثِ المسنَدِ على ثلاثةِ أقوالٍ :
فقالَ أبو عمرَ بنُ عبدِ البرِّ في " التمهيد " : هو ما رُفع إلى النبيِّ خاصّةً - قال - : وقد يكونُ متّصلاً مثلُ : مالكٍ ، عن نافعِ ، عن ابنِ عمرَ ، عن رسولِ اللهِ . وقد يكونُ منقطعاً ، مثلُ : مالكٍ ، عن الزهريِّ ، عن ابنِ عبّاسٍ ، عن رسولِ اللهِ . قال : فهذا مسندٌ ؛ لأنَّهُ قَدْ أُسندَ إلى رسولِ اللهِ ، وهو منقطعٌ ، لأنَّ الزهريَّ لم يَسْمَعْ من ابنِ عبّاسٍ . انتهى .
فعلى هذا يستوي المسندُ والمرفوعُ . وقالَ الخطيبُ: هو عندَ أهلِ الحديثِ: الذي اتّصلَ إسنادُهُ من راويهِ إلى منتهاهُ. قالَ ابنُ الصلاحِ: وأكثرُ ما يستعملُ ذلك فيما جاءَ عن رسولِ اللهِ دونَ ما جاءَ عن الصحابةِ وغيرهم.وكذا قال ابنُ الصَّبَّاغِ في"العُدَّة" المسندُ: ما اتصلَ إسنادُهُ. فعلى هذا يَدخُلُ فيه المرفوعُ والموقوفُ. ومقتضى كلامِ الخطيبِ أنَّهُ يدخلُ فيه ما اتصلَ إسنادهُ إلى قائِلِهِ مَنْ كان، فيدخلُ فيه المقطوعُ، وهو قولُ التابعيِّ ، وكذا قولُ مَنْ بعدَ التابعينَ ، وكلامُ أهلِ الحديثِ يأباهُ. وقولُهُ: أو ، هي لتنويعِ الخلافِ ، يدلُّ عليه قولُهُ بَعدُ: (والثالثُ ) ، وهو أنَّ المسندَ لا يقعُ إلا على ما رُفِعَ إلى النبيِّ بإسنادٍ متصلٍ ، وبه جزمَ الحاكمُ أبو عبدِ اللهِ النَّيْسابوريُّ في " علومِ الحديثِ " ، وحكاهُ ابنُ عبدِ البرِّ قولاً لبعضِ أهل الحديثِ .
المُتَّصِلُ وَالمَوصُولُ
99.
وَإنْ تَصِلْ بِسَنَدٍ مَنْقُوْلاَ
فَسَمِّهِ مُتَّصِلاً مَوْصُوْلا
100.
سَوَاءٌ المَوْقُوْفُ وَالمَرْفُوْعُ
وَلَمْ يَرَوْا أنْ يَدْخُلَ المَقْطُوْعُ
المتّصلُ والموصولُ : هو ما اتّصلَ إسنادُهُ إلى النبيِّ ، أو إلى واحدٍ مِنَ الصحابةِ حيثُ كان ذلكَ موقوفاً عليهِ . وأما أقوالُ التابعينَ إذا اتصلتِ الأسانيدُ إليهم ، فلا يسمّونها متصلةً . وهذا معنى قولِهِ : ( ولمْ يَرَوْا أنْ يدخُلَ المقطوعُ ) ، وإنِ اتصلَ السندُ إلى قائلِهِ . قالَ ابنُ الصلاحِ : ومطلقُهُ ، أي : المتصلِ ، يقعُ على المرفوعِ والموقوفِ . قلتُ : وإنّما يَمتنعُ اسمُ المتصلِ في المقطوعِ في حالةِ الإطلاقِ . أما مع التقييدِ فجائزٌ واقعٌ في كلامِهِم ، كقولِهِم : هذا متصلٌ إلى سعيدِ بنِ المسيِّبِ ، أو إلى الزهريِّ ، أو إلى مالكٍ ونحو ذلك .
المَـوْقُـوْفُ
101.
وَسَمّ بالمَوْقُوْفِ مَا قَصَرْتَهُ
بِصَاحِبٍ وَصَلْتَ أوْ قَطَعْتَهُ
102.
وَبَعضُ أهْلِ الفِقْهِ سَمَّاهُ الأثَرْ
وَإنْ تَقِفْ بِغَيرِهِ قَيِّدْ تَبَرّْ
أي : والموقوفُ ما قصرْتَهُ بواحدٍ من الصحابةِ قولاً له ، أو فعلاً ، أو نحوَهُما . ولم تتجاوز به إلى النبيِّ سواءٌ اتصلَ إسنادهُ إليه ، أولم يتصلْ . وقال أبو القاسمِ الفُوْرانيُّ من الخُراسانيينَ : (( الفُقهاءُ يقولون : الأثرُ ما يُروى عن الصَّحابةِ )) .
وقولُهُ : ( وإن تَقِفْ بغيره قيّدْ تبرِ ) ، أي : وإنِ استعملتَ الموقوفَ فيما جاءَ عن التابعينَ فمَنْ بعدَهُم ، فقيِّدْهُ بهم . فَقُلْ : موقوفٌ على عطاءٍ ، أو على طاوُسٍ ، أو وقفهُ فلانٌ على مجاهدٍ ، ونحوَ ذلكَ . وفي كلامِ ابنِ الصلاحِ أنَّ التقييدَ لا يتقيدُ بالتابعيِّ ، فإنَّهُ قال : وقد يستعملُ مقيّداً في غير الصحابيِّ . فعلى هذا يُقالُ موقوفٌ على مالكٍ ، على الثوريِّ ، على الأوزاعيِّ ، على الشافعيِّ ، ونحو ذلك .
المـَقْطُـوْعُ
103.
وَسَمِّ بِالمَقْطُوْعِ قَوْلَ التَّابِعي
وَفِعْلَهُ ، وَقَدْ رَأى (للشَّافِعِي)
104.
تَعْبِيـرَهُ بِـهِ عَنِ المُنقطِـعِ
قُلْتُ: وَعَكسُهُ اصطِلاحُ (البَردَعِي)
قَالَ الخَطيبُ في كتابِ " الجامعِ بين آدابِ الراوي والسامعِ " : من الحديثِ : المقطوعُ. – وقال أيضاً -: المقاطعُ ، هي الموقوفاتُ على التابعينَ . قال ابنُ الصلاحِ: ويقالُ في جمعِهِ المقاطيعُ ، والمقاطعُ . وقولُهُ: ( وقد رَأى ) أي: ابنُ الصلاحِ ، فقالَ: وقد وجَدْتُ التعبيرَ بالمقطوعِ عن المنقطعِ في كلامِ الإمامِ الشافعيِّ ، وأبي القاسمِ الطبرانيِّ ، وغيرِهما . انتهى. ووجدْتُهُ أيضاً في كلامِ أبي بكرٍ الحميديِّ، وأبي الحَسَنِ الدارقطنيِّ . وقولُهُ : ( وعكسُهُ اصطلاحُ البرذعي ) ، وهو أنَّ الحافظَ أبا بكرٍ أحمدَ بنَ هارونَ البَرْدِيجيَّ البَرْذعيَّ ، جعلَ المنقطعَ هو قولُ التابعيِّ. قال ذلك في جزءٍ له لطيفٍ. وقد ذكرَ ابنُ الصلاحِ هذا القولَ في آخرِ كلامهِ على المنقطعِ أنَّ الخطيبَ حكاهُ عن بعضِ أهلِ العلمِ ، واستبعدَهُ ابنُ الصلاح . وأتيتُ هنا بـ ( قلتُ ) : لأنَّ تعيينَ القائلِ لها من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ ، وإن كانت المسألةُ في مَوضِعٍ آخرَ من كتابِهِ غيرَ معزوةٍ إلى قائِلِها .
فُـرُوْعٌ
105.
قَوْلُ الصَّحَابيِّ ( مِنَ السُّنَّةِ ) أوْ
نَحْوُ ( أُمِرْنَا) حُكْمُهُ الرَّفْعُ ، وَلَوْ
106.
بَعدَ النَّبِيِّ قالَهُ بِأَعْصُرِ
عَلى الصَّحِيْحِ ، وَهْوَ قَوْلُ الأكْثَرِ
قولُ الصحابيِّ : (( من السنةِ كذا )) ، كقولِ عليٍّ : (( من السُّنَّةِ وَضْعُ الكفِّ على الكفِّ في الصلاةِ ، تحتَ السُّرَّةِ )) . رواهُ أبو داودَ في روايةِ ابنِ داسةَ ، وابنِ الاعرابيِّ . قالَ ابنُ الصَلاحِ : فالأصحُّ أنَّهُ مسندٌ مرفوعٌ ؛ لأنَّ الظاهرَ أنّهُ لا يريدُ بهِ إلا سُنَّةَ رسولِ اللهِ ، وما يجبُ اتباعُهُ . قالَ ابنُ الصَّبَّاغ في " العُدَّة " : وحُكِيَ عن أبي بكرٍ الصَّيْرفيِّ ، وأبي الحَسَنِ الكَرْخيِّ وغيرهِما أنّهم قالوا : يحتملُ أنْ يُريدَ به سنةَ غير النبيِّ ، فلا يحملُ على سنتهِ . انتهى .
وقولُ الصحابيِّ : أُمِرْنا بكذا ، أو نُهينا عن كذا ، كقولِ أُمِّ عَطيّةَ: أمِرنا أن نُخِرجَ في العِيدَيْنِ العَوَاتِقَ ، وذَوَاتِ الخُدُورِ ، وأُمِرَ الحُيَّضُ أنْ يعتزِلْنَ مُصَلَّى المُسلِمِينَ . وكقولها أيضاً : نُهِينا عن اتِّباعِ الجنائزِ ، ولم يُعْزَمْ علينا وكلاهما في الصحيح ، هو من نوعِ المرفوعِ والمسندِ عند أصحابِ الحديثِ ، وهو الصحيحُ ، وقولُ أكثرِ أهلِ العلمِ ، قاله ابنُ الصلاح . قال : لأنَّ مطلقَ ذلك ينصرفُ بظاهرِهِ إلى من إليهِ الأمرُ والنهي وهو رسول اللهِ . – قال - : وخالفَ في ذلك فريقٌ ، منهم : أبو بكرٍ الإسماعيليُّ . قلتُ : وجزَم بهِ أبو بكرٍ الصَّيْرفيُّ في " الدلائل " . قال ابنُ الصلاحِ : وكذلك قولُ أنسٍ : أُمِرَ بلالٌ أنْ يَشْفعَ الأَذانَ ويُوترَ الإقامةَ . قال : ولا فَرْقَ بينَ أنْ يقولَ ذلك في زمنِ رسول الله ، أو بعدَهُ . انتهى . أما إذا صَرَّحَ الصحابيُّ بالآمر ، كقوله : أمَرَنا رسولُ الله ، فلا أعلمُ فيه خلافاً ، إلا ما حكاهُ ابنُ الصَّبَّاغِ في " العُدَّة " عن داودَ وبعضِ المتكلّمينَ أنّهُ لا يكونُ ذلك حُجَّةً ، حتى يُنقلَ لنا لفظُهُ . وهذا ضعيفٌ مردودٌ ، إلا أنْ يريدوا بكونِهِ لا يكونُ حجةً ، أي في الوجوب . ويدلُّ على ذلك تعليلُهُ للقائلينَ بذلكَ ، بأنَّ مِنَ الناسِ مَنْ يقولُ: المندوبُ مأمورٌ به . ومنهم مَنْ يقولُ : المباحُ مأمورٌ به أيضاً . وإذا كانَ ذلكَ مرادَهم ، كان له وجهٌ ، والله أعلم .
107.
وَقَوْلُهُ ( كُنَّا نَرَى) إنْ كانَ مَعْ
عَصْرِ النَّبِـيِّ مِنْ قَبِيْلِ مَا رَفَعْ
108.
وَقِيْلَ: لا ، أوْ لا فَلا ،كَذاكَ لَه
و(لِلخَطِيْبِ) قُلْتُ : لكِنْ جَعَلَهْ
109.
مَرفُوعاً ( الحَاكِمُ ) و (الرَّازِيُّ
إبـنُ الخَطِيْبِ )،وَهُـوَ القَـوِيُّ
أي : وقولُ الصحابيِّ: كُنَّا نَرَى كذا ، أو نفعلُ كذا ، أو نقولُ كذا ، ونحو ذلك . إنْ كان مع تَقْييدِهِ بعصر النَّبيِّ كقولِ جابرٍ : (( كُنَّا نعزِلُ على عَهدِ رسولِ الله )) متفقٌ عليه . وكقولِهِ : (( كُنَّا نأكلُ لحمَ الخيلِ على عهد النبيِّ )) رواهُ النسائيُّ ، وابنُ ماجه . فالذي قَطَعَ به الحاكمُ وغيرُهُ من أهلِ الحديثِ وغيرهم ، أنَّ ذلك من قبيلِ المرفوعِ . وصَحَّحَهُ الأصوليون : الإمامُ فخرُ الدين ، والسيفُ الآمديُّ وأتباعهما . قالَ ابنُ الصلاحِ : وهو الذي عليه الاعتمادُ ؛ لأنَّ ظاهرَ ذَلِكَ مشعرٌ بأنَّ رَسُوْل اللهِ اطّلعَ عَلَى ذلكَ وقرَّرَهُم عَلَيْهِ . وتقريرُهُ أحدُ وُجوهِ السُّنن المرفوعةِ ، فإنَّها أقوالُهُ ، وأفعالُهُ ، وتَقرِيرُهُ ، وسكوتُهُ عن الإنكارِ بَعْدَ اطلاعِهِ . – قَالَ - : وبلغني عن البَرْقانيِّ أنهُ سألَ الإسماعيليَّ عن ذلكَ فأنكَرَ كونَهُ من المرفوعِ . قُلْتُ : أمَّا إذا كانَ في القِصَّةِ اطلاعُهُ فحكمُهُ الرفعُ اجماعاً ، كقولِ ابنِ عمرَ : (( كُنَّا نقولُ ورسولُ اللهِ حيٌّ: أفضلُ هَذِهِ الأمةِ بَعْدَ نَبيِّها ، أبو بكرٍ ، وعمرُ ، وعثمانُ ، ويسمَعُ ذَلِكَ رَسُوْل الله فَلاَ يُنكرُهُ )) رواهُ الطبرانيُّ في المعجمِ الكبيرِ . والحديثُ في الصحيحِ لكنْ لَيْسَ فِيْهِ اطّلاعُ النبيِّ عَلَى ذَلِكَ بالتصريح . وقولُهُ : ( أو لا فَلاَ ) أي : وإنْ لَمْ يكنْ مقيّداً بعصرِ النَّبيِّ فليس مِنْ قَبِيْلِ المرفوعِ . وقولُهُ : ( كذاك لَهُ ) أي : هذا لابنِ الصلاحِ تَبَعاً للخطيبِ فجزما بأنَّه من قبيلِ الموقوفِ .
وقولُهُ : ( قُلتُ ) : إلى آخر البيتِ الثالثِ من هذهِ الأبياتِ ، هو من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ ، وهو أنَّ الحاكمَ ، والإمامَ فخرَ الدين الرازيَّ جَعلاهُ من قبيلِ المرفوعِ، ولولم يقيِّدْهُ بعهدِ النبيِّ . وقال ابنُ الصَّبَّاغِ في "العُدَّةِ" إنَّهُ الظاهرُ ، ومَثَّلَهُ بقولِ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها: (( كانتِ اليدُ لا تُقْطعُ في الشيء التافِهِ )) . ومقتضى كلامِ البيضاويِّ موافقٌ لما قالَهُ ابنُ الصلاحِ ، ولكنَّ الإمامَ ، والسيفَ الآمديَّ لم يُقييدا ذلك بعهدِهِ . وقال به أيضاً كثيرٌ من الفقهاءِ ، كما قالَهُ النوويُّ في " شرح المُهَذَّبِ " ، قال : وهو قويٌّ من حيثُ المعنى .
110.
لكنْ حَدِيْثُ (كانَ بَابُ المُصْطَفَى
يُقْرَعُ بالأَظْفَارِ ) مِمَّا وُقِفَـا
111.
حُكْماً لَدَى (الحَاكِمِ) و(الخَطِيْبِ)
وَالرَّفْعُ عِنْدَ الشَّيخِ ذُوْ تَصْوِيْبِ
أي : لكنَّ هذا الحديثَ حكمُهُ حكمُ الموقوفِ عندَ الحاكمِ والخطيبِ ، وإنْ كان الحاكمُ قد تقدّمَ عنه ما يقتضي في نظيرِهِ أنَّهُ مرفوعٌ . وهذا الحديثُ رواهُ المغيرةُ ابنُ شعبةَ ، قال : كان أصحابُ رسول اللهِ يقرعونَ بابَهُ بالأظافيرِ . قالَ الحاكمُ : هذا يتوهمُهُ مَنْ ليس من أهلِ الصنعةِ مسنداً لذكرِ رسولِ الله فيه ، - قال - : وليس بمسنَدٍ بل هو موقوفٌ . وذكرَ الخطيبُ في " الجامع " نحوَ ذلك أيضاً . قال ابنُ الصلاحِ : بل هو مرفوعٌ كما سبق ذِكْرُهُ ، وهو بأنْ يكونَ مرفوعاً أحرى ؛ لكونِهِ أحرَى باطلاعِهِ عليه . قالَ : والحاكمُ معترفٌ بكونِ ذلك من قبيلِ المرفوعِ ، وقد كُنَّا عددْنَا هذه فيما أخذناه عليهِ ثم تأولناهُ له على أنَّهُ أراد أنَّهُ ليس بمسنَدٍ لفظاً ، وإنَّما جعلْنَاهُ مرفوعاً من حيثُ المعنى .
112.
وَعَدُّ مَا فَسَّرَهُ الصَّحَابِيْ
رَفْعاً فَمَحْمُوْلٌ عَلَى الأسْبَابِ
قولُهُ : ( رفعاً ) ، أي : مرفوعاً فأتى بالمصدرِ موضعَ المفعولِ ، أي : وعَدُّ تفسيرِ الصحابةِ مرفوعاً محمولٌ على تفسيرٍ فيه أسبابُ النـزولِ . ولم يعيّن ابنُ الصلاحِ القائلَ بأنَّ مطلقَ تفسيرِ الصحابيِّ مرفوعٌ ، وهو الحاكمُ وعزاهُ للشيخينِ فقال في " المستدركِ ": ليعلمَ طالبُ العلمِ أنَّ تفسيرَ الصحابيِّ الذي شَهِدَ الوحيَ والتنـزيلَ عندَ الشيخينِ حديثٌ مسندٌ . قال ابنُ الصلاحِ إنَّما ذلك في تفسيرٍ يتعلقُ بسببِ نزولِ آيةٍ يخبرُ بها الصحابيُّ أو نحوِ ذلك ، كقولِ جابرٍ : (( كانتِ اليهـودُ تقولُ : مَنْ أتَى امرأتَهُ مِن دُبرِها في قُبُلِها جاءَ الولدُ أحولَ ، فأنزلَ اللهُ تعالى : نِسَاْؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ الآية )) . قال : فأمّا سائرُ تفاسيرِ الصحابةِ التي لا تشتمِلُ على إضافةِ شيءٍ إلى رسول الله فمعدودةٌ في الموقوفاتِ .
113.
وَقَوْلُهُمْ (يَرْفَعُهُ) (يَبْلُغُ بِهْ )
(رِوَايَةً)(يَنْمِيْهِ ) رَفْعٌ فَانْتِبَهْ
114.
وَإنْ يَقُلْ ( عَنْ تَابعٍ ) فَمُرْسَلُ
قُلْتُ : (مِنَ السُّنَّةِ ) عَنْهُ نَقَلُوْا
115.
تَصْحِيْحَ وَقْفِهِ وَذُو احْتِمَالِ
نَحْوُ ( أُمِرْنَا ) مِنْهُ ( للغَزَالِيْ)
أي: وقولُهم عن الصحابيِّ يرفعُ الحديثَ ، أو يَبْلُغُ بِهِ ، أو يَنْمِيهِ ، أو رِوايةُ رفعٍ ، أي : مرفوعٍ . قال ابنُ الصلاحِ : وحكمُ ذلك عند أهلِ العلمِ حكمُ المرفوعِ صريحاً . وذلك كقولِ ابنِ عبّاسٍ : (( الشفاءُ في ثلاثٍ : شَرْبةِ عَسَلٍ ، وشَرْطةِ مِحْجمٍ ، وكَيَّةِ نارٍ . وأَنْهَى أُمتي عن الكيِّ )) رَفَعَ الحديثَ . رواهُ البخاريُّ من روايةِ سعيدِ بنِ جُبيرٍ عنه . ورواهُ مسلمٌ من روايةِ أبي الزِّنَادِ ، عن الأعْرَجِ ، عن أبي هريرةَ يَبْلُغُ به قال : (( الناسُ تَبَعٌ لقريشٍ )) وفي الصحيحينِ بهذا السندِ عن أبي هريرةَ روايةً (( تقاتِلُون قوماً صِغارَ الأعيُنِ )) … الحديثَ . وروى مالكٌ في "الموطأ" عن أبي حازمٍ، عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، قال : (( كانَ الناسُ يُؤمرونَ أنْ يضعَ الرجلُ يدَهُ اليُمنى على ذِراعِهِ اليُسْرى في الصلاة ))، قال أبو حازمٍ: لا أعلمُ إلاَّ أنَّهُ يَنْمِى ذلكَ. قال مالكٌ: يرفعُ ذلك .هذا لفظُ روايةِ عبدِ اللهِ بنِ يوسفَ، وقد رواهُ البخاريُّ من طريقِ القعنبيِّ عن مالكٍ ، فقال : يَنْمِي ذلك إلى النبيِّ ، فَصَرَّحَ برفْعِهِ .
وقولُهُ : ( وإنْ يَقُلْ ) ، أي : وإن يقل ذلك ، أي : هذه الألفاظَ عن تابعيٍّ فهو مرسلٌ ، وقولُهُ : ( قلتُ من السُنَّةِ ) إلى آخر الباب : هو من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ . وقولُهُ : ( عنه ) ، أي : عن التابعيِّ . وكذا قولُهُ – بعدَهُ - : ( منه ) . فإذا قالَ التابعيُّ من السنةِ كذا فهل هو موقوفٌ متصلٌ ، أو مرفوعٌ مرسلٌ كالذي قبلَهُ ؟ فِيْهِ وجهانِ لأصحابِ الشافعيِّ . مثالُهُ ما رَوَاهُ البيهقيُّ من قولِ عُبيدِ الله بن عبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ : السنَّةُ : تكبيرُ الإمامِ يومَ الفطرِ ويومَ الأضحى حِيْنَ يجلسُ عَلَى المنبرِ قَبْلَ الخطبةِ ؛ تسعَ تكبيراتٍ .
وحكى الداوديُّ في شرحِ مختصر المُزَني أنَّ الشافعيَّ كان يَرَى في القديمِ أنَّ ذلك مرفوعٌ إذا صَدَرَ من الصحابيِّ ، أو التابعيِّ ثم رَجَعَ عنه لأنَّهُم قد يُطلِقونَه ويُريدونَ سُنَّةَ البلدِ . انتهى. والأصحُ في مسألة التابعيِّ كما قالَ النوويُّ في " شرح المهذبِ " أنَّهُ موقوفٌ .
وعلى هذا فما الفرقُ بينَهُ وبينَ المسألةِ التي قبلَهُ ؟ يمكنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بأنَّ قولَهُ : يرفعُ الْحَدِيْث تصريحٌ بالرفعِ ، وقريبٌ مِنْهُ الألفاظُ المذكورةُ مَعَهُ . وأما قولُهُ : من السُّنَّةِ ، فكثيراً ما يعبَّرُ بِهِ عَنْ سُنَّةِ الخلفاءِ الراشدينَ. ويترجحُ ذَلِكَ إذا قالَهُ التابعيُّ بخلافِ ما إذا قالَهُ الصحابيُّ ، فإنَّ الظاهرَ أنَّ مرادَهُ سنةُ النبيِّ . وإذا قالَ التابعيُّ : (( أُمِرْنا بكذا )) ، ونحوه ، فهل يكونُ موقوفاً ، أو مرفوعاً مرسلاً ؟ فيه احتمالان لأبي حامدٍ الغزاليِّ في " المستصفى " ولم يُرَجِّح واحداً مِنَ الاحتمالينِ . وجَزَمَ ابنُ الصَّبَّاغِ في "العُدَّة" بأنَّهُ مرسلٌ . وحكى فيما إذا قالَ ذلك سعيدُ بنُ المسيِّبُ ، هل يكونُ حجةً ؟ وجهين ، والله أعلم .
116.
وَمَا أَتَى عَنْ صَاحِبٍ بحَيْثُ لا
يُقَالُ رَأيَاً حُكْمُهُ الرَّفْعُ عَلَى
117.
مَا قَالَ في المَحْصُوْلِ نَحْوُ مَنْ أتَى
( فَالحَاكِمُ ) الرَّفْعَ لِهَذَا أثْبَتَا
أي : وما جاءَ عن صحابيٍّ موقوفاً عليهِ ، ومثلُه لا يُقالُ مِنْ قبلِ الرأي حكْمُهُ حكمُ المرفوعِ كما قالَ الإمامُ فخرُ الدينِ في " المحصولِ " . فقال : إذا قالَ الصحابيُّ قولاً ، ليس للاجتهادِ فيه مجالٌ فهو محمولٌ على السماعِ تحسيناً للظنِّ به .
وقولُهُ : ( نحو مَنْ أتى ) ، أي : كقولِ ابن مسعودٍ : (( مَنْ أتى ساحراً ، أو عرّافاً ، فقد كفرَ بما أُنزلَ على محمّدٍ )) ، ترجمَ عليه الحاكمُ في " علومِ الحديثِ ": معرفةُ المسانيدِ التي لا يذكرُ سندُها عن رسولِ الله . قال : ومثالُ ذلك ، فذكرَ ثلاثةَ أحاديثَ ، هذا أحدُها . وما قالَهُ في " المحصولِ " موجودٌ في كلامِ غيرِ واحدٍ من الأئمةِ ، كأبي عمرَ بنِ عبدِ البرِّ ، وغيرِهِ . وقد أدخلَ ابنُ عبدِ البرِّ في كتابِهِ " التقصي " عِدَّةَ أحاديثَ، ذكرَها مالكٌ في " الموطّأ " موقوفةً مع أنَّ موضوع الكتابِ لما في " الموطّأ " من الأحاديثِ المرفوعةِ ، منها حديثُ سهلِ بنِ أبي حَثَمةَ في صلاةِ الخوفِ . وقالَ في " التمهيد " : هذا الحديثُ موقوفٌ على سَهْلٍ في " الموطّأ " عند جماعةِ الرواةِ عن مالكٍ. – قال –: ومثلُه لا يقالُ من جهةِ الرأي، وكثيراً ما شنّع ابنُ حزم في "المحلى" على القائلين بهذا ، فيقولُ : عهدناهم يقولون لا يُقالُ : مثلُ هذا من قبل الرأي . ولإنكارِهِ وجهٌ ؛ فإنَّهُ وإنْ كان لا يقالُ مثلُهُ من جهةِ الرأي ، فلعلَّ بعضَ ذلك سمعَهُ ذلك الصحابيُّ من أهل الكتابِ . وقد سمعَ جماعةٌ من الصحابةِ من كعب الأحبارِ ، ورَوَوا عنه كما سيأتي، منهم: العبادلةُ ، وقد قال : (( حدّثوا عن بني إسرائيلَ ، ولا حرجَ )) .
118.
وَمَا رَوَاهُ عَنْ ( أبِي هُرَيْرَةِ )
( مُحَمَّدٌ ) وَعَنْهُ أهْلُ البَصْرَةِ
119.
كَرَّرَ ( قَالَ ) بَعْدُ ، ( فَالخَطِيْبُ )
رَوَى بِهِ الرَّفْعَ وَذَا عَجِيْبُ
أي: وما رواهُ أهلُ البصرةِ عن محمّدِ بنِ سيرينَ ، عن أبي هريرةَ قَالَ: قَالَ ، فذكرَ حديثاً ، وَلَمْ يذكرْ فِيْهِ النبيَّ ، وإنّما كرّرَ لفظَ قَالَ بعدَ ذكرِ أبي هريرةَ . فإنَّ الخطيبَ رَوَى في " الكفاية " من طريقِ موسى بنِ هارونَ الحمّالِ بسندِهِ، إِلَى حمّادِ بنِ زيدٍ ، عن أيوبَ ، عن محمدٍ ، عن أبي هريرةَ ، قَالَ : قَالَ : الملائكةُ تصلّي عَلَى أحدِكم ما دامَ في مُصَلاَّهُ . قَالَ موسى بنُ هارونَ : إذا قَالَ حمّادُ بنُ زيدٍ والبصريون : قالَ : قالَ ، فَهُوَ مرفوعٌ . قَالَ الخطيبُ : قلتُ للبَرْقانيِّ : أحسبُ أنَّ موسى عَنيَ بهذا القولِ أحاديثَ ابنِ سيرينَ خاصّةً ، فَقَالَ : كَذَا يجبُ . - قال الخطيبُ - : ويحقّقُ قولَ موسى : ما قال محمدُ بنُ سيرين : كلَّ شيءٍ حدَّثتُ عن أبي هريرةَ ، فهو مرفوعٌ . قلتُ : ووقعَ في الصحيحِ من ذلكَ ما رواهُ البخاريُّ في المناقبِ ، حدّثنا سليمانُ بنُ حربٍ ، حدَّثنا حمّادٌ ، عن أيوبَ ، عن محمدٍ ، عن أبي هريرةَ ، قال : قال : (( أسلمُ وغِفَارُ وشَيءٌ مِنْ مُزَيْنةَ ، … الحديث )) . والحديثُ عند مسلمٍ من روايةِ ابنِ عُلَيَّةَ ، عن أيوبَ مصرحٌ فيه بالرفعِ . وأما الحديثُ الذي رواهُ الخطيبُ فهو عند النسائيِّ في " سننِه الكبرى " من روايةِ ابن عُلَيَّةَ ، عن أيوبَ، عن ابنِ سيرينَ . ومن روايةِ ابنِ عونٍ ، عن ابنِ سيرينَ أيضاً كذلك .
المُرْسَـلُ
120.
مَرْفُوعُ تَابعٍ عَلى المَشهُوْرِ
مُرْسَـلٌ اوْ قَيّـدْهُ بِالكَبِيْرِ
121.
أوْ سَقْطُ رَاوٍ مِنْهُ ذُوْ أقْوَالِ
وَالأوَّلُ الأكْثَرُ في استِعْمَالِ
اختلفَ في حدِّ الحديثِ المرسلِ . فالمشهورُ : أنَّهُ مَا رَفَعهُ التابعيُّ إلى النبيِّ ، سواءٌ كانَ مِنْ كبارِ التابعينَ ، كعُبيدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الخِيَارِ وقيسِ بن أبي حازمٍ ، وسعيدِ بنِ المسِّيبِ ، وأمثالِهم . أو من صغارِ التابعينَ ، كالزهريِّ وأبي حازمٍ ، ويحيى ابنِ سعيدٍ الأنصاريِّ ، وأشباهِهِم .
والقولُ الثاني : أنّهُ ما رفَعهُ التابعيُّ الكبيرُ إلى النبيِّ ، وهذا معنى قولِهِ : ( او قيّدهُ بالكبيرِ ) ، أي : بالكبيرِ من التابعينَ ، فهذه الصورةُ لا خلافَ فيها ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ . أما مراسيلُ صغارِ التابعينَ ، فإنّها لا تسمّى مرسلةً على هذا القولِ ، بل هي منقطعةٌ . هكذا حكاهُ ابنُ عبد البرِّ عن قومٍ من أهلِ الحديثِ ؛ لأنَّ أكثرَ رواياتِهِم عن التابعينَ ولم يلقَوا من الصحابةِ إلا الواحدَ والاثنين. قلتُ: هكذا مَثَّلَ ابنُ الصلاحِ صغارَ التابعينَ بالزهريِّ ومَنْ ذَكَرَ ، وذكرَ في التعليلِ أنَّهم لم يلقَوا من الصحابةِ إلا الواحدَ والاثنينِ ، وليس ذلك بصحيحٍ بالنسبةِ إلى الزهريِّ ، فقد لقي من الصحابةِ اثني عشرَ فأكثرَ ، وهم : عبدُ اللهِ بنُ عمرَ ، وأنسُ بن مالكٍ ، وسهلُ بنُ سعدٍ ، وربيعةُ بنُ عِبادٍ ، وعبدُ اللهِ بنُ جعفرٍ، والسائبُ بنُ يزيدَ، وسُنَيْن أبو جَميلةَ، وعبدُ الله بنُ عامرٍ بنِ ربيعةَ، وأبو الطُّفيلِ، ومحمودُ بنُ الربيعِ، والمِسورُ بنُ مَخْرمة، وعبد الرحمن بنُ أزهر. ولم يسمع من عبدِ الله بنِ جعفر، بل رآه رؤيةً. وقيل: إنّه سمعَ من جابرٍ. وقد سمعَ من محمودِ بنِ لبيدٍ، وعبدِ الله بنِ الحارثِ بنِ نوفلٍ، وثعلبةَ بنِ مالكٍ القرظيِّ. وهم مختلفٌ في صحبتِهم . وأنكرَ أحمدُ ويحيى سماعَهُ من ابنِ عمرَ ، وأثبتَـهُ عليُّ بـنُ المدينيِّ .
القولُ الثالثُ : إنهُ ما سقطَ راوٍ من إسنادِهِ ، فأكثرُ ، من أيِّ موضعٍ كان ، فعلى هذا المرسلُ والمنقطعُ واحدٌ . قالَ ابنُ الصلاحِ : والمعروفُ في الفقهِ وأصولِهِ أنَّ ذلك يُسمّى مرسلاً . وبهِ قطعَ الخطيبُ ، قال الخطيبُ : إلا أنَّ أكثرَ ما يوصفُ بالإرسالِ من حيثُ الاستعمالُ ما رواهُ التابعيُّ عن النبيِّ . وقطعَ الحاكم وغيرُهُ من أهلِ الحديثِ أنَّ الإرسالَ مخصوصٌ بالتابعينَ. وسيجيءُ في فصلِ التدليسِ: أنَّ ابنَ القطّانِ قال: إنَّ الإرسالَ : روايتُهُ عمَّنْ لم يسمع منه .
فعلى هذا مَنْ رَوَى عمَّنْ سمعَ منه ما لم يسمعْهُ منه ، بل بينَه وبينَه فيه واسطةٌ ، ليس بإرسالٍ ، بل هو تدليسٌ ، وعلى هذا فيكونُ هذا قولاً رابعاً في حَدِّ المرسلِ .
122.
وَاحتَجَّ (مَاِلِكٌ) كَذا (النُّعْمَانُ)
وَتَابِعُوْهُمَا بِهِ وَدَانُوْا
123.
وَرَدَّهُ جَمَاهِرُ النُّقَّادِ ؛
لِلجَهْلِ بِالسَّاقِطِ في الإسْنَادِ
124.
وَصَاحِبُ التَّمهيدِ عَنهُمْ نَقَلَهْ
وَ(مُسْلِمٌ) صَدْرَ الكِتَابِ أصَّلَهْ
اختلفَ العلماءُ في الاحتجاجِ بالمرسلِ ، فذهبَ مالكُ بنُ أنسٍ وأبو حنيفةَ
النعمانُ بنُ ثابتٍ وأتباعُهُما في طائفةٍ إلى الاحتجاج به .
فقولُهُ: ( وتابعُوهما ) أي : التابعونَ لهما. ( ودانوا ) أي: جعلَوهُ دِيناً يدينونَ به ، وذهب أكثرُ أهلِ الحديثِ إلى أنَّ المرسلَ ضعيفٌ لا يحتجُّ به . وحكاه ابنُ عبد البرِّ في مقدّمة " التمهيد " عن جماعةٍ من أصحابِ الحديثِ . وقال مسلمٌ في صَدْرِ كتابهِ " الصحيحِ " : (( المرسلُ في أصلِ قولِنا ، وقولِ أهل العلمِ بالأخبارِ ليس بحُجَّةٍ )) . هكذا أطلقَ ابنُ الصلاحِ نَقْلَهُ عن مسلمٍ . ومسلمٌ إنّما ذكرَهُ في أثناءِ كلامِ خَصْمِهِ الذي رَدَّ عليهِ اشتراطَ ثبوتِ اللقاءِ ، فقال : (( فإنْ قال : قُلْتُهُ لأنِّي وَجَدْتُ رواةَ الأخبارِ قديماً وحديثاً يَروي أحدُهُم عن الآخر الحديثَ ، ولمّا يُعاينْهُ ، وما سَمِعَ منه شيئاً قَطُّ ، فلمّا رأيتُهُم استجازُوا روايةَ الحديثِ بَينهُم هكذا على الإرسالِ مِنْ غَيْرِ سماعٍ – والمرسلُ من الرواياتِ في أصلِ قولِنا ، وقولِ أهلِ العلمِ بالأخبارِ ، ليس بحجّةٍ – احتجتُ لما وصفْتُ من العلّةِ إلى البحث عن سماعِ راوي كُلِّ خبرٍ عن راويه، إلى آخر كلامهِ )). فهذا كما تراهُ حكاهُ على لسانِ خَصْمِهِ ، ولكنَّهُ لمّا لم يرد هذا القدرَ منه حين رَدَّ كلامَهُ ، كان كأنَّهُ قائلٌ به ، فلهذا نسبَهُ ابنُ الصلاحِ إليه .
وقولُهُ : ( للجهلِ بالساقطِ ) ، هو تعليلٌ لردِّ المرسلِ ، وذلك أنهُ تقدّمَ أنَّ مِن شرطِ الحديثِ الصحيحِ ثقةَ رجالِهِ . والمرسلُ سقطَ منه رجلٌ لا نعلَمُ حالَه . فعدمُ معرفةِ عدالةِ بعض رواتِهِ ، وإنِ اتفقَ أنَّ الذي أرسلَهُ كان لا يَروي إلا عن ثقةٍ ، فالتوثيقُ في الرجلِ المبهمِ غيرُ كافٍ ، كما سيأتي إن شاءَ اللهُ تعالى .
125.
لَكِنْ إذا صَحَّ لَنَا مَخْرَجُهُ
بمُسْنَدٍ أو مُرْسَلٍ يُخْرِجُهُ
126.
مَنْ لَيْسَ يَرْوِي عَنْ رِجَالِ الأوَّلِ
نَقْبَلْهُ ، قُلْتُ : الشَّيْخُ لَمْ يُفَصِّلِ
127.
و ( الشَّافِعِيُّ ) بِالكِبَارِ قَيَّدَا
وَمَنْ رَوَى عَنِ الثِّقاتِ أبَدَا
128.
وَمَنْ إذا شَارَكَ أهْلَ الحِفْظِ
وَافَقَهُمْ إلاّ بِنَقْصِ لَفْظِ
هذا استدراكٌ ؛ لكونِ المرسلِ يُحتجُّ به إذا أُسندَ من وجهٍ آخرَ ، أو أرسلَهُ مَنْ أخذَ العلمَ عن غيرِ رجالِ المُرسِلِ الأولِ .
وقولُهُ : ( نقبلْهُ ) ، هو مجزومٌ جوابٌ للشرطِ على مذهبِ الكوفيينَ والأخفشِ كقولِ الشاعرِ :
وإذَا تُصِبْكَ مُصِيْبَةٌ فاصبـرْ لَهَاْ
وإذا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فتجَمَّلِ
وقولُهُ : ( قلتُ الشيخُ ) ، إلى آخر الأبياتِ الأربعةِ ، من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ ، وهو اعتراضٌ عليهِ في حكايتِهِ لكلامِ الشافعيِّ . قالَ ابنُ الصَّلاحِ : اعلم أنَّ حكمَ المرسَلِ حكمُ الحديثِ الضعيفِ ، إلاّ أنْ يصحَّ مخرجُهُ بمجيِئهِ من وجهٍ آخرَ، كما سبق بيانُهُ في نوعِ الحسن ، والذي ذكرَ أنَّهُ سبقَ أنّه حكى هناكَ نصَّ الشافعيِّ في مراسيلِ التابعينَ أنّهُ يُقْبَلُ منها المرسلُ الذي جاءَ نحوَهُ مسنداً، وكذلك لو وافقَهُ مرسلٌ آخرُ أرسلَهُ مَنْ أخذَ العلمَ عن غيرِ رجالِ التابعيِّ الأولِ . في كلامٍ لهُ ذكرَ فيه وجوهاً من الاستدلالِ على صحةِ مخرجِ المرسلِ بمجيئِهِ من وجهِ آخرَ . انتهى كلامُ ابنِ الصلاحِ .
ووجهُ الاعتراضِ عليه أنَّهُ أطلقَ القولَ عن الشافعيِّ بأنَّهُ يقبلُ مطلقَ المرسلِ إذا تأكَّدَ بما ذكرَهُ الشافعيُّ . والشافعيُّ إنّما يقبلُ مراسيلَ كِبارِ التابعينَ ، إذا تأكدتْ مع وجودِ الشرطينِ المذكورينِ في كَلامي ، كما نصَّ عليه في كتابِ " الرسالة " . وممَّنْ روى كلامَ الشافعيِّ كذلك أبو بكرٍ الخطيبُ في " الكفاية " ، وأبو بكرِ البيهقيُّ في "المدخلِ" بإسنادَيهما الصحيحينِ إليه ، أنّهُ قالَ : (( والمنقطعُ مختلِفٌ . فمَنْ شاهدَ أصحابَ رسولِ الله مِن التابعينَ فحدَّثَ حديثاً منقطعاً عن النبيِّ اعتُبِرَ عليه بأمُورٍ ، منها : أنْ يُنظرَ إلى ما أرسلَ من الحديثِ . فإنْ شَرِكَهُ فيه الحفّاظُ المأمونونَ فأسندوهُ إلى رسولِ اللهِ ، بمثلِ معنى ما روي ؛ كانت هذهِ دلالةً على صحةِ ما قَبِلَ عنه وحفْظَهُ . وإنِ انفردَ بإرسالِ حديثٍ لم يَشْرَكْهُ فيه مَنْ يُسنِدُهُ قُبِلَ ما يَنفردُ به من ذلك . ويُعتبرُ عليه بأنْ يُنظرَ : هل يوافقُهُ مُرْسِلٌ غيرُهُ ممَّنْ قَبِلَ العلم من غيرِ رجالِهِ الذينَ
قَبلَ عنهم ؟ فإنْ وُجِدَ ذلك كانت دلالةً تُقَوِّي له مرسله، وهي أضعفُ من الأُولى ، وإنْ لم يُوجدْ ذلك نظَرَ إلى بعضِ ما يروى عن بعضِ أصحابِ النبيِّ قولاً له ، فإنْ وجدَ ما يوافقُ ما روى عن رسولِ الله كانتْ في هذا دلالةٌ على أنَّهُ لم يأخذْ مرسلَهُ إلا عن أصلٍ يصحُّ إن شاء اللهُ تعالى ، وكذلك إنْ وُجدَ عوامُّ مِنْ أهلِ العلمِ يُفْتُونَ بمثلِ معنى ما روي عن رسول اللهِ ، ثم يُعتبرُ عليهِ بأنْ يكونَ إذا سَمَّى مَنْ رَوَى عنهُ لم يُسَمِّ مجهولاً ، ولا مرغوباً عن الروايةِ عنه ، فيُستدلُّ بذلك على صحتِهِ فيما رَوَى عنه . ويكونُ إذا شَرِكَ أحداً من الحفّاظِ في حديثِهِ لم يخالفْهُ ، فإن خالفَهُ بأنْ وُجدَ حديثُهُ أنقصَ ، كانت في هذهِ دلائلُ على صحةِ مَخْرَجِ حديثِهِ ومتى خالفَ ما وصفتُ أضَرَّ بحديثِهِ ، حتى لا يَسَعَ أحداً قبولُ مُرسَلِهِ . قال : وإذا وُجدتِ الدلائلُ بصحةِ حديثهِ بما وصفتُ أحببنا أنْ نقبلَ مرسلَهُ . ثم قال : فأمّا مَنْ بعدَ كبارِ التابعينَ ، فلا أعلمُ واحداً يُقْبَلُ مرسَلُهُ لأمورٍ: أحدُها: أنَّهُم أشدُّ تَجَوُّزاً فيمَنْ يَروُوْنَ عنه. والآخَرُ: أنّهمُ وجدَ عليهم الدلائلُ فيما أرسلوا لضَعْفِ مَخْرَجِهِ . والآخَرُ : كثرةُ الإحالةِ في الأخبارِ . وإذا كثرتِ الإحالةُ كانَ أمْكَنَ للوهمِ وضَعْفِ مَن يُقبلُ عنه . قال البيهقيُّ : وقولُ الشافعيِّ : أحببنَا أن نقبلَ مرسلَهُ . أرادَ به : اخترنا . انتهى .
فقولي : ( وَمَنْ رَوى عَن الثقاتِ أبداً ) أي : إذا أرسلَ وسمَّى مَنْ أرسَلَ عنه لم يسمِّ إلا ثقةً ، فيكونُ المرادُ : ومَنْ رَوَى ما أرْسَلَهُ عنِ الثقاتِ . ويحتملُ : ومَنْ رَوَى مطلقاً عن الثقاتِ المراسيلَ وغيرَها . وعبارة الشافعيِّ محتمِلَةٌ للأمْرَيْنِ فليحملِ النَّظْمُ على أرجحِ محملَيْ كلامِ الشافعيِّ .
129.
فَإنْ يُقَلْ : فَالمُسْنَدُ المُعْتَمَدُ
فَقُلْ : دَلِيْلانِ بِهِ يَعْتَضِدُ
أي : فإنْ قيلَ: قولُكم يُقبلُ المرسلُ إذا جاءَ مسنداً مِنْ وجهٍ آخرَ ، لا حاجةَ حينئذٍ إلى المرسلِ ، بلِ الاعتمادُ حينئذٍ على الحديثِ المُسنَدِ . والجوابُ أنَّهُ بالمسنَدِ تبيَّنَا صحةَ المرسلِ ، وصارا دليلينِ يُرَجَّحُ بهما عندَ معارضةِ دليلِ واحد .
فقولُهُ : به ، أي : بالمُسنَدِ يعتضدُ المرسلُ .
130.
وَرَسَمُوا مُنْقَطِعَاً(عَنْ رَجُلِ)
وَفي الأصُوْلِ نَعْتُهُ : بِالمُرْسَلِ
أي : إذا قيلَ في إسنادٍ : عن رجلٍ ، أو عن شيخٍ ، ونحو ذلك . فقالَ الحاكمُ : لا يُسَمَّى مرسلاً ، بل منقطعاً . وكـذا قالَ ابنُ القطّانِ في كتابِ " بيانِ الوهمِ والإيهامِ " : إنَّهُ منقطعٌ . وفي " البرهان " لإمامِ الحرمينِ قَالَ : وقولُ الرَّاوِي : أَخْبَرَنِي رجلٌ ، أو عدلٌ موثوقٌ بِهِ ، من المرسلِ أيضاً . قَالَ : وَكَذَلِكَ كُتُبُ رَسُوْل الله r التي لم يُسَمَّ حاملُها . وفي "المحصول" : أنَّ الراوي إذا سمّى الأصلَ باسمٍ لا يُعرفُ به ، فهو كالمرسلِ . قلتُ : وفي كلامِ غيرِ واحدٍ من أهلِ الحديثِ ، أنَّهُ متّصلٌ في إسنادِهِ مجهولٌ . وحكاهُ الرشيدُ العَطَّارُ في " الغُررِ المجموعةِ " عن الأكثرينَ ، واختارَهُ شيخُنا الحافظُ أبو سعيدٍ العلائيُّ في كتابِ " جامعِ التحصيلِ " .
131.
أمَّا الَّذِي أرْسَلَهُ الصَّحَابِيْ
فَحُكمُهُ الوَصْلُ عَلى الصَّوَابِ
أي : أمّا مراسيلُ الصحابةِ فحكمُها حكمُ الموصولِ . قالَ ابنُ الصلاحِ : ثم إنا لم نعدَّ في أنواعِ المرسلِ ، ونحوِه ، ما يسمَّى في أُصولِ الفِقهِ : مرسلُ الصحابيِّ . مثلُ ما يرويه ابنُ عبّاسٍ ، وغيرُهُ من أحداث الصحابةِ عن رسولِ اللهِ ، ولم يسمعُوْهُ منه ، لأنَّ ذلك في حُكمِ الموصولِ المسنَدِ ؛ لأنَّ روايتَهُم عن الصحابةِ ، والجهالةُ بالصحابيِّ غيرُ قادحةٍ ؛ لأنَّ الصحابةَ كلَّهُم عدولٌ . قلتُ : قولُهُ : لأنَّ روايَتَهم عن الصحابةِ ، فيه نظرٌ . والصوابُ أنْ يُقَالَ : لأنَّ غالبَ روايتِهِم ، إذ قد سمعَ جماعةٌ من الصحابةِ من بعض التابعينَ . وسيأتي في كلامِ ابنِ الصلاحِ في روايةِ الأكابرِ عن الأصاغر ، أنَّ ابنَ عباسٍ ، وبقيّةَ العبادلةِ رَوَوْا عن كعبِ الأحبار ، وهو من التابعينَ ، وروى كعبٌ أيضاً عن التابعينَ ، ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ خلافاً في مُرْسَلِ الصحابيِّ ، وفي بعضِ كُتُبِ الأصولِ للحنفيَّةِ أنَّهُ لا خلافَ في الاحتجاجِ به ، وليسَ بجيِّدٍ .
فقد قال الأستاذُ أبو إسحاق الاسفراينيُّ : إنَّهُ لا يحتجُّ به ، والصوابُ
ما تقدّم . المُنْقَطِعُ و المُعْضَلُ
132.
وَسَمِّ بِالمُنْقَطِعِ : الَّذِي سَقَطْ
قَبْلَ الصَّحَابيِّ بِـهِ رَاوٍ فَقَطْ
133.
وَقِيْلَ : مَا لَمْ يَتَّصِلْ ، وَقَالا:
بِأنَّهُ الأقْرَبُ لا اسـتِعمَالا
134.
وَالمُعْضَلُ : السَّاقِطُ مِنْهُ اثْنَانِ
فَصَاعِداً ، وَمِنْهُ قِسْـمٌ ثَانِ
135.
حَذْفُ النَّبِيِّ وَالصَّحَابِيِّ مَعَا
وَوَقْفُ مَتْنِـهِ عَلَى مَنْ تَبِعَا
اختُلِفَ في صورةِ الحديثِ المنقطعِ . فالمشهورُ : أنّهُ ما سقطَ من رواتِهِ راوٍ واحدٌ غيرُ الصحابيِّ . وحكى ابنُ الصلاحِ عن الحاكمِ وغيرِهِ من أهلِ الحديثِ : أنَّهُ ما سقطَ منه قبلَ الوصولِ إلى التابعيِّ شخصٌ واحدٌ ، وإن كان أكثر من واحدٍ سمّي : معضلاً . ويسمّى أيضاً : منقطعاً .
فقولُ الحاكمِ : قبلَ الوصولِ إلى التابعيِّ ، ليس بجيّدٍ . فإنَّهُ لو سقط التابعيُّ كان منقطعاً أيضاً ، فالأولى أنْ يعبرَ بما قلناهُ : قبل الصحابيِّ . وقالَ ابنُ عبد البرِّ : المنقطعُ ما لم يتصلْ إسنادُهُ ، والمرسلُ مخصوصٌ بالتابعينَ . فالمنقطعُ أعمُّ . وحكى ابنُ الصلاحِ عن بعضِهِم أنَّ المنقطعَ مثلُ المرسلِ ، وكلاهما شاملٌ لكلِّ ما لا يتصلُ إسنادُه. - قال - : وهذا المذهبُ أقربُ ، صارَ إليه طوائفُ من الفقهاءِ وغيرِهم . وهو الذي ذكرَهُ الخطيبُ في " كفَايَتِهِ " إلا أنَّ أكثرَ ما يوصفُ بالإرسالِ من حيثُ الاستعمالُ ما رواهُ التابعيُّ عن النبيِّ ، وأكثرُ ما يوصفُ بالانقطاعِ ما رواهُ مَنْ دون التابعينَ عن الصحابةِ. مثلُ : مالكٍ ، عن ابنِ عمر ، ونحوِ ذلك . انتهى .
والمعضلُ : ما سقطَ من إسنادِه اثنان فصاعداً من أي موضعٍ كان . سواءٌ سقطَ الصحابيُّ والتابعيُّ ، أو التابعيُّ وتابعُهُ ، أو اثنانِ قبلَهُما ، لكن بشرطِ أنْ يكونَ سقوطُهُما من موضعٍ واحدٍ . أمّا إذا سقطَ واحدٌ من بين رجلين ، ثم سقطَ من موضعٍ آخرَ من الإسنادِ واحدٌ آخرُ فهو منقطعٌ في موضعينِ . ولم أجدْ في كلامِهم إطلاقَ المعضلِ عليه ، وإنْ كان ابنُ الصلاحِ أطلقَ عليه سقوطَ اثنينِ فصاعداً ، فهو محمولٌ على هذا . وأما اشتقاقُ لفظهِ ، فقالَ ابنُ الصلاحِ : أهلُ الحديثِ يقولون : أعضَلَهُ فهو مُعْضَلٌ – بفتح الضّادِ - ، وهو اصطلاحٌ مُشِكلُ المأخَذِ من حيث اللغةُ،وبحثتُ فوَجَدْتُ له قولَهُمْ: أمرٌ عَضِيْلٌ، أيْ: مستغلقٌ شديدٌ. ولا التفاتَ في ذلك إلى مُعْضِلٍ -بكسرِ الضادِ- وإنْ كانَ مثلَ عَضِيلٍ في المعنى . ومَثَّلَ أبو نصرٍ السِّـجزِيُّ المعضَلَ بقولِ مالكٍ: بَلَغني عـن أبي هريرةَ أنَّ رسولَ اللهِ ، قال: ((للمملوكِ طعامُهُ وكِسْوتُهُ،…الحديث )) .
وقالَ أصحابُ الحديثِ يسمُّونَه المعضلَ . قال ابنُ الصلاحِ : وقولُ المُصَنِّفِين : قال رسولُ اللهِ كذا ، من قَبيلِ المعضَلِ .
وقولُهُ : ( ومنه قسمٌ ثانٍ ) ، أي: ومن المعضَلِ قسمٌ ثانٍ ، وهو أنْ يروِيَ تابعُ التابعيِّ عن التابعيِّ حديثاً موقوفاً عليه ، وهو حديثٌ متّصلٌ مسندٌ إلى رسولِ اللهِ ، كما روى الأعمشُ عن الشَّعبيِّ ، قال: يُقالُ للرجلِ في القيامةِ عَمِلْتَ كذا وكذا ، فيقولُ ما عَمِلتُهُ . فيُخْتَمُ على فِيْهِ ، الحديثَ . فقد جعلَهُ الحاكمُ نوعاً من المعضَلِ ، أعضَلَهُ الأعمشُ ، ووصَلَهُ فُضَيلُ بنُ عمرٍو ، عن الشعبيِّ ، عن أنسٍ ، قال : كنا عند
النبيِّ فضَحِكَ . فقال : هل تَدرُونَ مِمَّ أضحَكُ ؟ قلنا : اللهُ ورسولُهُ أعلمُ ، فقال : من مخاطبةِ العبدِ ربَّهُ ، يقولُ : يا ربِّ ! ألم تُجِرْنِي من الظُّلمِ ؟ فيقولُ: بَلَى. وذكرَ الحديثَ . رواه مسلمٌ . قالَ ابنُ الصلاحِ : هذا جيّدٌ حسنٌ ؛ لأنَّ هذا الانقطاعَ بواحدٍ مضموماً إلى الوقفِ يشْتَمِلُ على الانقطاعِ باثنينِ : الصحابيِّ ، ورسولِ اللهِ فذلك باستحقاقِ اسمِ الإعضالِ أولَى .
العَنْعَنَةُ
136.
وَصَحَّحُوا وَصْلَ مُعَنْعَنٍ سَلِمْ
مِنْ دُلْسَةٍ رَاويْهِ ، والِلِّقَا عُلِمْ
137.
وَبَعْضُهُمْ حَكَى بِذَا إجمَاعَا
و( مُسْلِمٌ ) لَمْ يَشْرِطِ اجتِمَاعَا
138.
لكِنْ تَعَاصُرَاً ، وَقِيلَ : يُشْتَرَطْ
طُوْلُ صَحَابَةٍ ، وَبَعْضُهُمْ شَرَطْ
139.
مَعْرِفَةَ الرَّاوِي بِالاخْذِ عَنْهُ ،
وَقيْلَ : كُلُّ مَا أَتَانَا مِنْهُ
140.
مُنْقَطِعٌ ، حَتَّى يَبِينَ الوَصْلُ،
وَحُكْمُ ( أَنَّ ) حُكمُ ( عَنْ ) فَالجُلُّ
141.
سَوَّوْا،وَللقَطْعِ نَحَا (البَرْدِيْجِيْ)
حَتَّى يَبِينَ الوَصْلُ في التَّخْرِيجِ
العَنْعَنةُ : مصدرُ عنعنَ الحديثَ ، إذا رواه بلفظِ : عَنْ ، مِنْ غيرِ بيانٍ للتحديثِ ، والإخبارِ ، والسماعِ .
واختلفوا في حكمِ الإسنادِ المعنعنِ ، فالصحيحُ الذي عليهِ العملُ ، وذهبَ إليهِ الجماهيرُ من أئمة الحديثِ وغيرِهم ، أنَّهُ من قبيلِ الإسنادِ المتصلِ بشرطِ سلامةِ الراوي الذي رواهُ بالعنعنةِ من التدليسِ . وبشرطِ ثبوتِ ملاقاتِهِ لمَنْ رواهُ عنه بالعنعنةِ . قالَ ابنُ الصلاحِ : (( وكادَ ابنُ عبد البرِّ يَدَّعي إجماعَ أئمةِ الحديثِ على ذلك )) . قلتُ : لا حاجةَ لقولِهِ : كاد ، فقد ادّعاهُ . وادّعى أبو عَمْرو الدانيُّ إجماعَ أهلِ النقلِ على ذلكَ ، لكنَّهُ اشترطَ أنْ يكونَ معروفاً بالروايةِ عنه ، كما سيأتي في موضعه . لكن قد يظهرُ عدمُ اتّصالِهِ بوجهٍ آخرَ ، كما في الإرسالِ الخفيِّ ، على ما سيأتي في موضعِهِ ، وما ذكرناهُ من اشتراطِ ثبوتِ اللقاءِ هو مذهبُ عليِّ بنِ المدينيِّ ، والبخاريِّ وغيرِهما من أئمة هذا العلمِ .
وأنكرَ مسلمٌ في خُطبةِ صحيحِهِ اشتراطَ ذلك ، وادّعى أنَّهُ قولٌ مخترعٌ لم يسبقْ قائِلُه إليهِ ، وإنَّ القولَ الشائعَ المتفقَ عليهِ بين أهلِ العلمِ بالأخبارِ قديماً وحديثاً أنّهُ يكفي في ذلك أنْ يثبتَ كونُهُما في عصرٍ واحدٍ، وإنْ لم يأتِ في خبرٍ قطُّ أنّهما اجتمَعا أو تشافها. قال ابنُ الصلاحِ : (( وفيما قالَهُ مسلمٌ نظرٌ . – قال - : وهذا الحكمُ لا أراهُ يَستمرُّ بعدَ المتقدّمينَ فيما وُجِدَ من المصنّفينِ في تصانيفهم مما ذكروهُ عن مشايخهِم قائلين فيه : ذكرَ فلانٌ ، قال فلانٌ ، ونحو ذلك . أي : فليسَ له حكمُ الاتصالِ ، إلا إنْ كان له من شيخِهِ إجازةٌ على ما سيأتي في آخر هذا البابِ .
ولم يكتفِ أبو المظفرِ السمعانيُّ بثبوتِ اللقاءِ ، بل اشترطَ طولَ الصُّحبةِ بينهما . واشترطَ أبو عمرو الدانيُّ أنْ يكونَ معروفاً بالروايةِ عنه.واشترط أبو الحسنِ القابسيُّ أنْ يُدْرِكَهُ إدراكاً بَيِّنَاً . وهذا داخلٌ فيما تقدّمَ من الشروطِ ، وبيانُ الإدراكِ لابدَّ منه . وذهبَ بعضُهم إلى أنَّ الإسنادَ المعنعنَ من قبيلِ المرسلِ والمنقطعِ،حتى يتبينَ اتصالُهُ بغيرهِ، وهذا المرادُ بقولِهِ : ( وقيل كلُّ ما أتانا منه منقطع )، إلى آخرهِ .
وقولُهُ : ( وحكمُ أنَّ ، حكمُ عَنْ ، فالجلُّ سَوَّوا ) أي : ذهبَ جمهورُ أهلِ العلمِ إلى التسويةِ بين الروايةِ المعنعنةِ ، وبين الروايةِ بلفظِ : أنَّ فلاناً قالَ . وهو قولُ مالكٍ وممنْ حكاهُ عن الجمهورِ ابنُ عبد البرِّ في " التمهيدِ " . وأنَّهُ لا اعتبارَ بالحروفِ والألفاظِ ، وإنّما هو باللقاءِ والمجالسةِ والسماعِ والمشاهدةِ يعني : مع السلامةِ من التدليسِ . ثم حكى ابنُ عبد البرِّ عن أبي بكرٍ البرديجيِّ أنَّ حرف ( أنَّ ) محمولٌ على الانقطاعِ حتى يتبينَ السماعُ في ذلك الخبرِ بعينِهِ من جهةٍ أخرى . قال : وعندِي لا معنى لهذا ، لإجماعِهم على أنَّ الإسنادَ المتصلَ بالصحابيِّ ، سواءٌ قال فيه : قال ، أو أنَّ ، أو عَنْ ، أو سمعتُ رسول الله ، يعني فكلُّهُ متصِلٌ .
142 .
قَالَ : وَمِثْلَـهُ رَأى (ابْنُ شَيْبَةْ)
كَـذا لَهُ ، وَلَمْ يُصَـوِّبْ صَوْبَـهْ
143 .
قُلتُ:الصَّوَابُ أنَّ مَنْ أدْرَك مَا
رَوَاهُ بالشَّــرْطِ الَّـذي تَقَدَّمَـا
144 .
يُحْكَمْ لَهُ بالوَصْلِ كَيفَمَا رَوَى
بـ(قَالَ) أو (عَنْ) أو بـ(أنَّ) فَسَوَا
145 .
وَمَا حَكَى عَنْ (أحمَدَ بنِ حنبلٍ)
وَقَـولِ (يَعْقُوبٍ) عَلَـى ذا نَـزِّلِ
فاعلُ (( قالَ )) هو : ابنُ الصلاحِ ، فقال : ووجدْتُ مثلَ ما حكاهُ عن البَرْديجي للحافظِ الفَحْلِ يعقوبَ بنِ شيبةَ في مسندِهِ الفحلِ ، قال : فإنّهُ ذكرَ ما رواهُ أبو الزبيرِ ، عن محمدِ ابن الحنفيةِ ، عن عمّارٍ ، قال : أتيتُ النبيَّ ، وهو يُصلِّي فسلمتُ عليه ، فردَّ عليَّ السلامَ . وجعلَهُ مسنداً موصولاً . وذكرَ روايةَ قيسِ بنِ سعدٍ ، كذلك عن عطاءِ بنِ أبي رباحٍ ، عن ابنِ الحنفيةَ : أنَّ عمّاراً مَرَّ بالنبيِّ ، وهو يصلّي فجعله مرسلاً من حيثُ كونُهُ قالَ : إنَّ عمّاراً فعلَ ، ولم يقلْ : عن عمّارٍ ، واللهُ أعلم . انتهى كلامُ ابنِ الصلاحِ . ولم يقع على مقصودِ يعقوبَ بنِ شيبةَ ، وهو المرادُ بقولِهِ : ( كذا له ) أي : لابن الصلاحِ . ( ولم يُصَوِّبْ صوبَهُ ) أي : ولم يعرجْ صوبَ مقصدِهِ ، وبيانُ ذلك أنَّ ما فعلَهُ يعقوبُ هو صوابٌ من العملِ ، وهو الذي عليه عملُ الناسِ ، وهو لم يجعلْهُ مرسلاً من حيثُ لفظُ : أنَّ ، وإنّما جعلَهُ مرسلاً من حيثُ أنّهُ لم يُسنِدْ حكايةَ القصةِ إلى عمّارٍ ، وإلا فلو قالَ : إنَّ عمّاراً قال : مررتُ بالنبيِّ ، لما جعلَهُ مرسلاً ، فلما أتى به بلفظِ : أنَّ عماراً مرَّ ، كانَ محمدُ بنُ الحنفيةِ هو الحاكي لقصّةٍ لم يُدركْهَا ؛ لأنَّهُ لَمْ يُدرِكْ مرورَ عمارٍ بالنبيِّ ، فكانَ نَقْلُهُ لِذَلِكَ مرسلاً . ثُمَّ بينتُ ذَلِكَ بقاعدةٍ يُعرفُ بِهَا المتصلُ من المرسلِ بقولي : ( قلتُ ) ، وهو من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ ، إلا حكايةَ كلامِ أحمدَ ويعقوبَ . وتقريرُ هذهِ القاعدةِ : أنَّ الراوي إذا رَوَى حديثاً فيه قِصّةٌ، أو واقعةٌ، فإن كان أدركَ ما رواهُ ، بأنْحكى قصةً وقعت بين النبيِّ وبينَ بعضِ الصحابةِ ، والراوي لذلك صحابيٌّ أدركَ تلك الواقعةَ ، فهي محكومٌ لها بالاتصالِ ، وإنْ لم يُعلَمْ أنّهُ شاهدَها وإنْ لم يدركْ تلك الواقعةَ ، فهو مرسلُ صحابيٍّ . وإن كان الراوي تابعياً، فهو منقطعٌ ، وإن روى التابعيُّ عن الصحابيِّ قِصَّةً أدركَ وُقوعَها، كان متّصلاً ، وإن لم يدركْ وُقوعَها ، وأسندَها إلى الصحابيِّ كانت متّصلةً . وإنْ لم يدركْهَا ، ولا أسندَ حكايتَها إلى الصحابيِّ فهي منقطعةٌ كروايةِ ابنِ الحنفيةِ الثانيةِ ، عن عمّارٍ . ولابُدَّ من اعتبارِ السلامةِ من التدليسِ في التابعينَ ، ومَنْ بعدَهم .
وقد حكى أبو عبدِ اللهِ بنُ الموَّاقِ اتفاقَ أهلِ التمييزِ من أهلِ الحديثِ على ذلك في كتابه " بُغية النُّقاد " عند ذكرِ حديث عبدِ الرحمنِ بنِ طَرفةَ أنَّ جدَّهُ عَرْفجةَ قُطِعَ أنفُهُ يومَ الكلابِ ، … الحديث . فقال : الحديثُ عندَ أبي داودَ مرسلٌ . وقد نبّهَ ابنُ السَّكَنِ على إرسالِه فقال : فذكرَ الحديثَ مرسلاً . قال ابنُ الموَّاقِ : وهو أمرٌ بَيِّنٌ لا خلافَ بين أهل التمييزِ من أهلِ هذا الشأنِ في انقطاعِ ما يُرْوَى كذلك ، إذا عُلمَ أنَّ الراويَ لم يدركْ زمانَ القِصَّةِ كما في هذا الحديثِ .
وقولُهُ : ( فسَوَا ) ، هو ممدودٌ قُصِرَ لضرورةِ الشعرِ .
وقولُهُ : ( وما حكى ) ، أي : ابنُ الصلاح عن أحمدَ بنِ حنبلٍ ، فإنّهُ حكى قبلَ هذا عن أحمدَ أنَّ : عَنْ فلانٍ ، وأنَّ فلاناً ليسا سواءً .
( وقولِ يعقوبٍ ) ، هو مجرورٌ بالعطفِ ، ويعقوبَ : هو ابنُ شيبةَ. ( على ذا نَزّلْ ) أي : نزلْهُ على هذهِ القاعدةِ . أما كلامُ يعقوبَ فقد تقدمَ تنـزيلُهُ عَلَيْهِ . وأما كلامُ أحمدَ فإنَّ الخطيبَ رَوَاهُ في " الكفاية " بإسنادِهِ إِلَى أبي داودَ قَالَ : سمعتُ أحمدَ قيلَ لَهُ : إنَّ رجلاً قَالَ عروةَ : أنَّ عائشةَ قالت : يا رسولَ اللهِ ، وعن عروةَ عن عائشةَ سواءٌ ؟ قال : كيفَ هذا سواءٌ ، ليس هذا بسواءٍ . فإنَّما فرّقَ أحمدُ بين اللفظينِ ؛ لأنَّ عروةَ في اللفظِ الأولِ لم يُسنِدْ ذلك إلى عائشةَ ، ولا أدرك القِصَّةَ فكانتْ مرسلةً . وأمَّا اللفظُ الثاني فأسْنَدَ ذلك إليها بالعنعنةِ ، فكانت متصلةً .
146 .
وَكَثُرَ استِعْمَالُ (عَنْ) في ذَا الزَّمَنْ
إجَازَةً وَهْـوَ بِوَصْلٍ مَـا قَمَنْ
ما تقدّم ذكرُهُ من أَنَّ (( عَنْ )) محمولةٌ على السماعِ ، هو في الزَّمَنِ المتقدّمِ . وأمّا في هذه الأزمانِ ، فقال : ابنُ الصلاحِ : كَثُرَ في عَصرنا وما قاربَهُ بين المنتسبينَ إلى الحديثِ استعمالُ (( عَنْ )) في الإجازةِ فإذا قال أحدُهُم: قرأتُ على فلانٍ ، عن فلانٍ ، أو نحو ذلك . فَظُنَّ بهِ أنَّهُ رواهُ عنهُ بالإجازة قال : ولا يُخْرِجُه ذلك من قَبيلِ الاتصالِ على ما لا يخفى . وهذا معنى قولي: ( وهو بوصلٍ ما قَمَنْ ) ، أي: بنوعٍ من الوصلِ ؛ لأنَّ الإجازةَ لها حكمُ الاتصالِ لا القطعِ. وقَمَنْ : بفتحِ الميمِ لمناسبةِ ما قبَلَهُ، وفي الميمِ لغتان : الفتحُ ، والكسرُ . ومَعناهُ حَقِيقٌ بذلك وجَدِيرٌ به .
تَعَاْرُضُ الْوَصْلِ والإرْسَاْلِ
أوِ الرَّفْـعِ وَالْـوَقْفِ
147.
وَاحْكُمْ لِوَصْلِ ثِقَةٍ في الأظْهَرِ
وَقِيْلَ : بَلْ إرْسَالُهُ لِلأكْثَرِ
148.
وَنَسبَ الأوَّلَ لِلْنُّظَّارِ
أنْ صَحَّحُوْهُ ، وَقَضَى (البُخَارِيْ)
149.
بِوَصْلِ (( لاَ نِكَاحَ إلاَّ بِوَلِيْ ))
مَـعْ كَوْنِ مَنْ أَرْسَلَهُ كَالْجَبَلِ
150.
وَقِيْلَ الاكْثَرُ ، وَقِيْلَ : الاحْفَظُ
ثُمَّ فَمَا إرْسَالُ عَدْلٍ يَحْفَظُ
151.
يَقْدَحُ فِي أَهْليَّةِ الوَاصِلِ ، أوْ
مُسْنَدِهِ عَلَى الأَصَحِّ ، وَرَأَوْا
152.
أَنَّ الأصَحَّ : الْحُكْمُ لِلرَّفْعِ وَلَوْ
مِنْ وَاحِدٍ في ذَا وَذَا ،كَما حَكَوْا
إذا اختلفَ الثقاتُ في حديثٍ ، فرواهُ بعضُهم متّصلاً ، وبعضُهم مرسلاً . فاختلفَ أهلُ الحديثِ فيهِ هلِ الحكمُ لمَنْ وصلَ ، أو لمَنْ أرسلَ ، أو للأكثرِ ، أو للأحفظِ ؟ على أربعةِ أقوالٍ :
أحدُها : أنَّ الحكمَ لَمنْ وصلَ ، وهو الأظهرُ الصحيحُ . كما صحّحَهُ
الخطيبُ. وقال ابنُ الصلاحِ : إنّهُ الصحيحُ في الفقِهِ وأصولِهِ . وهذا معنى قولِهِ: ( ونَسَبَ ) أي : ابنُ الصلاحِ الأولَ للنُّظّارِ أنْ صحّحوه ، فالنُّظارُ هم أهلُ الفقهِ والأصولِ . وأنْ هنا مصدريةٌ ، أي : تصحيحَهُ . وهو بدلٌ من قولِهِ : ( الأول ) أي: ونَسَبَ تصحيحَ الأولِ للنُّظارِ . وسُئلَ البخاريُّ عن حديثِ : (( لا نكاحَ إلا بولي )) وهو حديث اختلِفَ فيه على أبي إسحاق السَّبِيعيِّ فرواهُ شُعبةُ والثوريُّ عنه ، عن أبي بُردةَ عن النبيِّ مرسلاً ، ورواه إسرائيلُ بنُ يونُسَ في آخرينَ ، عن جدِّهِ أبي إسحاقَ ، عن أبي بُرْدَةَ عن أبي موسى الأشعريِّ ، عن النبيِّ متصلاً ، فحَكَمَ البخاريُّ لمَنْ وصلَهُ ، وقال : الزيادةُ من الثقةِ مقبولةٌ . هذا مع أنَّ مَنْ أرسلَهُ شعبةُ وسفيانُ ، وهما جبلانِ في الحفظِ والإتقانِ .
والقولُ الثاني : أنَّ الحكمَ لمَنْ أرسلَ . وحكاهُ الخطيبُ عن أكثرِ أصحابِ الحديثِ ، وهذا معنى قولِهِ : ( وقيلَ بل إرسالُه للأكثرِ ) . وقولُهُ : ( للأكثرِ ) ، خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ ، أي : وقيلَ الحكمُ لإرسالِهِ ، وهذا للأكثرِ ، أي : قولُ الأكثرِ .
والقولُ الثالثُ : أنَّ الحكمَ للأكثرِ ، فإنْ كان مَنْ أرسلَهُ أكثرَ ممَّن وصلَهُ ، فالحكمُ للإرسالِ ، وإنْ كانَ من وَصَلَهُ أكثرَ ، فالحكمُ للوصلِ .
والقولُ الرابعُ : أنَّ الحكمَ للأحفظِ ، فإنْ كانَ مَنْ أرسلَ أحفظَ ، فالحكمُ له ، وإن كان مَنْ وصلَ أحفظَ فالحكمُ له ، وهذا معنى قولِهِ : وقيلَ : الأكثرُ ، وقيلَ : الأحفظُ . وكلاهُما خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه : وقيلَ : المعتبرُ الأكثرُ ، وقيلَ : الأحفظُ .
وينبني على هذا القولِ الرابعِ - وهو أنَّ الحكمَ للأحفظِ - ما إذا أرسلَ الأحفظُ ، فهلْ يقدحُ ذلكَ في عدالةِ مَنْ وصَلَهُ ، وأهليَّتِهِ ، أوْ لاَ ؟ فيهِ قولانِ : أصحُّهُما ، وبه صَدَّرَ ابنُ الصلاحِ كلامَهُ أنَّهُ : لا يَقدَحُ . قالَ : ومنهم مَنْ قالَ : يَقدَحُ في مسندِهِ ، وفي عدالتِهِ ، وفي أهليتِهِ . وهذا معنى قولِهِ : ( ثُمَّ فَمَا إرْسَالُ عَدْلٍ يَحْفَظُ … ) إِلَى آخره . وقولُهُ : ( أوْ مُسْنَدِهِ ) أي : وما أسندَهُ من الحديثِ غَيْر هَذَا الَّذِي أرْسَلَهُ مَنْ هُوَ أحفظُ ؛ لأنَّ هذا بناءٌ على أنَّ الحكمَ للأحفظِ ، وقد أرسل ، فلا شكَّ في قدحِهِ في هذا المسنَدِ على هذا القولِ . وقولُهُ : ( وَرَأوا أنَّ الأصح الحُكْم للرَّفْع) . أشارَ بهِ إلى مسألةِ تعارضِ الرفعِ والوقفِ . وهو ما إذا رفعَ بعضُ الثقاتِ حديثاً ، ووقفَهُ بعضُ الثقاتِ ، فالحكمُ على الأصَحِّ ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ ، لما زادَهُ الثقةُ من الرفعِ ؛ لأنَّهُ مثبتٌ ، وغيرُهُ ساكتٌ ، ولو كان نافياً فالمثبِتُ مقدّمٌ عليه ؛ لأنَّهُ عَلِمَ ما خَفِيَ عليهِ .
وقولُهُ : ( وَلَو من وَاحِد في ذَا وَذا ) . أشارَ بهِ إلى ما إذا وقعَ الاختلافُ مِن راوٍ واحدٍ ثقةٍ في المسألتينِ معاً فوصَلَهُ في وقتٍ وأرسَلَهُ في وقتٍ ، أو رَفَعهُ في وقتٍ ، ووقَفَهُ في وقتٍ ، فالحكمُ على الأصَحِّ لوصلِهِ ورْفعِهِ ، لا لإرْسالِهِ ووقْفِهِ . هكذا صحّحَهُ ابنُ الصلاحِ . وأما الأصوليون فصححوا أنَّ الاعتبارَ بما وقع منه أكثرُ . فإنْ وقعَ وصلُه ، أو رفعُه أكثرَ من إرسالِهِ ، أو وقفهِ ؛ فالحكمُ للوصلِ ، والرفعِ . وإنْ كان الإرسالُ ، أو الوقفُ أكثرَ ، فالحكمُ له .
التَّدْلِيْسُ
153 .
تَدلِيْسُ الاسْنَادِ كَمَنْ يُسْقِطُ مَنْ
حَدَّثَهُ، وَيَرْتَقِي بـ (عَنْ) وَ (أَنْ)
154 .
وَقَالَ : يُوْهِمُ اتِّصَالاً ، وَاخْتُلِفْ
فِـي أَهْلِهِ ، فَالرَّدُّ مُطْلَقَـاً ثُقِفْ
155 .
وَالأكْثَـرُوْنَ قَبِلُوْا مَـا صَرَّحَا
ثِـقَاتُـهُمْ بِوَصْلِـهِ وَصُحِّحَـا
156 .
وَفي الصَّحِيْحِ عِدَّةٌ (كَالاعْمَشِ)
وَ (كَـهُشَـيْمٍ) بَعْـدَهُ وَفَتِّشِ
التدليسُ على ثلاثةِ أقسامٍ ، ذكرَ ابنُ الصلاحِ منها قسمينِ فقطْ :
القسمُ الأولُ : تدليسُ الإسنادِ : وهو أنْ يُسقطَ اسمَ شيخِهِ الذي سمعَ منه ، ويرتَقي إلى شيخِ شيخِهِ ، أو مَنْ فوقَهُ ، فَيسندُ ذلك إليه بلفظٍ لا يقتضي الاتصالَ ، بل بلفظٍ مُوهمٍ ، كقولِهِ : عَنْ فلانٍ ، أو أنَّ فلاناً ، أو قالَ فلانٌ ، مُوهِماً بذلك أنّهُ سمعَ ممَّنْ رواه عنه ، وإنّما يكونُ تدليساً إذا كانَ المدلِّسُ قد عاصرَ المرويَّ عنه أو لقيَهُ ولم يسمع منه ، أو سمعَ منه ولم يسمعْ منه ذلكَ الحديثَ الذي دلَّسَهُ عنه . وقد فُهِمَ هذا الشرطُ مِنْ قولِهِ : ( يُوْهِمُ اتصَّالاً ) . وإنّما يقعُ الإيهامُ مع المعاصرةِ وقد حدَّهُ أبو الحسنِ ابنُ القطانِ في كتابِهِ " بيان الوهم والإيهام " : بأنْ يرويَ عمَّنْ قد سَمِعَ منه ما لم يسمعْ منهُ ، من غيرِ أنْ يذكرَ أنّهُ سمعَهُ منه ، قال : والفرقُ بينَهُ وبين الإرسالِ : هو أنَّ الإرسالَ روايتُهُ عمَّنْ لم يسمعْ منه ، وقد سبقَ ابنَ القطانِ إلى حدِّهِ بذلك الحافظُ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ عمرِو بنِ عبدِ الخالقِ البزَّارُ ، ذكرَ ذلك في جزءٍ له " في معرفةِ مَنْ يُتركُ حديثُهُ ، أو يقبلُ " . أما إذا روى عمَّنْ لم يدركْهُ بلفظٍ موهمٍ فإنَّ ذلك ليس بتدليسٍ على الصحيحِ المشهورِ . وحكـى ابن عبد البرِّ في " التمهيد " عن قومٍ: أنَّهُ تدليسٌ، فجعلوا التدليسَ أنْ يُحَدِّثَ الرجلُ عن الرجلِ بما لم يسمعْهُ منه بلفظٍ لا يقتضي تصريحاً بالسماعِ ، وإلاَّ لكان كذباً . قالَ ابنُ عبد البرِّ : وعلى هذا فما سَلِمَ من التدليسِ أحدٌ لا مالكٌ ولا غيرُهُ .
فقولُهُ : في البيتِ الثاني : ( وقال ) ، معطوفٌ على قولِهِ : ( بِـ : عَنْ وأنْ ) ، أي : بهذهِ الألفاظِ الثلاثةِ ونحوِها ، ومثله أنْ يُسْقِطَ أداةَ الروايةِ ، ويسمّي الشيخَ فقط فيقولُ : فلانٌ ، وهذا يفعلُهُ أهلُ الحديثِ كثيراً . قال عليُّ بنُ خَشْرَمٍ : كُنَّا عند ابنِ عُيينةَ ، فقالَ : الزُّهْريُّ ، فقيل له : حدّثَكُمُ الزهريُّ ؟ فسكتَ . ثمَّ قالَ : الزهريُّ ، فقيل له : سمعتَهُ من الزهريِّ ؟ فقال : لا لم أسمعْهُ من الزهريِّ ولا ممَّنْ سمِعَهُ من الزهريِّ ، حدّثني عبدُ الرزاقِ ، عن مَعْمَرٍ ، عن الزهريِّ . وقد مَثَّلَ ابنُ الصَّلاحِ للقسمِ الأولِ بهذا المثالِ . ثم حكى الخلافَ فيمَنْ عُرفَ بهذا ، هل يُردُّ حديثُهُ مطلقاً ، أو ما لم يُصرّحْ فيه بالاتصال ؟! واعلمْ أنَّ ابنَ عبد البرِّ قد حكى عن أئمةِ الحديثِ أنَّهُم قالوا: يُقبلُ تدليسُ ابنِ عُيينةَ ؛ لأنَّهُ إذا وقفَ أحالَ على ابنِ جُريجٍ ومعمرٍ ونظائرِهما . وهذا ما رجّحَهُ ابنُ حبّانَ ، وقال : وهذا شيءٌ ليس في الدنيا إلاَّ لسفيانَ بنِ عيينةَ ، فإنّهُ كان يدلِّسُ ، ولا يدلِّسُ إلا عن ثقةٍ متقنٍ ، ولا يكادُ يوجدُ لابنِ عيينةَ خبرٌ دلَّسَ فيهِ ، إلاَّ وقدْ بَيَّنَ سماعَهُ عن ثقةٍ مثل ثقتِهِ ، ثم مَثَّلَ ذلك بمراسيلِ كبار الصحابةِ ، فإنَّهُم لا يرسلونَ إلاّ عن صحابيٍّ . وقد سبقَ ابنَ عبدِ البرِّ إلى ذلك الحافظانِ : أبو بكر البزّارُ ، وأبو الفتحِ الأزديُّ .
فقالَ البزّارُ في الجزءِ المذكورِ : إنَّ مَنْ كان يدلِّسُ عن الثقاتِ كانَ تدليسُهُ عند أهلِ العلمِ مقبولاً . ثم قال : فمَنْ كانت هذهِ صفتُهُ وَجبَ أنْ يكونَ حديثُهُ مقبولاً وإنْ كان مدلساً . وهكذا رأيتُهُ في كلامِ أبي بكرٍ الصَيْرفيِّ مـن الشافعية في كتابِ "الدلائلِ" فقالَ : كلُّ مَنْ ظهرَ تدليسُهُ عن غيرِ الثقاتِ لَمْ يُقبلْ خبرُهُ حَتَّى يقولَ : حدّثني ، أو سمعتُ . انتهى . وقولُهُ : ( واختلفَ في أهْلِه ) أي : في أهلِ هَذَا القسمِ مِنَ التدليسِ ، وهم المعروفونَ بهِ . فقيلَ : يُرَدُّ حديثُهم مطلقاً ، سواءٌ بينوا السماعَ ، أو لَمْ يبينوا ، وأنَّ التدليسَ نفسَهُ جرحٌ ، حكاهُ ابنُ الصلاحِ عن فريقٍ من أهلِ الحديثِ والفقهاءِ ، وَهُوَ المرادُ بقولِهِ : ( فالردُّ مطلقاً ثُقِفْ ) أي : وُجِدَ عن بعضِهم . والصحيحُ كما قالَ ابنُ الصلاحِ ، التفصيلُ . فإنْ صَرَّحَ بالاتصالِ كقولِهِ : سمعتُ ، وحدّثنا ، وأخبرنا ، فهو مقبولٌ محتجٌّ به . وإنْ أتى بلفظٍ محتملٍ فحكمُه حكمُ المرسلِ . وإلى هذا ذهبَ الأكثرونَ كما حكيتُهُ عنهمْ . ولمْ يذكرِ ابنُ الصلاحِ ذلكَ عنِ الأكثرينَ . وهذا من الزيادةِ عليه التي لم تُمَيَّزْ بـ : قلتُ . وممَّنْ حكاهُ عن جمهورِ أئمةِ الحديثِ والفقهِ والأصولِ شيخُنا أبو سعيدٍ العلائيُّ في كتابِ " المراسيل "، وهو قولُ الشافعيِّ ، وعليِّ بنِ المدينيِّ ، ويحيى بنِ معين ، وغيرِهم .
وقد وجدتُ في كلامِ بعضِهم : أنَّ المدلّسَ إذا لم يُصَرِّحْ بالتحديثِ ، لم يُقبلْ اتّفاقاً . وقد حكاهُ البيهقيُّ في " المدخلِ " عن الشافعيِّ ، وسائرِ أهلِ العلمِ بالحديثِ . وحكايةُ الاتفاقِ هنا غلطٌ أو هو محمولٌ على اتفاقِ مَنْ لا يحتجُّ بالمرسلِ . أمّا الذين يحتجُّونَ بالمرسلِ فيحتجونَ بهِ كما اقتضاهُ كلامُ ابنِ الصلاحِ على أنَّ بعضَ مَنْ يحتجُّ بالمرسلِ لا يقبلُ عنعنةَ المدلسِ . فقد حكى الخطيبُ في " الكفايةِ " : أنَّ جُمهورَ مَنْ يحتجُّ بالمرسلِ يقبلُ خبرَ المدلِّسِ .
وقولُهُ : ( وفي الصحيح … ) إلى آخرهِ ، أي : وفي الصَّحيحينِ وغيرِهما مِنَ الكتبِ الصحيحةِ عدّةُ رواةٍ من المدلّسينَ ، كالأعمشِ ، وهُشيمِ بنِ بَشِيرٍ ، وغيرِهما .
وقولُهُ : ( وفَتِّشْ ) أي : وفتشْ ، في الصحيحِ تجدْ جماعةً منهم ، كقتادةَ والسفيانَيْنِ ، وعبدِ الرزاقِ ، والوليدِ بنِ مسلمٍ ، وغيرِهِمْ . وقالَ النوويُّ : إنَّ ما في الصحيحينِ وغيرِهما من الكتبِ الصحيحةِ عن المدلسينَ بـ : عَنْ ، محمولٌ عَلَى ثبوتِ سماعِهِ من جهةٍ أخرى . وَقَالَ الحافظُ أبو محمدٍ عبدُ الكريمِ الحلبيُّ في كتاب
" القِدْح المُعَلّى": قالَ أكثرُ العلماءِ:إنَّ الَّتِي في الصحيحينِ مُنَزَّلةٌ بمنـزلةِ السماعِ.
157.
وَذَمَّـهُ (شُعْبَةُ) ذُو الرُّسُـوْخِ
وَدُوْنَـهُ التَّدْليْـسُ لِلشِّـيُوْخِ
158.
أنْ يَصِفَ الشَّيْخَ بِمَا لا يُعْرَفُ
بِـهِ ، وَذَا بِمقْصِـدٍ يَخْتَـلِفُ
159.
فَشَـرُّهُ للضَّعْفِ وَاسْتِصْغَارا
وَكـ(الخَطِيْبِ) يُوْهِمُ اسْتِكْثَارَا
160.
و (الشَّـافِعيْ) أثْبَتَـهُ بِمَرَّه
قُلْتُ : وَشَـرُّهَا أخُو التَّسْويهْ
أي : وذمّهُ شعبةُ فبالغَ في ذمِّهِ ، وإلاّ فَقَدْ ذمّهُ أكثرُ العلماءِ ، وَهُوَ مكروهٌ جدّاً ، فروَى الشافعيُّ عن شعبةَ قالَ : التدليسُ أخو الكذبِ ، وَقَالَ : لأنْ أزني أحبُّ إليَّ مِنْ أن أدلسَ . قَالَ ابنُ الصلاحِ : (( وهذا من شعبةَ إفراطٌ محمولٌ عَلَى المبالغةِ في الزجرِ عَنْهُ والتنفيرِ )) . وقوله : ( دُوْنَهُ التدليسُ للشيوخِ ) أي: ودونَ القسمِ الأولِ. وهذا هو القسمُ الثاني من أقسامِ التدليسِ .
قالَ ابنُ الصلاحِ : أمرُه أخفُّ منه ، و ( أنْ ) : في أولِ البيتِ الثاني مصدريةٌ . والجملةُ في موضع رفعٍ على أنّهُ بيانٌ للتدليسِ المذكورِ ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديره : وهو أنْ يصفَ المدلّسُ شيخَهُ الذي سمعَ ذلك الحديث منه بوصفٍ لا يُعْرَفُ به من اسمٍ ، أو كنيةٍ ، أو نسبةٍ إلى قبيلةٍ ، أو بلدٍ ، أو صنعةٍ أو نحوِ ذلك ، كي يُوْعِّرِ الطريقَ إلى معرفةِ السامعِ له ، كقول أبي بكرِ بن مجاهدٍ أحدِ أئمةِ القُرَّاْءِ : حدّثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي عبدِ اللهِ ، يريدُ به : عبدَ اللهِ بنَ أبي داود السجستانيَّ ، ونحوَ ذلك . قال ابنُ الصلاحِ : وفيه تضييعٌ للمَرْوِيِّ عنه . قلتُ : وللمَرْوِيِّ أيضاً بأنْ لا يتنبهَ له فيصيرُ بعضُ رواتِهِ مجهولاً .
ويختلفُ الحالُ في كراهةِ هذا القسمِ باختلافِ المقْصَدِالحاملِ على ذلكَ.فشرُّ ذلكَ: إذا كانَ الحاملُ على ذلكَ كونَ المَرْوِيِّ عنهُ ضعيفاً ، فيدلّسُهُ حتى لا تظهرَ روايتُهُ عن الضعفاءِ.وقد يكونُ الحاملُ على ذلكَ كونَ المَرْوِيِّ عنه صغيراً في السِّنِّ،أو تأخّرتْ وفاتُهُ، وشاركَهُ فيه مَنْ هو دونَهُ. وقد يكونُ الحاملُ على ذلك إيهامَ كثرةِ الشيوخِ بأنْ يرويَ عن الشيخِ الواحدِ في مواضعَ ، يُعَرِّفُهُ في موضِعٍ بصفةٍ ، وفي موضعٍ آخرَ بصفةٍ أخرى يُوهِمُ أنّهُ غيرُهُ . وممَّنْ يفعلُ ذلك كثيراً الخطيبُ ، فقد كانَ لهِجَاً به في تصانيفهِ.
ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ حكمَ مَنْ عُرِفَ بهذا القسمِ الثاني من التدليسِ . وقد جزمَ ابنُ الصَّبَّاغُ في " العُدَّةِ " بأنَّ مَنْ فعلَ ذلكَ ؛ لكونِ مَنْ روى عنهُ غيرَ ثقةٍ عندَ الناسِ ، وإنّما أرادَ أنْ يُغيِّرَ اسمَهُ ليقبلوا خبرَهُ ، يجبُ أنْ لا يُقبلَ خَبرُهُ ، وإنْ كانَ هو يعتقدُ منهُ الثقةَ فقدْ غَلَطَ في ذلكَ ؛ لجوازِ أنْ يَعْرِفَ غيرُهُ مِنْ جِرْحهِ ما لا يَعرفُهُ هو ، فإنْ كانَ لصِغَرِ سنِّهِ، فيكونُ ذلكَ روايةً عن مجهولٍ،لا يجبُ قبولُ خَبَرِهِ حتَّى يعرفَ مَنْ رَوَى عنهُ.
وقوله : ( واستصغاراً ) ، منصوبٌ بكانَ المحذوفةِ ، أي : ويكونُ استصغاراً وإيهاماً للكثرةِ ، وقوله : ( وكالخطيبِ ) أي : وكفعلِ الخطيبِ .
وقولُه : ( والشافعيُّ أثبتَهُ ) أي : أصلُ التدليسِ لا هذا القسمُ الثاني منه . قالَ ابنُ الصلاحِ : والحكمُ بأنَّهُ لا يُقبلُ من المدلِّسِ حتَّى يُبَيِّنَ ، قد أجراهُ الشافعيُّ ، فيمَنْ عرفناهُ دلَّسَ مرّةً . وممَّنْ حكاهُ عن الشافعيِّ البيهقيُّ في " المدخلِ " .
وقولُهُ : ( قلتُ : وشرُّها أخو التسوية ) . هذا هو القسمُ الثالثُ من أقسامِ التدليسِ الذي لم يذكرْهُ ابنُ الصلاحِ - وهو تدليسُ التسويةِ - وصورتُه أنْ يرويَ حديثاً عن شيخٍ ثقةٍ ، وذلكَ الثقةُ يرويه عنْ ضعيفٍ عن ثقةٍ ، فيأتي المدلِّسُ الذي سمعَ الحديثَ من الثقةِ الأولِ ، فيُسقطُ الذي في السندِ ، ويجعلُ الحديثَ عن شيخِهِ الثقةِ عن الثقةِ الثاني ، بلفظٍ محتملٍ ، فيستوي الإسنادُ ، كلُّهُ ثقاتٌ . وهذا شرُّ أقسامِ التدليسِ ؛ لأنَّ الثقةَ الأولَ قدْ لا يكونُ معروفاً بالتدليسِ ، ويجدُهُ الواقفُ على السندِ كذلكَ بعدَ التسويةِ قد رواهُ عن ثقةٍ آخرَ فيحْكَمُ له بالصحةِ ، وفي هذا غرورٌ شديدٌ . وممَّنْ نُقِلَ عنه أنَّهُ كان يفعلُ ذلكَ : بقيّةُ بنُ الوليدِ ، والوليدُ بنُ مسلمٍ . أما بقيةُ ، فقال ابنُ أبي حاتمٍ في كتاب " العلل " : سمعتُ أبي ، وذكرَ الحديثَ الذي رواهُ إسحاقُ بنُ راهويهِ، عنْ بقيةَ ، حدّثني أبو وَهْبٍ الأسديُّ ، عن نافعٍ ، عنِ ابنِ عُمَرَ حديث : (( لا تحمدوا إسلامَ المرءِ حتى تعرفوا عقدةَ رأيِهِ )). فقال أبي : هذا الحديثُ له أمرٌ قَلَّ مَنْ يفهمُهُ، رَوَى هذا الحديثَ عبيدُ الله بنُ عمرٍو ، عن إسحاقَ بنِ أبي فروةَ ، عن نافعٍ ، عن ابنِ عمرَ ، عن النبيِّ . وعبيدُ الله بنُ عمرٍو كنيته أبو وَهْبٍ وهو أسديٌ . فكناهُ بقيةُ ونسبَهُ إلى بني أسدٍ لكي لا يُفطَنَ له . حتى إذا تُرِكَ إسحاقُ بنُ أبي فروةَ من الوسط لا يُهتدى له . – قال - : وكان بقيّةُ مِن أفعلِ الناسِ لهذا .
وأمَّا الوليدُ بنُ مسلمٍ فقال أبو مُسْهِرٍ : كانَ الوليدُ بنُ مسلمٍ يحدّثُ بأحاديثِ الأوزاعيِّ عن الكذابينَ ، ثم يدلّسُها عنهم . وقال صالحٌ جَزَرَةُ : سمعتُ الهيثمَ بنَ خارجةَ يقولُ : قلتُ للوليدِ بنِ مسلمٍ : قد أفسدتَ حديثَ الأوزاعيِّ . قال : كيف ؟ قلتُ : تَروي عن الأوزاعيِّ ، عن نافعٍ ، وعن الأوزاعيِّ ، عن الزهريِّ ، وعن الأوزاعيِّ، عن يَحْيَى بنِ سعيدٍوغيرُكَ يُدْخلُ بَيْنَ الأوزاعيِّ وبينَ نافعٍ،عبدَ اللهِ بنَ عامرٍ الأسلميَّ وبينَهُ وبينَ الزهريِّ إبراهيمَ بنَ مُرَّةَ وقُرَّةَ ، قَالَ : أُنَبِّلُ الأوزاعيَّ أنْ يروِيَ عن مثلِ هؤلاءِ . قلتُ : فإذا رَوَى عن هؤلاءِ – وهم ضُعفاءُ – أحاديثَ مناكيرَ فاسقطتَهُمْ أنتَ وصَّيرتَها من روايةِ الأوزاعيِّ عن الثِّقاتِ ؛ ضُعِّفَ الأوزاعيُّ، فلم يلتفِتْ إلى قولي . وذَكَرَ الدارقطنيُّ عن الوليدِ أيضاً هذا النوعَ مِنَ التدليسِ . قال الخطيبُ :
وكانَ الأعمشُ ، والثوريُّ ، وبقيّةُ ، يفعلونَ مثلَ هذَا . وقد سَمَّاهُ ابنُ القطّانِ وغيرُ واحدٍ تدليسَ التسويةِ . قال العلائيُّ في " المراسيلِ " : (( وبالجملةِ فهذا النوعُ أفحشُ أنواعِ التدليسِ مطلقاً وشرُّها )) .
الشَّاذُّ
161.
وَذُو الشُّـذُوذِ : مَا يُخَالِفُ الثِّقَهْ
فِيـهِ المَلاَ فَالشَّـافِعيُّ حقَّقَـهْ
162.
والحَاكِمُ الخِلاَفَ فِيهِ ما اشْتَرَطْ
وَلِلْخَلِيليْ مُفْرَدُ الرَّاوي فَقَـطْ
163.
وَرَدَّ مَـا قَـالاَ بِفَـرْدِ الثِّقَـةِ
كالنَّهْي عَنْ بَيْعِ الوَلاَ وَالهِبَةِ
164.
وَقَوْلُ مُسْلِمٍ : رَوَى الزُّهْـرِيُّ
تِسْـعِينَ فَـرْدَاً كُلُّهَـا قَـوِيُّ
165.
واخْتَارَ فِيْمَـا لَمْ يُخَالِفْ أنَّ مَنْ
يَقْرُبُ مِنْ ضَبْطٍ فَفَرْدُهُ حَسَـنْ
166.
أوْ بَلَـغَ الضَّبْطَ فَصَحِّحْ أَوْ بَعُدْ
عَنْهُ فَمِمَّا شَـذَّ فَاطْـرَحْهُ وَرُدْ
اختلفَ أهلُ العلمِ بالحديثِ في صفةِ الحديثِ الشاذِّ ، فقالَ الشافِعيُّ : ليسَ الشاذُّ مِنَ الحديثِ أنْ يرويَ الثقةُ ما لا يروي غيرُهُ ، وإنَّما أنْ يرويَ الثقةُ حديثاً يخالفُ ما روى الناسُ ، وحكى أبو يعلى الخليليُّ عنْ جماعةٍ من أهلِ الحجازِ نحوَ هذا ، وقالَ الحاكمُ : (( هوَ الحديثُ الذي ينفردُ بهِ ثقةٌ منَ الثقاتِ ، وليسَ لهُ أصلٌ بمتابعٍ لذلكَ الثقةِ )). فلمْ يشترطِ الحاكمُ فيهِ مخالفةَ الناسِ ، وذَكَرَ أنَّهُ يغايرُ المعلَّلَ من حيثُ إِنَّ المعلَّلَ وُقِفَ على علَّتِهِ الدالةِ على جهةِ الوهمِ فيهِ ، والشاذُّ لَمْ يُوقفْ فيهِ على علَّتِهِ كذلكَ .
وقالَ أبو يعلى الخليليُّ : الذي عليهِ حفَّاظُ الحديثِ : أنَّ الشاذَّ ما ليسَ لهُ إلاَّ إسنادٌ واحدٌ ، يشذُّ بذلكَ شيخٌ ، ثقةً كانَ أو غيرَ ثقةٍ ، فما كانَ عنْ غيرِ ثقةٍ فمتروكٌ لا يقبلُ ، وما كانَ عنْ ثقةٍ يُتَوقَفُ فيهِ ولا يحتجُّ بهِ فَلمْ يشترطِ الخليليُّ في الشاذِّ تفردَ الثقةِ ، بلْ مطلقُ التفردِ . وقولُهُ : ورَدَّ ، أي : ابنُ الصلاحِ ما قالَ الحاكمُ والخليليُّ بأفرادِ الثقاتِ الصحيحةِ ، وبقولِ مسلمٍ الآتي ذكرُهُ ، فقالَ ابنُ الصلاحِ : (( أمَّا ما حكمَ الشافعيُّ عليهِ بالشذوذِ ، فلا إشكالَ في أنَّهُ شاذٌّ غيرُ مقبولٍ ، قالَ : وأمَّا ما حكيناهُ عنْ غيرِهِ فيشكِلُ بما ينفردُ بهِ العدلُ الحافظُ الضابطُ ، كحديثِ : (( إنّما الأعمالُ بالنياتِ )) ثمَّ ذكرَ مواضعَ التفردِ منهُ ، ثمَّ قالَ : وأوضحُ من ذلكَ في ذلكَ : حديثُ عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ ، عنْ ابن عمرَ أنَّ النبيَّ : ((نهى عنْ بيعِ الولاءِ وهبتِهِ)) تفرّدَ بهِ عبدُ اللهِ بنُ دينارٍ . وحديثُ مالكٍ ، عنِ الزُّهريِّ ، عنْ أنسٍ أنَّ النبيَّ : (( دخلَ مكَّةَ وعلى رأسِهِ المِغْفَرُ )) تفرّد بهِ مالكٌ عنِ الزهريِّ . فكلُّ هذهِ مُخرجةٌ في الصحيحينِ معَ أنَّها ليسَ لها إلاَّ إسنادٌ واحدٌ تفرَّدَ بهِ ثقةٌ ، قالَ : وفي غرائبِ الصحيحِ أشباهٌ لذلكَ غيرُ قليلةٍ ، قالَ : وقَدْ قالَ مسلمُ بنُ الحجّاجِ : (( للزُّهْريِّ نحوُ تسعينَ حرفاً يَرْوِيهِ عنِ النبيِّ ، لا يُشَارِكُهُ فيها أحدٌ بأسانيدَ جِيادٍ )) قالَ : فهذا الذي ذكرناهُ وغيرُهُ من مذاهبِ أئمةِ الحديثِ يبينُ لكَ أنَّهُ ليسَ الأمرُ في ذلكَ على الإطلاقِ الذي أتى بهِ الخليليُّ والحاكمُ ، بلِ الأمرُ في ذلكَ على تفصيلٍ نُبَيِّنُهُ فنقولُ: إذا انفردَ الراوي بشيءٍ نُظِرَ فيهِ ، فإنْ كانَ مخالفاً لما رواهُ مَنْ هوَ أولى منهُ بالحفظِ لذلكَ ، وأضبطُ ، كانَ ما انفردَ بهِ شاذّاً مردوداً ، وإنْ لَمْ يكنْ فيهِ مخالفةٌ لما رواهُ غيرُهُ وإنّما هوَ أمرٌ رواهُ هوَ ولَمْ يَرْوِهِ غيرُهُ ، فيُنْظَرُ في هذا الراوي المنفردِ ، فإنْ كانَ عدلاً حافظاً موثوقاً بإتقانهِ وضبطِهِ قُبِلَ ما انفردَ بهِ ولَمْ يقدحِ الانفرادُ فيهِ كما سبقَ منَ الأمثلةِ ، وإنْ لَمْ يكنْ ممَّنْ يُوثَقُ بحفظهِ وإتقانِهِ لذلكَ الذي انفرد بهِ ، كانَ انفرادُهُ بهِ خارِماً لهُ مُزَحزِحاً لهُ عنْ حيِّزِ الصحيحِ ، ثمَّ هوَ بعدَ ذلكَ دائرٌ بينَ مراتبَ متفاوتةٍ بحسبِ الحالِ فيهِ ، فإنْ كانَ المنفردُ بهِ غيرَ بعيدٍ من درجةِ الحافظِ الضابطِ المقبولِ تفرّده ، استحسنا حديثَهُ ذلكَ ، ولَمْ نحّطْهُ إلى قبيلِ الحديثِ الضعيفِ ، وإنْ كانَ بعيداً من ذلكَ ردَدْنَا ما انفردَ بهِ ، وكانَ من قبيلِ الشَّاذِّ المنكرِ . انتهى .
وهذا معنى قولِهِ : ( واختارَ ) ، أي : ابنُ الصلاحِ في الفردِ الذي لم يُخالِفْ .
وقولُهُ : ( وَرُدْ ) ، هو أمرٌ معطوفٌ على قولِهِ : ( فاطْرَحْهُ ) ، قالَ ابنُ الصَّلاحِ : فخرجَ من ذلكَ أنَّ الشاذَّ المردودَ قسمانِ :
أحدُهما : الحديثُ الفردُ المخالفُ .
والثاني : الفردُ الذي ليسَ في راويهِ منَ الثقةِ والضبطِ ما يقعُ جابراً لما يوجبُ التفردُ والشذوذُ من النكارةِ والضعفِ ، واللهُ أعلمُ . وسيأتي مثالٌ لقسمي الشَّاذِّ في البابِ الذي بعدَهُ .
الْمُنْكَرُ
167.
وَالْمُنكَـرُ:الفَرْدُ كَذَا البَرْدِيجِيْ
أَطْلَقَ، وَالصَّوَابُ فِي التَّخْرِيْجِ
168.
إِجْـرَاءُ تَفْصِيْلٍ لَدَى الشُّذُوْذِ مَرْ
فَهْـوَ بِمَعْناهُ كَذَا الشَّيْخُ ذَكَرْ
169.
نَحْوَ (( كُلُوا البَلَحَ بالتَّمْرِ )) الخَبَرْ
وَمَالِكٍ سَمَّى ابْنَ عُثْمَانَ : عُمَرْ
170.
قُلْتُ : فَمَاذَا ؟ بَلْ حَدِيْثُ (( نَزْعِهْ
خَاتَمَهُ عِنْدَ الخَلاَ وَوَضْعِهْ ))
قالَ الحافظُ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ هارونَ البَرْديجيُّ : المنكرُ هوَ الحديثُ الذي ينفردُ بهِ الرجلُ ، ولا يُعرفُ متُنُه من غيرِ روايتِهِ ، لا من الوجهِ الذي رواهُ منهُ ولا من وجهٍ آخرَ . قالَ ابنُ الصلاحِ : فأطلقَ البرديجيُّ ذلكَ ، ولمْ يفصِّلْ . قالَ : وإطلاقُ الحكمِ على التفرُّدِ بالرَّدِّ ، أو النَّكارةِ ، أو الشُّذوذِ ، موجودٌ في كلامِ كثيرٍ من أهلِ الحديثِ . قالَ : والصوابُ فيهِ التّفصيلُ الذي بيناهُ آنفاً في شرحِ الشاذِّ ، قالَ : وعندَ هذا نقولُ :
المنكرُ ينقسم قسمينِ على ما ذكرناهُ في الشاذِّ ، فإنَّهُ بمعناهُ .
وقولُهُ : ( نحو كُلوا … ) إلى آخرِ البيتِ هما مثالانِ للمنكرِ الذي هوَ بمعنى الشاذِّ . فالأولُ مثالٌ للفردِ الذي ليسَ في راويهِ من الثقةِ والإتقانِ ما يحتملُ معهُ تفرُّدُهُ ، وهوَ ما رواهُ النسائيُّ ، وابنُ ماجه منْ روايةِ أبي زُكَيْرٍ يحيى بنِ محمّدِ بنِ قيسٍ عنْ هِشامِ بنِ عُروةَ عنْ أبيهِ عنْ عائشةَ ؛ أنَّ رسولَ اللهِ ، قالَ : (( كلوا البَلَحَ بالتَّمْرِ ، فإنَّ ابنَ آدمَ إذا أكلَهُ غَضِبَ الشيطانُ ، … الحديثَ )) ، قالَ النسائيُّ هذا حديثٌ منكرٌ ، قالَ ابنُ الصلاحِ تفرّدَ بهِ أبو زُكيرٍ ، وهوَ شيخٌ صالحٌ أخرجَ عنه مسلمٌ في كتابِهِ غيرَ أنَّهُ لَمْ يبلغْ مبلغَ مَنْ يحتملُ تفرُّدُهُ انتهى .
وإنّما أخرجَ لهُ مسلمٌ في المتابعات .
والثاني : مثالٌ للفردِ المخالفِ لما رواهُ الثقاتُ ، وهوَ ما رواهُ مالكٌ ، عنِ الزهريِّ ، عنْ عليِّ بنِ حسينٍ ، عنْ عمرَ بنِ عثمانَ ، عنْ أُسامةَ بنِ زيدٍ ، عنْ رسولِ اللهِ ، قالَ: (( لا يَرِثُ المسلمُ الكافرَ ، ولا الكافرُ المسلمَ )) . فخالفَ مالكٌ غيرَهُ منَ الثقاتِ في قولهِ : عُمرَ بنِ عُثمانَ ، يعني : بضمِّ العينِ ، وذكرَ مسلمٌ في " التمييز " أنَّ كلَّ مَنْ رواهُ منْ أصحابِ الزهريِّ قالَ فيهِ : عَمْرو بنِ عثمانَ ، يعني : بفتح العينِ ، وذكرَ أنَّ مالكاً كانَ يشيرُ بيدهِ إلى دارِ عُمَرَ بنِ عثمانَ ، كأنَّهُ علمَ أنَّهم يخالفونَهُ ، وعَمرٌو و عُمَرُ جميعاً ولدا عثمانَ غيرَ أنَّ هذا الحديثَ إنّما هوَ عن عَمرٍو – بفتحِ العينِ – وحكمَ مسلمٌ وغيرُهُ على مالكٍ بالوهمِ فيهِ ، هكذا مثَّلَ ابنُ الصلاحِ بهذا المثالِ ، وفيهِ نظرٌ ، منْ حيثُ إنَّ هذا الحديثَ ليسَ بمنكرٍ ، ولمْ يطلقْ عليهِ أحدٌ اسمَ النكارةِ فيما رأيت والمتن ليسَ بمنكرٍ ، وغايتُهُ أنْ يكونَ السندُ منكراً ، أو شاذاً لمخالفةِ الثقاتِ لمالكٍ في ذلكَ ، ولا يلزمُ من شذوذِ السندِ ونكارتِهِ وجودُ ذلكَ الوصفِ في المتنِ فقدْ ذكرَ ابنُ الصلاحِ في نوعِ المعللِ : أنَّ العلةَ الواقعةَ في السندِ قدْ تقدحُ في المتنِ،وقدْ لا تقدحُ ومثَّلَ ما لا تقدحُ بما رواهُ يعلى بنُ عُبيدٍ ، عنِ الثَّوريِّ ، عنْ عَمرِو بنِ دينارٍ، عنِ ابنِ عُمرَ ، عنِ النبيِّ ، قالَ: (( البَيِّعَانِ بالخِيَار )) قالَ : فهذا إسنادٌ معلَّلٌ غيرُ صحيحٍ ، والمتنُ على كلِّ حالٍ صحيحٌ ، قالَ : والعلّةُ في قولهِ عن عَمرِو بنِ دينارٍ ، وإنّما هوَ عنْ عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ. انتهى . فحكمَ على المتنِ بالصحةِ معَ الحكمِ بوهمِ يعلى بنِ عُبيدٍ فيهِ وإلى هذا الإشارةُ بقولي : ( قلتُ : فماذا ) ، وإذا قالَ مالكٌ : عُمَرَ بنَ عثمانَ ، فماذا ؟ أي : فما يلزمُ منهُ من نكارةِ المتنِ .
ثمَّ أشرتُ إِلَى مثالٍ صحيحٍ لأحدِ قسمَيْ المنكرِ ، بقولي : ( بَلْ حَدِيْث نزعه … ) إلى آخرهِ ، أي : بل هذا الحديثُ مثالٌ لهذا القسمِ من المنكر ، وهوَ ما رواهُ أصحابُ السننِ الأربعةِ من روايةِ همّامِ بنِ يحيى عنِ ابنِ جريجٍ عن الزُّهريِّ عن أنسٍ ، قالَ : كانَ النبيُّ (( إذا دَخَلَ الخلاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ )) ، قالَ أبو داودَ بعدَ تخريجهِ : هذا حديثٌ منكرٌ ، قالَ: وإنّما يُعْرَفُ عنِ ابنِ جُرَيجٍ ، عنْ زيادِ بنِ سعدٍ ، عنِ الزهريِّ ، عنْ أنسٍ أنَّ النبيَّ : (( اتّخذَ خاتماً منْ وَرِقٍ ، ثمَّ ألقاهُ )) ، قالَ : والوهمُ فيهِ من همّامٍ ، ولمْ يروِهِ إلاَّ همّامٌ ، وقالَ النسائيُّ بعدَ تخريجهِ : هذا حديثٌ غيرُ محفوظٍ انتهى . فهمّامُ بنُ يحيى ثقةٌ ، احتجَّ بهِ أهلُ الصحيحِ ، ولكنَّهُ خالفَ الناسَ ، فروى عنِ ابنِ جريجٍ هذَا المتنَ بهذا السندِ وإنّما رَوَى الناسُ عنِ ابنِ جريجٍ الحديثَ الذي أشارَ إليهِ أبو داودَ ، ولهذا حكمَ عليهِ أبو داودَ بالنكارةِ ، وأما الترمذيُّ فقالَ فيه : حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ .
الاعْتِبَارُ وَالمُتَابَعَاتُ وَالشَّوَاهِدُ
171.
الاعْتِبَـارُ سَبْرُكَ الحَدِيْثَ هَـلْ
شَـارَكَ رَاوٍ غَيْـرَهُ فيْمَـا حَمَلْ
172.
عَنْ شَيْخِهِ فَإنْ يَكُنْ شُوْرِكَ مِنْ
مُعْتَبَـرٍ بِــهِ فَتَابِـعٌ ، وَإنْ
173.
شُـورِكَ شَيْخُهُ فَفَـوْقُ فَكَذَا
وَقَدْ يُسَـمَّى شَـاهِدَاً ثُمَّ إذَا
174.
مَتْنٌ بِمَعْنَـاهُ أتَى فَالشَّـاهِـدُ
وَمَا خَـلاَ عَنْ كُـلِّ ذَا مَفَـارِدُ
175.
مِثَالُهُ (( لَـوْ أَخَـذُوا إهَابَهَـا ))
فَلَفْظَـةُ (( الدِّبَـاغِ )) مَا أتَى بِهَا
176.
عَنْ عَمْرٍو الاَّ ابنُ عُيَيْنَةٍ وَقَدْ
تُوبِعَ عَمْروٌ في الدِّبَاغِ فَاعْتُضِدْ
177.
ثُـمَّ وَجَدْنَا (( أَيُّمَـا إِهَـابِ ))
فَكَـانَ فيـهِ شَـاهِدٌ في البابِ
هذهِ الألفاظُ يتداولها أهلُ الحديثِ بينَهم .
فالاعتبارُ : أنْ تأتيَ إلى حديثٍ لبعضِ الرواةِ ، فتعتبرُه برواياتِ غيرِهِ منَ الرواةِ بسبرِ طُرُقِ الحديثِ ليُعرفَ هلْ شاركَهُ في ذلكَ الحديثِ راوٍ غيرُهُ فرواهُ عنْ شيخِهِ أمْ لا ؟
فإنْ يَكنْ شاركَهُ أحدٌ ممَّنْ يُعتبرُ بحديثهِ ، أيْ : يصلحُ أنْ يخرجَ حديثُه للاعتبارِ بهِ والاستشهادِ بهِ ، فيسمَّى حديثُ هَذَا الَّذِي شاركَهُ تابعاً – وسيأتي بيانُ مَنْ يعتبرُ بحديثهِ في مراتبِ الجرحِ والتعديلِ – وإنْ لمْ تجدْ أحداً تابعَهُ عليهِ عنْ شيخهِ فانظرْ هلْ تابعَ أحدٌ شيخَ شيخِهِ فرواهُ متابعاً لهُ أمْ لاَ ؟ إنْ وجدتَ أحداً تابعَ شيخَ شيخِهِ عليهِ ، فرواهُ كما رواهُ فسمِّهِ أيضاً تابعاً . وقدْ يسمُّونَهُ شاهداً ، وإنْ لمْ تجدْ فافعلْ ذلكَ فيمنْ فوقَهُ إلى آخرِ الإسنادِ حتَّى في الصحابيِّ ، فكلُّ مَنْ وُجِدَ لهُ متابعٌ فسمِّهِ تابعاً . وقدْ يسمُّونَهُ شاهداً ، كما تقدَّمَ ، فإنْ لَمْ تَجدْ لأحدٍ ممَّنْ فَوقَهُ متابعاً عليهِ فانظرْ هلْ أتى بمعناهُ حديثٌ آخرُ في البابِ أمْ لا ؟ فإنْ أتى بمعناهُ حديثٌ آخرُ فسمِّ ذلكَ الحديثَ شاهداً ، وإنْ لَمْ تجدْ حديثاً آخرَ يؤدِّي معناهُ ، فقد عُدِمَتِ المتابعاتُ والشواهدُ . فالحديثُ إذاً فردٌ . قالَ ابنُ حبَّانَ : وطريقُ الاعتبارِ في الأخبارِ ، مثالُهُ أنْ يرويَ حمَّادُ بنُ سَلَمَةَ حديثاً لَمْ يُتابعْ عليهِ ، عنْ أيُّوبَ ، عنِ ابنِ سِيرينَ ، عنْ أبي هريرةَ ، عنِ النبيِّ ، فيُنْظرَ : هلْ روى ذلكَ ثقةٌ غيرُ أيوبَ، عنِ ابنِ سيرينَ ؟ فإنْ وُجِدَ عُلِمَ أنَّ للخبرِ أصلاً يُرْجَعُ إليهِ ، وإنْ لَمْ يُوجَدْ ذلكَ ، فثِقَةٌ غيرُ ابنِ سيرينَ رواهُ عنْ أبي هريرةَ ، وإلاَّ فصحابيٌّ غيرُ أبي هريرةَ، رواهُ عنِ النبيِّ . فأيُّ ذلكَ وُجِدَ يُعْلَمُ بهِ أنَّ للحديثِ أصلاً يرجعُ إليهِ ، وإلاَّ فَلاَ . انتهى . قلتُ : فمثالُ مَا عُدِمَتْ فيهِ المتابعاتُ من هَذَا الوجهِ من وجهٍ يثبتُ ما رواهُ الترمذيُّ منْ روايةِ حمّادِ بنِ سَلَمَةَ ، عنْ أيوبَ ، عنِ ابنِ سيرينَ ، عنْ أبي هريرةَ ، أراهُ رَفَعَهُ : (( احببْ حبيبكَ هوناً مَا ، … الحديثَ )) . قالَ الترمذيُّ : حديثٌ غريبٌ لا نعرفُهُ بهذا الإسنادِ إلاَّ منْ هَذَا الوجهِ . قلتُ: أيْ من وجهٍ يثبتُ، وقدْ رواهُ الحسنُ بنُ دينارٍ ، وهوَ متروكُ الحديثِ ، عنِ ابنِ سيرينَ ، عنْ أبي هريرةَ ، قالَ ابنُ عَدِيٍّ في " الكاملِ " : (( ولا أعلمُ أحداً قالَ عنِ ابنِ سيرينَ ، عنْ أبي هريرةَ إلاَّ الحسنَ بنَ دينارٍ . ومن حديثِ أيوبَ ، عنِ ابنِ سيرينَ ، عنْ أبي هريرةَ ، رواهُ حمادُ بنُ سلمةَ ، ويرويهِ الحسنُ بنُ أبي جعفرٍ ، عنْ أيوبَ ، عنِ ابنِ سيرينَ عنْ حُمَيدِ بنِ عبدِ الرحمنِ الحِمْيريِّ ، عنْ عليٍّ مرفوعاً . انتهى .
والحسنُ بنُ أبي جعفرٍ منكرُ الحديثِ ، قالَهُ البخاريُّ .
وقولُهُ : ( مثالُه لو أخذوا إهابها ) ، هذا مثالٌ لما وُجِدَ لهُ تابعٌ وشاهدٌ أيضاً . وهوَ مَا روى مسلمٌ والنسائيُّ من روايةِ سفيانَ بنِ عُيينةَ ، عنْ عَمْرِو بنِ دينارٍ ، عنْ عطاءٍ ، عنِ ابنِ عبّاسٍ ، أنَّ رسولَ اللهَ : (( مَرَّ بِشَاةٍ مَطْرُوحَةٍ أُعْطِيَتْهَا مَوْلاَةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنَ الصَّدَقَةِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ : أَلاَّ أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ )) ، فلمْ يذكرْ فيهِ أحدٌ منْ أصحابِ عمرِو بنِ دينارٍ : فدبغوهُ ، إلاَّ ابنُ عيينةَ . وقدْ رواهُ إبراهيمُ بنُ نافعٍ المكيُّ عن عمرٍو ، فلمْ يذكرِ الدِّباغَ . وقولُ ابنِ الصلاحِ : ورواهُ ابنُ جريجٍ عن عمرٍو ، عنْ عطاءٍ ، ولَمْ يذكرْ فيهِ الدِّباغَ ، يوهمُ موافقةَ روايةِ ابنِ جريجٍ لروايةِ ابنِ عيينةَ في السندِ وليسَ كذلكَ ، فإنَّ ابنَ جريجٍ زادَ في السندِ ميمونةَ فجعلهُ من مسندها. وفي روايةِ ابنِ عيينةَ أنَّهُ من مسندِ ابنِ عبّاسٍ ، فلهذا مَثَّلْتُ: بإبراهيمَ بنِ نافعٍ، واللهُ أعلمُ . فَنَظَرنَا هلْ نجدُ أحداً تابعَ شيخَهُ عمرَو بنَ دينارٍ على ذكرِ الدباغِ فيهِ ، عنْ عطاءٍ أمْ لاَ ؟ فوجدنا أسامةَ بنَ زيدٍ الليثيَّ تابعَ عَمْرَاً عليهِ . ورواهُ الدارقطنيُّ والبيهقيُّ من طريقِ ابنِ وَهْبٍ ، عنْ أسامةَ ، عنْ عطاءِ بنِ أبي رباحٍ ، عنِ ابنِ عبّاسٍ: أنَّ النبيَّ قالَ لأهلِ شاةٍ ماتتْ : (( ألا نزعتُمْ إِهَابَهَا فدبَغْتُمُوهُ ، فانتَفَعْتُمْ بهِ )) .
قالَ البيهقيُّ وهكذا رواهُ الليثُ بنُ سعدٍ ، عنْ يزيدَ بنِ أبي حبيبٍ ، عنْ عطاءٍ . وكذلكَ رواهُ يحيى بنُ سعيدٍ ، عنِ ابنِ جريجٍ ، عنْ عطاءٍ .
فكانتْ هذهِ متابعاتٍ لروايةِ ابنِ عيينةَ . ثمَّ نظرْنَا فوجَدْنَا لها شاهداً ، وهوَ ما رواهُ مسلمٌ وأصحابُ السُّننِ من روايةِ عبدِ الرحمنِ بنِ وَعْلةَ المصريِّ ، عنِ ابنِ عبّاسٍ ، قالَ : قالَ رسولُ الله : (( أيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فقدْ طَهُرَ )) .
زِيَادَاتُ الثِّقَاتِ
178.
وَاقْبَـلْ زِيَادَاتِ الثِّقَاتِ مِنْهُـمُ
وَمَنْ سِـوَاهُمْ فَعَلَيْهِ المُعْظَـمُ
179.
وَقِيْلَ : لاَ ، وَقِيْلَ : لاَ مِنْهُمْ وَقَدْ
قَسَّمَهُ الشَّيْخُ ، فَقَالَ : مَا انْفَرَدْ
180.
دُوْنَ الثِّقَـاتِ ثِقَـةٌ خَالَفَهُـمْ
فِيْـهِ صَرِيْحاً فَهْـوَ رَدٌّ عِنْدَهُمْ
181.
أَوْ لَمْ يُخَالِفْ ، فَاقْبَلَنْـهُ وَادَّعَى
فِيْـهِ الخَطِيْبُ الاتِّفَاقَ مُجْمَعَا
182.
أَوْ خَالَفَ الاطْلاَقَ نَحْوُ ((جُعِلَتْ
تُرْبَةُ الارْضِ)) فَهْيَ فَرْدٌ نُقِلَتْ
183.
فَالْشَّـافِعِيْ وَأَحْمَدُ احْتَجَّا بِـذَا
وَالوَصْلُ والارْسَالُ مِنْ ذَا أُخِذَا
184.
لَكِنَّ في الإرْسَالِ جَرْحاً فَاقْتَضَى
تَـقْدِيْمَـهُ وَرُدَّ أنَّ مُقْتَضَـى
185.
هَـذَا قَبُولُ الوَصْلِ إذْ فِيْهِ وَفِيْ
الجَـرْحِ عِلْـمٌ زَائِدٌ لِلْمُقْتَفِيْ
مَعْرِفةُ زياداتِ الثِّقاتِ فنٌّ لطيفٌ ، يُسْتَحسَنُ العِنايةُ بهِ . وَقدْ كانَ الفقيهُ أبو بكرٍ عبدُ اللهِ بنُ محمدِ بنِ زيادٍ النَّيْسابوريُّ مشهوراً بمعرفةِ ذلكَ . قالَ الحاكمُ : كانَ يعرفُ زياداتِ الألفاظِ في المتونِ ، وكذلكَ أبو الوليدِ حسّانُ بنُ محمدٍ القرشيُّ النيسابوريُّ . تلميذُ ابنِ سُرَيْجٍ وغيرُ واحدٍ منَ الأئمةِ .
واخْتُلِفَ في زيادةِ الثقةِ على أقوالٍ :
فذهبَ الجمهورُ منَ الفقهاءِ وأصحابِ الحديثِ ، كما حكاهُ الخطيبُ عنهم ، إلى قبولها سواءٌ تعلقَ بها حكمٌ شرعيٌّ أمْ لا . وسواءٌ غَيَّرَتِ الحكمَ الثابتَ ، أمْ لاَ ، وسواءٌ أوْجبتْ نقصاً منَ أحكامٍ ثبتتْ بخبرٍ ليستْ فِيْهِ تلكَ الزيادةُ أم لا . وسواءٌ كانَ ذلكَ من شخصٍ واحدٍ بأنْ رواهُ مرّةً ناقصاً ، ومرةً بتلكَ الزيادةِ ، أو كانتْ الزيادةُ منْ غيرِ مَنْ رواهُ ناقصاً . وهذا معنى قولي : (وَمَنْ سواهُمْ ) أيْ : وَمَنْ سوَى منْ زادَها بشرطِ كونِهِ ثقةً ؛ لأنَّ الفصلَ معقودٌ لزيادةِ الثقةِ ، لا أنَّ المرادَ : ومَنْ سوى الثقاتِ . وقدِ ادَّعى ابنُ طاهرٍ الاتفاقَ على هذا القولِ عندَ أهلِ الحديثِ ، فقالَ في "مسألةِ الانتصارِ" : لا خلافَ تجدُهُ بينَ أهلِ الصنعةِ أنَّ الزيادةَ منَ الثقةِ مقبولةٌ انتهى . وشَرَطَ أبو بكرٍ الصَّيْرفيُّ منَ الشافعيَّةِ وكذلك الخطيبُ في قبولِ الزيادةِ كونَ مَنْ رواها حافظاً . وشَرَطَ ابنُ الصَّبَّاغِ في " العُدَّةِ " منهم ، ألاَّ يكونَ مَنْ نقلَ الزيادةَ واحداً ، ومَنْ رواهُ ناقصاً جماعةٌ لا يجوزُ عليهمُ الوهمُ ، فإنْ كانَ كذلكَ سقطتِ الزيادةُ وقالَ ذلكَ فيما إذا روياهُ عنْ مجلسٍ واحدٍ ، فإنْ روياهُ عنْ مجلسينِ كانا خبرينِ وعُمِلَ بهِمَا .
والقولُ الثاني : أنَّها لا تقبلُ مطلقاً لا ممَّنْ رواهُ ناقصاً ولاَ مِنْ غيرِهِ حُكيَ ذلكَ عن قومٍ منْ أصحابِ الحديثِ فيما ذَكَرَهُ الخطيبُ في "الكفايةِ" وابنُ الصبّاغِ في "العُدَّة".
والقولُ الثالثُ : أنّها لا تقبلُ ممَّنْ رواهُ ناقصاً ، وتقبلُ مِنْ غيْرِهِ منَ الثقاتِ ، حكاهُ الخطيبُ عن فرقةٍ منَ الشافعيةِ .
وهوَ المرادُ بقولي : ( وقيل : لا منهم ) أي : لا يقبلُ ممَّنْ رواهُ ناقصاً ، ثمَّ رواهُ بتلكَ الزيادةِ ، أو رواهُ بالزيادةِ ، ثمَّ رواهُ ناقصاً . وذكرَ ابنُ الصبّاغِ في " العدّةِ " فيما إذا روى الواحدُ خبراً ، ثمَّ رواهُ بعدَ ذلكَ بزيادةٍ ، فإنْ ذكرَ أنَّهُ سمعَ كلَّ واحدٍ منَ الخبرينِ في مجلسينِ ، قُبلَتِ الزيادةُ ، وإنْ عزى ذلكَ إلى مجلسٍ واحدٍ وتكررتْ روايتُهُ بغيرِ زيادةٍ ثمَّ روى الزيادةَ . فإنْ قالَ : كنتُ أُنسيتُ هذهِ الزيادةَ قُبِلَ منهُ ، وإنْ لَمْ يقلْ ذلكَ وجبَ التوقّفُ في الزيادةِ .
وفي المسألةِ قولٌ رابعٌ : أنَّهُ إنْ كانتِ الزيادةُ مغيرةً للإعرابِ ، كانَ الخبرانِ متعارضينِ ، وإنْ لَمْ تُغَيِّرِ الإعرابَ قُبِلتْ . حكاهُ ابنُ الصبّاغُ عنْ بَعضِ المتكلمينَ .
وفيها قولٌ خامسٌ : أنَّها لا تقبلُ إلاَّ إذا أفادتْ حكماً .
وفيها قولٌ سادسٌ : أنَّها تقبلُ في اللفظِ دونَ المعنى، حكاهما الخطيبُ .
وقولُهُ : ( وقد قسَّمهُ الشيخُ ) أي : ابنُ الصلاحِ ، فقالَ : قدْ رأيتُ تقسيمَ ما ينفردُ بهِ الثقةُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ :
أحدُها : ما يقعُ مخالفاً منافياً لما رواهُ سائرُ الثقاتِ ، فهذا حكمهُ الردُّ ، كما سبقَ في نوعِ الشاذِّ .
الثاني : أنْ لا يكونَ فيهِ منافاةٌ ومخالفةٌ أصلاً لما رواهُ غيرُهُ ، كالحديثِ الذي تفرّدَ بروايةِ جملتِهِ ثقةٌ ، ولاَ تعرض فيهِ لما رواهُ الغيرُ بمخالفةِ أصلٍ .
فهذا مقبول،وقدِ ادَّعى الخطيبُفيهِ اتفاقَ العلماءِ عليهِ،وسبقَ مثالهُ في نوعِ الشاذِّ.
الثالثُ : ما يقعُ بينَ هاتينِ المرتبتينِ ، مثلُ زيادةِ لفظةٍ في حديثٍ لَمْ يذكرْهَا سائرُ مَنْ روى ذلكَ الحديثَ ، مثالُهُ ما رواهُ مالكٌ عنْ نافِعٍ ، عنِ ابنِ عمرَ : أنَّ رسولَ اللهَ : (( فرضَ زكاةَ الفطرِ من رمضانَ على كلِّ حرِّ ، أو عبدٍ ، ذكرٍ ، أو أنثى منَ المسلمينَ )) ، فذكرَ أبو عيسى الترمذيُّ : أنَّ مالكاً انفردَ من بينِ الثقاتِ بزيادةِ قولِهِ : (( منَ المسلمينَ )) . وروى عبيدُ اللهِ بنُ عمرَ ، وأيوبُ ، وغيرُهما هذا الحديثَ عنْ نافعٍ عنْ ابنِ عمرَ دونَ هذهِ الزيادةِ ، فأخذَ بها غيرُ واحدٍ منَ الأئمةَ ، واحتجوا بها منهم : الشافعيُّ وأحمدُ رضي اللهُ عنهما . قالَ : ومنْ أمثلةِ ذلكَ : (( جُعلَتْ لنا الأرضُ مسجداً وَجُعِلَتْ تربتها لنا طهوراً )) . فهذهِ الزيادةُ تفرَّدَ بها أبو مالكٍ سعدُ بنُ طارقٍ الأشجعيُّ ، وسائرُ الرواياتِ لفظها : (( وجُعلتْ لنا الأرضُ مسجداً وطهوراً )) . قالَ : فهذا وما أشبهَهُ يشبهُ القسمَ الأولَ من حيثُ إنَّ ما رواهُ الجماعةُ عامٌّ ، وما رواهُ المنفردُ بالزيادةِ مخصوصٌ ، وفي ذلكَ مغايرةٌ في الصفةِ ، ونوعٌ منَ المخالفةِ يختلفُ بهِ الحكمُ . ويشبهُ أيضاً القسمَ الثانيَ من حيثُ إنَّهُ لا منافاةَ بينهما انتهى كلامُ ابنِ الصلاحِ ، واقتصرَ على المثالِ الثـاني ؛ لأنَّهُ صحيحٌ ، كما ذكرَ : تفرّدَ بالزيادةِ سعدُ بنُ طارقٍ أبو مالكٍ الأشجعيُّ ، والحديثُ رواهُ مسلمٌ والنسائيُّ من روايةِ الأشجعيِّ عنْ رِبْعي ، عن حذيفةَ . وأما المثالُ الأولُ فلاَ يصحُّ؛ لأنَّ مالكاً لم ينفردْ بالزيادةِ ، بلْ تابعهُ عليها عمرُ بنُ نافعٍ ، والضحاكُ بنُ عثمانَ ، ويونسُ بنُ يزيدَ ، وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ ، والمُعَلَّى بنُ إسماعيلَ ، وكثيرُ بنُ فَرْقدٍ . واختُلِفَ في زيادتها على عُبيدِ اللهِ بنِ عمرَ ، وأيوبَ . وقدْ بينتُ هذهِ الطرقَ في " النكتِ " التي جمعتُها على كتابِ ابنِ الصَّلاحِ .
وقولُهُ : ( والوصل والإرسال من ذا أخذ ) أي : إنَّ تعارضَ الوصلِ والإرسال نوعٌ من زيادةِ الثقةِ؛ لأنَّ الوصلَ زيادةُ ثقةٍ، وقدْ تقدّمَ أنَّ الخطيبَ حَكَى عن أكثرِ أهلِ الحديثِ أنَّ الحكمَ لِمَنْ أرسلَ.وقالَابنُ الصلاحِ : إنَّ بينَ الوصلِ والإرسال مِنَ المخالفةِ نحوَ ما ذكرناهُ،أي: في القسمِ الثالثِ.قالَ:ويزدادُ ذلكَ بأن الإرسالَ نوعُ قدحٍ في الحديثِ، فترجيحُهُ ، وتقديمُهُ من قبيلِ تقديمِ الجرحِ على التعديلِ . قالَ : ويجابُ عنهُ بأنَّ الجرحَ قُدِّمَ لما فيهِ من زيادةِ العلمِ . والزيادةُ هاهنا معَ مَنْ وصلَ ، واللهُ أعلمُ .
الأفْـرَاْدُ
186.
الفَرْدُ قِسْمَانِ ، فَفَرْدٌ مُطْلَقا
وَحُكْمُهُ عِنْدَ الشُّذُوْذِ سَبَقا
187.
وَالفَرْدُ بِالنِّسْبَةِ : مَا قَيَّدْتَهُ
بِثِقَةٍ ، أوْ بَلَدٍ ذَكَرْتَهُ
188.
أوْ عَنْ فُلانٍ نَحْوُ قَوْلِ القَائِلْ
لَمْ يَرْوِهِ عَنْ (بَكْرٍ) الاَّ (وَائِلْ)
189.
لَمْ يَرْوِهِ ثِقَةٌ الاّ (ضَمْرَهْ)
لَمْ يَرْوِ هَذَا غيرُ أهْلِ البَصْرَهْ
190.
فَإنْ يُرِيْدُوا وَاحِداً مِنْ أهْلِهَا
تَجَوُّزاً ، فاجْعَلْهُ مِنْ أوَّلهِا
191.
وَلَيْسَ في أفْـرَادِهِ النِّسْبِيَّهْ
ضَعْفٌ لَهَا مِنْ هَذِهِ الحَيْثِيَّهْ
192.
لَكِنْ إذَا قَيَّدَ ذَاكَ بِالثِّقَهْ
فَحُكْمُهُ يَقْرُبُ مِمَّا أطْلَقَهْ
الأفرادُ منقسمةٌ إلى : ما هو فردٌ مطلقاً ، وهو ما ينفردُ به واحدٌ عن كُلِّ أحدٍ . وقد سبقَ حكمُهُ ومثالُهُ في قسمِ الشاذِّ . وإلى ما هو فردٌ بالنسبةِ إلى جهةٍ خاصّةٍ . كتقييدِ الفرديةِ بثقةٍ ، أو بلدٍ معيَّنٍ ، كمكَّةَ والبصرةِ ، والكوفةِ ، أو بكونهِ لم يروِهِ من أهلِ البصرةِ ، أو الكوفةِ – مثلاً – إلاّ فلانٌ ، أو لم يروِهِ عن فلانٍ إلاّ فلانٌ . ونحوِ ذلك . فمثالُ تقييدِ الانفرادِ بكونهِ لم يروِهِ عن فلانٍ إلاّ فلانٌ : حديثٌ رواهُ أصحابُ السُّنن الأربعةِ منِ طريق سفيانَ بنِ عُيينةَ ، عن وائلِ بنِ داودَ ، عن ابنِهِ بكرِ بنِ وائلٍ ، عن الزهريِّ ، عن أنسٍ أنَّ النبيَّ : (( أوْلَمَ على صَفِيَّةَ بِسَوِيقٍ ، وتَمْرٍ )) . قالَ الترمذيُّ : حديثٌ غريبٌ . وقالَ ابنُ طاهرٍ في أطرافِ الغرائبِ : غريبٌ من حديثِ بكرِ بنِ وائلٍ عنه . تفرّدَ به وائلُ بنُ داودَ ، ولم يروِهِ عنه غيرُ سفيانَ بنِ عيينةَ . انتهى . فلا يلزمُ من تفرّدِ وائلٍ به عن ابنهِ بكرٍ تفرّدُهُ به مطلقاً . فقد ذكرَ الدارقطنيُّ في " العللِ " أنهُ رواهُ محمّدُ بن الصَّلْتِ التَّوَّزيُّ ، عن ابنِ عُيينةَ ، عن زيادِ بنِ سعدٍ ، عن الزهريِّ ، قال : ولم يتابعْ عليهِ . والمحفوظُ عن ابنِ عُيينةَ ، عن وائلٍ ، عن ابنِهِ . ورواهُ جماعةٌ عن ابنِ عيينةَ ، عن الزهريِّ بغيرِ واسطةٍ .
ومثالُ تقييدِ الانفرادِ بالثقةِ : حديثُ أنَّ النبيَّ كان يقرأُ في الأضحى ،
والفطرِ : بِقَافْ ، واقتربتِ الساعةُ . رواه مسلمُ وأصحابُ السنَنِ من روايةِ ضَمْرةَ بنِ سعيدٍ المازنيِّ ، عن عُبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ ، عن أبي واقدٍ اللَّيثيِّ ، عن النبيِّ وهذا الحديثُ لم يروِهِ أحدٌ من الثقاتِ إلا ضَمْرَةَ .
قالَ شيخُنا علاءُ الدينِ ابنُ التركمانيِّ في " الدرِّ النقي " : مدارُهُ على ضَمْرةَ – يريدُ حديثَ أبي واقدٍ – . وإنّما قيّدتُ هذا الحديثَ بقولي : أحدٌ من الثقاتِ ؛ لأنَّ الدارقطنيَّ رواهُ من روايةِ ابنِ لَهِيعَةَ ، عن خالدِ بنِ يزيدٍ ، عن الزهريِّ ، عن عروةَ ، عن عائشةَ ، عن النبيِّ . وابنُ لَهِيعَةَ ضَعَّفَهُ الجمهورُ .
ومثالُ ما انفردَ به أهلُ بلدةٍ : ما رواهُ أبو داودَ عن أبي الوليدِ الطيالسيِّ ، عن همَّامٍ ، عن قَتَادةَ ، عن أبي نَضْرةَ ، عن أبي سعيدٍ ، قال : (( أمرَنا رسولُ اللهِ أنْ نقرأَ بفاتحةِ الكتابِ ، وما تَيَسَّرَ )) . قالَ الحاكمُ : تفرّدَ بذكرِ الأمرِ فيهِ أهلُ البصرةِ من أولِ الإسنادِ إلى آخرِه . ولم يشركْهم في هذا اللفظِ سِواهم . ونحوُ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ في صِفةِ وُضوءِ رسـولِ اللهِ : (( وَمَسـحَ رأسَـهُ بماءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدِهِ )) رواهُ مسـلمٌ وأبو داودَ والترمذيُّ . قالَ الحاكمُ : هذهِ سنةٌ غريبةٌ تفرّدَ بها أهلُ مصرَ ولم يشاركهُم فيها أحدٌ .
وقولُهُ : ( فإنْ يُريدوا واحداً من أهلِها ) أي : فإن يريدوا بقولهم : انفردَ بهِ أهلُ البصرةِ ، أو هو من أفرادِ البصريين ، ونحوَ ذلك واحداً من أهلِ البصرةِ انفردَ به متجوّزينَ بذلك كما يضافُ فعلُ واحدٍ من قبيلةٍ إليها مجازاً فاجعلْه من القسمِ الأولِ ، وهو الفردُ المطلقُ . مثالُهُ ما تقدّمَ عند ذكرِ المنكرِ من روايةِ أبي زُكَيْرٍ ، عن هِشامِ بنِ عروةَ ، عن أبيهِ ، عن عائشة مرفوعاً : كُلوا البلحَ بالتمرِ … الحديثَ . قالَ الحاكمُ : هو من أفرادِ البصريينَ عن المدنيينَ تفرّدَ به أبو زُكيرٍ ، عن هشامِ بنِ عُروة . انتهى . فجعلَهُ من أفرادِ البصريينَ ، وأرادَ به واحداً منهم .
وليس في أقسامِ الفردِ المقيّدِ بنسبةٍ إلى جهةٍ خاصّةٍ ما يقتضي الحكمَ بِضَعْفِها من حيثُ كونُها أفراداً ، لكن إذا كانَ القيدُ بالنسبةِ لروايةِ الثقةِ كقولِهِم : لم يروِهِ ثقةٌ إلاّ فلانٌ ، فإنَّ حكمَهُ قريبٌ من حكمِ الفردِ المطلقِ ؛ لأنَّ روايةَ غيرِ الثقةِ كَلا روايةٍ ، إلا أنْ يكونَ قَدْ بلغَ رتبةَ مَنْ يُعتبرُ بحديثه . فلهذا قِيْلَ : ( يقربُ ) . ولم يُجعَلْ حكمُه حكمَ الفردِ المطلقِ من كُلِّ وجهٍ .
المـُعَلَّـلُ
193.
وَسَمِّ مَا بِعِلَّةٍ مَشْمُوْلُ
مُعَلَّلاً ، وَلاَ تَقُلْ : مَعْلُوْلُ
194.
وَهْيَ عِبَارَةٌ عَنَ اسْبَابٍ طَرَتْ
فِيْهَا غُمُوْضٌ وَخَفَاءٌ أثَّرَتْ
195.
تُدْرَكُ بِالخِلاَفِ وَالتَّفَرُّدِ
مَعَ قَرَائِنَ تُضَمُّ، يَهْتَدِيْ
196.
جِهْبِذُهَا إلى اطِّلاَعِهِ عَلَى
تَصْويْبِ إرْسَالٍ لِمَا قَدْ وُصِلاَ
197.
أوْ وَقْفِ مَا يُرْفَعُ ، أوْ مَتْنٍ دَخَلْ
في غَيْرِهِ ، أوْ وَهْمِ وَاهِمٍ حَصَلْ
198.
ظَنَّ فَأمْضَى ، أوْ وَقَفْ فأحْجَمَا
مَعْ كَوْنِهِ ظَاهِرَهُ أنْ سَلِمَا
أي : وسمِّ الحديثَ الذي شملتْهُ علّةٌ من عللِ الحديثِ معلَّلاً . ولا تسمِّهِ معلولاً . وقد وقعَ في عبارةِ كثيرٍ من أهلِ الحديثِ تسمّيتُهُ بالمعلولِ . وذلك موجودٌ في كلامِ الترمذيِّ ، وابنِ عَدِيٍّ ، والدارقطنيِّ ، وأبي يعلى الخليليِّ ، والحاكمِ وغيرِهم . قالَ ابنُ الصلاحِ : (( وذلك منهم ، ومن الفقهاءِ في قولهم في باب القياس : العلّةُ والمعلولُ مرذولٌ عند أهلِ العربية واللغة )) . وقال النوويُّ : (( إنّهُ لَحْنٌ )) . قلتُ : والأجودُ في تسميتِهِ : المُعَلُّ . وكذلك هو في عبارةِ بعضِهم . وأكثرُ عباراتِهم في الفعلِ منه ، أنَّهم يقولون: أعَلَّهُ فلانٌ بكذا. وقياسُهُ: مُعَلٌّ . وهو المعروفُ في اللغةِ. قالَ الجوهريُّ : لا أعلَّكَ اللهُ ، أي : لا أصابَكَ بعِلَّةٍ . وقالَ صاحبُ المحكمِ : واستعملَ أبو إسحاقَ لفظةَ المَعْلولِ في المُتَقارِبِ من (( العَروضِ )) . ثم قال : والمتكلِّمونَ يستعمِلونَ لفظةَ المعلولِ في مثلِ هذا كثيراً . قال : وبالجملةِ فَلَسْتُ منه على ثِقَةٍ ولا ثَلَجٍ ؛ لأنَّ المعروفَ إنّما هو أعلَّهُ اللهُ ، فهو مُعَلٌّ . اللهمَّ إلاَّ أنْ يكونَ على ما ذهبَ إليه سيبويهِ ، من قولِهم : مَجْنُونٌ ، ومَسلولٌ من أنّهما جاءا على جَنَنْتُه وسَللْتُه ؛ وإنْ لم يُستَعملا في الكلام استُغنيَ عنهما بـ : أفعلْتُ ، قالوا : وإذا قالوا : جُنَّ وَسُلَّ . فإنّما يقولونَ جُعِلَ فيه الجُنونُ والسِّلُّ . كما قالوا : حُرِقَ وفُسِلَ . انتهى .
وأمّا عَلَّلَهُ ، فإنّما يستعملُها أهلُ اللغةِ بمعنى : ألهاهُ بالشيءِ وشغلَهُ به . من تعليلِ الصبيِّ بالطعامِ .
والعلّةُ عبارةٌ عن أسبابٍ خفيةٍ غامضةٍ ، طرأتْ على الحديثِ ، فأثّرتْ فيه ، أي : قدحتْ في صحتِهِ . وحذفتْ همزةُ طرأت في النَّظْمِ تخفيفاً ، وأنشدَ الأخفشُ :
إذَا قَلَّ مَاْلُ المَرْءِ قَلَّ صَدِيْقُهُ
واوْمَتْ إليهِ بِالعُيُوْبِ الأصَاْبعُ
حكاهُ صاحبُ المحكمِ في مادةِ : روى ، مثالاً لحرف الروي .
وتدركُ العلةُ بتفردِ الراوي ، وبمخالفةِ غيرِهِ له ، مع قرائنَ تنضمُّ إلى ذلك يهتدي الجهبذُ ، أي : الناقدُ بذلك إلى اطلاعِهِ على إرسالِ في الموصول ، أو وقفٍ في المرفوعِ ، أو دخولِ حديثٍ في حديثٍ ، أو وهمِ واهمٍ بغيرِ ذلكَ ، بحيثُ غلبَ على ظنِّهِ ذلك ، فأمضاهُ، وحكمَ بهِ ، أو تردَّدَ في ذلك فوقف وأحْجَمَ عن الحكمِ بصحةِ الحديثِ. وإنْ لم يغلبْ على ظنهِ صحةُ التعليلِ بذلك مع كونِ الحديثِ المعلِّ ظاهرهُ السلامةُ من العلّةِ .
وإنْ ، في قولي : ( إنْ سلما )، مصدريةٌ . قالَ الخطيبُ : السبيلُ إلى معرفةِ علةِ الحديثِ أنْ تجمعَ بين طرقِهِ ، وتنظرَ في اختلافِ رواتِهِ ، وتعتبرَ بمكانهِم من الحفظِ ، ومنـزلتِهِم في الإتقانِ والضبطِ . وقالَ ابنُ المدينيِّ : (( البابُ إذا لم تجمعْ طرقُه ، لم يتبين خطؤهُ )) .
ومثالُ العلّةِ في الحديثِ ، حديثٌ رواهُ الترمذيُّ وحسَّنَهُ ، أو صحَّحَهُ وابنُ حبّانَ ، والحاكمُ وصحَّحهُ من روايةِ ابن جُرَيجٍ ، عن موسى بن عُقبةَ ، عن سُهَيل بنِ أبي صالحٍ ، عن أبيهِ ، عن أبي هريرةَ مرفوعاً : (( مَنْ جَلَسَ في مجلسٍ فَكثُرَ فيه لَغَطُهُ ، … الحديثَ )) . قال الحاكمُ في " علوم الحديث " : هذا حديثٌ مَنْ تأمَّلَهُ لم يشكَّ أنّه مِنْ شرطِ الصحيحِ ، وله علّةٌ فاحشةٌ . ثم روى أنَّ مسلماً جاء إلى البخاريِّ فسألهُ عن علتهِ ، فقال محمدُ بنُ إسماعيلَ : هذا حديثٌ مليحٌ ، ولا أعلمُ في الدنيا في هذا البابِ غيرَ هذا الحديثِ الواحدِ ، إلا أنَّهُ معلولٌ . حدّثنا به موسى بنُ إسماعيلَ ، قال : حدّثنا وُهَيبُ ، قال : حدّثنا سُهيلٌ ، عن عَوْنِ بنِ عبدِ اللهِ ، قولُه . قالَ البخاريُّ : هذا أولى فإنّهُ لا يُذكَرُ لموسى بنِ عُقبةَ سماعٌ من سهيلٍ . هكذا أعلَّ الحاكمُ في علومِهِ هذا الحديثَ بهذه الحكايةِ . وغالبُ ظنِّي أنَّ هذهِ الحكايةَ ليست بصحيحةٍ ، وأنا أتهمُ بها أحمدَ بنَ حمـدونَ القَصَّارَ راويَهـا عن مسـلمٍ .
وقـدْ بينتُ ذلكَ في النكتِ التي على كتابِ ابنِ الصلاحِ .
199.
وَهْيَ تَجِيءُ غَالِباً في السَّنَدِ
تَقْدَحُ في المتْنِ بِقَطْعِ مُسْنَدِ
200.
أوْ وَقْفِ مَرْفُوْعٍ وَقَدْ لاَ يَقْدَحُ
(كَالبَيِّعَانِ بالخِيَار) صَرَّحُوا
201.
بِوَهْمِ (يَعْلَى بْنِ عُبَيدٍ) : أبْدَلا
(عَمْراً) بـ (عَبْدِ اللهِ) حِيْنَ نَقَلا
202.
وَعِلَّةِ المتْنِ كَنَفْي البَسْمَلَهْ
إذْ ظَنَّ رَاوٍ نَفْيَها فَنَقَلَهْ
203.
وَصَحَّ أنَّ أَنَساً يَقُوْلُ : (لا
أحْفَظُ شَيْئاً فِيهِ) حِيْنَ سُئِلاَ
العلّةُ تكونُ في الإسـنادِ – وهو الأغلبُ الأكثرُ – وتكونُ في المتنِ .
ثُمَّ العلةُ في الإسنادِ قدْ تقدحُ في صحةِ المتنِ أيضاً ، وقد لا تقدحُ. فأما علّةُ الإسنادِ التي تقدحُ في صحةِ المتنِ ، فكالتعليلِ بالإرسالِ ، والوقفِ . وأما علّةُ الإسنادِ التي لا تقدحُ في صحةِ المتنِ ، فكحديثٍ رواه يَعْلَى بنُ عُبيدِ الطَّنَافسيُّ أحدُ رجالِ الصحيحِ ، عن سفيانَ الثَّوريِّ ، عن عَمْرِو بنِ دينارٍ ، عن ابنِ عمرَ ، عن النبيِّ ، قالَ : (( البَيِّعَان بالخِيَارِ )) ، الحديثَ . فوَهِمَ يَعْلَى بنُ عُبيدٍ على سفيانَ في قولِهِ : عمرِو بنِ دينارٍ . وإنّما المعروفُ من حديثِ سفيانَ ، عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ ، عن ابنِ عُمَرَ . هكذا رواهُ الأئمّةُ من أصحابِ سفيانَ أبو نُعيمٍ الفَضْلُ بن دُكَين ، وعُبيدُ الله بنُ موسى العَبْسيُّ ، ومحمّدُ بنُ يوسفَ الفِرْيابيُّ ، ومَخْلَدُ بنُ يزيدَ ، وغيرُهم . وهكذا رواهُ عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ شعبةُ ، وسفيانُ بنُ عُيينةَ ويزيدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الهادِ، ومالكُ بنُ أنسٍ من روايةِ ابنِ وَهْبٍ عنه . والحديثُ مشهورٌ لمالكٍ ، وغيرِهِ ، عن نافعٍ ، عن ابنِ عمرَ . وأما روايةُ عمرِو بنِ دينارٍ له فوهمٌ من يَعْلَى بنِ عُبيدٍ ، وقال عثمانُ بنُ سعيدٍ ، عن يحيى بنِ معينٍ : يعلى بنُ عُبيدٍ ضعيفٌ في الثوريِّ ، ثقةٌ في غيرِهِ .
وقولي : ( أبدلَ عمراً بعبدِ اللهِ ) أي : تركَ عبدَ الله بنَ دينارٍ ، وأتى بعمرِو بنِ دينارٍ ، لأنَّ الباءَ تدخلُ على المتروكِ .
وأمّا علّةُ المتنِ ، فمثالُهُ ما تفرّدَ به مسلمٌ في صحيحهِ من روايةِ الوليدِ بنِ مسلمٍ، حدّثنا الأوزاعيُّ، عن قتادةَ، أنّه كتبَ إليه يخبرُهُ عن أنسِ بنِ مالكٍ أنّهُ حَدَّثَهُ قال: صليتُ خلفَ النبيِّ ، وأبي بكرٍ ، وعمرَ ، وعثمانَ ؛ فكانوا يستفتحونَ بـ : الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين ، لا يذكرون بسم اللهِ الرحمنِ الرحيمِ ، في أولِ قراءةٍ ، ولا في آخرِها .
ثم رواهُ من رواية الوليدِ ، عن الأوزاعيِّ : أخبرني إسحاقُ بنُ عبدِ اللهِ ابنِ أبي طلحةَ أنهُ سمعَ أنسَ بنَ مالكٍ يذكرُ ذلك . وروى مالكٌ في " الموطّأ " عن حُميدٍ ، عن أنسٍ ، قال : صليتُ وراءَ أبي بكرٍ ، وعمرَ ، وعثمانَ ، فكلُّهُم كانَ لا يقرأُ بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ . وزادَ فيه الوليدُ بنُ مسلمٍ ، عن مالكٍ به: صليتُ خلفَ رسولِ اللهِ ، قال ابنُ عبد البرِّ : (( وهو عندهُم خطأٌ )) . وحديثُ أنسٍ قد أعلَّهُ الشافعيُّ ، فيما ذكرَهُ البيهقيُّ في " المعرفةِ " عنه أنّه قال في " سُننِ حَرْمَلةَ " جواباً لسؤالٍ أوردَهُ: فإنْ قالَ قائلٌ قد روى مالكٌ ، فذكرَهُ. قال الشافعيُّ: قيل له خالَفَهُ سفيانُ بنُ عيينةَ والفَزَارِيُّ ، والثَقفيُّ ، وعددٌ لقيتُهم سبعةٌ أو ثمانيةٌ، مُؤتَفِقين مخالفينَ له. قال : والعددُ الكثيرُ أولى بالحفظِ من واحدٍ . ثم رجّحَ روايتَهُم بما رواه عن سفيانَ ، عن أيوبَ ، عن قتادةَ ، عن أنسٍ ، قال : كان النبيُّ ، وأبو بكرٍ ، وعمرَ يفتتحون القراءةَ بـ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ . قال الشافعيُّ : يعني يبدؤون بقراءةِ أمِّ القرآنِ ، قبلَ ما يُقرأُ بعدَها . ولا يعني أنَّهم يتركونَ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ . وحكى الترمذيُّ عن الشافعيِّ في معنى الحديثِ مثلَ هذا .قالَ الدارقطنيُّ : (( هذا هو المحفوظُ عن قتادةَ وغيرِهِ ، عن أنسٍ )) . قالَ البيهقيُّ : وكذلك رواهُ أكثرُ أصحابِ قَتادةَ ، عن قتادةَ قال : وهكذا رواهُ إسحاقُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ أبي طلحةَ ، وثابتٌ البُنانيُّ عن أنسٍ. انتهى. وممَّنْ رواه عن قتادةَ هكذا أيوبُ السَّخْتِيانيُّ ، وشُعبةُ ، وهِشامٌ الدَّسْتَوائيُّ ، وشَيْبانُ بنُ عبدِ الرحمنِ ، وسعيدُ بنُ أبي عَرُوبةَ ، وأبو عوانة وغيرهم . قالَ ابنُ عبدِ البَّرِ : (( فهؤلاءِ حُفّاظُ أصحاب قتادةَ ليسَ في روايتهم لهذا الحديثِ ما يوجبُ سقوطَ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ من أولِ فاتحةِ الكتابِ . انتهى )) . وهذا هو اللفظُ المتفقُ عليه في الصحيحينِ وهو روايةُ الأكثرينَ . وما أوَّلهُ عليه الشافعيُّ مصرّحٌ به في روايةِ الدارقطنيِّ فكانوا يستفتحون بأمِّ القرآنِ فيما يجهرُ به . قال الدارقطنيُّ : هذا صحيحٌ . وأيضاً فلو قالَ قائلٌ إنَّ روايةَ حميدٍ منقطعةٌ بينه وبين أنسٍ ؛ لم يكن بعيداً . فقد رواها ابنُ عديٍّ عن حميدٍ ، عن قتادةَ ، عن أنسٍ قال ابنُ عبدِ البَرِّ: ويقولون: إنَّ أكثرَ روايةِ حميدٍ ، عن أنسٍ ، إنّما سمعَها من قتادةَ ، وثابتٍ عن أنسٍ . وقال ابنُ عبدِ البرِّ في " الاستذكارِ " : اختُلِفَ عليهم في لفظِهِ اختلافاً كثيراً مضطرباً متدافعاً . منهم مَنْ يقولُ فيه : صليتُ خلفَ رسولِ اللهِ وأبي بكرٍ وعمرَ ، ومنهم مَنْ يذكرُ عثمانَ ، ومنهم مَنْ لا يذكرُ : فكانوا لا يقرؤونَ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ . ومنهم مَنْ قال : فكانوا لا يجهرونَ بـ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ . وقال كثيرٌ منهم : فكانوا يفتتحونَ القراءةَ بـ : الحمدُ لله رَبِّ العالمينَ . وقال بعضُهم : فكانوا يجهرونَ بـ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ . وقال بعضُهم : كانوا يقرؤون : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ . قال : وهذا اضطرابٌ لا تقومُ معَهُ حجةٌ لأحدٍ من الفقهاءِ الذين يقرؤون بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ ، والذين لا يقرؤونها .
وقولي : ( إذ ظنَّ راوٍ نفيها ، فنقله ) أي : إذ ظنَّ بعضُ الرواةِ فَهْماً منه أنَّ معنى قولِ أنسٍ : يستفتحون بـ : الحمدُ للهِ ، أنَّهم لا يُبَسْمِلونَ ، فرواهُ على فَهْمِهِ بالمعنى ، وهو مخطئٌ في فَهْمِهِ . وممَّا يدلُّ على أنَّ أنساً لم يُرِدْ بذلك نفيَ البسملةِ ، ما صحَّ عنه مِنْ روايةِ أبي مسلمةَ سعيدِ بنِ يَزِيْدَ ، قال : سألتُ أنسَ بنَ مالكٍ أكانَ رسولُ اللهِ يستفتح بـ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمين أو بـ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم ؟ فقالَ : إنّك لتسألني عن شيءٍ ما أحفظُهُ ، وما سألني عنه أحدٌ قبلَكَ . رواه أحمدُ في مسندِهِ ، وابنُ خزيمة في " صحيحهِ " ، والدارقطنيُّ وقال : هذا إسنادٌ صحيحٌ . قال البيهقيُّ في " المعرفة " : في هذا دلالةٌ على أنَّ مقصودَ أنسٍ ما ذكرَهُ الشافعيُّ . وقد اعترضَ ابنُ عبد البرِّ على هذا الحديثِ بأنْ قال : (( مَنْ حفظَهُ عنه حجّةٌ على مَنْ سألَهُ في حالِ نسيانِهِ )) . وأجابَ أبو شَامةَ بأنّهما مسألتانِ . فسؤالُ أبي مسلمة عن البسملةِ وتركِها ، وسؤالُ قتادةَ عن الاستفتاح بأيِّ سورةٍ . وفي صحيحِ مسلم : أنَّ قتادةَ قال : نحنُ سألناهُ عنه ، فاتضح أنَّ سؤالَ قتادةَ كان غيرَ سؤالِ أبي مسلمة . وأما قولُ ابنِ الجوزيِّ في " التحقيق " : (( حديثُ أبي مسلمة ليسَ في الصحاحِ ، فلا يُعارِضُ ما في الصحاح . وإنَّ الأئمةَ اتفقوا على صحةِ حديثِ أنسٍ )) ففيه نظرٌ . فهذا الشافعيُّ ، والدارقطنيُّ ، والبيهقيُّ لا يقولون بصحةِ حديث أنسٍ الذي فيه نفيُ البسملة . فلا يصحُّ نقلُ اتفاقِ الأئمةِ عليه ، ولا يُردُّ حديثُ أبي مسلمةِ ، بكونهِ ليس في الصحاحِ . فقد صحّحهُ ابنُ خزيمةَ والدارقطنيُّ . وأيضاً فقد وصفَ أنسٌ قراءةَ النبيِّ بـ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ . فروى البخاريُّ في صحيحِهِ من روايةِ قتادةَ، قال: سُئلَ أنسُ بنُ مالكٍ، كيف كانت قراءةُ رسولِ اللهِ ؟ قال: كانت مدّاً. ثمَّ قرأَ: بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ ، يمدُّ بسمِ اللهِ . ويمدُّ الرحمنَ ، ويمدُّ الرحيمَ . قال الدارقطنيُّ : هذا حديثٌ صحيحٌ . وكلُّهم ثقاتٌ . وقال الحازميُّ : هذا حديثٌ صحيحٌ لا يُعرفُ له علّةٌ . وفيه دلالةٌ على الجهرِ مطلقاً ، وإنْ لم يُقَيَّدْ بحالةِ الصلاةِ . فيتناولُ الصلاةَ وغيرَ الصلاةِ . قال أبو شامةَ : وتقريرُ هذا أنْ يُقالَ : لو كانتْ قراءةُ رسولِ اللهِ في أمرِ الجهرِ والإسرارِ تختلفُ في الصلاةِ وخارجِ الصلاةِ ، لقال أنس لمَنْ سألَهُ عن أيِّ قراءتَيْهِ تسألُ ؟ عن التي في الصلاةِ أم عن التي خارجَ الصلاةِ ؟ فلما أجابَ مطلقاً عُلم أنَّ الحالَ لم يختلفْ في ذلكَ . وحيثُ أجابَ بالبسملةِ دونَ غيرِها من آياتِ القرآنِ ، دلَّ على أنَّ النبيَّ كان يجهرُ بالبسملةِ في قراءتهِ . ولولا ذلك لكان أنسٌ أجابَ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، أو غيرها من الآياتِ . قال : وهذا واضحٌ . قال : ولنا أنْ نقولَ : الظاهرُ أنَّ السؤالَ لم يكن إلاّ عن قراءتِهِ في الصلاةِ ، فإنَّ الراوي قتادةُ ، وهو راوي حديثِ أنسٍ ذاك . وقال فيه : نحنُ سألناهُ عنه . انتهى . فهذا ترجيحٌ لقراءةِ البسملةِ . وقد قالَ الحازميُّ : إنّهُ لا يُعرَفُ له علّةٌ . ولم يختلفْ على قتادةَ فيهِ . وأما حديثُ أنسٍ ذاكَ ، فلهُ علّلٌ اختُلفَ على قتادةَ فيه . وأعلَّهُ الشافعيُّ بخطأِ الراوي في فَهْمِهِ ، وأعلَّهُ ابنُ عبدِ البرِّ بالاضطرابِ . ومِنْ عِلَلِهِ أنهُ ليسَ متّصلاً بالسماعِ ، فإنَّ قتادةَ كتبَ إلى الأوزاعيِّ به . والخلافُ في الكتابةِ معروفٌ ، كما سيأتي .
وأما روايةُ مسلمٍ الثانيةُ فإنَّ مسلماً لم يسقْ لفظَها ، وقد ساقَهُ ابنُ عبدِ البرِّ ، كروايةِ الأكثرينَ ، كانوا يفتتحونَ القراءةَ بـ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ ، وليس فيها نفيُ البسملةِ . رواها من روايةِ محمدِ بنِ كثيرٍ قال : حدّثنا الأوزاعيُّ وهذهِ أولى من روايةِ مسلمٍ ؛ لأنَّ تلك من روايةِ الوليدِ بنِ مسلمٍ عن الأوزاعيِّ بالعنعنةِ ، والوليدُ مدلّسٌ ، كما تقدّم . وأيضاً فقد تقدمَ قولُ البيهقيِّ أنَّ روايةَ إسحاقَ ، وثابتٍ هكذا ، وهو خلافُ ما يوهمُهُ عملُ مسلمٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى .
204.
وَكَثُرَ التَّعْلِيْلُ بِالإرْسَالِ
لِلوَصْلِ إنْ يَقْوَ عَلَى اتِّصَالِ
205.
وَقَدْ يُعِلُّوْنَ بِكُلِّ قَدْحِ
فِسْقٍ ، وَغَفْلَةٍ ، وَنَوْعِ جَرْحِ
206.
وَمِنْهُمُ مَنْ يُطْلِقُ اسْمَ العِلَّةِ
لِغَيْرِ قادحٍ كَوَصْلِ ثِقَةِ
207.
يَقُوْلُ : مَعْلُوْلٌ صَحِيْحٌ كَالذّيْ
يَقُوْلُ : صَحَّ مَعْ شُذُوْذٍ احْتُذِيْ
لمَّا تقدّمَ أنَّ العلّةَ تكونُ غامضةً خفيةً في الحديثِ ، ذكر أنّهم يُعِلُّونَ أيضاً بأمورٍ ليست خفيةً . كالإرسالِ ، وفِسْقِ الراوي ، وضَعْفِهِ ، وبما لا يقدحُ أيضاً . قالَ ابنُ الصَّلاح: وكثيراً ما يُعللون الموصولَ بالمُرسلِ، مثلُ أنْ يجيءَ الحديثُ بإسنادٍ موصولٍ ، ويجيءَ أيضاً بإسنادٍ منقطع أقوى من إسناد الموصولِ . قالَ : ولهذا اشتملتْ كتبُ عللِ الحديثِ على جمع طرقِهِ .
وقولي : ( إنْ يَقْوَ ) أي : إنْ يَقْوَ الإرسالُ على الاتّصالِ . وقد يُعِلُّوَنَ الحديثَ بأنواعِ الجرحِ ، من الكذبِ ، والغَفْلةِ ، وسوءِ الحفظِ ، وفسقِ الراوي وذلك موجودٌ في كتبِ عِلَلِ الحديثِ .
وبعضُهم يطلقُ اسمَ العلةِ على ما ليس بقادحٍ من وجوهِ الخلاف ، كالحديثِ الذي وَصَلَهُ الثقةُ الضابطُ ، وأرسلَهُ غيرُه، حتى قالَ: مِنْ أقسامِ الصحيحِ ما هو صحيحٌ معلولٌ . هكذا نقلَهُ ابنُ الصلاحِ عن بعضِهِم ، ولم يسمِّه. وقائلُ ذلك هو أبو يعلى الخليليُّ . قاله في كتابهِ " الإرشادِ " أنَّ الأحاديثَ على أقسامٍ كثيرةٍ . صحيحٍ متفقٍ عليه ، وصحيحٍ معلولٍ ، وصحيحٍ مختلفٍ فيه . ثم مَثَّلَ الصحيحَ المُعَلَّ بحديثٍ رواه إبراهيمُ بنُ طَهْمانَ ، والنُّعمانُ بنُ عبدِ السلامِ ، عن مالكٍ ، عن محمّدِ بنِ عَجْلانَ ، عن أبيهِ ، عن أبي هريرةَ ، عن النبيِّ ، قال : (( للمملوكِ طعامُهُ وشرابُهُ )) . وقد رواه أصحابُ مالكٍ كلُّهم في " الموطّأ " عن مالكٍ ، قال : بلغنا عن أبي هريرةَ . قال الخليليُّ : فقد صارَ الحديثُ بتبيُّنِ الإسنادِ صحيحاً يُعتَمَدُ عليه . قال : وهذا مِنَ الصحيحِ المبيَّن بحجّةٍ ظهَرتْ . قال : وكانَ مالكٌ يرسِلُ أحاديثَ لا يُبيِّنُ إسنادَها . وإذا استقصى عليه مَنْ يتجاسَرُ أنْ يسألَهُ ربّما أجابه إلى الإسنادِ ، وأتيتُ بلفظٍ معلولٍ . وكذلك ابنُ الصلاحِ تَبَعاً لمَنْ حكى كلامَهُ في ذلك ، وهو الخليليُّ .
وقولي : ( كالذي يقولُ …) إلى آخره ، أي : كما قالَ بعضُهم من الصحيحِ ما هو صحيحٌ شاذٌّ .
208.
وَالنَّسْخَ سَمَّى (التِّرْمِذِيُّ) عِلَّهْ
فَإنْ يُرِدْ في عَمَلٍ فَاجْنَحْ لَهْ
أي : وسمَّى الترمذيُّ النسخَ علةً من عللِ الحديثِ .
وقولي : ( فإنْ يرد ) ، هوَ مِنَ الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ ، أي : فإنْ أرادَ الترمذيُّ أنّهُ علّةٌ في العملِ بالحديثِ ، فهو كلامٌ صحيحٌ . فاجنح له ، أي : مِلْ إلى كلامِهِ . وإنْ يُرد أنّهُ علةٌ في صحةِ نقلِهِ ، فلا ؛ لأنَّ في الصحيحِ أحاديثَ كثيرةً منسوخةً ، وسيأتي الكلامُ على النسخِ في فصلِ الناسخِ والمنسوخِ .
المُضْطَـرِبُ
209.
مُضْطَرِبُ الحَدِيثِ : مَا قَدْ وَرَدَا
مُخْتَلِفاً مِنْ وَاحِدٍ فَأزْيَدَا
210.
في مَتْنٍ اوْ في سَنَدٍ إنِ اتَّضَحْ
فِيْهِ تَسَاوِي الخُلْفِ ، أَمَّا إِنْ رَجَحْ
211.
بَعْضُ الوُجُوْهِ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرِبَا
وَالحُكْمُ للرَّاجِحِ مِنْهَا وَجَبَا
212.
كَالخَطِّ للسُّتْرَةِ جَمُّ الخُلْفِ
والاضْطِرَابُ مُوْجِبٌ للضَّعْفِ
المُضْطَرِبُ مِنَ الحديثِ ، هو ما اختَلَفَ راويه فيهِ . فرواهُ مرّةً على وجهٍ ، ومرةً على وجهٍ آخَر مخالفٍ له . وهكذا إنِ اضطربَ فيهِ راويانِ فأكثر ، فرواهُ كلُّ واحدٍ على وجهٍ مخالفٍ للآخرِ .
فقولي : ( من واحدٍ ) أي : من راوٍ واحدٍ ، ثم الاضطرابُ قد يكونُ في المتنِ ، وقد يكونُ في السندِ . وإنّما يُسَمَّى مضطرباً إذا تساوتِ الروايتان المختلفتانِ في الصحةِ بحيثُ لم تترجَّحْ إحداهُما على الأخرى . أمَّا إذا ترجَّحَتْ إحداهما بكونِ راويها أحفظَ ، أو أكثرَ صحبةً للمرويِّ عنهُ ، أو غيرَ ذلك من وجوهِ الترجيحِ ، فإنهُ لا يُطلقُ على الوجهِ الراجحِ وصفُ الاضطرابِ، ولا لَهُ حكمُهُ، والحكمُ حينئذٍ للوجهِ الراجحِ.
مثالُ الاضطرابِ في السندِ : ما رواهُ أبو داودَ ، وابنُ ماجه ، من روايةِ إسماعيلَ بنِ أُميَّةَ ، عن أبي عمرِو بنِ محمدِ بنِ حُرَيثٍ ، عن جَدِّهِ حريثٍ ، عن أبي هريرةَ ، عن رسولِ اللهِ ، قال: (( إذا صلَّى أحدُكُم فليجعَلْ شيئاً تِلْقاءَ وَجْهِهِ … الحديثَ )) . وفيه : (( فإذا لم يجدْ عَصاً ينصبُها بين يديه فَليَخُطَّ خطاً )) . وقدِ اختُلِفَ فيه على إسماعيلَ اختلافاً كثيراً :
فرواهُ بِشْرُ بنُ المُفضَّلِ ، ورَوْحُ بنُ القاسمِ عنه ، هكذا . ورواهُ سفيانُ الثوريُّ عنه ، عن أبي عمرِو بنِ حُريثٍ ، عن أبيهِ ، عن أبي هريرةَ . ورواهُ حُميدُ بنُ الأسودِ عنه، عن أبي عمرِو بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حريثٍ، عن جدِّهِ حريثِ بنِ سُليمٍ عن أبي هريرةَ . ورواهُ وُهَيبُ بنُ خالدٍ ، وعبدُ الوارثِ عنه ، عن أبي عمرِو بنِ حريثٍ ، عن جدِّهِ حريثٍ . ورواهُ ابنُ جُريجٍ عنه ، عن حريثِ بنِ عمّارٍ ، عن أبي هريرةَ . ورواه ذَوَّادُ بن عُلْبَةَ الحارثيُّ عنه، عن أبي عمرِو بنِ محمدٍ، عن جدِّهِ حريثِ بنِ سليمانَ . قالَ أبو زُرعةَ الدمشقيُّ : لا نعلمُ أحداً بيَّنَهُ ونسبَهُ غيرُ ذَوَّادٍ . ورواه سفيانُ بنُ عُيينةَ عنهُ . فاختُلِفَ فيه على ابنِ عيينة . فقال ابنُ المدينيِّ : عن ابنِ عيينةَ ، عن إسماعيلَ ، عن أبي محمدِ بنِ عمرِو بنِ حريثٍ ، عن جدِّهِ حريثٍ رجلٍ من بني عُذْرةَ . قال سفيانُ : لم نجدْ شيئاً نشدُّ به هذا الحديثَ ، ولم يجئ إلاَّ مِنْ هذا الوجهِ . قال ابنُ المدينيِّ : قلتُ له : إنّهم يختلفونَ فيه فتفكَّرَ ساعةً . ثم قال ما أحفظُهُ إلاّ أبا محمدِ بنَ عمرٍو .
ورواه محمّدُ بنُ سلامٍ البِيكَنْديُّ ، عن ابنِ عيينَة ، مثلَ روايةِ بشرِ بنِ المفضّلِ ، ورَوْحٍ . ورواهُ مُسَدَّدٌ ، عن ابنِ عيينةَ ، عن إسماعيلَ ، عن أبي عمرِو بنِ حريثٍ ، عن أبيهِ ، عن أبي هريرةَ . ورواهُ عمّارُ بنُ خالدٍ الواسطيُّ ، عن ابنِ عيينة ، عن إسماعيلَ ، عن أبي عمرِو بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حريثٍ ، عن جَدِّهِ حريثِ بنِ سُليمٍ ، وفيه من الاضطرابِ غيرُ ما ذكرتُ . وهو المرادُ بقولي : ( كالخطِّ ) أي : كحديثِ الخَطِّ للسُّتْرةِ جَمُّ الخُلْفِ ، أي : هو كثيرُ الاختلافِ .
ومثالُ الاضطرابِ في المتنِ ، حديثُ فاطمةَ بنتِ قَيْسٍ ، قالت : سألتُ ، أو سُئِلَ النبيُّ عن الزَّكاةِ ، فقال : (( إنَّ في المالِ لَحَقّاً سِوَى الزَّكَاةِ )) . فهذا حديثٌ قدِ اضطربَ لفظُهُ ومعناهُ . فرواهُ الترمذيُّ هكذا من روايةِ شَرِيكٍ ، عن أبي حمزةَ ، عن الشِّعبيِّ ، عن فاطمةَ . ورواهُ ابنُ ماجه من هذا الوجهِ بلفظِ : (( ليسَ في المالِ حقٌّ سِوَى الزكاةِ )) . فهذا اضطرابٌ لا يحتملُ التأويلَ . وقولُ البيهقيِّ : أنّهُ لا يحفظُ لهذا اللفظِ الثاني إسناداً ، معارَضٌ بما رواهُ ابنُ ماجه هكذا ، واللهُ أعلمُ .
والاضطرابُ موجبٌ لضعفِ الحديثِ المضطربِ لإشعارِهِ بعدمِ ضبطِ راويهِ ، أو رواتِهِ ، واللهُ أعلمُ .
المُـدْرَجُ
213.
المُـدْرَجُ : المُلْحَقُ آخِرَ الخَبَـرْ
مِنْ قَوْلِ راوٍ مَا ، بلا فَصْلٍ ظَهَرْ
214.
نَحْوُ (إذَا قُلْتَ : التَّشَهُّدَ) صَلْ
ذَاكَ (زُهَيْرٌ) وَ (ابنُ ثَوْبَانَ) فَصَلْ
215.
قُلْتُ : وَمِنْهُ مُدْرَجٌ قَبْلُ قُلِبْ
(كَأسْبِغُوا الوُضُوْءَ وَيْلٌ لِلعَقِبْ)
المدرجُ في الحديثِ أقسامٌ :
القسمُ الأولُ منه : ما أُدرجَ في آخرِ الحديثِ من قولِ بعضِ رواتِهِ . أمَّا الصحابيُّ ، أو مَنْ بعدَهُ موصولاً بالحديثِ من غيرِ فَصْلٍ بين الحديثِ وبين ذلك الكلامِ ، بذكرِ قائِلِه ، فيلتبسُ على مَنْ لا يعلم حقيقةَ الحالِ ، ويتوهمُ أنَّ الجميعَ مرفوعٌ . مثالُهُ : ما رواهُ أبو داودَ ، قالَ : حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ النُّفَيْلِيُّ ، قالَ : حدَّثَنا زُهَيرٌ ، قالَ : حدَّثَنا الحسنُ بنُ الحُرِّ ، عن القاسمِ بنِ مُخَيْمِرةَ ، قال : أخذَ عَلْقَمةُ بيدي ، فحدّثني أنَّ عبدَ اللهِ بْنَ مسعودٍ أخذَ بيدِهِ ، وأنَّ رسولَ اللهِ أخذَ بيدِ عبدِ اللهِ ، فعلَّمَنَا التشهدَ في الصلاةِ . قال : فذكرَ مثلَ حديثِ الأعمشِ : إذا قُلتَ هذا ، أو قَضَيْتَ هذا فقد قَضَيْتَ صَلاتَكَ ، إنْ شِئْتَ أنْ تقومَ فَقُمْ . وإنْ شئتَ أنْ تقعُدَ فاقْعُدْ . فقولُهُ : إذا قلتَ إلى آخره ، وصلَهُ زُهيرُ بنُ معاويةَ أبو خَيثمةَ بالحديثِ المرفوعِ في روايةِ أبي داودَ هذهِ . قالَ الحاكمُ : قولُهُ إذا قلتَ ، هذا مدرجٌ في الحديثِ من كلامِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ . وكذا قالَ البيهقيُّ في " المعرفةِ " : قد ذهبَ الحُفَّاظُ إلى أنَّ هذا وهمٌ وأنَّ قولَهُ : (( إذا فعلتَ هذا ، أو قضيتَ هذا ، فقد قَضَيْتَ صَلاتَكَ )) من قولِ ابنِ مسعودٍ ، فأدرجَ في الحديثِ . وكذا قال الخطيبُ في كتابهِ الذي جمَعهُ في الْمُدرجِ: إنّها مُدْرَجَةٌ . وقالَ النَّوويُّ في " الخُلاصة " : اتّفقَ الحفَّاظُ على أنّها مُدرجةٌ . انتهى . وقولُ الخطّابيِّ في " المعالم " : اختلفوا فيهِ ، هلْ هوَ مِنْ قَوْلِ النبيِّ ، أو من قولِ ابنِ مسعودٍ ؟ فأرادَ اختلافَ الرواةِ في وصلِهِ ، وفصلِهِ ، لا اختلافَ الحفَّاظِ ؛ فإنَّهُمْ متَّفِقُونَ على أنَّهَا مُدْرَجَةٌ.على أنَّهُ قدِ اختُلِفَ على زُهيرٍ فيهِ،فرواهُ النُّفَيليُّوأبو النَّضْرِ هاشمُ بنُ القاسمِ، وموسى بنُ داودَ الضَّبِّيُّ ، وأحمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ يونسَ اليَرْبوعيُّ ، وعليُّ بنُ الجَعْدِ ، ويحيى بنُ يحيى النَّيسابوريُّ ، وعاصمُ بنُ عليٍّ ، وأبو داودَ الطيالسيُّ، ويحيى بنُ أبي بُكَيرٍ الكِرْمانيُّ ، ومالكُ بنُ إسماعيلَ النَّهْديُّ عنهُ،هكذا مُدْرَجَاً.
ورواهُ شَبَابةُ بنُ سَوَّارٍ عنهُ ، فَفَصَلَهُ وبيَّنَ أنَّهُ مِنْ قولِ عبدِ اللهِ ، فقالَ : قالَ عبدُ اللهِ : (( فإذا قلتَ ذلكَ فقد قَضَيْتَ ما عليكَ من الصلاةِ ، فإنْ شئتَ أنْ تقومَ فقُمْ ، وإنْ شئتَ أنْ تَقْعُدَ فاقعُدْ )) . رواهُ الدارقطنيُّ ، وقالَ : شَبَابةُ ثقةٌ . وقد فَصَلَ آخِرَ الحديثِ وجعلَهُ من قولِ ابنِ مسعودٍ ، وهو أصحُّ من روايةِ مَنْ أدرجَ آخرَه . وقولُه أشبهُ بالصوابِ ؛ لأنَّ ابنَ ثوبانَ رواهُ عن الحسنِ بنِ الحرِّ كذلك ، وجعل آخرَه من قولِ ابنِ مسعودٍ ، ولم يرفعْهُ إلى النبيِّ . ثم رواهُ من روايةِ غسّانَ بنِ الربيعِ، عن عبدِ الرحمن ابنِ ثابتِ بنِ ثوبانَ ، عن الحسنِ بنِ الحرِّ ، بهِ . وفي آخرِهِ : ثم قال ابنُ مسعودٍ : إذا فرغتَ من هذا فقد فرغتَ من صلاتِكَ ، فإنْ شئتَ فاثبُتْ ، وإن شئتَ فانصرِفْ . ورواه الخطيبُ أيضاً من روايةِ بقيّةَ ، قال : حدّثنا ابنُ ثوبانَ فاستدلَّ الدارقطنيُّ على تصويبِ قولِ شَبَابةَ، بروايةِ ابنِ ثوبانَ هذهِ ، وباتفاقِ حسين الجُعْفِيِّ، وابنِ عَجْلانَ، ومحمدِ بنِ أبانَ في روايتِهِم عن الحسنِ بنِ الحرِّ ، على تَرْكِ ذكرِهِ في آخِرِ الحديثِ ، مع اتفاقِ كُلِّ مَنْ روى التشهدَ عن علقمةَ ، وعَنْ غيرِهِ ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ على ذلك .
واعلمْ أنَّ ابنَ الصلاحِ قَيَّدَ هذا القسمَ من المدرجِ بكونِهِ أُدرجَ عَقِبَ الحديثِ . وقد ذكرَ الخطيبُ في المدرجِ ما أُدخلَ في أوَّلِ الحديثِ ، أو في وَسَطِهِ . فأشرتُ إلى ذلكَ بقولي : ( قلتُ : ومنه مدرجٌ قَبْلُ قُلِبْ ) أي : أُتي بهِ قبلَ الحديثِ المرفوعِ ، أو قبلَ آخرهِ ، في وَسطِهِ مثلاً . وقولُهُ : ( قُلِبْ ) أي : جعلَ آخِرَهُ أوَّلَهُ ؛ لأنَّ الغالبَ في المدرجاتِ ذكرُها عَقِبَ الحديثِ .
ومثالُ ما وُصلَ بأوَّلِ الحديثِ ، وهو مدرجٌ : ما رواه الخطيبُ من روايةِ أبي قَطَن ، وشَبابَة فَرَّقَهُما عن شعبةَ ، عن محمدِ بنِ زيادٍ ، عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله :(( أسبغوا الوضوءَ ، ويلٌ للأعقابِ من النارِ )) .
فقولُهُ: أسبغوا الوضوءَ، من قولِ أبي هريرةَ ، وُصلَ بالحديثِ في أوَّلِهِ كذلك . رواه البخاريُّ في صحيحهِعن آدمَ بنِ أبي إياسٍ،عن شعبةَ،عن محمدِ بنِ زيادٍ ، عن أبي هريرةَ، قال: أسبغوا الوضوءَ، فإنَّ أبا القاسمِ قال: ((ويلٌ للأعقابِ من النارِ)). قال الخطيبُ: وَهِمَ أبو قَطَن عمرُو بنُ الهيثمِ ، وشَبَابةُ بنُ سَوَّارٍ في روايتهما هذا الحديث عن شعبةَ على ما سقناه. وذلك أنَّ قولَهُ : (( أسبغوا الوضوءَ )) كلامُ أبي هريرةَ . وقولُهُ : (( ويلٌ للأعقابِ مِنَ النارِ ))، كلامُ النبيِّ ، وقد رواهُ أبو داودَ الطيالسيُّ، ووَهْبُ بنُ جريرٍ،وآدمُ بنُ أبي إياسٍ ، وعاصمُ بنُ عليٍّ ، وعليُّ بنُ الجَعْدِ ، وغُنْدَرٌ ، وهُشيمٌ ، ويزيدُ بنُ زُرَيعٍ ، والنَّضْرُ بنُ شُميلٍ ، ووكيعٌ ، وعيسى بنُ يونسَ ، ومُعاذُ بنُ معاذٍ ؛ كلُّهُم عن شعبةَ. وجعلوا الكلامَ الأولَ من قولِ أبي هريرةَ، والكلامَ الثانيَ مرفوعاً .
وقولُهُ : ( ويلٌ للعَقِبِ ) ، أُفرِدَ لأجلِ الوزنِ ، وكذلك هو في روايةِ أبي داودَ الطيالسيِّ ، عن شعبةَ : (( ويلٌ للعَقِبِ من النارِ )) .
ومثالُ المدرجِ في وَسَطِ الحديثِ ، ما رواهُ الدارقطنيُّ في سننهِ من روايةِ عبدِ الحميدِ بنِ جعفرٍ ، عن هِشامِ بنِ عُروةَ ، عن أبيهِ ، عن بُسْرَةَ بنتِ صَفْوانَ قالتْ : سمعتُ رسولَ اللهِ يقولُ: (( مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ، أو أُنْثَيَيْهِ أو رُفْغَهُ ، فَلْيَتَوضَّأْ )). قال الدارقطنيُّ : كذا رواه عبدُ الحميدِ ، عن هشامٍ ، ووَهِمَ في ذكرِ الأُنثيين ، والرُّفْغِ ، وإدراجِهِ ذلك في حديثِ بُسْرَةَ . قالَ : والمحفوظُ أنَّ ذلك من قولِ عُروةَ غيرُ مرفوعٍ . وكذلك رواه الثقاتُ عن هشامٍ منهم : أيوبُ السِّخْتِيانيُّ ، وحمّادُ بنُ زيدٍ ، وغيرُهما . ثم رواهُ من طريق أيوبَ بلفظِ : (( مَنْ مَسَّ ذكرَهُ فليتوضَّأ )) ، قال : وكان عروةُ يقولُ : إذا مسَّ رُفْغَيهِ ، أو أُنثييهِ ، أو ذكرَهُ فليتوضَّأْ . وقالَ الخطيبُ : تفرّدَ عبدُ الحميدِ بذكرِ الأُنثيينِ ، والرُّفْغينِ . وليس من كلامِ رسولِ الله ، وإنَّما هو قولُ عروةَ بنِ الزبيرِ ، فأدرَجَهُ الراوي في متنِ الحديثِ . وقد بَيَّنَ ذلك حمّادٌ وأيوبُ .
قلتُ : لم ينفردْ به عبدُ الحميدِ . فقد رواه الطَّبرانيُّ في "المعجمِ الكبيرِ" من روايةِ أبي كاملٍ الجَحْدريِّ ، عن يزيدَ بنِ زُرَيعٍ ، عن أيوبَ ، عن هشامٍ عن أبيه ، عن بُسرة بلفظِ : (( إذا مسَّ أحدُكُم ذَكَرَهُ ، أو أُنْثييهِ ، أو رُفْغيْهِ ، فَلْيَتوضَّأ )) . وعلى هذا فقدِ اختُلِفَ فيه على يزيدَ بنِ زُريعٍ . ورواهُ الدارقطنيُّ أيضاً من روايةِ ابنِ جريجٍ ، عن هشامٍ ، عن أبيهِ ، عن مروانَ ، عن بُسرة ، بلفظ : (( إذا مسَّ أحدُكم ذكرَهُ أو أنْثَييهِ )) ، ولم يذكرِ : الرُّفْغَ ، وزادَ في السندِ مروانَ بنَ الحكمِ . وقد ضعّفَ ابنُ دقيقِ العيدِ الطريقَ إلى الحُكْمِ بالإدراجِ في نحو هذا . فقالَ في " الاقتراح " وممّا يَضعُفُ فيه أنْ يكونَ مُدرجاً في أثناءِ لفظِ الرسولِ ، لاسيما إنْ كان مُقدَّماً على اللفظِ المرويِّ ، أو معطوفاً عليه بواوِ العطفِ ، كما لو قال مَنْ مسَّ أنثييهِ أو ذَكَرَهُ فَلْيَتَوضَّأْ ، بتقديمِ لفظِ الأنثييْنِ على الذَّكَرِ فهاهنا يضعفُ الإدراجُ لما فيه من اتصالِ هذهِ اللفظةِ بالعاملِ الذي هو من لفظِ الرسولِ . قلتُ : ولا يعرفُ في طُرُقِ الحديثِ تقديمُ الأُنثيين على الذَّكَرِ ، وإنّما ذكرَهُ الشيخُ مثالاً ، فليُعلمْ ذلكَ .
216.
وَمِنْهُ جَمْعُ مَا أتَى كُـلُّ طَرَفْ
مِنْهُ بِإسْـنَادٍ بِـوَاحِدٍ سَـلَفْ
217.
كـ (وَائِلٍ) في صِفَةِ الصَّلاَةِ قَدْ
أُدْرِجَ (ثُمَّ جِئْتُهُمْ) وَمَـا اتَّحَدْ
أي : من أقسامِ المدرَجِ ، وَهُوَ القسمُ الثاني : أنْ يكونَ الحديثُ عِنْدَ راويهِ بإسنادٍ إلاّ طرفاً مِنْهُ ، فإنهُ عندَهُ بإسنادٍ آخرَ . فيجمعُ الرَّاوِي عَنْهُ طرفيِّ الحديثِ بإسنادِ الطرفِ الأولِ ، ولا يذكرُ اسنادَ طرفِهِ الثاني . مثالُهُ : حديثٌ رواهُ أبو داودَ من روايةِ زائدةَ ، وشَرِيكٍ ، فَرَّقَهُمَا ، والنسائيُّ من روايةِ سفيانَ بنِ عيينة كلُّهُم ، عن عاصمِ بنِ كُلَيْبٍ ، عن أبيهِ ، عن وائلِ بن حُجْرٍ في صِفَةِ صلاةِ رسولِ الله ، وَقَالَ فِيْهِ: ثُمَّ جِئْتُهُم بعدَ ذلكَ في زمانٍ فِيْهِ بردٌ شديدٌ ، فرأيتُ الناسَ عَلَيْهِمْ جُلَّ الثيابِ ، تَحَرَّكُ أيديِهم تحتَ الثِّيابِ . قَالَ موسى بنُ هارونَ الحمّالُ : ذَلِكَ عندنا وهمٌ . فقولُهُ : ( ثُمَّ جئت ) . ليس هو بهذا الإسنادِ ، وإنّما أُدرج عليه وهو من روايةِ عاصمٍ ، عن عبدِ الجبارِ بنِ وائلٍ عن بعضِ أهلِهِ ، عن وائلٍ . وهكذا رواه مُبَيَّناً زُهيرُ بنُ معاويةَ ، وأبو بَدْرٍ شُجاعُ بنُ الوليدِ ، فمَيَّزَا قصّةَ تحريكِ الأيدي من تحتِ الثيابِ ، وفَصَلاها مِنَ الحديثِ ، وذكر إسنادها ، كما ذكرناه . قال موسى بنُ هارونَ الحمّالُ : وهذه روايةٌ مضبوطةٌ، اتفق عليها زهيرٌ وشُجاعُ بنُ الوليدِ . فهما أثبَتُ له روايةً ممَّنْ رَوَى رفعَ الأيدي من تحتِ الثيابِ،عن عاصمِ بنِ كُليبٍ،عن أبيهِ،عن وائلٍ.وقال ابنُ الصلاح:إنهُ الصّوابُ.
وقولي : ( وما اتّحد ) أي : وما اتحدَ إسنادُ هذا الطرفِ الأخيرِ مع أوَّلِ الحديثِ ، بل إسنادُهما مختلفٌ .
218.
وَمِنْهُ أنْ يُدْرَجَ بَعْضُ مُسْنَدِ
في غَيْرِهِ مَعَ اخْتِلاَفِ السَّنَدِ
219.
نَحْوُ ( وَلاَ تَنَافَسُوْا) في مَتْنِ (لاَ
تَبَاغَضُوا) فَمُدْرَجٌ قَدْ نُقِلاَ
220.
مِنْمَتْنِ (لاَ تَجَسَّسوا)أدْرَجَهُ
( إبْنُ أبي مَرْيَمَ ) إذْ أخْرَجَهُ
أي : ومن أقسامِ المدرجِ ، وهو القسمُ الثالثُ : أنْ يُدرجَ بعضُ حديثٍ في حديثٍ آخرَ مخالفٍ له في السند .
مثالُهُ : حديثٌ رواهُ سعيدُ بنُ أبي مريمَ ، عن مالكٍ ، عن الزهريِّ ، عن أنسٍ ، أنَّ رسولَ اللهِ ، قال : (( لا تَبَاغَضُوا ، ولا تَحَاسَدُوا ، ولا تَدَابَرُوا ولا تَنَافَسُوا ، … الحديثَ )) .
فقولُهُ : (( ولا تنافسُوا )) مدرجَةٌ في هذا الحديثِ أدرَجَها ابنُ أبي مريمَ فيه ، من حديثٍ آخرَ لمالكٍ ، عن أبي الزِّنادِ ، عن الأعرجِ ، عن أبي هريرةَ ، عن النبيِّ : (( إيَّاكُمْ والظَّنَّ ، فإنَّ الظنَّ أكذَبُ الحديثِ ، ولا تَجَسَّسُوا ، ولا تَحَسَّسُوا،ولا تَنَافَسُوا، ولا تَحاسَدُوا ،…)) وكلا الحديثينِ متفقٌ عليه . من طريقِ مالكٍ . وليس في الأولِّ : ولا تنافسوا . وهي في الحديثِ الثاني. وهكذا الحديثانِ عند رواةِ " الموطّأ " : عبدِ الله بنِ يوسفَ، والقَعْنبيِّ، وقُتيبةَ، ويحيى بنِ يحيى، وغيرهم . قال الخطيبُ : وقد وَهِمَ فيها ابنُ أبي مريمَ على مالكٍ،عن ابنِ شهابٍ. وإنّما يرويها مالكٌ في حديثِهِ عن أبي الزِّنادِ.
221.
وَمِنْـهُ مَتْـنٌ عَـنْ جَمَاعَـةٍ وَرَدْ
وَبَعْضُهُمْ خَالَفَ بَعْضَاً في السَّـنَدْ
222.
فَيَجْمَـعُ الكُـلَّ بإسْــنَادٍ ذَكَـرْ
كَمَتْـنِ (أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ) الخَبَرْ
223.
فَإنَّ (عَمْرَاً)عِنْـدَ(وَاصِلٍ)فَقَطْ
بَيْنَ (شَقيْقٍ) وَ (ابْنِ مَسْعُوْدٍ) سَقَطْ
224.
وَزَادَ(الاعْمَشُ)كَذَا(مَنْصُوْرُ)
وَعَمْدُالادْرَاجِ لَهَا مَحْظُـوْرُ
أي : ومن أقسامِ المدرجِ ، وهو القسمُ الرابعُ : أنْ يرويَ بعضُ الرواةِ حديثاً عن جماعةٍ ، وبَيْنهم في إسنادهِ اختلافٌ فيجمعُ الكلَّ على إسنادٍ واحدٍ ممّا اختلفوا فيه ، ويدرجُ روايةَ مَنْ خالفَهم معهم على الاتفاقِ .
مثالُهُ : حديثٌ رواه الترمذيُّ ، عن بُنْدَارٍ ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ مهديٍّ عن سفيانَ الثوريِّ ، عن واصلٍ ، ومنصورٍ ، والأعمشِ ، عن أبي وائلٍ ، عن عمرِو بنِ شُرَحْبِيلَ ، عن عبدِ اللهِ ، قال : (( قلتُ : يا رسولَ اللهِ ، أيُّ الذنبِ أعظَمُ ؟ … )) الحديثَ . وهكذا رواهُ محمدُ بنُ كثيرٍ العبديُّ ، عن سفيانَ فيما رواهُ الخطيبُ . فروايةُ واصلٍ هذهِ مدرجةٌ على روايةِ منصورٍ ، والأعمشِ ؛ لأنَّ واصلاً لا يذكرُ فيه عمراً، بل يجعلُهُ عن أبي وائلٍ ، عن عبدِ اللهِ ، هكذا . رواه شعبةُ ، ومهديُّ بنُ ميمونٍ ، ومالكُ بنُ مِغْولٍ ، وسعيدُ بنُ مسروقٍ ، عن واصلٍ ، كما ذكرَهُ الخطيبُ .
وقد بَيَّنَ الإسنادَيْنِ معاً يحيى بنُ سعيدٍ القطّانُ في روايتهِ ،عن سفيانَ،وفَصَلَ أحدَهُما من الآخرِ . رواه البخاريُّ في صحيحهِ في "كتابِ المحاربينَ" عن عمرِو بنِ عليٍّ ، عن يحيى،عن سفيانَ،عن منصورٍ، والأعمشِ؛ كلاهما عن أبي وائلٍ ، عن عمرٍو ، عن عبدِ اللهِ، وعن سفيانَ، عن واصلٍ، عن أبي وائلٍ، عن عبدِ اللهِ ، من غيرِ ذكرِ عمرِو بنِ شرحبيلَ. قال عمرُو بنُ عليٍّ : فذكرتُهُ لعبدِ الرحمنِ ، وكان حدّثنا عن سفيانَ ، عن الأعمشِ ، ومنصورٍ وواصلٍ ، عن أبي وائلٍ ، عن أبي مَيْسرةَ ، يعني : عمراً ، فقال : دَعْهُ دَعْهُ .
قلتُ : لكن رواهُ النسائيُّ في المحاربةِ ، عن بُنْدارٍ ، عن ابنِ مهديٍّ ، عن سفيانَ، عن واصلٍ – وَحْدَهُ - ، عن أبي وائلٍ ، عن عمرِو بنِ شُرْحَبيلَ ، فزادَ في السند عمْراً من غير ذكرِ أحدٍ ، أدرجَ عليه روايةَ واصلٍ . وكأنَّ ابنَ مهديٍّ لمّا حدَّثَ به عن سفيانَ ، عن منصورٍ ، والأعمشِ ، وواصلٍ ، بإسنادٍ واحدٍ ظنَّ الرواةُ عن ابنِ مهديٍّ اتفاقَ طرقِهِم ، فربَّما اقتصرَ أحدُهم على بعضِ شيوخِ سفيانَ ، ولهذا لا ينبغي لمَنْ يروي حديثاً بسندٍ فيه جماعةٌ في طبقةٍ واحدةٍ مجتمعين في الرواية عن شيخٍ واحدٍ ، أن يحذفَ بعضَهم ؛ لاحتمالِ أنْ يكونَ اللفظُ في السندِ أو المتنِ لأحدِهم وحملَ روايةَ الباقينَ عليه . فربَّما كانَ مَنْ حَذَفَهُ هو صاحبُ ذلكَ اللفظِ، وسيأتي التنبيهُ على ذلكَ في موضعِهِ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
وقولُهُ : ( وزادَ الأعمشُ ) أي : وزادَ الأعمشُ ، ومنصورٌ ، ذِكْرَ عمرِو بنِ شُرحبيلَ بين شَقيقٍ ، وابنِ مسعودٍ ؛ على أنَّهُ قد اختُلِفَ على الأعمشِ في زيادةِ عمرِو بنِ شرحبيلَ اختلافاً كثيراً ، ذكرَهُ الخطيبُ .
وقولُهُ : ( وعَمْدُ الادراجِ لها ) أي : لهذهِ الأقسامِ الأربعةِ ، أو الخمسةِ . محظورٌ ، أي : ممنوعٌ . قالَ ابنُ الصلاحِ : واعلمْ أنَّهُ لا يجوزُ تعمُّدُ شيءٍ مِنَ الادراجِ المذكورِ . وهذا النوعُ قد صنَّفَ فيه الخطيبُ ، فشَفَى وكَفَى .
المَوْضُـوْعُ
225.
شَرُّ الضَّعِيْفِ : الخَبَرُ الموضُوْعُ
الكَـذِبُ، المُختَلَـقُ ، المَصْنُـوْعُ
226.
وَكَيْفَ كَانَ لَمْ يُجِيْزُوا ذِكْرَهُ
لِمَنْ عَلِمْ،مَا لَمْ يُبَيِّـنْ أَمْـرَهُ
227.
وَأكْثَرَ الجَامِعُ فِيْهِ إذْ خَـرَجْ
لِمُطْلَقِ الضَّعْفِ،عَنَى: أبَا الفَرَجْ
أي : شرُّ الأحاديثِ الضعيفةِ : الموضوعُ ، وهو المكذوبُ ، ويقالُ له
المختلَقُ المصنوعُ ، أي : إنَّ واضعَهُ اختلقَهُ وصنَعَهُ . وهذا هو الصوابُ ، كما ذكره ابنُ الصلاحِ هنا . وأما قولُهُ في قسمِ الضعيفِ : إنَّ ما عُدِمَ فيه جميعُ صفاتِ الحديثِ الصحيحِ والحسنِ ، هو القسمُ الآخِرُ الأَرذَلُ ؛ فَهُوَ محمولٌ عَلَى أنَّهُ أرادَ ما لَمْ يكنْ موضوعاً ، اللهمَّ إلا أن يريدَ بفَقْدِ ثقةِ الرَّاوِي أنْ يكونَ كذّاباً . ومعَ هَذَا فَلاَ يلزمُ مِنْ وُجودِ كذّابٍ في السندِ أنْ يكونَ الحديثُ موضوعاً ، إذ مطلقُ كذبِ الرَّاوِي لا يدلُّ عَلَى الوضعِ ، إلا أنْ يعترفَ بوضعِ هَذَا الحديثِ بعينِهِ، أو ما يقومُ مقامَ اعترافِهِ عَلَى ما ستقفُ عَلَيْهِ . وكيفَ كَانَ الموضوعُ ، أي : في أيِّ معنى كانَ ، في الأحكامِ أو القصصِ ، أو الترغيبِ والترهيبِ ، وغيرِ ذَلِكَ . لَمْ يجيزوا لمنْ علمَ أنَّهُ موضوعٌ أنْ يذكرَهُ بروايةٍ ، أو احتجاجٍ، أو ترغيبٍ إلا معَ بيانِ أنّهُ موضوعٌ ، بخلافِ غيرِهِ من الضعيفِ المحتملِ للصدقِ، حَيْثُ جوّزوا روايتَهُ في الترغيبِ والترهيبِ ، كَمَا سيأتي . قَالَ ابنُ الصَّلاَح : ولقد أكثرَ الَّذِي جمعَ في هَذَا العصرِ الموضوعاتِ في نَحْوِ مُجَلّدَيْنِ ، فأودَعَ فِيْهَا كثيراً مِنْهَا ، لا دليلَ عَلَى وضعِهِ ، وإنّما حقُّهُ أنْ يُذكرَ في مطلقِ الأحاديثِ الضعيفةِ . وأراد ابنُ الصلاحِ بالجامعِ المذكورِ، أبا الفَرَجِ بنَ الجَوْزيِّ . وأشرتُ إِلَى ذلكَ بقولي : ( عَنَى : أبا الفرجِ ).
228.
وَالوَاضِعُوْنَ لِلحَدِيْثِ أضْرُبُ
أَضَرُّهُـمْ قَـوْمٌ لِزُهْـدٍ نُسِـبُوا
229.
قَدْ وَضَعُوْهَا حِسْبَةً ، فَقُبِلَتْ
مِنْهُـمْ ، رُكُوْناً لَهُـمُ ونُقِلَـتْ
230.
فَقَيَّـضَ اللهُ لَهَـا نُـقَّادَهَـا
فَبَـيَّنُـوا بِنَقْدِهِـمْ فَسَـادَهَـا
231.
نَحْوَ أبي عِصْمَةَ إذْ رَأَى الوَرَى
زَعْمَاً نَأوْا عَنِ القُرَانِ ، فافْتَرَى
232.
لَهُمْ حَدِيْثَاً في فَضَائِلِ السُّـوَرْ
عَـنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فبئسَمَا ابْتَكَرْ
233.
كَذَا الحَدِيْثُ عَنْ أُبَيٍّ اعْتَرَفْ
رَاوِيْهِ بِالوَضْعِ ، وَبِئسَـمَا اقتَرَفْ
234.
وَكُـلُّ مَنْ أوْدَعَـهُ كِتَابَـهْ
- كَالوَاحِدِيِّ - مُخْطِئٌ صَـوَابَهْ
الواضعونَ للحديثِ عَلَى أصنافٍ بحسبِ الأمرِ الحاملِ لَهُمْ عَلَى الوضعِ .
فضربٌ من الزَّنادقةِ يفعلونَ ذَلِكَ ؛ ليُضلوا به الناسَ ، كعبدِ الكريمِ بنِ أبي
العَوجاءِ الذي أمرَ بضربِ عُنقِهِ محمدُ بنُ سليمانَ بنِ عليِّ ، وكبَيَانٍ الذي قتَلهُ خالدُ القَسْريُّ ، وحرقَهُ بالنارِ . وقدْ رَوَى العُقيليُّ بسندِهِ إلى حمّادِ بنِ زيدٍ قالَ : وضعتِ الزنادقةُ على رسولِ اللهِ أربعةَ عشرَ ألفَ حديثٍ .
وضربٌ يفعلونَهُ انتصاراً لمذاهبِهِم،كالخَطَّابيّةِ والرافضةِ، وقومٍ من السَّالميةِ.
وضربٌ يتقربونَ لبعضِ الخلفاءِ والأمراءِ بوضعِ ما يوافقُ فعلَهُم وآراءهم ، كغِياثِ بنِ إبراهيمَ ، حيثُ وضعَ للمهدي في حديث : (( لا سَبَقَ إلا في نَصْلٍ ، أو خُفٍّ ، أو حافرٍ )) . فزادَ فيه : أو جَناحٍ . وكان المهديُّ إذ ذاك يلعبُ بالحَمَامِ فتركهَا بعد ذلك وأمرَ بذبحِها ، وقال أنا حملتُهُ على ذلك .
وضربٌ كانوا يتكسَّبُونَ بذلك ويرتزِقُونَ به في قَصَصِهم، كأبي سعدٍ المدائنيِّ.
وضَرْبٌ امتُحِنوا بأولادٍ لهم أو ورّاقينَ فوضعُوا لهم أحاديثَ ودَسُّوها عليهم، فحدّثوا بها من غيرِ أنْ يَشْعُروا ، كعبدِ اللهِ بنِ محمدِ بنِ ربيعةَ القُدَامِيِّ .
وضربٌ يلجؤونَ إلى إقامةِ دليلٍ على ما أفتوا به بآرائِهِم ، فيضعُونَ ، كما نُقِلَ عن أبي الخطّابِ بنِ دِحْيةَ ، إنْ ثَبَتَ عنه .
وضربٌ يَقلِبُونَ سَنَدَ الحديثِ ؛ ليُستَغْرَبَ ، فيُرغَبَ في سماعِهِ منهم ، وسيأتي ذلكَ بعدَ هذا في المقلوبِ .
وضربٌ يتديّنُونَ بذلكَ لترغيبِ الناسِ في أفعالِ الخيرِ بزعمِهِم ، وهم منسوبُونَ إلى الزُّهْدِ ، وهم أعظمُ الأصنافِ ضرراً ؛ لأنَّهم يحتسِبُونَ بذلكَ ، ويرونَهُ قربةً ، فلا يمكنُ تركُهم لذلك . والناسُ يَثِقُون بهم ، ويركنونَ إليهم لما نُسِبُوا له من الزهدِ، والصلاحِ، فينقلونَها عنهم . ولهذا قالَ يحيى بنُ سعيدٍ القطّانُ : ما رأيتُ الصَّالحينَ أكذبَ منهم في الحديثِ . يريدُ بذلكَ – واللهُ أعلم – المنسوبينَ للصلاحِ بغيرِ علمٍ يفرّقُونَ بهِ بينَ ما يجوزُ لهم ويمتنعُ عليهم . يدلُّ على ذلكَ ما رواهُ ابنُ عَدِيٍّ والعُقيليِّ بسندِهما الصحيحِ إليه أنّهُ قال : ما رأيتُ الكذبَ في أحدٍ أكثرَ منه فيمَنْ يُنسَبُ إلى الخيرِ . أو أرادَ أنَّ الصالحينَ عندَهم حسنُ ظنٍّ ، وسلامةُ صدرٍ ، فيحمِلونَ ما سمِعَوه على الصدقِ ، ولا يهتدونَ لتمييزِ الخطأ من الصوابِ .
ولكن الواضعون ممَّنْ يُنْسَبُ للصلاحِ ، وإنْ خَفِيَ حالُهم على كثيرٍ من الناسِ ، فإنّه لم يَخْفَ على جَهابِذَةِ الحديثِ ، ونقّادِهِ . فقاموا بأعباءِ ما حُمِّلُواْ فتحمَّلوهُ، فكشفُوا عُوَارَها ، ومَحَوا عَارَها . حتى لقد روينا عن سفيانَ قال : ما سترَ اللهُ أحداً بكذبٍ في الحديثِ . وروينا عن عبدِ الرحمنِ بنِ مهديٍّ أنهُ قال : لو أنَّ رجلاً هَمَّ أنْ يكذبَ في الحديثِ ، لأسقَطَهُ اللهُ تعالى . وروينا عن ابنِ المباركِ قال : لو هَمَّ رجلٌ في السَّحرِ أنْ يكذبَ في الحديثِ ، لأصبحَ والناسُ يقولون فلانٌ كذّابٌ . وروينا عنه أنّهُ قيل له : هذهِ الأحاديثُ المصنوعةُ ، فقال : تعيشُ لها الجَهَابِذةُ إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُوْنَ . وروينا عن القاسمِ بنِ محمدٍ أنّهُ قال : إنَّ الله أعانَنَا على الكذّابينَ بالنسيانِ .
ومثالُ مَنْ كان يضعُ الحديثَ حِسْبةً ، ما رويناه عن أبي عِصْمَة نُوحِ بنِ أبي مريمَ المروزيِّ - قاضي مَرْو - ، فيما رواهُ الحاكمُ بسندهِ إلى أبي عمّارٍ المروزيِّ أنّهُ قيل لأبي عصمةَ : مِن أين لك عن عِكْرمةَ ، عن ابنِ عبّاسٍ في فضائلِ القرآنِ سورةً سورةً ، وليس عند أصحابِ عكرمةَ هذا ؟! فَقَالَ : إنّي رأيتُ الناسَ قَدْ أعرضُوا عن القرآنِ ، واشتغلوا بفقهِ أبي حنيفةَ ، ومغازي محمدِ بنِ إسحاقَ ، فوضعتُ هَذَا الحديثَ حِسْبةً . وَكَانَ يُقال لأبي عصمةَ هَذَا نوحٌ الجامعُ . فَقَالَ أبو حاتمٍ ابنُ حبّانَ : جمعَ كلَّ شيءٍ إلا الصدقَ . وَقَالَ أبو عبدِ اللهِ الحاكمُ : وضعَ حديثَ فضائلِ القرآنِ . وروى ابنُ حبّانَ في مقدّمةِ "تاريخِ الضُّعفاءِ" ،عن ابنِ مهديٍّ قال : قلتُ لِمَيْسرة بن عبدِ ربِّهِ : من أين جئت بهذهِ الأحاديثِ مَنْ قرأ كذا فلَهُ كذا ؟ قال : وضعتُها أُرَغِّبُ الناسَ فيها . وهكذا حديثُ أُبَيٍّ الطويلُ في فضائلِ قراءةِ سُوَرِ القرآنِ سُورةً سورةً . فروينا عن المؤمَّل بنِ إسماعيلَ ، قال : حدّثني شيخٌ به . فقلتُ للشيخِ مَنْ حدّثكَ ؟ فقالَ : حدّثني رجلٌ بالمدائنِ – وهو حيٌّ – فصرتُ إليهِ ، فقلتُ : مَنْ حدّثَكَ ؟ فقال : حدّثني شيخٌ بواسطَ – وهو حيٌّ – فصرتُ إليه ، فقال : حدثني شيخٌ بالبصرةِ ، فصرتُ إليه ، فقال : حدثني شيخٌ بعبادانَ ، فصرتُ إليه ، فأخَذَ بيدي ، فأدخلني بيتاً ، فإذا فيه قومٌ من المتصوّفِةِ ، ومعهم شيخٌ ، فقالَ هذا الشيخُ حدّثني، فقلتُ : يا شيخُ مَنْ حدّثكَ ؟ فقال : لم يحدّثني أحدٌ . ولكنَّا رأينا الناسَ قد رغبُوا عن القرآنِ ، فوضَعنا لهم هذا الحديثَ ؛ ليصرفُوا قُلوبَهم إِلَى القرآنِ .
وكلُّ مَنْ أودعَ حديثَ أُبَيٍّ – المذكورِ – تفسيرَهُ ، كالواحديِّ ، والثَّعْلبيِّ والزَّمَخْشَريِّ مخطئٌ في ذلكَ ؛ لكنّ من أبرزَ إسنادَهُ منهم ، كالثعلبيِّ ، والواحديِّ فهو أبسطُ لِعُذْرِهِ ، إذ أحالَ ناظرَهُ على الكشفِ عن سندِهِ ، وإنْ كان لا يجوزُ له السكوتُ عليه من غيرِ بيانِهِ ، كما تقدّمَ . وأمَّا مَنْ لم يُبْرِزْ سنَدَهُ ، وأوردَهُ بصيغةِ الجزمِ فخطؤُهُ أفحشُ ، كالزَّمخشريِّ .
235.
وَجَوَّزَ الوَضْعَ –عَلَى التَّرْغِيْبِ-
قَوْمُ ابنِ كَرَّامٍ ، وَفي التَّرْهِيْبِ
ذكرَ الإمامُ أبو بكرٍ محمدُ بنُ منصورٍ السَّمعانيُّ : أنَّ بعضَ الكَرَّاميَّةِ ذهبَ إلى جوازِ وضعِ الحديثِ على النبيِّ ، فيما لا يتعلقُ به حكمٌ من الثوابِ والعقابِ ترغيباً للنَّاسِ في الطاعةِ ، وزجْرَاً لهم عن المعصيةِ . واستدلوا بما رُويَ في بعضِ طُرقِ الحديثِ : (( مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتعمِّداً -ليُضِلَّ بهِ الناسَ- فلْيَتبوَّأْ مَقْعدَهُ من النارِ )) . وحملَ بعضُهم حديثَ مَنْ كذبَ عليَّ ، أي : قالَ : إنّهُ ساحرٌ أو مجنونٌ . وقال بعضُ المخذُولِينَ : إنّما قالَ مَنْ كَذَبَ عليَّ ، ونحنُ نكذبُ لَهُ ونقوِّي شَرعَهُ . نسألُ اللهَ السلامةَ من الخِذْلانِ .
وروى العُقيليُّ بإسنادِهِ إلى محمدِ بنِ سعيدٍ - كأنَّهُ المَصْلُوبُ - قال : (( لا بأسَ إذا كانَ كلامٌ حسنٌ أنْ تضعَ له إسناداً )) . وحكى القُرْطبيُّ في " المُفْهِم " عن بعضِ أهلِ الرأي أنَّ ما وافقَ القياسَ الجليَّ جازَ أنْ يُعزَى إِلَى النبيِّ . وروى ابنُ حبّانَ في مقدّمةِ " تاريخِ الضُّعفاءِ " بإسنادِهِ إلى عبدِ اللهِ بنِ يزيدَ المقريء : أنَّ رجلاً من أهلِ البِدَعِ رجعَ عن بدعتِهِ ، فجعلَ يقولُ : انظروا هذا الحديثَ عمَّنْ تأخذونَهُ ، فإنّا كُنَّا إذا رأينا رأياً جعلنا له حديثاً .
236.
وَالوَاضِعُوْنَبَعْضُهُمْ قَدْ صَنَعَا
مِنْ عِنْدِ نَفْسِـهِ ، وَبَعْضٌ وَضَعَا
237.
كَلامَ بَعْضِ الحُكَمَا في المُسْـنَدِ
وَمِنْهُ نَـوْعٌ وَضْعُهُ لَمْ يُقْصَـدِ
238.
نَحْوُ حَدِيْثِ ثَابِتٍ (مَنْ كَثُرَتْ
صَلاَتُهُ) الحَدِيْثَ ، وَهْلَةٌ سَرَتْ
ثُمَّ الواضعونَ منهم مَنْ يَضَعُ كلاماً من عندِ نفسِهِ ، ويرويه إلى النبيِّ ومنهم من يأخُذُ كلامَ بعضِ الحُكَماءِ ، أو بعضِ الزُّهادِ ، أو الإسرائلياتِ فيجعلُهُ حديثاً نحو حديثِ : (( حبُّ الدنيا رأسُ كُلِّ خطيئةٍ )) . فإنّه إمّا من كلامِ مالكِ بن دينارٍ ، كما رواهُ ابنُ أبي الدنيا في كتابِ " مكايدِ الشيطانِ " بإسنَادِهِ إليه . وإمَّا هو مرويٌّ من كلامِ عيسى بنِ مريمَ كما رواه البيهقيُّ في كتابِ " الزهدِ " ، ولا أصلَ لَهُ من حديثِ النبيِّ ، إلا من مراسيلِ الحسنِ البصريِّ ، كما رواهُ البيهقيُّ في " شعبِ الإيمانِ " في البابِ الحادي والسبعين منه . ومراسيلُ الحسن عندَهم شِبْهُ الريحِ .
وكالحديثِ الموضوعِ : (( المَعِدةُ بيتُ الداءِ ، والحِمْيَةُ رأسُ الدَّواءِ )) . فهذا من كلامِ بعضِ الأطباءِ ، لا أصلَ له عن النبيِّ .
ومن أقسامِ الموضوعِ : ما لم يُقْصَدْ وضعهُ ، وإنّما وهمَ فيه بعضُ الرواةِ . وقالَ ابنُ الصلاحِ : إنّهُ شبهُ الوضعِ ، كحديثٍ رواهُ ابنُ ماجه ، عن إسماعيلَ بنِ محمدَ الطَّلْحِيِّ ، عن ثابتِ بنِ موسى الزاهدِ ، عن شَرِيكٍ ، عن الأعمشِ ، عن أبي سُفيانَ ، عن جابرٍ مرفوعاً : (( مَنْ كَثُرَتْ صَلاتُهُ باللَّيلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بالنَّهارِ )) .
قال أبو حاتمٍ الرازيُّ : كتبتُهُ عن ثابتٍ فذكرتُهُ لابن نُميرٍ ، فقال الشيخُ – يعني ثابتاً – لا بأسَ به . والحديثُ منكرٌ . قال أبو حاتمٍ : والحديثُ موضوعٌ . وقال الحاكمُ:دخلَ ثابتُ بنُ موسى على شَريكِ بنِ عبدِ اللهِ القاضي ، والمُستملي بين يديهِ، وشريكٌ يقول : حدّثنا الأعمشُ ، عن أبي سفيانَ ، عن جابرِ ، قال : قالَ رسول الله : ولم يذكرِ المتْنَ . فلما نظرَ إلى ثابتِ بنِ موسى قالَ : (( مَنْ كثُرتْ صلاتُهُ بالليلِ حسُن وجههُ بالنهارِ )) وإنَّما أرادَ ثابتاً لزهدِهِ وورعِهِ ، فظنَّ ثابتٌ أنّه رُوِيَ هذا الحديثُ مرفوعاً بهذا الإسنادِ ، فكان ثابتٌ يحدّثُ به عن شريكٍ ، عن الأعمشِ ، عن أبي سفيانَ ، عن جابرِ ، وقالَ ابنُ حبّانَ : وهذا قولُ شريك . قالَهُ عَقِبَ حديثِ الأعمشِ ، عن أبي سفيانَ ، عن جابرِ : (( يَعْقِدُ الشيطانُ على قافيةِ رأسِ أحدِكم )) . فأدرجهُ ثابتٌ في الخبرِ ، ثمَّ سَرَقَهُ منهجماعةٌ ضعفاءُ، وحدّثوا به عن شريكٍ ؛ فعلى هَذَا هُوَ من أقسامِ المدرجِ.
وقالَ ابنُ عديٍّ : إنّهُ حديثٌ منكرٌ لا يُعرفُ إلا بثابتٍ ، وسرقَهُ مِنْهُ من الضُّعفاء عبدُ الحميدِ بنُ بحرٍ، وعبدُ اللهِ بنُ شبرمةَ الشَّريكيُّ، وإسحاقُ بن بشرٍ الكَاهليُّ،وموسى بنُ محمدٍ أبو الطاهرِالمقدسيُّ. قَالَ : وحدّثنا بِهِ بعضُ الضِّعاف عن زحمويهِ،وكذب؛ فإنَّ زحمويهِ ثقةٌ. قَالَ وبلغني عن محمدِ بنِ عبدِ اللهِ بن نميرٍ أنّهُ ذُكرَ لَهُ هَذَا الحديثُ،عن ثابتٍ ، فَقَالَ: باطلٌ، شُبِّهَ عَلَى ثابتٍ ؛ وذلكَ أنَّ شريكاً كان مَزَّاحاً ، وكانَ ثابتٌ رجلاً صالحاً فيشبهُ أن يكونَ ثابتٌ دخلَ على شَرِيكٍ ، وكان شريكٌ يقولُ: حدثنا الأعمشُ،عن أبي سفيانَ،عن جابرٍ،عن النبيِّ ، فالتفَتَ فرأى ثابتاً فقال يُمازِحُه : (( مَنْ كثُرت صلاتُهُ بالليلِ حسُن وجهُهُ بالنهارِ )) . فظنَّ ثابتٌ لغفلتِهِ أنَّ هذا الكلامَ الذي قالَهُ شريكٌ،هو متنُ الإسنادِ الذي قرأهُ فحملَهُ على ذلك . وإنَّما ذلك قولُ شريكٍ. وقال العقيليُّ : إنّهُ حديثٌ باطلٌ ، ليس له أصلٌ ولا يتابعهُ عليه ثقةٌ . وقال عبدُ الغنيِّ بنُ سعيدٍ: كُلُّ مَنْ حَدَّثَ به عن شريكٍ ، فهو غيرُ ثقةٍ . وقد قالَ ابنُ معينٍ في ثابتٍ هذا: إنّهُ كذَّابٌ . وقولُهُ : ( وَهْلَةٌ ) أي : غَفْلَةٌ . ومنه : قولُ عائشةَ رضي اللهُ عنها في الحديثِ الصحيحِ : (( إنَّهُ لم يكذبْ ولكنَّهُ وَهِلَ )) ، أي : ذهبَ وَهْمُهُ إلى ذلك.
239.
وَيُعْرَفُ الوَضْـعُ بِالإقْـرَارِ،وَمَا
نُـزِّلَ مَـنْـزِلَتَهُ ، وَرُبَّـمَـا
240.
يُعْرَفُ بِالرِّكَةِ، قُلْتُ: اسْتَشْكَلاَ
(الثَّبَجِيُّ) القَطْعَ بِالوَضْـعِ عَلَى
241.
مَا اعْتَرَفَ الوَاضِعُ،إذْ قَدْ يَكْذِبُ
بَلَى نَـرُدُّهُ ، وَعَنْـهُ نُضْرِبُ
قال ابنُ الصلاحِ : وإنّما يُعرف كونُ الحديثِ موضوعاً ، بإقرارِ واضعِهِ أو ما يتنـزلُ منـزلةَ إقرارِهِ . قال : وقد يفهمُونَ الوضعَ من قرينةِ حالِ الراوي ، أو المروِيِّ فقد وُضِعتْ أحاديثُ طويلةٌ يشهدُ بوضعِها رَكاكةُ ألفاظِها ومَعانِيها . انتهى . وروينا عن الربيعِ بنِ خُثَيْمٍ قال : إنَّ للحديثِ ضَوْءاً كضَوْءِ النهارِ ، تعرفُهُ ؛ وظُلمةً كظلمةِ الليلِ تُنْكِرُهُ .
قال ابنُ الجوزيِّ : واعلمْ أنَّ الحديثَ المُنكرَ يقشعرُّ له جلدُ الطـالبِ . للعلمِ ويَنْفُرُ مِنْهُ قلبُهُ في الغالبِ . وَقَدْ استشكلَ ابنُ دقيقِ العيدِ الاعتمادَ عَلَى إقرارِ الرَّاوِي بالوضعِ . فَقَالَ : هَذَا كافٍ في رَدِّهِ لَكِنْ لَيْسَ بقاطعٍ في كونِهِ موضوعاً ؛ لجوازِ أنْ يكذبَ في هذا الإقرارِ بعينِهِ . وهذا هو المعنيُّ بقولي : ( استشكلَ الثَّبَجِي )، وهو ابنُ دقيقِ العيدِ ، وربّما كان يكتبُ هذهِ النسبةَ في خَطِّهِ ، لأنّهُ ولد بثَبَجِ البحرِ بساحلِ يَنْبُعَ من الحِجازِ . ومنهُ الحديثُ الصحيحُ : (( يَرْكَبُوْنَ ثَبَجَ هذا البَحْرِ )) ، أي : ظَهْرَهُ ، وقيلَ : وَسَطَهُ .
المَقْلُـوْبُ
242.
وَقَسَّمُوا المَقْلُوْبَ قِسْمَيْنِ إلى :
مَـا كَانَ مَشْـهُوراً بِـراوٍ أُبْدِلا
243.
بِواحـدٍ نَظِيْرُهُ ، كَـيْ يُرْغَبَا
فِيهِ ، لِلاغْرَابِ إذا مَا اسْتُغْرِبَا
أي : من أقسامِ الضعيفِ المقلوبُ ، وهو قسمانِ :
أحدُهما أنْ يكونَ الحديثُ مشهوراً براوٍ ، فَجُعِلَ مكانَهُ راوٍ آخرُ في طبقتِهِ ؛ ليصيرَ بذلك غريباً مرغوباً فيه . كحديثٍ مشهورٍ بسالمٍ ، فجُعلَ مكانَهُ نافعٌ . وكحديثٍ مشهورٍ بمالكٍ فَجُعِلَ مكانَهُ عُبيدُ اللهِ بنُ عُمَرَ . ونحوِ ذلكَ .
وممَّنْ كانَ يفعلُ ذلك من الوضّاعينَ : حمّادُ بنُ عَمْرٍو النَّصِيْبِيُّ ، وإسْماعيلُ بنُ أبي حَيَّة اليَسَعُ ، وبَهْلُولُ بنُ عُبيدٍ الكِنْدِيُّ . مثالُهُ : حديثٌ رواهُ عمرُو بنُ خالدٍ الحرانيُّ ، عن حمّادِ بنِ عمرٍو النَّصِيْبِيِّ ، عن الأعمشِ ، عن أبي صالحٍ ، عن أبي هريرةَ مرفوعاً : (( إذا لَقِيتُم المشركينَ في طريقٍ ، فلا تبدؤوهم بالسلامِ ، … الحديث )) . فهذا حديثٌ مقلوبٌ . قلبهُ حمّادُ بنُ عمرٍو - أحدُ المتروكينَ - فجعلَهُ عن الأعمشِ ، وإنّما هو معروفٌ بسهيلِ بن أبي صالحٍ ، عن أبيهِ ، عن أبي هريرةَ . هكذا رواهُ مسلمٌ في صحيحهِ من روايةِ شُعبةَ ، والثوريِّ ، وجريرِ بنِ عبدِ الحميدِ ، وعبدِ العزيزِ بنِ محمدٍ الدَّراوَرْدِيِّ ، كلُّهم عن سُهَيْلٍ . قال أبو جعفرٍ العُقيليُّ : لا يحفَظُ هذا من حديثِ الأعمشِ ، إنَّما هذا حديثُ سُهيلِ بنِ أبي صالحٍ ، عن أبيهِ . ولهذا كَرِهَ أهلُ الحديثِ تتبُّعَ الغرائبِ ، فإنهُ قلمّا يصحُّ منها ، كما سيأتي في بابِهِ .
244.
وَمِنْهُ قَلْبُ سَنَدٍ لِمَتْنِ
نَحْوُ : امْتِحَانِهِمْ إمَامَ الفَـنِّ
245.
في مائَةٍ لَمَّا أتَى بَغْـدَادَا
فَـرَدَّهَا ، وَجَوَّدَ الإسْـنَادَا
هَذَا هُوَ القسمُ الثاني من قسمي المقلوبِ ، وَهُوَ أنْ يُؤخذَ إسنادُ متنٍ ، فيجعلَ عَلَى متنٍ آخرَ ، ومتنُ هَذَا فيُجعل بإسنادٍ آخرَ . وهذا قَدْ يُقصَدُ بهِ أيضاً الإغرابُ ؛ فيكونُ
ذلك كالوضعِ ، وقد يُفعلُ اختباراً لحفظِ المحدِّثِ ، وهذا يفعلُهُ أهلُ الحديثِ كثيراً ، وفي جوازِهِ نظرٌ إلا أنّهُ إذا فعلَهُ أهلُ الحديثِ لا يستقرُّ حديثاً ، وإنّما يقصدُ اختبارُ حفظِ المحدّثِ بذلك ، أو اختبارِهِ ، هل يقبل التَّلْقين ، أم لا ؟ وممَّنْ فعل ذلك شعبةُ وحمّادُ بنُ سلمةَ . وقد أنكرَ حَرَمِيُّ على شعبةَ لمّا حدَّثَهُ بهزٌ أنَّ شعبةَ قلبَ أحاديثَ على أبانَ بنِ أبي عيّاشٍ . فقال حَرَميٌّ : يا بئسَ ما صنعَ ، وهذا يحِلُّ ! . فمما فعلَهُ أهلُ الحديثِ للاختبارِ ، قِصّتُهم مع البخاريِّ ببغدادَ . أخبرني محمدُ بنُ محمدِ بنِ إبراهيمَ المَيدُوميُّ ، قال : أخبرنا أبو الفرجِ عبدُ اللطيفِ بنُ عبدِ المنعمِ بنُ عليٍّ الحرّانيُّ ، قال : أخبرنا أبو الفرجِ عبدُ الرحمنِ بنُ عليِّ بنِ محمدِ بنُ الجوزيِّ الحافظُ قراءةً عليه وأنا أسمعُ ببغدادَ ( ح ) وأخبرني محمدُ بنُ إبراهيمَ بنُ محمدٍ البنانيُّ بقراءتي ، واللفظُ لَهُ ، قال : أخبرنا يوسفُ بنُ يعقوبَ الشيبانيُّ كتابةً ، قال : أخبرنا أبو اليُمن الكنديُّ قالا : أخبرنا أبو منصورٍ القزّازُ ، قال : أخبرنا الخطيبُ ، قال : حدّثني محمدُ بنُ أبي الحسنِ السَّاحليُّ ، قال : أخبرنا أحمدُ بنُ الحسنِ الرازيُّ ، قال سمعتُ أبا أحمدَ بنَ عَدِيٍّ يقولُ : سمعتُ عِدَّةَ مشايخَ يحكُونَ : أنَّ محمدَ بنَ إسماعيلَ البخاريَّ قَدِمَ بغدادَ ، فسمعَ به أصحابُ الحديثِ ، فاجتمعوا وعَمَدوا إلى مائةِ حديثٍ فقلَبُوا متونَها ، وأسانيدَها ، وجعلوا مَتْنَ هذا الإسنادِ ، لإسنادٍ آخرَ ، وإسنادَ هذا المتنِ لمتنٍ آخرَ . ودفعوا إلى عَشَرةِ أنفُسٍ ، إلى كُلِّ رجلٍ عَشَرةَ أحاديثَ ، وأمرُوهم إذا حَضُروا المجلسَ يُلقُون ذلك على البخاريِّ ، وأخذوا الموعدَ للمجلسِ، فحضرَ المجلسَ جماعةُ أصحابِ الحديثِ من الغرباءِ من أهل خُراسانَ ، وغيرِهم، ومن البغداديينَ . فلما اطّمأنَّ المجلسُ بأهلِهِ انتدبَ إليه رجلٌ من العَشَرةِ ، فسأله عن حديثٍ من تلك الأحاديثِ ، فقال البخاريُّ : لا أعرِفُهُ . فسأله عن آخرَ ، فقال : لا أعرفُهُ . فما زالَ يُلقي عليهِ واحداً بعدَ واحدٍ حتى فرغَ من عَشَرَتِهِ ، والبخاريُّ يقولُ : لا أعرفُهُ . فكان الفهماءُ ممَّنْ حضرَ المجلسَ يلتفتُ بعضُهم إلى بعضٍ . ويقولون : الرجلُ فَهِمَ ، ومَنْ كان منهم غيرَ ذلكَ يقضي على البخاريِّ بالعَجْزِ والتَّقصِيرِ وقِلّةِ الفَهْمِ ، ثم انتدبَ رجلٌ آخرُ من العَشَرَةِ ، وسألَهُ عن حديثٍ من تلك الأحاديثِ المقلوبة ، فقال البخاريُّ : لا أعرفُهُ . فسألهُ عن آخرَ ، فقال : لا أعرفُهُ . فسألهُ عن آخرَ ، فقالَ : لا أعرفُهُ . فلم يزلْ يُلقي عليه واحداً بعدَ آخرَ، حتى فرغَ من عَشَرَتِهِ ، والبخاريُّ يقولُ : لا أعرفُهُ . ثم انتدبَ له الثالثُ والرابعُ إلى تمام العَشَرةِ ، حتى فرغُوا كلُّهم من الأحاديثِ المقلوبةِ ، والبخاريُّ لا يَزِيدُهم على لا أعرفُه ، فلمَّا عَلِمَ البخاريُّ أنَّهم قد فرغوا التفتَ إلى الأولِ منهم ، فقال : أمّا حديثُكَ الأولُ فهو كذا ، وحديثُكَ الثاني فهو كذا ، والثالثُ والرابعُ على الولاءِ ، حتى أتى على تمامِ العَشَرَةِ ، فردَّ كلَّ متنٍ إلى إسنادِهِ ، وكلَّ إسنادٍ إلى متنِهِ . وفعلَ بالآخرينَ مثلَ ذلكَ ، وردَّ متونَ الأحاديثِ كُلِّها إلى أسانِيدِها ، وأسانيدَها إلى متونِها ، فأقرَّ له الناسُ بالحفظِ وأَذْعَنُوا له بالفضلِ .
246.
وَقَلْبُ مَا لَمْ يَقْصِدِ الرُّوَاةُ
نَحْوُ : (إذَا أُقِيْمَتِ الصَّلاَةُ …)
247.
حَدَّثَهُ -في مَجْلِسِ البُنَاني-
حَجَّاجٌ ، اعْنِي : ابْنَ أبي عُثمَانِ
248.
فَظَنَّهُ -عَنْ ثَابِتٍ- جَرِيْرُ ،
بَيَّنَهُ حَمَّادٌ الضَّرِيْرُ
أيْ : ومن أقسامِ المقلوبِ : ما انقلبَ على راويهِ ، ولم يقصدْ قلبَهُ . مثالُهُ : حديثٌ رواهُ جريرُ بنُ حازمٍ ، عن ثابتٍ البُنانيِّ ، عن أنسٍ ، قال : قال رسولُ اللهِ : (( إذا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فلا تَقُومُوا حتى تَرَوْني )) . فهذا حديثٌ انقلبَ إسنادهُ على جريرِ بنِ حازمٍ. وهذا الحديثُ مشهورٌ ليحيى بن أبي كَثِيرٍ عن عبدِ اللهِ بنِ أبي قَتَادةَ، عن أبيهِ،عن النبيِّ. هكذا رواهُ الأئمّةُ الخمسةُ من طرقٍ عن يحيى . وهو عند مسلمٍ والنسائيِّ من روايةِ حجّاج بنِ أبي عثمانَ الصَّوَّافِّ ، عن يحيى . وجريرٌ إنّما سمعَهُ من حَجَّاجِ بن أبي عثمانَ الصوّافِ ، فانقلبَ عليهِ . وقد بَيَّنَ ذلك حمّادُ بنُ زيدٍ فيما رواهُ أبو داودَ في " المراسيلِ " عن أحمدَ بنِ صالحٍ ، عن يحيى بنِ حسَّانَ ، عن حمّادِ بنِ زيدٍ قال : كنتُ أنا وجريرُ بنُ حازمٍ عند ثابتٍ البُنانيِّ ، فحدّثَ حجّاجُ بنُ أبي عثمانَ ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ ، عن عبدِ اللهِ بنِ أبي قتادةَ ، عن أبيهِ ، عن النبيِّ ، فذكَرَهُ . فظنَّ جريرٌ أنّهُ إنّما حَدَّثَ به ثابتٌ ، عن أنسٍ . وهكذا قالَ إسحاقُ بنُ عيسى الطَّبَّاعُ : حدّثنا جريرُ بنُ حازمٍ بهذا ، فأتيتُ حمّادَ بنَ زيدٍ فسأْلتُهُ عن الحديثِ ، فقال : وَهِمَ أبو النَّضْرِ - يعني: جريرُ بنُ حازمٍ - إنّما كُنَّا جميعاً في مجلسِ ثابتٍ البنانيِّ ، فذكرَ نَحْوَ ما تقدّمَ .
تَنْبِيْهَـاْتٌ
249.
وَإنْ تَجِدْ مَتْنَاً ضَعِيْفَ السَّنَدِ
فَقُلْ : ضَعِيْفٌ ، أيْ : بِهَذَا فَاقْصِدِ
250.
وَلاَ تُضَعِّفْ مُطْلَقَاً بِنَاءا
عَلَى الطَّرِيْقِ ، إذْ لَعَـلَّ جَاءا
251.
بِسَنَدٍ مُجَوَّدٍ ، بَلْ يَقِفُ
ذَاكَ عَلَـى حُكْمِ إمَـامٍ يَصِـفُ
252.
بَيَانَ ضَعْفِهِ ، فَإنْ أطْلَقَهُ
فَالشَّـيْخُ فِيما بَعْـدَهُ حَقَّـقَـهُ
إذا وَجدْتَ حديثاً بإسنادٍ ضعيفٍ ، فلكَ أنْ تقولَ : هذا ضعيفٌ ، وتعني بذلكَ : الإسنادَ . وليسَ لكَ أنْ تعني بذلك ضَعْفَهُ مطلقاً ، بناءً على ضَعْفِ ذلك الطريقِ ؛ إذ لعلَّ له إسناداً آخرَ صحيحاً ، يثبُتُ بمثلِهِ الحديثُ ، بل يقفُ جوازُ إطلاقِ ضَعْفِهِ على حكمِ إمامٍ من أئمةِ الحديثِ ، بأنّهُ ليس لَهُ إسنادٌ يثبتُ به ، مع وصفِ ذلكَ الإمامِ لبيانِ وجهِ الضَّعْفِ مُفسَّراً ، فإنْ أطلقَ ذلكَ الإمامُ ضَعْفَهُ ولم يفسِّرْهُ ففيهِ كلامٌ ذكرَهُ الشيخُ بعد هذا، في النوعِ الثالثِ والعشرينَ من كتابهِ ، وسيأتي بعدَ هذا بتسعةَ عشرَ بيتاً .
253.
وَإنْ تُرِدْ نَقْلاً لِوَاهٍ ، أوْ لِمَا
يُشَكُّ فِيهِ لاَ بِإسْنَادِهِمَا
254.
فَأتِ بِتَمْرِيضٍ ك (يُرْوَى)،وَاجْزِمِ
بِنَقْلِ مَا صَحَّ كـ (قَالَ) فَاعْلَمِ
أي إذا أردتَ نقلَ حديثٍ ضعيفٍ ، أو ما يُشكُّ في صحتِهِ وضعفِهِ يغيرِ إسنادٍ ، فَلاَ تذكرْهُ بصيغةِ الجزمِ ، كقالَ وفعلَ ، ونحوِ ذَلِكَ . وأتِ بِهِ بصيغةِ التمريضِ ، كيُرْوى ، ورُوي ، ووردَ ، وجاءَ ، وبلغنا ، وروى بعضُهم ، ونحوِ ذَلِكَ . أمّا إذا نقلتَ حديثاً صحيحاً بغيرِ إسنادٍ فاذكرْهُ بصيغةِ الجزمِ ، كقالَ ، ونحوِها .
255.
وَسَهَّلُوا في غَيْرِ مَوْضُوْعٍ رَوَوْا
مِـنْ غَيْرِ تَبْيِينٍ لِضَعْفٍ ، وَرَأوْا
256.
بَيَانَـهُ في الحُكْـمِ وَالعَقَائِـدِ
عَـنِ (ابنِ مَهْدِيٍّ) وَغَيْرِ وَاحِدِ
تقدّمَ أنَّهُ لا يجوزُ ذكرُ الموضوعِ إلاّ مَعَ البيانِ ، في أيِّ نوعٍ كانَ . وأمّا غيرُ الموضوعِ فجوّزوا التساهُل في إسنادِهِ وروايتِهِ من غيرِ بيانٍ لضَعْفِهِ إذا كانَ في غيرِ الأحكامِ والعقائدِ. بلْ في الترغيبِ والترهيبِ ، من المواعظِ والقصصِ ، وفضائلِ الأعمالِ، ونحوِها . أما إذا كانَ في الأحكامِ الشرعيةِ من الحلالِ والحرامِ وغيرِهما ، أو في العقائدِ كصفاتِ اللهِ تَعَالَى ، وما يجوزُ ويستحيلُ عَلَيْهِ ، ونحوِ ذلكَ . فَلَمْ يَرَوا التساهلَ في ذَلِكَ . وممَّنْ نصَّ عَلَى ذَلِكَ من الأئمةِ عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ ، وأحمدُ بنُ حنبلٍ ، وعبدُ اللهِ بنُ المباركِ ، وغيرُهُمْ . وقدْ عقدَ ابنُ عديٍّ في مقدّمةِ " الكاملِ " ، والخطيبُ في " الكفايةِ " باباً لذلكَ. فقولي: ( عَنِ ابنِ مَهْدِيٍّ ) ، خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، أي : هذا عن ابنِ مهديٍّ .
مَعْرِفَةُ صِفَةِ مَنْ تُقَبَلُ رِوَايَتُهُ وَمَنْ تُرَدُّ
257.
أَجْمَـعَ جُمْهُـورُ أَئِمَّـةِ الأَثَرْ
وَالْفِقْـهِ فِي قَبُـوْلِ نَاقِلِ الْخَبَـرْ
258.
بِأنْ يَكُـوْنَ ضَابِطـاً مُعَـدَّلاَ
أيْ: يَقِظـاً ، وَلَـمْ يَكُنْ مُغَفَّـلاَ
259.
يَحْفَظُ إنْ حَدَّثَ حِفْظاً،يَحْوِيْ
كِتَابَـهُ إِنْ كَـانَ مِنْـهُ يَـرْوِيْ
260.
يَعْلَمُ مَـا فِي الَّلَفْظِ مِنْ إحِالَـهْ
إنْ يَـرْوِ بالْمَعْنَى ، وَفِي الْعَدَالَـهْ
261.
بِأنْ يَكُوْنَ مُسْـلِمَاً ذَا عَقْـلِ
قَـدْ بَلَـغَ الْحُلْمَ سَـلِيْمَ الفِعْلِ
262.
مِنْ فِسْقٍ اوْ خَرْمِ مُرُوْءةٍ وَمَنْ
زَكَّـاهُ عَدلاَنِ ، فَعَـدْلٌ مُؤْتَمَنْ
263.
وَصُحِّحَ اكْتِفَاؤُهُمْ بِالْوَاحِدِ
جَـرْحَاً وَتَعْدِيْلاً خِلاَفَ الشَّـاهِدِ
قالَ ابنُ الصلاحِ : أجمعَ جماهيرُ أئمّةِ الحديثِ والفقهِ ، على أنَّهُ يشترطُ فيمَنْ يُحْتَجُّ برِوَايَتِهِ أنْ يكونَ عدلاً ضابطاً لما يرويِهِ، ثمَّ فَصَّلَ شروطَ العدالةِ، ثُمَّ شروطَ الضبطِ . وقَدَّمْتُ شروطَ الضبطِ على العدالةِ ؛ لتقدمِ الضبطِ في النَّظْمِ .
فقولي : ( أي : يقظاً ) ، إلى قولي : ( وفي العدالةِ ) ، تفسيرٌ للضبطِ ؛ ويَقُـِظَ – بضمِ القافِ وكسرِها – لغتانِ ، حكاهما الجوهريُّ وغيرُهُ . وقولي : ( يحوي كتابَهُ ) ، أي : يحتوي عليه ، ويحفظُهُ من التبديلِ والتغييرِ . وقد نصَّ الشافعيُّ على اعتبارِ هذهِ الأوصافِ فيمَنْ يحتجُّ بخبرِهِ ، فقالَ في كتابِ " الرسالةِ " التي أرسلَ بها إلى عبدِ الرحمنِ بنِ مهديٍّ : لا تقومُ الحجةُ بخبرِ الخاصّةِ حتّى يَجمعَ أموراً منها : أنْ يكونَ مَنْ حَدَّثَ به ثقةً في دينِهِ ، معروفاً بالصدقِ في حديثِهِ ، عاقِلاً لما يُحدِّثُ به ، عالِماً بما يُحِيلُ مَعانِيَ الحديثِ من اللفظِ ، أو يكونَ ممَّنْ يُؤَدِّي الحديثَ بحروفِهِ ، كما سمعَهُ ، لا يُحدِّثُ به على المعنى ؛ لأنَّهُ إذا حدَّثَ به على المعنى ، وهو غيرُ عالمٍ بما يحيلُ معناهُ ،لم يَدْرِ لعلَّهُ يُحيلُ الحلالَ إلى الحرامِ . وإذا أدَّاهُ بحروفِهِ فلم يَبْقَ وجهٌ يُخافُ فيه إحالتُهُ الحديثَ ، حافظاً إنْ حدَّثَ مِنْ حفظِهِ ، حافظاً لكتابِهِ إنْ حدَّثَ مِن كتابِهِ ، إذا شَرِكَ أهلَ الحفظِ في الحديثِ وافَقَ حديثَهُم ، بريئاً من أنْ يكونَ مُدلِّساً ، يُحَدِّثُ عمَّنْ لقيَ ما لم يَسْمَعْ منه ، ويحدِّثُ عن النبيِّ بما يُحدِّثُ الثقاتُ خلافَهُ ، ويكونُ هكذا مَنْ فوقَه ممَّنْ حدَّثَهُ ، حتى يُنْتهَى بالحديثِ موصُولاً إلى النبيِّ ، أو إلى مَنْ انْتُهيَ بهِ إليهِ دونَهُ ؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ منهم مُثبِّتٌ مَنْ حَدَّثَهُ ومُثْبِتٌ على مَن حَدَّثَ عنه ، فلا يُسْتغنَى في كلِّ واحدٍ منهم عمّا وصفْتُ . انتهى كلامُ الشافعيِّ .
وقولي : ( وفي العدالةِ ... ) ، إلى آخر قولي : ( أو خرم مروءة ) ، بيانٌ لشروطِ العدالةِ ، وهي خمسةٌ : الإسلامُ ، والبلوغُ ، والعقلُ ، والسلامةُ من الفسق - وهو ارتكابُ كبيرةٍ ، أو إصرارٌ على صغيرةٍ - والسلامةُ ممّا يخرمُ المروءة ، ولم نذكرْ في شروطِها الحريةَ ، وإنْ ذكرَه الفقهاءُ في الشهاداتِ ؛ لأنَّ العبدَ مقبولُ الروايةِ بالشروطِ المذكورةِ بالإجماعِ ، كما حكاه الخطيبُ بخلافِ الشهادةِ . على أنَّ جماعةً من السلفِ أجازوا شهادةَ العبدِ العدلِ . وإنْ كان الجمهورُ على خلافِ ذلك . وهذا مما تفترقُ فيه الروايةُ والشهادةُ ، كما ذكرهُ القاضي أبو بكرٍ وغيرُهُ .
فهذهِ إذاً شروطُ العدالةِ في الروايةِ . ومَنْ يقبلُ أيضاً روايةَ الصبيِّ المميِّزِ الموثوقِ به ، لم يشترطِ البلوغَ . وفي المسألةِ وجهانِ حكاهما البغويُّ والإمامُ وتَبِعهَما الرَّافعيُّ، إلا أنّهُ قيَّدَ الوجهينِ في التيمُّمِ بالمُراهِقِ،وصحَّحَ عدمَ القبولِ،وتَبِعَهُ عليه النوويُّ ، وقيَّدَهُ في استقبالِ القبلةِ بالمميِّزِ ، وحكى عن الأكثرين عدمَ القبولِ. وحكى النوويُّ في "شرحِ المهذَّبِ" عن الجمهورِ قبولَ أخبارِ الصبيِّ المميِّزِ فيما طريقُهُ المشاهدةُ بخلافِ ما طريقُهُ النقلُ،كالافتاءِ ، وروايةِ الأخبارِ ، ونحوهِ وسبقَهُ إلى ذلك المُتَولِّي فتبعَهُ، واللهُ أعلمُ.
وقولي : ( ومَنْ زَكَّاهُ عدلانِ ) ، إلى آخرهِ ، بيانٌ لما تثبتُ به العدالةُ . فمما تثبتُ به تنصيصُ معدّلِينَ على عدالتِهِ ، كما في الشهادةِ .
واختلفوا هل تثبتُ العدالةُ والجرحُ بالنسبةِ إلى الروايةِ بتعديلِ عدلٍ واحدٍ وجَرحِه ، أو لا يثبتُ ذلك إلا باثنينِ ، كما في الجرحِ والتعديلِ في الشهادات ؛ على قولينِ . وإذا جُمعتِ الروايةُ مع الشهادةِ صارَ في المسألةِ ثلاثةُ أقوالٍ :
أحدُها : أنّهُ لا يقبلُ في التزكيةِ إلا رجلانِ ، سواءٌ التزكيةُ للشهادةِ والروايةِ وهو الذي حكاهُ القاضي أبو بكرٍ الباقلانيُّ عن أكثرِ الفقهاءِ من أهلِ المدينةِ وغيرِهم .
والثاني : الاكتفاءُ بواحدٍ في الشهادةِ والرواية معاً ، وهو اختيارُ القاضي أبي بكرٍ المذكورِ ؛ لأنَّ التزكيةَ بمثابةِ الخبرِ . قال القاضي : والذي يوجبُهُ القياسُ وجوبُ قَبولِ تزكيةِ كُلِّ عدلٍ مَرْضِيٍّ ، ذكرٍ ، أو أنثى ، حرٍّ أو عبدٍ ، لشاهدٍ ومُخبِرٍ .
والثالثُ:التفرقةُ بين الشهادةِ والروايةِ ، فيشترطُ اثنانِ في الشهادةِ ويُكتفى بواحدٍ في الروايةِ.ورجَّحَهُ الإمامُ فخرُ الدينِ ، والسيفُ الآمديُّ ونقلَهُ عن الأكثرينَ . وكذلك نقلَهُ أبو عمرٍو بنُ الحاجبِعن الأكثرينَ،وهو مخالفٌ لما نقلهُ القاضي عنهم . قال ابنُ الصلاحِ:والصحيحُ الذي اختارهُ الخطيبُ وغيرُهُ أنَّهُ يثبتُ في الروايةِ بواحدٍ؛ لأنَّ العددَ لَمْ يُشترطْ في قبولِ الخبرِ،فَلَمْ يشترطْ في جرحِ راويهِ وتعديلهِ بخلافِ الشهاداتِ. وقولي: (بالواحدِ) أي : بالعدلِ الواحدِ ، فيدخلُ فيه تعديلُ المرأةِ العدلِ ، والعبدِ العدلِ .
وقد اختلفوا في تعديلِ المرأةِ ، فحكى القاضي أبو بكرٍ عن أكثرِ الفقهاءِ من أهلِ المدينةِ وغيرِهم : أنّهُ لا يقبلُ في التعديلِ النساءُ ، لا في الروايةِ ، ولا في الشهادةِ . واختار القاضي أنّهُ يُقبلُ تزكيةُ المرأةِ مطلقاً في الروايةِ والشهادةِ ؛ إلا تزكيتُها في الحكمِ الَّذِي لا تُقبلُ شهادتُها فِيْهِ . وأطلق صاحبُ " المحصولِ " وغيرُهُ قبولَ تزكيةِ المرأةِ من غيرِ تقييدٍ بما ذكرهُ القاضي .
وأما تزكيةُ العبدِ ، فقال القاضي أبو بكرٍ : إنَّهُ يجبُ قبولُها في الخبرِ دونَ الشهادةِ ؛ لأنَّ خبَرهُ مقبولٌ ، وشهادَتَهُ مردودةٌ . قَالَ : والذي يوجبُهُ القياسُ وجوبُ قَبولِ تزكيةِ كلِّ عدلٍ مَرْضِيٍّ ، ذكرٍ ، أو أنثى ، حرٍّ ، أو عبدٍ لشاهدٍ ومُخِبرٍ . وهذا ما صرَّحَ بِهِ صاحبُ " المحصولِ " وغيرُهُ . قَالَ الخطيبُ في " الكفايةِ " : الأصلُ في هَذَا البابِ سؤالُ النبيِّ بَرِيرَةَ في قِصَّةِ الإفْكِ عن حالِ عائشةَ أمِّ المؤمنينَ ، وجوابُها لَهُ .
264.
وَصَحَّحُوا استِغْنَاءَ ذِي الشُّهْرَةِ عَنْ
تَزكِيَةٍ ، كـ (مَالكٍ) نَجْمِ السُّـنَنْ
265.
و(لابـنِ عَبْدِ البَـرِّ) كُلُّ مَـنْ عُنِـي
بِـحَمْلِـهِ العِلْـمَ وَلَـمْ يُوَهَّـنِ
266.
فَإنَّـهُ عَــدْلٌ بِقَـوْلِ المُصْطَفَـى
(يَحْمِلُ هَـذَا العِلْمَ) لكِنْ خُوْلِفَـا
أي : وممَّا تثبتُ به العدالةُ : الاستفاضةُ والشهرةُ . فمن اشتهرتْ عدالتُهُ بين أهلِ النقلِ ، أو نحوِهم من أهلِ العلمِ ، وشاعَ الثناءُ عليه بالثقةِ والأمانةِ استُغنيَ فيه بذلك عن بينةٍ شاهدةٍ بعدالتهِ تنصيصاً .
قالَ ابنُ الصَّلاحِ : وهذا هو الصحيحُ في مذهبِ الشافعيِّ ، وَعَلَيْهِ الاعتمادُ في أصولِ الفقهِ . وممَّنْ ذكرَهُ من أهلِ الحديثِ ؛ الخطيبُ ، وَمَّثلَ ذلك بمالكٍ ، وشعبةَ ، والسفيانَيْنِ ، والأوزاعيِّ ، والليثِ ، وابنِ المباركِ ، ووكيعٍ ، وأحمدَ ، وابنِ معينٍ ، وابنِ المدينيِّ ، ومَنْ جرى مجراهم في نَباهةِ الذكرِ واستقامة الأمرِ ، فلا يُسألُ عن عدالةِ هؤلاءِ ، وأمثالهِمِ ، وإنّما يُسأل عن عدالةِ مَنْ خَفِيَ أمرُهُ على الطالبينَ . انتهى . وقد سُئِلَ أحمدُ بنُ حنبلٍ عن إسحاقَ بنِ راهويهِ ، فقال : مثلُ إسحاقَ يُسألُ عنه؟! وسُئِلَ ابنُ معينٍ عن أبي عُبيدٍ، فقال: مثلي يُسألُ عن أبي عبيد ؟! أبو عُبيدٍ يُسألُ عن الناسِ . وقال القاضي أبو بكرٍ الباقلانيُّ : الشاهدُ والمُخبِرُ إنمّا يحتاجانِ إلى التزكيةِ متى لم يكونا مشهورينِ بالعدالةِ والرِّضا ، وكان أمرُهما مُشْكِلاً مُلتبِسَاً ، ومُجوَّزاً فيه العدالةُ وغيرُها . قال : والدليلُ على ذلك أنَّ العلمَ بظهورِ سِتْرِهما . واشتهارُ عدالتهِما أقوى في النفوسِ من تعديلِ واحدٍ واثنينِ يجوز عليهما الكذبُ والمحاباةُ في تعديلِهِ ، وأغراضٌ داعيةٌ لهما إلى وصفِهِ بغيرِ صفتِهِ ، إلى آخركلامِهِ .
وقولي في وصف مالكٍ : ( نجمِ السننِ ) ، اقتداءٌ بالشافعيِّ حيث يقولُ : إذا ذُكِرَ الأثرُ فمالكٌ النَّجْمُ .
وقالَ ابنُ عبد البرِّ : كلُّ حاملِ علمٍ معروفِ العِنايةِ به ، فهو عدلٌ محمولٌ في أمرهِ أبداً على العدالةِ ، حتى يتبينَ جَرْحُهُ . واستدلَّ على ذلك بحديثٍ رواهُ من طريقِ أبي جعفرٍ العُقيليِّ من روايةِ مُعَان بنِ رِفَاعةَ السَّلاَميِّ ، عن إبراهيمَ بنِ عبدِ الرحمنِ العُذريِّ ، قال: قال النبيُّ : (( يَحْمِلُ هذا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عنه تحريفَ الغالينَ ، وانتحالَ المُبْطِلينَ ، وتأويلَ الجاهلينَ )) . أوردَهُ العُقيليُّ في
"الضُّعفاءِ" في ترجمةِ مُعَانِ بنِ رِفَاعةَ،وقال: لا يُعرفُ إلا به . ورواهُ ابنُ أبي حاتِمٍ في مقدّمةِ " الجرحِ والتعديلِ "، وابنِ عَدِيٍّ في مقدّمةِ " الكاملِ " ، وهو مرسلٌ أو معضلٌ ضعيفٌ . وإبراهيمُ الذي أرسلَهُ قالَ فيه ابنُ القطّانِ : لا نعرفُهُ البتةَ في شيءٍ من العلمِ غيرَ هذا . وفي كتاب " العلل " للخَلاَّلِ : أنَّ أحمدَ سُئلَ عن هذا الحديثِ ، فقيلَ له : كأنَّهُ كلامٌ موضوعٌ ؟ فقالَ : لا . هُوَ صحيحٌ . فقيل لَهُ : ممَّنْ سمعتُهُ ؟ قال : من غيرِ واحدٍ . قيل له : مَنْ هُم ؟ قال : حدّثني به مِسْكِينٌ ، إلاّ أنّهُ يقولُ عن مُعَانٍ ، عن القاسمِ بنِ عبدِ الرحمنِ ، قال أحمدُ : ومُعَانٌ لا بأسَ بهِ . ووثَّقَهُ ابنُ المدينيِّ أيضاً . قال ابنُ القطّان : وخَفِيَ على أحمدَ من أمرهِ ما علمَهُ غيرُهُ ، ثم ذكرَ تضعيفَهُ عن ابنِ معينٍ وأبي حاتِمٍ ، والسَّعْديِّ وابنِ عَدِيٍّ ، وابن حبانَ . انتهى . وقد وردَ هذا الحديثُ مرفوعاً مسنداً من حديثِ أبي هريرةَ ، وعبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، وعليِّ بنِ أبي طالبٍ ، وابنِ عُمرَ ، وأبي أُمامةَ ، وجابرِ بنِ سَمُرةَ . وكلُّها ضعيفةٌ . قال ابنُ عَدِيٍّ : ورواهُ الثقاتُ عن الوليدِ بنِ مسلمٍ ، عن إبراهيمَ بنِ عبدِ الرحمنِ العذريِّ ، قال : حدّثنا الثقةُ من أصحابِنا أنَّ رسولَ اللهِ قال : فذَكَرَهُ. وممَّنْ وافقَ ابنَ عبدِ البرِّ على قولِهِ هذا من المتأخّرينَ : أبو عبدِ اللهِ بنُ الموَّاقِ ، فقال في كتابِهِ " بُغيةِ النُّقادِ " : وأهلُ العلمِ محمولونَ على العدالةِ حتى يظهرَ منهم خلافُ ذلكَ .
وقولُهُ : ( لكنْ خُولفا ) ، أي : خُولفَ ابنُ عبدِ البرِّ في اختيارِهِ هذا وفي استدلالهِ بهذا الحديثِ ، أما اختيارُهُ فقالَ ابنُ الصلاحِ : فيما قالَهُ اتّساعٌ غيرُ مَرْضِيٍّ . وأما استدلالُهُ بهذا الحديثِ ، فلا يصحُّ من وجهينِ :
أحدُهما : إرسالُهُ وضعفُهُ .
والثاني : أنَّهُ إنّما يصحُّ الاستدلالُ بهِ ، أنْ لو كان خبراً ، ولا يصحُّ حملُهُ على الخبرِ لوجودِ من يحملُ العلمَ ، وهو غيرُ عدلٍ ، وغيرُ ثقةٍ ، فلم يبقَ له محملٌ إلا على الأمرِ . ومعناهُ أنّهُ أمرَ الثِّقاتِ بحملِ العلمِ ؛ لأنَّ العلمَ إنّما يُقبلُ عن الثقاتِ . والدليلُ عَلَى أنّه للأمرِ : أنَّ في بعضِ طُرقِ أبي حاتِمٍ : (( لِيحْمِلْ هَذَا العلمَ )) ، بلامٍ للأمْرِ .
267.
وَمَنْ يُوَافِقْ غَالِباً ذا الضَّبْطِ
فَضَابِـطٌ، أوْ نَـادِراً فَمُخْطِـيْ
لمّا تقدّمَ أنهُ لا يقبلُ إلاّ العدلُ الضابطُ ، احتيجَ أنْ يذكرَ ما الذي يُعرفُ به ضبطُ الراوي،وذلك بأنْ يُعتبَرَ حديثُهُ بحديثِ الثقاتِ الضابطينَ،فإنْ وافقَهم في روايِتهم في اللفظِ، أو في المعنى ، ولو في الغالبِ ، عرفنا حينئذٍ كونَهُ ضابطاً ، وإن كانَ الغالبُ على حديثِهِ المخالفةَ لهم ، وإنْ وافقَهم فنادرٌ، عرفنا حينئذٍ خطأهُ ، وعدمَ ضبطِهِ ، ولم يحتَجَّ بحديثِهِ.
268.
وَصَحَّحُـوا قَبُـوْلَ تَعْدِيْـلٍ بِلاَ
ذِكْـرٍ لأسْـبَابٍ لَـهُ ، أنْ تَثْقُلاَ
269.
وَلَمْ يَرَوْا قَبُـوْلَ جَرْحٍ أُبْهِمَـا؛
لِلْخُلْفِ فـي أسـبَابِـهِ ، وَرُبَّمَـا
270.
اسْتُفْسِرَ الجَرْحُ فَلَمْ يَقْدَحْ ، كَمَا
فَسَّـرَهُ (شُـعْبَةُ) بِالـرَّكْضِ ، فَمَا
271.
هَـذَا الَّذِي عَلَيْـهِ حُفَّاظُ الأثَرْ
كـ (شَيْخَيِ الصَّحِيْحِ) مَعْ أهْلِ النَّظَرْ
اختُلِفَ في التعديلِ والجرحِ ، هل يقبلانِ ، أو أحدُهما من غيرِ ذكرِ أسبابِهِما ، أم لا يقبلانِ إلاّ مُفسّرَينِ ؟ على أربعةِ أقوالٍ :
الأولُ : وهو الصحيحُ المشهورُ : التفرقةُ بين التعديلِ والجرحِ ، فيقبلُ التعديلُ من غيرِ ذكرِ سببِهِ ؛ لأنَّ أسبابَهُ كثيرةٌ ، فتثقلُ ويشُقُّ ذكرُها ؛ لأنَّ ذلكَ يُحوِجُ المُعدِّلَ إلى أنْ يقولَ ليسَ يفعلُ كذا ولا كذا ، وَيَعُدُّ ما يجبُ عليه تركُهُ . ويفعلُ كذا وكذا ، فيعدُّ ما يجبُ عليه فِعْلُهُ . فيشقُّ ذلك ، ويطُولُ تفصيلُهُ . وأما الجرحُ فإنَّهُ لا يُقبلُ إلا مفسَّراً مُبَيَّنَ السببِ ؛ لأنَّ الجرحَ يحصلُ بأمرٍ واحدٍ ، فلا يشقُّ ذِكْرُهُ ؛ ولأنَّ الناسَ مختلفونَ في أسبابِ الجرحِ . فيطلقُ أحدُهم الجرحَ بناءً على ما اعتقدَهُ جرحاً ، وليس بجرحٍ في نفسِ الأمرِ ، فلا بدَّ من بيانِ سببِهِ ، ليَظْهرَ أهو قادحٌ أم لا ؟
ويدلُّ على أنَّ الجرحَ لا يُقبلُ غيرَ مُفَسَّرٍ ، أنّهُ ربَّما استُفْسِرَ الجارحُ ، فذكرَ ما ليس بجرحٍ .
فقد روى الخطيبُ بإسنادِهِ إلى محمدِ بنِ جعفرٍ المدائنيِّ ، قال : قيل لشعبةَ : لِمَ تركتَ حديثَ فلانٍ؟ قَالَ : رأيتُهُ يركُضُ عَلَى بِرْذَوْنٍ ، فتركتُ حديثَهُ .
وقولي في آخرِ البيتِ: ( فما )، أي: فماذا يلزمُ من ركضِهِ على برذونٍ . وروى بنُ أبي حاتِمٍ ، عن يحيى بنِ سعيدٍ ، قالَ : أتى شعبةُ المِنْهالَ بنَ عمرٍو ، فسمِعَ صوتاً فترَكَهُ . قال بنُ أبي حاتِمٍ : سمعتُ أبي يقولُ : يعني أنّهُ سَمِعَ قراءةً بألحانٍ فكَرِهَ السماعَ منه من أجلِ ذلك . هكذا قالَ أبو حاتِمٍ في تفسيرِ الصوتِ . وقد روى الخطيبُ بإسنادِهِ إلى وَهْبِ بنِ جريرٍ ، قالَ : قالَ شعبةُ : أتيتُ منـزلَ المِنْهالِ بنِ عَمْرٍو فسمعتُ منه صوتَ الطُّنْبُورِ ، فرجعتُ . فقيلَ له : فهلاَّ سألتَ عنه أنْ لا يَعْلَمَ هو . وروينا عن شعبةَ قال : قلتُ للحكمِ بنِ عُتَيْبةَ : لِمَ لَمْ تروِ عن زَاذانَ ؟ قال : كانَ كثيرَ الكلامِ . وقال محمدُ بنُ حُميدٍ الرازيُّ : حدّثنا جريرٌ قال : رأيتُ سِمَاكَ بنَ حَرْبٍ يبولُ قائماً ، فلم أكتبْ عنه . وقد عقدَ الخطيبُ لهذا باباً في " الكفاية " .
والقولُ الثاني : عكسُ القولِ الأولِ ، أنّهُ يجبُ بيانُ سببِ العدالةِ ، ولا يجبُ بيانُ سببِ الجرحِ ؛ لأنَّ أسبابَ العدالةِ يكثرُ التَّصنُّعُ فِيْهَا ، فيبني المُعدِّلُونَ عَلَى الظاهرِ . حكاهُ صاحبُ " المحصولِ " ، وغيرُهُ . ونقلَهُ إمامُ الحرمينِ في " البرهانِ " ، والغزاليُّ في " المنخولِ " تَبَعاً له ؛ عن القاضي أبي بكرٍ . والظاهرُ أنّهُ وَهْمٌ منهما ، والمعروفُ عنه أنّهُ لا يجبُ ذكرُ أسبابِهِما معاً ، كما سيأتي .
والقولُ الثالثُ : أنَّهُ لابدَّ من ذكرِ أسبابِ العدالةِ والجرحِ معاً . حكاهُ الخطيبُ، والأصوليونَ ، قالوا : وكما قد يجرحُ الجارحُ بما لا يَقْدحُ ، كذلك قد يوثّقُ المُعَدِّلُ بما لا يقتضي العدالةَ . كما روى يعقوبُ الفَسَويُّ في " تاريخه " ، قال : سمعتُ إنساناً يقولُ لأحمدَ بنِ يونسَ : عبدُ اللهِ العمريُّ ضعيفٌ. قال : إنّما يضعّفُهُ رافضيٌّ مبغِضٌ لآبائِهِ، لو رأيتَ لحيتَهُ ، وخِضابَهُ ، وهيئتَهُ ؛ لعرفتَ أنّهُ ثقةٌ . فاستدلَّ أحمدُ بنُ يونسَ على ثقتِهِ بما ليسَ بحجّة ، لأنَّ حُسنَ الهيئةِ يشتركُ فيه العَدْلُ والمجروحُ .
والقولُ الرابعُ : عكسُهُ : أنّهُ لا يجبُ ذكرُ سببٍ واحدٍ منهما ، إذا كانَ الجارحُ والمعدِّلُ عالماً بصيراً . وهو اختيارُ القاضي أبي بكرٍ ، ونقلَهُ عن الجمهورِ فقال : قالَ الجمهورُ من أهلِ العلمِ : إذا جَرَحَ مَنْ لا يعرفُ الجَرْحَ ، يجبُ الكشفُ عن ذلكَ . ولم يوجبوا ذلك على أهلِ العلمِ بهذا الشأنِ . قال : والذي يقوِّي عندنا تركُ الكشفِ عن ذلك ، إذا كان الجارحُ عالماً ، كما لا يجبُ استفسارُ المعدِّلِ عمّا بهِ صارَ عندَهُ المزكّى عدلاً ، إلى آخرِ كلامِهِ . وممَّن حكاهُ عن القاضي أبي بكرٍ، الغزاليُّ في "المستصفى" خلافَ ما حكاهُ عنه في " المنخولِ " . وما ذَكَرَهُ عنه في " المستصفى " هو الذي حكاهُ صاحبُ " المحصولِ " ، والآمديُّ ، وهو المعروفُ عن القاضي ، كما رواهُ عنه الخطيبُ في " الكفايةِ " .
والقولُ الأولُ هو الذي نصَّ عليه الشافعيُّ . وقالَ الخطيبُ: هو الصوابُ عندنا. وقالَ ابنُ الصلاحِ : إنّهُ الصحيحُ المشهورُ . وحكى الخطيبُ أنّهُ ذهبَ الأئمةُ من حفّاظِ الحديثِ ونقّادِهِ ، مثلُ البخاريِّ ، ومسلمٍ ، وغيرِهما ، إلى أنَّ الجرحَ لا يُقبلُ إلا مفسَّراً . قال ابنُ الصلاحِ : وهو ظاهرٌ مقررٌ في الفقِهِ وأُصولِهِ .
272.
فَإنْ يُقَـلْ: (قَـلَّ بَيَانُ مَنْ جَـرَحْ)
كَذَا إذَا قَالُوا: (لِمَتْنٍ لَمْ يَصِحْ)
273.
وَأبْهَمُـوا،فَالشَّـيْخُ قَـدْ أجَابَـا
أنْ يَجِبَ الوَقْـفُ إذا اسْـتَرَابـا
274.
حَتَّـى يُـبِيْـنَ بَـحْثُـهُ قَبُـوْلَـهْ
كَمَنْ أُوْلُو الصَّـحِيْحِ خَرَّجُوا لَهْ
275.
فَفـي (البُخَارِيِّ) احتِجَاجاً (عِكْرِمَه)
مَعَ(ابْنِ مَرْزُوْقٍ)، وَغَيْرُ تَرْجَمَهْ
276.
وَاحْتَـجَّ (مُسْـلِمٌ) بِمَـنْ قَدْ ضُعِّفَا
نَحْوَ (سُـوَيْدٍ) إذْ بِجَرْحٍ مَا اكتَفَى
277.
قُلْتُ : وَقَـدْ قَـالَ (أبُـو المَعَـاليْ)
، واخْتَـارَهُ تِلْمِيْـذُهُ ( الغَـزَاليْ)
278.
و(ابْنُ الخَطِيْبِ) : الْحَقُّ أنْ يُحْكَمْ بِمَا
أطْلَقَـهُ العَالِـمْ بِأسْـبَابِهِمَا
هذا سؤالٌ أوردَهُ ابنُ الصلاحِ على قولِهِم : إنَّ الجرحَ لا يُقبلُ إلا مفسَّرَاً . وكذلك تضعيفُ الحديثِ ، فقال : ولقائلٍ أنْ يقولَ : إنّما يعتمدُ الناسُ في جرحِ الرواةِ ، وردِّ حديثِهِم ، على الكُتُبِ التي صنَّفَها أئمةُ الحديثِ في الجرحِ ، أو في الجرحِ والتعديلِ . وقلَّما يتعرضونَ فيها لبيانِ السببِ،بل يقتصرونَ على مجردِ قولِهم:فلانٌ ضعيفٌ،وفلانٌ ليس بشيءٍ،ونحوُ ذلك.وهذا حديثٌ ضعيفٌ ، وهذا حديثٌ غيرُ ثابتٍ، ونحوُ ذلكَ. فاشتراطُ بيانِ السببِ،يُفضِي إلى تعطيلِ ذلكَ،وسدِّ بابِ الجرحِ في الأغلبِ الأكثرِ.قال:وجوابُهُ أنَّ ذلكَ وإنْ لم نعتمدْهُ في إثباتِ الجرحِ،والحكمِ بهِ،فقد اعتمدناهُ في أنْ توقَّفنا عن قبولِ حديثِ مَنْ قالوا فيه مثلَ ذلك،بناءً على أنَّ ذلك أوقعَ عندنا فيهم رِيبةً قويةً، يوجبُ مثلُها التوقُّفَ . ثم مَنِ انزاحتْ عنه الريبةُ منهم ، ببحثٍ عن حالِهِ ، أوْجَبَ الثقةَ بعدالتِهِ ؛ قبلنا حديثَه ، ولم نتوقَّفْ . كالذينَ احتجَّ بهم صاحِبا " الصحيحينِ " ، وغيرُهما ممَّنْ مسَّهم مثلُ هذا الجرحِ من غيرِهم . فافْهَمْ ذلك فإنهُ مَخْلَصٌ حسَنٌ. ولمّا نقلَ الخطيبُ عن أئمّة الحديثِ: أنَّ الجرحَ لا يُقبلُ إلا مفسَّرَاً ، قال : فإنَّ البخاريَّ احتجَّ بجماعةٍ سبقَ من غيرِهِ الطعنُ فيهم،والجرحُ لهم ، كعِكْرِمَةَمولى ابنِ عبّاسٍ في التابعينَ،وكإسماعيلَبنِ أبي أويسٍ ، وعاصمِ بنِ عليٍّ ، وعمرِو بنِ مَرْزوقٍ في المتأخّرينَ .
قالَ : وهكذا فعلَ مسلمٌ ، فإنّهُ احتجَّ بسُوَيْدِ بنِ سعيدٍ ، وجماعةٍ غيرِهم ، اشتَهَرَ عمَّنْ ينظرُ في حالِ الرواةِ الطعنُ عليهم . قالَ : وسلكَ أبو داودَ هذه الطريقةَ، وغيرُ واحدٍ ممَّنْ بعدَهُ .
وقولي : ( إذ بجرح ) ، أي : بمطلقِ جرحٍ ، وذلك لأنَّ سويدَ بنَ سعيدٍ صدوقٌ في نفسهِ، كما قالَ أبو حاتمٍ ، وصالحٌ جزرةُ ، ويعقوبُ بنُ شيبةَ وغيرُهم . وقد ضعّفهُ البخاريُّ ، والنسائيُّ . فقال البخاريُّ : حديثُهُ منكرٌ . وقال النسائيُّ : ضعيفٌ . ولم يفسِّرِ الجرحَ . وأكثرُ مَنْ فَسَّرَ الجرحَ فيه ، ذكرَ أنّهُ لما عَمِي ربَّما تلقّنَ الشيءَ . وهذا وإنْ كانَ قادحاً فإنّما يقدحُ فيما حدّثَ به بعد العَمى ، وما حدَّثَ به قبلَ ذلك فصحيحٌ . ولعلَّ مسلماً إنّما خَرَّجَ عنه ما عُرِفُ : أنَّهُ حدَّثَ به قبلَ عَماهُ . وأما تكذيبُ ابنِ معينٍ له، فإنّه أنكرَ عليه ثلاثةَ أحاديثَ : حديثَ : (( مَنْ عَشِقَ ، وعَفَّ ))، وحديثَ : (( مَنْ قالَ في دِيننا بِرَأيهِ فاقتُلُوهُ )) ، وحديثَهُ عن أبي معاويةَ، عن الأعمشِ ، عن عطيّةَ ، عن أبي سعيدٍ مرفوعاً : (( الحسنُ والحُسَينُ سَيِّدا شبابِ أهلِ الجنَّةِ )) . فقالَ ابنُ مَعِينٍ : هذا باطلٌ عن أبي معاويةَ . قال الدارقطنيُّ : فلما دخلتُ مِصْرَ ، وجدْتُ هذا الحديثَ في مُسندِ المَنْجَنِيْقيِّ ، وكان ثقةً ، عن أبي كُرَيبٍ ، عن أبي معاويةَ ، فتخلَّصَ منه سُويدٌ ، فأنكرَهُ عليه ابنُ معينٍ ؛ لظنِّهِ أنَّهُ تفرّدَ به عن أبي معاويةَ ، ولا يحتملُ التفرّدَ ، ولم ينفردْ بهِ ، وإنّما كذَّبَهُ ابنُ معينٍ فيما تلقّنَهُ آخراً . فنسبَهُ إلى الكذبِ لأجلهِ . ويدلُّ عليه أنَّ محمّدَ بنَ يحيى السُّوسيَّ ، قال : سألتُ ابنَ معينٍ ، عن سُويدٍ ، فقال : فيما حدَّثَكَ فاكتُبْ عنه ، وما حدَّثَكَ به تلقيناً فلا . فَدَلَّ هذا على أنّهُ صدوقٌ عندَهُ ، أنْكَرَ عليه ما تلقَّنَهُ ، واللهُ أعلمُ .
وإنّما روى عنه مسلمٌ لطلبِ العُلوِّ مما صحَّ عندَهُ بنـزولٍ . ولم يخرجْ عنه ما انفرَدَ به . وقد قالَ إبراهيمُ بن أبي طالبٍ : قلتُ لمسلمٍ : كيفَ استجزتَ الروايةَ عن سويدٍ في الصحيحِ ؟ فقال : ومِنْ أين كنتُ آتي بنسخةِ حفصِ بنِ ميسرةَ ؟ وذلك أنَّ مسلماً لم يروِ عن أحدٍ ممَّنْ سمعَ مِنْ حفصِ بنِ ميسرةَ في الصحيحِ ، إلا عن سويدِ بنِ سعيدٍ فقط . وقد رَوَى في الصحيحِ عن واحدٍ ، عن ابنِ وَهْبٍ ، عن حفصٍ ، والله أعلمُ .
وقولي: ( قلتُ … ) إلى آخر البيتينِ ، هو من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ . وهما ردٌّ على السؤالِ الذي ذكرهُ ، وذلك أنَّ إمامَ الحرمينِ ، أبا المعَالي الجُوينيَّ ، قالَ في كتابِ " البُرهانِ " : الحقُّ أنّهُ إنْ كان المزكّيِّ عالماً بأسبابِ الجرحِ والتعديلِ ، اكتفينا بإطلاقِهِ . وإلاّ فلا . وهذا هو الذي اختارَهُ أبو حامدٍ الغزاليُّ ، والإمامُ فخرُ الدينِ بنُ الخطيبِ ، وقد تقدّم نقلُهُ في شرحِ الأبياتِ التي قبلَ هذهِ عن القاضي أبي بكرٍ ، وأنّهُ نقلَهُ عن الجمهورِ . وممَّنْ اختارَهُ أيضاً من المحدّثينَ : الخطيبُ ، فقالَ بعدَ أنْ فرّقَ بينَ الجرحِ والتعديلِ في بيانِ السببِ : على أنّا نقولُ أيضاً : إنْ كان الذي يرجعُ إليهِ في الجرحِ عدلاً مرضيّاً في اعتقادِهِ ، وأفعالِهِ ، عارفاً بصفةِ العدالةِ والجرحِ ، وأسبابِهما ، عالماً باختلافِ الفقهاءِ في أحكامِ ذلك ؛ قُبِلَ قولُهُ فيمَنْ جرحَهُ مجملاً ، ولا يُسألُ عَنْ سببهِ .
279.
وَقَدَّمُوا الجَرْحَ، وَقِيْلَ : إنْ ظَهَرْ
مَنْ عَدَّلَ الأكْثَرَ فَهْـوَ المُعْتَبَـرْ
إذا تعارضَ الجرحُ والتعديلُ في راوٍ واحدٍ . فجرَّحَهُ بعضُهم ، وَعدَّلَهُ بعضُهم ، ففيهِ ثلاثةُ أقوالٍ :
أحدُها:أنَّ الجرحَ مقدَّمٌ مطلقاً، ولو كانَ المعدِّلُونَ أكثرَ.ونقلَهُ الخطيبُعن جمهورِ العلماءِ.وقال ابنُ الصلاحِ:إنَّهُ الصحيحُوكذا صحَّحَهُ الأصوليونَ،كالإمامِ فخرِ الدينِ والآمديِّ ؛ لأنَّ مع الجارحِ زيَادةَ علمٍ ، لم يطّلعْ عليها المعدِّل ؛ ولأنَّ الجارحَ مصدّقٌ للمعدِّل فيما أخبرَ به عن ظاهرِ حالِهِ ، إلا أنّهُ يخبرُ عن أمرٍ باطنٍ خَفِي عن المعدِّلِ .
والقولُ الثاني : أنّهُ إنْ كانَ عددُ المعدّلينَ أكثرَ قُدِّمَ التعديلُ . حكاه الخطيبُ في " الكفايةِ " ، وصاحبُ " المحصولِ " ؛ وذلك لأنَّ كثرةَ المعدّلين تقوِّي حالَهُم ، وتوجبُ العملَ بخبرِهم . وقلّةَ الجارحينَ تُضْعِفُ خبرَهُم . قال الخطيبُ : وهذا خطأٌ وبُعْدٌ ممَّنْ توهَّمَهُ ؛ لأنَّ المعدِّلين ، وإن كثروا ليسُوا يخبرُونَ عن عَدَمِ ما أخبرَ به الجارحُونَ . ولو أخبرُوا بذلكَ لكانتْ شهادةً باطلةً على نفيٍّ .
والقولُ الثالثُ:أنّهُ يتعارضُ الجرحُ والتعديلُ فلا يرجَّحُ أحدُهما ، إلاّ بمرجِّحٍ ، حكاهُ ابنُ الحاجبِ. وكلامُ الخطيبِ يقتضي نفي هذا القولِ الثالثِ.فإنّهُ قالَ : اتّفقَ أهلُ العلمِ على أنَّ مَنْ جَرَّحَهُ الواحدُ والاثنانِ ، وعَدَّلَهُ مثلُ عددِ مَنْ جَرَّحَهُ ، فإنَّ الجرحَ به أولى. ففي هذهِ الصورةِ حكايةُ الإجماعِ على تقديمِ الجرحِ،خلافَ ما حكاهُ ابنُ الحاجبِ .
وقولي: ( الأكثرَ ) ، هو في موضعِ الحالِ ، وجاءَ معرّفاً ،كما قُرِئَ في الشاذِّ قولُهُ تعالى: لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُ مِنْهَا الأذَلَّ . على أنَّ ( يَخرجُ ) : ثلاثيٌّ قاصرٌ، و( الأذلَّ ) : في موضعِ الحالِ .
280.
وَمُبْهَـمُ التَّعْدِيْـلِ لَيْسَ يَكْتَفِيْ
بِهِ (الخَطِيْبُ) والفَقِيْـهُ (الصَّيْرَفِيْ)
281.
وَقِيْلَ : يَكْفِي ، نَحْوُ أنْ يُقالا:
حَدَّثَنِـي الثِّقَـةُ ، بَـلْ لَوْ قَالاَ :
282.
جَمِيْعُ أشْـيَاخِي ثِقَاتٌ لَـوْ لَمْ
أُسَـمِّ ، لاَ يُقْبَلُ مَـنْ قَـدْ أَبْهَمْ
283.
وَبَعْضُ مَـنْ حَقَّـقَ لَمْ يَـرُدَّهُ
مِنْ عَالِـمٍ في حَـقِّ مَـنْ قَلَّـدَهُ
التعديلُ على الإبهامِ من غيرِ تسميةِ المعدَّلِ ، كما إذا قال : حدّثني الثقةُ ، ونحوَ ذلك ، من غيرِ أنْ يسمّيَهُ ؛ لا يُكتَفَى به في التوثيقِ ، كما ذكرهُ الخطيبُ أبو بكرٍ ، والفقيهُ أبو بكرٍ الصَّيْرفيُّ ، وأبو نصرٍ بنُ الصَّبَّاغِ من الشافعيةِ ، وغيرُهم . وحكى ابنُ الصباغِ في " العُدَّةِ " عن أبي حنيفةَ أنّهُ يُقْبَلُ ، وهو ماشٍ على قولِ مَنْ يحتجُّ بالمرسلِ ، وأولى بالقبولِ . والصحيحُ الأولُ ؛ لأنَّهُ وإنْ كان ثقةً عندَهُ ، فربَّما لو سمّاهُ لكان ممَّنْ جَرَّحَهُ غيرُهُ بجرحٍ قادحٍ . بل إضرابُهُ عن تَسْمِيتِهِ ريبةٌ تُوْقِعُ تردداً في القلبِ . بل زادَ الخطيبُ على هذا بأنّهُ لو صَرَّحَ بأنَّ جميعَ شيوخِهِ ثقاتٌ ، ثم رَوى عمَّنْ لم يسمِّهِ ، أنّا لا نعملُ بتزكيتهِ له . قالَ الخطيبُ في " الكفايةِ " : (( إذا قالَ العَالِمُ كُلُّ مَنْ رَوَيْتُ عنه فهو ثقةٌ ، وإنْ لم أُسمِّهِ . ثم رَوَى عمَّنْ لم يُسَمِّهِ ، فإنّهُ يكونُ مُزَكِّيَاً لهُ . غيرَ أنَّا لا نَعملُ على تزكيتِهِ ؛ لجوازِ أنْ نعرفَهُ إذا ذكرَهُ بخلاف العدالةِ )) . نعمْ ، إذا قالَ العالمُ : كُلُّ مَنْ أَروي لكم عنه وأُسميهِ فهو عدلٌ مرضيٌّ مقبولُ الحديثِ كان هذا القولُ تعديلاً لكلِّ مَنْ رَوَى عنه وسمَّاهُ. هكذا جزمَ به الخطيبُ ، قال : وكان ممَّنْ سلكَ هذهِ الطريقةَ عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ . زادَ البيهقيُّ مع ابنِ مهديٍّ مالكَ بنَ أنسٍ ، ويحيى بنَ سعيدٍ القطّانِ . قال : وقد يوجدُ في روايةِ بعضِهم الروايةُ عن بعضِ الضُّعفاءِ لخفاءِ حالِهِ عليهِ ، كروايةِ مالكٍ ، عن عبد الكريمِ بن أبي المُخَارِقِ .
وفي التعديلِ على الإبهامِ قولانِ آخرانِ :
أحدُهما : أنّهُ يقبلُ مطلقاً ، كما لو عيَّنَهُ ؛ لأنَّهُ مأمونٌ في الحالتينِ معاً .
القولُ الثاني : وهو ما حكاهُ ابنُ الصلاحِ عن اختيارِ بعضِ المحقّقينَ أنّهُ إنْ كانَ القائلُ لذلك عالماً أجزأَ ذلكَ في حقِّ مَـنْ يوافقُـهُ في مذهبِهِ كقـولِ مالكٍ : أخبـرني الثقةُ ، وكقولِ الشافعيِّ ذلكَ أيضاً في مواضعَ . وعليه يدلُّ كلامُ ابنِ الصباغِ في " العدّةِ " ، فإنّهُ قال : إنَّ الشافعيَّ لم يُورِدْ ذلكَ احتجاجاً بالخبرِ على غيرِهِ ، وإنَّما ذَكَرَ لأَصحابهِ قيامَ الحجَّةِ عندَهُ على الحُكْمِ. وقد عرف هو مَنْ رَوَى عنه ذلك . وقد بَيَّنَ بعضُ العلماءِ بعضَ ما أبهما مِنْ ذلكَ باعتبارِ شيوخِهما . فحيثُ قال مالكٌ: عن الثقةِ –عندَهُ– عن بُكَيْرِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الأشجِّ. فالثقةُ مَخْرَمَةُ بنُ بُكَيْرٍ. وحيث قالَ : عن الثقةِ ، عن عمرِو بنِ شُعيبٍ ، فقيلَ : الثقةُ عبدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ ، وقيل : الزهريُّ . ذكر ذلك أبو عُمر بنُ عبدِ البرِّ. وقالَ أبو الحسنِ محمدُ بنُ الحسينِ بنِ إبراهيمَ الأثريُّ السجستانيُّ في كتابِ " فضائلِ الشافعيِّ " : سمعتُ بعضَ أهلِ المعرفةِ بالحديثِ يقولُ : إذا قال الشافعيُّ في كتبهِ : أخبرنا الثقةُ ، عن ابنِ أبي ذِئْبٍ ، فهو ابنُ أبي فُدَيكَ . وإذا قالَ : أخبرنا الثقةُ ، عن الليثِ بنِ سعدٍ ، فهو يحيى بنُ حَسَّانَ . وإذا قال : أخبرنا الثقةُ ، عن الوليدِ بنِ كثيرٍ فهو أبو أسامَةَ . وإذا قال : أخبرنا الثقةُ، عن الأوزاعيِّ،فهو عمرُو بنُ أبي سَلَمَةَ.وإذا قال: أخبرنا الثقةُ ، عن ابنِ جُريجٍ ، فهو مسلمُ بنُ خالدٍ. وإذا قالَ : أخبرنا الثقةُ ، عن صالحٍ مولى التَّوْأَمَةِ ، فهو إبراهيمُ بنُ أبي يحيى.
284.
وَلَمْ يَرَوْا فُتْيَاهُ أوْ عَمَلَهُ
-عَلَى وِفَاقِ المَتْنِ- تَصْحِيْحَاً لَهُ
285.
وَلَيْسَ تَعْدِيلاً عَلَى الصَّحِيْحِ
رِوَايَةُ العَدْلِ عَلَى التَّصْرِيْحِ
أيْ : ولم يَرَوْا فُتيا العالمِ على وفقِ حديثٍ حُكماً منه بصحةِ ذلك الحديثِ ؛ لإمكانِ أنْ يكونَ ذلك منه احتياطاً ، أو لدليلٍ آخرَ وافقَ ذلكَ الخبرَ . وأما روايةُ العدلِ عن شيخٍ بصريحِ اسمِهِ ، فهلْ ذلكَ تعديلٌ له أم لا ؟ فيه ثلاثة أقوالٍ :
أحدُها : أنَّهُ ليس بتعديلٍ ؛ لأنَّهُ يجوزُ أنْ يرويَ عن غيرِ عَدْلٍ . وهذا قولُ أكثرِ العلماءِ من أهلِ الحديثِ ، وغيرِهم . وهو الصحيحُ ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ .
والثاني : أنّهُ تعديلٌ مطلقاً ؛ إذ لو علمَ فيه جرحاً لذكرَهُ ، ولكان غاشاً في الدينِ ، لو علِمَهُ ولم يذكرْهُ حكاه الخطيبُ وغيرُهُ . قال أبو بكر الصَّيْرفيُّ : وهذا خطأٌ ؛ لأنَّ الروايةَ تعريفٌ لهُ والعدالةُ بالخبرةِ .
وأجاب الخطيبُ : بأنَّهُ قد لا يَعلمُ عدالتَهُ ، ولا جرحَهُ .
والثالث : أنّهُ إنْ كانَ ذلكَ العَدْلُ الذي روي عنه لا يَروي إلا عن عدلٍ كانت روايتُهُ تعديلاً ، وإلاّ فلا . وهذا هـو المختارُ عن الأصوليينَ ، كالسيفِ الآمديِّ ، وأبي عمرِو بنِ الحاجبِ ، وغيرِهما . أما إذا رَوَى عَنْهُ من غيرِ تصريحٍ باسمِهِ ، فإنهُ لا يكونُ تعديلاً ، بَلْ وَلَوْ عدلهُ عَلَى الإبهامِ لَمْ يكتفِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
286.
وَاخْتَلَفُوا : هَلْ يُقْبَلُ المَجْهُوْلُ؟
وَهْوَ –عَلَى ثَلاَثَةٍ- مَجْعُوْلُ
287.
مَجْهُوْلُ عَيْنٍ : مَنْ لَهُ رَاوٍ فَقَطْ ،
وَرَدَّهُ الأَكْثَرُ ، وَالقِسْمُ الوَسَطْ :
288.
مَجْهُوْلُ حَالٍ بَاطِنٍ وَظَاهِرِ
وَحُكْمُهُ : الـرَّدُّ لَدَى الجَمَاهِرِ،
289.
وَالثَّالِثُ : المَجْهُولُ لِلعَدالَه
في بَاطِنٍ فَقَطْ . فَقَدْ رَأَى لَه
290.
حُجِّيَّةً-في الحُكْمِ-بَعْضُ مَنْ مَنَعْ
مَا قَبْلَهُ ، مِنْهُمْ (سُلَيْمٌ) فَقَطَعْ
291.
بِهِ ، وَقَالَ الشَّيْخُ : إنَّ العَمَلا
يُشْبِهُ أنَّهُ عَلَى ذَا جُعِلا
292.
في كُتُبٍ منَ الحَدِيْثِ اشْتَهَرَتْ
خِبْرَةُ بَعْضِ مَنْ بِهَا تَعَذَّرَتْ
293.
في بَاطِنِ الأمْرِ ، وبَعْضٌ يَشْهَرُ
ذَا القِسْمَ مَسْتُوْراً ، وَفِيْهِ نَظَرُ
اختلفَ العلماءُ في قَبولِ روايةِ المجهولِ ، وهو على ثلاثةِ أقسامٍ : مجهولِ العينِ ، ومجهولِ الحالِ ظاهراً وباطناً ، ومجهولِ الحال باطناً .
القسمُ الأولُ : مجهولُ العَيْنِ ، وهو مَنْ لم يروِ عنه إلا راوٍ واحدٌ . وفيه أقوالٌ :
الصحيحُ الذي عليه أكثرُ العلماءِ من أهلِ الحديثِ ، وغيرِهم ، أنّهُ لا يقبلُ .
والثاني: يقبلُ مطلقاً.وهذا قولُ مَنْ لم يشترطْ في الراوي مزيداً على الإسلامِ.
والثالثُ : إن كان المنفردُ بالروايةِ عنه لا يروي إلا عَنْ عَدْلٍ ، كابنِ مهديٍّ ، ويحيى بنِ سعيدٍ ، ومَنْ ذُكرَ معهُما ، واكتفينا في التعديلِ بواحدٍ قُبلَ ، وإلاّ فلا .
والرابعُ : إنْ كان مشهوراً في غيرِ العلمِ بالزُّهْدِ ، أو النَّجْدةِ قُبلَ ، وإلاّ فلا . وهو قولُ ابنِ عبدِ البرِّ ، وسيأتي نقلهُ عنه .
والخامسُ : إنْ زَكَّاه أحدٌ من أئمةِ الجرحِ والتعديلِ مع روايةِ واحدٍ عنهُ قُبل ، وإلاّ فلا . وهو اختيارُ أبي الحسنِ بنِ القطّانِ في كتابِ " بيان الوهمِ والإيهامِ " .
قال الخطيبُ في " الكفاية " : المجهولُ عند أصحابِ الحديثِ : كُلُّ مَنْ لم يشتهرْ بطلبِ العلمِ في نفسِهِ ، ولا عرفَهُ العلماءُ به . ومَنْ لم يُعرفْ حديثُهُ إلاّ من جهةِ راوٍ واحدٍ، مثلُ : عَمْرٍو ذِي مرٍّ ، وجَبَّارٍ الطَّائيِّ ، وعبدِ اللهِ بنِ أَعَزَّ الهَمْدانيِّ ، والهَيْثَمِ بنِ حَنَشٍ ، ومالكِ بنِ أَعزَّ ، وسعيدِ بنِ ذي حُدَّانَ ، وقَيْسِ بنِ كُرْكُمٍ ، وخَمْرِ بنِ مالكٍ . قال : وهؤلاءِ كلُّهم لم يَرْوِ عنهم غيرُ أبي إسحاقَ السَّبِيعيِّ . ومثلُ : سَمْعانَ بنِ مُشَنَّجٍ ، والهَزْهازِ بنِ مَيْزنٍ ، لا يُعرفُ عنهما راوٍ إلاّ الشَّعبيُّ . ومثلُ : بَكْرِ بنِ قِرْواشٍ ، وحَلاَّمِ بنِ جَزْلٍ ، لم يروِ عنهما إلا أبو الطُّفَيلِ عامرُ بنُ واثلةَ . ومثلُ : يزيدَ بنِ سُحَيْمٍ ، لم يروِ عنه إلا خِلاَسُ بنُ عَمْرٍو . ومثلُ : جُرَي بنِ كُلَيبٍ ، لم يروِ عنه إلا قتادةُ بن دِعَامةَ . ومثلُ : عُمَيرِ بنِ إسحاقَ ، لم يروِ عنه سوى عبدِ اللهِ بنِ عَوْنٍ . وغيرُ من ذَكرنا . وروينا عن محمدِ بنِ يحيى الذُّهْلِيِّ ، قال : إذا رَوَى عن المحدِّثِ رجلانِ ارتفعَ عنه اسمُ الجهالةِ . وقال الخطيبُ : أقلُّ ما تُرفعُ به الجهالةُ أن يرويَ عنه اثنانِ فصاعداً ، من المشهورينَ بالعلمِ ، إلا أنّه لا يثبتُ له حكمُ العدالةِ بروايتهِما عنه . واعترضَ عليه ابنُ الصلاحِ بأنَّ الهَزْهازَ رَوَى عنه الثوريُّ أيضاً . قلت : وروى عنه أيضاً الجرَّاحُ بنُ مَلِيحٍ ، فيما ذكرَهُ ابنُ أبي حاتمٍ ، وسمَّى أباهُ مازناً، بالألفِ لا بالياءِ . ولعلَّ بعضَهُم أمالَهُ فكتبَهُ بالياءِ . وخَمْرُ ابنُ مالكٍ روى عنه أيضاً عبدُ اللهِ بنُ قَيْسٍ ، وذكرَهُ ابنُ حبّانَ في " الثقاتِ " ، وسمَّاهُ خُمَيْرَ بنَ مالكٍ ، وذكرَ الخلافَ فيه في التَّصْغيرِ والتّكبيرِ ابنُ أبي حاتِمٍ . وكذلِكَ الهَيْثمُ ابنُ حَنَشٍ رَوَى عنه أيضاً سَلَمةُ بنُ كُهَيْل ، قالَهُ أبو حاتمٍ الرازيُّ . وأما عبدُ اللهِ بنُ أَعزّ ، ومالكُ بن أعزَّ ، فقد جعلَهُما ابنُ ماكولا واحداً ، اختُلفَ على أبي إسحاقَ في اسمِهِ . وبَكْرُ بنُ قِرْواشٍ روى عنه أيضاً قتادةُ فيما ذكرَهُ البخاريُّ ، وابنُ حبّانَ في " الثقاتِ " . وسمَّى ابن أبي حاتم أباهُ قُرَيشاً . وحَلاَّمُ بنُ جَزْلٍ ذكرَهُ البخاريُّ في " تاريخه " فقالَ : حِلاَبٌ ، أي : بباء موحّدةٍ ، وخطَّأهُ ابنُ أبي حاتمٍ في كتابٍ جمعَ فيهِ أوهامَهُ في " التاريخ " ، وقال : (( إنّما هو حَلاَّمٌ )) ، أي : بالميمِ . ثم تعقّبَ ابنُ الصلاحِ بعضَ كلامِ الخطيبِ المتقدّم بأنْ قال : قد خَرَّجَ البخاريُّ حديث جماعةٍ ليس لهم غيرُ راوٍ واحدٍ منهم : مِرْدَاسٌ الأسلميُّ ، لم يروِ عنه غيرُ قَيْسٍ بنِ أبي حازمٍ . وخَرَّجَ مسلمٌ حديثَ قومٍ ليس لهم غيرُ راوٍ واحدٍ منهم : ربيعةُ بنُ كعبٍ الأسلميُّ ، لم يروِ عنه غيرُ أبي سَلَمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ . وذلك منهما مَصِيرٌ إلى أنَّ الراوي قد يَخْرُجُ عن كونِهِ مجهولاً مردوداً ، بروايةِ واحدٍ عنه . والخلافُ في ذلك مُتَّجِهٌ ، نحوَ اتجاهِ الخلافِ المعروفِ في الاكتفاءِ بواحدٍ في التعديلِ .
قلتُ : لم ينفردْ عن مِرْداسٍ قَيْسٌ ، بل روى عنه أيضاً زيادُ بنُ عِلاَقةَ فيما ذكرَهُ المزّيُّ في " التهذيبِ " ، وفيه نظرٌ . ولم ينفردْ عن ربيعةَ أبو سَلَمةَ ، بل رَوَى عنه أيضاً نُعَيْمٌ المُجْمِرُوحَنْظلةُ بنُ عليٍّ.وأيضاً فمِرْداسٌ وربيعةُ من مشاهيرِ الصحابةِ، فمِرداسٌ من أهلِ الشَّجَرَةِ،وربيعةُ من أهل الصُّفَّةِ.وقد ذكرَ أبو مسعودٍ إبراهيمُ بنُ محمدٍ الدِّمَشْقيُّ في (( جُزْءٍ له أجابَ فيه عن اعتراضاتِ الدارقطنيِّ على كتابِ مسلمٍ )) ، فقال : لا أعلمُ رَوَى عن أبي عليٍّ عمرِو بنِ مالكٍ الجَنْبيِّ أحدٌ غيرُ أبي هانيءٍ ، قال : وبروايةِ أبي هانيءٍ وَحْدَهُ لا يرتفعُ عنه اسمُ الجهالةِ ، إلا أنْ يكونَ معروفاً في قبيلتهِ ، أو يروي عنه أحدٌ معروفٌ مع أبي هانئٍ ، فيرتفعُ عنه اسمُ الجهالةِ . وقد ذكرَ ابنُ الصلاحِ في النوعِ السابعِ والأربعينَ عن ابنِ عبدِ البرِّ ، قال : كُلُّ مَنْ لم يروِ عنه إلا رجلٌ واحدٌ ، فهو عندَهم مجهولٌ إلا أنْ يكونَ رجلاً مشهوراً في غيرِ حملِ العلمِ كاشتهارِ مالكِ بنِ دينارٍ بالزُّهْدِ ، وعَمْرِو بن مَعْديْ كَرِبَ بالنَّجْدةِ . فشهرةُ هذينِ بالصُّحبةِ عند أهلِ الحديثِ آكدُ في الثقةِ به من مالكٍ وعمرٍو ، والله أعلمُ .
والقسمُ الثاني : مجهولُ الحالِ في العدالةِ في الظاهرِ والباطنِ ، مع كونِهِ معروفَ العَيْنِ بروايةِ عدلينِ عنه . وفيه أقوالٌ :
أحدُها : وهو قولُ الجماهيرِ ، كما حكاهُ ابنُ الصلاحِ أنَّ روايتَهُ غيرُ مقبولةٍ.
والثاني : تقبلُ مطلقاً ، وإنْ لم تقبلْ روايةُ القسمِ الأولِ . قال ابنُ الصلاحِ : وقد يَقبلُ روايةَ المجهولِ العدالةِ مَنْ لا يَقبلُ روايةَ المجهولِ العينِ .
والثالثُ : إنْ كانَ الراويانِ ، أو الرواةُ عنه فيهم مَنْ لا يَروِي عن غيرِ عَدْلٍ قُبِلَ ، وإلاَّ فلاَ .
والقسمُ الثالثُ : مجهولُ العدالةِ الباطنةِ ، وهو عدلٌ في الظاهرِ ، فهذا يحتَجُّ به بعضُ مَنْ رَدَّ القسمَينِ الأولَينِ ، وبهِ قطعَ الإمامُ سُلَيمُ بنُ أيوبَ الرازيُّ ، قال : لأنَّ الإخبارَ مَبنيٌّ على حُسْنِ الظَّنِّ بالراوي ؛ لأنَّ روايةَ الأخبارِ تكونُ عندَ مَنْ تَتَعذَّرُ عليه معرفةُ العدالةِ في الباطنِ ، فاقتُصِرَ فيها على معرفةِ ذلك في الظاهرِ . وتُفَارِقُ الشهادَةَ ، فإنَّها تكونُ عند الحُكَّامِ،ولا يتعذّرُ عليهم ذلكَ ، فاعتُبِرَ فيها العدالةُ في الظاهرِ والباطنِ. قالَ ابنُ الصّلاحِ : ويشبهُ أنْ يكونَ العملُ على هذا الرأي في كثيرٍ من كتبِ الحديثِ المشهورةِ في غيرِ واحدٍ من الرُّواةِ الذين تقادَمَ العهدُ بهم ، وتعذَّرَتِ الخِبْرةُ الباطنةُ بهم ، واللهُ أعلمُ . وأطلقَ الشافعيُّ كلامَهُ في اختلافِ الحديثِ أنَّهُ لا يحتجُّ بالمجهولِ ، وحكى البيهقيُّ في " المدخلِ " : أنَّ الشافعيَّ لا يحتجُّ بأحاديثِ المجهولينَ . ولما ذكرَ ابنُ الصلاحِ هذا القسمَ الأخيرَ ، قال : وهو المستورُ ، فقد قال بعضُ أئمتِنا : المَسْتُورُ مَنْ يكونُ عَدْلاً في الظَّاهرِ ، ولا تُعْرَفُ عدالتُهُ باطناً . انتهى كلامُه . وهذا الذي نَقَلَ كلامَهُ آخراً ، ولم يسمِّهِ ، هو البغويُّ ، فهذا لفظُهُ بحروفِهِ في " التهذيبِ " ، وتَبِعهُ عليه الرافعيُّ. وحكى الرافعيُّ في الصومِ وجهين في قبولِ روايةِ المستورِ من غيرِ ترجيحٍ. وقالَ النوويُّ في " شرحِ المهذّبِ " : (( إنَّ الأصحَّ قبولُ روايتِهِ )) .
وقولي : ( وفيه نظرٌ ) ، ليس في كلامِ ابنِ الصلاحِ ، فهو من الزوائدِ التي لم تتميَّزْ ووجهُ النظرِ الذي أشرتُ إليهِ هو أنَّ في عبارة الشافعيِّ في اختلافِ الحديثِ ما يقتضي أنَّ ظاهِرَي العدالةِ مَنْ يحكمُ الحاكمُ بشهادتِهِمَا .
فقالَ في جوابِ سؤالٍ أوردَهُ : فلا يجوزُ أنْ يَتركَ الحُكْمَ بشهادتِهما إذا كانا عَدْلَيْنِ في الظاهرِ . فعلى هذا لا يُقالُ لمَنْ هو بهذهِ المثابةِ مستورٌ. نَعَمْ، في كلامِ الرافعيِّ في الصومِ أنَّ العدالةَ الباطنةَ هي التي يُرْجَعُ فيها إلى أقوالِ المُزَكِّينَ . ونقلَ الرُّوْيَانيُّ في " البَحر " عن نصِّ الشافعيِّ في " الأمِّ ": أنَّهُ لو حضَرَ العقدَ رجلانِ مسلمانِ ، ولا يُعرفُ حالُهما من الفِسْقِ والعَدالةِ انعقدَ النكاحُ بهما في الظاهرِ . قال: لأنَّ الظّاهرَ من المسلمينَ العدالةُ . والله أعلم .
294.
وَالخُلْفُ في مُبْتَـدِعٍ مَـا كُفِّرَا
قِيْلَ : يُـرَدُّ مُطلَقَاً ، وَاسْـتُنْكِرَا
295.
وَقْيِـلَ : بَلْ إذا اسْتَحَلَّ الكَذِبَا
نُصْـرَةَ مَذْهَـبٍ لَـهُ ، وَنُسِـبَا
296.
(لِلشَّـافِعيِّ) ، إذْ يَقُوْلُ : أقْبَلُ
مِـنْ غَيْرِ خَطَّابِيَّـةٍ مَـا نَقَلُـوْا
297.
وَالأكْثَرُوْنَ -وَرَآهُ الأعْدَلاَ-
رَدُّوَا دُعَاتَهُـمْ فَقَـطْ ، وَنَقَـلا
298.
فِيهِ (ابْنُ حِبَّانَ) اتِّفَاقاً ، وَرَوَوْا
عَنْ أهْلِ بِدْعٍ في الصَّحِيْحِ مَا دَعَوْا
اختلفوا في روايةِ مبتدعٍ لم يُكفَّرْ في بدعتِهِ ، على أقوالٍ :
فقيلَ : تردُّ روايتُـهُ مُطلقاً ؛ لأنَّهُ فاسقٌ ببدعتِهِ . وإنْ كانَ متأوِّلاً فتردُّ كالفاسقِ مَنْ بغيرِ تأويلٍ ، كما استوى الكافرُ المتأوّلُ ، وغيرُ المتأوِّلِ .
وهذا يُروَى عن مالكٍ ، كما قالَ الخطيبُ في " الكفايةِ " . وقالَ ابنُ الصَّلاحِ : إنّهُ بعيدٌ مباعِدٌ للشائعِ عن أئمّةِ الحديثِ . فإنَّ كتبَهم طافحةٌ بالروايةِ عن المتبدعةِ غيرِ الدُّعاةِ ، كما سيأتي .
والقولُ الثاني : أنَّهُ لم يكنْ ممَّنْ يستحلُّ الكذبَ في نُصرةِ مذهبِهِ ، أو لأهلِ مذهبِهِ قُبِلَ ، سواءٌ دَعَى إلى بِدْعَتِهِ . أو لا ؟ وإنْ كان ممَّنْ يستحلُّ ذلكَ لم يقبلْ ، وعزا الخطيبُ هذا القولَ للشـافعيِّ ، لقولِهِ : أقبل شَـهادةَ أهلِ الأهواءِ ، إلاّ الخَطّابيّةَ مِنَ الرَّافِضَةِ ؛ لأنَّهم يَرَوْنَ الشهادةَ بالزُّورِ لموافِقِيهم . قالَ : وحُكِي هذا أيضاً عن ابنِ أبي لَيلَى ، والثوريِّ ، وأبي يوسفَ القاضي . ورَوَى البيهقيُّ في " المدخلِ " عن الشافعيِّ ، قال : ما في أهلِ الأهواءِ قومٌ أشهدُ بالزُّورِ من الرَّافِضَةِ .
والقولُ الثالثُ : أنَّهُ إنْ كانَ داعيةً إلى بدعتِهِ ، لم يقبلْ ، وإنْ لم يكنْ داعيةً قُبِلَ . وإليهِ ذهبَ أحمدُ ، كما قالَ الخطيبُ . قالَ ابنُ الصلاحِ: وهذا مذهبُ الكثيرِ، أو الأكثر . وهو أَعدَلُها وأَوْلاَها . قال ابنُ حبّانَ : الداعيةُ إلى البدعِ لا يجوزُ الاحتجاجُ به عند أئمتنا قاطبةً ، لا أعلمُ بينهم فيه اختلافاً . وهكذا حَكَى بعضُ أصحابِ الشافعيِّ أنَّهُ لا خلافَ بين أصحابهِ أنّهُ لا يقبلُ الداعيةُ،وإنَّ الخلافَ بينَهم فيمَنْ لم يَدْعُ إلى بدعتِهِ.
فقولي : ( وَنَقَلَ فِيهِ ابنُ حِبَّانَ اتِّفَاقاً ) ، أي : في رَدِّ روايةِ الداعيةِ ، وفي قبولِ غيرِ الداعيةِ أيضاً . واقتصرَ ابنُ الصلاحِ على حكايةِ الاتفاقِ عنه في الصورةِ الأولى . وأمَّا الثانيةُ فإنهُ قال في " تاريخ الثقاتِ " في ترجمةِ جعفرِ بنِ سُليمانَ الضُّبَعيِّ : ليسَ بين أهلِ الحديثِ مِنْ أئمتنا خلافٌ أنَّ الصدوقَ المتقنَ إذا كان فيهِ بدعةٌ ، ولم يكن يَدْعُوا إليها أنَّ الاحتجاجَ بأخبارِهِ جائزٌ . فإذا دَعَى إلى بِدْعَتِهِ سقطَ الاحتجاجُ بأخبارِهِ . وفي المسألةِ قولٌ رابعٌ لم يحكِه ابنُ الصلاحِ ، أنَّهُ تقبلُ أخبارُهم مطلقاً ، وإنْ كانوا كفّاراً ، أو فُسَّاقاً بالتأويلِ . حكاهُ الخطيبُ عن جماعةٍ من أهلِ النَّقْلِ ، والمتكلمينَ .
وقولي : ( وَرَآهُ الأعْدَلا ) ، أي : ابنُ الصلاحِ . وهي جملةٌ معترضةٌ بينَ المبتدأ والخبرِ . وفي الصحيحينِ كثيرٌ من أحاديثِ المبتدعةِ غير الدُّعاةِ ، احتجاجاً واستشهاداً . كعِمرانَ بنِ حِطّانَ ، وداودَ بنِ الحُصَينِ ، وغيرِهما . وفي " تاريخِ نيسابورَ " للحاكمِ في ترجمةِ محمدِ بنِ يعقوبَ بنِ الأخرمِ أنَّ كتابَ مُسْلِمٍ ملآنٌ من الشِّيعةِ .
وقولي : ( وَالخُلْفُ في مُبتَدِعٍ مَا كُفِّرَا ) ، احترازٌ عن المبتدعِ الذي يُكَفَّرُ ببدعتِهِ ، كالمجسمِةِ إنْ قلنا بتكفيرِهم على الخلافِ فيه . فإنَّ ابنَ الصلاحِ لم يحكِ فيه خلافاً . وحكاهُ الأصوليونَ ، فذهب القاضي أبو بكرٍ إلى رَدِّ روايتِهِ مطلقاً، كالكافرِ المخالَفِ، والمسلمِ الفاسقِ . ونقَلهُ السيفُ الآمديُّ عن الأكثرينَ وبهِ جزمَ أبو عمرِو بنِ الحاجبِ . وقالَ صاحبُ " المحصولِ " : الحقَّ أنّهُ إنِ اعتقَدَ حرمةَ الكذبِ ، قَبِلْنَا روايتَهُ ، وإلا فلا ؛ لأنَّ اعتقادَ حرمةِ الكذبِ يمنعُهُ مِنْهُ ، واللهُ أعلمُ .
299.
وَ(لِلحُمَيْدِيْ) وَالإمَامِ (أحْمَدَا)
بـأنَّ مَـنْ لِكَـذِبٍ تَعَمَّـدا
300.
أيْ فِي الحَدِيْثِ، لَمْ نَعُدْ نَقْبَلُـهُ
وَإنْ يَتُبْ ، وَ(الصَّـيْرَفِـيِّ) مِثْلُهُ
301.
وَأطْلَقَ الكِذْبَ ، وَزَادَ : أنَّ مَنْ
ضُعِّـفَ نَقْـلاً لَمْ يُقَـوَّ بَعْدَ أنْ
302.
وَلَيْسَ كَالشَّاهِدِ ، وَ(السَّمْعَانِيْ
أبُـو المُظَفَّرِ) يَـرَى فِي الجَانِيْ
303.
بِكَذِبٍ فِي خَبَـرٍ إسْـقَاطَ مَا
لَـهُ مِـنَ الحَدِيْـثِ قَدْ تَقدَّمَـا
مَنْ تَعمَّدَ كَذِباً في حديثِ رسولِ اللهِ،فإنهُ لا تُقبلُ روايتُهُ أبداً،وإن تابَ،وحسنُتْ توبَتُهُ، كما قالَهُ غيرُ واحدٍ من أهلِ العلمِ ، منهم : أحمدُ بنُ حنبلٍ، وأبو بكرٍ الحُمَيديُّ.
أمَّا الكذبُ في حديثِ الناسِ ، وغيرِهِ من أسبابِ الفِسْقِ . فإنّهُ تقبلُ روايةُ التائبِ منهُ. قال ابنُ الصلاحِ : وأطلقَ الإمامُ أبو بكرٍ الصَّيْرفيُّ الشافعيُّ فيما وَجَدْتُ له في (( شرحِهِ لرسالةِ الشافعيِّ )) فقال : كُلُّ مَنْ أسقطنا خبَرهُ من أهلِ النَّقْلِ بكذبٍ ، وجدناهُ عليه ، لم نَعُدْ لِقَبُوْلِهِ بتوبةٍ تظهرُ . ومَنْ ضعَّفنَا نقلَهُ لم نجعلْهُ قويّاً بعدَ ذلكَ . وذَكَرَ أنَّ ذلكَ ممَّا افترقَتْ فيه الروايةُ والشهادةُ . قلتُ : الظاهرُ أنَّهُ إنّما أرادَ الكذبَ في حديثِ النبيِّ ، لا مطلقاً. بدليلِ قولِهِ: من أهلِ النَّقْلِ، أيْ: للحديثِ . ويدلُّ على ذلكَ أنَّهُ قيدَ ذلك بالمحدِّثِ فيما رأيتُه في كتابِ "الدلائلِ و الاعلامِ"، فقال:وليس يطعنُ على المحدِّثِ إلاّ أنْ يقولَ:عَمَدْتُ الكَذِبَ،فهو كاذبٌ في الأوّلِ، ولا يُقبلُخبَرُهُ بعدَ ذلكَ . انتهى .
وقولي: (والصيرفِيِّ)، هو مجرورٌ عَطْفَاً على قولِهِ : ( وللحميديْ ) ، وقولي: ( بعدَ أنْ ) ، أيْ : بعدَ أنْ ضُعِّفَ . فحذفَ لدلالةِ ضُعِّفَ المتقدّمةِ عليهِ . وذكرَ أبو المظفرِ السَّمْعَانيُّ : أنَّ مَنْ كَذَبَ في خبرٍ واحدٍ وجبَ إسقاطُ ما تَقَدَّمَ مِنْ حديثِهِ . قال ابنُ الصلاحِ : وهذا يُضاهي مِنْ حيثُ المعنى ما ذكرَهُ الصَّيْرفيُّ .
304.
وَمَنْ رَوَى عَنْ ثِقَةٍ فَكَذَّبَهْ
فَقَدْ تَعَارَضَا ، وَلَكِنْ كَذِبَهْ
305.
لاَ تُثْبِتَنْ بِقَوْلِ شَيْخِهِ ، فَقَدْ
كَذَّبَهُ الآخَرُ ، وَارْدُدْ مَا جَحَدْ
306.
وَإنْ يَرُدَّهُ بِــ (لاَ أذْكُرُ) أوْ
مَا يَقْتَضِي نِسْيَانَهُ ، فَقَـدْ رَأوْا
307.
الحُكْمَ لِلذَّاكِـرِ عِنْـدَ المُعْظَمِ،
وَحُكِيَ الإسْـقَاطُ عَنْ بَعْضِهِـمِ
308.
كَقِصَّةِ الشَّـاهِدِ واليَمِيْـنِ إذْ
نَسِـيَـهُ (سُـهَيْلٌ) الَّذِي أُخِذْ
309.
عَنْـهُ ، فَكَانَ بَعْدُ عَنْ (رَبِيْعَهْ)
عَنْ نَفْسِـهِ يَرْوِيْـهِ لَنْ يُضِيْعَـهْ
310.
وَ(الشَّافِعي)نَهَى(ابْنَ عَبْدِ الحَكَمِ)
يَـرْوِي عَنِ الحَيِّ لخَـوْفِ التُّهَمِ
إذا روى ثقةٌ عن ثقةٍ حديثاً فكذَّبَهُ المُرْوَى عنهُ صريحاً ، كقولِهِ : كَذَبَ عليَّ ، أو بنفيٍ جازم ، كقولِهِ : ما رويتُ هذا لهُ . فقدْ تعارضَ قولُهما ، فيردُّ ما جحَدَهُ الأصلُ؛ لأنَّ الراوي عنه فرعُهُ . ولكن لا يَثْبُتُ كذبُ الفَرْعِ بتكذيبِ الأصلِ له في غيرِ هذا الذي نفاهُ ، بحيثُ يكونُ ذلك جرحاً للفرعِ ؛ لأنَّهُ أيضاً مُكَذِّبٌ لشَيخِهِ في نَفْيهِ لذلكَ . وليسَ قَبولُ جَرْحِ كُلٍّ منهما بأوْلى من الآخرِ فتَساقَطا .
وقولي في آخرِ البيتِ : (كَذِبَهْ)، مفعولٌ مقدّمٌ لقولي: (لاَ تُثْبِتَنْ). وقولي : ( وَارْدُدْ مَا جَحَدْ ) أي : اردُدْهُ من حيثُ الفرعُ إذا نفى الأصلُ تحديثَهُ للفرعِ به خاصّةً ولا يردُّ من حيثُ الأصلُ نفسهُ إذا حدَّثَ به،كما صرَّحَ بهِ القاضي أبو بكرٍ فيما حكاهُ الخطيبُ عنه . وكذا إذا حَدَّثَ به فرعٌ آخرُ ثقةٌ عنه ، ولم يكذبْهُ الأصلُ ، فهو مقبولٌ ، وهذا واضحٌ . أما إذا لم يكذبْهُ الأصلُ صريحاً ، ولكنْ قالَ : لا أذكرُهُ ، أو لا أعْرِفُهُ ، ونحوَ ذلكَ ممّا يقتضي جوازَ أنْ يكونَ نَسِيَهُ ، فذلكَ لا يقتضي رَدَّ روايةِ الفرعِ عنهُ . ومَعَ ذلكَ فقد اختُلفَ فيه هل يكونُ الحكمُ للفرعِ الذاكرِ ، أو للأصلِ الناسي ؟ فذهبَ جمهورُ أهلِ الحديثِ ، وجمهورُ الفقهاءِ ، والمتكلِّمينَ إلى قبولِ ذلكَ . وأنَّ نسيانَ الأصلِ لا يُسقِطُ العملَ بما نسيَه . قال ابنُ الصلاحِ : وهو الصحيحُ . وذهبَ بعضُ أصحابِ أبي حنيفةَ إلى إسقاطِهِ بذلك ، وحكاهُ ابنُ الصَّبَّاغِ في " العُدَّة " عن أصحابِ أبي حنيفةَ .
مثالُهُ : حديثٌ رواهُ أبو داودَ ، والترمذيُّ ، وابنُ ماجه من روايةِ ربيعةَ بنِ أبي عبدِ الرحمنِ، عن سُهيلٍ بنِ أبي صالحٍ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ ، أنَّ النبيَّ : (( قَضَى باليمينِ معَ الشاهدِ )) . زادَ أبو دوادَ في روايةٍ : أنَّ عبدَ العزيزِ الدَّراوَرديَّ ، قال : فذكرتُ ذلك لسهيلٍ ، فقال : أخبرني ربيعةُ - وهو عندي ثقةٌ - أَنِّي حَدَّثْتُهُ إيّاهُ ، ولا أحفظُهُ . قالَذذ عبدُ العزيزِ : وقدْ كانَ أصابتْ سهيلاً علّةٌ أذهبَتْ بعضَ عقلِهِ ، ونسيَ بعضَ حديثِهِ . فكانَ سهيلٌ بعدُ يُحدِّثهُ ، عن ربيعةَ عنه ، عن أبيهِ .
ورواهُ أبو داودَ أيضاً من روايةِ سليمانَ بنِ بلالٍ ، عن ربيعةَ ، قالَ سليمانُ : فلقيتُ سهيلاً ، فسألتُهُ عن هذا الحديثِ ، فقال : ما أعرفُهُ . فقلتُ لهُ : إنَّ ربيعةَ أخبرني بهِ عنكَ . قال : فإنْ كانَ ربيعةُ أخبركَ عَنِّي ، فحدِّثْ به عَنْ ربيعةَ عَنِّي .
وقد مَثَّلَ ابنُ الصلاحِبحديثٍ آخرَ،تركتُ التمثيلَ به لما سأذكرُهُ.وَهُوَ حديثٌ رواه الثلاثةُ المذكورونَ من روايةِ سليمانَ بنِ موسى،عن الزهريِّ،عن عروةَ،عن عائشةَ رضي اللهُ عنها مرفوعاً:((إذا نُكِحَتِ المرأةُ بغيرِ إذْنِ وَليِّها،فنِكاحُها باطلٌ))فذكرَ الترمذيُّ:أنَّ بعضَ أهـلِ الحديثِ ضعَّفَهُ من أجلِ أنَّ ابنَ جُريجٍ قَالَ:ثُمَّ لقيتُ الزهريَّ،فسألتُهُ فأنكَرَهُ .
وإنّما تركتُ التمثيلَ بهذا المثالِ ؛ لعدم صحةِ إنكارِ الزهريِّ لَهُ . فَقَدْ ذَكَرَ الترمذيُّ بعدَهُ عن ابنِ مَعِينٍ أنَّهُ لَمْ يذكرْ هَذَا الحرفَ عَلَى ابنِ جريجٍ ، إلاّ إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ . قَالَ: وسَمَاعُهُ عن ابنِ جريجٍ ليسَ بذاكَ . إنّما صَحَّحَ كُتُبَهُ عَلَى كتبِ عبدِ المجيدِ بنِ عبدِ العزيزِ بنِ أبي رَوَّادٍ ، ما سمعَ من ابنِ جُريجٍ . وضَعَّفَ يَحْيَى روايةَ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ ، عن ابنِ جريجٍ . وَقَدْ جمعَ غيرُ واحدٍ من الأئمةِ أخبارَ مَنْ حَدَّثَ ، ونَسِيَ ، مِنْهُمْ : الدارقطنيُّ ، والخطيبُ ، قالَ الخطيبُ في " الكفايةِ " : ولأجلِ أنَّ النسيانَ غيرُ مأمونٍ عَلَى الإنسانِ ، فيبادرُ إِلَى جحودِ ما رُوي عَنْهُ ، وتكذيبِ الرَّاوِي لَهُ ، كَرِهَ مَنْ كَرِهَ من العلماءِ التحديثَ عن الأحياءِ . ثُمَّ رَوَى عن الشعبيِّ أنّهُ قَالَ لابنِ عَوْنٍ : لا تحدّثْعن الأحياءِ. وعن مَعْمَرٍ أنّهُ قالَ لعبدِ الرزاقِ : إنْ قَدَرْتَ ألاّ تحدِّثَ عن رجلٍ حيٍّ فافعلْ.وعن الشافعيِّ أنَّهُ قَالَ لابنِ عبدِ الحكم:إيَّاكَ والروايةَ عن الأحياءِ. وفي روايةِ البيهقيِّ في " المدخلِ " : لا تُحدِّثْ عن حيٍّ ، فإنَّ الحيَّ لا يؤمَنُ عَلَيْهِ النسيانُ ، قالَه لهُ حينَ رَوَى عنِ الشافعيِّ حكايةً فأنكرَها ، ثُمَّ ذكرَها .
311.
وَمَـنْ رَوَى بأُجْـرَةٍ لَـمْ يَقْبَلِ
(إسْحَاقُ) و(الرَّازِيُّ) و(ابْنُ حَنْبَلِ)
312.
وَهْـوَ شَـبيْهُ أُجْـرَةِ القُـرْآنِ
يَخْـرِمُ مِـنْ مُـرُوْءةِ الإنْسَـانِ
313.
لَكِـنْ (أبُوْ نُعَيْـمٍ الفَضْلُ) أَخَذْ
وَغَيْـرُهُ تـَرَخُّصَـاً ، فإنْ نَبَـذْ
314.
-شُغْلاً بِهِ- الكَسْبَ أجِزْ إرْفَاقَا،
أفْتَى بِهِ الشَّـيْخُ (أبُوْ إسْـحَاقا)
اختلفوا في قَبولِ روايةِ مَنْ أخذَ على التحديثِ أجراً . فذهبَ أحمدُ وإسحاقُ وأبو حاتِمٍ الرازيُّ،إلى:أنَّهُ لا يقبلُ.ورَخَّصَ في ذلكَ آخرون،منهم:أبو نُعَيْمٍ الفَضْلُ بنُ دُكَيْنٍ، شيخُ البخاريِّ،وعليُّ بنُ عبدِ العزيزِ البغويُّ،فأَخَذُوا العِوَضَ علىالتحديثِ.قالَ ابنُ الصلاحِ : وذلكَ شبيهٌ بأخْذِ الأُجرةِ على تعليمِ القرآنِ ونحوِهِ. غيرَ أنَّ في هذا مِنْ حيثُ العرفُ خَرْماً للمروءةِ،والظنُّ،يُساءُ بفاعلِهِ، إلاّ أنْ يَقترنَ ذلكَ بعُذرٍ يَنْفِي ذلكَ عنه .كمثِل ما حدَّثنيه الشيخُ أبو المُظفّرِ ، عن أبيهِ الحافظِ أبي سعدٍ السَّمْعانيِّ أنَّ أبا الفضلِ محمدَ بنَ ناصرٍ،ذكرَ أنَّ أبا الحُسينِ بنَ النَّقُوُّرِ فعَلَ ذلكَ لأنَّ الشيخَ أبا إسحاقَ الشّيرازيَّ،أفتاهُ بجوازِ أخذِ الأُجرةِ على التحديثِ؛لأنَّ أصحابَ الحديثِ كانوا يمنعونَهُ عن الكسبِ لعيالِهِ .
فقولي : ( يَخْرِمُ من مروءةِ الإنسانِ ) ، أي : أخْذَ الأُجرةِ على التحديثِ ، لا على القرآنِ . فعلى هذا يكونُ يَخْرِمُ خبراً بعدَ خبرٍ .
315.
وَرُدَّ ذُوْ تَسَاهُلٍ في الحَمْلِ
كَالنَّوْمِ وَالأدَا كَلاَ مِـنْ أصْلِ،
316.
أوْ قَبِلَ التَّلقِيْنَ، أوْ قَدْ وُصِفَا
بِالمُنْكَرَاتِ كَثْرَةً ، أوْ عُـرِفَـا
317.
بِكَثْرَةِ السَّهْوِ ، وَمَا حَدَّثَ مِنْ
أصْلٍ صَحِيْحٍ فَهْوَ رَدٌّ ، ثُمَّ إنْ
318.
بُيِّـنْ لَهُ غَلَطُهُ فَمَا رَجَعْ،
سَـقَطَ عِنْدَهُمْ حَدِيْثُـهُ جُمَعْ
319.
كَذَا (الحُمَيْدِيُّ) مَعَ (ابْنِ حَنْبَلِ)
و(ابْـنِ المُبَارَكِ) رَأَوْا فِـي العَمَلِ
320.
قَالَ : وَفيـهِ نَظَرٌ ، نَعَمْ إذَا
كَانَ عِنَادَاً مِنْـهُ مَـا يُنْكَـرُ ذَا
أي : وردوا روايةَ مَنْ عُرِفَ بالتساهُلِ في سماعِ الحديثِ وتحمُّلِهِ ، كالنومِ أي : كمَنْ ينامُ هو ، أو شيخُهُ في حالةِ السماعِ ، ولا يُبالي بذلك . وكذلك رَدُّوا روايةَ مَنْ عُرفَ بالتساهُلِ في حالةِ الأداءِ للحديثِ ، كأنْ يؤدي لا مِنْ أصلٍ صحيحٍ مُقَابَلٍ على أصلهِ ، أو أصلِ شيخِهِ ، على ما سيأتي .
وكذا ردُّوا روايةَ مَنْ عُرفَ بقبولِ التَّلقِيْنِ في الحديثِ ، وهو أنْ يُلَقَّنَ الشيءَ فيُحدِّثَ بهِ من غيرِ أنْ يَعلمَ أنَّهُ من حديثِهِ . كموسى بنِ دينارٍ ونحوِهِ . وكذلكَ رَدُّوا حديثَ مَنْ كَثُرَتِ المناكيرُ والشواذُّ في حديثِهِ ، كما قالَ شعبةُ : لا يجيئكَ الحديثُ الشاذُّ إلا من الرجلِ الشاذِّ. وقيل له أيضاً : مَنْ الذي تُتْرَكُ الروايةُ عنه؟ قال : إذا أكثرَ عن المعروفِ من الروايةِ ما لا يُعرَفُ من حديثِهِ ، وأكثرَ الغلط .
وكذلك رَدُّوا روايةَ مَنْ عُرِفَ بكثرةِ السَّهوِ في رواياتِهِ إذا لم يحدِّثْ من أصلٍ صحيحٍ .
فقولي: (وما حَدَّثَ مِنْ أصلٍ)، هو في موضعِ الحالِ ، أَيْ : ورُدَّ حديثُ مَنْ عُرِفَ بكثرةِ السَّهْوِ في حالِ كونِهِ ما حدَّثَ مِنْ أصلٍ صحيحٍ . أما إذا حدَّثَ من أصلٍ صحيحٍ فالسماعُ صحيحٌ ، وإنْ عُرِفَ بكثرةِ السَّهوِ؛ لأنَّ الاعتمادَ حينئذٍ على الأصلِ ، لا على حفظِهِ . قال الشافعيُّ في "الرسالةِ": من كثُرَ غلطُهُ من المحدِّثينَ ، ولم يَكُنْ له أصلُ كتابٍ صحيحٍ ، لم يُقبلْ حديثُهُ ، كما يكونُ مَنْ أكثرَ الغلطَ في الشهاداتِ لم تُقْبَلْ شهادتُهُ .
وقولي : ( فهو رَدُّ ) ، أي : مردودٌ .
وأمَّا مَنْ أصرَّ على غَلَطِهِ بعدَ البيانِ ، فوردَ عن ابنِ المباركِ ، وأحمدَ بنِ حنبلٍ، والحُميديِّ ، وغيرِهم ، أنَّ مَنْ غَلِطَ في حديثٍ ، وبُيِّنَ له غلطُهُ ، فلم يرجعْ عنه وأصَرَّ على روايةِ ذلك الحديثِ ، سقطَتْ رواياتُهُ ، ولم يُكتَبْ عنه . قال ابنُ الصلاحِ : وفي هذا نظرٌ ، وهو غيرُ مستنْكَرٍ ، إذا ظهرَ أنَّ ذلك منه على جِهَةِ العِنَادِ ، أو نحوِ ذلكَ . وقالَ ابنُ مهديٍّ لشُعبةَ : مَنِ الذي تَتْركُ الروايةَ عنه ؟ قَالَ : إذا تمادَى في غَلَطٍ مُجتمعٍ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَتَّهِم نفسَهُ عندَ اجتماعِهِم عَلَى خلافِهِ ، أو رجلٌ يُتَّهَمُ بالكذبِ . وَقَالَ ابنُ حبّانَ : إنْ بُيِّنَ لَهُ خطؤهُ ، وعَلِمَ ، فلمْ يَرْجَعْ عَنْهُ ، وتمادَى في ذلكَ كانَ كَذَّاباً بعلمٍ صحيحٍ.
321.
وَأعْرَضُـوا فِي هَذِهِ الدُّهُـوْرِ
عَـنِ اجتِمَاعِ هَذِهِ الأمُوْرِ
322.
لِعُسْـرِهَا ، بَلْ يُكْتَفَى بِالعَاقِلِ
المُسْـلِمِ البَالِغِ ، غَيْرِ الفَاعِلِ
323.
لِلفِسْقِ ظَاهِراً ، وَفِي الضَّبْطِ بأنْ
يُثْبِتَ مَا رَوَى بِخَطِّ مُؤْتَمَنْ
324.
وَأنَّـهُ يَرْوِي مِنَ اصْلٍ وَافَقَـا
لأصْلِ شَيْخِهِ ، كَمَا قَدْ سَـبَقَا
325.
لِنَحْوِ ذَاكَ ( البَيْهَقِـيُّ)، فَلَقَـدْ
آلَ السَّـمَاعُ لِتَسَلْسُلِ السَّنَدْ
أعرضَ الناسُ في هذهِ الأعصارِ المتأخّرةِ ، عن اعتبارِ مجموعِ هذهِ الشروطِ لعُسْرِها ، وتعذُّرِ الوَفاءِ بها، فيُكْتَفَى في أهليةِ الشيخِ بكونِهِ مُسلِماً بالغاً عاقلاً ، غيرَ متظاهرٍ بالفِسْقِ ، وما يخرمُ المروءةَ، على ما تقدَّمَ. ويُكتَفَى في اشتراطِ ضَبْطِ الراوي بوجودِ سَماعِهِ متثبتاً بخطِّ ثقةٍ غيرِ مُتَّهَمٍ ، وبروايتِهِ مِنْ أصلٍ موافقٍ لأصلِ شيخِهِ . وقد سبقَ إلى نحوِ ذلكَ البيهقيُّ لمّا ذكرَ تَوَسُّعَ منْ تَوَسَّعَ في السماعِ مِنْ بعضِ محدِّثِي زمانِهِ الذينَ لا يَحْفَظُونَ حديثَهُم ، ولا يُحْسِنُونَ قراءَتَهُ مِنْ كُتُبِهم ، ولا يعرفُونَ ما يُقْرَأُ عَلَيْهِمْ ، بَعْدَ أنْ تكونَ القراءةُ عليهم مِنْ أصْلِ سماعِهِم ، وذلكَ لتدوينِ الأحاديثِ في الجوامعِ التي جمعَها أئمّةُ الحديثِ . قالَ فَمَنْ جاءَ اليومَ بحديثٍ لا يُوجَدُ عندَ جميعِهم ، لم يُقْبَلْ منه . ومَنْ جَاءَ بحديثٍ معروفٍ عندَهُم ، فالذي يرويهِ لا ينفردُ بروايتِهِ ، والحجّةُ قائمةٌ بحديثِهِ ، بروايةِ غيرِهِ . والقَصْدُ من روايتِه والسماعِ منه ، أنْ يصيرَ الحديثُ مُسَلْسَلاً بـ : حَدَّثَنا ، وأخبرنا . وتبقى هذهِ الكرامةُ التي خُصَّتْ بها هذهِ الأمةُ شَرَفاً لِنبيِّنا .
وكذلكَ قالَ السِّلَفِيُّ في جزءٍ لهُ جمَعَهُ في "شرطِ القراءةِ" : إنَّ الشيوخَ الذينَ لا يَعرفُونَ حديثَهم الاعتمادُ في روايتِهم على الثِّقةِ المقيّدِعنهم لا عليهم.وإنَّ هذا كُلَّهُ توسُّلٌ من الحفّاظِ إلىحفظِ الأسانيدِ،إذ ليسوا من شرطِ الصحيحِ،إلاّ على وجهِ المتابعةِ ، ولولا رُخصةُ العلماءِ؛لما جازتِ الكتابةُ عنهم، ولا الروايةُ إلاّ عن قومٍ منهم دونَ آخرينَ . انتهى.وهذا هو الذي استقرَّ عليه العملُ . قالَ الذهبيُّ في مقدّمةِ كتابِهِ "الميزان" : العمدةُ في زمانِنا ليسَ على الرواةِ، بل على المحدِّثينَ ، والمقيِّدينَ،الذين عُرِفَتْ عدالتُهم وصدقُهم في ضَبْطِ أسماءِ السَّامِعِيْنَ . قال : ثُمَّ مِنَ المَعلُومِ أنَّهُ لابُدَّ من صَوْنِ الراوي وسَتْرِهِ .
مَرَاْتِبُ التَّعْدِيْلِ
( إِبْنُ أبي حَاتِمِ ) إِذْ رَتَّبَهُ
وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيْلُ قَدْ هَذَّبَهُ
326.
مَا فِي كَلاَمِ أَهْلِهِ وَجَدْتُ
وَالشَّيْخُ زَادَ فِيْهِمَا ، وَزِدْتُ
327.
هذهِ الترجمةُ معقودةٌ لبيانِ أَلْفاظهِمِ في التعديلِ، التي يَدُلُّ تغايُرُهَا على تبايُنِ أحوالِ الرواةِ في القوَّةِ . وَقَدْ رتَّبَ ابنُ أبي حاتِمٍ في مقدّمةِ كتابِهِ " الجرحِ والتعديلِ " طبقاتِ أَلْفَاظهِمِ فيهما ، فأَجادَ وأَحسنَ . وَقَدْ أَوردَها ابنُ الصلاحِ وزادَ فيهِمَا ألفاظاً أَخَذَهَا منْ كلامِ غيرِهِ. وَقَدْ زِدْتُ عليهِمَا أَلفاظاً من كلامِ أَهْلِ هذا الشأنِ غيرَ مُتمَيِّزَةٍ بـ(قُلتُ)؛ ولكنِّي أوضِّحُ ما زدْتُ عليهِمَا هنا إِنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى .
328.
فَأَرْفَعُ التَّعْدِيلِ : مَا كَرَّرْتَهُ
كَـ(ـثِقَةٍ)( ثَبْتٍ ) وَلَوْ أَعَدْتَهُ
329.
ثُمَّ يَلِيْهِ ( ثِقَةٌ ) أوْ (ثَبْتٌ) اوْ
(مُتْقِنٌ) اوْ (حُجَّةٌ) اوْ إذا عَزَوْا
330.
الحِفْظَ أَوْ ضَبْطاً لِعَدْلٍ وَيَلِي
(لَيْسَ بِهِ بَأسٌ)(صَدُوقٌ) وَصِلِ
331.
بِذَاكَ (مَأَمُوْناً) (خِيَاراً) وَتَلا
(مَحَلُّهُ الصّدْقُ) رَوَوْا عَنْهُ إلى
332.
الصِّدْقِ مَا هُوَ كذَا شَيْخٌ وَسَطْ
أَوْ وَسَطٌ فَحَسْبُ أَوْ شَيْخٌ فَقَطْ
333.
وَ(صَالِحُ الْحَدِيْثِ) أَوْ (مُقَارِبُهْ)
(جَيِّدُهُ) ، (حَسَنُهُ) ، (مُقَارَبُهْ)
334.
صُوَيْلِحٌ صَدُوْقٌ انْ شَاءَاللهْ
أَرْجُوْ بِأَنْ (لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ) عَرَاهْ
مراتبُ التعديلِ على أَربعِ أَوْ خَمْسِ طبقاتٍ .
فالمرتبةُ الأُولى : العُليا منْ ألفاظِ التعديلِ ، ولم يذكرُها ابنُ أبي حاتِمٍ ، ولا ابنُ الصلاحِ فيما زادهُ عليه ؛ وَهِيَ: إذا كُرِّرَ لفظُ التوثيقِ المذكورِ في هَذِهِ المرتبةِ الأُولى ، إمَّا مَعَ تبايُنِ اللَّفظيْنِ ، كقولِهِم : (( ثَبْتٌ حُجَّةٌ )) أو (( ثَبْتٌ حَافظٌ )) أو (( ثقةٌ ثبتٌ )) ، أو (( ثقةٌ مُتْقِنٌ )) أو نحوُ ذَلِكَ. وإمَّا مَعَ إعادةِ اللَّفظِ الأوَّلِ، كقولِهِم: ثقةٌ ثقةٌ ، ونحوِها . وهذا المرادُ بقولي : ( وَلَوْ أعدتَهُ ) ، أي : لَوْ أعدْتَ اللَّفظَ الأَولَ بعينِهِ ، فهذهِ المرتبةُ أعلى العباراتِ في الرواةِ المقبولينَ، كَمَا قالَهَ الحافظُ أبو عبدِ اللهِ الذهبيُّ في مقدّمةِ كتابِهِ " ميزان الاعتدال ". وقولي: ( ك: ثقةٍ ثبتٍ ) ، أُشيرُ بالمثالِ إلى أَنَّ المرادَ تكرارُ ألفاظِ هذهِ المرتبةِ الأُولى ، لا مُطْلَقُ تكرارِ التوثيقِ .
المرتبةُ الثانيةُ : وهي التي جعلَها ابنُ أبي حاتِمٍ ، وتبعَهُ ابنُ الصلاحِ المرتبةَ الأُولى ؛ قال ابنُ أبي حاتِمٍ : (( وَجَدْتُ الأَلفاظَ في الجرحِ والتعديلِ على مراتبَ شَتَّى ، فإذا قِيلَ للواحدِ : إنَّه ثقةٌ أو مُتْقِنٌ ، فهو مِمَّنْ يُحْتَجَّ بحديثهِ )) . قالَ ابنُ الصلاحِ : (( وكذا إذا قيلَ : ثَبْتٌ أو حُجَّةٌ . وكذا إذا قِيلَ في العَدْلِ : إنَّهُ حافظٌ أو ضابطٌ )) . قالَ الخطيبُ : (( أرفعُ العباراتِ أَنْ يقال : حُجَّةٌ ، أو ثقةٌ )) .
المرتبةُ الثالثةُ : قولهُم ليسَ بهِ بأْسٌ ، أو لا بأْسَ بِهِ ، أو صدوقٌ ، أو مأمونٌ ، أو خِيَارٌ. وجَعَلَ ابنُ أبي حاتِمٍ وابنُ الصلاحِ هذهِ المرتبةَ : الثانيةَ واقتصرَا فيهَا على قولِهِم: صدوقٌ ، أو لا بأْسَ به. وأَدخلا فيها قولَهُم : محلُّهُ الصِّدقُ. وقالَ ابنُ أبي حاتِمٍ : إنَّ مَنْ قيلَ فيه ذلك ، فهو مِمَّنْ يُكْتَبُ حديثُهُ وينظَرُ فيه . وأَخَّرْتُ هذه اللفظةَ إلى المرتبةِ التي تلي هذهِ تبعاً لصاحبِ " الميزانِ ".
المرتبةُ الرابعةُ : قولُهُم : محلُّهُ الصِّدقُ ، أو رَوَوْا عنه ، أَو إلى الصِّدْقِ ما هو ، أو شَيْخٌ وَسَطٌ ، أو وَسَطٌ ، أو شيخٌ ، أو صالحُ الحديثِ ، أو مُقارَِبُ الحديثِ - بفتحِ الراءِ وكسرِها – كما حكاهُ القاضِي أبو بكرِ بنُ العربيِّ في " شرحِ الترمذيِّ " ؛ فلهذا كررتُ هذهِ اللفظةَ في وسطِ البيتِ وآخرِهِ . أو جيدُ الحديثِ ، أو حَسَنُ الحديثِ ، أو صُوَيْلحٌ ، أو صدوقٌ إنْ شاءَ اللهُ ، أو أَرجو أنَّه ليس به بأْسٌ ، واقتصرَ ابنُ أبي حاتِمٍ في المرتبةِ الثالثةِ من كلامِهِ على قولِهِم : شيخٌ . وقال : هو بالمنْزِلةِ التي قبلَها يُكتَبُ حديثُهُ ، وَيُنْظَرُ فيه إلاَّ أنَّهُ دونَهُما واقتصرَ في المرتبةِ الرابعةِ على قولِهم : صالحُ الحديثِ. وقالَ : إنَّ مَنْ قيلَ فيه ذلك يُكتَبُ حديثُهُ للاعتَبارِ. ثُمَّ ذَكرَ ابنُ الصلاحِ مِنْ ألفاظهِم على غيرِ ترتيبٍ ، قولَهُم: فلانٌ روَى عنهُ الناسُ ، فلانٌ وسطٌ ، فلانٌ مقارَبُ الحديثِ ، فلانٌ ما أعلَمُ به بأساً . قال : وهو دونَ قولِهِم : لا بَأْسَ بهِ.
وأمَّا تَمْييزُ الأَلفاظِ التي زدْتُها على كتابِ ابنِ الصلاحِ، فهي المرتبةُ الأُوْلَى بكمالِها، وفي المرتبةِ الثالثةِ قولهُم: مأمونٌ خِيَارٌ، وفي المرتبةِ الرابعةِ قولُهُم: فلانٌ إلى الصِّدْقِ مَا هُوَ ، وشَيْخٌ وسطٌ ، وَوَسَطٌ ، وجَيِّدُ الحديثِ ، وحَسَنُ الحديثِ ، وصُوَيلحٌ ، وصَدُوقٌ إِنْ شاءَ اللهُ ، وأرجو أَنَّهُ لا بَأْسَ به ، وهي نظيرُ ما أعلمُ به بأْساً ، و الأُوْلَى أَرفَعُ ؛ لأَنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ العلمِ حصولُ الرجاءِ بذلكَ .
335.
وَ (ابْنُ مَعِيْنٍ) قال: مَنْ أَقُوْلُ: (لاَ
بَأْسَ بِهِ) فَثِقَةٌ وَنُقِلاَ
336.
أَنَّ ابْنَ مَهْدِيٍّ أَجَابَ مَنْ سَأَلْ :
أَثِقَةً كَاَنَ أبو خَلْدَةَ ؟ بَلْ
337.
كَانَ (صَدُوْقاً) (خَيِّراً) (مَأْمُوْنَا)
الثِّقَةُ (الثُّوْرِيُّ) لَوْ تَعُوْنَا
338.
وَرُبَّمَا وَصَفَ ذَا الصِّدْقِ وَسَمْ
ضَعْفاً بـِ(صَالِحِ الْحَدِيْثِ) إِذْ يَسِمْ
لمَاَّ تقدمَ أَنَّ لأَِلفاظِ التعديلِ مراتِبَ ، وأَنَّ قولَهُم : (( ثقةٌ )) أرفعُ مِنْ (( ليسَ به بأْسٌ )) ؛ ذكرَ بعدَهُ أَنَّ كلامَ ابنِ معينٍ يقتضي التسويةَ بينهما ، فإنَّ ابنَ أبي خَيْثَمَةَ قال : قلتُ ليحيى بنِ مَعِينٍ: إنَّكَ تقولُ : فلانٌ ليس بِهِ بَأْسٌ ، وفلانٌ ضعيفٌ ، قالَ : إذا قلتُ لكَ : ليس به بأْسٌ ، فهو ثقةٌ ، وإذا قلتُ لكَ : هو ضعيفٌ ، فليسَ هو بثقةٍ لا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ. قالَ ابنُ الصلاحِ : (( ليسَ في هذا حكايةُ ذلكَ عن غيرِهِ مِنْ أهلِ الحديثِ ، فإِنَّهُ نَسَبَهُ إلى نفسِهِ خاصَّةً ، بخلافِ ما ذكرَهُ ابنُ أبي حاتِمٍ )).
قلتُ : ولمْ يَقُلِ ابنُ معينٍ : إنَّ قولي : ليسَ بهِ بأْسٌ ، كقولي : ثقةٌ ، حَتَّى يلزمَ منه التساوي بينَ اللَّفظَيْنِ ، إنَّمَا قالَ : إنَّ مَنْ قالَ فيهِ هذا فهو ثقةٌ ، وللثقةِ مراتبُ . فالتعبيرُ عنهُ بقولهِم : ثقةٌ ، أرفعُ من التعبيرِ عنهُ بأَنَّهُ لا بأْسَ بِهِ ، وإنِ اشتركا في مُطلقِ الثقةِ ، واللهُ أعلمُ .
وفي كلامِ دُحَيْم ما يوافقُ كلامَ ابنِ معينٍ ، فإنَّ أبا زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيَّ قالَ : قلتُ لعبدِ الرحمنِ بنِ إبراهيمَ : ما تقولُ في عليِّ بنِ حَوْشَبٍ الفَزَاريِّ ؟ قالَ : لا بأْسَ به . قالَ : قُلْتُ : ولِمَ لا تقولُ : ثقةٌ ، ولا نعلمُ إلا خيراً ؟ قالَ : قدْ قلتُ لك : إِنَّهُ ثقةٌ . ويدلُ على أَنَّ التعبيرَ بثقةٍ أرفعُ ؛ أَنَّ عبدَ الرحمنِ ابنَ مَهْدِيٍّ قالَ : حَدَّثَنَا أبو خَلْدةَ فقيلَ لهُ : أَكان ثقةً ؟ فقال: كانَ صدوقاً ، وكان مأموناً ، وكان خَيِّراً - وفي روايةٍ وكانَ خياراً - الثقةُ: شعبةُ وسفيانُ . فانظرْ كيفَ وصفَ أبا خَلْدةَ بما يقتضي القبولَ، ثمَّ ذكرَ أَنَّ هذا اللفظَ يُقالُ لِمِثْلِ شُعبةَ وسفيانَ . ونحوُهُ ما حكاهُ الْمَرُّوْذِيُّ قالَ : سألتُ أبا عبدِ اللهِ - يعني : أحمدَ بنَ حنبلٍ – عبدُ الوهابِ بنُ عطاء ثقةٌ ؟ قالَ : تدري ما الثِّقَةُ ؟! إِنمّا الثِّقَةُ يَحْيَى بنُ سعيدٍ القطانُ .
وقولي : ( لَوْ تَعُوْنَا ) ، تكملةٌ للوزنِ ، أي لو تحفظُونَ مراتبَ الرواةِ . وكانَ ابنُ مَهْدِيٍّ أيضاً – فيما ذكرَ أحمدُ بنُ سِنَانٍ – رُبمَّا جَرَى ذِكْرُ حديثِ الرجلِ فيه ضَعفٌ ، وهو رجلٌ صدوقٌ ، فيقولُ : رجلٌ صالحُ الحديثِ ، والله أعلم .
مَرَاْتِبُ التَّجْرِيْحِ
339.
وَأَسْوَأُ التَّجْرِيْحِ:(كَذَّابٌ) (يَضَعْ)
يَكْذِبُ وَضَّاعٌ وَدَجَّالٌ وَضَعْ
340.
وَبَعْدَهَا مُتَّهَمٌ بَالْكَذِبِ
وَ(سَاقِطٌ) وَ(هَالِكٌ) فَاجْتَنِبِ
341.
وَذَاهِبٌ مَتْرُوْكٌ اوْ فِيْهِ نَظَرْ
وَ(سَكَتُوْا عَنْهُ) (بِهِ لاَ يُعْتَبَرْ)
342.
وَ(لَيْسَ بِالثِّقَةِ) ثُمَّ (رُدَّا
حَدِيْثُهُ) كَذَا (ضَعِيْفٌ جِدَّا)
343.
(وَاهٍ بَمَرَّةٍ) وَ(هُمْ قَدْ طَرَحُوْا
حَدِيْثَهُ) وَ(ارَمِ بِهِ مُطَّرَحُ)
344.
(لَيْسَ بِشَيءٍ) (لاَ يُسَاوِي شَيْئَا)
ثُمَّ (ضَعِيْفٌ) وَكَذَا إِنْ جِيْئَا
345.
بِمُنْكَرِ الْحَدِيْثِ أَوْ مُضْطَرِبِهْ
(وَاهٍ) وَ(ضَعَّفُوهُ) (لاَ يُحْتَجُّ بِهْ)
346.
وَبَعْدَهَا (فِيْهِ مَقَالٌ) (ضُعِّفْ)
وَفِيْهِ ضَعفٌ تُنْكِرُ وَتَعْرِفْ
347.
(لَيْسَ بِذَاكَ بالْمَتِيْنِ بِالْقَوِيْ
بِحُجَّةٍ بِعُمْدَةٍ بِالْمَرْضِيْ)
348.
لِلضَّعْفِ مَا هُوْ فيْهِ خُلْفٌ طَعَنُوْا
فِيْهِ كَذَا (سَيِّئُ حِفْظٍ لَيِّنُ)
349.
(تَكَلَّمُوا فِيْهِ) وَكُلُّ مَنْ ذُكِرْ
مِنْ بَعْدُ شَيْئَاً بِحَدِيْثِهِ اعْتُبِرْ
مراتبُ ألفاظِ التجريحِ على خَمْسِ مراتبَ ، وجَعَلَهَا ابنُ أبي حاتِمٍ - وتبِعَهُ ابنُ الصلاحِ - أربعَ مراتبَ :
المرتبةُ الأُولى : وهي أَسوؤُها أَنْ يُقالَ : فلانٌ كذَّابٌ ، أو يكذِبُ ، أو فلانٌ يضعُ الحديثَ ، أو وَضَّاعٌ ، أو وَضَعَ حديثاً ، أو دَجَّالٌ . وادخلَ ابنُ أبي حاتِمٍ ، والخطيبُ بعضَ ألفاظِ المرتبةِ الثانيةِ في هذهِ . قالَ ابنُ أبي حاتِمٍ : (( إذا قالوا : متروكُ الحديثِ ، أو ذاهبُ الحديثِ ، أو كذَّابٌ ، فهو ساقطٌ ، لا يُكتَبُ حديثُهُ )). وقالَ الخطيبُ : أَدونُ العباراتِ أَنْ يُقالَ : كذَّابٌ ساقِطٌ ، وقد فَرَّقْتُ بين بعضِ هذهِ الألفاظِ تبعاً لصاحبِ " الميزانِ " .
المرتبةُ الثانيةُ : فلانٌ مُتَّهَمٌ بالكذبِ ، أو الوضعِ ، وفلانٌ ساقطٌ ، وفلانٌ هالكٌ ، وفلانٌ ذاهبٌ ، أو ذاهبُ الحديثِ ، وفلانٌ متروكٌ ، أو متروكُ الحديثِ أو تركوهُ ، وفلانٌ فيه نظرٌ ، وفلانٌ سكتوا عنه - وهاتانِ العبارتانِ يقولهُمُا البخاريُّ فيمَنْ تركوا حديثَهُ -، فلانٌ لا يُعْتَبَرُ بِهِ ، أو لا يُعْتَبَرُ بحديثِهِ ، فلانٌ ليسَ بالثقةِ ، أو ليسَ بثقةٍ ، أو غيرُ ثقةٍ ولا مأمونٍ ، ونحوُ ذلك.
المرتبةُ الثالثةُ : فلانٌ رُدَّ حديثُهُ ، أو رَدُّوا حديثَهُ ، أو مردودُ الحديثِ ، وفلانٌ ضعيفٌ جِدَّاً ، وفلانٌ واهٍ بمرّةٍ ، وفلانٌ طرحوا حديثَهُ ، أو مُطرَّحٌ ، أو مطرَّحُ الحديثِ ، وفلانٌ أرمِ بِهِ ، وفلانٌ ليس بشئٍ ، أو لا شئَ ، وفلانٌ لا يُسَاوي شيئاً ، ونحوُ ذلك. وكلُّ مَنْ قِيْلَ فيهِ ذلكَ من هذهِ المراتبِ الثلاثِ ، لا يُحْتَجُّ بهِ ، ولا يُسْتَشْهَدُ بِهِ ، ولا يُعْتَبَرُ بِهِ .
المرتبةُ الرابعةُ : فلانٌ ضعيفٌ ، فلانٌ مُنكَرُ الحديثِ ، أو حديثُهُ منكرٌ ، أو مضطربُ الحديثِ ، وفلانٌ واهٍ ، وفلانٌ ضَعَّفُوهُ ، وفلانٌ لا يُحْتَجُّ بِهِ .
المرتبةُ الخامسة :ُ فلانٌ فيه مقالٌ ، فلانٌ ضُعِّفَ ، أو فيه ضَعْفٌ ، أو في حديثِهِ ضَعْفٌ ، وفلانٌ تَعْرِفُ وتُنْكِرُ ، وفلانٌ ليس بذاك ، أو بذاك القويِّ وليس بالمتينِ ، وليس بالقويِّ ، وليس بحُجَّةٍ، وليسَ بِعُمْدَةٍ، وليس بالمرضِيِّ وفلانٌ للضَّعْفِ ما هو ، وفيه خُلْفٌ ، وطعنُوا فيهِ ، أو مَطْعُوْنٌ فيه ، وَسَيِّئُ الحِفْظِ ، وَلَيِّنٌ ، أو لَيِّنُ الحديثِ ، أو فيه لِيْنٌ ، وتكلَّمُوا فيهِ ، ونحوُ ذلكَ .
وقولي : ( وَكُلُّ مَنْ ذُكِرْ مِنْ بَعْدُ شَيْئَا ) ، أي : مِنْ بعد قولي : ( لا يُساوي شيئاً ) ، فإنَّهُ يُخَرَّجُ حديثُه للاعتبارِ ، وهمُ المذكورون في المرتبةِ الرابعةِ والخامسةِ .
قالَ ابنُ أبي حاتِمٍ: إذا أجابوا في رَجُلٍ بأنه ليِّنُ الحديثِ، فهو مِمَّنْ يُكْتَبُ حديثُهُ ، وينظرُ فيه اعتباراً . وإذا قالوا: ليسَ بقويٍّ: فهو بمـنْزِلتِهِ في كَتْبِ حديثِهِ ، إلاَّ أنَّهُ دونَهُ . وإذا قالوا : ضعيفُ الحديثِ ، فَهُوَ دونَ الثاني ، لا يُطْرحُ حديثُهُ ، بَلْ يُعْتَبَرُ بِهِ . وَقَدْ تقدَّمَ في كلامِ ابنِ مَعِينٍ ما قدْ يخالفُ هَذَا مِنْ أَنَّ مَنْ قالَ فِيْهِ : ضعيفٌ ، فليس بثقةٍ ، لا يُكتَبُ حديثُهُ . وتقدَّمَ أَنَّ ابنَ الصلاحِ أجابَ عَنْهُ : بأَنَّهُ لَمْ يَحْكِهِ عن غيرِهِ من أهلِ الحديثِ . وسألَ حمزةُ السَّهْمِيُّ الدَّارَقطنيَّ: أَيْشٍ تريدُ إذا قلْتَ : فلانٌ لينٌ ؟ قال: لا يكونُ ساقطاً متروكَ الحديثِ ، ولكنْ مجروحاً بشيءٍ لا يُسْقِطُ عن العدالةِ .
وأما تَمْييزُ ما زدْتُهُ من ألفاظِ الجرحِ على ابنِ الصلاحِ ، فهي : فلانٌ وضَّاعٌ ، ويضعُ ، ووضَعَ ، ودجَّالٌ ، ومتَّهمٌ بالكذِبِ ، وهالكٌ ، وفيه نظرٌ ، وسَكَتُوا عنهُ ، ولا يُعتبرُ به ، وليس بالثقةِ ، ورُدَّ حديثُهُ، وضعيفٌ جِدَّاً ، وواهٍ بمرّةٍ ، وطرحُوا حديثَهُ ، وارمِ بِهِ، ومطَرَّحٌ ، ولا يُسَاوِي شيئاً ، ومنكرُ الحديثِ وواهٍ ، وضعفوهُ، وفيهِ مقالٌ، وضُعِّفَ ، وتَعْرِفُ وتُنكرُ ، وليس بالمتينِ ، وليسِ بحُجَّةٍ ، وليس بِعُمْدَةٍ ، وليسَ بالمَرْضِيِّ ، وللضَّعْفِ ما هوَ ، وفيهِ خُلْفٌ ، وطعنوا فيه ، وسَيِّئُ الحفظِ ، وتَكَلَّمُوا فيهِ .
فهذهِ الألفاظُ لم يذكُرْهَا ابنُ أبي حاتِمٍ ، ولا ابنُ الصلاحِ ، وهي موجودةٌ في كلامِ أئَمةِ أهلِ هذا الشأَنِ ، وأشرتُ إلى ذلك بقولي : ( وزدْتُ ما في كَلاَمِ أهلِهِ وَجدْتُ ) .
مَتَى يَصِحُّ تَحَمُّلُ الْحَدِيْثِ ، أَوْ يُسْتَحَبُّ ؟
350.
وَقَبِلُوا مِنْ مُسْلِمٍ تَحَمُّلاَ
فِي كُفْرِهِ كَذَا صَبِيٌّ حُمِّلاَ
351.
ثُمَّ رَوَى بَعْدَ الْبُلُوْغِ وَمَنَعْ
قَوْمٌ هُنَا وَرُدَّ (كَالسِّبْطَيْنِ) مَعْ
352.
إِحْضَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلصِّبْيَانِ ثُمّْ
قَبُوْلُهُمْ مَا حَدَّثُوا بَعْدَ الْحُلُمْ
مَنْ تحمَّلَ قبلَ دخولهِ في الإسلامِ ، وروى بعدَهُ قُبِلَ ذلك منهُ . مثالهُ : حديثُ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ المتفقُ على صحتِهِ:أَنَّهُ سمعَ النبيَّ r يقرأُ في المغربِ بالطُّوْرِ. وكانَ جاءَ في فِدَاءِ أُسَارَى بدرٍ قَبلَ أَنْ يُسْلِمَ. وفي روايةٍ للبُخَاريِّ : وذلكَ أَوَّلُ ما وقرَ الإيمانُ في قلبي. وكذلك تُقْبلُ روايةُ مَنْ سمعَ قبلَ البلوغِ ، وَرَوَى بعدَهُ. ومنعَ مِنْ ذلكَ قومٌ هنا ، أي : في مسألةِ الصبيِّ ، وهوَ خطأٌ مردودٌ عليهم .
وقولي: ( كالسِّبْطَيْنِ ) ، أي: كروايةِ الحَسنِ والحُسينِ ، وغيرهِما ، مِمَّنْ تَحَمَّلَ في حالِ صباهُ ، كعبدِ اللهِ بنِ الزُّبيرِ ، والنُّعمانِ بنِ بَشِيرٍ ، وعبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ ، والسائبِ بنِ يزيدَ ، والمِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ ، ونحوِهم .
وَقبِلَ الناسُ روايتَهُم مِنْ غيرِ فَرْقٍ بينَ ما تحمَّلُوهُ قبلَ البلوغِ وبعدَهُ . وكذلك كانَ أَهلُ العلمِ يُحضِرُونَ الصِّبيانَ مجالسَ الحديثِ وَيَعْتَدُّوْنَ بروايتِهِمْ بذلكَ بعدَ البلوغِ.
353.
وَطَلَبُ الْحَدِيْثِ فِي الْعِشْرِيْنِ
عِنْدَ (الزُّبَيْرِيِّ) أَحَبُّ حِيْنِ
354.
وَهْوَ الَّذِي عَلَيْهِ (أَهْلُ الْكُوْفَهْ)
وَالْعَشْرُ فِي (الْبَصْرَةِ) كَالْمَألُوْفَهْ
355.
وَفِي الثَّلاَثِيْنَ (لأَهْلِ الشَّأْمِ)
وَيَنْبَغِي تَقْيِيْدُهُ بِالْفَهْمِ
356.
فَكَتْبُهُ بالضَّبْطِ ، والسَّمَاعُ
حَيْثُ يَصِحُّ ، وَبِهِ نِزَاعُ
357.
فَالْخَمْسُ لِلْجُمْهُورِ ثُمَّ الحُجَّهْ
قِصَّةُ (مَحْمُوْدٍ) وَعَقْلُ الْمَجَّهْ
358.
وَهْوَ ابْنُ خَمْسَةٍ، وَقِيْلَ أَرْبَعَهْ
وَلَيْسَ فِيْهِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَهْ
359.
بَلِ الصَّوَابُ فَهْمُهُ الْخِطَابَا
مُمَيِّزاً وَرَدُّهُ الْجَوَابَا
حكى أبو محمَّدِ بنُ خَلاَّدٍ الرَّامَهُرْمُزِيُّ في كتابهِ " المحدِّثِ الفاصلِ " ، عن أبي عبدِ اللهِ الزُّبيريِّ من الشافعيةِ ، واسمُهُ الزُّبيرُ بنُ أحمدَ ، أَنَّهُ قالَ : يُستحبُ كَتْبُ الحديثِ في العشرينِ ؛ لأَنَّها مُجتمعُ العقلِ ، قالَ : وأحبُّ أَنْ يَشْتَغِلَ دونَها بحفِظِ القرآنِ ، والفرائِضِ .
وقولي : ( في العشرينِ ) - بكسر النون - على لغةٍ كقولِ الشاعرِ :
……………… وَقَدْ جاوزْتُ حَدَّ الأربعِيْنِ
وقالَ موسى بنُ إسحاقَ : كانَ أهلُ الكوفةِ لا يُخرِجُونَ أولادَهُم في طلبِ الحديثِ صِغَاراً ، حَتَّى يستكمِلوا عشرينَ سنةً . وقالَ موسى بنُ هارونَ الحمَّالِ : أهلُ البصرةِ يكتبُوْنَ لعشرِ سنينَ ، وأهلُ الكوفةِ لعشرينَ ، وأهلُ الشَّامِ لثلاثينَ .
وقوليِ : ( وَيَنْبَغِي تَقْييدُهُ ) ، أي : طلبُ الحديثِ وكتابتُهُ بالضبطِ ، وسماعُهُ مِنْ حيثُ يصحُّ . فقولهُ : ( والسَّماعُ ) ، مرفوعٌ عطفاً على قولهِ : ( فكتبهُ ) . قال ابنُ الصلاحِ : (( وينبغي بعدَ أَنْ صار الملحوظُ إبقاءَ سلسلةِ الإسنادِ أن يُبَكَّرَ بإسماعِ الصغيرِ في أَولِ زمانٍ يَصِحُّ فيهِ سماعُهُ . وأمَّا الاشتغالُ بِكَتْبِهِ الحديثَ وتحصيلِهِ ، وضبطِهِ ، وتقييدِهِ ، فمن حيثُ يتأهَّلُ لذلكَ ويستعدُ لهُ ، وذلكَ يختلفُ باختلافِ الأشخاصِ ، وليس ينحصرُ في سِنٍّ مخصوصٍ )) . وقولي : ( وَبِهِ نِزَاعٌ ) ، أي : وفي الوقتِ الذي يصحُ فيه السماعُ نزاعٌ بين العلماءِ ، وهي أربعةُ أقوالٍ : أحدُها : ما ذهبَ إليه الجمهورُ أَنَّ أقلَّهُ خمسُ سنينَ . وحكاهُ القاضي عياضٌ في " الإلماع " عن أَهلِ الصنعةِ . وقالَ ابنُ الصلاحِ : هو الذي استقرَّ عليه عملُ أهلِ الحديثِ المتأخِّرينَ ، وحجتُهُم في ذلكَ ما رواهُ البخاريُّ في صحيحِهِ والنسائيُّ وابنُ ماجه ، من حديثِ محمودِ بنِ الرَّبيعِ قالَ : عَقَلْتُ مِنَ النبيِّ مَجَّةً مَجَّهَا في وَجْهِي مِنْ دلوٍ وأنا ابنُ خمسِ سنينَ . بَوَّبَ عليهِ البخاريُّ : متى يصحُّ سماعُ الصغيرِ ؟ قالَ ابنُ عبدِ البَرِّ : حَفِظَ ذلكَ عنهُ وهوَ ابنُ أربعِ سنينَ ، أو خمسِ سنينَ .
وأثبْتُ هاءَ التأنيثِ في خمسةٍ أو أربعةٍ لإرادةِ الأعوامِ. وأثبْتُ مع حذفِ المعدودِ عَلَى إِحدى اللُّغتيْنِ . وليسَ في حديثِ محمود سُنَّةٌ مُتَّبعةٌ ، إذ لا يلزمُ منه أَنْ يُمَيِّزَ كلُّ أَحدٍ تمييزَ محمودٍ ، بلْ قد ينقصَ عنه وقدْ يزيدُ . ولا يلزمُ منه ألاَّ يعقِلَ مثلَ ذلكَ وسِنُّهُ أَقلُ من ذلكَ ، ولا يلزمُ مِنْ عَقْلِ المَجَّةِ أَنْ يَعْقِلَ غيرَ ذلك مما يسمَعُهُ. والقولُ الثاني من الخلافِ في صحةِ سماعِ الصغيرِ اعتبارُ تمييزِهِ على الخصوصِ، فمتى كانَ يفهمُ الخطابَ، ويردُّ الجوابَ ؛ كان سماعُهُ صحيحاً ، وإنْ كانَ ابْنَ أقلّ مِنْ خمسٍ وإنْ لم يكنْ كذلك لم يصحَّ ، وإنْ زادَ على الخمسِ . وهذا هو الصوابُ ، وسيأتي القولانِ الآخرانِ في الأبياتِ التي تلي هذا .
360.
وَقِيْلَ: (لابْنِ حَنْبَلٍ) فَرَجُلُ
قال : لِخَمْسَ عَشْرَةَ التَّحَمُّلُ
361.
يَجُوْزُ لاَ فِي دُوْنِهَا، فَغَلَّطَهْ
قال : إذا عَقَلَهُ وَضَبَطَهْ
362.
وَقِيْلَ: مَنْ بَيْنَ الْحِمَارِ وَالْبَقَرْ
فَرَّقَ سَامِعٌ ، وَمَنْ لاَ فَحَضَرْ
363.
قال: بِهِ الَحْمَّالُ ، وابْنُ الْمُقْرِيْ
سَمَّعَ لاِبْنِ أَرْبَعٍ ذِي ذُكْرِ
وممَّا يدلُّ على اعتبارِ التمييزِ في صحةِ سماعِ الصبيِّ ، قولُ أحمدَ وقدْ سُئِلَ : مَتَى يصحُّ سماعُ الصبيِّ للحديثِ ؟ فقالَ: إذا عَقَلَ وَضَبَطَ. فَذُكرَ لهُ عَنْ رجلٍ أنَّهُ قالَ : لا يجورُ سماعُهُ حَتَّى يكونَ له خمسَ عَشْرَةَ سنةً ، فأنكرَ قولَهُ ، وقالَ : بئسَ القولُ . وهذا هو القولُ الثالثُ .
والقولُ الرابعُ : وهو قولُ موسى بنِ هارونَ الحمَّالِ ، وقد سُئِلَ متى يجوزُ سماعُ الصبيِّ للحديثِ ؟ فقالَ : إذا فَرَّقَ بَيْنَ البقرةِ والدابَّةِ ، وفي روايةٍ بَيْنَ البَقَرَةِ والحِمَاْرِ . وقولي : ( وابنُ الْمُقْرِيْ ) هُوَ مبتدأٌ ليسَ معطوفاً عَلَى الحمَّالِ . والذي سمعَ لهُ ابنُ المقرئ هُوَ الْقَاضِي أبو محمدٍ عبدُ اللهِ بنُ محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ اللَّبانِ الأصبهانيُّ. فروينا عَنْ الخطيبِ قالَ: سمعتُهُ يقولُ : حفِظْتُ القرآنَ ولي خمسُ سنينَ ، وأُحْضِرْتُ عِنْدَ أبي بكرِ بنِ المقري ، ولي أربعُ سنينَ ، فأرادوا أن يُسَمِّعُوا لي فِيْمَا حَضَرْتُ قراءتَهُ ، فَقَالَ بعضُهُم : إنَّهُ يصغرُ عَنْ السماعِ ! فقالَ لي ابنُ المقرئ : اقرأْْ سورةَ (( الكافرون )) ، فقرأتُها . فقالَ : اقرأْ سورةَ (( التكويرِ )) ، فقرأتها . فقالَ لي غيرُهُ : اقرأْ سورةَ و (( المرسلاتِ ))، فقرأتها، وَلَمْ أَغلطْ فِيْهَا . فَقَالَ ابنُ المقرئ: سمِّعوا لَهُ والعُهْدَةُ عليَّ. وقالَ ابنُ الصلاحِ : بَلَغَنَا عنْ إبراهيمَ بنِ سعيدٍ الْجَوْهَرِيِّ ، قالَ : رأيتُ صبيَّاً ابنَ أربعِ سنينَ ، قد حُمِلَ إلى المأمونِ ، قد قَرأَ القرآنَ ، ونظرَ في الرأيِ ، غيرَ أَنّهُ إذا جاع يَبْكي ! والذي يَغْلبُ على الظنِّ عدمُ صحةِ هذهِ الحكايةِ ، وقد رواها الخطيبُ في الكفايةِ بإسنادِهِ ، وفي سَنَدِها أحمدُ بنُ كاملٍ القاضي ، وكان يعتمدُ على حفظِهِ فيهم. وقال الدَّارقطنيُّ : كانَ متساهلاً .
أَقْسَاْمُ التَّحَمُّلِ
وَأَوَّلُهَا : سَمَاْعُ لَفْظِ الشَّيْخِ
364.
أَعْلَى وُجُوْهِ الأَخْذِ عِنْدَ الْمُعْظَمِ
وَهْيَ ثَمَانٍ : لَفْظُ شَيْخٍ فَاعْلَمِ
365.
كتَاباً او حِفْظاً وَقُلْ: (حَدَّثَنَا)
(سَمِعْتُ) ، أَوْ (أَخْبَرَنَا) ، (أَنْبَأَنَا)
366.
وَقَدَّمَ (الْخَطِيْبُ) أَنْ يَقُوْلاَ :
(سَمِعْتُ) إِذْ لاَ يَقْبَلُ التَّأْوِيْلاَ
367.
وَبَعْدَهَا (حَدَّثَنَا) ، (حَدَّثَنِي)
وَبَعْدَ ذَا (أَخْبَرَنَا) ، (أَخْبَرَنِي)
368.
وَهْوَ كَثْيِرٌ وَ (يَزِيْدُ) اسْتَعْمَلَهْ
وَغَيْرُ وَاحِدٍ لِمَا قَدْ حَمَلَهْ
369.
مِنْ لَفْظِ شَيْخِهِ، وَبَعْدَهُ تَلاَ:
(أَنْبَأَنَا) ، (نَبَّأَنَا) وَقَلَّلاَ
وجوهُ الأخذِ للحديثِ وتحمُّلهِ عن الشيوخِ ثمانيةٌ . فأرفعُ الأقسامِ وأعلاهَا عندَ الأكثرينَ : السماعُ مِنْ لفظِ الشيخِ ، سواءٌ حَدَّثَ من كتابِهِ أو حفظهِ بإملاءٍ أو غيرِ إملاءٍ . وقولي : ( وقُلْ : حَدَّثَنَا ) ، أي : وقُلْ في حالةِ الأداءِ لما سمعتَهُ هكذا من لفْظِ الشيخِ . قال القاضي عياضٌ : لا خلافَ أَنَّهُ يجوزُ في هذا أن يقولَ السامعُ منهُ : حَدَّثَنَا ، وأخبرنا ، وأنبأنا ، وسمعتُ فلاناً يقولُ ، وقالَ لنا فلانٌ ، وذكرَ لنا فلانٌ . وقالَ ابنُ الصلاحِ : في هذا نظرٌ ، وينبغي فيما شاعَ استعمالُهُ من هذهِ الألفاظِ مخصوصاً بما سمعَ من غيرِ لفظِ الشيخِ أن لا يُطْلَقَ فيما سَمِعَ من لفظهِ، لما فيهِ من الإيهامِ، والإلباسِ . قلت : ولم أذكرْ هذا في النَّظْمِ ؛ لأنَّ القاضي حكى الإجماعَ على جوازهِ ، وهو مُتَّجِهٌ، ولا شكَ أَنَّهُ لا يجبُ على السامعِ أَنْ يُبَيِّنَ هل كان السماعُ من لفظِ الشيخِ أو عَرْضَا ؟ نَعَمْ ، إطلاقُ أنبأنا بعد أنِ اشتهَرَ استعمالُها في الإجازةِ يؤدي إلى أَنْ يُظنَّ بما أدَّاهُ بها أنَّهُ إجازةٌ فيسقطُهُ مَنْ لا يحتجُ بالإجازةِ فينبغي أن لا تُستعملَ في المتصلِ بالسماعِ، لما حدثَ من الاصطلاحِ . وقال الخطيبُ : أرفعُ العباراتِ : سمعتُ ، ثُمَّ حَدَّثَنَا وحَدَّثَني ، ثُمَّ أخبرنا ، وهو كثيرٌ في الاستعمالِ ، ثم أنبأنا ونبأنا ، وهو قليلٌ في الاستعمالِ . وقال أحمدُ بنُ صالحٍ : أخبرنا وأنبأنا دونَ حَدَّثَنَا . وقال أحمدُ بنُ حنبلٍ : أخبرنا أسهلُ من حَدَّثَنَا ، حَدَّثَنَا شديدٌ . واستدلَ الخطيبُ على ترجيحِ سمعتُ بأَنَّهُ لا يكادُ أحدٌ يقولُها في أَحاديثِ الإجازةِ ، والمكاتبةِ ، ولا في تَدْليسِ ما لم يسمعْهُ . واستعملَ بعضهُمُ حَدَّثَنَا في الإجازةِ ، ورُوِيَ عن الحسن ، قال : حَدَّثَنَا أبو هريرة ويتأوَّلُ : حَدَّثَ أهلَ المدينةِ والحسنُ بها . قال ابنُ دقيقِ العيدِ : وهذا إذا لمْ يَقُمْ دليلٌ قاطعٌ على أَنَ الحسنَ لم يسمعْ من أبي هريرةَ لم يَجُزْ أَنْ يُصَارَ إليه . قلتُ: قال أبو زرعةَ ، وأبو حاتِم : مَنْ قال عن الحسن حَدَّثَنَا أبو هريرةَ ، فقد أخطأ. انتهى. والذي عليهِ العملُ أَنَّهُ لم يَسْمَعْ منه شيئاً . قال أيوبُ وبَهْزُ بنُ أسدٍ ويونسَ بنُ عبيدٍ وأبو زُرْعَةَ وأبو حاتِمٍ والترمذيُ والنسائيُ والخطيبُ ، وغَيْرُهُم . وزاد يونُسُ ما رآه قَطُّ . وقيل : سمعَ منه ، وهو ضعيفٌ . وقال ابنُ القطانِ : واعلمْ أنَّ حَدَّثَنَا ليستْ بنصٍ في أَنَّ قائِلَها سمعَ ، ففي مسلمٍ حديثُ الذي يقتلُهُ الدَّجَّالُ ، فيقولُ : أنتَ الدَّجَّالُ الذي حَدَّثَنَا بهِ رسولُ اللهِ ؟ قَالَ : ومعلومٌ أَنَّ ذَلِكَ الرجلَ متأخِّرُ الميقاتِ . انتهى .
فيكونُ مرادُهُ حَدَّثَ أُمَّتَهُ وَهُوَ مِنْهُمْ . وَقَدْ قالَ مَعْمَرٌ : إِنَّهُ الخضرُ ، فحينئذٍ لا مانعَ من سماعهِ . وقولي : ( ويزيدُ استعمَلَه ) ، أي : ويزيدُ بنُ هارونَ وغيرُ واحدٍ استعملَ أخبرَنا فيما سَمِعَهُ من لفظِ الشيخِ . قالَ محمدُ بنُ أبي الفوارسِ : هُشَيْمُ ويزيدُ بنُ هارونَ وعبدُ الرزاقِ ؛ لا يقولونَ إلا أخبرنا ، فإذا رأيتَ حَدَّثَنَا فهو مِنْ خطأ الكاتبِ . وحكى الخطيبُ : أَنَّ مِمَّنْ كان يفعلُ ذلكَ أيضاً : حمَّادَ بنَ سلمةَ وابنَ المباركِ وهُشيماً وعبيدَ اللهِ بنَ موسى وعمرَو بنَ عَوْنٍ ويحيى بنَ يحيى التَّمِيميَّ وابنَ رَاهَوَيْهِ وأحمدَ بنَ الفراتِ ومحمّدَ ابنَ أيوبَ الرازيَّيْنِ . وذُكِرَ عَنْ محمدِ بنِ رافعٍ أَنَّ عبدَ الرزاقِ كانَ يقولُ : أخبرنا ، حتى قدمَ أحمدُ وإسحاقُ فقالا له : قُلْ حَدَّثَنَا ، مما سمعتَ معَ هَؤلاءِ ، قالَ : حَدَّثَنَا . وما قبل ذلكَ كانَ يقولُ : أخبرنا . وقالَ ابنُ الصلاحِ بعد حكايةِ كلامِ ابنِ أبي الفوارسِ : - قُلتُ:- وكان هذا كلُّهُ قبلَ أَنْ يشيعَ تخصيصُ أخبرنا بما قُرئَ على الشيخِ .
370.
وَقَوْلُهُ : (قَالَ لَناَ) وَنَحْوُهَا
كَقُوْلِهِ : (حَدَّثَنَا) لَكِنَّهَا
371.
الْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهَا مُذَاكَرَهْ
وَدُوُنَهَا (قَالَ) بِلاَ مُجَارَرَهْ
372.
وَهْيَ عَلى السَّمَاعِ إِنْ يُدْرَ اللُّقِيْ
لاَ سِيَّمَا مَنْ عَرَفُوْهُ فِي الْمُضِيْ
373.
أنْ لاَ يَقُوْلَ ذَا بِغَيْرِ مَا سَمِعْ
مِنْهُ (كَحَجَّاجٍ) وَلَكِنْ يَمْتَنِعْ
374.
عُمُوْمُهُ عِنْدَ الْخَطيْبِ وَقُصِرْ
ذَاكَ عَلى الَّذِي بِذَا الوَصْفِ اشْتُهِرْ
قولُ الراوي: قالَ لنا فلانٌ، أو قالَ لي ، أو ذَكَرَ لنا ، أو ذَكَرَ لِي، ونحوُ ذلك ؛ هو من قبيلِ قولِهِ : حَدَّثَنَا فلاَنٌ في أَنَّهُ متصلٌ. لكنَّهُم كثيراً ما يستعملونَ هذا فيما سمعوهُ في حالةِ المذاكرةِ . قال ابنُ الصلاحِ : إنه لائقٌ بهِ وهو بهِ أشبهُ مِنْ حَدَّثَنَا . وخالف أبو عبدِ الله بنُ مَنْدَه في ذلك ، فقالَ فيما رويناهُ في جزءٍ له : أَنَّ البخارِيَّ حيثُ قال : قالَ لي فلانٌ ، فهو إجازةٌ ، وحيثُ قال : قالَ فلانٌ ، فهو تدليسٌ ، ولم يقبلِ العلماءُ كلامَهُ هذا ، وسيأتي كلامُ ابنِ حمْدَانَ بما يخالفُ هذا في كيفيةِ الروايةِ بالمناولةِ والإجازةِ ، حيث ذكرَهُ ابنُ الصلاحِ . ولما ذكرَ أبو الحسنِ بنُ القطانِ تدليسَ الشيوخِ ؛ قال : وأَما البخاريُّ فذلك عنه باطلٌ .
ودون هذهِ العبارةِ قولُ الراوي: قال فلانٌ وذكرَ فلانٌ منِ غيرِ ذِكْرِ الجارِ والمجرورِ ، وهذا معنى قولي : ( بلا مجارَرَه ) ، وهو براءَيْنِ ، وهذهِ أوضعُ العباراتِ ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ ، ومع ذلك فهي محمولةٌ على السماعِ بالشرطِ المذكورِ في الْمُعَنْعَنِ ، وهو إذا عُلِمَ اللُّقِيُّ ، أي : وسَلِمَ الراوي من التدليسِ ، كما اشترطَ هناكَ وإِنْ لم يذكرْ هنا تبعاً لابنِ الصلاحِ ، لا سِيِّما مَنْ عُرِفَ من حالِهِ أَنَّهُ لا يَرْوي إِلا ما سمعَهُ . كحجَّاجِ بنِ محمدٍ الأعورِ ، فروى كُتبَ ابنِ جُرَيْجٍ بلفظِ : قالَ ابنُ جريجٍ ، فحملَها الناسُ عنه واحتَجُّوا بها ، هذا هو المحفوظُ المعروفُ ، وخصَّصَ الخطيبُ ذلك بمَنْ عُرِفَ من عادتهِ مثلُ ذلك ، فأمَّا مَنْ لا يُعْرَفُ بذلك ، فلا يحملِهُ على السماعِ .
مَرَاْتِبُ التَّعْدِيْلِ
إِبْنُ أبي حَاتِمِ إِذْ رَتَّبَهُ
وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيْلُ قَدْ هَذَّبَهُ
326.
مَا فِي كَلاَمِ أَهْلِهِ وَجَدْتُ
وَالشَّيْخُ زَادَ فِيْهِمَا ، وَزِدْتُ
327.
هذهِ الترجمةُ معقودةٌ لبيانِ أَلْفاظهِمِ في التعديلِ، التي يَدُلُّ تغايُرُهَا على تبايُنِ أحوالِ الرواةِ في القوَّةِ . وَقَدْ رتَّبَ ابنُ أبي حاتِمٍ في مقدّمةِ كتابِهِ " الجرحِ والتعديلِ " طبقاتِ أَلْفَاظهِمِ فيهما ، فأَجادَ وأَحسنَ . وَقَدْ أَوردَها ابنُ الصلاحِ وزادَ فيهِمَا ألفاظاً أَخَذَهَا منْ كلامِ غيرِهِ. وَقَدْ زِدْتُ عليهِمَا أَلفاظاً من كلامِ أَهْلِ هذا الشأنِ غيرَ مُتمَيِّزَةٍ بـقُلتُ؛ ولكنِّي أوضِّحُ ما زدْتُ عليهِمَا هنا إِنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى .
328.
فَأَرْفَعُ التَّعْدِيلِ : مَا كَرَّرْتَهُ
كَــثِقَةٍ ثَبْتٍ وَلَوْ أَعَدْتَهُ
329.
ثُمَّ يَلِيْهِ ثِقَةٌ أوْ ثَبْتٌ اوْ
مُتْقِنٌ اوْ حُجَّةٌ اوْ إذا عَزَوْا
330.
الحِفْظَ أَوْ ضَبْطاً لِعَدْلٍ وَيَلِي
لَيْسَ بِهِ بَأسٌصَدُوقٌ وَصِلِ
331.
بِذَاكَ مَأَمُوْناً خِيَاراً وَتَلا
مَحَلُّهُ الصّدْقُ رَوَوْا عَنْهُ إلى
332.
الصِّدْقِ مَا هُوَ كذَا شَيْخٌ وَسَطْ
أَوْ وَسَطٌ فَحَسْبُ أَوْ شَيْخٌ فَقَطْ
333.
وَصَالِحُ الْحَدِيْثِ أَوْ مُقَارِبُهْ
جَيِّدُهُ ، حَسَنُهُ ، مُقَارَبُهْ
334.
صُوَيْلِحٌ صَدُوْقٌ انْ شَاءَاللهْ
أَرْجُوْ بِأَنْ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ عَرَاهْ
مراتبُ التعديلِ على أَربعِ أَوْ خَمْسِ طبقاتٍ .
فالمرتبةُ الأُولى : العُليا منْ ألفاظِ التعديلِ ، ولم يذكرُها ابنُ أبي حاتِمٍ ، ولا ابنُ الصلاحِ فيما زادهُ عليه ؛ وَهِيَ: إذا كُرِّرَ لفظُ التوثيقِ المذكورِ في هَذِهِ المرتبةِ الأُولى ، إمَّا مَعَ تبايُنِ اللَّفظيْنِ ، كقولِهِم : ثَبْتٌ حُجَّةٌ أو ثَبْتٌ حَافظٌ أو ثقةٌ ثبتٌ ، أو ثقةٌ مُتْقِنٌ أو نحوُ ذَلِكَ. وإمَّا مَعَ إعادةِ اللَّفظِ الأوَّلِ، كقولِهِم: ثقةٌ ثقةٌ ، ونحوِها . وهذا المرادُ بقولي : وَلَوْ أعدتَهُ ، أي : لَوْ أعدْتَ اللَّفظَ الأَولَ بعينِهِ 5 ، فهذهِ المرتبةُ أعلى العباراتِ في الرواةِ المقبولينَ، كَمَا قالَهَ الحافظُ أبو عبدِ اللهِ الذهبيُّ في مقدّمةِ كتابِهِ " ميزان الاعتدال " . وقولي: ك: ثقةٍ ثبتٍ ، أُشيرُ بالمثالِ إلى أَنَّ المرادَ تكرارُ ألفاظِ هذهِ المرتبةِ الأُولى ، لا مُطْلَقُ تكرارِ التوثيقِ .
المرتبةُ الثانيةُ : وهي التي جعلَها ابنُ أبي حاتِمٍ ، وتبعَهُ ابنُ الصلاحِ المرتبةَ الأُولى ؛ قال ابنُ أبي حاتِمٍ : وَجَدْتُ الأَلفاظَ في الجرحِ والتعديلِ على مراتبَ شَتَّى ، فإذا قِيلَ للواحدِ : إنَّه ثقةٌ أو مُتْقِنٌ ، فهو مِمَّنْ يُحْتَجَّ بحديثهِ . قالَ ابنُ الصلاحِ : وكذا إذا قيلَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا .
أما بعد :
الحمد لله ثُمَّ الحمد لله الذي مَنَّ علينا بتحقيق كتاب " شرح التبصرة والتذكرة " للإمام العلاّمة الحافظ العراقي ، والحمد لله الذي مَنَّ علينا بالصحة والتمكين حتَّى أنهينا هذا السفر العظيم المبارك ، والحمد لله الذي مَنَّ علينا بمعرفة السُّنَّة النبوية وخدمتها ، والله وحده عليم بالجهد الذي بذلناه في خدمة هذا الكتاب النفيس ، الذي نعدّه موسوعة في مصطلح الحديث ؛إذ أن لهذا الكِتَاب أهمية بالغة بَيْنَ بقية كتب مصطلح الْحَدِيْث ؛ لِمَا فِيْهِ من دراسات قلَّ نظيرها ، ولِمَا فِيْهِ من استدراكات وإضافات عَلَى أعظم إمام كَتَبَ في المصطلح ألاَ وَهُوَ ابن الصَّلاَح ، إذ يعدّ عمل ابن الصَّلاَح في كتابه " مَعْرِفَة أنواع علم الحديث " نواة لكتاب الحافظ العراقي هذا ، إذ قام الحافظ بإضافات واستدراكات ، وأوضح ما خفي وشرح ما كان يستحق الشرح ، حتَّى أصبح هذا الكتاب أنفس كتاب في مصطلح الحديث وأحسنها .
ومن العجب أنّ كُتُباً أقلّ شأناً منه قد عني بها المحقّقون ، غير أن أحداً منهم لم يأخذ على عاتقه خدمة هذا السفر العظيم ، من هنا شمّرنا عن ساعد الجدّ وأخذنا على أنفسنا تحقيق هذا الكتاب الفريد ، وقطعنا دونه جميع الأعمال والأشغال حتَّى خرج بهذه الحُلّة التي بين يديك .
طبعات الكتاب
طبع الكتاب عدة طبعات ، بلغت – حسب علمنا – ثلاثاً ، فيما يأتي وصف موجز لكلّ منها :
أ. الطبعة المصرية القديمة : طبعة خطأً باسم " فتح المغيث بشرح ألفية الحديث " ، صحّحها رجال جمعية النشر والتأليف الأزهرية ، وعلَّق عليها محمود ربيع ، سنة 1355 ه – 1937 م . ولم يتيسر لنا الاطلاع عليها .
ب. الطبعة الفاسية : وهي الطبعة التي حقّقها الأستاذ محمد بن الحسين العراقي الحسيني ، في سنة 1355 ه – 1937 م ، وطبعت بالمطبعة الجديدة بفاس في المغرب .
وهي طبعة تكاد تخلو من علامات الترقيم والشكل سواء لمتن الألفية أو لشرحها ، علاوة على ما فيها من التصحيف والتحريف والخطأ والذهول ، والخلط في تعيين الرجل المقصود بالكلام ، ومن غير تخريج للأحاديث والآثار ، ولا مراجعة لموارد العراقي في شرحه ، … إلى غير ذلك مما لا يخفى على لبيب .
جـ. طبعة دار الكتب العلمية : وهي طبعة مُخْرَجَةٌ عن الطبعة الفاسية ، لم يكن فيها جديد إلاّ إعادة تنضيد حروفها .
فلمّا رأينا الأمر زاد عن حدّه ، حتّى انقلب الصواب إلى ضدّه ، مع حاجة الناس إليه ، وكثرة تعويلهم عليه ، استخرنا الله تعالى في إعادة العمل في خدمته بما ييسره لنا جلّ ذكره ، فكان هذا الذي يراه القرّاء الكرام أمام أنظارهم وبين أياديهم الكريمة ، محتسبين لله ما صرفناه فيه من الجهد والمال ابتغاء للمثوبة ورجاء الفوز يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلب سليم .
اللهم فأحسن عاقبتنا في الأمور كلّها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة .
القسم الأول
الدراسة
الباب الأول : ابن الصلاح ومقدمته
الباب الثاني : العراقي وكتابه " شرح التبصرة والتذكرة "
الباب الأول
ابن الصلاح ومقدمته
ويشمل :
الفصل الأول : دراسة تحليلية لسيرة ابن الصَّلاَح .
الفصل الثاني : دراسة عن مقدمة ابن الصَّلاَح .
الفصل الأول
دراسة تحليلية لسيرة ابن الصلاح
المبحث الأول
اسمه ونسبه وولادته :
هو تقي الدين،أبو عَمْرو، عثمان بن صلاح الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر النصري الكردي الأهل الشرخاني الشهرزوري الأصل ، الموصلي النشأة،الدمشقي الموطن والوفاة ، الشافعي المذهب.ولد سنة (577)ه،بشهرزور.
المبحث الثاني
أسرته ونشأته وطلبه للعلم :
نشأ ابنُ الصلاح في بيت عِلم وورع ورئاسة في الفقه ، إذ كان والده إماماً مُفتياً رأساً في الفقه على مذهب الإمام الشافعي - رحمه الله - ، وولي فيما بعد التدريس في إحدى المدارس بحلب ، فكان والده أوّل مشايخه وأبرزهم .
كما تلقّى ابن الصلاح علومه على مشايخه في مسقط رأسه،والذين كان أغلبهم من الأكراد،ومما يدلّ على نباهته وعلو همته ونشاطه في طلب العلم-وَهُوَ لم يزل في مقتبل العمر- ما يذكر من أنّه أعاد على والده قراءة كتاب " المهذب " أكثر من مرة ، ولم يختطّ شاربه بعدُ. ومن ثَمَّ انتقل به والده إلى مدينة الموصل ، فاشتغل بها مدة وسمع بها.
ولم تقرّ عين أبي عمرو بأن يأخذ العلم عن شيوخ بلده فقط،فارتحل في طلب بغيته، وسافر إلى بغداد ، وإلى قزوين ، فلازم بها الإمام الرافعي ، حتى أتقن عليه جملة من العلوم، وإلى بلاد خراسان وأقام هناك زمناً، وأكثر فيها من سماع الحديث وتحصيله.
ومن ثَمَّ ألقى ابن الصلاح عصا ترحاله في بلاد الشام، وكان أوّل مقامه في مدينة القدس،ثُمَّ ورد دمشق بصحبة أبيه وأسرته فاتخذها سكناً، وذلك في سنة630ه.
ولا يفوتنا أنْ نذكر أنّه سافر إلى بلاد الحجاز لأداء فريضة الحجّ .
المبحث الثالث
شيوخه :
تتلمذَ ابنُ الصلاح على عدّة من الشيوخ ، سواء كانوا من مسقط رأسه ، أو من البلد التي استوطنها ، أو من البلاد الأخرى خلال أسفاره ورحلاته ، وكانت السمة المميزة لمشايخه أن أكثرهم كانوا من أهل الحديث ، وأبرزهم :
1 - أبو جعفر عبيد الله بن أحمد بن السمين .
2 - ضياء الدين أبو أحمد عبد الوهاب بن أبي منصور علي بن علي البغدادي المعروف ابن سكينة ، ت 607 ه .
3 – عماد الدين أبو حامد محمد بن يونس بن محمد الموصلي الفقيه ت 608 ه.
4 – أبو القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم القزويني الرافعي ت 624 ه ، وغيرهم .
المبحث الرابع
تلامذته
رُزِق أبو عمرو القبول بين الناس ، فتسابق طلاب العلم على التتلمذ عليه ، والانتهال من معين ما أوتيه من العلوم ، ومن أبرز تلامذته :
1 - شمس الدين عبد الرحمن بن نوح بن محمد المقدسي . ت 654 ه .
2 – شمس الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خلّكان الإربليت(681)ه .
3 – الحَافِظ أمين الدين عَبْد الصمد بن عَبْد الوهاب بن الحسن بن عساكر الدمشقي ، ثُمَّ المكي . ت(686)ه .
4– تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري المشهور بالفركاح.ت(690)هوغيرهم
المبحث الخامس
تدريسه
كان أبو عمرو ملماً بجوانب متعددة من فنون العلوم المختلفة ، زيادةً إلى طيب خلقه وكرم أصله ، مع الزهد والتواضع وحب الخير ، فوقع عليه الاختيار ليتولى التدريس في العديد من المدارس آنذاك ، منها :
1 ـ المدرسة الناصرية بالقدس .
2 ـ المدرسة الرواحية بدمشق .
3 ـ دار الحديث الأشرفية ، وهو أول من وليها ودرّس فيها من أهل الحديث ، وبقي في مشيختها ثلاث عشرة سنة ، وفيها أملى كتابه " علوم
الحديث " .
4 ـ مدرسة ست الشام ( زمرد خاتون بنت أيوب ) ت 616 ه .
ولقد أدّى ما أسند إليه حقّ القيام ، وكان يتحمل أعباء المدارس ثلاثتها ( الرواحية ، وست الشام ، ودار الحديث الأشرفية ) من غير إخلال أو تقصير .
المبحث السادس
آثاره العلمية
لَمَّا كان ابن الصلاح متضلِّعاً من تلك العلوم ، استطاع بفضل الله أولاً، ثُمَّ بما تمتع به من ذكاء وحافظة وجودة فَهْم ، أنْ يصنف العديد من المؤلفات ، منها :
1 - أدب المفتي والمستفتي .
2 - شرح الورقات لإمام الحرمين في أصول الفقه .
3 - صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته عن الإسقاط والسقط .
4 - فتاوى ومسائل ابن الصلاح في التفسير والحديث والأصول والفقه .
5 – علوم الحديث ، أو مقدمة ابن الصلاح. وغيرها .
المبحث السابع
وفاته
بعد عمر مِلْؤُهُ العلم والخير والصلاح ، انتقل الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح إلى جوار ربه الكريم ، وذلك صباح يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة 643 ه بدمشق ، ودُفن في مقابر الصوفية خارج دمشق – تغمده الله برحمته –.
الفصل الثاني
دراسة عن مقدمة ابن الصلاح
المبحث الأول
آراء العلماء في الكتاب
لقد كتب الله سبحانه وتعالى لهذا الكتاب - أعني علوم الحديث لابن الصلاح - القبول لدى الناس ، ولابد لمصنَّف ألّفه مثل هذا الإمام أن يصبح مَدْرَسَ أهل العلم وطلبته وفلكهم الذي لا يجاوزوه ، ومنهلهم الذي لا يصدرون إلا عنه ولا يردون إلا منه ، فهو الحَكَم لمشكلاتهم ، والفصل لمعضلاتهم أبان لهم عن جوهر معانيه ، واستزادهم فائدة عما فيه ، فأقبل الناس عليه ، وأصبح أحد دعائم مسلماتهم ، وانتهى إليه المتعلِّمون ، وبه استنار المستبصرون . وليس أدلّ على ما قدّمناه ممّا سطّرته أياديهم ، إشادة بهذا المصنَّف والمصنِّف ، فقد قال الإمام النووي ( ت 676 ه ) : (( هو كتاب كثير الفوائد ، عظيم العوائد ، قد نبَّه المصنِّف – رحمه الله – في مواضع من الكتاب وغيره ، على عظم شأنه ، وزيادة حسنه وبيانه ، وكفى بالمشاهدة دليلاً قاطعاً ، وبرهاناً صادعاً )) .
وقال الخويي ( ت 693 ه ) في منظومته :
وخير ما صنف فيها واشتهر
كتاب شيخنا الإمام المعتبر
وهو الذي بابن الصلاح يعرف
فليس من مثله مصنف
وقال ابن رشيد ( ت 721 ه ) : (( الذي وقفت عليه وتحصل عندي من تصانيف هذا الإمام الأوحد أبي عمرو ابن الصلاح – رحمه الله – كتابه البارع في معرفة أنواع علم الحديث وإنّه كلّما كتبت عليه متمثلاً :
لكل أناس جوهر متنافس
وأنت طراز الآنسات الملائح ))
وقال ابن جماعة (ت733ه) : ((واقتفى آثارهم الشيخ الإمام الحافظ تقي الدين أبو عمرو بن الصلاح بكتابه الذي أوعى فيه الفوائد وجمع،وأتقن في حسن تأليفه ما صنع)).
وقال الزركشي ( ت 794 ه ) : (( وجاء بعدهم الإمام أبو عمرو بن الصلاح فجمع مفرّقهم ، وحقّق طرقهم ، وأجلب بكتابه بدائع العجب ، وأتى بالنكت والنخب ، حتى استوجب أن يكتب بذوب الذهب )) .
وقال الأبناسي ( ت 802 ه ) : (( وأحسن تصنيف فيه وأبدع، وأكثر فائدة
وأنفع : "علوم الحديث" للشيخ العلاّمة الحافظ تقي الدين أبي عمرو بن الصلاح فإنّه فتح مغلق كنوزه ، وحلّ مشكل رموزه )) .
وقال ابن الملقن ( ت 804 ه ) : (( ومن أجمعها : كتاب العلامة الحافظ تقي الدين أبي عمرو بن الصلاح – سقى الله ثراه ، وجعل الجنة مأواه – فإنه جامع لعيونها ومستوعب لفنونها )) .
وقال العراقي ( ت 806 ه ) : (( أحسن ما صنف أهل الحديث في معرفة الاصطلاح كتاب " علوم الحديث " لابن الصلاح ، جمع فيه غرر الفوائد فأوعى ، ودعا له زمر الشوارد فأجابت طوعاً )) .
وقال ابن حجر (ت 852 ه): (( فجمع شتات مقاصدها ، وضمَّ إليها من غيرها نخب فوائدها ، فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره ، فلهذا عكف الناس عليه وساروا بسيره،فلا يحصى كم ناظم له ومختصر،ومستدرك عليه ومقتصر،ومعارض له ومنتصر)).
وقال السيوطي ( ت 911 ه ) : (( عكف الناس عليه ، واتخذوه أصلاً يرجع إليه )) .
وبهذا نكاد أن ننقل إجماع الأئمة ، منذ أن رأى كتاب " علوم الحديث " النور إلى يوم الناس هذا ، دليلاً على مكانته ، وغزارة علمه وفوائده شاهداً على علوِّ كعبه ونصرة حزبه ، فرحم الله مؤلفه وجامعه ، وأسبل عليه نعمه وفضائله، إنّه سميع مجيب .
المبحث الثاني
توظيف العلماء جهودهم خدمة لكتاب ابن الصلاح :
لعلّ كتاباً في مصطلح الحديث لم يخدم كما خدم كتاب ابن الصلاح ؛ إذ كَانَ هُوَ المحرك الفعلي الَّذِي تولدت عَنْهُ عشرات، بل مئات المؤلفات التي أغنت المكتبة الإسلامية ، وساهمت بمجموعها في إكمال حلقات هذا العلم المبارك .
وقد اختلفت اتجاهات المؤلفين في طبيعة بحوثهم لتطوير وتعزيز القيمة العلمية لهذا الكتاب فمنهم الناظم ، ومنهم الشارح ، ومنهم المختصر ، ومنهم المنكت توضيحاً واستدراكاً فلهذا ارتأينا - خدمة لتقسيمات البحث العلمي المنظم - أن نوزعها على النحو الآتي ، وبالله التوفيق .
أ. المختصرات :
لعلّ هذا الطابع من التصنيف الذي كان كتاب ابن الصلاح المحفِّز لها هو الأكثر نظراً إلى أن من ألّف في هذا اللون يبغي تقليص حجم الكتاب الأصلي ؛ وذلك باختزال الألفاظ وتكثيف الفكر والمعاني ، وحذف الأمثلة التي لا حاجة لها والابتعاد عن المناقشات غير الضرورية ، وزيادة الفوائد والآراء ، مع مخالفة ترتيب الأصل أحياناً ، تسهيلاً لطلبة العلم وغيرهم .
ومن أبرز تلك المختصرات :
1- إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق ، للإمام النووي (ت 676 ه ) .
2- التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير ، للإمام النووي أيضاً وهو اختصار لكتابه السابق .
3- المنهج المبهج عند الاستماع لمن رغب في علوم الحديث على الاطلاع ، لقطب الدين القسطلاني ( ت 686 ه ) .
4- أصول علم الحديث ، لعلي بن أبي الحزم القرشي الطبيب المشهور بابن النفيس
( ت 689 ه ) .
5- الاقتراح ، للإمام ابن دقيق العيد (ت 702 ه ) .
6- الملخص ، لرضي الدين الطبري ( ت 722 ه ) .
7- رسوم التحديث ، للجعبري ( ت 732ه ) .
8- المنهل الروي ، لبدر الدين بن جماعة ( ت 733 ه ) .
9- مشكاة الأنوار ، للبارزي ( ت 738 ه) .
10- الخلاصة في علوم الحديث ، للطيـبي ( ت 743 ه ) .
11 – الكافي ، لتاج الدين التبريزي ( ت 746 ه ) .
12 - الموقظة ، للإمام الذهبي ( ت 748 ه ) .
13 – المختصر ، لعلاء الدين المارديني المشهور بابن التركماني ( ت 750 ه) .
14 – مختصر ، لشهاب الدين الأندرشي الأندلسي ( ت 750 ه) .
15 – مختصر ، للحافظ العلائي ( ت 761 ه) .
16 – الإقناع ، لعز الدين بن جماعة ( ت 767 ه) .
17 – اختصار علوم الحديث ، للحافظ ابن كثير (ت 774 ه) .
18 – التذكرة في علوم الحديث ، لسراج الدين ابن الملقن (ت 804 ه) .
19 – المقنع في علوم الحديث ، لسراج الدين ابن الملقن أيضاً .
20 - نخبة الفكر ، للحافظ ابن حجر العسقلاني ( ت 852 ه) .
21 – المختصر ، للكافيجي ( ت 879 ه) .
22 – مختصر بهاء الدين الأندلسي ( …؟ ) .
ب. المنظومات :
ظهر منذ عهد مبكر نسبياً ، تيّار في الشعر العربي ، انتقل إلى علماء الفنون المختلفة يسمى : الشعر التعليمي ، خصّص نطاق عمله في نظم الكتب المهمة في مجالات العلم تسهيلاً لطالبي العلوم في حفظها ، ومن ثَمَّ الغوص في معانيها . وعلى أي حال فقد كان نصيب كتاب " علوم الحديث " لابن الصلاح عدداً من المنظومات التي لا يستهان بها ، وسواء أكانت تلك المنظومات ذات جدة وحداثة أم لا ؟ فإنّها مثّلت جانباً من جوانب اهتمام العلماء واعتنائهم بهذا السفر العظيم . والذي يهمنا هنا أن نسلِّط الضوء عليها كوَصَلاَتٍ في تاريخ هذا العلم المبارك ، وليس من شرطنا أن تكون هذه المنظومة قد احتوت كل المادة العلمية لكتاب ابن الصلاح ، بل يكفي أن يكون هذا الكتاب هو المرجع الأول بالنسبة لها ، وعلى هذا نجد أن بعض هذه المنظومات مطوّلة ، وبعضها مختصرة ، وبعضها متوسطة ، ولعلّ من أبرز من نظمه :
1. شمس الدين الخُوَيي ( ت 693 ه ) ، وسمّى منظومته باسم " أقصى الأمل والسول في علوم حديث الرسول " ، توجد منه عدة نسخ خطية .
2. أبو عثمان سعد بن أحمد بن ليون التجيـبي ( ت 750 ه ) .
3. زين الدين العراقي ( ت 806 ه ) المسمّى : التبصرة والتذكرة .
4. محمد بن عبد الرحمن بن عبد الخالق المصري البرشنسي (ت 808 ه) وسمّى منظومته : " المورد الأصفى في علم حديث المصطفى " .
5. شمس الدين محمد بن محمد بن محمد الدمشقي المعروف بابن الجزري ( ت 833 ه) وسمّى منظومته " الهداية في علم الرواية " .
6. جلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر السيوطي ( ت 911 ه) ومنظومته مشهورة باسم " الألفية " .
7. رضي الدين محمد بن محمد الغزي ( ت 935 ه ) ، وسمّى نظمه " سلك الدرر في مصطلح أهل الأثر " .
8. منصور سبط الناصر الطبلاوي ( ت 1014 ه ) .
ج . الشروح :
قد كان للجانب الشمولي في كتاب ابن الصلاح أثره الواضح في أن أحداً لم يتصدَّ لشرح الكتاب نفسه ، وإنما انعكس هذا الجانب على شرح مختصراته ومنظوماته ، لذا سنتناول أبرزها على اعتبار أن أصلها الأصيل هو كتاب ابن الصلاح ، ومن ذلك :
شروح ألفية العراقي .
نزهة النظر ، للحافظ ابن حجر ( ت 852 ه) وما يتعلق بها .
تدريب الراوي للسيوطي ( ت 911 ه ) .
البحر الذي زخر ، للسيوطي ( ت 911 ه) شرح فيه ألفيته .
د. التنكيت :
النُّكَت : جمع نُكْتَةٍ ، وهي مشتقة من الفعل الثلاثي الصحيح ( نَكَت ) ، وهو ذو اشتقاقات مختلفة ، أجملها ابن فارس فقال : (( النون والكاف والتاء أصل واحد يدلّ على تأثير يسير في الشيء كالنكتة ونحوها،ونكت في الأرض بقضيبه ينكت : إذا أثر فيها ))
أما في الاصطلاح فالنكتة : مسألة لطيفة أخرجت بدقة نظر وإمعان فكر ، من نكت رمحه بأرض إذا أثر فيها،وسميت المسألة الدقيقة نكتةً؛لتأثير الخواطر في استنباطها .
وقد كان نصيب ابن الصلاح من كتب النكت شيئاً دلّ على مدى تعمّق الدارسين في فهم معانيه ومدلولاته ، حسب اللون العلمي الذي يغلب على ذلك المنكت ، فنرى الأصولي يُغَلِّب المباحث الأصولية في طريق تقرير مسائل الكتاب المهمة ، وهذا ما نلمسه جلياً في نكت الزركشي ، والْمُحَدِّث يجعل همّه المباحثات الحديثية ، وهو منهج واضح نراه في نكت العراقي وشيخه مغلطاي ، وهكذا بالنسبة إلى الفقيه كما وقع للبلقيني وابن جماعة وغيرهم .
وعلّ الفطن من القرّاء عرف من العرض السابق أسماء بعض من كتب نكتاً على كتاب ابن الصلاح ، ولكننا نودّ أن نجعل الأمر استقصائياً استقرائياً ، فجمعنا مَن وقع في علمنا أنه ساهم في هذا الجانب ، سواء عن طريق الكتابة والبحث المباشر على كتاب ابن الصلاح أو العمل غير المباشر عن طريق التعليق على فروع كتاب ابن الصلاح ، وأهم هذه الكتب :
1. إصلاح كتاب ابن الصلاح ، لشمس الدين محمد بن أحمد بن عبد المؤمن الأسعردي الدمشقي ثُمَّ المصري المشهور بابن اللبان ( ت 749 ه ) .
2. إصلاح كتاب ابن الصلاح ، للإمام العلاّمة علاء الدين أبي عبد الله مغلطاي بن قليج ابن عبد الله البكجري الحنفي ( ت 762 ه) .
3. النكت على مقدمة ابن الصلاح ، للإمام بدر الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي ( ت 794 ه ) .
4. الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح ، للشيخ برهان الدين إبراهيم بن موسى بن أيوب الأبناسي ( ت 802 ه ) .
5. محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصَّلاَح ، لسراج الدين أبي حفص عمر بن رسلان البلقيني ( ت 805 ه ) .
6. التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح ، للحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي ( ت 806 ه ) .
7. شرح علوم الحديث ، لعز الدين محمد ابن أبي بكر بن عبد العزيز بن جماعة الحموي ( 819 ه ) .
8. النكت على كتاب ابن الصلاح ، للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني ( 852 ه ) .
الباب الثاني
الحافظ العراقي
وكتابه " شرح التبصرة والتذكرة "
الفصل الأول
دراسة تحليلية لسيرة الحافظ العراقي
لا بد لنا وقد خضنا غمرة تحقيق كتاب شرح التبصرة والتذكرة أن نعرج على تعريف موجز بمؤلف الكتاب ، ليس بالطويل المملّ ولا بالقصير المخلّ ، لا سيّما أن هذا العمل يُعدّ مفتاحاً للولوج إلى معرفة أكثر بالمؤلف ، تعين القارئ على تكوين صورة مجملة عنه ، توضح مكانته العلمية والمدة الزمنية التي عاشها .
ويشتمل هذا الفصل على ثمانية مباحث نوردها تباعاً :
المبحث الأول
اسمه ، ونسبه ، وكنيته ، وولادته :
هو عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم الكردي الرازياني العراقي الأصل المهراني المصري المولد الشافعي المذهب . كنيته : أبو الفضل ، ويلقّب بـ(زين الدين).وُلِدَ في اليوم الحادي والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة ( 725 ه ) .
المبحث الثاني
أسرته :
أقام أسلاف الحافظ العراقي في قرية رازيان – من أعمال إربل – إلى أن انتقل والده وهو صغير مع بعض أقربائه إلى مصر ، إذ استقر فيها وتزوج من امرأة
مصرية ولدت له الحافظ العراقي . وكانت أسرته ممن عُرفوا بالزهد والصلاح والتقوى، وقد كان لأسلافه مناقب ومفاخر ، وكانت والدته ممن اشتهرن بالاجتهاد في العبادات والقربات مع الصبر والقناعة .
أمّا والدُه فقد اختصَّ – منذ قدومه مصر – بخدمة الصالحين ، ولعلَّ من أبرز الذين اختصَّ والده بخدمتهم الشيخ القناوي . ومن ثَمَّ ولد للمتَرجَمِ ابنٌ أسماه : أحمد وكنَّاه : أبا زرعة ، ولقَّبه : بولي الدين ، وكذلك بنت تدعى : خديجة ، صاهره عليها : الحافظ نور الدين الهيثمي ورزق منها بأولاد ، وأشارت بعض المصادر أنَّ له ابنتين أخريين : جويرية وزينب .
المبحث الثالث
نشأته :
وُلِد الحافظ العراقي – كما سبق – في مصر ، وحمله والده صغيراً إلى الشيخ القناوي ؛ ليباركه ، إذ كان الشيخ هو البشير بولادة الحافظ ، وهو الذي سمَّاه أيضاً ؛ ولكنَّ الوالد لَمْ يقم طويلاً مَعَ ولده ، إذ إنَّ يدَ المنونِ تخطَّفته والطفل لَمْ يزل بَعْد طريَّ العود ، غضَّ البنية لَمْ يُكمل الثالثة من عمره ، وَلَمْ نقف عَلَى ذكر لِمَن كفله بَعْدَ رحيل والده ، والذي يغلب عَلَى ظننا أنّ الشَّيْخ القناوي هُوَ الَّذِي كفله وأسمعه ؛ وذلك لأن أقدم سماع وجد له كان سنة ( 737 ه ) بمعرفة القناوي وكان يُتَوقّعُ أن يكون له حضور أو سماع من الشيخ ، إذ كان كثير التردد إليه سواء في حياة والده أو بعده ، وأصحاب الحديث عند الشيخ يسمعون منه ؛ لعلوِّ إسناده .
وحفظ الزينُ القرآنَ الكريمَ والتنبيه وأكثر الحاوي مَعَ بلوغه الثامنة من عمره ، واشتغل في بدء طلبه بدرس وتحصيل علم القراءات ، وَلَمْ يثنِ عزمه عَنْهَا إلا نصيحة شيخه العزّ بن جَمَاعَة ، إذ قَالَ لَهُ : (( إنَّهُ علم كَثِيْر التعب قليل الجدوى ، وأنت متوقد الذهن فاصرف همَّتك إِلَى الْحَدِيْث )) . وكان قد سبق له أن حضر دروس الفقه على ابن عدلان ولازم العماد محمد بن إسحاق البلبيسي ، وأخذ عن الشمس بن اللبان ، وجمال الدين الإسنوي الأصولَ وكان الأخير كثير الثناء على فهمه ، ويقول : (( إنَّ ذهنه صحيح لا يقبل الخطأ )) ، وكان الشيخ القناوي في سنة سبع وثلاثين – وهي السنة التي مات فيها – قد أسمعه على الأمير سنجر الجاولي ، والقاضي تقي الدين بن الأخنائي المالكي ، وغيرهما ممّن لم يكونوا من أصحاب العلوِّ .
ثمَّ ابتدأ الطلب بنفسه ، وكان قد سمع على عبد الرحيم بن شاهد الجيش وابن عبد الهادي وقرأ بنفسه على الشيخ شهاب الدين بن البابا ، وصرف همَّته إلى التخريج وكان كثير اللهج بتخريج أحاديث " الإحياء " وله من العمر -آنذاك- عشرون سنة وقد فاته إدراك العوالي مما يمكن لأترابه ومَن هو في مثل سنّه إدراكه ، ففاته يحيى بن المصري – آخر مَن روى حديث السِّلَفي عالياً بالإجازة – والكثير من أصحاب ابن عبد الدائم والنجيب بن العلاّق ، وكان أوّل مَن طلب عليه الحافظ علاء الدين بن التركماني في القاهرة وبه تخرّج وانتفع ، وأدرك بالقاهرة أبا الفتح الميدومي فأكثر عنه وهو من أعلى مشايخه إسناداً ، ولم يلقَ من أصحاب النجيب غيره ، ومن ناصر الدين محمد بن إسماعيل الأيوبي، ومن ثَمَّ شدَّ رحاله – على عادة أهل الحديث – إلى الشام قاصداً دمشق فدخلها سنة ( 754 ه ) ، ثُمَّ عادَ إليها بعد ذلك سنة ( 758 ه ) ، وثالثة في سنة ( 759 ه ) ، ولم تقتصر رحلته الأخيرة على دمشق بل رحل إلى غالب مدن بلاد الشام ، ومنذ أول رحلة له سنة ( 754 ه ) لم تخلُ سنة بعدها من الرحلة إمّا في الحديث وإمّا في الحجّ ، فسمع بمصر ابن عبد الهادي ، ومحمد بن علي القطرواني ، وبمكة أحمد بن قاسم الحرازي ، والفقيه خليل إمام المالكية بها ، وبالمدينة العفيف المطري ، وببيت المقدس العلائي ، وبالخليل خليل بن عيسى القيمري ، وبدمشق ابن الخباز ، وبصالحيتها ابن قيم الضيائية ، والشهاب المرداوي ، وبحلب سليمان بن إبراهيم بن المطوع ، والجمال إبراهيم بن الشهاب محمود في آخرين بهذه البلاد وغيرها كالإسكندرية ، وبعلبك ، وحماة ، وحمص ، وصفد ، وطرابلس ، وغزّة ، ونابلس … تمام ستة وثلاثين مدينة . وهكذا أصبح الحديث ديدنه وأقبل عليه بكليته ، وتضلّع فيه رواية ودراية وصار المعول عليه في إيضاح مشكلاته وحلّ معضلاته ، واستقامت له الرئاسة فيه ، والتفرد بفنونه ، حتّى إنّ كثيراً من أشياخه كانوا يرجعون إليه ، وينقلون عنه – كما سيأتي – حتَّى قال ابن حجر : (( صار المنظور إليه في هذا الفن من زمن الشيخ جمال الدين الأسنائي … وهلمَّ جرّاً ، ولم نرَ في هذا الفنّ أتقن منه ، وعليه تخرج غالب أهل عصره )) .
المبحث الرابع
مكانته العلمية وأقوال العلماء فيه :
مما تقدّم تبيّنت المكانة العلمية التي تبوّأها الحافظ العراقي ، والتي كانت من توفيق الله تعالى له ، إذ أعانه بسعة الاطلاع ، وجودة القريحة وصفاء الذهن وقوة الحفظ وسرعة الاستحضار ، فلم يكن أمام مَن عاصره إلاّ أن يخضع له سواء من شيوخه أو تلامذته . ولعلّ ما يزيد هذا الأمر وضوحاً عرض جملة من أقوال العلماء فيه ، من ذلك :
1. قال شيخه العزُّ بن جماعة : (( كلّ مَن يدّعي الحديث في الديار المصرية سواه فهو مدَّعٍ )) .
2. قال التقي بن رافع السلامي : (( ما في القاهرة مُحَدِّثٌ إلاّ هذا ، والقاضي عزّ الدين ابن جماعة )) ، فلمَّا بلغته وفاة العزّ قال : (( ما بقي الآن بالقاهرة مُحَدِّثٌ إلاّ الشيخ زين الدين العراقي )) .
3. قال ابن الجزري : (( حافظ الديار المصرية ومُحَدِّثُها وشيخها )) .
4. قال ابن ناصر الدين : (( الشيخ الإمام العلاّمة الأوحد ، شيخ العصر حافظ الوقت … شيخ الْمُحَدِّثِيْن عَلَم الناقدين عُمْدَة المخرِّجِين )) .
5. قال ابن قاضي شهبة : (( الحافظ الكبير المفيد المتقن المحرّر الناقد ، محَدِّث الديار
المصرية ، ذو التصانيف المفيدة )) .
6. قال التقي الفاسي : (( الحافظ المعتمد ، … ، وكان حافظاً متقناً عارفاً بفنون الحديث وبالفقه والعربية وغير ذلك ، … ، وكان كثير الفضائل والمحاسن )) .
7. وقال ابن حجر : حافظ العصر ، وقال : (( الحافظ الكبير شيخنا الشهير )) .
8. وقال ابن تغري بردي : (( الحافظ ، … شيخ الحديث بالديار المصرية ، … وانتهت إليه رئاسة علم الحديث في زمانه )) .
9. وقال ابن فهد : (( الإمام الأوحد ، العلاّمة الحجة الحبر الناقد ، عمدة الأنام حافظ الإسلام ، فريد دهره ، ووحيد عصره ، من فاق بالحفظ والإتقان في زمانه ، وشهد له في التفرّد في فنه أئمة عصره وأوانه )) . وأطال النفس في الثناء عليه .
10. وقال السيوطي: (( الحافظ الإمام الكبير الشهير ،… حافظ العصر )) .
ويبدو أنّ الأمر الأكثر إيضاحاً لمكانة الحافظ العراقي ، نقولات شيوخه عنه وعودتهم إليه ، والصدور عن رأيه ، وكانوا يكثرون من الثناء عليه ، ويصفونه بالمعرفة ، من أمثال السبكي والعلائي وابن جماعة وابن كثير والإسنوي .
ونقل الإسنوي عنه في " المهمات " وغيرها ، وترجم له في طبقاته ولم يترجم لأحد من الأحياء سواه ، وصرّح ابن كثير بالإفادة منه في تخريج بعض الشيء .
ومن بين الأمور التي توضّح مكانة الحافظ العراقي العلمية تلك المناصب التي تولاها ، والتي لا يمكن أن تسند إليه لولا اتفاق عصرييه على أولويته لها ، ومن بين ذلك :
تدريسه في العديد من مدارس مصر والقاهرة مثل : دار الحديث
الكاملية ، والظاهرية القديمة ، والقراسنقرية ، وجامع ابن
طولون والفاضلية ، وجاور مدةً بالحرمين .
كما أنّه تولّى قضاء المدينة المنورة ، والخطابة والإمامة فيها ، منذ الثاني عشر من جُمَادَى الأولى سنة ( 788 ه ) ، حتى الثالث عشر من شوال سنة ( 791 ه ) ، فكانت المدة ثلاث سنين وخمسة أشهر .
وفي سبيل جعل شخصية الحافظ العراقي بينة للعيان من جميع جوانبها ، ننقل ما زَبَّره قلم تلميذه وخِصِّيصه الحافظ ابن حجر في وصفه شيخه ، إذ قال في مجمعه :
(( كان الشيخ منور الشيبة ، جميل الصورة ، كثير الوقار ، نزر الكلام ، طارحاً للتكلف ، ضيق العيش ، شديد التوقي في الطهارة ، لطيف المزاج ، سليم الصدر ، كثير الحياء ، قلَّما يواجه أحداً بما يكرهه ولو آذاه ، متواضعاً منجمعاً ، حسن النادرة والفكاهة ، وقد لازمته مدّة فلم أره ترك قيام الليل ، بل صار له كالمألوف ، وإذا صلَّى الصبح استمر غالباً في مجلسه ، مستقبل القبلة ، تالياً ذاكراً إلى أن تطلع الشمس ، ويتطوع بصيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر وستة شوال ، كثير التلاوة إذا ركب … )) ، ثُمَّ ختم كلامه قائلاً : (( وليس العيان في ذلك كالخبر )) .
المبحث الخامس
شيوخه :
عرفنا فيما مضى أنَّ الحافظ العراقي منذ أن أكبَّ على علم الحديث ؛ كان حريصاً على التلقي عن مشايخه ، وقد وفّرت له رحلاته المتواصلة سواء إلى الحج أو إلى بلاد الشام فرصة التنويع في فنون مشايخه والإكثار منهم .
والباحث في ترجمته وترجمة شيوخه يجد نفسه أمام حقيقة لا مناص عنها ، وهي أنَّ سمة الحديث كانت الطابع المميز لأولئك المشايخ ، مما أدَّى بالنتيجة إلى تنّوع معارف الحافظ العراقي وتضلّعه في فنون علوم الحديث ، فمنهم من كان ضليعاً بأسماء الرجال ، ومنهم من كان التخريج صناعته ، ومنهم من كان عارفاً بوفيات الرواة ، ومنهم من كانت في لغة الحديث براعته … وهكذا . وهذا شيء نلمسه جلياً في شرحه هذا بجميع مباحثه ، وذلك من خلال استدراكاته وتعقباته وإيضاحاته والفوائد التي كان يطالعنا بها على مرِّ صفحات شرحه الحافل .
ومسألة استقصاء جميع مشايخه – هي من نافلة القول – فضلاً عن كونها شبه متعذرة سلفاً ، لاسيّما أنه لم يؤلف معجماً بأسماء مشايخه على غير عادة المحدّثين ، خلافاً لقول البرهان الحلبي من أنه خرّج لنفسه معجماً .
لذا نقتصر على أبرزهم ، مع التزامنا بعدم إطالة تراجمهم :
1 – الإمام الحافظ قاضي القضاة علي بن عثمان بن إبراهيم المارديني ، المشهور بـ (( ابن التركماني )) الحنفي ، مولده سنة ( 683 ه ) ، وتوفي سنة ( 750 ه ) ، له من التآليف : " الجوهر النقي في الرد على البيهقي ، وغيره .
2 – الشيخ المُسْنِد المعمر صدر الدين أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم الميدومي المصري ، ولد سنة ( 664 ه ) ، وهو آخر من روى عن النجيب الحراني ، وابن العلاق ، وابن عزون ، وتوفي سنة ( 754 ه ) .
3 – الإمام الحافظ العلاّمة علاء الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي الدمشقي ثم المقدسي ، ولد سنة ( 694 ه ) ، وتوفي سنة ( 761 ه ) ، له من التصانيف : " جامع التحصيل "، و " الوشي المعلم "، و " نظم الفرائد " وغيرها .
4 – الإمام الحافظ العلاّمة علاء الدين أبو عبد الله مغلطاي بن قُليج بن عبد الله البكجري الحكري الحنفي ، مولده سنة ( 689 ه ) ، وقيل غيرها ، برع في فنون الحديث ، وتوفي سنة ( 762 ه ) ، من تصانيفه : ترتيب كتاب بيان الوهم والإيهام وسمّاه : " منارة الإسلام " ، ورتّب المبهمات على أبواب الفقه ، وله شرح على صحيح البخاري ، وتعقّبات على المزي ، وغيرها .
5 – الإمام العلاّمة جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي ، شيخ الشافعية ، ولد سنة ( 704 ه ) ، وتوفي سنة ( 777 ه ) ، له من التصانيف : طبقات الشافعية ، والمهمات ، والتنقيح وغيرها .
المبحث السادس
تلامذته :
تبين مما تقدّم أنّ الحافظ العراقي بعد أن تبوأ مكان الصدارة في الحديث وعلومه وأصبح المعوّل عليه في فنونه بدأت أفواج طلاب الحديث تتقاطر نحوه ، ووفود الناهلين من معينه تتجه صوبه ، لاسيّما وقد أقرَّ له الجميع بالتفرد بالمعرفة في هذا الباب ، لذا كانت فرصة التتلمذ له شيئاً يعدّه الناس من المفاخر ، والطلبة من الحسنات التي لا تجود بها الأيام دوماً .
والأمر الآخر الذي يستدعي كثرة طلبة الحافظ العراقي كثرة مفرطة ، أنه أحيا سنة إملاء الحديث – على عادة المحدّثين – بعد أن كان درس عهدها منذ عهد ابن الصلاح فأملى مجالس أربت على الأربعمائة مجلس ، أتى فيها بفوائد ومستجدات (( وكان يمليها من حفظه متقنة مهذّبة محرّرة كثيرة الفوائد الحديثية )) على حد تعبير ابن حجر .
لذا فليس من المستغرب أن يبلغوا كثرة كاثرة يكاد يستعصي على الباحث
سردها ، إن لم نقل أنها استعصت فعلاً ، فضلاً عن ذكر تراجمهم ، ولكن القاعدة تقول : (( ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه )) وانسجاماً معها نعرّف تعريفاً موجزاً بخمسة من تلامذته كانوا بحقّ مفخرة أيامهم وهم :
1 – الإمام برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن أيوب الأبناسي ، مولده سنة ( 725 ه ) ، وهو من أقران العراقي ، برع في الفقه ، وله مشاركة في باقي الفنون، توفي سنة ( 802 ه )، من تصانيفه : الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح،وغيره.
2 – الإمام الحافظ نور الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي القاهري ، ولد سنة ( 735 ه ) ، وهو في عداد أقرانه أيضاً ، ولكنه اختص به وسمع معه ، وتخرّج به ، وهو الذي كان يعلّمه كيفية التخريج ، ويقترح عليه مواضيعها ، ولازم الهيثمي خدمته ومصاحبته ، وصاهره فتزوج ابنة الحافظ العراقي ، توفي سنة ( 807 ه ) ، من تصانيفه : مجمع الزوائد ، وبغية الباحث ، والمقصد العلي ، وكشف الأستار ، ومجمع البحرين ، وموارد الظمآن ، وغيرها .
3 – ولده : الإمام العلاّمة الحافظ ولي الدين أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين العراقي الأصل المصري الشافعي المذهب ، ولد سنة ( 762 ه ) ، وبكّر به والده بالسماع فأدرك العوالي ، وانتفع بأبيه غاية الانتفاع ، ودرّس في حياته ، توفي سنة ( 826 ه ) ، من تصانيفه : " الإطراف بأوهام الأطراف " و " تكملة طرح التثريب " و " تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل " ، وغيرها .
4 – الإمام الحافظ برهان الدين أبو الوفاء إبراهيم بن محمد بن خليل الحلبي المشهور بسبط ابن العجمي ، مولده سنة ( 753 ه ) ، رحل وطلب وحصّل ، وله كلام لطيف على الرجال ، توفي سنة ( 841 ه ) ، من تصانيفه : " حاشية على الكاشف " للذهبي و " نثل الهميان " و " التبيين في أسماء المدلّسين " و " الاغتباط فيمن رمي بالاختلاط " وغيرها .
5 – الإمام العلاّمة الحافظ الأوحد شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني المعروف بابن حجر ، ولد سنة ( 773 ه ) ، طلب ورحل ، وألقي إليه الحديث والعلم بمقاليده ، والتفرد بفنونه ، توفي سنة ( 852 ه ) ، من تصانيفه: "فتح الباري" و "تهذيب التهذيب" وتقريبه و" نزهة الألباب "، وغيرها.
المبحث السابع
آثاره العلمية :
لقد عرف الحافظ العراقي أهمية الوقت في حياة المسلم ، لذا فقد عمل جاهداً على توظيف الوقت بما يخدم السنة العزيزة ، بحثاً منه أو مباحثة مع غيره فكانت (( غالب أوقاته في تصنيف أو إسماع )) كما يقول السخاوي ، لذا كثرت تصانيفه وتنوعت ، مما حدا بنا – من أجل جعل البحث أكثر تخصصاً – إلى تقسيمها على قسمين : قسم خاصّ بمؤلفاته التي تتعلق بالحديث وعلومه ، وقسم يتضمن مؤلفاته في العلوم الأخرى ، وسنبحث كلاً منهما في مطلب مستقل .
المطلب الأول
مؤلفاته فيما عدا الحديث وعلومه :
تنوعت طبيعة هذه المؤلفات ما بين الفقه وأصوله وعلوم القرآن ، غير أنَّ أغلبها كان ذا طابع فقهي ، يمتاز الحافظ فيه بالتحقيق ، وبروز شخصيته مدافعاً مرجّحاً موازناً بين الآراء .
على أنَّ الأمر الذي نأسف عليه هو أنَّ أكثر مصنفاته فُقدت ، ولسنا نعلم سبب ذلك ، وقد حفظ لنا مَنْ ترجم له بعض أسماء كتبه ، تعين الباحث على امتلاك رؤية أكثر وضوحاً لشخص هذا الحافظ الجليل ، وإلماماً بجوانب ثقافته المتنوعة المواضيع .
ومن بين تلك الكتب :
1 – أجوبة ابن العربي .
2 – إحياء القلب الميت بدخول البيت .
3 – الاستعاذة بالواحد من إقامة جمعتين في مكان واحد .
4 – أسماء الله الحسنى .
5 – ألفية في غريب القرآن .
6 – تتمات المهمات .
7 – تاريخ تحريم الربا .
8 – التحرير في أصول الفقه .
9 – ترجمة الإسنوي .
10 – تفضيل زمزم على كلّ ماء قليل زمزم .
11 – الرد على من انتقد أبياتاً للصرصري في المدح النبوي .
12 – العدد المعتبر في الأوجه التي بين السور .
13 – فضل غار حراء .
14 – القرب في محبة العرب .
15 – قرة العين بوفاء الدين .
16 – الكلام على مسألة السجود لترك الصلاة (13) .
17 – مسألة الشرب قائماً .
18 – مسألة قصّ الشارب .
19 – منظومة في الضوء المستحب .
20 – المورد الهني في المولد السني .
21 – النجم الوهاج في نظم المنهاج .
22 – نظم السيرة النبوية .
23 – النكت على منهاج البيضاوي .
24 – هل يوزن في الميزان أعمال الأولياء والأنبياء أم لا ؟ .
المطلب الثاني
مؤلفاته في الحديث وعلومه :
هذه الناحية من التصنيف كانت المجال الرحب أمام الحافظ العراقي ليظهر إمكاناته وبراعته في علوم الحديث ظهوراً بارزاً ، يَتَجلَّى لنا ذلك من تنوع هذه التصانيف ، التي بلغت ( 42 ) مصنفاً تتراوح حجماً ما بين مجلدات إلى أوراق معدودة ، وهذه التصانيف هي :
1 – الأحاديث المخرّجة في الصحيحين التي تُكُلِّمَ فيها بضعف أو انقطاع .
2 – الأربعون البلدانية .
3 – أطراف صحيح ابن حبان .
4 – الأمالي .
5 – الباعث على الخلاص من حوادث القصاص .
6 – بيان ما ليس بموضوع من الأحاديث .
7 – تبصرة المبتدي وتذكرة المنتهي .
8 – ترتيب من له ذكر أو تجريح أو تعديل في بيان الوهم والإيهام .
9 – تخريج أحاديث منهاج البيضاوي .
10- تساعيات الميدومي .
11- تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد .
12- التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح .
13- تكملة شرح الترمذي لابن سيد الناس .
14- جامع التحصيل في معرفة رواة المراسيل .
15- ذيل على ذيل العبر للذهبي .
16- ذيل على كتاب أُسد الغابة .
17- ذيل مشيخة البياني .
18- ذيل مشيخة القلانسي .
19 – ذيل ميزان الاعتدال للذهبي .
20- ذيل على وفيات ابن أيبك .
21- رجال سنن الدارقطني .
22- رجال صحيح ابن حبان .
23- شرح التبصرة والتذكرة .
24- شرح تقريب النووي .
25- طرح التثريب في شرح التقريب .
26- عوالي ابن الشيخة .
27- عشاريات العراقي (13) .
28- فهرست مرويات البياني (14) .
29- الكلام على الأحاديث التي تُكُلِّمَ فيها بالوضع ، وهي في مسند الإمام أحمد .
30 – الكلام على حديث : التوسعة على العيال يوم عاشوراء .
31- الكلام على حديث : صوم ستٍّ من شوال .
32- الكلام على حديث : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه .
33- الكلام على حديث : الموت كفّارة لكل مسلم .
34- الكلام على الحديث الوارد في أقل الحيض وأكثره .
35- المستخرج على مستدرك الحاكم .
36- معجم مشتمل على تراجم جماعة من القرن الثامن .
37- المغني عن حمل الأسفار في الأسفار بتخريج ما في الإحياء من الأحاديث والآثار.
38- مشيخة عبد الرحمن بن علي المصري المشهور بابن القارئ .
39- مشيخة محمد بن محمد المربعي التونسي وذيلها .
40- من روى عن عمرو بن شعيب من التابعين .
41- من لم يروِ عنهم إلا واحد (13) .
42- نظم الاقتراح (14) .
المبحث الثامن
وفاته :
تتفق المصادر التي بين أيدينا على أنَّه في يوم الأربعاء الثامن من شعبان سنة (806ه) فاظت روح الحافظ العراقي عقيب خروجه من الحمام عن عمر ناهز الإحدى وثمانين سنة ، وكانت جنازته مشهودة ، صلّى عليه الشيخ شهاب الدين الذهبي ودفن خارج القاهرة رحمه الله .
ولما تمتع به الحافظ العراقي في نفوس الناس ، فقد توجع لفقده الجميع ، ومن صور ذلك التوجع أن العديد من محبيه قد رثاه بغرر القصائد ، ومنها قول ابن الجزري :
رحمة الله للعراقي تترى
حافظ الأرض حبرها باتفاق
إنني مقسم أليَّة صدق
لم يكن في البلاد مثل العراقي
ومنها قصيدة ابن حجر ومطلعها :
مصاب لم ينفس للخناق
أصار الدمع جاراً للمآقي
ومن غرر شعر ابن حجر في رثاء شيخه العراقي قوله في رائيته التي رثا بها شيخه البلقيني :
نعم ويا طول حزني ما حييت على
عبد الرحيم فخري غير مقتصر
لَهْفِيْ على حافظ العصر الذي اشتهرت
أعلامه كاشتهار الشمس في الظهر
علم الحديث انقضى لَمَّا قضى ومضى
والدهر يفجع بعد العين بالأثر
لَهْفِيْ على فَقْدِ شيخَيَّ اللذان هما
أعزّ عنديَ من سمعي ومن بصري
لَهْفِيْ على من حديثي عن كمالهما
يحيي الرميم ويلهي الحي عن سمر
اثنانِ لم يرتقِ النسران ما ارتقيا
نسر السما إن يلح والأرض إن يطر
ذا شبه فرخ عقاب حجة صدقت
وذا جهينة إن يسأل عن الخبر
لا ينقضي عجبي من وفق عمرهما
العام كالعام حتى الشهر كالشهر
عاشا ثمانين عاما بعدها سنة
وربع عام سوى نقص لمعتبر
الدين تتبعه الدنيا مضت بهما
رزية لم تهن يوما على بشر
بالشمس وهو سراج الدين يتبعه
بدر الدياجي زين الدين في الأثر
الفصل الثاني
دراسة كتاب شرح التبصرة والتذكرة
المبحث الأول
منهجه في شرحه
لم يلتزم المؤلفون القدامى - لاسيّما الشرّاح منهم - بنهج واحد يسيرون عليه في أثناء شروحهم ، بل كانت ثمّة خطوط عريضة يضعها الشارح نصب عينيه ، من غير التفات إلى الجزئيات ، ومما يزيد الطين بلّة - كما يقولون - أن السواد الأعظم منهم لم يفصحوا عن مناهجهم ، وتركوا الباب مشرعاً على مصراعيه للباحثين في الإدلاء بدلائهم لاستنباط منهج الشارح .
وقد كان من بين هؤلاء : الحافظ العراقي ، فلم يوضّح لنا منهج شرحه ، ولا أسلوب كتابته إلا أننا وبعد هذا الوقت الطويل الذي قضيناه برفقته استطعنا أن نتلمس بعض الأسس التي اعتمدها الحافظ العراقي في شرحه ، والتي يمكن إيجازها بما يأتي :
1- تعددت شروح الألفية - كما سيأتي الكلام عنها - ولكن جميعها التزمت منهج البسط وهو الكلام عن البيت الشعري مقطّعاً ؛ وذلك من خلال إيضاح معاني مفرداته ومن ثم معناه العام . في حين انفرد العراقي في شرحه بأن كانت طريقته تمتاز بجمع الأبيات ذات الموضوع والمغزى المتحد في مكان واحد ، ومن ثَمَّ توضيح المراد بها من حيث المعنى والدلالة اللغوية والإعرابية . وهذا نهج مستفيض في أثناء شرحه – يلحظه كلّ متأنٍ - فليس بحاجة إلى تمثيل .
2- بروز المنحى القائم على إيراد الأمثلة ، إذ لا يكاد يورد شرحاً إلا مع التمثيل كتمثيله للتعليق المجزوم به ، وتمثيله لتسمية غير المجزوم به معلقاً ، وغيرها .
3- التنبيه على المواقع الإعرابية التي تحتلها بعض مفردات النظم ، وتغيُّر موقعها الإعرابي بتغيُّر حركتها ، نحو : إعرابه لكلمة : (( معتصماً )) ، وكلمة : (( موقوف )) ،
وكلمة : (( ظناً )) ، وغيرها .
4- جمعه أقوال العلماء وإيرادات بعضهم على بعض ، وأجوبة تلك الاعتراضات ، وتوظيفها بما يخدم منهجه في الشرح ؛ بغية التوصل إلى نتيجة أقرب ما تكون إلى السلامة من الانتقاد ، مدعمة بالأدلة ، مقنعة للمحاجج .
ونجد ذلك واضحاً في مباحث تعريف الحسن . وفي مبحث تحقيق ما يستفاد من سكوت أبي داود وفي مباحث معنى قول الترمذي وغيره : حسن صحيح ، وفي مباحثات تعليل حديث البسملة ، وغيرها .
5- لم يكن نظم الحافظ العراقي وشرحه مجرد تضمين لكتاب ابن الصلاح ، خالياً عن الفوائد ، بل كان خلاصة جهود ابن الصلاح مضافاً إليها ما أفاده العراقي خلال رحلته العلمية الممتدّة على طول سني حياته . لذا فلم يخلُ هذا المصنَّف من استدراكات وتعقبات على صاحب الأصل ( ابن الصلاح ) هذا خلا زوائده التي سنبحثها مستقلة فيما بعد ، ومن ذلك : استدراكه على ابن الصلاح فيما يتعلق بزيادات الحميدي على الصحيحين ، واستدراكه على تمثيل ابن الصلاح بعفان والقعنبي على ما حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر . واستدراكه عليه في ذكر الخلاف في مرسل الصحابي . وغيرها .
6- تعقباته على أقوال وتصرفات بعض الأئمة تأييداً أو استدراكاً ، مثل : ردّه على قول ابن طاهر في شرط الشيخين . وردّه على صنيع ابن دقيق العيد والذهبي فيما يتعلق بـ" المستدرك " . ومثل تنبيهه على أن أبا الفتح اليعمري لا يشترط في كل حسن أن يأتي من وجه آخر . وغيرها .
7- تنبيهه على ضبط بعض المفردات الواردة في نَظْمِه ، لإصابة الغرض المقصود منه ، مثل ضبطه للفظة : (( مبهماً )) ، وضبطه للفظة : (( معتصماً )) ، وغيرهما .
8- بدا منهج الشرح اللغوي للمفردات واضحاً ، مثل بيانه لمعاني : المرحمة ، والرسم ، والجفلى ، وغيرها .
9- بيانه بعض قيود ومحترزات بعض التعريفات التي يرى إمكان الإيراد عليه عند مَن لم يفهم الخارج بتلك المحترزات .
10- فيما يختص بالنصوص التي ينقلها ، كان له إزاءها منهجان :
الأول : التدليل على انتهائه بقوله : انتهى بعد النص ، وهذا القسم أقل من الثاني وقد لجأ إليه الحافظ في أثناء مناقشاته ، أو عندما يروم تعقب ذلك القول ، أو غير ذلك من الأسباب ، والدواعي الحاملة له على هذا الصنيع .
الثاني : عدم تدليله على انتهاء النص - وهو الأكثر - وذلك إما لكون النص ظاهر الانتهاء ، أو لكونه أورده باختزال أو غير ذلك .
11- فيما يتعلق بحرفية النص المنقول ، لم يلتزم العراقي كثيراً من الأحيان بحرفيته ، فكان كثير التصرف حذفاً وإضافةً ، وقد أشرنا إلى بعض ذلك وأغفلنا الكثير لما رأينا الأمر قد تفاقم خشية إثقال الحواشي .
12- كان طابع النقاش العلمي آنذاك يمتاز بعرض النتيجة ومن ثم ملاحظة الاعتراضات عليها والتي تسمى إيرادات أو اعتراضات ، ومما يشيد تلك النتيجة أن يجاب عن اعتراضاتها المتوقعة مسبقاً ، وهذا ما انتهجه العراقي في شرحه .
13- توضيحه لمصادر كلام بعض العلماء ، مثل بيانه لمصدر تحديد النووي لمعنى مصطلح : على شرط الشيخين . ومثل بيانه لمصدر كلام ابن الصلاح في تصحيح حديث (( لولا أن أشق ...)) من طريق محمد بن عمرو .
14- كان الحافظ العراقي حريصاً على إفادة القارئ : وبما أنه التزم أن يكون شرحه مختصراً ؛ لذا كان من منهجه أن يحيل إلى كتبه الأخرى في المواطن التي تحتاج إلى إسهاب ولا يحتمل المقام ذلك .
15- نقل أقوال الأئمة التي تعضد ما يروم التدليل عليه ، وتوظيفها بمثابة ركائز تعزّز مراده .
16- وضع العراقي الأمانة العلمية نصب عينيه ، فكان حريصاً على نسبة كل قول وفائدة إلى صاحبها إيماناً منه بأن بركة العلم نسبته إلى أهله ، إلا أنه خالف هذا النهج في موطن واحد فقط نقل فيه بضعة عشر نصاً عن جامع الخطيب حذف أسانيد الخطيب منها وساقها تباعاً من غير نسبة إليه وكان هذا من الحافظ العراقي لسببين اثنين :
الأول : طول أسانيد الخطيب - لاسيما مع بضعة عشر نصاً - والتزامه الاختصار غير المخل في شرحه .
الثاني : أنه لم يغفل قرينة تدل على عدم كون النص له ، وهي قوله قبل سياقته النص : " روينا " وهذا إمعان منه في العمل بمقتضى أمانته العلمية .
17- فهمه دقائق وإشارات كلام ابن الصلاح ، فهماً منقطع النظير . وعليه يصدق قول الشاعر :
إِذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوْهَا
فَإِنَّ القَوْلَ مَا قَالتْ حَذَامِ
18- لقد كانت لزوائد الحافظ العراقي على ابن الصلاح أهمية علمية كبيرة ، تمخضت عنها دراسات حاولت الكشف عن جدية تلك الزوائد ، وبذلك أسهمت في إثراء المكتبة العلمية بمؤلفات ، ومن ثم وفّرت مادة بحث جديدة للدارسين انصبت اهتماماتهم حولها، أو ضمنها من جاء بعده في مؤلفاتهم طلباً للكمال وسدّاً للإعواز .
ولم تكن تلك الزيادات شيئاً نادراً أو قليلاً ليستهان بها ، وإنما كانت من الكثرة الكاثرة بمكان ، ويكفيك لتعلم غزارة هذه الزوائد أننا في الجزء الأول فقط أحصينا له قرابة خمسين موطناً ما بين زيادة واستدراك وتعقب على ابن الصلاح .
19- كان من منهج الحافظ العراقي أنه لم يترك الأمور على علاتها من غير ترجيح وإنما كان ذا شخصية فذة بارزة في شرحه ، يصحّح ويختار ويرجح في ضوء اجتهاده ، غير ملتفت إلى مخالفة ابن الصلاح أو موافقته .
20-لم يلتزم الحافظ العراقي في نظمه ومن ثم شرحه ترتيب ابن الصلاح ، لاسيّما أن ابن الصلاح لم يخرج كتابه دفعة واحدة ، وإنما أملاه شيئاً فشيئاً فخرج على غير الترتيب المقصود .
لذا حاول العراقي أن يرتّب مباحث الكتاب على وضع مناسب حسب اجتهاده فقدّم وأخّر ، وهذّب وعدّل ، ومن ذلك :
أ- أنه قدّم موضوع " أول من صنف في الصحيح " على موضوع " تصحيح الأحاديث في العصور المتأخّرة ".
ب- دمج بين المنقطع والمسند والمعضل ، بخلاف ابن الصلاح الذي فرّق بينها في كتابه .
ج- قدّم قول البرذعي في مبحث المقطوع ، في حين ذكره ابن الصلاح في نهاية المنقطع .
المبحث الثاني
مصادره في شرحه :
لقد بات من مسلمات الأمور في طبيعة أي بحث علمي أن تتناسب القيمة العلمية مع مصادر ذلك البحث تناسباً طردياً ، وغير خافٍ على القراء أن إغناء جوانب البحث العلمي بكثرة مراجعة المصادر يعدّ دعامة قوية تعزز النتائج والنظريات التي يقدّمها أي باحث .
ولسنا نشك أن هذا الأمر كان من أبرز جوانب شرح الحافظ العراقي ، فقد لملم شعث الفوائد من بطون الكتب ، وجمع غرر العوائد من ملاحظة تصرفات النقاد وحفاظ الأثر ، لذا فقد أغنى في نظرنا شرحه غناءً مفرطاً بكثرة مصادره ، سواء تلك الأصلية في مجال كتابته أو التي احتاجها بصورة عرضية ، الأمر الذي دعانا - في سبيل إثبات ذلك - إلى إحصاء جميع تلك المصادر وقد امتاز منهجه في ذكر مصادره بمميزات منها :
أ- أنه كان كثير التصرف في نقله النصوص لا يلتزم حرفية فيه .
ب- أنه كان كثير التجوّز في إطلاق أسماء المؤلفات ، فمثلاً يسمي كتاب شيخه العلائي " جامع التحصيل " ثم لا يلبث بعد صفحة واحدة أن يسميه " المراسيل " وهكذا في عشرات الكتب ، وقد ارتأينا جمعها تحت مسمًى واحد ، هو اسم الشهرة لذلك المصنَّف ، مراعين مقصد الحافظ في ذلك .
جـ- أنه لم يسر على نمط واحد في شرحه بشأن العزو إلى تلك المصادر ، وإنما كانت له ثلاث طرق :
الأولى : أن يذكر اسم العالم الذي ينقل عنه فقط ، من غير ذكر لاسم كتابه أو الواسطة التي نقل عنه بها .
الثانية : قد يذكر اسم المؤلف مقروناً بذكر اسم مصنفه .
الثالثة : أن يذكر اسم الكتاب فقط ، وهو أقل هذه الأقسام .
وبغية جعل الأمر أكثر وضوحاً أمام القارئ الكريم ، فقد جعلنا مصادره مرتبة حسب هذا التقسيم مراعين الترتيب الزمني في القسمين الأوليين ، والترتيب الهجائي في القسم الثالث ، مثبتين عدد مرات رجوعه إليها ، مستغنين عن ذكر الصفحات خشية تضخم الكتاب. ومن الله العون والسداد .
أ. مصادره التي اكتفى فيها بذكر اسم العلم فقط ، وهي :
الربيع بن خثيم ( قبل 65 ه) . رجع إليه مرة واحدة .
ابن إسحاق ( محمد بن إسحاق بن يسار المطّلبي (150 ه) أو بعدها . رجع إليه أربع مرات .
معمر بن راشد .( 153 ه) رجع إليه مرة واحدة .
مالك بن أنس . (179ه ) . رجع إليه مرة .
عبد الله بن المبارك المروزي ( 181 ه) . رجع إليه مرتين .
أبو داود الطيالسي ( سليمان بن الجارود 204 ه) مرة واحدة .
الشافعي ( محمد بن إدريس 204 ه) . ست مرات .
الواقدي ( محمد بن عمر بن واقد 207 ه) مرتين .
عبد الرزاق بن همام الصنعاني ( 211 ه ) مرتين .
الأصمعي ( عبد الملك بن قُرَيب 215 ه) مرة .
أبو بكر الحميدي ( 219 ه) . مرة .
أبو عبيد القاسم بن سلاّم ( 224 ه) مرة ،
ابن سعد ( محمد بن سعد 230 ه) ست عشرة مرة .
يحيى بن معين ( 233 ه) إحدى عشرة مرة .
علي بن المديني ( علي بن عبدالله بن جعفر السعدي 234 ه) ست مرات
ابن أبي شيبة ( عبد الله بن محمد العبسي 235 ه) مرتين .
عبد الملك بن حبيب الأندلسي القرطبي المالكي ( 238 ه) مرة .
خليفة بن خياط العصفري (240 ه) ثلاث عشرة مرة .
أحمد بن حنبل ( أحمد بن محمد بن حنبل 241 ه) عشر مرات.
محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي ( 242 ه) مرة .
أحمد بن صالح المصري الطبري ( 248 ه ). مرتين .
عبد بن حميد ( 249 ه) . مرة .
الفلاّس ( عمرو بن علي 249 ه) مرتين .
الجوزجاني ( إبراهيم بن يعقوب السعدي 259 ه) مرتين .
العجلي ( أحمد بن عبد الله بن صالح الكوفي 261 ه) خمس مرات .
يعقوب بن شيبة (262 ه) مرة .
أبو زرعة الرازي ( عبيد الله بن عبد الكريم 264 ه) ثماني مرات .
المروذي ( 275 ه) مرة .
ابن قتيبة ( عبد الله بن مسلم بن قتيبة 276 ه) ثلاث مرات .
أبو حاتم الرازي ( محمد بن إدريس الحنظلي 277 ه) ستّاً وعشرين مرة .
الفسوي ( يعقوب بن سفيان 277 ه) مرة .
أبو بكر بن أبي خيثمة ( أحمد بن زهير بن حرب 279 ه) مرتين .
ابن أبي الدنيا ( عبد الله بن محمد بن عبيد 281 ه ) مرة .
أبو زرعة الدمشقي ( عبد الرحمن بن عمرو بن عبدالله 281 ه) مرتين.
المبرّد ( محمد بن يزيد 285 ه) مرة .
ابن وضاح ( محمد بن وضاح بن يزيد المرواني 287 ه) مرة .
صالح جزرة ( صالح بن محمد بن عمرو 293 ه ). مرة .
البرديجي ( أحمد بن هارون 301 ه) مرة .
أبو بكر عبد الله بن أبي داود ( 310 ه) مرة .
محمد بن جرير الطبري ( 310 ه) ثلاث مرات .
ابن خزيمة ( محمد بن إسحاق 311 ه) مره .
أبو العباس السَّرَّاج ( محمد بن إسحاق بن إبراهيم الثقفي 313 ه) مرة .
أبو الفضل الهروي ( محمد بن أحمد بن عمار الجارودي الهروي 317 ه ) مرة .
الطحاوي ( أحمد بن محمد بن سلامة 321 ه) . مرتين .
ابن دريد ( محمد بن حسن بن دريد الأزدي 321 ه) . مرة .
العقيلي ( محمد بن عمرو بن موسى 322 ه) خمس مرات .
ابن أبي حاتم ( عبد الرحمن بن محمد بن إدريس 327 ه). ثلاث عشرة مرة .
أبو بكر الصيرفي ( محمد بن عبد الله 330 ه) ثلاث مرات .
ابن الأعرابي ( أحمد بن زياد البصري 340 ه) . مرتين .
ابن الأخرم ( محمد بن يعقوب 344 ه) . مرة .
ابن يونس ( عبد الرحمن بن أحمد بن يونس 347 ه). ثلاث مرات.
أبو علي النيسابوري ( الحسين بن علي بن يزيد 349 ه) . مرتين .
ابن قانع (عبد الباقي بن قانع بن مرزوق 351 ه) إحدى عشرة مرة.
ابن السكن ( سعيد بن عثمان بن سعيد البغدادي 353 ه) . مرة .
ابن حبان ( محمد بن حبان بن أحمد 354 ه). سبعاً وخمسين مرة .
الرامهرمزي ( الحسن بن عبد الرحمن بن خلاّد 360 ه) اثنتين وعشرين مرة .
الطبراني ( سليمان بن أحمد بن أيوب 360 ه) أربع مرات .
ابن عدي ( عبد الله بن عدي الجرجاني 365 ه) . اثنتي عشرة مرة .
الأزهري ( محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي 370 ه) مرة .
أبو عبد الله (محمد بن خفيف الشيرازي 371 ه) مرة .
أبو الفتح الأزدي ( محمد بن الحسين بن أحمد الموصلي 374 ه) مرتين .
أبو عمرو بن أبي جعفر أحمد بن حمدان الحيري ( 376 ه ). مرة .
ابن زبر ( محمد بن عبد الله بن أحمد 379 ه) إحدى عشرة مرة .
العسكري ( الحسن بن عبد الله بن سعيد 382 ه ) مرة .
أبو عبيد الله المرزباني ( محمد بن عمران بن موسى البغدادي 384 ه) مرة .
الدارقطني ( علي بن عمر البغدادي 385 ه) . سبعاً وعشرين مرة .
الخطّابي ( حمد بن محمد بن إبراهيم 388 ه) سبع مرات .
المعافى بن زكريا النهرواني ( 390 ه) . مرة .
الجوهري ( إسماعيل بن حماد 393 أو 400 ه) ست عشرة مرة .
ابن فارس ( أحمد بن فارس بن زكريا 395 ه) ثلاث مرات .
أبو عبد الله بن منده ( 395 ه) أربع عشرة مرة .
الكلاباذي ( أحمد بن محمد بن الحسين 398 ه) . مرة .
أبو بكر الباقلاني ( محمد بن الطيب البصري 403 ه) . سبع عشرة مرة .
أبو الحسن القابسي ( 403 ه) . مرة .
الحاكم ( محمد بن عبد الله بن محمد 405 ه) . تسعاً وخمسين مرة .
عبد الغني بن سعيد الأزدي ( 409 ه) مرتين .
ابن الحذّاء ( محمد بن يحيى التميمي 416 ه) . مرتين .
الإسفراييني ( إبراهيم بن محمد بن إبراهيم 418 ه) مرتين .
البرقاني ( أحمد بن محد بن أحمد 425 ه) . مرة .
حمزة السهمي ( حمزه بن يوسف بن إبراهيم 427 ه ) مرة .
أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي (429 ه) . مرتين .
أبو نعيم الأصبهاني ( أحمد بن عبد الله بن أحمد 430 ه) . ست مرات .
أبو عمرو الداني ( عثمان بن سعيد بن عثمان 444 ه) . مرتين .
أبو نصر السجزي ( عبيد الله بن سعيد بن حاتم 444 ه) . مرة .
الخليلي ( الخليل بن عبد الله بن أحمد القزويني 446 ه) خمس مرات .
ابن حزم ( علي بن أحمد بن سعيد 456 ) . ثلاث مرات .
البيهقي ( أحمد بن الحسين بن علي 458 ه) تسع مرات .
ابن سيده (علي بن إسماعيل المرسى 458 ه ) ست مرات .
أبو القاسم الفوراني ( 461 ه) مرة .
الخطيب البغدادي ( أحمد بن علي بن ثابت 463 ه) إحدى وخمسين ومائة مرة .
ابن عبد البر ( يوسف بن عبد الله بن محمد 463 هجريه ) أربعاً وخمسين مرة .
أبو الوليد الباجي ( سليمان بن خلف بن سعيد 474 ه ) مرة .
ابن ما كولا ( علي بن هبة الله بن علي 475 ه) أربع عشرة مرة .
ابن الصباغ ( عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد 477 ه) أربع مرات .
إمام الحرمين ( عبد الملك بن عبد الله بن يوسف 478 ه)أربع مرات.
أبو عبد الله الحميدي ( محمد بن فتوح بن عبد الله الأندلسي 488 ه)ثلاث مرات.
أبو المظفر السمعاني ( منصور بن محمد التميمي 489 ه) تسع مرات .
أبو علي البرداني ( أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي 498 ه) مرة .
أبو علي الجياني ( الحسين بن محمد الغساني 498 ه) ست مرات .
الغزالي ( محمد بن محمد بن محمد 505 ه ) مرتين .
محمد بن طاهر المقدسي ( 507 ه) . خمس مرات .
أبو بكر السمعاني ( محمد بن منصور بن محمد التميمي 510 ه) . مرة .
أبو زكريا بن منده ( يحيى بن عبد الوهاب الأصبهاني511 ه) خمس عشرة مرة .
البغوي ( الحسين بن مسعود بن محمد 516 ه). أربع مرات .
ابن فتحون ( محمد بن خلف بن سليمان 520 ه) أربع مرات .
ابن السيد ( عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي521 ه)مرة .
البيضاوي ( عبد الله بن محمد بن محمد 537 ه) مرة .
أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي( 538 ه) .مرة .
عياض بن موسى بن عياض اليحصبي(544 ه) سبعاً وسبعين مرة .
ابن ناصر ( محمد بن ناصر بن محمد 550 ه) . مرتين .
عبد الرحيم بن عبد الخالق اليوسفي( 574 ه)مرة .
السلفي ( أحمد بن محمد بن أحمد 576 ه) . مرتين .
ابن بشكوال ( خلف بن عبد الملك بن مسعود 578 ه). مرتين .
الحازمي ( محمد بن موسى بن عثمان 584 ه) خمس مرات .
ابن الجوزي ( عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن 597 ه) تسع مرات .
فخر الدين الرازي ( محمد بن عمر بن حسين 606 ه) إحدى عشرة مرة
الرافعي ( عبد الكريم محمد بن عبد الكريم 623 ه) خمس مرات .
ابن القطان ( علي بن محمد بن عبدالملك 628 هجرية) سبع مرات.
الآمدي ( علي بن أبي علي بن محمد 631 ه) سبع عشرة مرة.
الضياء المقدسي ( محمد بن عبد الواحد بن أحمد 643 ه ) مرة .
ابن الحاجب ( عثمان بن عمر بن أبي بكر 646 ه) عشر مرات.
أبو العباس القرطبي ( أحمد بن عمر بن إبراهيم 656 ه) مرة .
الزكي عبد العظيم بن عبد القوي المنذري ( 656 ه) . مرة .
أبو شامة ( عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم 665 ه) مرتين .
النووي ( يحيى بن شرف 676 ه) تسع عشرة مرة .
ابن خلكان ( أحمد بن محمد بن أبي بكر 681 ه) . مرة .
جمال الدين الظاهري ( أحمد بن محمد بن عبدالله 696 ه) مرة .
ابن دقيق العيد ( محمد بن علي بن وهب 702 ه) . إحدى عشرة مرة.
ابن رشيد ( محمد بن عمر بن محمد 721 ه) مرة .
ابن الموّاق ( محمد بن يحيى 721 ه) . ثلاث مرات .
أبو الفتح اليعمري (محمد بن محمد بن محمد بن سيد الناس 734 ه) أربع مرات .
المزي ( يوسف بن عبدالرحمن بن يوسف 742 ه)أربع عشرة مرة .
تاج الدين التبريزي ( 746 ه ) . مرة .
الذهبي ( محمد بن أحمد بن عثمان 748 ه) خمس مرات .
محمود بن خليفة المنبجي ( 767 ه) . مرتين .
أبو جعفر بن النرسي . مرة .
أبو الحسين محمد بن أبي الحسين بن الوزان . مرة .
أبو عبيد الآجري . خمس مرات .
ب. مصادره التي صرّح فيها باسم الكتاب مع مؤلفه ، وهي :
مالك في المدونة . مرة .
مالك في الموطأ . ثلاث مرات.
الشافعي في اختلاف الحديث . مرة .
الشافعي في الأم . مرة .
الشافعي في الرسالة . ثلاث مرات .
ابن سعد في الطبقات . أربع مرات .
أحمد في المسند . ثلاث مرات .
البخاري في التاريخ الكبير . أربع عشرة مرة .
البخاري في رفع اليدين . مرة .
البخاري في القراءة خلف الإمام . مرة .
مسلم في التمييز . ثلاث مرات .
مسلم في الطبقات . مرتين .
مسلم في الكنى . مرة .
مسلم في المنفردات والوحدان . مرة .
أبو داود في المراسيل . مرة .
ابن قتيبة في المعارف . مرة .
يعقوب الفسوي في التاريخ . مرة .
ابن أبي خيثمة في الإعراب . مرة .
الترمذي في العلل. مرتين .
ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان . مرة .
ابن أبي الدنيا في النية . مرة .
المبرد في الكامل . مرة .
ابن الجارود في الكنى . مرة .
البزار في مسنده .مرة .
البزار في معرفة من يترك حديثه أو يقبل . مرتين .
البرديجي في الأسماء المفردة . مرة .
البرديجي في جزء لطيف . مرة .
النسائي في التمييز . مرة .
النسائي في حديث الفضيل بن عياض . مرة .
النسائي في الكنى . ثلاث مرات .
ابن خزيمة في صحيحه . مرة .
أبو الفضل الهروي في مشتبه أسماء المحدثين . مرة .
الطحاوي في شرح مشكل الآثار . مرة .
العقيلي في الضعفاء . مرة .
ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل . سبع مرات .
ابن أبي حاتم في العلل . مرة .
الصيرفي في الدلائل . أربع مرات .
الصيرفي في شرح رسالة الشافعي . مرة .
أبو العرب في كتاب الضعفاء . مرة .
ابن يونس في تاريخ الغرباء . مرة .
ابن يونس في تاريخ مصر . مرة .
أبو عمر الكندي في كتاب الموالي . مرة .
ابن حبان في الثقات . اثنتي عشرة مرة .
ابن حبان في كتاب الخلفاء . مرة .
ابن حبان في صحيحه . مرتين .
ابن حبان في الضعفاء . ثلاث مرات .
ابن حبان في معرفة الصحابة . مرة .
الرامهرمزي في المحدث الفاصل . ثلاث مرات .
الآجري في التصديق بالنظر إلى الله . مرة .
الطبراني في حديث محمد بن جحادة . مرة .
الطبراني في حديث من كذب علي . مرة .
الطبراني في مسند الشاميين . مرة .
الطبراني في المعجم الكبير . ثلاث مرات .
محمد بن الحسين بن إبراهيم الأثري السجستاني في فضائل الشافعي . مرة .
ابن عدي في الكامل . خمس مرات .
أبو الشيخ في طبقات الأصبهانيين . أربع مرات .
الأزهري في تهذيب اللغة . مرة .
الإسماعيلي في حديث الأعمش .مرة .
الإسماعيلي في المستخرج . مرة .
أبو أحمد الحاكم في الكنى . مرة .
العسكري في معرفة الصحابة . مرتين .
الدارقطني في الأخوة والأخوات . مرة .
الدارقطني في العلل . مرتين .
الدارقطني في القضاء باليمين مع الشاهد . مرة .
الدارقطني في المؤتلف . مرة .
الخطّابي في معالم السنن . ثلاث مرات .
الوليد بن بكر الغمري في الوجازة . مرتين.
الجوهري في الصحاح . مرة .
أبو عبد الله بن منده في القراءة والسماع والمناولة . مرتين .
أبو عبد الله بن منده في معرفة الصحابة . خمس مرات .
الكلاباذي فيمن أخرج له البخاري في صحيحه . مرة .
الحاكم في تاريخ نيسابور . ثلاث مرات .
الحاكم في علوم الحديث . خمس عشرة مرة .
الحاكم في المدخل إلى الإكليل . مرة .
الحاكم في المستدرك . خمس مرات .
عبد الغني بن سعيد الأزدي في إيضاح الإشكال . مرتين .
عبد الغني بن سعيد في كتاب عمدة المحدِّثين . مرة .
غنجار في تاريخ بخارى . مرتين .
البرقاني في اللقط . مرة .
أبو نعيم في تاريخ أصبهان . مرتين .
أبو نعيم في معرفة الصحابة . مرة .
أبو نعيم في علوم الحديث . مرة .
أبو القاسم الطحان في ذيله على تاريخ مصر . مرة .
أبو يعلى الخليلي في الإرشاد . أربع مرات .
محمد بن الحسين التميمي الجوهري في الإنصاف . مرة .
الماوردي في الحاوي . مرتين .
ابن حزم في المحلى . مرتين .
البيهقي في الاعتقاد . مرتين .
البيهقي في الدلائل . مرة .
البيهقي في الزهد . مرة .
البيهقي في السنن . ثلاث مرات .
البيهقي في شعب الإيمان . مرة .
البيهقي في المدخل . سبع مرات .
البيهقي في المعرفة . ثلاث مرات .
الخطيب في التفصيل لمبهم المراسيل . مرة .
الخطيب في تلخيص المتشابه . مرة .
الخطيب في تمييز المزيد في متصل الأسانيد . مرة .
الخطيب في الجامع . ست مرات .
الخطيب في السابق واللاحق . مرة .
الخطيب في القول في علم النجوم . مرة .
الخطيب في الكفاية . تسع مرات .
الخطيب في المتفق والمفترق . ثلاث مرات .
الخطيب في المدرج . مرتين .
الخطيب في الموضح لأوهام الجمع والتفريق . أربع مرات .
ابن عبد البر في الاستذكار . مرة .
ابن عبد البر في الاستيعاب . أربع مرات .
ابن عبد البر في البسملة . مرة .
ابن عبد البر في بيان آداب العلم .مرتين .
ابن عبد البر في التقصي . مرة .
ابن عبد البر في التمهيد . ست مرات .
الداودي في شرح مختصر المزني . مرة .
أبو القاسم بن منده في القنوت . مرة .
أبو القاسم بن منده في المستخرج . مرة .
ابن ماكولا في الإكمال .مرتين .
أبو إسحاق الشيرازي في اللمع . مرة .
ابن الصَّبَّاغ في الشامل . مرة .
ابن الصَّبَّاغ في العدة . إحدى عشرة مرة .
إمام الحرمين في الإرشاد .مرة .
إمام الحرمين في البرهان . ثلاث مرات .
الحميدي في تاريخ الأندلس .مرة .
الحميدي في الجمع بين الصحيحين . مرة .
الجياني في تقييد المهمل .سبع مرات .
الروياني في البحر .مرة .
الغزالي في الإحياء . مرة .
الغزالي في المستصفى . ثلاث مرات .
الغزالي في المنخول .مرتين .
محمد بن طاهر في أطراف الغرائب .مرة .
محمد بن طاهر في شروط الأئمة .مرة .
محمد بن طاهر في العلو والنـزول . مرة .
محمد بن طاهر في مسألة الانتصار . مرة .
أبو زكريا بن منده في معرفة الصحابة .مرة .
أبو زكريا بن منده في من عاش مائة وعشرين من الصحابة. ثلاث مرات.
البغوي في التهذيب . مرة .
البغوي في المصابيح . مرتين .
ابن فتحون في ذيل الاستيعاب . ست مرات .
عبد الغافر الفارسي في السياق . مرة .
عبد الغافر الفارسي في مجمع الغرائب . مرة .
الزمخشري في الفائق . مرة .
الزمخشري في المفصل . مرة .
ابن العربي في شرح الترمذي . مرة .
عياض في الإلماع . خمس مرات .
عياض في المشارق . عشر مرات .
الحازمي في الاعتبار . مرة .
الحازمي في شروط الأئمة . مرتين .
ابن السمعاني في ذيل تاريخ بغداد . مرتين .
ابن خير في برنامجه . مرة .
السلفي في جزء له في القراءة . مرة .
ابن بشكوال في المبهمات . مرة .
أبو موسى المديني في ذيل معرفة الصحابة . مرتين .
ابن الجوزي في التحقيق . مرة .
ابن الجوزي في التلقيح . خمس مرات .
ابن الجوزي في العلل المتناهية . مرة .
ابن الجوزي في الموضوعات . مرتين .
ابن الأثير الجزري في النهاية . مرة .
فخر الدين الرازي في المحصول . مرة .
الرافعي في التذنيب . مرة .
الرافعي في الشرح الكبير . خمس مرات .
ابن النقطة في تكملة الإكمال . مرتين .
ابن الدبيثي في الذيل . مرة .
النباتي في ذيل الكامل . مرة .
ابن الصلاح في فتاويه . مرة .
عبد الغني المقدسي في الكمال . مرة .
ابن النجار في الذيل . مرة .
ابن باطيش في مشتبه النسبة 0 مرة
القرطبي في المفهم .مرتين
الرشيد العطار في الغرر المجموعة .مرة
النووي في الإرشاد .مرة
النووي في التقريب والتيسير . أربع مرات .
النووي في التهذيب .مرة
النووي في الخلاصة . مرة .
النووي في زياداته في الروضة . مرة .
النووي في شرح مسلم . مرتين .
النووي في شرح المهذب . أربع مرات .
النووي في مختصر المبهمات . مرة .
القرافي في شرح التنقيح . مرة .
محب الدين الطبري في تقريب المرام . مرة .
ابن دقيق العيد في الاقتراح. ثماني مرات .
ابن دقيق العيد في خطبة الإلمام . مرة .
ابن دقيق العيد في شرح الإلمام . مرة .
ابن الموّاق في بغية النقاد . مرتين .
أبو الفتح اليعمري في شرح الترمذي . مرتين .
الحافظ عبد الكريم الحلبي في تاريخ مصر . مرة .
الحافظ عبد الكريم الحلبي في القدح المعلّى . مرة .
المزي في الأطراف . ثلاث مرات .
المزي في التهذيب . ست مرات .
الذهبي في تاريخ الإسلام . مرة .
الذهبي في العبر . ثلاث مرات .
الذهبي في مختصر المستدرك . مرة .
الذهبي في مشتبه النسبة . ست مرات .
الذهبي في معجمه . مرة .
الذهبي في ميزان الاعتدال . تسع مرات .
ابن التركماني في الدر النقي . مرة .
العلائي في جامع التحصيل . أربع مرات .
العلائي في الوشي المعلم . مرتين .
جـ. مصادره التي ذكر فيها اسم الكتاب فقط ، وهي :
الإحياء . مرة .
الاستيعاب . مرتين .
الأم . مرة .
أمالي ابن سمعون . مرة .
الإمام . مرة .
بيان أسماء ذوي الكنى . مرة .
تاريخ أبي بكر بن أبي خيثمة . مرة .
تاريخ البخاري . مرة .
تاريخ الخطيب . مرة .
تاريخ خليفة . مرة .
تهذيب الكمال . مرة .
تهذيب اللغة . مرة .
جزء ابن عرفة . مرة .
جزء الأنصاري . مرتين .
جزء الغطريف . مرة .
الدلائل والاعلام . مرة .
الزهد . مرة .
سنن البيهقي . مرة .
شرح الترمذي . مرة .
الصحاح . أربع مرات .
طبقات ابن سعد . مرة .
العبر . مرة .
العمدة . مرة .
العين . مرة .
" الغريبين " . مرة .
الغيلانيات . مرة .
كتاب ابن خزيمة . مرة .
كتاب ابن معين . مرة .
كتاب أبي أحمد الحاكم . مرة .
كتاب أحمد بن حنبل . مرة .
كتاب الأمير . مرة .
الكفاية . مرة .
المحصول . إحدى عشرة مرة .
المحكم . تسع مرات .
المدونة . مرة .
مسند أبي داود الطيالسي . مرة .
مسند أحمد . خمس مرات .
المطالع . مرة .
معجم الطبراني . مرة .
معرفة الصحابة . مرة .
الموطأ . سبع مرات .
الموضوعات . مرة .
المبحث الثالث
دراسة عروضية لنظم ألفية الحافظ العراقي :
نظم الحافظ العراقي ألفيته هذه على بحر الرجز ووزنه :
مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ
مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ
وهو بحرٌ كثيرةٌ أوزانُهُ ، متعددةٌ ضروبُهُ ، واسعةٌ زحافاتُهُ وهو عَذبُ الوزن واضحه ؛ إذ هو من البحور ذات التفعيلة الواحدة ، مكرَّرُها كما أن في كثرة زحافاته مجالاً لإرادة التصرف في الكلام ، وسعةً في إقامة الجمل ؛ إذ ليس بمستطاعٍ لشاعر الإتيان بثلاثة مقاطع قصيرة متتابعة في غير ( مُتَعِلُنْ ب ب ب – ) إحدى أشكال تفعيلة الرجز ( مستفعلن - - ب - ) ، فضلاً عن أشكال ( مُسْتَفْعِلُنْ ) الأخرى مثل : ( متفعلن ب – ب – ) و ( مُسْـتَعِلنْ – ب ب – ) و ( مُسْـتَفْعِلْ – – – ) . . . الخ .
وهذا من غير شكّ تارك للناظم الفرصة واسعة في النَّظْم والتصرف في التعبير بحسب متطلبات المعنى ، ولَمَّا كان النظم في المتون العلمية في مسيس الحاجة لهكذا سعة في الجوازات ، رُئِي أكثرها منظوماً على هذا البحر هذا الأمر الذي أفاد منه الحافظ العراقي في نظمه للتبصرة فجاءت على هذا البحر بكل أشكاله وتفعيلاته بل لا يكاد بيت يشبه سابقاً له أو لاحقاً في وزن أو ضرب لكثرة ما أفاده من هذا التعدد في أشكال البحر ، فقد جاء ضرب البيت الأول ( مُسْـتَعِلُنْ – ب ب – ) ، والثاني ( مَفْعُوْلُنْ - - - ) ، والثالث ( مُتَفْعِلُنْ ب – ب – ) ، والرابع ( فعولن ب - - ) ، والخامس ( مُسْتَفْعِلُنْ - - ب - ) وهكذا دواليك ، هذه الإفادة من الحافظ تركت له الفرصة واسعة للتعبير على حساب الجمال الصوتي والتناسب بين الأبيات ، فقد جاءت بعض الانتقالات بين هذا الشكل أو ذاك قوية ثقيلة تركت تبايناً صوتياً واضحاً في أذن المستمع ، وإن كان مثل هذا مغتفراً في المتون العلمية ، إذ ليس من وَكْدِ الناظم فيها جمال الإيقاع بقدر تحقيق الدقة العلمية في وزن صحيح مقبول .
وعوداً إلى بحر الرجز وما يحققه من سعة في التصرف ضمن القالب الشعري ، فإنّ التقفية الداخلية المستعملة في المتون العلمية تعدّ شكلاً آخر من أشكال الحرية في صياغة العبارة العلمية في قالب شعري ، فالقافية التي طالما كانت شكلاً لازماً في القصيدة العربية تفرض نفسها نمطاً صوتياً يتحكم في صياغة البيت الشعري كلّه الأمر الذي يفرض على الشاعر نهاية صوتية واجبة التحقيق ، فضلاً عن الشكل الشعري الواجب أيضاً،لذلك كان في التقفية الداخلية التي استعملها الحافظ العراقي مجالاً للتخلص من هذا القيد - والذي لا تنكر قيمته الصوتية-لأن الدقة في التعبير العلمي مقدمة على الإبداع الصوتي وهذه التقفية التي حقّقت التوافق ما بين عروض البيت وضربه سهَّلت كثيراً حفظ البيت الشعري .
على أن الحافظ العراقي لم يكتفِ بكل ما أتاحه له بحر الرجز من جوازات ؛ ليفيد من مبدأ الضرورة الشعرية بشكل واسع جداً ، حتى أصبحت الضرورة شيئاً ثابتاً في أبيات " التبصرة " ، وهذا يدلّل بشكل واضح على تمكن الحافظ وقدرته على الإفادة مما تتيحه اللغة من ضرورات وإن كان في تكرار بعضها في البيت الواحد ثقل كان يمكن تجاوزه ، ومن أبرز الضرورات في نظم الحافظ :
1. إدراج الهمزة ، كقوله ( 78 ) :
في البابِ غيرهُ فذَاكَ عِنْدَهْ
مِنْ رأيٍ اقْوَى قَالَهُ ابنُ مَنْدَهْ
وقوله ( 139 ) :
مَعْرِفَةُ الرَّاوي بالاخْذِ عَنْهُ
وَقِيْلَ : كُلُّ مَا أتانا مِنْهُ
وقوله ( 153 ) :
تَدْلِيْسُ الاسْنَادِ كَمَنْ يُسْقِطُ مَنْ
حَدَّثَهُ ، وَيَرْتَقِي بِـ(عَنْ) وَ(أنْ)
2. تسكين بعض الحروف المتحركة :
كقوله ( 82 ) :
كَمُسْنَدِ الطَّيَالِسيْ وَأَحْمَدَا ……………
وقوله ( 162 ) :
…………… وَلِلْخَلِيْلِيْ مُفْرَدُ الرَّاوي فَقَطْ
3. قصر الممدود ،
كقوله ( 136 ) :
…………… مِنْ دُلْسَةٍ رَاويْهِ ، واللِّقَا عُلِمْ
وقوله ( 170 ) :
…………… خَاتَمَهُ عِنْدَ الخَلا وَوَضْعِهْ
4. صرف الممنوع من الصرف ،
كقوله ( 809 ) :
…………… أو سَهْلٌ او جَابِرٌ او بِمَكَّةِ
وقوله ( 816 ) :
وَقِيْلَ : إِفْرِيْقِيَّةٍ وَسَلَمَهْ ……………
وقد يجمع الحافظ بين ضرورتين في موضع واحد ، كقوله ( 864 ) :
وَاعْنِ بِالاسْمَا والكُنَى وَقَدْ قَسَمْ ………………
والأصل ( بالأسماء ) فقصر الممدود وأدرج الهمزة .
وقوله ( 867 ) :
……………… النُّوْنُ فِي أبي قَطَنْ نُسَيْرُ
فقد سكّن النون من ( قطنْ ) وأدغمها في نون ( نسير ) .
وقد تتوالى الضرورات في شطر واحد مما يولد ثقلاً في قراءة البيت ،
كقوله :
…………… أو سَهْلٌ او جَابِرٌ او بِمَكَّةِ
فقد أدرج الهمزة في موضعين في ( أو ) الثانية والثالثة مما يجعل البيت مستثقلاً عند قراءته .
وقد يُعَلّق الحافظ – رحمه الله – معنى البيت بالبيت الذي يليه ، وهذه ما يسمى بالتضمين ، وهو عيب عند العروضيين ، كقوله ( 7 ، 8 ) :
فَحَيْثُ جَاءَ الفِعْلُ والضَّمِيْرُ
لِوَاحِدٍ وَمَنْ لَهُ مَسْتُوْرُ
كَـ(قَالَ) أو أطْلَقْتُ …
…………………..
وقوله ( 51 ، 52 ) :
يَقْدَحُ فِي أَهْلِيَّةِ الوَاصِلِ أو
مُسْنَدِهِ عَلَى الأَصَحِّ ، وَرَأوا
أَنَّ الأصَحَّ : الْحُكْمُ للرَّفْعِ وَلَوْ
……………………
وهكذا تنقّل الحافظ العراقي في أبيات نظمه عَلَى وفق ما يتيحه له هذا البحر من أشكال في تفعيلاته ، وما يجوّزه له من الزحافات والعلل ، زيادة على الضرورات التي غطّت مساحة واسعة من نظمه ، مما أعطاه رونقاً وجمالاً خاصّاً وسهولةً وعذوبة وفّرت الجوَّ الملائم تسهيلاً وإفادة لمبتغي هذا العلم .
المبحث الرابع
شروح الألفية :
نظراً لما تمتعت به ألفية العراقي من ثراء الأسلوب ، واحتواء المعاني ، وسلاسة الألفاظ ، وترتيب الأفكار والموضوعات ، فقد أصبحت ديدن طلاب هذا العلم والمشتغلين فيه ، لاسيما وقد كان وكْدُ الناظم الأول تلخيص كتابٍ هو العمدة في هذا الباب ، ألا وهو كتاب ابن الصلاح .
فلم يكن بدعاً من الأمر أن يتوالى عليها الشراح ، ويضعون عصارة أفكارهم ، درراً نفيسة تحلي جيدَ الألفية ، وتلبسها ثوباً قشيباً تقرُّ به عين ناظمها ، ومن ثمَّ عيون المحبين لهذا العلم الشريف .
ولا غرو هناك أن تختلف طبائع هذه الشروح تبعاً لتمرس الشارح في هذا العلم ، وتذوقه لحلاوة النقد والتعليل ، والتخريج والتأصيل ، وإفادته في المجال العلمي الذي يبرع فيه ، ولعلنا لا نغادر أرض الواقع والحقيقة إذا قلنا : أن شرح الحافظ العراقي من أكثر الشروح أصالة في مادته العلمية ، وأوفرها إغناءً لجوانب البحث العلمي ، سواء أكان في مجاله الأصيل ، أم في المجالات الطارئة الأخرى لغوية كانت أم عروضية ، أم نحوية ، وسواء أكان توضيحه لتلك المباحث بشكل مطول أم مختزل ؟
ثمَّ إن تلك الشروح تختلف طولاً واختصاراً حسب إشباع الشارح للمادة العلمية ، وتبعاً لمقدراته ، ونحن في صدد عرضنا لأهم شروح الألفية نود التنبيه على أن تحقيقنا لهذا الشرح ليس الأخير في بابه ، بل ستصدر قريباً شروح محققة على غرار هذا الشرح – إن شاء الله تعالى - .
وأهم هذه الشروح :
1 – الشرح الكبير ، للناظم الحافظ أبي الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي ( 806 ه ) .
2 – الشرح المتوسط – وهو كتابنا هذا – للناظم .
3- النكت الوفية بما في شرح الألفية ، للبقاعي : إبراهيم بن عمر بن حسن
( 885 ه).
3 – شرح ألفية العراقي ، لابن العيني : زين الدين أبو محمد عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد الحنفي ( 893 ه ) .
5 – فتح المغيث بشرح ألفية الحديث ، للحافظ شمس الدين أبي الخير محمد بن
عبد الرحمن بن محمد السخاوي ( 902 ه ) .
6 – شرح ألفية الحديث ، للحافظ جلال الدين أبي الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ( 911 ه ) .
7 – فتح الباقي على ألفية العراقي ، لقاضي القضاة زين الدين أبي يحيى زكريا بن محمد ابن أحمد بن زكريا الأنصاري السنكي ثم القاهري (926 ه)
8 – شرح ألفية العراقي ، لأمير بادشاه : شمس الدين محمد أمين بن محمود البخاري الحسيني ( 972 ه ) .
9 – شرح ألفية العراقي ، للمناوي : زين الدين محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين ( 1031 ه ) .
10 – شرح ألفية العراقي ، للأجهوري : نور الدين أبي الإرشاد عَلِيّ بن مُحَمَّد بن
عبد الرحمن بن علي المالكي ( 1066 ه ) .
11 – نهاية التعريف بأقسام الحديث الضعيف ، للدمنهوري : أحمد بن عبد المنعم بن يوسف ابن صيام ( 1192 ه ) .
12 – شرح ألفية العراقي لابن كيران : أبي عبد الله محمد الطيب بن عبد المجيد بن
عبد السلام الفاسي ( 1227 ه ) .
13 – معراج الراقي لألفية العراقي ، للبطاوري : المكي بن محمد بن علي الرباطي ( 1354 ه ) .
القسم الثاني
التحقيق
وفيه ثلاثة فصول :
الفصل الأول : التعريف بالكتاب
الفصل الثاني : وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق
الفصل الثالث : منهج التحقيق
الفصل الأول
التعريف بالكتاب
المبحث الأول
مادته ومحتواه :
كلنا يعلم جيداً أن الحافظ العراقي في نظمه هذا كان يحاول احتواء كتاب ابن الصلاح في علوم الحديث ، فمن البدهي أن يكون شرح هذا النظم في موضوع الأصل ، لذا فقد كانت مادة علوم الحديث أو مصطلح الحديث المادة الأصلية في الكتاب ، غير أن الكتاب لا يخلو من مباحثات في علوم متنوعة كاللغة والصرف والنحو والعروض والتاريخ والسير وغيرها ، دلّت بمجموعها على تضلع الحافظ العراقي من علوم شتى وتنوع معارفه واختلاف مشاربه ، كما أن الكتاب لم يكن اختصاراً مجرداً ، أو تقنيناً رتيباً ، بل امتاز بأن أتى الشارح فيه بغرر الفوائد ، ونفائس العوائد ، استدراكاً وتصحيحاً وتعقباً وإيضاحاً ، وزيادات ضمتها دفتا هذا السفر العظيم أكملت في نهاية المطاف مشوار علم مصطلح الحديث .
وفي اعتقادنا – ونحن نكتب هذه الأسطر – أنه لم يأت بعد الحافظ العراقي حافظ يدانيه أو يقاربه سوى الحافظ ابن حجر ، الذي صنف أيضاً في علم مصطلح الحديث كتاباً ، لعلنا لا نكذب أنفسنا إن قلنا أن الحافظ العراقي كان مادته الأولى فيه ، وإن كانت لابن حجر روعة الترتيب والابتكار .
لذا فإن في وسعنا القول أن الحافظ العراقي يعدُّ المؤسس الثاني والمُنَظِّر الأخير لعلم المصطلح ، وإن استدركت عليه بعض الأشياء ، فهي لا تخل بروح التجديد التي امتلكها الحافظ العراقي ، في أثناء شرحه فالحكم هنا للأغلبية لا للكلية .
وقد احتوى هذا الكتاب في تضاعيفه على مفاتيح علم الحديث ، ضمنها نبذاً من علومه على اختلاف موادها ، فمن التواريخ إلى المتون ثمَّ ضبطها ثم المعرفة بالرجال ثمَّ بجرحهم وتعديلهم ثمَّ … ثمَّ إلى ألوان العلوم يتقلب القارئ فيها بين رياض أزهارها ، يقطف ورودها ويجني ثمارها بإدامة النظر في هذا العلم وتتبع شوارده ، وقنص فوائده ، وملاحظة مواضع كلام أهل الشأن فيه ، والله الهادي والموفق للحق بإذنه .
المبحث الثاني
اسم الكتاب :
قد اعترى الناس شيء من الاضطراب في تحديد اسم هذا الكتاب ، فمنهم من يسميه : شرح ألفية الحديث ، ومنهم من يسميه : شرح التبصرة والتذكرة ، ومنهم من يسميه : فتح المغيث ، ومردُّ ذلك كله إلى الاختلاف في تسمية النَّظْم أصلاً .
والحق أن الذي ظهر لنا من خلال بحثنا أن الذين أسموه : " فتح المغيث " مخطئون خطأً محضاً ، فلا متابع لهم البتة في هذه التسمية ، وقد يدَّعِي مدعٍ أن هذا الاسم عَلَمٌ على شرح المصنف الكبير الذي لم يتمه . والجواب : أن أحداً لم يذكر هذا الشيء ، ولعل أقرب من تحدّث عن هذا الشرح هو البقاعي ، وقد نقلنا لك كلامه فيما مضى ، وها نحن نعيده لك ابتغاء الفائدة ، قال البقاعي في نكته ( 3 / ب ) : (( قوله : رأيته كبير الحجم ، أيّ : ظننت أنَّه إذا كمل يكون كبيراً ، وإلا فهو لم يوجد منه إلا قطعة يسيرة وصل فيها إلى الضعيف )).
فهذا نص كلام البقاعي ، ونحن نعتقد جزماً أن الحافظ لو كان سماه لما تردد البقاعي في إيراد اسمه ومن ثمَّ التعليق عليه ، وهذه هي مهمة من يتصدى للتنكيت على كتاب ما . ثمَّ إن الحافظ العراقي نفسه عندما كان يعزو إليه في هذا الشرح فيما يقارب العشرة مواطن لا يزيد على قوله : (( الشرح الكبير )) .
أمّا الذين أسموه شرح ألفية العراقي أو ألفية الحديث للعراقي ، فهؤلاء متجوزون في هذه التسمية ، خشية الالتباس بألفية الحديث للسيوطي ، فإن الناظم لم يصرح البتة في نظمه بأنه جعلها ألفية ، وهذا هو المطابق للواقع ، إذ زادت أبيات النظم على الألف ببيتين وهذه التفاتة قلّ من تنبّه عليها ، وهي السرُّ في عدم قوله في النَّظْم ألفتها ، على الرغم من تصريحه في الشرح بذلك .
وعلى هذا فإن الراجح – في نظرنا – إن اسم الكتاب هو : " شرح التبصرة والتذكرة " تبعاً لتسمية النظم بـ " التبصرة والتذكرة " ، لا سيّما أنَّهُ قَالَ في النظم :
نظمتُها تبصرةً للمبتدي
تذكرةً للمنتهي والمسْنِدِ
مع قول الحافظ السخاوي في شرحه لهذا البيت : (( وأشير بالتبصرة والتذكرة إلى لقب هذه المنظومة )) .
ولم ينص الحافظ العراقي في أثناء شرحه على اسم يكون علماً على شرحه هذا ، الأمر الذي يضطرنا إلى القول بأن الحافظ العراقي ترك شرحه هذا من غير اسم ، ولما كان سمى نظمه ، فيكون هذا شرح لذلك النظم ، وعليه استقر رأينا في تسميته بـ : " شرح التبصرة والتذكرة " ، والله أعلم .
المبحث الثالث
تاريخ إكمال الشرح :
أشار الحافظ العراقي إلى تاريخ إكماله لشرحه هذا ، وذلك في ختامه فقال : (( وكَمُل هذا الشرح عليها في يوم السبت التاسع والعشرين ، في شهر رمضان المعظم قدره ، سنة إحدى وسبعين وسبعمائة ، بالخانقاه الطشتمرية خارج القاهرة المحروسة )) .
الفصل الثاني
وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق
اعتمدنا في تحقيقنا على نسخ لمتن الألفية ونسخ للشرح ، لذا سنجعل لكل منهما قسماً :
القسم الأول : نسخ المتن ، اعتمدنا على ثلاث نسخ خطية فيما يأتي وصفها :
1- النسخة الأولى : وهي النسخة المحفوظة في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد –حرسها الله– تحت الرقم ( 8 / 2899 مجاميع ) ، تقع في ( 48 ) ورقة خطها نسخي جميل واضح ومشكول ، وهي حديثة العهد ، إذ نسخت في سنة 1208 ه . ورمزنا لها ( أ ) .
2- النسخة الثانية ، وهي النسخة المحفوظة في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد تحت الرقم ( 2818 ) تقع في ( 55 ) ورقة ، كتبت بخط نسخ واضح ومشكول تظهر عليها آثار المقابلة ، وعلى حواشيها نقولات عدة عن شرح العراقي ، وشرح زكريا الأنصاري ، ونكت البقاعي ، كتبها محمد أمين بن أحمد أفندي المدرس ، وانتهى منها في سنة 1244ه ، وعلى طرتها بعض التملكات وصورة وقفيتها ، ورمزنا لها بالرمز ( ب ) .
3- النسخة الثالثة : تقع ضمن مجموع محفوظ في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد تحت الرقم ( 1 / 2955 مجاميع ) تقع في ( 52 ) ورقة ، وخطها نسخي جميل واضح جداً ومشكول ، وهي أقدم هذه النسخ إذ كتبت في سنة 1118 ه على يد رجل لم يدون سوى اسمه : عبد الغفور ، وعلى طرتها تظهر صورة وقفيتها على المدرسة الأمينية ، ورمزنا لها بالرمز ( جـ ) .
القسم الثاني : نسخ الشرح ، اعتمدنا فيها على أربع نسخ هي :
1- النسخة الأولى : وهي النسخة المحفوظة في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد – حرسها الله - تحت الرقم ( 2951 ) تقع في ( 166 ) ورقة ، خطها نسخي واضح جداً ، على حواشيها آثار المقابلة ، وعليها نقولات من بعض الشروح وتوضيحات ، وهي نسخة قليلة الخطأ والسقط ، أهمل ناسخها كتابة اسمه ، وتاريخ النسخ ، ولم يدون سوى اليوم فقال : (( وقع الفراغ من نسخ هذا الكتاب المبارك نهار الخميس )) ، وعلى طرتها ختم الوقفية على المدرسة الأمينية ، ورمزنا لها بالرمز ( ص ) .
2- النسخة الثانية : نسخة مكتبة أوقاف بغداد تحت الرقم ( 2490 ) تقع في ( 217 ) ورقة ، كتبت بخط نسخ جميل واضح مقروء ، وهي مشكولة في الغالب قليلة الخطأ ، وقد تغير خطها في بعض الصفحات الأخيرة ، وتظهر فيها آثار المقابلة ، إذ قوبلت على نسخة العلاّمة عبد الرحمن العمادي ، ونسخة العلاّمة محمد بن هلال الحلبي ، وقرئت على العلاّمة محمد بن عمر السفيري في سنة 949 ه ، فهي إذن مكتوبة قبل هذا التاريخ ، وناسخها محمد بن الحاج يحيى بن الشيخ عبيد الشافعي الحلبي ، وعلى طرتها تملكات ووقفيات على المدرسة العلية ، ورمزنا لها بالرمز ( ن ) .
3- النسخة الثالثة : نسخة تحتضنها مكتبة الأوقاف العامة في بغداد برقم ( 2889 ) تقع في ( 256 ) ورقة ، خطها نسخي واضح ومقروءة ، وهي مشكولة مقابلة ، في بعض حواشيها نقولات ، وهي قليلة الخطأ ولا يكاد يوجد سقط فيها ، نسخت سنة 830 ه ولا يعلم اسم ناسخها ، وهي مقروءة من قبل الشيخ محمد ناصر الدين القادري الشافعي، وفي آخرها وقفية والي بغداد سليمان باشا على مدرسته ، ورمزنا لها بالرمز ( ق ) .
4- النسخة الرابعة : نسخة محفوظة في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد برقم ( 3318 ) تقع في ( 170 ) ورقة ، خطها نسخي جميل واضح ومقروء ، شكل ناسخها أبيات الألفية فقط ، وفي بعض المواطن من حواشيها نقولات ، وهي نسخة كثيرة الخطأ ، سقيمة الضبط ، ولم نعلم اسم ناسخها ، أو تاريخ نسخها ، إلاّ أن في طرتها والصفحة التي تليها تملكات ووقفيات أقدمها وقفية والي بغداد سليمان باشا على المدرسة العلية سنة 1223 ه ، وقد رمزنا لها بالرمز ( س ) .
الفصل الثالث
منهج التحقيق
يمكننا أن نلخص منهج التحقيق الذي سرنا عليه والتزمناه في تحقيقنا لشرح التبصرة والتذكرة في ما يأتي :
1- لم نتخذ واحدة من النسخ أصلاً في تحقيقنا هنا ، فإن هذا عمل قد يحتاج إليه في كتاب قد لا تتوافر منه إلا نسخة أو نسختان في العالم ، أمّا مع كتاب يوجد منه في داخل العراق فقط ثماني عشرة نسخة خطية ، فهذا أمر شبه المتعذر .
2- حاولنا ضبط النص – قدر المستطاع – سواء الألفية أو شرحها ، مستعينين بما نثق به من الكتب المطبوعة ، مثل : النفائس ، وفتح المغيث ، وشرح السيوطي ، وطبعات الكتاب السابقة ، مع مراجعة المصادر المباشرة للمؤلف، ككتب المتون والأسانيد ، وكتب الرجال على اختلاف ألوانها .
3- خرجنا الآيات الكريمات من مواطنها في المصحف ، مع الإشارة إلى اسم السورة ورقم الآية .
4- خرجنا الأحاديث النبوية الكريمة تخريجاً مستوعباً حسب الطاقة ، وأجملنا التخريج عَلَى الصَّحَابِيّ ، وبينا ما فيها من نكت حديثية ، ونبّهنا على مواطن الضعف ، وكوامن العلل مستعينين بما ألّفه الأئمة الأعلام جهابذة الحديث ونقّاد الأثر في هذا المجال .
5- خرّجنا الأبيات الشعرية التي استشهد بها المصنف من دواوين القائلين أو أقدم مصدر ذكرها .
6- خرّجنا أكثر نقولاته عن العلماء وذلك بعزوها إلى كتبهم .
7- تتبّعنا المصنف فيما يورده من المذاهب سواء أكانت لغوية أم فقهية أم غيرها ؟ ووثّقناها من المصادر التي تعنى بتلك العلوم .
8- لم يكن من وكدنا أن نترجم للأعلام الذين يذكرهم الشارح رغم فائدتها التي لا تخفى ، مقدمين دفع مفسدة تضخم الكتاب ، على مصلحة التعريف بهؤلاء الأعلام ، على أن الكتاب لا يخلو من التعريف ببعضهم .
9- قدّمنا للكتاب بدراسة نراها حسب اعتقادنا كافية كمدخل إليه .
10- لم نألوا جهداً في تقديم أي عمل يخدم الكتاب ، وهذا يتجلى في الفهارس المتنوعة التي ألحقناها بالكتاب ، بغية توفير الوقت والجهد على الباحث .
11- قمنا بشكل الألفية وشرحها ، شكلاً متوسطاً ، على حسب ما يقتضيه المقام .
12- علّقنا على المواطن التي نعتقد أنها بحاجة إلى مزيد إيضاح وبيان .
13- ذيّلنا الشرح بالمهم من نكت البقاعي والزركشي وشرح السيوطي وغيرها ، ممّا أغنى الكتاب وتمّم مقاصده .
وبعد هذا كلّه ، فلسنا من الذين يدّعون الكمال لأنفسهم أو أعمالهم ، وليتذكر من يقف على هفوة أو شطحة قلم أن يقدّم النظر بعين الرضا على الانتقاد بعين السخط ، وليضع قول الإمام الشافعي - رحمه الله – نصب عينيه إذ يقول :
وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيْلَةٌ
ولَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي المَسَاويَا
سبحان ربك ربّ العزة عمّا يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله ربّ العالمين .
المحقّقان
صبيحة يوم الجمعة 19 / محرّم / 1422 ه
13 / نيسان / 2001 م
العراق / الأنبار / الرمادي / حي التقدُّم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحمدُ للهِ الذي قَبِلَ بصحيحِ النيّةِ حسنَ العملِ ، وحَملَ الضعيفَ المنقطِعَ على مراسيلِ لُطفِهِ فاتّصلَ ، ورفعَ مَنْ أسندَ في بابهِ ، ووقفَ مَنْ شَذَّ عنْ جنابهِ وانفصلَ ، ووصلَ مقاطيعَ حُبِّهِ ، وأدرجَهُمْ في سلسلةِ حزبهِ ؛ فسكنَتْ نفوسُهُم عن الاضطرابِ والعِللِ ، فموضوعُهُم لا يكونُ محمولاً ، ومقلوبُهُم لا يكونُ مقبُولاً ولا يُحْتَمَلُ .
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَه ، الفردُ في الأزلِ . وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ، أرسلَهُ والدينُ غريبٌ فأصبحَ عزيزاً مشهوراً واكتملَ ، وأوضحَ به معضلاتِ الأُمورِ ، وأزالَ به منكراتِ الدُّهُورِ الأُوَلِ ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلمَ ما علا الإسنادُ ونزَلَ ، وطلعَ نجمٌ وأفلَ .
وبعدُ : فعلمُ الحديثِ خطيرٌ وَقْعُهُ ، كثيرٌ نفعُهُ ، عليه مدارُ أكثرِ الأحكامِ ، وبه يُعْرَفُ الحلالُ والحرامُ ، ولأهلهِ اصطلاحٌ لابدَّ للطالبِ منْ فَهْمِهِ فلهذا نُدِبَ إلى تقديمِ العنايةِ بكتابٍ في علمِهِ . وكنتُ نظمْتُ فيهِ أُرجوزةً أَلَّفْتُهَا ، ولبيانِ اصطلاحِهمُ أَلَّفْتُهُاْ ، وشرعْتُ في شرحٍ لها ، بسطتُهُ وأوضحتُه ، ثم رأيتُه كبيرَ الحجمِ فاستطَلتُهُ ومَلِلتُه ، ثم شرعْتُ في شرحٍ لها متوسطٍ غيرِ مُفْرِطٍ ولا مُفَرِّطٍ ، يُوضِحُ مُشْكِلَهَا ، ويفتحُ مُقْفَلَها ، ما كَثُرَ فأَمَلَّ ، ولا قَصُرَ فأَخَلَّ ، مَعَ فوائدَ لا يستغني عنها الطالبُ النبيهُ ، وفرائدَ لا توجدُ مجتمعةً إلا فيهِ، جعلَهُ اللهُ تعالى خالصاً لوجهِهِ الكريمِ، ووسيلةً إلى جنات النعيمِ .
1.
يَقُوْلُ رَاجِي رَبِّهِ المُقْتَدِرِ
عَبْدُ الرَّحيمِ بنُ الحُسَيْنِ الأَثَريْ
2.
مِنْ بَعْدِ حَمْدِ اللهِ ذِي الآلاءِ
عَلَى امْتِنَانٍ جَلَّ عَنْ إحْصَاءِ
3.
ثُمَّ صَلاَةٍ وسَلامٍ دَائِمِ
عَلَى نَبِيِّ الخَيْرِ ذِي المَرَاحِمِ
4.
فَهَـذِهِ المَقَاصِدُ المُهِمَّهْ
تُوْضِحُ مِنْ عِلْمِ الحدِيْثِ رَسْمَهْ
( الأَثَرِيُّ ) – بفتحِ الهمزةِ والثاءِ المثلثةِ – : نسبةٌ إلى الأَثَرِ ، وهو الحديثُ واشتهرَ بها الحسينُ بنُ عبدِ الملكِ الخلاَّلُ الأثريُّ ، وعبدُ الكريمِ بنُ منصورٍ الأثريُّ ، في آخرينَ .
( والآلاءُ ) : النِّعَمُ ، واحدُها أَلاً بالفتحِ والتنوينِ كَرَحًى ، وقيلَ : بالكسرِ كمِعًى ، وقيلَ : بالكسـرِ وسكونِ اللامِ والتنوينِ كَنِحْـىً ، وقيلَ : بالفتحِ وتركِ التنوينِ كقَفَى . ( والمراحمُ ) : جمعُ مَرْحَمَةٍ ، وهي الرحمةُ . وفي صحيحِ مسلمٍ : (( أنا نبيُّ المَرْحَمْةِ )) ، وفي روايةٍ : الرحمة ، وفي روايةٍ : الملحَمْةِ .
والمرادُ برسْمِ الحديثِ : آثارُ أهلِهِ التي بَنَوا عليها أصولَهُم . والرسمُ في اللغةِ : الأثرُ ، ومنهُ رسمُ الدارِ ، وهو ما كان مِنْ آثارها لاصقـاً بالأرض ، وعَبَّرَ بالرسمِ هنا إشارةً إلى دُرُوْسِ كثيرٍ مِنْ هذا العلمِ ، وإنَّهُ بقيتْ منهُ آثارٌ يُهْتَدَى بها ، ويُبْنَى عليها.
5.
نَظَمْتُهَا تَبْصِرَةً لِلمُبتَدِيْ
تَذْكِرَةً لِلْمُنْتَهِيْ وَالْمُسْنِدِ
6.
لَخَّصْتُ فيهَا ابْنَ الصَّلاحِ أَجْمَعَهْ
وَزِدْتُهَا عِلْماً تَرَاهُ مَوْضِعَهْ
( المسنِدُ ): بكسرِ النونِ فاعلُ أسندَ الحديثَ ، أي : رواهُ بإسنادِهِ . وأَما عبدُ اللهِ ابنُ محمدِ المُسْنَدي ، فهو – بفتحهَا – أحدُ شيوخِ البخاريِّ .
وقولهُ : ( لخصتُ فيها ابنَ الصلاحِ ) ، أي : كتابَ ابنِ الصَّلاحِ . والمرادُ مسائلُهُ وأقسامُهُ دونَ كثيرٍ من أمثلتِهِ وتعاليلِهِ ونسبةِ أقوالٍ لقائليها وما تكررَ فيهِ .
وقولُه : ( وزدتُها علماً ) : اعْلَمْ أَنَّ ما زدتُهُ فيها على ابنِ الصلاحِ أكثرُهُ مَيَّزْتُ أولَهُ بقولي : " قلت " ولم أميّزْ آخرَه ، بل قدْ يتميزُ بالواقعِ إِنْ كانَ آخرَ مسألةٍ في تلكَ الترجمةِ المترجَمِ عليها ، وأميزُ ما لمْ يقعْ آخرَ الترجمةِ في هذا الشرحِ إِنْ شاءَ اللهُ تعالى . ومِنَ الزياداتِ ما لم أميزْ أولَهُ بقولي : قلتُ . إذْ هو مُمَيَّزٌ بنفسِهِ عند مَنْ لَهُ معرفةٌ ؛ بأَنْ يكونَ حكايةً عَمَّنْ هو متأخّرٌ عن ابن الصلاح كالنـوويِّ ، وابنِ دقيـقِ العيدِ ، وابن رُشَيدٍ ، وابنِ سَيِّدِ الناسِ كما ستراهُ . وكذلك إذا تُعقّبَ كلامُ ابنِ الصلاحِ بِرَدٍّ أو إيضاحٍ له ، فهو واضحٌ في أنّهُ مِنَ الزياداتِ ، وكذلك إذا تُعقبَ كلامُ مَنْ هو متأخرٌ عن ابنِ الصلاحِ بطريقٍ أولى . ومن الزياداتِ ما لَمْ أُميّزْ أولَها ولا تميزَتْ بنفسِها بما تقدمَ ؛ فأميزُهَا في الشرحِ ، وهي مواضعُ يسيرةٌ رأيتُ أنْ أجمعَهَا هنا لتُعْرَفَ .
فمنها في آخرِ البابِ الأولِ قولُه : ( ولُمْ منْ عَمَّمَهُ ) .
ومنها: في التدليسِ النقلُ عن الأكثرينَ أنّهمُ قبلوا ما صرحَ ثقاتُ المدلّسينَ بوصلِهِ .
ومنها : قولي في آخرِ القسمِ الثالثِ من أقسامِ المجهولِ : ( وفيه نظرٌ ) .
ومنها : في مراتبِ التعديلِ ومراتبِ الجرحِ زيادةُ ألفاظٍ لم يذكرْهَا ابنُ الصلاحِ مَيَّزْتُها هناكَ في الترجمتينِ المذكورتينِ .
ومنها : قولي في صُوَرِ المناولةِ : ( وأعلاَها ) .
ومنها قولي : ( فيما إذا ناولَ واستّردَّ عند المحقِّقين ) .
ومنها في آخر المناولةِ قولي : ( يُفيدُ حيثُ وقعَ التَّبيُّنُ ) .
ومنها قولي في كتابةِ الحديثِ : ( وكَتْبِ السَّهْمِي ) .
ومنها : تقطيعُ حروفِ الكلمةِ المُشْكِلَةِ في هامشِ الكتابِ .
ومنها : استثناءُ الحاءِ مما يُنَقَّطُ أسفلَ من الحروفِ المُهْمَلَةِ .
ومنها : بيانُ أَنَّ مُسْنَدَ يعقوبَ بنِ شيبةَ ما كَمُلَ .
ومنها : ذكرُ العسكريِّ فيمَنْ صَنَّفَ في التصحيفِ .
ومنها : - في المُؤتَلِفِ والمُختَلِفِ - استثناءُ الحِزامي الذي أُبْهِمَ اسمُهُ ، فإنَّ فيه الخلافَ في الراءِ والزاي .
7.
فَحَيْثُ جَاءَ الفِعْلُ والضَّميْرُ
لِـواحِدٍ وَمَـنْ لَـهُ مَسْتُـوْرُ
8.
كَ(قَالَ)أوْ أَطْلَقْتُ لَفْظَ الشَّيْخِ مَا
أُرِيْـدُ إلاَّ ابْنَ الصَّـلاحِ مُبْهَمـا
هذا بيانُ ما اصطلَحْتُ عليهِ للاختصارِ ، أي : إذا أتى فعلٌ لواحدٍ لا لجماعةٍ ، أو اثنينِ ، ولم يُذْكَرْ فاعلُهُ معهُ . ولا قبلهُ ؛ فالمرادُ بفاعلِهِ الشيخُ أبو عَمْرو ابنُ الصلاحِ . كقولِه : وقالَ : ( بانَ لي بإمعانِ النظرِ ) . وكذا إذا أتى بضميرٍ موَحدٍ لا يعودُ على اسمٍ تقدم قَبلَهُ ؛ فالمرادُ به ابنُ الصلاحِ كقولهِ : كذا له وقيل ظَنَاً وَلَدَى . وكذا إذا أُطلِقَ الشيخُ فالمرادُ به ابنُ الصلاحِ ، كقولهِ : فالشيخُ فيما بعدُ قد حَقَّقَهُ . وقولُه: ( مُبْهَماً ) بالباءِ الموحّدةِ وفتحِ الهاءِ ، ويجوزُ كسرُهَا .
9.
وَإِنْ يَكُنْ لاثْنَيْنِ نَحْوُ (الْتَزَمَا)
فَمُسْلِمٌ مَعَ البُخَارِيِّ هُمَا
10.
وَاللهَ أرجُوْ في أُمُوْرِي كُلِّهَا
مُعْتَصِماً في صَعْبِهَا وَسَهْلِهَا
أي : وإِنْ يكن الفعلُ أو الضميرُ المذكورانِ لاثنينِ ، كقولهِ : ( واقطعْ بصحَّةٍ
لما قدْ أَسندَا ) ، وكقولهِ : ( وأَرْفَعُ الصحيحِ مَرْوِيُّهُمَا ) ، فالمرادُ بذلك : البخاريُّ ومسلمٌ . وقوله : ( معتصَماً ) بفتحِ الصادِ على التمييزِ ، ويجوزُ كسرُها على الحالِ .
أَقْسَامُ الحَدِيْثِ
11.
وَأَهْلُ هَذَا الشَّأْنِ قَسَّمُوا السُّنَنْ
إلى صَحِيْحٍ وَضَعِيْفٍ وَحَسَنْ
12.
فَالأَوَّلُ الْمُتَّصِلُ الإسْنَادِ
بِنَقْلِ عَدْلٍ ضَابِطِ الْفُؤَادِ
13.
عَنْ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَا شُذُوْذِ
وَعِلَّةٍ قَادِحَةٍ فَتُوْذِي
أي : وأهلُ الحديثِ . قال الخطَّابيُّ في " معالمِ السُّنَنِ " : (( اعلموا أَنَّ الحديثَ عندَ أهلِهِ على ثلاثةِ أقسامٍ : حديثٌ صحيحٌ ، وحديثٌ حسنٌ وحديثٌ سَقيْمٌ ؛ فالصحيحُ عندَهُم : ما اتّصلَ سندُهُ وعُدِّلَتْ نَقَلَتُهُ )) . فلمْ يشترطِ الخطَّابيُّ في الحدِّ ضَبْطَ الراوي ، ولا سلامَةَ الحديثِ من الشذوذِ والعلّةِ . ولا شكَ أَنَّ ضَبْطَ الراوي لابُدَّ منِ اشتراطِه ؛ لأنَّ مَنْ كَثُرَ الخطأُ في حديثِهِ ، وفَحُشَ ؛ استحقَ التْركَ ، وإنْ كانَ عدلاً .
وأما السلامةُ من الشذوذِ والعلةِ ، فقالَ الشيخُ تقيُّ الدينِ ابنُ دَقيقِ العيدِ في " الاقتراح " : (( إِنَّ أصحابَ الحديثِ زادوا ذلكَ في حدِّ الصحيحِ . قال : وفي هذينِ الشرطينِ نظرٌ على مقتضى نَظَرِ الفقهاءِ ، فإنَّ كثيراً من العِلَلِ التي يُعَلِّلُ بها المحدِّثونَ لا تجرِي على أُصولِ الفقهاءِ )) .
قلتُ : قد احترزْتُ بقولي: ( قادحةً )، عن العلةِ التي لا تقدحُ في صحّةِ الحديثِ . فقولي : ( المتّصلُ الإسنادِ ) ، احترازٌ عمّا لم يتصلْ وهو المنقطعُ ، والمرسلُ ، والمعضلُ ، وسيأتي إيضاحُها . وقولي : ( بنقلِ عدلٍ ) ، احترازٌ عما في سندِهِ مَنْ لم تُعْرَفْ عدالتُهُ ، إما بأنْ يكونَ عُرِفَ بالضعفِ أو جُهِلَ عيناً ، أو حالاً ، كما سيأتي في بيانِ المجهولِ . وقولي : ( ضابطٌ ) ، احترازٌ عمّا في سندِهِ راوٍ مغفّلٌ ، كثيرُ الخطأ ، وإِنْ عُرِفَ بالصدقِ والعدالةِ . وقولي : و ( غيرُ ما شذوذٍ وعلةٍ قادحةٍ ) ، احترازٌ عن الحديثِ الشاذِّ والمعللِ ، بعلةٍ قادحةٍ . وما : هنا مُقْحَمَةٌ . ولم يذكُرِ ابنُ الصلاحِ في نفسِ الحدِّ قادحةً ولكنه ذكرَهُ بعد سَطْرٍ فيما احْتَرَزَ عنه ، فقال : (( وما فيـهِ علةٌ قادحـةٌ )) . قالَ ابنُ الصلاحِ :
(( فهذا هو الحديثُ الذي يُحْكَمُ له بالصحةِ بلا خلافٍ بين أهلِ الحديث )) . وإنّما قَيَّدَ نفيَ الخلافِ بأهلِ الحديثِ ؛ لأنَّ بعضَ متأخّري المعتزلةِ يشترطُ العددَ في الروايةِ كالشهادةِ ، حكاهُ الحازميُّ في شروط الأئمة . قال ابنُ دقيقِ العيد : (( لو قِيْلَ : في هذا : الحديثُ الصحيحُ المجمعُ على صحتِهِ ، هو كذا وكذا إلى آخرِه لكانَ حسناً ؛ لأَنَّ مَنْ لا يشترطُ مثلَ هذهِ الشروطِ ، لا يحصُرُ الصحيحَ في هذه الأوصافِ . قال : ومِنْ شرطِ الحدِّ أَنْ يكونَ جامعاً مانعاً )) .
14.
وَبالصَّحِيْحِ وَالضَّعِيفِ قَصَدُوا
في ظَاهِرٍ لاَ الْقَطْعَ ، وَالْمُعْتَمَدُ
15.
إمْسَاكُنَا عَنْ حُكْمِنَا عَلى سَنَدْ
بِأَنَّهُ أَصَحُّ مُطْلَقاً ، وَقَدْ
16.
خَاضَ بهِ قَوْمٌ فَقِيْلَ مَالِكُ
عَنْ نَافِـعٍ بِمَا رَوَاهُ النَّاسِكُ
17.
مَوْلاَهُ وَاخْتَرْ حَيْثُ عَنْهُ يُسْنِدُ
الشَّافِعِيْ قُلْتُ : وعَنْهُ أَحْمَدُ
أي : حيثُ قال أهلُ الحديثِ : هذا حديثٌ صحيحٌ ، فمرادُهُم فيما ظهرَ لنا عملاً بظاهر الإسنادِ ، لا أَنَّهُ مقطوعٌ بصحتِهِ في نفسِ الأمرِ ، لجوازِ الخطأ والنسيانِ على الثقةِ ، هذا هو الصحيحُ الذي عليه أكثرُ أهلِ العلمِ ، خلافاً لِمَنْ قالَ : إنَّ خبرَ الواحدِ يوجبُ العلمَ الظاهرَ ، كحسين بن علي الكرابيسيِّ وغيرِهِ. وحكاه ابنُ الصباغِ في " العُدَّةِ " عن قومٍ مِنْ أصحابِ الحديثِ . قال القاضِي أبو بكرٍ الباقلانيّ : (( إنّهُ قولُ مَنْ لم يُحَصِّلْ علمَ هذا الباب )) ، انتهى . نعم … إنْ أخرجَهُ الشيخانِ أو أحدُهُما فاختارَ ابنُ الصلاحِ القطعَ بصحتِه، وخالفَهُ المحقّقونَ –كما سيأتي – وكذا قولُهم : هذا حديثٌ ضعيفٌ فمرادُهم أنه لم يظهَرْ لنا فيه شروطُ الصحةِ ، لا أنَّهُ كَذِبٌ في نفسِ الأمرِ ، لجوازِ صِدْقِ الكاذبِ ، وإصابةِ مَنْ هو كثيرُ الخطأ .
وقولُهُ : ( والمعتمدُ إمساكُنا عن حُكْمِنا ) إلى آخره. أي: القولُ المُعْتَمَدُ عليهِ ، المختارُ : أنَّهُ لا يُطْلَقُ على إسنادٍ معينٍ بأنَّهُ أصَحُّ الأسانيدِ مُطْلَقاً ؛ لأنَّ تَفَاوُتَ مراتبِ الصحةِ مترتبٌ عَلَى تَمَكُّنِ الإسنادِ مِن شروطِ الصحةِ ، ويعِزُّ وجودُ أعلى درجات القبولِ في كلِ فردٍ فردٍ من ترجمةٍ واحدةٍ بالنسبةِ لجميعِ الرواةِ . قالَ الحاكمُ في عُلومِ الحديثِ : (( لا يمكنُ أنْ يُقْطَعَ الحكمُ في أصحِّ الأسانيدِ لصحابيٍّ واحدٍ )) . وسنذكرُ تتمةَ كلامِهِ في آخرِ هذهِ الترجمةِ . قالَ ابنُ الصلاحِ : (( عَلَى أَنَّ جماعةً مِنْ أئمةِ الحديثِ خاضُوا غَمْرةَ ذلكَ فاضطربَتْ أقوالهُمْ )) . وقوله : ( فقِيلَ : مالكٌ ) ، أي : فقيلَ : أصحُّ الأسانيدِ ما رواهُ مالكٌ عَنْ نافعٍ عن ابن عمر ، وَهُوَ المرادُ بقولِهِ : (مولاهُ) أي : سَيِّدُهُ . وهذا هُوَ قولُ البخاريِّ . وقولُه : ( واختَرْ حيثُ عَنْهُ ) أيْ : عن مالكٍ ، ( يُسْنِدُ الشَّافعيُّ ) ، أي : فعلى هذا إذا زدْتَ في الترجمةِ واحداً فأصحُّ الأسانيدِ ما أسندهُ الشافعيُّ عن مالكٍ بها ، فقال الأستاذُ أبو منصورٍ عبدُ القاهرِ بن طاهرٍ التَّميميُّ : إنَّهُ أَجَلُّ الأسانيدِ ، لإجماعِ أصحابِ الحديثِ أنه لم يكنْ في الرواةِ عن مالكٍ أجلُّ مِنَ الشافعيِّ .
وقولُه : ( قلتُ وعنهُ ) ، أي : وعنِ الشافعيِّ أحمدُ بنُ حنبلٍ ، يريدُ وإنْ زِدْتَ في الترجمةِ آخرَ ، فأصحُّ الأسانيدِ ما رواه أحمدُ عنِ الشافعيِّ عنْ مالكٍ بها ، لاتفاقِ أهلِ الحديثِ على أَنَّ أجلَّ مَنْ أخذَ عن الشافعيِّ مِنْ أهلِ الحديثِ الإمامُ أحمدُ ، ووقعَ لنا بهذهِ الترجمةِ حديثٌ واحدٌ ، أخبرني به أبو عبدِ الله محمدُ بنُ إسماعيلَ ابنُ الخبّازِ، بقراءتي عليه بدمشقَ ، قال : أخبرنا المسلمُ بنُ مكيٍّ ح وأخبرني عليُّ بنُ أحمدَ العرضيُّ ، بقراءتي عليه بالقاهرة ، قال : أخبرتنا زينبُ بنتُ مكيٍّ ، قالا : أخبرنا حنبلٌ ، قال : أخبرنا هبةُ اللهِ بنُ محمدٍ ، قال : أخبرنا الحسنُ بنُ عليٍّ التميميُّ ، قال : أخبرنا أحمدُ بنُ جعفرِ بن حمدانَ ، قال : حدثنا عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ ، قال : حدثني أبي رحمهُ اللهُ ، قال : حدثنا محمدُ بنُ إدريسَ الشافعيُّ ، قال : أخبرنا مالكٌ ، عَنْ نافعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ رحمةُ اللهِ عليهِ ، أنَّ رسولَ اللهِ قالَ : (( لا يبِيعْ بعضُكُم على بَيعِ بعضٍ )) ، ونهى عنِ النَّجَشِ، ونهى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الحبَلَةِ ، ونهى عن المُزَابَنَةِ ، والمزابنةُ: بيعُ الثمرِ بالتمرِ كيلاً ، وبيعُ الكَرْمِ بالزَّبيبِ كيلاً . أخرجَهُ البخاريُّ مُفرَّقاً مِنْ حديثِ مالكٍ .
18.
وَجَزَم ابْنُ حَنْبَلٍ بالزُّهْرِي
عَنْ سَالِمٍ أَيْ : عَنْ أَبِيْهِ البَرِّ
أي : وذهبَ أحمدُ بنُ حنبلٍ ، وكذلك إسحاقُ بنُ راهويه إلى أَنَّ أصحَّ الأسانيدِ ما رواهُ أبو بكرٍ محمدُ بنُ مسلمِ بنِ عُبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ شهابٍ الزهريُّ عنْ سالمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ عن أبيهِ .
19.
وَقِيْلَ : زَيْنُ العَابِدِيْنَ عَنْ أَبِهْ
عَنْ جَدِّهِ وَابْنُ شِهَابٍ عَنْهُ بِهْ
أي: وقيل: أصحُّ الأسانيدِ ما رواهُ ابنُ شهابٍ المذكورُ عن زَيْنِ العابدينَ وهو عليُّ ابنُ الحسينِ ، عن أبيهِ الحُسينِ ، عَنْ جَدِّهِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ ، وهو قولُ عبدِ الرزاقِ ، ورُوِيَ أيضاً عَنْ أبي بكرِ بنِ أبي شيبةَ .
فقوله : ( وابنُ شهابٍ عنهُ بهِ ) ، أي : عَنْ زينِ العابدينَ بالحديثِ . وابنُ : مرفوعٌ على الابتداءِ ، والواوُ : للحالِ ، أي : في حالِ كونِ ابنِ شهابٍ راوياً للحديثِ عنهُ .
20 .
أَوْ فَابْنُ سِيْريْنَ عَـنِ السَّلْمَاني
عَنْهُ أوِ الأعْمَشُ عَنْ ذي الشَّانِ
21 .
النَّخَعِـيْ عَنِ ابْنِ قَيْسٍ عَلْقَمَهْ
عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ وَلُمْ مَـنْ عَمَّمَهْ
أَوْ : هنا في الموضعينِ ليستْ للتخييرِ ، ولا للشكِّ ؛ ولكنها لتنويعِ الخلافِ ، والضميرُ في ( عنهُ ) عائدٌ إلى قولِهِ في البيتِ الذي قبلَهُ ( جَدِّهِ )، يريدُ عليَّ بنَ أبي طالبٍ، أي : وقيلَ : أصحُّ الأسانيدِ ما رواهُ محمدُ بنُ سيرينَ ، عَنْ عَبيدَةَ السَّلْمانيِّ ، عن عَليٍّ ، وهو قولُ عَمْرِو بنِ عليٍّ الفلاّسِ، وعليِّ بنِ المدينيِّ وسليمانَ بنِ حربٍ إلا أَنَّ ابنَ المديني قال: (( أجودُها : عبدُ اللهِ بنُ عَوْنٍ، عن ابنِ سيرينَ، عن عَبيدَةَ عَنْ عليٍّ )) . وقالَ سليمانُ بنُ حربٍ : (( أصحُّهَا : أيوبُ عَنِ ابنِ سيرينَ عَنْ عَبيدةَ عنْ عليٍّ )) وقيل: أصحُّ الأسانيدِ ما رواهُ سليمانُ بنُ مِهْرانَ الأعمشُ ، عن إبراهيمَ بنِ يزيدَ النَّخَعيِّ ، عَنْ علقمةَ بنِ قيسٍ ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ ، وهو قولُ يحيى بنِ مَعينٍ . وهذهِ جملةُ الأقوالِ التي حكاها ابنُ الصلاحِ . وفي المسألةِ أقوالٌ أُخَرُ ذكرتُها في " الشرحِ الكبيرِ " ، وفيه فوائدُ مهمةٌ لا يستغني عنها طالبُ الحديثِ .
وقولُهُ : ( وَلُمْ مَنْ عَمَّمَه ) . أي : وَلُم مَنْ عَمَّمَ الحكمَ في أصحِّ الأسانيدِ في ترجمةٍ لصحابيٍّ واحدٍ ، بلْ ينبغي أنْ تُقَيَّدَ كلُّ ترجمةٍ منها بِصحابيها . قالَ الحاكمُ : (( لا يمكنُ أنْ يُقْطَعَ الحكمُ في أصحِّ الأسانيدِ لصحابيٍّ واحدٍ فنقولُ وباللهِ التوفيقُ : إِنَّ أصحَّ أسانيدِ أهلِ البيتِ : جعفرُ بنُ محمدٍ عن أبيهِ عن جَدِّه ، عَنْ عَليٍّ ، إذا كانَ الراوي عن جعفرٍ ثِقَةً . وأصحُّ أسانيدِ الصِّدِّيقِ : إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ ، عن قَيْسِ بنِ أبي حازمٍ ، عنْ أبي بكرٍ . وأصحُّ أسانيدِ عُمَرَ : الزهريُّ ، عن سالمٍ ، عن أبيهِ عن جَدِّهِ. وأصحُّ أسانيدِ أبي هُريرةَ : الزهريُّ ، عَنْ سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ ، عَنْ أبي هُريرةَ . وأصحُّ أسانيدِ ابنِ عُمَرَ : مالكٌ ، عن نافعٍ ، عن ابنِ عُمَرَ . وأصحُّ أسانيدِ عائشةَ : عُبَيْدُ اللهِ ابنُ عُمَرَ عَنِ القاسمِ، عَنْ عائشةَ. وقالَ يحيى بنُ معينٍ: هذهِ تَرْجَمةٌ مشبّكةٌ بالذَّهبِ. وأصحُّ أسانيدِ ابنِ مسعودٍ : سفيانُ الثوريُّ ، عَنْ منصورٍ ، عَنْ إبراهيمَ ، عَنْ علقمةَ ، عَنِ ابنِ مسعودٍ . وأصحُّ أسانيدِ أنسٍ : مالكٌ ، عن الزهريِّ ، عَنْ أَنَسٍ . وأصحُّ أسانيدِ المكيِّيْنَ : سفيانُ بنُ عُيينةَ ، عَنْ عَمْرِو بنِ دينارٍ ، عَنْ جابرٍ . وأصحُّ أسانيدِ اليمانيِّين : مَعْمَرٌ ، عن هَمّامٍ ، عَنْ أبي هُريرةَ . وأثبتُ أسانيدِ المِصْرِّيْينَ : اللّيْثُ عن يزيدَ بنِ أبي حَبيبٍ ، عَنْ أبي الخيرِ ، عنْ عُقْبَةَ بنِ عامرٍ . وأثبتُ أسانيدِ الشاميِّينَ : الأوزاعيُّ ، عنْ حَسّانَ بنِ عَطيَّةَ ، عن الصَّحابةِ .
وأثبتُ أسـانيدِ الخُراسـانِيِّيْنَ : الحسينُ بنُ واقـدٍ ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ
بُريدَةَ ، عَنْ أبيهِ .
أصحُّ كُتُبِ الحديثِ
22.
أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ في الصَّحِيْحِ
مُحَمَّدٌ وَخُصَّ بِالتّرْجِيْحِ
23.
وَمُسْلِمٌ بَعْدُ ، وَبَعْضُ الغَرْبِ مَعْ
أَبِي عَلِيٍّ فَضَّلُوا ذَا لَوْ نَفَعْ
أي : أَوَّلُ مَنْ صنّفَ في جمعِ الصحيحِ : محمدُ بنُ إسماعيلَ البخاريُّ وكتابُه أصحُّ مِنْ كتابِ مسلمٍ عند الجمهورِ ، وهو الصحيحُ . وقالَ النوويُّ : (( إنَّهُ الصوابُ )) . والمرادُ ما أسندَهُ دون التعليقِ والتراجمِ .
وقولُه : ( ومسلمٌ بعدُ ) ، أي : بعدَ البخاريِّ في الوجودِ والصحةِ . وقوله :
( بعضُ الغربِ ) ، أي : بعضُ أهلِ الغَرْبِ على حذفِ المضافِ ، أي : وذهبَ بعضُ المغاربةِ ، والحافظُ أبو عليٍّ الحسينُ بنُ عليٍّ النيسابوريُّ شيخُ الحاكمِ إلى تَفْضيلِ مسلمٍ على البخاريِّ ، فقالَ أبو عليٍّ : (( ما تحتَ أديمِ السماءِ أصحُّ مِنْ كتابِ مسلمٍ في علمِ الحديثِ )) . وحكى القاضي عياضٌ عَنْ أبي مروانَ الطُّبْنيِّ ، قال : (( كانَ مِنْ شيوخِيْ مَنْ يُفَضِّلُ كتابَ مسلمٍ عَنْ كتابِ البخاريِّ )) . قالَ ابنُ الصَّلاحِ :
(( فهذا إنْ كان المرادُ بِهِ : أَنَّ كتابَ مُسلمٍ يترجحُ بأَنّهُ لَم يُمازِجْهُ غيرُ الصحيحِ ، فهذا لا بأس به ، وإنْ كانَ المرادُ به : أنَّ كتابَ مُسلمٍ أصحُّ صحيحاً ، فهذا مردودٌ على مَنْ
يقولُه )) . انتهى . وعلى كلِّ حالٍ فكتاباهُمَا أصحُّ كُتُبِ الحديثِ .
وأمَّا قولُ الشافعيِّ : (( ما على وَجْهِ الأرضِ بعدَ كتابِ اللهِ أصحُّ مِنْ كِتابِ
مالكٍ )) ، فذاكَ قَبْلَ وجودِ الكتابَيْنِ .
وقولُهُ : ( لو نَفَع ) : يريدُ لو نَفَعَ قولُ من فَضَّلَ مسلماً على البخاريِّ ، فإنه لم يُقْبَلْ مِنْ قائِلِهِ . وقولُهُ : ( في الصحيحِ ) ، متعلقٌ بِصَنَّفَ . وأما أولُ مَنْ صَنَّفَ مطلقاً لا بقيدِ جَمْعِ الصحيحِ ، فقدْ بينتُهُ في " الشرحِ الكبيرِ " .
24.
وَلَمْ يَعُمَّاهُ ولكن قَلَّمَا
عِنْدَ ابْنِ الاخْرَمْ مِنْهُ قَدْ فَاتَهُمَا
25.
وَرُدَّ لكن قَالَ يَحيَى البَـرُّ
لَـمْ يَفُتِ الخَمسَةَ إلاَّ النَّـزْرُ
أي : لَمْ يَعُمَّ البخاريُّ ومسلمٌ كلَّ الصحيحَ ، يريدُ: لَمْ يستوعباهُ في كتابَيْهِمَا ، ولم يلتزما ذلك . وإلزامُ الدارقطنيِّ ، وغيرهِ إياهُما بأحاديثَ ليس بلازمٍ . قال الحاكمُ في خُطْبَةِ المستدركِ : (( ولم يَحْكُمَا ولا واحدٌ منهُما أنَّهُ لم يَصِحَّ منَ الحديثِ غيرُ ما خرَّجَه )) . انتهى .
قالَ البخاريُّ : (( ما أدخلْتُ في كتابي الجامعِ إلا ما صحَّ ، وتركتُ من الصِّحَاح لحالِ الطولِ )) . وقالَ مسلمٌ : (( ليسَ كُلُّ صحيح وضعتُهُ هنا إنّما وضعتُ هنا ما أجمعُوا عليه )) . يريدُ : ما وَجَدَ عندَهُ فيها شرائطَ الصحيحِ المُجمَعِ عليهِ وإنْ لم يظهرِ اجتماعُها في بعضِها عند بعضِهم . قاله ابنُ الصلاحِ .
وقولُهُ : ( ولكن قَلَّمَا عندَ ابنِ الاخرمْ منه ) ، أي : من الصحيحِ . يريدُ أَنَّ الحافظَ أبا عبدِ الله محمدَ بنَ يعقوبَ بنِ الأخرمِ شيخَ الحاكمِ ذكرَ كلاماً معناه : قلَّمَا يفوتُ البخاريَّ ومسلماً مما يَثْبت مِنَ الحديثِ . قالَ ابنُ الصلاحِ : (( يعني : في كتابَيْهِمَا )). ويحيى هو الشيخُ محيي الدينِ النوويُّ، فقالَ في " التقريبِ والتيسيرِ " : (( والصوابُ أَنَّهُ لم يَفُتِ الأُصولَ الخمسةَ إلاَّ اليسيرُ ، أعني الصَّحيحينِ وسنَنَ أبي داودَ والترمذيَّ والنسائيَّ )) .
26.
وَفيهِ مَا فِيْهِ لِقَوْلِ الجُعْفِي
أَحْفَظُ مِنْهُ عُشْرَ أَلفِ أَلْفِ
27.
وَعَلَّهُ أَرَادَ بِالتَّكرَارِ
لَهَا وَمَوْقُوْفٍ وفي البُخَارِي
28.
أَرْبَعَةُ الآلافِ والمُكَرَّرُ
فَوْقَ ثَلاثَةٍ أُلُوْفاً ذَكَرُوا
أي : وفي كلامِ النوويِّ ما فيهِ لقولِ الجُعْفِي – وهو البخاريُّ -: أحفظُ مائةَ ألفِ حديثٍ صحيحٍ . فقوله : ( منه ) ، أي : مِنَ الصحيحِ . وقولُهُ : ( وعَلَّهُ ) أي : ولعلَّ البخاريَّ أرادَ – بالأحاديثِ – المكرَّرَةَ الأَسانيدِ والموقوفاتِ . فقولُهُ : (وموقوفٍ) معطوفٌ على قولِه : ( بالتكرارِ ) . قال ابن الصلاحِ بَعْدَ حكايةِ كلامِ البخاريِّ : (( إلا أَنَّ هذه العبارةَ قَدْ يندرجُ تحتَها عندَهُم آثَارُ الصحابةِ والتابعينَ .
– قال – : وَربُّما عُدَّ الحديثُ الواحدُ المرويُّ بإسنادَيْنِ حديثَيْنِ )) .
وقولُهُ : ( وفي البخاريِّ … ) إلى آخره ، فيه بيانُ عددِ أحاديثِ صحيحِ البخاريِّ، وهي - بإسقاطِ المُكَرَّرِ - أَربعةُ آلافِ حديثٍ على ما قيلَ. وبالمكررِ سبعةُ آلافٍ ومائتانِ وخمسةٌ وسبعونَ حديثاً . كذا جزمَ به ابنُ الصلاحِ ، وهو مُسَلَّمٌ في روايةِ الفِرَبْرِيّ .
وأما روايةُ حمّادِ بنِ شاكرٍ فهي دونَها بمائتي حديثٍ . ودون هذهِ بمائةِ حديثٍ روايةُ إبراهيمَ بنِ مَعْقلٍ . ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ عدةَ أحاديثِ مُسْلِمٍ قالَ النوويُّ : (( إِنَّهُ نحوُ أربعةِ آلافٍ بإسقاطِ المكرَّرِ )) .
الصَحيحُ الزَائدُ على الصَحيحَينِ
29.
وَخُذْ زِيَادَةَ الصَّحِيْحِ إذْ تُنَصّْ
صِحَّتُهُ أوْ مِنْ مُصَنِّفٍ يُخَصّْ
30.
بِجَمْعِهِ نَحوَ ( ابْنِ حِبَّانَ ) الزَّكِيْ
( وَابنِ خُزَيْمَةَ ) وَكَالمُسْتَدْرَكِ
لَمَّا تقدَّمَ أَنَّ البخاريَّ ومسلماً لم يستوعبا إخراجَ الصحيحِ ، فكأنَّهُ قيل : فمِنْ أينَ يُعرفُ الصحيحُ الزائدُ على ما فيهِما ؟ فقالَ : خُذْهُ إذ تُنَصُّ صحتُهُ أي : حيثُ يَنُصُّ على صحتِهِ إمامٌ معتمدٌ كأبي داودَ ، والترمذيِّ ، والنسائيِّ والدارقطنيِّ ، والخطّابيِّ ، والبيهقيِّ في مصنفاتِهِم المعتمدةِ . كذا قَيَّدَهُ ابنُ الصلاحِ بِمصنفاتِهِم ، ولم أقيّدْهُ بها ، بل إذا صحَّ الطريقُ إليهم أنَّهم صحّحُوهُ ولو في غيرِ مصنفاتِهم ، أو صحّحَهُ مَنْ لم يشتهرْ له تصنيفٌ من الأئمةِ كيحيى بنِ سعيدٍ القطّانِ ، وابنِ معينٍ ، ونحوِهما ، فالحكمُ كذلك على الصوابِ . وإنّما قيّدهُ ابنُ الصلاحِ بالمصنفاتِ ؛ لأنَّهُ ذهبَ إلى أنهُ ليس لأَحدٍ في هذهِ الأعصارِ ، أنْ يصححَ الأحاديثَ ، فلهذا لم يعتمدْ على صحةِ السند إلى من صحّحهُ في غيرِ تصنيفٍ مشهورٍ ، وسيأتي كلامُهُ في ذلك .
ويؤخذُ الصحيحُ أيضاً من المصنفاتِ المختصَّةِ بجمْعِ الصحيحِ فقط ، كصحيحِ أبي بكرٍ محمدِ بنِ إسحاقَ بنِ خزيمةَ ، وصحيحِ أبي حاتِمٍ محمدِ بن حبّان البُستيِّ ، المسمَّى بالتقاسيمِ والأنواعِ ، وكتابِ المستدرَكِ على الصحيحينِ لأبي عبدِ اللهِ الحاكمِ . وكذلك ما يوجدُ في المستخرجاتِ على الصحيحينِ من زيادةٍ أو تَتِمَّةٍ لمحذوفٍ ، فهو محكومٌ بصحتِهِ ، كما سيأتي في بابِهِ .
31 .
عَلى تَسَاهُلٍ – وَقَالَ : مَا انْفَرَدْ
بِـهِ فَذَاكَ حَسَنٌ مَا لَمْ يُـرَدّْ
32 .
بِعِلَّـةٍ ، وَالحـقُّ أنْ يُحْكَمْ بِمَا
يَليْقُ ،والبُسْتِيْ يُدَانِي الحَاكِما
أي : على تساهُلٍ في المستدركِ ، وإنّما قَيَّدَ تعلقَ الجارِ والمجرورِ بالمعطوفِ الأخيرِ ، لتكرارِ أداةِ التشبيهِ فيه . وقوله : ( وقال ) ، أي : وقالَ ابنُ الصلاحِ : ما انفردَ الحاكمُ بتصحيحهِ لا بتخريجِهِ فقط ، إنْ لم يكن من قبيلِ الصحيحِ فهو من قبيلِ الحسنِ ، يُحتجُّ به ، ويعملُ بهِ ، إلاَّ أنْ تظهرَ فيه علّةٌ توجِبُ ضعفَهُ .
وقولُهُ : ( والحقُ أنْ يُحْكَمْ بِما يليقُ ) ، هذا من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ وهو متميزٌ بنفسِهِ ؛ لكونِهِ اعتراضاً على كلامهِ. وتقريرُهُ: أنَّ الحكمَ عليه بالحسنِ فقط تَحَكُّمٌ ، فالحقُّ أنَّ ما انفردَ بتصحيحِهِ يُتَتَبَّعُ بالكشفِ عنه ويُحْكَمُ عليه بما يليـقُ بحالِهِ من الصحَّـةِ ، أو الحُسْـنِ ، أوِ الضَّعْـفِ .
ولكنَّ ابنَ الصلاحِ رأيهُ أنَّهُ ليسَ لأَحدٍ أنْ يصحّحَ في هذهِ الأعصارِ ، فلهذا قطعَ النظرَ عن الكشفِ عليهِ .
وقولُه : ( والبستيّ يدانِي الحاكما ) ، أي : وابنُ حبانَ البستيُّ يُقارِبُ الحاكمَ في التساهُلِ ، فالحاكمُ أشدُّ تساهُلاً . قالَ الحازميُّ : (( ابنُ حبانَ أمْكَنُ في الحديثِ من الحاكمِ )) .
الْمُسْتَخْرَجاتُ
33 .
وَاسْتَخْرَجُوا عَلى الصَّحِيْحِ ( كَأَبي
عَوَانَةٍ ) وَنَحْـوِهِ ، وَاجْتَنِبِ
34 .
عَـزْوَكَ ألفَـاظَ المُتُـونِ لَهُمَـا
إذْ خَالَفتْ لَفْظـاً وَمَعْنَـىً رُبَّمَا
المستَخْرَجُ : مَوْضُوعُهُ أنْ يأتيَ المصنِّفُ إلى كتابِ البخاريِّ ، أو مسلمٍ فيخَرِّجَ أحاديثَهُ بأسانيدَ لنفسِهِ من غيرِ طريقِ البخاريِّ ، أو مسلمٍ ، فيجتمعُ إسنادُ المصنِّفِ مع إسنادِ البخاريِّ ، أو مسلمٍ في شيخِهِ ، أو مَنْ فوقَهُ ، كالمستخرَجِ على صحيحِ البخاريِّ لأبي بكرٍ الإسماعيليِّ ، ولأبي بكرٍ البرقانيِّ ولأبي نُعيمٍ الأصبهانيِّ ، وكالمستخرَجِ عَلَى صحيحِ مسلمٍ لأبي عوانةَ ، ولأبي نُعيم أيضاً . والمستخرجونَ لم يلتزموا لفظَ واحدٍ من الصحيحينِ ، بَلْ رَوَوْهُ بالألفاظِ التي وَقعتْ لهم عن شيوخِهِم مع المخالفةِ لألفاظِ الصحيحينِ . وربّما وقعتِ المخالفة أيضاً في المعنى فلهذا قالَ : ( واجتنبْ عزوَكَ ألفاظَ المتونِ لهما ) ، أي : لا تَعْزُ ألفاظَ متونِ المستخرجاتِ للصحيحينِ ، فلا تقلْ : أخرجَهُ البخاريُّ أو مسلمٌ بهذا اللفظِ ، إلا إنْ علمتَ أنَّهُ في المستخرَجِ بلفظِ الصحيحِ ، بمقابلتِهِ عليه ، فلكَ ذلك . فقولُهُ : ( رُبَّما ) متعلّقٌ بمخالفةِ المعنى فقط ؛ لأنَّ مخالفةَ الألفاظِ كثيرةٌ ، كما تقدّم .
35.
وَمَا تَزِيْدُ فاحْكُمَنْ بِصِحَّتِهْ
فَهْوَ مَعَ العُلُوِّ مِنْ فَائِدَتِهْ
36.
وَالأَصْلَ يَعْني البَيْهَقيْ وَمَنْ عَزَا
وَلَيْتَ إذْ زَادَ الحُمَيدِيْ مَيَّزَا
أي : وما تزيدُ المستخرجاتُ ، أو ما يزيدُ المستخْرِجُ على الصحيحِ من ألفاظٍ زائدةٍ عليهِ مـن تتمةٍ لمحذوفٍ ، أو زيادةِ شـرحٍ في حديثٍ ، أو نحوِ ذلكَ ، فاحكُمْ بصحتِهِ ؛ لأنَّها خارجةٌ من مخرجِ الصحيحِ .
وقولُهُ : ( فَهُوَ مَعَ العلوِّ من فائدتِهِ ) ، هَذَا بيانٌ لفائدةِ المستخرَجِ . فمنها : زيادةُ الألفاظِ المذكورةِ ؛ لأنّها رُبَّما دلتْ على زيادةِ حُكمٍ . ومنها : علوُّ الإسنادِ ؛ لأنَّ مصنِّفَ المستخرَجِ لو رَوَى حديثاً مثلاً من طريقِ مسلمٍ ، لَوَقعَ أنزلَ من الطريقِ الذي رواهُ بهِ في المستخرَجِ . مثالُهُ : حديثٌ في مسندِ أبي داودَ الطيالسيِّ ، فلو رواهُ أبو نُعيم مثلاً من طريق مسلمٍ ، لكانَ بينَهُ وبينَ أبي داودَ أربعةُ رجالٍ ، شيخانِ بينه وبين مسلمٍ ، ومسلمٌ وشيخُهُ . وإذا رواهُ من غيرِ طريقِ مسلمٍ ، كان بين أبي نُعيمٍ ، وبين أبي داودَ رجلانِ فقط . فإنَّ أبا نُعيم سمعَ مُسْنَدَ أبي داود على ابنِ فارسٍ بسماعِهِ من يونُسَ بنِ حبيبٍ بسماعِهِ منه ، ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ للمستخرَجِ ، إلا هاتينِ الفائدتينِ . وأشرتُ إلى غيرهما بقولي : ( مِنْ فائِدَتِه ) . فمِنْ فوائدِهِ أيضاً : القوةُ بكثرةِ الطرقِ للترجيحِ عندَ المعارضةِ .
وقولُهُ : ( والأصلُ يعني البيهقيْ وَمن عَزا ) ، كأنَّهُ قيل : فهذا البيهقـيُّ في
" السننِ الكبـرى " ، " والمعرفـةِ " ، وغيرِهِما. والبغـويُّ فـي " شرح السنةِ " ، وغيرُ واحدٍ يروون الحديثَ بأسانيدِهم ، ثم يعزونَهُ إلى البخاريِّ ، أو مسلمٍ ، مع اختلافِ الألفاظِ ، أو المعاني ؟ والجوابُ : إنَّ البيهقيَّ وغيَرهُ ممَّنْ عزا الحديثَ لواحدٍ من الصحيحينِ ، إنّما يريدون أصلَ الحديثِ ، لا عزوَ ألفاظِهِ ، ( فالأصلَ ) : مفعولٌ مقدمٌ .
وقولُهُ : ( وليتَ إذ زادَ الحميديْ مَيَّزَا ) ، أي : إنَّ أبا عبدِ اللهِ الحميديَّ زادَ في كتابِ " الجمعِ بين الصحيحين " ألفاظاً ، وتتماتٍ ليستْ في واحدٍ منهُما من غيرِ تمييزٍ . قال ابنُ الصلاحِ : (( وذاكَ موجودٌ فيهِ كثيراً ، فربَّما نقلَ من لا يميزُ بعضَ ما يجدُهُ فيه عن الصحيحِ ، وهـو مخطئٌ ؛ لكونِهِ زيادةً ليست في الصحيح )) . انتهى .
فهذا مما أُنكرَ على الحميديِّ ؛ لأنَّهُ جمعَ بين كتابينِ، فمِنْ أين تأتي
الزيادةُ ؟
وأما " الجمعُ بين الصحيحينِ " لعبدِ الحقِّ ، وكذلك مختصراتُ البخاريِّ ومسلمٍ، فلك أنْ تنقلَ منها ، وتعزوَ ذاك للصحيحِ ولو باللفظِ ؛ لأنَّهم أتوا بألفاظِ الصحيحِ .
واعلمْ أنَّ الزيادات التي تقعُ في كتاب الحُميديِّ ليسَ لها حكمُ الصحيحِ ، خلافُ ما اقتضاهُ كلامُ ابنِ الصلاحِ ؛ لأنَّهُ ما رواها بسندِهِ كالمستخرَجِ ، ولا ذكرَ أنَّهُ يزيدُ ألفاظاً ، واشترطَ فيها الصحةَ حتى يُقَلَّدَ في ذلك ، فهذا هو الصوابُ .
مَرَاتِبُ الصَّحِيْحِ
37.
وَأَرْفَعُ الصَّحِيْحِ مَرْويُّهُمَا
ثُمَّ البُخَارِيُّ ، فَمُسْلِمٌ ، فَمَا
38.
شَرْطَهُمَا حَوَى ، فَشَرْطُ الجُعْفِي
فَمُسْلِمٌ ، فَشَرْطُ غَيْرٍ يَكْفِي
اعلمْ أنَّ درجاتِ الصحيحِ تتفاوتُ بِحَسَبِ تَمَكُّنِ الحديثِ من شروطِ الصحةِ ، وعدمِ تَمَكُّنِهِ . وإنَّ أصحَّ كُتبِ الحديثِ : البخاريُّ ثم مسلمٌ ، كما تقدمَ أنَّهُ الصحيحُ .
وعلى هذا : فالصحيحُ ينقسمُ إلى سبعةِ أقسامٍ :
أحدُها : -وهو أصحُّها- ما أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ ، وهو الذي يُعبِّرُ عنه أهلُ الحديثِ بقولهم : (( متفقٌ عليهِ )) .
والثاني : ما انفردَ به البخاريُّ .
والثالثُ : ما انفردَ به مسلمٌ .
والرابعُ : ما هو على شَرْطِهِما ولم يخرِّجْهُ واحدٌ منهُما .
والخامسُ : ما هو على شرطِ البخاريِّ وَحْدَهُ .
والسادسُ : ما هو على شرطِ مسلمٍ وَحْدَهُ .
والسابعُ : ما هو صحيحٌ عند غيرِهما من الأئمةِ المعتمدينَ ، وليسَ على شرطِ واحدٍ منهُما .
فقوله : ( ثم البخارِيُّ ) ، أي : ثمَّ مروِيُّ البخاريِّ وَحْدَهُ . ( وشرطَهُمَا ) : مفعولٌ مقدمٌ لِـ ( حَوَى ) .
وقولُهُ : ( فمسلمٌ ) ، أي : فما حَوَى شرطُ مسلمٍ . وقولُه: ( فشرطُ غيرٍ ) أي : فشرطُ غيرِهما منَ الأئمةِ . واستعمالُ – غيرٍ – غيرَ مضافةٍ قليلٌ . ثم ما المرادُ بقولهِم : على شرطِ البخاريِّ ، أو على شرطِ مسلمٍ ؟ فقالَ محمدُ بنُ طاهرٍ في كتابه في " شروطِ الأئمة " : (( شرطُ البخاريِّ ، ومسلمٍ ، أن يُخَرِّجَا الحديثَ المجمعَ على ثِقَةِ نَقَلَتِهِ إلى الصحابيِّ المشهورِ )) ، وليس ما قالَهُ بجيّـدٍ ؛ لأنَّ النَّسائيَّ ضَعَّفَ جماعةً أخـرجَ لهم الشيخانِ ، أو أحدُهُمـا .
وقالَ الحازميُّ في " شروط الأئمةِ " ما حاصلُهُ : إنَّ شَرْطَ البخاريِّ أنْ يُخَرِّجَ ما اتّصلَ إسنادُه بالثقاتِ المتقنينَ الملازمينَ لمن أَخَذُوا عنه ، ملازمةً طويلةً ، وإنَّهُ قد يُخَرِّجُ أحياناً عن أعيانِ الطبقةِ التي تلي هذهِ في الإتقانِ والملازمةِ ، لمَنْ رَوَوا عنه ، فلم يَلْزَمُوهُ إلا ملازمةً يسيرةً . وإنَّ شرطَ مسلمٍ أن يُخَرِّجَ حديثَ هذهِ الطبقةِ الثانيةِ ، وقد يُخَرِّجُ حديثَ مَنْ لم يَسْلَمْ مِنْ غوائلِ الجرحِ ، إذا كانَ طويلَ الملازمةِ لمَنْ أخذَ عنه ، كحمّادِ بنِ سلمةَ في ثابتٍ البُنانيِّ ، وأيوبَ . هذا حاصلُ كلامِهِ .
وقالَ النوويُّ : (( إنَّ المرادَ بقولهم : على شرطِهِما أنْ يكونَ رجالُ إسنادِهِ في كتابيهما ؛ لأنَّهُ ليس لهما شرطٌ في كتابَيْهما ، ولا في غيرهِما )) . وقد أخذَ هذا من ابنِ الصَّلاحِ ، فإنَّهُ لما ذكرَ كتابَ " المستدرَكِ للحاكمِ " ، قالَ : (( إنَّهُ أودَعَهُ ما رآهُ على شرطِ الشيخينِ ، وقد أخرجَا عن رواتِهِ في كتابيهِمَا )) إلى آخرِ كلامِهِ . وعلى هذا عملُ ابنِ دقيقِ العيدِ ، فإنَّهُ ينقلُ عن الحاكمِ تصحيحَهُ لحديث على شرطِ البخاريِّ مثلاً ، ثم يعترضُ عليه بأنَّ فيه فلاناً ، ولم يُخَرِّجْ له البخاريُّ . وكذلك فَعَلَ الذهبيُّ في " مختصرِ المستدْرَكِ " . وليسَ ذلكَ مِنْهم بجيّـدٍ ، فإنَّ الحاكمَ صَرَّحَ في خُطبةِ كتابِهِ " المستدركِ " بخلافِ ما فهموهُ عنه ، فقال : (( وأَنا أَستعينُ اللهَ تعالى على إخراجِ أحاديثَ رواتُها ثقاتٌ ، قد احتجَّ بمثلِها الشيخانِ ، أو أحدُهما )) .
فقولُهُ : بمثلِهَا ، أي : بمثلِ رواتِها ، لا بِهِمْ انْفُسِهِم . ويحتملُ أنْ يُرَادَ : بمثلِ تلك الأحاديثِ . وإنّما يكونُ بمثلِها إذا كانَتْ بنفسِ رواتِهَا . وفيه نظرٌ . وقد بينتُ المثليةَ في " الشرحِ الكبيرِ " .
39.
وَعِنْدَهُ التَّصْحِيْحُ لَيْسَ يُمْكِنُ
فِي عَصْرِنَا، وَقَالَ يَحْيَى:مُمْكِنُ
أي : وعندَ ابنِ الصلاحِ : أنَّهُ تَعَذَّرَ في هذهِ الأَعصارِ الاستقلالُ بإدراكِ الصحيح بِمجردِ اعتبارِ الأسانيدِ ؛ لأنَّهُ ما مِنْ إسنادٍ إلا وفيهِ مَنْ اعتمدَ على ما في كتابِهِ عَرِيًّا عن الضَّبْطِ ، والإتقانِ . قال : فإذا وَجَدنا فيما يُروى من أجزاءِ الحديثِ وغيرِها ؛ حديثاً صحيحَ الإسنادِ ، ولم نجدْهُ في أحدِ الصحيحينِ ، ولا منصوصاً على صحتهِ في شيءٍ من مصنّفاتِ أئمةِ الحديثِ المعتمَدةِ المشهورةِ ، فإنَّا لا نتجاسرُ على جزمِ الحكمِ بصحتِهِ .
وقولُهُ : ( وقال يحيى ) : أي : النوويُّ : (( الأظهرُ عندِي جوازُهُ لِمَنْ تمكَّنَ ، وقَوِيَتْ معرفَتُهُ )). انتهى. وهذا هو الذي عليهِ عملُ أهلِ الحديثِ، فقد صَحَّحَ غيرُ واحدٍ من المعاصرينَ لابنِ الصلاحِ، وبعدَهُ أحاديثَ لم نجدْ لِمنْ تقدمَهُـم فيها تصحيحاً ، كأبي الحسـنِ بنِ القطّانِ ، والضِّيـاءِ المقدسيِّ ، والزّكيِّ عبدِ العظيمِ ، ومَنْ بَعْدَهُم .
……………………………………………………
حُكْمُ الصَّحِيْحَيْنِ ، وَالتَّعْلِيْقِ
40.
وَاقْطَعْ بِصِحَّةٍ لِمَا قَدْ أَسْنَدَا
كَذَا لَهُ ، وَقِيْلَ ظَنّاً وَلَدَى
41.
مُحَقِّقِيْهِمْ قَدْ عَزَاهُ ( النَّوَوِيْ )
وَفي الصَّحِيْحِ بَعْضُ شَيءٍ قَدْ رُوِيْ
42.
مُضَعَّفاً وَلَهُمَا بِلا سَنَدْ
أَشْيَا فَإنْ يَجْزِمْ فَصَحِّحْ ، أو وَرَدْ
43.
مُمَرَّضاً فَلا ، وَلكِنْ يُشْعِرُ
بِصِحَّةِ الأصْلِ لَهُ كَـ ( يُذْكَرُ )
أَي : ما أَسندَهُ البخاريُّ ومسلمٌ ، يريدُ رَوَيَاهُ بإسنادِهِمَا المتّصلِ ، فهو مقطوعٌ بصحتِهِ ، كذا قالَ ابنُ الصلاحِ ، قال: (( والعلمُ اليقينيُّ النظريُّ واقعٌ به ، خلافاً لقولِ مَنْ نَفَى ذلكَ مُحتَجَّاً بأنَّهُ لا يفيدُ في أصْلِهِ إلا الظنَّ وإنَّما تلقَتْهُ الأمةُ بالقبولِ ؛ لأنَّهُ يجبُ عليهم العملُ بالظنِّ ، والظنُّ قد يُخطِئُ قال : وقد كنتُ أمِيْلُ إلى هذا ، وأحسَبُهُ قويّاً ، ثم بانَ لي أنَّ المذهبَ الذي اخترناهُ أوّلاً هو الصحيحُ؛ لأنَّ ظَنَّ مَنْ هو معصومٌ من الخطأ لا يُخْطِئُ ، والأمةُ بإجماعها معصومةٌ مِنَ الخطأ )) … إلى آخرِ كلامِهِ . وقد سبقَهُ إلى نحوِ ذلك محمدُ بنُ طاهرٍ المقدسيُّ، وأبو نصرٍ عبدُ الرحيمِ بنُ عبدِ الخالقِ بنِ يوسفَ . قال النوويُّ : (( وخالفَ ابنَ الصلاحِ المحقّقونَ والأكثرون ، فقالوا : يفيدُ الظنَّ ما لم يتواترْ )) .
وقولُهُ: ( ظناً ) منصوبٌ بفعلٍ محذوف ، أي : يفيدُ ظناً . وقولُهُ: ( بعضُ شيءٍ )، إشارةٌ إلى تقليلِ ما ضُعِّفَ من أحاديثِ الصحيحينِ .
ولمّا ذكرَ ابنُ الصلاحِ: أنَّ ما أسنداهُ مقطوعٌ بصحتِهِ . قال: سوى أحرُفٍ يسيرةٍ ، تكلّمَ عليها بعضُ أهلِ النقدِ ، كالدارقطنيِّ وغيرِهِ ، وهي معروفةٌ عندَ أهلِ الشأنِ . انتهى . وروينا عن محمدِ بنِ طاهرٍ المقدسيِّ ، ومن خَطِّهِ نَقلْتُ قال : سمعتُ أبا عبدِ اللهِ محمدَ بنَ أبي نصرٍ الحميديَّ ببغدادَ يقول : قال لنا أبو محمدٍ بنُ حزمٍ : وما وجدنا للبخاريِّ ومسلمٍ في كتابيهما شيئاً لا يحتمل مخرجاً إلا حديثين . لكلِّ واحدٍ منهُما حديثٌ ، تَمَّ عليهِ في تخريجِهِ الوَهْمُ معَ إتقانِهِمَا وحفظِهِمَا وصحةِ معرفتِهِما . فذكر من عند البخاريِّ حديثَ شَرِيكٍ ، عن أنسٍ في الإسراءِ ، أنَّهُ قبلَ أنْ يُوحَى إليهِ ، وفيهِ شَقُّ صَدْرِهِ . قال ابنُ حزمٍ : والآفةُ من شريكٍ . والحديثُ الثاني عندَ مسلمٍ ، حديثُ عِكْرمةَ بنِ عمّارٍ ، عن أبي زُمَيْلٍ ، عن ابنِ عبّاسٍ ، قال : كانَ المسلمون لا ينظرونَ إلى أبي سُفيانَ ، ولا يقاعِدُوْنَهُ ، فقال للنبيِّ : ثلاثٌ أعْطِينِهنَّ . قال : نعم . قال : عندي أحسنُ العربِ وأجملُهُ أمُّ حبيبةَ بنتُ أبي سفيانَ ، أُزوِّجُكَهَا . قال : نعم … الحديث . قالَ ابنُ حزمٍ : هذا حديثٌ موضوعٌ لاشكَّ في وضْعِهِ ، والآفةُ فيهِ منْ عِكْرمةَ بنِ عمّارٍ . وقد ذكرتُ في "الشرحِ الكبيرِ" أحاديثَ غيرَ هذينِ. وقد أفردتُ كتاباً لما ضُعِّفَ من أحاديثِ الصحيحينِ مع الجواب عنها . فمَنْ أرادَ الزيادةَ في ذلك فليقِفْ عليه ، ففيه فوائدُ مهمّاتٌ .
وقولُهُ : ( ولَهُما بلا سَنَدْ أشيا ) . أي : وللبخاريِّ ومسلمٍ في الصحيحِ مواضعُ لم يَصِلاها بإسنادِهِما ، بل قطعا أوَّلَ أسانيدِهما مما يليهِما . وذكرَ ابنُ الصلاحِ أنَّ ذلك وقعَ في الصحيحينِ . قالَ : (( وأغلبُ ما وقع ذلك في كتاب البخاريِّ ، وهو في كتابِ مسلمٍ قليلٌ جداً )) . قلتُ : في كتابِ مسلمٍ من ذلك موضعٌ واحدٌ في التيمُّمِ . وهو حديثُ أبي الْجُهَيم بنِ الحارثِ بنِ الصِّمَّةِ. أقبلَ رسولُ الله مِنْ نحوِ بئرِ جمل ، … الحديث . قال فيه مسلم: وروى الليثُ بنُ سعدٍ . ولم يوصلْ مسلمٌ إسنادَهُ إلى الليثِ . وقد أسندَهُ البخاريُّ عن يحيى بنِ بكيرٍ عن الليثِ . ولا أعلمُ في كتاب مسلمٍ بعد مقدمةِ الكتابِ حديثاً لم يذكرْهُ إلا تعليقاً غيرَ هذا الحديثِ . وفيه مواضعُ أخرُ يسيرةٌ رواها بإسنادِهِ المتصلِ ، ثم قال : ورواهُ فلانٌ ، وهذا ليس من باب التعليقِ ، إنّما أرادَ ذِكْرَ مَنْ تابعَ رواية الذي أسندَهُ من طريقِهِ عليه ، أو أرادَ بيانَ اختلافٍ في السندِ ، كما يَفْعَلُ أهلُ الحديثِ . ويدلُّ على أنَّهُ ليسَ مقصودُهُ بهذا ادخالَهُ في كتابِهِ ؛ أنَّهُ يقعُ في بعضِ أسانيدِ ذلك مَنْ ليس هو من شرْطِ مسلم ، كعبدِ الرحمنِ بنِ خالدِ بنِ مُسافرٍ . وقد بَيَّنتُ بقيةَ المواضعِ في " الشرحِ الكبيرِ " .
وقولُهُ : ( فإنْ يجزم فصحِّحْ ) ، أي : إنْ أتى به بصيغةِ الجزمِ ، كقولِهِ : قال فلانٌ ، أو رَوَى فلانٌ أو نحوَ ذلكَ ؛ فاحكمْ بصحتِهِ عمَّنْ عَلَّقَهُ عنه ، لأنَّهُ لا يستجيزُ أنْ يجزمَ بذلكَ عنه إلا وقد صحَّ عندَهُ عنه . ثمَّ الحكمُ بصحةِ الحديثِ مطلقاً يتوقفُ على ثقةِ رجالِهِ ، واتصالِهِ من مَوْضِعِ التعليقِ . فإنْ كان فيمَنْ أبرزَهُ مَنْ لا يحتجُّ به ، فليسَ فيهِ إلا الحكمُ بصحتهِ عمَّن أسندَ إليه كقولِ البخاريِّ : وقال بَهْزٌ ، عن أبيهِ ، عن جَدِّهِ ، عن النبيِّ : (( اللهُ أحقُّ أنْ يُسْتَحيَى منه )) . قالَ ابنُ الصلاحِ : (( فهذا ليس من شرطِهِ قطعاً . ولذلكَ لم يوردْهُ الحميديُّ في جَمْعِهِ بين الصحيحينِ )) .
( وإنْ وردَ مُمَرَّضاً )، أي: أُتِي به بصيغةِ التمريضِ ، كقولِهِ : ويُذْكَرُ ، ويُرْوَى ، ويُقَاْلُ ، ونُقِلَ ، ورُوِيَ ، ونحوِها . فلا تحكمنَّ بصحتِهِ . كقولِهِ : ويُرْوَى عن ابنِ عباسٍ وجَرْهَدٍ ومحمّدِ بنِ جَحْشٍ ، عن النـبيِّ : (( الفَخِـذُ عـورةٌ )) ؛ لأنَّ هـذهِ الألفـاظَ استعمالُهـا في الضعيف أكثرُ ، وإن استعملتْ في الصحيحِ . وكذا قولُهُ : وفي البابِ تستعملُ في الأمرينِ معاً . قالَ ابنُ الصلاحِ : ومَعَ ذلك فإيرادُهُ له في أثناءِ الصحيحِ مُشعرٌ بصحةِ أصْلِهِ إشعاراً يؤنسُ به ويركنُ إليه . وحملَ ابنُ الصلاحِ قولَ البخاريِّ : ما أدخلتُ في كتابي " الجامع " ، إلا ما صحَّ . وقول الأئمة في الحكم بصحتِهِ على أنَّ المرادَ مقاصدُ الكتابِ وموضوعُهُ ومتون الأبوابِ دون التراجمِ ونحوها .
44.
وَإنْ يَكُنْ أوَّلُ الاسْنَادِ حُذِفْ
مَعْ صِيغَةِ الجَزْم فَتَعليْقَاً عُرِفْ
45.
وَلَوْ إلى آخِرِهِ ، أمَّا الَّذِي
لِشَيْخِهِ عَزَا بـ ( قالَ ) فَكَذِي
46.
عَنْعَنَةٍ كخَبَرِ المْعَازِفِ
لا تُصْغِ ( لاِبْنِ حَزْمٍ ) المُخَالِفِ
هذا بيانٌ لحقيقةِ التعليقِ ، والتعبيرُ به موجودٌ في كلامِ الدارقطنيِّ والحميديِّ في
" الجمعِ بين الصحيحينِ " . وهو أنْ يُسْقِطَ مِنْ أوَّلِ إسنادِ البخاريِّ أو مسلمٍ من جهتِهِ راوٍ فأكثرَ ، ويعزِيَ الحديثَ إلى مَنْ فوقَ المحذوفِ من رواتِهِ بصيغةِ الجزمِ ، كقولِ البخاريِّ في الصومِ : وقالَ يحيى بنُ كثيرٍ ، عن عمرِ بنِ الحكم بنِ ثوبانَ ، عن أبي هريرةَ قال : (( إذا قاءَ فلا يفطرُ )) . وكقولِ مسلمٍ في التيمُّمِ : ورَوَى الليثُ بنُ سعدٍ ، فذكرَ حديثَ : أقبلَ من نحوِ بئرِ جملٍ … الحديث ، وقد تقدم .
قالَ ابنُ الصلاحِ: (( وكأنَّ التعليقَ مأخوذٌ من تعليقِ الجدارِ، وتعليقِ الطلاقِ ونحوه ، لما يشتركُ الجميعُ فيه من قَطْعِ الاتصالِ )) . قال : ولم أجدْ لفظَ التعليقِ مستعمَلاً فيما سقطَ منه بعضُ رجالِ الإسنادِ مِنْ وَسَطِه أوْ من آخرِهِ ، ولا فيما ليسَ فيه جزْمٌ ، كيُرْوَى ويُذْكَرُ . قلت : استعملَ غيرُ واحدٍ من المتأخّرينَ التعليقَ في غيرِ المجزومِ به ، منهم : الحافظُ أبو الحجاجِ المزيُّ كقولِ البخاريِّ في بابِ مَسِّ الحريرِ من غيرِ لُبْسٍ : ويُروَى فيهِ عن الزُّبيديِّ ، عن الزهريِّ ، عن أنسٍ ، عن النبي ذكره في الأطرافِ ، وعَلَّمَ عليهِ علامةَ التعليقِ للبخاريِّ .
وقوله : ( ولو إلى آخِرِهِ ) ، أي : ولو حذفَ الإسنادَ إلى آخرِهِ واقتصرَ على ذِكْرِ النبيِّ في الحديثِ المرفوعِ ، أو على الصحابيِّ في الموقوفِ ، كقولِهِ في العِلْمِ : وقالَ عمرُ : (( تفقهُوا قبل أنْ تسودوا )) . أي : فإنّهُ يُسمَّى تعليقاً . هكذا حكاهُ ابنُ الصلاحِ عن بعضِهم ، ولم يحكِ غَيْرَهُ . فقالَ : (( إنَّ لفظَ التعليقِ وجدتُهُ مستعملاً فيما حُذِفَ من مبتدأ إسنادِهِ واحدٌ فأكثرُ . حتى إنَّ بعضَهم استعملَهُ في حذفِ كُلِّ الإسنادِ. انتهى )) . ولم يذكر المزيُّ هذا في الاطرافِ في التعليقِ ، بلْ ولا ما اقتصرَ فيهِ على ذِكْرِ الصَّحابيِّ غالباً ، وإنْ كان مرفوعاً .
وقولُهُ : ( أمَّا الذي لشيخِهِ عزا بقالَ فكذي عنعنة ) ، أي : أمَّا ما عزاهُ البخاريُّ إلى بعضِ شيوخِهِ بصيغةِ الجزمِ ، كقولِهِ : قالَ فلانٌ ، وزادَ فلانٌ ، ونحوَ ذلكَ فليسَ حكمُهُ حكمَ التعليقِ عن شيوخِ شيوخِهِ ، ومَنْ فوقَهُم ، بل حكمُهُ حكمُ الإسنادِ المعَنْعَن ، وحكمُهُ - كما سيأتي في موضعِهِ - الاتصالُ بشرطِ : ثبوتِ اللقاءِ ، والسلامةِ من التدليسِ . واللقاءُ في شيوخِهِ معروفٌ ، والبخاريُّ سالمٌ من التدليسِ، فَلَهُ حكمُ الاتصالِ . هكذا جزمَ بهِ ابنُ الصلاحِ في الرابعِ من التفريعاتِ التي تلي النوعَ الحادي عشرَ . ثم قال : وبلغني عَن بعض المتأخّرينَ منْ أهلِ المغربِ أنَّهُ جعلَهُ قسماً من التعليقِ ثانياً ، وأضافَ إليه قولَ البخاريِّ - في غيرِ موضعٍ من كتابِهِ - : وقالَ لي فلانٌ ، وزادنا فلانٌ . فَوَسَمَ كُلَّ ذلك بالتعليقِ المتّصلِ مِن حيثُ الظاهرُ ، المنفصلِ من حيثُ المعنى ، … )) ، وسيأتي حكمُ قولِهِ : قال لنا فلان ، عند ذكرِ أقسامِ التحمُّلِ . وما ذكرَهُ ابنُ الصلاحِ هنا هو الصوابُ . وقد خالَفَ ذلك في مثالٍ مَثَّلَ به في السادسةِ من الفوائدِ في النوعِ الأولِ ، فقالَ: (( وأمَّا الذي حُذِفَ من مبتدأ إسنادِهِ واحدٌ أو أكثرُ . ثمَّ قالَ: مِثالُهُ: قالَ رسولُ الله كذا ، قال ابن عبّاس كذا ، قال مجاهدٌ كذا، قال عفّانُ كذا ، قال القَعْنَبيُّ كذا إلى آخركلامه .
فقولُهُ : قالَ عفانُ كذا قال القعنبيُّ كذا في أمثلةِ ما سقطَ من أولِ إسنادِهِ واحدٌ مخالفٌ لكلامِهِ الذي قدّمْنَاهُ عنه ؛ لأنَّ عفانَ والقعنبيَّ كلاهما شيخُ البخاريِّ حَدَّثَ عنه في مواضعَ من صحيحِهِ متصلاً بالتصريحِ . فيكونُ قولُهُ : قال عفانُ ، قال القعنبيُّ ، محمولاً على الاتّصال ، كالحديث المعنعنِ . وعلى هذا عملُ غيرِ واحدٍ من المتأخّرينَ ، كابنِ دقيقِ العيدِ ، والمزّيِّ . فجعلا حديثَ أبي مالكٍ الأشعَرِيِّ – الآتي ذِكْرُهُ – مثالاً لهذهِ المسألةِ تعليقاً . وفي كلامِ أبي عبدِ الله بنِ منده أيضاً ما يقتضي ذلكَ ، فقالَ في جزءٍ له في اختلافِ الأئمةِ في القراءة ، والسماعِ ، والمناولةِ ، والإجازةِ : أخرجَ البخاريُّ في كتبهِ الصحيحةِ وغيرِها ، قال لنا فلانٌ ، وهي إجازةٌ . وقال فلانٌ ، وهو تدليسٌ . قال : وكذلك مسلمٌ أخرجَهُ على هذا . انتهى كلام ابنِ منده ولم يوافق عليهِ .
وقولُهُ : ( كخبرِ المعازِفِ ) ، هو مثالٌ لما ذَكَرَهُ البخاريُّ عن بعضِ شيوخِهِ من غيرِ تصريحٍ بالتحديثِ ، أو الإخبارِ ، أو ما يقومُ مقامَهُ . كقولهِ : قال هشامُ بنُ عمّار : حدّثنا صَدَقةُ بنُ خالدٍ ، حدثنا عبدُ الرحمنِ بنُ يزيدَ بنِ جابرٍ ، حدثنا عطيّةُ بنُ قيسٍ ، قال : حدّثني عبدُ الرحمنِ بنُ غَنْمٍ ، قال : حدثني أبو عامرٍ ، أو أبو مالكٍ الأشعريُّ ، أنَّهُ سمعَ رسولَ الله ، يقول : (( ليكونَنَّ في أمتي أقوامٌ يستحلونَ الحِرَّ والحريرَ والمعازفَ ، الحديث )) . فإنَّ هذا الحديثَ حكمُهُ الاتصالُ ؛ لأنَّ هشامَ بنَ عَمّارٍ من شيوخِ البخاريِّ حدَّثَ عنه بأحاديثَ ، وخالفَ ابنُ حزمٍ في ذلك ، فقال في " المحلى " : هذا حديثٌ منقطعٌ لم يتصل ما بين البخاريِّ ، وصدقةَ بنِ خالدٍ .
- قال - : ولا يصحُّ في هذا البابِ شيءٌ أبداً . – قال –: وكلُّ ما فيه فموضوعٌ )) . قال ابن الصلاحِ: (( ولا التفاتَ إليهِ في رَدِّهِ ذلك – قال –: وأخطأَ في ذلك من وُجوهٍ – قال –: والحديثُ صحيحٌ معروفُ الاتصالِ بشرطِ الصحيحِ . قالَ : والبخاريُّ قد يفعلُ ذلك لكونِ الحديثِ معروفاً من جهةِ الثقاتِ عن الشخصِ الذي عَلَّقَهُ عنه ، أو لكونِهِ ذكرَهُ في موضعٍ آخرَ من كتابهِ متصلاً ، أو لغيرِ ذلكَ من الأسبابِ التي لا يصحبُها خللُ الانقطاعِ )) . انتهى . والحديثُ مُتَّصِلٌ مِن طُرُقٍ : من طريقِ هشامٍ وغيرهِ . قالَ الإسماعيليُّ في المستخرَج: حدّثنا الحسنُ، وهو ابنُ سفيان النّسوَيُّ الإمامُ قال: حدّثنا هشامُ بنُ عمّارٍ فذكرَهُ .وقال الطبرانيُّ في مسندِ الشاميِّينَ : حدّثنا محمدُ بنُ يزيدَ بنِ عبدِ الصمدِ ، قال : حدّثنا هشامُ بنُ عمّارٍ .
نَقْلُ الحَديثِ مِنَ الكُتبِ المُعتَمَدةِ
47.
وَأخْذُ مَتْـنٍ مِـنْ كِتَابٍ لِعَمَلْ
أوِ احْتِجَاجٍ حَيْثُ سَاغَ قَـدْ جَعَلْ
48.
عَرْضاً لَـهُ عَلى أُصُوْلٍ يُشْتَرَطْ
وَقَالَ (يَحْيَى النَّوَوِيْ) : أصْلٍ فَقَطْ
أي : وأخذُ الحديثِ من كتابٍ من الكتبِ المعتمدةِ ، لعملٍ به ، أوِ احتجاجٍ
به ، إنْ كانَ ممَّنْ يسوغُ له العملُ بالحديثِ ، أو الاحتجاج بهِ ، جعلَ ابنُ الصلاحِ شرطَهُ أنْ يكون ذلك الكتابُ مقابلاً بمقابلةِ ثقةٍ على أصولٍ صحيحةٍ متعددةٍ مرويةٍ برواياتٍ متنوعةٍ . قال النوويُّ : (( فإن قابلَهَا بأصلٍ معتمدٍ محققٍ أجزأَهُ )) . وقال ابنُ الصلاحِ في قسمِ الحَسَنِ حين ذَكَرَ أنَّ نسخَ الترمذيِّ تختلفُ في قولهِ : حسنٌ ، أو : حسنٌ صحيحٌ ، ونحو ذلك : (( فينبغي أن تصحِّحَ أصلَكَ بجماعةِ أصولٍ ، وتعتمدَ على ما اتفقتْ عليه )) . فَقَوْلُهُ هُنَا : يَنْبَغِي ، قَدْ يُشيرُ إلى عدمِ اشتراطِ ذلكَ ، وإنَّما هوَ مستحبٌّ ، وهوَ كذلكَ .
49.
قُلْتُ : ( وَلابْنِ خَيْرٍ ) امْتِنَاعُ
جَزْمٍ سِوَى مَرْوِيِّهِ إجْمَاعُ
لما ذكرَ ابنُ الصلاحِ أنَّ من أرادَ أخذَ حديثٍ من كتابٍ من الكتبِ المعتمدةِ ، أخذَهُ من كتابٍ مقابَلٍ . أحببتُ أنْ أذكرَ أنَّ بعضَ الأئمةِ حكى الإجماعَ على أنَّهُ لا يحلُّ الجزمُ بنقلِ الحديثِ ، إلا لِمَنْ له به روايةٌ ، وهو الحافظُ أبو بكرٍ محمدُ بنُ خيرِ بنِ عمرَ الأمويُّ – بفتحِ الهمزةِ – الإشبيليُّ وهو خالُ أبي القاسمِ السُّهيليِّ . فقال في بَرْنامَجِهِ المشهورِ : وقـد اتفقَ العلماءُ رحمهمُ اللهُ على أنّه لا يصحُّ لمسلمٍ أنْ يقولَ: قالَ رسولُ الله كذا حتَّى يكونَ عندَهُ ذلك القولُ مروياً ، ولو على أقلِّ وجوهِ الرواياتِ لقول رسـول الله : (( مَنْ كَذَبَ عليَّ متعمِّداً فليتبوأ مَقْعَدَهُ من النَّارِ ))
وفي بعضِ الروايـاتِ : (( مَـنْ كَذَبَ عَلـيَّ )) مطلقـاً دونَ تقييـدٍ .
فقولي : ( امتناعُ جزمٍ ) ، مبتدأٌ ومضافٌ إليه ، وإجماعُ : خَبَرُهُ .
القِسْمُ الثَّاني : الحَسَنُ
50.
وَالحَسَنُ المَعْرُوْفُ مَخْرَجاً وَقَـدْ
اشْتَهَرَتْ رِجَالُهُ بِذَاكَ حَـدْ
51.
(حَمْدٌ) وَقَالَ (التِّرمِذِيُّ) : مَا سَلِمْ
مِنَ الشُّذُوْذِ مَعَ رَاوٍ مَا اتُّهِمْ
52.
بِكَذِبٍ وَلَـمْ يَكُـنْ فَرْداً وَرَدْ
قُلْتُ : وَقَدْ حَسَّنَ بَعْضَ مَا انفَرَدْ
53.
وَقِيْلَ : مَا ضَعْفٌ قَرِيْبٌ مُحْتَمَلْ
فِيْهِ ، وَمَا بِكُلِّ ذَا حَدٌّ حَصَلْ
اختلفَ أقوالُ أئمةِ الحديثِ في حَدِّ الحديثِ الحسنِ، فقال أبو سليمانَ الخطّابيُّ، وهو حَمْدُ المذكورُ في أولِ البيتِ الثاني: (( الحسنُ: ما عُرِفَ مَخْرَجُهُ واشتهرَ رجالُهُ . قال : وعليه مدارُ أكثرِ الحديثِ ، وهو الذي يقبلُهُ أكثرُ العلماءِ ، ويستعملُهُ عامةُ الفقهاءِ )) .انتهى. ورأيتُ في كلامِ بعضِ المتأخّرينَ أنَّ في قولِهِ ما عُرِفَ مخرجُهُ احترازاً عن المنقطعِ ، وعن حديثِ المُدَلِّسِ قبلَ أنْ يتبينَ تدليسُهُ . قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ : (( ليسَ في عبارةِ الخطّابيِّ كبيرُ تلخيصٍ . وأيضاً فالصحيحُ قد عُرِفَ مخرجُهُ واشتُهِرَ رجالُهُ. فيدخلُ الصحيحُ في حَدِّ الحَسَنِ . قالَ : وكأنَّهُ يريدُ مما لم يبلغْ درجةَ الصحيحِ )) .
قال الشيخُ تاج الدينِ التبريزيُّ: فيه نظرٌ ؛ لأنَّهُ – أي: ابنُ دقيقِ العيدِ – ذكرَ من بعدُ : أنَّ الصحيحَ أخصُّ من الحسنِ . قالَ : ودخولُ الخاصِّ في حدِّ العامِّ ضروريٌّ . والتقييدُ بما يخرجهُ عنهُ مخلٌ للحدِّ وهو اعتراضٌ متجهٌ .
وقالَ أبو عيسى الترمذيُّ في "العلل" التي في آخر " الجامعِ " : (( وما ذكرنا في هذا الكتاب : حديثٌ حسنٌ ، فإنَّما أردنا به حُسْنَ إسنادِهِ عندنا .كُلُّ حديثٍ يُروى لا يكونُ في إسنادِهِ مَنْ يُتَّهَمُ بالكذبِ ، ولا يكونُ الحديثُ شاذاً ، ويُرْوَى من غيرِ وجهٍ نحوُ ذلك فهو عندنا حديثٌ حسنٌ )) . قال الحافظ أبو عبدِ الله محمدُ بنُ أبي بكرٍ بنِ الموَّاق : إنّهُ لم يَخُصَّ الترمذيُّ الحسنَ بصفةٍ تميزُهُ عن الصحيحِ ، فلا يكونُ صحيحاً إلا وهو غير شاذٍ ، ولا يكونُ صحيحاً حَتَّى يكونَ رواتُهُ غيرَ متهمينَ ، بل ثقاتٌ . قال: فظهرَ من هذا أنَّ الحسنَ عند أبي عيسى صفةٌ لا تخصُّ هذا القسمَ بل قد يَشْركُهُ فيها الصحيحُ . قال : فَكلُّ صحيحٍ عندَهُ حسنٌ ، وليسَ كُلُّ حسنٍ عندَهُ صحيحاً . قال أبو الفتحِ اليعمريُّ : بقي عليه أنهُ اشترطَ في الحسنِ أنْ يُرْوَى من وجهٍ آخرَ ، ولم يشترطْ ذلك في الصحيحِ . قلت : وسنرى في كلامِ أبي الفتحِ بعدَ هذا بدونِ الصفحةِ أنَّهُ لا يشترطُ في كلِّ حسنٍ أنْ يكونَ كذلك ، فتأمَّلْهُ .
وقولُهُ : ( قلتُ وقد حَسَّن بعضَ ما انفرد ) . هذا من الزوائدِ على ابنِ الصَّلاحِ . وهو إيرادٌ على الترمذيِّ ، حيث اشترطَ في الحسنِ أنْ يُروَى من غيرِ وجهٍ نحوُه . ومع ذلك فقد حَسَّنَ أحاديثَ لا تُروَى إلا من وجهٍ واحدٍ ، كحديثِ إسرائيلَ ، عن يوسفَ ابن أبي بردةَ، عن أبيهِ، عن عائشةَ ، قالت: كانَ رسول اللهِ إذا خرجَ من الخلاءِ قال : غفرانكَ . فإنَّهُ قال فيه : حسنٌ غريبٌ لا نعرفُهُ إلا من حديثِ إسرائيلَ ، عن يوسفَ ابن أبي بردةَ . قال : ولا يُعرفُ في هذا البابِ إلا حديثُ عائشةَ . وأجاب أبو الفتحِ اليعمريُّ عن هذا الحديثِ بأنَّ الذي يحتاجُ إلى مجيئِهِ من غير وجهٍ ما كانَ راويه في درجة المستورِ ومَنْ لم تثبتْ عدالتُهُ . قال : وأكثرُ ما في البابِ أنَّ الترمذيَّ عَرّفَ بنوعٍ منه لا بكلِّ أنواعِهِ . وقولُهُ : ( وقيل ما ضَعْفٌ قريبٌ مُحْتَمَلٌ فيه ) . هذا قولٌ ثالثٌ في حدِّ الحسنِ . قالَ ابنُ الجوزيِّ في " العللِ المتناهيةِ " وفي " الموضوعات " : الحديثُ الذي فيه ضَعفٌ قَريبٌ محتَملٌ ، هو الحديثُ الحسنُ . ولم يسمِّ ابنُ الصلاحِ قائلَ هذا القولِ ، بل عزاهُ لبعضِ المتأخِّرينَ ، وأرادَ به ابنَ الجوزيِّ . واعترضَ ابنُ دقيقِ العيدِ على هذا الحدِّ بأنهُ (( ليس مضبوطاً بضابطٍ ، يتميَّزُ به القَدْرُ المحتَملُ من غيرِهِ ، قالَ : وإذا اضطربَ هذا الوصفُ لم يحصلِ التعريفُ المميِّزُ للحقيقةِ )) . وقال ابنُ الصلاحِ بعد ذِكْرِ هذهِ الحدودِ الثلاثةِ : كلُّ هذا مُستبْهَمٌ ، لا يَشْفِي الغليلَ ، قالَ : وليسَ في كلامِ الترمذيِّ ، والخطّابيِّ ما يفصلُ الحسنَ من الصحيحِ . انتهى . وهذا المرادُ بقولِهِ: ( وما بكلِّ ذا حدٌّ حَصَلْ ) . أي : وما بكلِّ قولٍ من الأقوالِ الثلاثةِ حصلَ حدٌّ صحيحٌ للحَسَنِ .
54.
وَقَالَ : بَانَ لي بإمْعَانِ النَّظَرْ
أنَّ لَهُ قِسْمَيْنِ كُلٌّ قَدْ ذَكَرْ
55.
قِسْماً ، وَزَادَ كَونَهُ مَا عُلِّلا
وَلاَ بِنُكْرٍ أوْ شُذُوْذٍ شُمِلاَ
أي : وقال ابنُ الصلاحِ : وقد أمعنْتُ النَظَرَ في ذلك ، والبحثَ ، جامعاً بين أطرافِ كلامِهِم ، ملاحظاً مواقعَ استعمالِهِم ، فتنقحَ لي واتضَحَ أنَّ الحديثَ الحسنَ قسمانِ :
أحدُهما : الحديثُ الذي لا يخلو رجالُ إسنادهِ من مستورٍ لم تتحققْ أهليتُهُ، غيرَ أنَّهُ ليس مغفلاً ، كثيرَ الخطأ فيما يرويه ، ولا هو متهمٌ بالكذبِ في الحديثِ ، أي: لم يظهرْ منه تعمُّدُ الكذبِ في الحديثِ ، ولا سببٌ آخرُ مفسِّقٌ ويكونُ متنُ الحديثِ مع ذلك قد عُرِفَ ، بأنْ رُوِي مثلُهُ أو نحوُهُ من وجهٍ آخرَ ، أو أكثر ، حتى اعتضدَ بمتابعةِ مَنْ تابعَ راويهِ على مثلِهِ ، أو بما لَهُ مِنْ شاهدٍ ، وهو ورودُ حديثٍ آخرَ نحوه ، فيخرجُ بذلك عن أنْ يكونَ شاذاً ، أو منكراً . وكلامُ الترمذيِّ على هذا القسمِ يتنـزلُ .
القسمُ الثاني : أنْ يكونَ راويه من المشهورين بالصدقِ والأمانةِ ، غيرَ أنَّهُ لا يبلغُ درجةَ رجالِ الصحيحِ ؛ لكونهِ يقصُرُ عنهم في الحفِظِ والإتقانِ ، وهو مع ذلك يرتفعُ عن حالِ مَنْ يُعَدُّ ما ينفردُ به من حديثِهِ منكراً . قال : ويعتبرُ في كلِّ هذا مع سلامةِ الحديثِ من أنْ يكونَ شاذاً ، أو منكراً سلامتُهُ من أنْ يكونَ مُعَلّلاً . وعلى القسمِ الثاني يتنـزلُ كلامُ الخطّابيِّ . قال : فهذا الذي ذكرناه جامعٌ لما تفرّقَ في كلامِ مَنْ بلغَنَا كلامُهُ في ذلك . قال : وكأنَّ الترمذيَّ ذَكَرَ أحدَ نوعَي الحَسَنِ ، وذَكَرَ الخطابيُّ النوعَ الآخرَ ، مقتصِراً كلُّ واحدٍ منهما على ما رأى أنَّهُ مشكِلٌ ، معرضاً عمّا رأى أنَّهُ لا يُشْكِلُ أو أنَّهُ غَفَلَ عن البعضِ وذهلَ . وقولُهُ : ( كلٌّ قدْ ذَكَر ) ، أي : كلُّ واحدٍ من الترمذيِّ ، والخطّابيِّ . وقولُه : ( وزادَ ) ، أي : ابنُ الصلاحِ .
والإمعانُ مصدرُ أمْعَنَ . من قولِ الفقهاءِ في التيمُّمِ : أمعنَ في الطلبِ . وكأَنَّهُ مأخوذٌ من الإبعادِ في العَدْوِ. ففي التهذيبِ عن الليثِ بن المظفّرِ: أمعنَ الفرسُ وغيرُهُ ، إذا تباعَدَ في عَدْوِهِ . وفي " الصحاحِ " : أمعَنَ الفرسُ : تباعَدَ في عَدْوِهِ . ويحتملُ أنَّهُ من أمعنَ الماءَ إذا أجرَاهُ . ويحتَملُ غيرَ ذلك . وقد بينتُهُ في " الشرحِ الكبيرِ " .
56.
وَالفُقَهَـاءُ كلُّهُمْ يَستَعمِلُهْ
وَالعُلَمَـاءُ الْجُلُّ مِنْهُمْ يَقْبَلُـهْ
57.
وَهْـوَ بأقْسَامِ الصَّحِيْـحِ مُلْحَقُ
حُجِّيَّـةً وإنْ يَكُنْ لا يَلْحَـقُ
البيتُ الأولُ مأخوذٌ من كلامِ الخطّابيِّ . وقد تقدّم نَقْلُهُ عنه إلا أنَّهُ قال : عامّةُ الفقهاءِ ، وعامةُ الشيءِ يطلقُ بإزاءِ معظمِ الشيءِ ، وبإزاءِ جميعِهِ . والظاهرُ أنَّ الخطابيَّ أرادَ الكُلَّ . ولو أرادَ الأكثرَ لما فَرَّقَ بين العلماءِ والفقهاءِ . وقوله : ( حجيّةً ) ، نصبٌ على التمييزِ ، أي : الحسنُ ملحقٌ بأقسامِ الصحيحِ في الاحتجاجِ به ، وإنْ يكن دونَهُ في الرُّتْبَةِ . قالَ ابنُ الصلاحِ : (( الحسنُ يتقاصرُ عن الصحيحِ )) . قال: (( ومِنْ أهلِ الحديثِ مَنْ لا يفردُ نوعَ الحسنِ ويجعلُهُ مندرجاً في أنـواعِ الصحيحِ ؛ لاندراجهِ في أنواعِ ما يحتجُّ بـه )) . قال : (( وهو الظاهرُ من كلامِ الحاكمِ في تصرفاتِهِ . قال : ثمَّ إنَّ مَنْ سَمَّى الحسنَ صحيحاً لا يُنْكِرُ أنهُ دونَ الصحيحِ المقدّمِ المبينِ أولاً . قال : فهذا إذَنْ اختلافٌ في العبارةِ دون المعنى )) .
58.
فَإنْ يُقَلْ : يُحْتَجُّ بِالضَّعِيْفِ
فَقُلْ : إذا كَانَ مِنَ المَوْصُوْفِ
59.
رُوَاتُهُ بِسُوْءِ حِفْظٍ يُجْبَرُ
بِكَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ يُذْكَرُ
60.
وَإنْ يَكُنْ لِكَذِبٍ أوْ شَذَّا
أوْ قَوِيَ الضَّعْفُ فَلَمْ يُجْبَر ذَا
61.
أَلاَ تَرَى الْمُرْسَلَ حَيْثُ أُسْنِدَا
أوْ أرْسَلُوا كَمَا يَجِيءُ اعْتُضِدَا
لما تقدّمَ أنَّ الحسنَ قاصرٌ عن الصحيحِ ، وإنّما أُلْحِقَ به في الاحتجاجِ . وتقدَمَ أنَّ الحسنَ لا يُشترطُ فيه ثقةُ رجالِهِ ، بل إذا كان فيهم من لا يُتَّهَمُ بالكَذِبِ ورُوِيَ من وَجْهٍ آخرَ كان حسناً، على الشروطِ المتقدمةِ. وغيرُ المتهمِ أعمُّ منْ أنْ يكونَ ثقةً ، أو مستوراً، والمستورُ غيرُ مقبولٍ عند الجمهورِ .
وربّما كان من تابعَهُ مستوراً أيضاً . وكلاهما لو انفردَ لم تَقُمْ به حجّةٌ فكيفَ يحتجُّ به إذا انضمَّ إليهِ مَنْ لا يحتجُّ به منفرداً . وأجابَ عنه ابنُ الصلاحِ بما ذُكرَ في البيتِ الأخيرِ من هذهِ الأبياتِ الأربعةِ . فقالَ بعد قولِهِ : إنَّ الحسنَ متقاصرٌ عن الصحيحِ : (( وإذا استبعدَ ذلك من الفقهاءِ الشافعيةِ مُسْتَبعدٌ ذكرنا له نصَّ الشافعيِّ في مراسيلِ التابعينَ أنَّهُ يقبلُ منها المرسلَ الذي جـاءَ نحوُه مسنداً . وَكَذَلِكَ لَوْ وافقَهُ مرسلٌ آخرُ أرسلَهُ مَنْ أخذَ العلمَ عن غيرِ رجال التابعيِّ الأولِ في كلامٍ لَهُ ذكرَ فِيْهِ وجوهاً من الاستدلالِ عَلَى صحةِ مَخْرجِ المُرْسَلِ بمجيئِهِ من وجهٍ آخرَ )) . ثُمَّ قَالَ في جوابِ سؤالٍ آخرَ : (( لَيْسَ كُلُّ ضعفٍ في الحديثِ يزولُ بمجيئِهِ من وجوهٍ ، بَلْ ذَلِكَ يختلف فمنه ضَعْفٌ يُزِيلُه ذَلِكَ ، بأنْ يكونَ ضَعْفُهُ ناشِئَاً مِنْ ضَعْفِ حفظِ راويه مَعَ كونِهِ مِنْ أهلِ الصِّدْقِ والديانة . فإذا رأينا ما رواهُ قَدْ جاءَ من وجهٍ آخرَ عرفنا أنَّهُ مِمَّا قَدْ حفظَهُ وَلَمْ يختلَّ فِيْهِ ضبطُهُ لَهُ . وَكَذَلِكَ إذا كانَ ضَعْفُهُ من حيثُ الإرسالُ زالَ بنحوِ ذَلِكَ كَمَا في المُرْسَلِ الَّذِي يُرْسِلُهُ إمامٌ حافظٌ ، إذ فِيْهِ ضعفٌ قليلٌ يزولُ بروايتهِ من وجهٍ آخرَ . – قَالَ – : ومن ذَلِكَ ضعفٌ لا يزولُ بنحوِ ذَلِكَ ؛ لقوةِ الضعفِ ؛ وتقاعدِ هذا الجابرِ عن جَبْرِهِ ومقاومتِهِ . وذلك كالضعفِ الذي ينشأُ من كونِ الراوي متهماً بالكذبِ أو كونِ الحديثِ شاذاً . قال : وهذهِ جملةٌ تفاصيلُها تدركُ بالمباشرةِ والبحثِ ، فاعلمْ ذلك فإنَّهُ من النفائِسِ العزيزةِ ، والله أعلمُ . وقولُهُ : ( رواتُهُ ) ، هو مرفوعٌ لسدِّهِ مَسَدَّ الفاعلِ ، وهو مفعولُ قولِهِ : ( الموصوفِ ) . وقوله : ( أوْ أرسلوا كما يجيءُ ) ، يريدُ : أو أرسلوه على الوجهِ الذي يجيءُ لا مطلقاً . وأُشيرَ بقولِهِ : ( يجيء ) إلى موضعِ الكلامِ على المُرْسَلِ .
62 .
وَالحَسَنُ : الْمشهُوْرُ بِالعَدَالَهْ
وَالصِّدْقِ رَاوِيهِ ، إذَا أَتَى لَهْ
63 .
طُرُقٌ اخْرَى نَحْوُهَا مِن الطُّرُقْ
صَحَّحْتُهُ كَمَتْنِ ( لَوْلاَ أنْ أَشُقْ )
64 .
إذْ تَابَعُوْا ( مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو)
عَلَيْهِ فَارْتَقَى الصَّحِيْحَ يَجْرِي
قوله: ( المشهورُ ) ، صفةٌ للحَسَنِ ، لا خبرٌ له. والشرطُ وجوابُهُ في موضعِ الخَبَرِ ، أي: والحَسَنُ الذي راويه مشهورٌ بالصدقِ والعدالةِ ، إذا أتَتْ له طرقٌ أخرى حكمَتْ بصحتِهِ ، كحديثِ محمدِ بنِ عمرو ، عن أبي سلمةَ ، عن أبي هريرةَ ؛ أنَّ رسولَ اللهِ قال : (( لولا أنْ أشقَّ على أمتي لأمرتُهم بالسواكِ عند كلِّ صلاةٍ )) .
قالَ ابنُ الصلاحِ : (( محمدُ بنُ عمرِو بنِ علقمةَ من المشهورينَ بالصدقِ والصيانةِ لكنَّهُ لم يكن من أهلِ الإتقانِ حتَّى ضَعَّفَهُ بعضُهم مِنْ جهةِ سوءِ حفظِهِ . ووثَّقَهُ بعضُهم لصدقِهِ وجلالتِهِ . فحديثُهُ من هذهِ الجهةِ حَسَنٌ ، فلمَّا انضمَّ إلى ذلكَ كونُهُ رُوي من أوجُهٍ أُخَرَ ، زالَ بذلك ما كنا نخشاهُ عليه من جهةِ سوءِ حفظِهِ . وانجبرَ بهِ ذلك النقصُ اليسيرُ ، فصحَّ هذا الإسنادُ ، والتحقَ بدرجةِ الصحيحِ )) . وقد أخذَ ابنُ الصلاحِ كلامَهُ هذا من الترمذيِّ فإنَّهُ قالَ بعدَ أنْ أخرجَهُ من هذا الوجهِ : حديثُ أبي سلمةَ عن أبي هريرةَ عندي صحيحٌ . ثُمَّ قالَ : وحديثُ أبي هريرةَ إنَّما صَحَّ ؛ لأنَّه قد رُوي من غيرِ وَجْهٍ .
وقولُهُ : ( إذ تابعوا محمدَ بنَ عمرٍو ) . ذكرهُ بعد قولِهِ : ( كمتنِ (( لولا أنْ أشقَّ ))). ليعلمَ أنَّ التمثيلَ ليس لمُطْلَقِ هذا الحديثِ، ولكنْ بقيدِ كونِهِ من روايةِ مُحَمَّدِ بنِ عمرو. ولستُ أريدُ بالمتابعةِ كونَهُ رواهُ عن أبي سلمةَ عن أبي هُرَيرَة غيرُ محمدِ بنِ عمرٍو؛ ولكنَّ متابعةَ شيخِهِ أبي سلمةَ عليه عن أبي هريرةَ فقد تابعَ أبا سلمةَ عليه عن أبي هريرةَ ، عبدُ الرحمن بنُ هرمزٍ الأعرجُ ، وسعيد المقبريُّ ، وأبوه : أبو سعيدٍ ، وعطاءٌ مولى أُمِّ صُبَيَّةَ ، وحميدُ بنُ عبدِ الرحمن ، وأبو زرعة بنُ عمرِو بنِ جريرٍ ، وهو متفقٌ عليه من طريقِ الأعْرَجِ . والمتابعةُ قَدْ يُراد بها متابعةُ الشيخِ ، وقد يُراد بها متابعةُ شيخِ الشيخِ ، كما سيأتي الكلامُ عليهِ في فصلِ المتابعاتِ والشواهدِ .
65.
قَالَ : وَمِنْ مَظِنَّةٍ لِلحَسَنِ
جَمْعُ (أبي دَاوُدَ) أيْ في السُّنَنِ
66.
فإنَّهُ قَالَ : ذَكَرْتُ فِيْهِ
ما صَحَّ أوْ قَارَبَ أوْ يَحْكِيْهِ
67.
وَمَا بهِ وَهْنٌ شَدِيْدٌ قُلْتُهُ
وَحَيْثُ لاَ فَصَالِحٌ خَرَّجْتُهُ
68.
فَمَا بِهِ وَلَمْ يُصَحَّحْ وَسَكَتْ
عَلَيْهِ عِنْدَهُ لَهُ الحُسْنُ ثَبَتْ
69.
و(ابْنُ رُشَيْدٍ) قَالَ –وَهْوَ مُتَّجِهْ-
قَدْ يَبْلُغُ الصِّحَّةَ عِنْدَ مُخْرِجِهْ
أي : قال ابنُ الصَّلاحِ : ومن مظانِّه – أي : الحسنِ - سننُ أبي داودَ السجستانيِّ – رحمهُ اللهُ تعالى -. رُوينا عنه أنَّهُ قالَ : ذكرتُ فيه الصحيحَ وما يُشْبِهُهُ ويقارِبُهُ . قال: وروينا عنه أيضاً ما مَعْناهُ أنَّهُ يذكُرُ في كُلِّ بابٍ أصحَّ ما عرفَهُ في ذلكَ البابِ . وقال : ما كان في كتابي من حديثٍ فيه وَهْنٌ شديدٌ فقد بينتُهُ ، وما لم أذكرْ فيه شيئاً فهو صالحٌ وبعضُها أصحُّ من بعضٍ . قال ابنُ الصلاحِ : (( فعلى هذا ما وجدناه في كتابِهِ مذكوراً مطلقاً ، وليس في واحدٍ من الصحيحينِ ، ولا نَصَّ على صحتِهِ أحدٌ ممَّنْ يُميِّزُ بين الصحيحِ والحسنِ عرفناه بأنَّهُ من الحسَنِ عند أبي داودَ . وقد يكونُ في ذلك ما ليسَ بحسَنٍ عند غيرِهِ ، ولا مندرجٍ فيما حقّقنا ضبطَ الحسنِ به )) . ثم ذكرَ كلامَ ابنِ منده في شرطِ أبي داودَ ، والنسائيِّ. وقد ذكرتُهُ بعد هذا بسبعةِ أبياتٍ . وقد اعترضَ أبو عبد اللهِ محمدُ بنُ عمرِ بنِ محمدِ الفِهريُّ الأندلسيُّ المعروفُ بابن رُشَيد ، على كلامِ ابنِ الصَّلاحِ بأنْ قال : (( ليس يلزمُ أنْ يُستفادَ من كونِ الحديثِ لم ينصَّ عليه أبو داودَ بضَعْفٍ ، ولا نَصَّ عليهِ غيرُهُ بصحةٍ أنَّ الحديثَ عند أبي داودَ حسنٌ . إذْ قد يكونُ عنده صحيحاً ، وإنْ لم يكن عندَ غيرِهِ كذلك. وقال أبو الفتح اليعمريُّ: (( وهذا تعقّبٌ حسنٌ )) . انتهى . وهذا معنى قولِهِ : ( وهو مُتَّجِهْ ) ، وهي جملةٌ معترضةٌ . ومعمولُ القولِ قد يبلغُ إلى آخرهِ . وقد يُجابُ عن اعتراضِ ابنِ رُشيد : بأنَّ ابنَ الصلاحِ إنَّما ذكرَ ما لنا أنْ نعرفَ الحديثَ به عندَهُ والاحتياطُ أنْ لا يرتفعَ به إلى درجةِ الصِّحَّةِ، وإنْ جازَ أنْ يبلغَها عند أبي داودَ ؛ لأنَّ عبارتَهُ : فهو صالحٌ ، أي للاحتجاجِ به . فإنْ كان أبو داودَ يَرى الحسنَ رتبةً بين الصحيحِ والضعيفِ ، فالاحتياطُ ما قالَهُ ابنُ الصلاحِ ، وإنْ كان رأيُهُ كالمتقدّمين أنَّهُ ينقسمُ إلى صحيحٍ وضعيفٍ ، فما سكت عنه فهو صحيحٌ ، والاحتياطُ أنْ يُقْالَ صالحٌ كما عَبَّرَ هو عن نفسِهِ .
70 .
وَللإمَامِ ( اليَعْمُرِيِّ ) إنَّما
قَوْلُ (أبي دَاوُدَ) يَحْكي (مُسْلِما)
71 .
حَيثُ يَقُوْلُ : جُمْلَةُ الصَّحِيْحِ لا
تُوجَدُ عِنْدَ ( مَالِكٍ ) وَالنُّبَلا
72 .
فَاحْتَاجَ أنْ يَنْزِلَ في الإسْنَادِ
إلى ( يَزيْدَ بنِ أبي زيَادِ )
73 .
وَنَحْوِهِ ، وإنْ يَكُنْ ذُو السَّبْقِ
قَدْ فَاتَهُ ، أدْرَكَ بِاسْمِ الصِّدْقِ
74 .
هَلاَّ قَضَى عَلَى كِتَابِ ( مُسْلِمِ )
بِمَا قَضَى عَلَيْهِ بِالتَّحَكُّمِ
أي : وللإمامِ أبي الفتحِ محمّدِ بن محمدِ بنِ محمدِ بنِ سَيِّدِ النّاسِ اليَعْمُريِّ تعقّبٌ على كلامِ ابنِ الصَّلاحِ ، فقالَ في شرح الترمذيِّ : لم يَرْسُمْ أبو داود شيئاً بالحسنِ . وعملُه في ذلك شبيهٌ بعملِ مسلم ، الذي لا ينبغي أنْ يحملَ كلامَهُ على غيرِهِ أنّه اجتنبَ الضعيفَ الواهيَ ، وأتى بالقسمينِ الأولِ والثاني ، وحديثُ من مَثَّلَ به من الرواةِ من القسمينِ الأولِ والثاني ، موجودٌ في كتابِهِ دونَ القسم الثالثِ . قال : فهلاَّ ألزمَ الشيخُ أبو عمرٍو مسلماً من ذلك ما ألزَمَ به أبا دوادَ ؟ فمعنى كلامِهِمَا واحدٌ . وقولُ أبي داودَ وما يشبهُهُ ، يعني : في الصِّحَّةِ ، وما يقارِبُهُ ، يعني : فيها أيضاً . قال : وهو نحوُ قولِ مسلمٍ أنَّهُ ليس كُلُّ الصحيحِ نجدُهُ عند مالكٍ ، وشعبةَ وسفيانَ ، فاحتاجَ أنْ ينـزلَ إِلَى مثلِ حديثِ ليثِ بن أبي سُليمٍ ، وعَطَـاءِ بنِ السائبِ ، ويزيـدَ بن أبي زيادٍ ؛ لما يَشْملُ الكُلَّ من اسمِ العدالةِ والصدقِ ، وإنْ تفاوتوا في الحفظِ والإتقانِ ، ولا فرقَ بين الطريقينِ ، غيرَ أنَّ مسلماً شرطَ الصحيحَ فَتَحرَّجَ من حديثِ الطبقةِ الثالثةِ ، وأبا داودَ لم يشترطْهُ فذكرَ ما يشتدُّ وَهنُهُ عندَهُ والتزمَ البيانَ عنهُ . قال : وفي قولِ أبي دوادَ أنَّ بعضَها أصحُّ من بعضٍ ما يشيرُ إلى القَدَرِ المشتَركِ بينَها من الصحَّةِ ، وإنْ تفاوتَتْ فيه لما تقتضيهِ صيغةُ أفْعَلَ في الأكثرِ . انتهى . والجوابُ عمّا اعترضَ به ابنُ سَيِّدِ الناسِ: أنَّ مسلماً التزم الصحةَ في كتابِهِ ، فليس لنا أن نحكمَ على حديثٍ خَرَّجَهُ فيه بأنَّهُ حسنٌ عندَهُ ، لما تقدّمَ من قُصورِ الحَسَنِ عن الصحيحِ . وأبو داودَ قال : إنَّ ما سكت عنه فهو صالحٌ . والصالحُ قد يكونُ صحيحاً ، وقد يكونُ حسناً عند مَنْ يَرَى الحسنَ رتبةً دونَ الصحيحِ. ولم يُنْقَلْ لنا عن أبي داودَ هل يقولُ بذلك ، أو يَرى ما ليس بضعيفٍ صحيحاً ؟ فكانَ الاحتياطُ أنْ لا يرتفعَ بِمَا سكتَ عَنْهُ إِلَى الصِّحَّةِ حَتَّى يعلمَ أنَّ رأيَهُ هُوَ الثاني ، ويحتاجُ إِلَى نَقلٍ . وقولُهُ : ( يحكي مسلماً ) ، أي يشبهُ قولَ مُسْلِم . وقولُهُ: ( حيثُ يقولُ ) ، أي : مُسْلِم ، وكذا قولُهُ: ( فاحتاجَ ) ، أي: مُسْلِم . وقولُهُ : ( فاتَهُ ) ، أي : يزيدَ بنَ أبي زيادٍ ، ونحوه . وقولُهُ : ( هلاّ قضى ) ، أي : ابنُ الصلاحِ . وقولُهُ : ( عَلَيْهِ ) ، أي : على كتابِ أبي داودَ .
75.
وَ ( البَغَوِيْ ) إذْ قَسَّمَ المَصَابحَا
إلى الصِّحَاحِ وَالحِسَانِ جَانِحا
76.
أنَّ الحِسَانَ مَا رَوُوْهُ في السُّنَنْ
رَدَّ عَلَيهِ إذْ بِهَا غَيْرُ الحَسَنْ
أي : والبَغويُّ رُدَّ عليهِ في تسميتِهِ في كتابِ " المصابيحِ " ما رواهُ أصحابُ السُّنَنِ الحِسانَ . إذ في السنن غيرُ الحسَنِ من الضعيفِ والصحيحِ ، إنْ قلنا: الحسنُ ليس أعمَّ من الصحيحِ ، كما سيأتي في بقيّةِ الفصلِ . قال ابنُ الصلاحِ : هذا اصطلاحٌ لا يُعرفُ ، وليس الحسنُ عند أهلِ الحديثِ عبارةً عن ذلكَ .
77.
كَانَ (أبُوْ دَاوُدَ) أقْوَى مَا وَجَدْ
يَرْوِيهِ ، والضَّعِيْفَ حَيْثُ لاَ يَجِدْ
78.
فِي البَابِ غَيْرَهُ فَذَاكَ عِنْدَهْ
مِنْ رَأيٍ اقوَى قَالهُ (ابْنُ مَنْدَهْ)
79.
(وَالنَّسَئيْ) يُخْرِجُ مَنْ لَمْ يُجْمِعُوا
عَليْهِ تَرْكاً ،مَذْهَبٌ مُتَّسِعُ
هذا بيانٌ لكونِ السننِ فيها غيرُ الحسن . قالَ ابنُ الصلاحِ: روينا عنه أي : عن أبي داودَ ما معناهُ أنَّهُ يذكرُ في كلِّ بابٍ أصحَّ ما عرَفَهُ في ذلك الباب . وقال أبو عبد الله ابنُ منده عنه: إنَّهُ يخرجُ الإسنادَ الضعيفَ إذا لم يجدْ في البابِ غيرَهُ ؛ لأنَّهُ أقوى عندَهُ من رأي الرجالِ . وَقَالَ ابنُ منده: إنَّهُ سمعَ محمدَ بنَ سعدٍ الباورديَّ بمصرَ يقولُ : كانَ من مذهبِ أبي عبدِ الرحمنِ النَّسائيِّ أنْ يخرجَ عن كلِّ منْ لم يُجمَعْ على تركهِ .
فقولُهُ : ( والضعيفَ ) أي : ويروِي الضعيفَ . وقولُهُ : ( مذهبٌ متّسعٌ ) ، خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ .
80.
وَمَنْ عَليها أطْلَقَ الصَّحِيْحَا
فَقَدْ أَتَى تَسَاهُلاً صَرِيْحَا
أي : ومَنْ أطلقَ الصحيحَ على كتبِ السُّنن ، فقد تساهَلَ ، كأبي طاهرٍ
السِّلَفيِّ حيث قال في الكتبِ الخمسةِ : اتفقَ على صحتِها علماءُ المشرقِ
والمغربِ . وكأبي عبدِ الله الحاكم حيثُ أطلقَ على الترمذيِّ " الجامعَ الصحيحَ " ، وكذلك الخطيبُ أطلقَ عليه ، وعلى النسائيِّ اسمَ الصحيحِ .
81.
وَدُوْنَهَا في رُتْبَةٍ مَا جُعِلاَ
عَلى المَسَانِيْدِ ، فَيُدْعَى الجَفَلَى
82.
كَمُسْنَدِ (الطَّيَالَسِيْ) و (أحْمَدَا)
وَعَدُّهُ ( لِلدَّارِميِّ ) انْتُقِدَا
أي : ودونَ السننِ في رتبةِ الصحةِ ما صنِّفَ على المسانيدِ ، وهو ما أُفْرِدَ فيـه حديثُ كُلِّ صَحَابِيّ عَلَى حِدَةٍ من غيرِ نَظَرٍ للأبـوابِ . كمسندِ أبي داودَ الطيالسيِّ . ويُقَالُ : إنَّهُ أولُ مسندٍ صنِّفَ . وكمسندِ أحمدَ بنِ حنبلٍ وأبي بكرِ بن أبي شيبةَ ، وأبي بكرٍ البّزارِ ، وأبي القاسم البغويِّ ، وغيرهم . وقد عَدَّ فيها ابنُ الصلاحِ مسندَ الدارميِّ ، فَوَهِمَ في ذلك ؛ لأنَّه مُرتّبٌ عَلَى الأبوابِ ، لا عَلَى المسانيدِ . وأشرتُ إِلَى ذَلِكَ بقولي : ( وَعَدَّهُ ) ، أي : ابنُ الصلاحِ . وقولُهُ : ( فيُدْعَى الجَفَلى ) ، كَنَّى به عن بيانِ كونِ المسانيدِ دونَ السننِ في مرتبةِ الصحةِ ؛ لأنَّ من جَمَعَ مسندَ الصحابيِّ يجمعُ فيه ما يقعُ له من حديثِهِ ، سواءٌ كان صالحاً للاحتجاجِ أم لا ؟ والجَفَلى : بفتح الجيمِ والفاءِ معاً مقصورٌ وهي الدعوةُ العامةُ للطعامِ . فإنَّ الدعوةَ عندَ العربِ على قسمينِ : الجفلى وهي العامةُ ، والنقرى وهي الخاصّةُ . قال طَرَفةُ :
نَحْنُ في المَشْتَاةِ نَدْعُو الجَفَلَى
لا تَـرَى الآدِبَ فينا يَنْتَقِرْ
وفي خطبةِ الإلْمَامِ لِلشَّيخِ تقيِّ الدينِ : ولم أدعُ الأحاديثَ إليهِ الجَفَلَى .
83.
والحُكْمُ لِلإسْنَادِ بِالصِّحَّةِ أوْ
بِالْحُسْنِ دُوْنَ الحُكْمِ لِلمَتْنِ رَأَوْا
84.
وَاقْبَلْهُ إنْ أَطْلَقَهُ مَنْ يُعْتَمَدْ
وَلَمْ يُعَقِّبْهُ بِضَعْفٍ يُنْتَقَدْ
أي : ورأوا الحكمَ للإسنادِ بالصحةِ كقولهم : (( هذا حديثٌ إسنادُهُ صحيحٌ )) ، دونَ قولِهِم : (( هذا حديثٌ صحيحٌ )) . وكذلك حكمُهُم على الإسنادِ بالحسن، كقولهم: (( إسنادُهُ حسنٌ )) دونَ قولِهِم : (( حديثٌ حسنٌ )) ؛ لأنَّهُ قَدْ يصحُّ الإسنادُ لثقةِ رجالِهِ ، ولا يصحُّ الحديثُ لشذوذٍ أو علّةٍ . قال ابنُ الصلاحِ : (( غير أنَّ المصنفَ المعتمدَ منهم إذا اقتصرَ على قولِهِ : إنّهُ صحيحُ الإسنادِ ، ولم يذكرْ له علّةً ، ولم يقدحْ فيه ، فالظاهرُ منه الحكمُ له بأنَّهُ صحيحٌ في نفسهِ ؛ لأنَّ عدمَ العلةِ والقادحِ ، هو الأصلُ والظاهرُ )) . قلتُ: وكذلك إنِ اقتصرَ على قولِهِ : حَسَنُ الإسنادِ ، ولم يُعَقِّبْهُ بضعفٍ ، فهو أيضاً محكومٌ له بالحُسْنِ .
85.
وَاسْتُشْكِلَ الحُسْنُ مَعَ الصِّحَّةِ في
مَتْنٍ ، فَإنْ لَفْظاً يُرِدْ فَقُلْ : صِفِ
86.
بِهِ الضَّعِيْفَ ، أوْ يُرِدْ مَا يَخْتَلِفْ
سَنَدُهُ ، فَكَيْفَ إنْ فَرْدٌ وُصِفْ ؟
أي : واستُشْكِلَ الجمعُ بَيْنَ الصحةِ والحسنِ في حديثٍ واحدٍ ، كقولِ الترمذيِّ وغيرِهِ : (( هَذَا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ )) ؛ لأنَّ الحسنَ قاصرٌ عن الصَّحِيحِ ، كما سبقَ ، فكيفَ يجتمعُ إثباتُ القصورِ ونفيُهُ في حديثٍ واحدٍ. وقد أجابَ ابنُ الصلاحِ بجوابٍ ، ثمَّ جَوَّزَ جواباً آخرَ . وضَعَّفَ الجوابينِ ابنُ دقيقِ العيدِ ، فمزجتُ الجوابينِ بردِّهِما . فقولُهُ : ( فإنْ لفظاً يُردْ ) ، أي : ابنُ الصلاحِ ، فإنَّهُ قالَ : (( إنّه غيرُ مستنكَرٍ أنْ يُرادَ بالحسنِ معناهُ اللُّغويُّ دون الاصطلاحيِّ )) . قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ : (( ويلزمُ عليهِ أنْ يطلقَ على الحديثِ الموضوعِ إذا كان حسنَ اللفظِ أنَّهُ حسنٌ )) .
وقولُهُ : ( أو يُرِدْ ما يختلف سندُهُ ) ، هذا هو الجوابُ الأولُ الذي أجابَ به ابنُ الصلاحِ أنَّ ذلك راجعٌ إلى الإسنادِ بأنْ يكونَ له إسنادانِ : أحدُهما صحيحٌ ، والآخر : حسنٌ . قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ : (( يَرِدُ عليهِ الأحاديثُ التي قيلَ فيها : حسنٌ صحيحٌ مع أنَّهُ ليس لها إلاّ مخرجٌ واحدٌ . وفي كلامِ الترمذيِّ في مواضعَ يقولُ : هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ لا نعرفهُ إلا مِنْ هذا الوجه )) . وهذا معنى قولِهِ: ( فكيفَ إنْ فردٌ وُصِف ) ، أي: فكيفَ إنْ وصفَ حديثٌ فردٌ بأنّهُ حسنٌ صحيحٌ، كحديث العلاءِ بنِ عبدِ الرحمنِ ، عن أبيهِ ، عن أبي هريرةَ : (( إذا بقي نصفُ شعبانَ فلا تصوموا )) ، فقالَ فيه الترمذيُّ : حسنٌ صحيحٌ لا نعرِفُهُ إلا مِنْ هذا الوجهِ على هذا اللفظِ .
87.
وَ ( لأَبِي الفَتْحِ ) في الاقْتِرَاحِ
أنَّ انفِرَادَ الحُسْنِ ذُوْ اصْطِلاَحِ
88.
وَإنْ يَكُنْ صَحَّ فَليْسَ يَلْتَبِسْ
كُلُّ صَحِيْحٍ حَسَنٌ لاَ يَنْعَكِسْ
89.
وَأوْرَدوا مَا صَحَّ مِنْ أفْرَادِ
حَيْثُ اشْتَرَطْنَا غَيْرَ مَا إسْنَادِ
وهذا جوابٌ عن الاستشكالِ المذكورِ ، أجابَ به ابنُ دقيقِ العيدِ في كتاب " الاقتراحِ " ، بعدَ رَدِّ الجوابينِ المتقدّمينِ ، وحاصلُهُ أنَّ الحسنَ لا يُشتَرطُ فيه القصورُ عن الصِّحَّةِ إلا حيثُ انفردَ الحسنُ فيرادُ بالحسنِ حينئذٍ المعنى الاصطلاحيُّ. وأمّا إنِ ارتفعَ إلى درجةِ الصحةِ فالحسنُ حاصلٌ لا محالةَ تبعاً للصحةِ ؛ لأنَّ وجودَ الدرجةِ العُليا ، وهي الحفظُ والإتقانُ ، لا ينافي وجودَ الدنيا ، كالصدقِ ؛ فيصحُّ أنْ يُقالَ : حسنٌ باعتبارِ الصفةِ الدنيا ، صحيحٌ باعتبارِ الصفةِ العليا .
قال : ويلزَمُ على هذا أنْ يكونَ كُلُّ صحيحٍ حسناً ويؤيِّدُهُ قولُهُم : حَسَنٌ في الأحاديثِ الصحيحةِ وهذا موجودٌ في كلامِ المتقدّمين . انتهى . وقد تقدّمَ أنَّ ابنَ الموّاقِ أيضاً ، قال : كُلُّ صحيحٍ عند الترمذيِّ حسنٌ ، وليسَ كلُّ حَسَنٍ صحيحاً .
وقولُهُ : ( وأوردوا إلى آخرهِ ) : هذا إيرادٌ أوردَهُ ابنُ سَيِّدِ الناسِ على ابن الموّاقِ ، فقالَ: قدْ بَقِيَ عَلَيْهِ أنَّهُ اشترطَ في الحسنِ أنْ يُروى نحوُهُ من وجهٍ آخرَ ، ولم يشترطْ ذلك في الصحيحِ ، فانتفى أن يكونَ كلُّ صحيحٍ حسَنَاً . انتهى . فعلى هذا : الأفرادُ الصحيحةُ ليست بحسنةٍ عند الترمذيِّ إذ يشترطُ في الحسنِ أن يُـروى من غير وجـهٍ ، كحديثِ : (( الأعمالُ بالنياتِ )) ، وحديثِ : (( السَّفرُ قِطْعةٌ من العذَابِ )) ، وحديث : (( نهى عن بيعِ الوَلاءِ وعن هِبَتِهِ )) . قلتُ : وجوابُ ما اعترضَ به أنَّ الترمذيَّ إنَّما يشترطُ في الحسنِ ، مجيئَهُ من وجهٍ آخرَ ، إذا لم يبلغْ رُتْبَةَ الصحيحِ ، فإنْ بلغَها لم يشترطْ ذلك بدليلِ قولِهِ في مواضعَ : هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ ، فلمّا ارتفعَ إلى درجةِ الصحةِ أثبتَ له الغرابةَ باعتبارِ فرديَّتِهِ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : الضَّعِيْفُ
90.
أمَّا الضَّعِيْفُ فَهْوَ مَا لَمْ يَبْلُغِ
مَرْتَبَةَ الحُسْنِ ، وإنْ بَسْطٌ بُغِي :
91.
فَفَاقِدٌ شَرْطَ قَبُوْلٍ قِسْمُ
وَاثْنَيْنِ قِسْمٌ غَيْرُهُ ، وَضَمُّوْا
92.
سِوَاهُما فَثَالِثٌ ، وَهَكَذَا
وَعُدْ لِشَرْطٍ غَيْرَ مَبْدُوٍّ فَذَا
93.
قِسْمٌ سِوَاهَا ثُمَّ زِدْ غَيْرَ الَّذِي
قَدَّمْتُهُ ثُمَّ عَلى ذَا فَاحْتَذِي
أي : ما قَصَرَ عَلَى رتبةِ الحسنِ فَهُوَ ضعيفٌ . وقولُ ابنِ الصلاحِ: هُوَ ما لَمْ يجمعْ صفاتِ الصحيحِ ، ولا صفاتِ الحسنِ . فذِكْرُ الصحيحِ غيرُ محتاجٍ إِلَيْهِ ؛ لأنَّ ما قصرَ عن الحسنِ فهو عن الصحيحِ أقصرُ ، وإنْ كان بعضُهُم يقولُ : إنَّ الفردَ الصحيحَ لا يُسَمَّى حسناً ، على رأي الترمذيِّ . فقد تقدّمَ ردُّه وقولُهُ : ( وإنْ بَسْطٌ بُغِي … ) إلى آخره ، أي : وإنْ أُريدَ بَسْطَ أقسامِ الضعيفِ ، فما فُقدَ فيه شرطٌ من شروطِ القبولِ قِسْمٌ . وشروطُ القبولِ هي شروطُ الصحيحِ والحسنِ ، وهي ستةٌ :
- اتصالُ السندِ حيث لم ينجبرِ المرسلُ بما يُؤَكِّدُهُ على ما سيأتي .
- وعدالةُ الرجالِ .
- والسلامةُ من كثرةِ الخطأ والغفلةِ .
- ومجيءُ الحديثِ من وجهٍ آخرَ حيثُ كان في الإسنادِ مستورٌ لم تُعْرَفْ أهليتُهُ ، وليس متّهماً كثيرَ الغَلَطِ .
- والسلامةُ من الشذوذِ .
- والسلامةُ من العلةِ القادحةِ .
فما فقد فيه الاتّصالُ قسمٌ ، ويدخل تحتَهُ قسمان :
الأولُ : المنقطعُ ، الثاني : المرسلُ الذي لم ينجبرْ .
وقولُهُ : ( واثنينِ قسمٌ غيرُهُ ) ، أي : وما فقد فيه شرطٌ آخرُ مع الشرطِ المتقدّمِ ، قسمٌ آخرُ ويدخلُ تحتَهُ اثنا عَشَرَ قِسْمَاً ؛ لأنَّ فقدَ العدالةِ يَدْخُلُ تحتَهُ الضعيفُ والمجهولُ وهذه أقسامُهُ .
الثالث : مرسلٌ في إسنادِهِ ضعيفٌ . الرابعُ : منقطعٌ فيه ضعيفٌ . الخامسُ : مرسلٌ فيه مجهولٌ . السادس : منقطعٌ فيه مجهولٌ . السابعُ : مرسلٌ فيه مغفَّلٌ كثيرُ الخطأ ، وإنْ كانَ عدلاً . الثامنُ : منقطعٌ فيهِ مغفَّلٌ كذلك . التاسعُ : مرسلٌ فيه مستورٌ ، ولم ينجبر بمجيئِهِ من وجهٍ آخرَ . العاشرُ : منقطعٌ فيه مستورٌ ، ولم يَجِئ من وجهٍ آخرَ . الحادي عشر : مرسلٌ شاذٌّ . الثاني عشر : منقطعٌ شاذٌ . الثالث عشر : مرسلٌ معلّلٌ . الرابعَ عشر : منقطعٌ معللٌ .
وقولُهُ: (وضموا سواهما فثالث) ، أي : وضموا إلى فقدِ الشرطينِ المتقدمَينِ فقدَ شرطٍ ثالثٍ ، فهو قسمٌ ثالثٌ من أصلِ الأقسامِ. ويدخل تحتَهُ عشرَةُ أقسامٍ ، وهي هذهِ:
الخامس عشر : مرسلٌ شاذٌّ فيه عدلٌ مغفلٌ كثيرُ الخَطَأ . السادسَ عشرَ : منقطعٌ شاذٌّ فيه مغفلٌ كذلك . السابعَ عشرَ : مرسلٌ معللٌ فيه ضعيفٌ . الثامنَ عشرَ : منقطعٌ معللٌ فيه ضعيفٌ . التاسعَ عشرَ : مرسلٌ معللٌ فيه مجهولٌ . العشرونَ : منقطعٌ معللٌ فيه مجهولٌ . الحادي والعشرون : مرسلٌ معللٌ فيه مغفلٌ كذلك . الثاني والعشرونَ : منقطعٌ معللٌ فيه مغفلٌ كذلك . الثالث والعشرون : مرسلٌ معللٌ فيه مستورٌ ولم ينجبر . الرابعُ والعشرون : منقطعٌ معللٌ فيه مستورٌ كذلك .
وقولُهُ: (وهكذا) ، أي: وهكذا فافعلْ إلى آخرِ الشروطِ ، فخذ ما فَقَدَ فيه الشرطَ الأولَ ، وهو الاتصالُ مع شرطينِ آخرينِ ، غيرَ ما تقدم، وهما السلامةُ من الشذوذِ والعلةِ. ثم خذ ما فُقِدَ فيه شرطٌ آخرُ مضموماً إلى فَقْدِ هذهِ الشروطِ الثلاثةِ ، وهي هذهِ :
الخامسُ والعشرون : مرسلٌ شاذٌّ معللٌ . السادسُ والعشرون : منقطعٌ شاذٌّ معللٌ . السابع والعشرون : مرسلٌ شاذٌّ معللٌ فيه مغفلٌ كثيرُ الخطأ . الثامنُ والعشرون : منقطعٌ شاذٌّ معللٌ فيه مغفلٌ كذلك .
وقوله : ( وعُدْ لشرطٍ غَيرَ مبدوٍّ ) ، أي : وَعُدْ فابدأ بما فُقِدَ فيه شرطٌ واحدٌ غيرَ ما بدأتَ به أولاً ، وهو ثقةُ الرواةِ ، وتحتَهُ قسمانِ وهما :
التاسعُ والعشرون : ما في إسنادِهِ ضعيفٌ . الثلاثون : ما فيه مجهولٌ .
وقولُهُ : ( ثُمَّ زِدْ غيرَ الذي قدمتُهُ ) ، أي : ثم زِدْ على فَقْدِ عدالةِ الراوي فَقْدَ شرطٍ آخرَ غيرَ ما بدأتَ به ، وتحتهُ قسمان وهُما :
الحادي والثلاثون : ما فيه ضعيفٌ وعلّةٌ . الثاني والثلاثون : ما فيه مجهولٌ وعلةٌ .
وقولُهُ: ( ثم على ذا فاحتذي ) ، أي: ثم احذُ على هذا الحذوِ . وأدخلتِ الياءُ في آخرِهِ ؛ لضرورةِ القافيةِ ، والمرادُ فكمل هذا العملُ الثاني الذي بدأتَ فيهِ بفَقْدِ الشرطِ المثنى به ، كما كَمَّلْتَ الأولَ، أي فَضُمَّ إلى فقدِ هذينِ الشرطينِ فقدَ شرطٍ ثالثٍ، ثم عُدْ فابدأْ بما فُقِدَ فيه شرطٌ آخرُ غيرُ المبدوِّ به ، والمثنى به . وهو سلامةُ الراوي من الغَفْلَةِ ثم زِدْ عليهِ وجودَ الشذوذِ أوِ العلَّةِ أو هما معاً . ثمَّ عُدْ فابدأْ بما فُقِدَ فيه الشرطُ
الرابعُ ، وهو عدمُ مجيئه من وجهٍ آخرَ حيث كان في إسنادِهِ مستورٌ . ثم زِدْ عليهِ وجودَ العِلَّةِ . ثمَّ عُدْ فَابدَأْ بما فُقِدَ فيه الشرطُ الخامسُ ، وهو السلامةُ من الشذوذِ . ثم زدْ عليه وجودَ العلةِ معه ، ثم اخْتِمْ بفَقْدِ الشرطِ السادسِ .
ويدخلُ تحتَ ذلك أيضاً عشرةُ أقسامٍ ، وهي : الثالثُ والثلاثونَ : شاذٌّ معلّلٌ فيه عدلٌ مغفلٌ كثيرُ الخطأ . الرابعُ والثلاثونَ : ما فيه مغفلٌ كثير الخطأ . الخامسُ والثلاثون : شاذٌّ فيهِ مغفلٌ كذلك. السادسُ والثلاثون: معللٌ فيه مغفلٌ كذلك. السابعُ والثلاثون: شاذٌّ معللٌ فيه مغفلٌ كذلك. الثامنُ والثلاثونَ: ما في إسنادِهِ مستورٌ لم تُعْرفْ أهليتُهُ، ولم يُرو من وجهٍ آخرَ. التاسعُ والثلاثون: معللٌ فيه مستورٌ كذلك . الأربعون : الشاذُّ . الحادي والأربعون : الشاذُّ المعلل . الثاني والأربعون : المعللُ . فهذهِ أقسامُ الضعيفِ باعتبارِ الانفرادِ ، والاجتماع . وقد تركتُ من الأقسامِ التي يظنُّ انقسامُهُ إليها بحسَبِ اجتماعِ الأوصافِ عدّةُ أقسامٍ ، وهي : اجتماعُ الشذوذِ ، ووجودُ ضعيفٍ أو مجهولٍ أو مستورٍ في سندِهِ ؛ لأنَّه لا يمكنُ اجتماعُ ذلك على الصَّحِيْحِ ؛ لأنَّ الشّذوذَ تفردُ الثقةِ فلا يمكنُ وصفُ ما فيه راوٍ ضعيفٌ، أو مجهولٌ أو مستورٌ بأنَّهُ شاذٌّ ، واللهُ أعلمُ .
ومن أقسامِ الضعيفِ ما لَهُ لقبٌ خاصٌّ كالمُضطَرِبِ ، والمَقْلوبِ ، والمَوضوعِ ، والمُنْكَرِ ، وهو بمعنى الشاذِّ كما سيأتي .
94.
وَعَدَّهُ (البُسْتِيُّ) فِيما أوْعَى
لِتِسْعَةٍ وَأرْبَعِيْنَ نَوْعَا
أي : عَدَّ أبو حاتِم محمّدُ بنُ حبّانَ البستيُّ أنواعَ الضعيفِ تسعةً وأربعينَ نوعاً . وقولُهُ : ( أوعَى ) ، أي : جمعَ ، حكاه صاحبُ " المشارقِ ". ويقال : وَعَى العلمَ ، وأوعاه : حَفِظَهُ وجمعَهُ .
المـَرْفُـوْعُ
95.
وَسَمِّ مَرْفُوْعاً مُضَافاً لِلنَّبِيْ
وَاشتَرَطَ (الخَطِيْبُ) رَفْعَ الصَّاحِبِ
96.
وَمَنْ يُقَابِلْهُ بِذي الإرْسَالِ
فَقَدْ عَنَى بِذَاكَ ذَا اتِّصَالِ
اختلفَ في حدِّ الحديثِ المرفوعِ، فالمشهورُ أنَّهُ: ما أُضيف إلى النبي قولاً له، أو فعلاً سواءٌ أضافَهُ إليه صحابيٌّ أو تابعيٌّ ، أو مَنْ بعدَهما ، سواءٌ اتّصلَ إسنادُهُ أم لا .
فعلى هذا يدخلُ فيه المتصلُ والمرسلُ والمنقطعُ والمعضلُ. وقال الخطيبُ : هـو ما أخبرَ فيه الصحابيُّ عن قـولِ الرسـولِ ، أو فعلِهِ . فعلى هذا لا تدخلُ فيه مراسيلُ التابعينَ ومَنْ بعدَهُم . قال ابنُ الصلاحِ : (( ومَنْ جَعَلَ من أهلِ الحديثِ المرفوعَ في مُقَابَلَةِ المُرْسَلِ ، فقد عَنَى بالمرفوعِ المتصلَ )) .
المُسْـنَدُ
97.
وَالمُسْنَدُ المَرْفُوْعُ أوْ مَا قَدْ وُصِلْ
لَوْ مَعَ وَقْفٍ وَهوَ في هَذَا يَقِلْ
98.
وَالثالِثُ الرَّفْعُ مَعَ الوَصْلِ مَعَا
شَرْطٌ بِهِ ( الحَاكِمُ ) فِيهِ قَطَعَا
أُخْتُلِفَ في حَدِّ الحديثِ المسنَدِ على ثلاثةِ أقوالٍ :
فقالَ أبو عمرَ بنُ عبدِ البرِّ في " التمهيد " : هو ما رُفع إلى النبيِّ خاصّةً - قال - : وقد يكونُ متّصلاً مثلُ : مالكٍ ، عن نافعِ ، عن ابنِ عمرَ ، عن رسولِ اللهِ . وقد يكونُ منقطعاً ، مثلُ : مالكٍ ، عن الزهريِّ ، عن ابنِ عبّاسٍ ، عن رسولِ اللهِ . قال : فهذا مسندٌ ؛ لأنَّهُ قَدْ أُسندَ إلى رسولِ اللهِ ، وهو منقطعٌ ، لأنَّ الزهريَّ لم يَسْمَعْ من ابنِ عبّاسٍ . انتهى .
فعلى هذا يستوي المسندُ والمرفوعُ . وقالَ الخطيبُ: هو عندَ أهلِ الحديثِ: الذي اتّصلَ إسنادُهُ من راويهِ إلى منتهاهُ. قالَ ابنُ الصلاحِ: وأكثرُ ما يستعملُ ذلك فيما جاءَ عن رسولِ اللهِ دونَ ما جاءَ عن الصحابةِ وغيرهم.وكذا قال ابنُ الصَّبَّاغِ في"العُدَّة" المسندُ: ما اتصلَ إسنادُهُ. فعلى هذا يَدخُلُ فيه المرفوعُ والموقوفُ. ومقتضى كلامِ الخطيبِ أنَّهُ يدخلُ فيه ما اتصلَ إسنادهُ إلى قائِلِهِ مَنْ كان، فيدخلُ فيه المقطوعُ، وهو قولُ التابعيِّ ، وكذا قولُ مَنْ بعدَ التابعينَ ، وكلامُ أهلِ الحديثِ يأباهُ. وقولُهُ: أو ، هي لتنويعِ الخلافِ ، يدلُّ عليه قولُهُ بَعدُ: (والثالثُ ) ، وهو أنَّ المسندَ لا يقعُ إلا على ما رُفِعَ إلى النبيِّ بإسنادٍ متصلٍ ، وبه جزمَ الحاكمُ أبو عبدِ اللهِ النَّيْسابوريُّ في " علومِ الحديثِ " ، وحكاهُ ابنُ عبدِ البرِّ قولاً لبعضِ أهل الحديثِ .
المُتَّصِلُ وَالمَوصُولُ
99.
وَإنْ تَصِلْ بِسَنَدٍ مَنْقُوْلاَ
فَسَمِّهِ مُتَّصِلاً مَوْصُوْلا
100.
سَوَاءٌ المَوْقُوْفُ وَالمَرْفُوْعُ
وَلَمْ يَرَوْا أنْ يَدْخُلَ المَقْطُوْعُ
المتّصلُ والموصولُ : هو ما اتّصلَ إسنادُهُ إلى النبيِّ ، أو إلى واحدٍ مِنَ الصحابةِ حيثُ كان ذلكَ موقوفاً عليهِ . وأما أقوالُ التابعينَ إذا اتصلتِ الأسانيدُ إليهم ، فلا يسمّونها متصلةً . وهذا معنى قولِهِ : ( ولمْ يَرَوْا أنْ يدخُلَ المقطوعُ ) ، وإنِ اتصلَ السندُ إلى قائلِهِ . قالَ ابنُ الصلاحِ : ومطلقُهُ ، أي : المتصلِ ، يقعُ على المرفوعِ والموقوفِ . قلتُ : وإنّما يَمتنعُ اسمُ المتصلِ في المقطوعِ في حالةِ الإطلاقِ . أما مع التقييدِ فجائزٌ واقعٌ في كلامِهِم ، كقولِهِم : هذا متصلٌ إلى سعيدِ بنِ المسيِّبِ ، أو إلى الزهريِّ ، أو إلى مالكٍ ونحو ذلك .
المَـوْقُـوْفُ
101.
وَسَمّ بالمَوْقُوْفِ مَا قَصَرْتَهُ
بِصَاحِبٍ وَصَلْتَ أوْ قَطَعْتَهُ
102.
وَبَعضُ أهْلِ الفِقْهِ سَمَّاهُ الأثَرْ
وَإنْ تَقِفْ بِغَيرِهِ قَيِّدْ تَبَرّْ
أي : والموقوفُ ما قصرْتَهُ بواحدٍ من الصحابةِ قولاً له ، أو فعلاً ، أو نحوَهُما . ولم تتجاوز به إلى النبيِّ سواءٌ اتصلَ إسنادهُ إليه ، أولم يتصلْ . وقال أبو القاسمِ الفُوْرانيُّ من الخُراسانيينَ : (( الفُقهاءُ يقولون : الأثرُ ما يُروى عن الصَّحابةِ )) .
وقولُهُ : ( وإن تَقِفْ بغيره قيّدْ تبرِ ) ، أي : وإنِ استعملتَ الموقوفَ فيما جاءَ عن التابعينَ فمَنْ بعدَهُم ، فقيِّدْهُ بهم . فَقُلْ : موقوفٌ على عطاءٍ ، أو على طاوُسٍ ، أو وقفهُ فلانٌ على مجاهدٍ ، ونحوَ ذلكَ . وفي كلامِ ابنِ الصلاحِ أنَّ التقييدَ لا يتقيدُ بالتابعيِّ ، فإنَّهُ قال : وقد يستعملُ مقيّداً في غير الصحابيِّ . فعلى هذا يُقالُ موقوفٌ على مالكٍ ، على الثوريِّ ، على الأوزاعيِّ ، على الشافعيِّ ، ونحو ذلك .
المـَقْطُـوْعُ
103.
وَسَمِّ بِالمَقْطُوْعِ قَوْلَ التَّابِعي
وَفِعْلَهُ ، وَقَدْ رَأى (للشَّافِعِي)
104.
تَعْبِيـرَهُ بِـهِ عَنِ المُنقطِـعِ
قُلْتُ: وَعَكسُهُ اصطِلاحُ (البَردَعِي)
قَالَ الخَطيبُ في كتابِ " الجامعِ بين آدابِ الراوي والسامعِ " : من الحديثِ : المقطوعُ. – وقال أيضاً -: المقاطعُ ، هي الموقوفاتُ على التابعينَ . قال ابنُ الصلاحِ: ويقالُ في جمعِهِ المقاطيعُ ، والمقاطعُ . وقولُهُ: ( وقد رَأى ) أي: ابنُ الصلاحِ ، فقالَ: وقد وجَدْتُ التعبيرَ بالمقطوعِ عن المنقطعِ في كلامِ الإمامِ الشافعيِّ ، وأبي القاسمِ الطبرانيِّ ، وغيرِهما . انتهى. ووجدْتُهُ أيضاً في كلامِ أبي بكرٍ الحميديِّ، وأبي الحَسَنِ الدارقطنيِّ . وقولُهُ : ( وعكسُهُ اصطلاحُ البرذعي ) ، وهو أنَّ الحافظَ أبا بكرٍ أحمدَ بنَ هارونَ البَرْدِيجيَّ البَرْذعيَّ ، جعلَ المنقطعَ هو قولُ التابعيِّ. قال ذلك في جزءٍ له لطيفٍ. وقد ذكرَ ابنُ الصلاحِ هذا القولَ في آخرِ كلامهِ على المنقطعِ أنَّ الخطيبَ حكاهُ عن بعضِ أهلِ العلمِ ، واستبعدَهُ ابنُ الصلاح . وأتيتُ هنا بـ ( قلتُ ) : لأنَّ تعيينَ القائلِ لها من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ ، وإن كانت المسألةُ في مَوضِعٍ آخرَ من كتابِهِ غيرَ معزوةٍ إلى قائِلِها .
فُـرُوْعٌ
105.
قَوْلُ الصَّحَابيِّ ( مِنَ السُّنَّةِ ) أوْ
نَحْوُ ( أُمِرْنَا) حُكْمُهُ الرَّفْعُ ، وَلَوْ
106.
بَعدَ النَّبِيِّ قالَهُ بِأَعْصُرِ
عَلى الصَّحِيْحِ ، وَهْوَ قَوْلُ الأكْثَرِ
قولُ الصحابيِّ : (( من السنةِ كذا )) ، كقولِ عليٍّ : (( من السُّنَّةِ وَضْعُ الكفِّ على الكفِّ في الصلاةِ ، تحتَ السُّرَّةِ )) . رواهُ أبو داودَ في روايةِ ابنِ داسةَ ، وابنِ الاعرابيِّ . قالَ ابنُ الصَلاحِ : فالأصحُّ أنَّهُ مسندٌ مرفوعٌ ؛ لأنَّ الظاهرَ أنّهُ لا يريدُ بهِ إلا سُنَّةَ رسولِ اللهِ ، وما يجبُ اتباعُهُ . قالَ ابنُ الصَّبَّاغ في " العُدَّة " : وحُكِيَ عن أبي بكرٍ الصَّيْرفيِّ ، وأبي الحَسَنِ الكَرْخيِّ وغيرهِما أنّهم قالوا : يحتملُ أنْ يُريدَ به سنةَ غير النبيِّ ، فلا يحملُ على سنتهِ . انتهى .
وقولُ الصحابيِّ : أُمِرْنا بكذا ، أو نُهينا عن كذا ، كقولِ أُمِّ عَطيّةَ: أمِرنا أن نُخِرجَ في العِيدَيْنِ العَوَاتِقَ ، وذَوَاتِ الخُدُورِ ، وأُمِرَ الحُيَّضُ أنْ يعتزِلْنَ مُصَلَّى المُسلِمِينَ . وكقولها أيضاً : نُهِينا عن اتِّباعِ الجنائزِ ، ولم يُعْزَمْ علينا وكلاهما في الصحيح ، هو من نوعِ المرفوعِ والمسندِ عند أصحابِ الحديثِ ، وهو الصحيحُ ، وقولُ أكثرِ أهلِ العلمِ ، قاله ابنُ الصلاح . قال : لأنَّ مطلقَ ذلك ينصرفُ بظاهرِهِ إلى من إليهِ الأمرُ والنهي وهو رسول اللهِ . – قال - : وخالفَ في ذلك فريقٌ ، منهم : أبو بكرٍ الإسماعيليُّ . قلتُ : وجزَم بهِ أبو بكرٍ الصَّيْرفيُّ في " الدلائل " . قال ابنُ الصلاحِ : وكذلك قولُ أنسٍ : أُمِرَ بلالٌ أنْ يَشْفعَ الأَذانَ ويُوترَ الإقامةَ . قال : ولا فَرْقَ بينَ أنْ يقولَ ذلك في زمنِ رسول الله ، أو بعدَهُ . انتهى . أما إذا صَرَّحَ الصحابيُّ بالآمر ، كقوله : أمَرَنا رسولُ الله ، فلا أعلمُ فيه خلافاً ، إلا ما حكاهُ ابنُ الصَّبَّاغِ في " العُدَّة " عن داودَ وبعضِ المتكلّمينَ أنّهُ لا يكونُ ذلك حُجَّةً ، حتى يُنقلَ لنا لفظُهُ . وهذا ضعيفٌ مردودٌ ، إلا أنْ يريدوا بكونِهِ لا يكونُ حجةً ، أي في الوجوب . ويدلُّ على ذلك تعليلُهُ للقائلينَ بذلكَ ، بأنَّ مِنَ الناسِ مَنْ يقولُ: المندوبُ مأمورٌ به . ومنهم مَنْ يقولُ : المباحُ مأمورٌ به أيضاً . وإذا كانَ ذلكَ مرادَهم ، كان له وجهٌ ، والله أعلم .
107.
وَقَوْلُهُ ( كُنَّا نَرَى) إنْ كانَ مَعْ
عَصْرِ النَّبِـيِّ مِنْ قَبِيْلِ مَا رَفَعْ
108.
وَقِيْلَ: لا ، أوْ لا فَلا ،كَذاكَ لَه
و(لِلخَطِيْبِ) قُلْتُ : لكِنْ جَعَلَهْ
109.
مَرفُوعاً ( الحَاكِمُ ) و (الرَّازِيُّ
إبـنُ الخَطِيْبِ )،وَهُـوَ القَـوِيُّ
أي : وقولُ الصحابيِّ: كُنَّا نَرَى كذا ، أو نفعلُ كذا ، أو نقولُ كذا ، ونحو ذلك . إنْ كان مع تَقْييدِهِ بعصر النَّبيِّ كقولِ جابرٍ : (( كُنَّا نعزِلُ على عَهدِ رسولِ الله )) متفقٌ عليه . وكقولِهِ : (( كُنَّا نأكلُ لحمَ الخيلِ على عهد النبيِّ )) رواهُ النسائيُّ ، وابنُ ماجه . فالذي قَطَعَ به الحاكمُ وغيرُهُ من أهلِ الحديثِ وغيرهم ، أنَّ ذلك من قبيلِ المرفوعِ . وصَحَّحَهُ الأصوليون : الإمامُ فخرُ الدين ، والسيفُ الآمديُّ وأتباعهما . قالَ ابنُ الصلاحِ : وهو الذي عليه الاعتمادُ ؛ لأنَّ ظاهرَ ذَلِكَ مشعرٌ بأنَّ رَسُوْل اللهِ اطّلعَ عَلَى ذلكَ وقرَّرَهُم عَلَيْهِ . وتقريرُهُ أحدُ وُجوهِ السُّنن المرفوعةِ ، فإنَّها أقوالُهُ ، وأفعالُهُ ، وتَقرِيرُهُ ، وسكوتُهُ عن الإنكارِ بَعْدَ اطلاعِهِ . – قَالَ - : وبلغني عن البَرْقانيِّ أنهُ سألَ الإسماعيليَّ عن ذلكَ فأنكَرَ كونَهُ من المرفوعِ . قُلْتُ : أمَّا إذا كانَ في القِصَّةِ اطلاعُهُ فحكمُهُ الرفعُ اجماعاً ، كقولِ ابنِ عمرَ : (( كُنَّا نقولُ ورسولُ اللهِ حيٌّ: أفضلُ هَذِهِ الأمةِ بَعْدَ نَبيِّها ، أبو بكرٍ ، وعمرُ ، وعثمانُ ، ويسمَعُ ذَلِكَ رَسُوْل الله فَلاَ يُنكرُهُ )) رواهُ الطبرانيُّ في المعجمِ الكبيرِ . والحديثُ في الصحيحِ لكنْ لَيْسَ فِيْهِ اطّلاعُ النبيِّ عَلَى ذَلِكَ بالتصريح . وقولُهُ : ( أو لا فَلاَ ) أي : وإنْ لَمْ يكنْ مقيّداً بعصرِ النَّبيِّ فليس مِنْ قَبِيْلِ المرفوعِ . وقولُهُ : ( كذاك لَهُ ) أي : هذا لابنِ الصلاحِ تَبَعاً للخطيبِ فجزما بأنَّه من قبيلِ الموقوفِ .
وقولُهُ : ( قُلتُ ) : إلى آخر البيتِ الثالثِ من هذهِ الأبياتِ ، هو من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ ، وهو أنَّ الحاكمَ ، والإمامَ فخرَ الدين الرازيَّ جَعلاهُ من قبيلِ المرفوعِ، ولولم يقيِّدْهُ بعهدِ النبيِّ . وقال ابنُ الصَّبَّاغِ في "العُدَّةِ" إنَّهُ الظاهرُ ، ومَثَّلَهُ بقولِ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها: (( كانتِ اليدُ لا تُقْطعُ في الشيء التافِهِ )) . ومقتضى كلامِ البيضاويِّ موافقٌ لما قالَهُ ابنُ الصلاحِ ، ولكنَّ الإمامَ ، والسيفَ الآمديَّ لم يُقييدا ذلك بعهدِهِ . وقال به أيضاً كثيرٌ من الفقهاءِ ، كما قالَهُ النوويُّ في " شرح المُهَذَّبِ " ، قال : وهو قويٌّ من حيثُ المعنى .
110.
لكنْ حَدِيْثُ (كانَ بَابُ المُصْطَفَى
يُقْرَعُ بالأَظْفَارِ ) مِمَّا وُقِفَـا
111.
حُكْماً لَدَى (الحَاكِمِ) و(الخَطِيْبِ)
وَالرَّفْعُ عِنْدَ الشَّيخِ ذُوْ تَصْوِيْبِ
أي : لكنَّ هذا الحديثَ حكمُهُ حكمُ الموقوفِ عندَ الحاكمِ والخطيبِ ، وإنْ كان الحاكمُ قد تقدّمَ عنه ما يقتضي في نظيرِهِ أنَّهُ مرفوعٌ . وهذا الحديثُ رواهُ المغيرةُ ابنُ شعبةَ ، قال : كان أصحابُ رسول اللهِ يقرعونَ بابَهُ بالأظافيرِ . قالَ الحاكمُ : هذا يتوهمُهُ مَنْ ليس من أهلِ الصنعةِ مسنداً لذكرِ رسولِ الله فيه ، - قال - : وليس بمسنَدٍ بل هو موقوفٌ . وذكرَ الخطيبُ في " الجامع " نحوَ ذلك أيضاً . قال ابنُ الصلاحِ : بل هو مرفوعٌ كما سبق ذِكْرُهُ ، وهو بأنْ يكونَ مرفوعاً أحرى ؛ لكونِهِ أحرَى باطلاعِهِ عليه . قالَ : والحاكمُ معترفٌ بكونِ ذلك من قبيلِ المرفوعِ ، وقد كُنَّا عددْنَا هذه فيما أخذناه عليهِ ثم تأولناهُ له على أنَّهُ أراد أنَّهُ ليس بمسنَدٍ لفظاً ، وإنَّما جعلْنَاهُ مرفوعاً من حيثُ المعنى .
112.
وَعَدُّ مَا فَسَّرَهُ الصَّحَابِيْ
رَفْعاً فَمَحْمُوْلٌ عَلَى الأسْبَابِ
قولُهُ : ( رفعاً ) ، أي : مرفوعاً فأتى بالمصدرِ موضعَ المفعولِ ، أي : وعَدُّ تفسيرِ الصحابةِ مرفوعاً محمولٌ على تفسيرٍ فيه أسبابُ النـزولِ . ولم يعيّن ابنُ الصلاحِ القائلَ بأنَّ مطلقَ تفسيرِ الصحابيِّ مرفوعٌ ، وهو الحاكمُ وعزاهُ للشيخينِ فقال في " المستدركِ ": ليعلمَ طالبُ العلمِ أنَّ تفسيرَ الصحابيِّ الذي شَهِدَ الوحيَ والتنـزيلَ عندَ الشيخينِ حديثٌ مسندٌ . قال ابنُ الصلاحِ إنَّما ذلك في تفسيرٍ يتعلقُ بسببِ نزولِ آيةٍ يخبرُ بها الصحابيُّ أو نحوِ ذلك ، كقولِ جابرٍ : (( كانتِ اليهـودُ تقولُ : مَنْ أتَى امرأتَهُ مِن دُبرِها في قُبُلِها جاءَ الولدُ أحولَ ، فأنزلَ اللهُ تعالى : نِسَاْؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ الآية )) . قال : فأمّا سائرُ تفاسيرِ الصحابةِ التي لا تشتمِلُ على إضافةِ شيءٍ إلى رسول الله فمعدودةٌ في الموقوفاتِ .
113.
وَقَوْلُهُمْ (يَرْفَعُهُ) (يَبْلُغُ بِهْ )
(رِوَايَةً)(يَنْمِيْهِ ) رَفْعٌ فَانْتِبَهْ
114.
وَإنْ يَقُلْ ( عَنْ تَابعٍ ) فَمُرْسَلُ
قُلْتُ : (مِنَ السُّنَّةِ ) عَنْهُ نَقَلُوْا
115.
تَصْحِيْحَ وَقْفِهِ وَذُو احْتِمَالِ
نَحْوُ ( أُمِرْنَا ) مِنْهُ ( للغَزَالِيْ)
أي: وقولُهم عن الصحابيِّ يرفعُ الحديثَ ، أو يَبْلُغُ بِهِ ، أو يَنْمِيهِ ، أو رِوايةُ رفعٍ ، أي : مرفوعٍ . قال ابنُ الصلاحِ : وحكمُ ذلك عند أهلِ العلمِ حكمُ المرفوعِ صريحاً . وذلك كقولِ ابنِ عبّاسٍ : (( الشفاءُ في ثلاثٍ : شَرْبةِ عَسَلٍ ، وشَرْطةِ مِحْجمٍ ، وكَيَّةِ نارٍ . وأَنْهَى أُمتي عن الكيِّ )) رَفَعَ الحديثَ . رواهُ البخاريُّ من روايةِ سعيدِ بنِ جُبيرٍ عنه . ورواهُ مسلمٌ من روايةِ أبي الزِّنَادِ ، عن الأعْرَجِ ، عن أبي هريرةَ يَبْلُغُ به قال : (( الناسُ تَبَعٌ لقريشٍ )) وفي الصحيحينِ بهذا السندِ عن أبي هريرةَ روايةً (( تقاتِلُون قوماً صِغارَ الأعيُنِ )) … الحديثَ . وروى مالكٌ في "الموطأ" عن أبي حازمٍ، عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، قال : (( كانَ الناسُ يُؤمرونَ أنْ يضعَ الرجلُ يدَهُ اليُمنى على ذِراعِهِ اليُسْرى في الصلاة ))، قال أبو حازمٍ: لا أعلمُ إلاَّ أنَّهُ يَنْمِى ذلكَ. قال مالكٌ: يرفعُ ذلك .هذا لفظُ روايةِ عبدِ اللهِ بنِ يوسفَ، وقد رواهُ البخاريُّ من طريقِ القعنبيِّ عن مالكٍ ، فقال : يَنْمِي ذلك إلى النبيِّ ، فَصَرَّحَ برفْعِهِ .
وقولُهُ : ( وإنْ يَقُلْ ) ، أي : وإن يقل ذلك ، أي : هذه الألفاظَ عن تابعيٍّ فهو مرسلٌ ، وقولُهُ : ( قلتُ من السُنَّةِ ) إلى آخر الباب : هو من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ . وقولُهُ : ( عنه ) ، أي : عن التابعيِّ . وكذا قولُهُ – بعدَهُ - : ( منه ) . فإذا قالَ التابعيُّ من السنةِ كذا فهل هو موقوفٌ متصلٌ ، أو مرفوعٌ مرسلٌ كالذي قبلَهُ ؟ فِيْهِ وجهانِ لأصحابِ الشافعيِّ . مثالُهُ ما رَوَاهُ البيهقيُّ من قولِ عُبيدِ الله بن عبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ : السنَّةُ : تكبيرُ الإمامِ يومَ الفطرِ ويومَ الأضحى حِيْنَ يجلسُ عَلَى المنبرِ قَبْلَ الخطبةِ ؛ تسعَ تكبيراتٍ .
وحكى الداوديُّ في شرحِ مختصر المُزَني أنَّ الشافعيَّ كان يَرَى في القديمِ أنَّ ذلك مرفوعٌ إذا صَدَرَ من الصحابيِّ ، أو التابعيِّ ثم رَجَعَ عنه لأنَّهُم قد يُطلِقونَه ويُريدونَ سُنَّةَ البلدِ . انتهى. والأصحُ في مسألة التابعيِّ كما قالَ النوويُّ في " شرح المهذبِ " أنَّهُ موقوفٌ .
وعلى هذا فما الفرقُ بينَهُ وبينَ المسألةِ التي قبلَهُ ؟ يمكنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بأنَّ قولَهُ : يرفعُ الْحَدِيْث تصريحٌ بالرفعِ ، وقريبٌ مِنْهُ الألفاظُ المذكورةُ مَعَهُ . وأما قولُهُ : من السُّنَّةِ ، فكثيراً ما يعبَّرُ بِهِ عَنْ سُنَّةِ الخلفاءِ الراشدينَ. ويترجحُ ذَلِكَ إذا قالَهُ التابعيُّ بخلافِ ما إذا قالَهُ الصحابيُّ ، فإنَّ الظاهرَ أنَّ مرادَهُ سنةُ النبيِّ . وإذا قالَ التابعيُّ : (( أُمِرْنا بكذا )) ، ونحوه ، فهل يكونُ موقوفاً ، أو مرفوعاً مرسلاً ؟ فيه احتمالان لأبي حامدٍ الغزاليِّ في " المستصفى " ولم يُرَجِّح واحداً مِنَ الاحتمالينِ . وجَزَمَ ابنُ الصَّبَّاغِ في "العُدَّة" بأنَّهُ مرسلٌ . وحكى فيما إذا قالَ ذلك سعيدُ بنُ المسيِّبُ ، هل يكونُ حجةً ؟ وجهين ، والله أعلم .
116.
وَمَا أَتَى عَنْ صَاحِبٍ بحَيْثُ لا
يُقَالُ رَأيَاً حُكْمُهُ الرَّفْعُ عَلَى
117.
مَا قَالَ في المَحْصُوْلِ نَحْوُ مَنْ أتَى
( فَالحَاكِمُ ) الرَّفْعَ لِهَذَا أثْبَتَا
أي : وما جاءَ عن صحابيٍّ موقوفاً عليهِ ، ومثلُه لا يُقالُ مِنْ قبلِ الرأي حكْمُهُ حكمُ المرفوعِ كما قالَ الإمامُ فخرُ الدينِ في " المحصولِ " . فقال : إذا قالَ الصحابيُّ قولاً ، ليس للاجتهادِ فيه مجالٌ فهو محمولٌ على السماعِ تحسيناً للظنِّ به .
وقولُهُ : ( نحو مَنْ أتى ) ، أي : كقولِ ابن مسعودٍ : (( مَنْ أتى ساحراً ، أو عرّافاً ، فقد كفرَ بما أُنزلَ على محمّدٍ )) ، ترجمَ عليه الحاكمُ في " علومِ الحديثِ ": معرفةُ المسانيدِ التي لا يذكرُ سندُها عن رسولِ الله . قال : ومثالُ ذلك ، فذكرَ ثلاثةَ أحاديثَ ، هذا أحدُها . وما قالَهُ في " المحصولِ " موجودٌ في كلامِ غيرِ واحدٍ من الأئمةِ ، كأبي عمرَ بنِ عبدِ البرِّ ، وغيرِهِ . وقد أدخلَ ابنُ عبدِ البرِّ في كتابِهِ " التقصي " عِدَّةَ أحاديثَ، ذكرَها مالكٌ في " الموطّأ " موقوفةً مع أنَّ موضوع الكتابِ لما في " الموطّأ " من الأحاديثِ المرفوعةِ ، منها حديثُ سهلِ بنِ أبي حَثَمةَ في صلاةِ الخوفِ . وقالَ في " التمهيد " : هذا الحديثُ موقوفٌ على سَهْلٍ في " الموطّأ " عند جماعةِ الرواةِ عن مالكٍ. – قال –: ومثلُه لا يقالُ من جهةِ الرأي، وكثيراً ما شنّع ابنُ حزم في "المحلى" على القائلين بهذا ، فيقولُ : عهدناهم يقولون لا يُقالُ : مثلُ هذا من قبل الرأي . ولإنكارِهِ وجهٌ ؛ فإنَّهُ وإنْ كان لا يقالُ مثلُهُ من جهةِ الرأي ، فلعلَّ بعضَ ذلك سمعَهُ ذلك الصحابيُّ من أهل الكتابِ . وقد سمعَ جماعةٌ من الصحابةِ من كعب الأحبارِ ، ورَوَوا عنه كما سيأتي، منهم: العبادلةُ ، وقد قال : (( حدّثوا عن بني إسرائيلَ ، ولا حرجَ )) .
118.
وَمَا رَوَاهُ عَنْ ( أبِي هُرَيْرَةِ )
( مُحَمَّدٌ ) وَعَنْهُ أهْلُ البَصْرَةِ
119.
كَرَّرَ ( قَالَ ) بَعْدُ ، ( فَالخَطِيْبُ )
رَوَى بِهِ الرَّفْعَ وَذَا عَجِيْبُ
أي: وما رواهُ أهلُ البصرةِ عن محمّدِ بنِ سيرينَ ، عن أبي هريرةَ قَالَ: قَالَ ، فذكرَ حديثاً ، وَلَمْ يذكرْ فِيْهِ النبيَّ ، وإنّما كرّرَ لفظَ قَالَ بعدَ ذكرِ أبي هريرةَ . فإنَّ الخطيبَ رَوَى في " الكفاية " من طريقِ موسى بنِ هارونَ الحمّالِ بسندِهِ، إِلَى حمّادِ بنِ زيدٍ ، عن أيوبَ ، عن محمدٍ ، عن أبي هريرةَ ، قَالَ : قَالَ : الملائكةُ تصلّي عَلَى أحدِكم ما دامَ في مُصَلاَّهُ . قَالَ موسى بنُ هارونَ : إذا قَالَ حمّادُ بنُ زيدٍ والبصريون : قالَ : قالَ ، فَهُوَ مرفوعٌ . قَالَ الخطيبُ : قلتُ للبَرْقانيِّ : أحسبُ أنَّ موسى عَنيَ بهذا القولِ أحاديثَ ابنِ سيرينَ خاصّةً ، فَقَالَ : كَذَا يجبُ . - قال الخطيبُ - : ويحقّقُ قولَ موسى : ما قال محمدُ بنُ سيرين : كلَّ شيءٍ حدَّثتُ عن أبي هريرةَ ، فهو مرفوعٌ . قلتُ : ووقعَ في الصحيحِ من ذلكَ ما رواهُ البخاريُّ في المناقبِ ، حدّثنا سليمانُ بنُ حربٍ ، حدَّثنا حمّادٌ ، عن أيوبَ ، عن محمدٍ ، عن أبي هريرةَ ، قال : قال : (( أسلمُ وغِفَارُ وشَيءٌ مِنْ مُزَيْنةَ ، … الحديث )) . والحديثُ عند مسلمٍ من روايةِ ابنِ عُلَيَّةَ ، عن أيوبَ مصرحٌ فيه بالرفعِ . وأما الحديثُ الذي رواهُ الخطيبُ فهو عند النسائيِّ في " سننِه الكبرى " من روايةِ ابن عُلَيَّةَ ، عن أيوبَ، عن ابنِ سيرينَ . ومن روايةِ ابنِ عونٍ ، عن ابنِ سيرينَ أيضاً كذلك .
المُرْسَـلُ
120.
مَرْفُوعُ تَابعٍ عَلى المَشهُوْرِ
مُرْسَـلٌ اوْ قَيّـدْهُ بِالكَبِيْرِ
121.
أوْ سَقْطُ رَاوٍ مِنْهُ ذُوْ أقْوَالِ
وَالأوَّلُ الأكْثَرُ في استِعْمَالِ
اختلفَ في حدِّ الحديثِ المرسلِ . فالمشهورُ : أنَّهُ مَا رَفَعهُ التابعيُّ إلى النبيِّ ، سواءٌ كانَ مِنْ كبارِ التابعينَ ، كعُبيدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الخِيَارِ وقيسِ بن أبي حازمٍ ، وسعيدِ بنِ المسِّيبِ ، وأمثالِهم . أو من صغارِ التابعينَ ، كالزهريِّ وأبي حازمٍ ، ويحيى ابنِ سعيدٍ الأنصاريِّ ، وأشباهِهِم .
والقولُ الثاني : أنّهُ ما رفَعهُ التابعيُّ الكبيرُ إلى النبيِّ ، وهذا معنى قولِهِ : ( او قيّدهُ بالكبيرِ ) ، أي : بالكبيرِ من التابعينَ ، فهذه الصورةُ لا خلافَ فيها ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ . أما مراسيلُ صغارِ التابعينَ ، فإنّها لا تسمّى مرسلةً على هذا القولِ ، بل هي منقطعةٌ . هكذا حكاهُ ابنُ عبد البرِّ عن قومٍ من أهلِ الحديثِ ؛ لأنَّ أكثرَ رواياتِهِم عن التابعينَ ولم يلقَوا من الصحابةِ إلا الواحدَ والاثنين. قلتُ: هكذا مَثَّلَ ابنُ الصلاحِ صغارَ التابعينَ بالزهريِّ ومَنْ ذَكَرَ ، وذكرَ في التعليلِ أنَّهم لم يلقَوا من الصحابةِ إلا الواحدَ والاثنينِ ، وليس ذلك بصحيحٍ بالنسبةِ إلى الزهريِّ ، فقد لقي من الصحابةِ اثني عشرَ فأكثرَ ، وهم : عبدُ اللهِ بنُ عمرَ ، وأنسُ بن مالكٍ ، وسهلُ بنُ سعدٍ ، وربيعةُ بنُ عِبادٍ ، وعبدُ اللهِ بنُ جعفرٍ، والسائبُ بنُ يزيدَ، وسُنَيْن أبو جَميلةَ، وعبدُ الله بنُ عامرٍ بنِ ربيعةَ، وأبو الطُّفيلِ، ومحمودُ بنُ الربيعِ، والمِسورُ بنُ مَخْرمة، وعبد الرحمن بنُ أزهر. ولم يسمع من عبدِ الله بنِ جعفر، بل رآه رؤيةً. وقيل: إنّه سمعَ من جابرٍ. وقد سمعَ من محمودِ بنِ لبيدٍ، وعبدِ الله بنِ الحارثِ بنِ نوفلٍ، وثعلبةَ بنِ مالكٍ القرظيِّ. وهم مختلفٌ في صحبتِهم . وأنكرَ أحمدُ ويحيى سماعَهُ من ابنِ عمرَ ، وأثبتَـهُ عليُّ بـنُ المدينيِّ .
القولُ الثالثُ : إنهُ ما سقطَ راوٍ من إسنادِهِ ، فأكثرُ ، من أيِّ موضعٍ كان ، فعلى هذا المرسلُ والمنقطعُ واحدٌ . قالَ ابنُ الصلاحِ : والمعروفُ في الفقهِ وأصولِهِ أنَّ ذلك يُسمّى مرسلاً . وبهِ قطعَ الخطيبُ ، قال الخطيبُ : إلا أنَّ أكثرَ ما يوصفُ بالإرسالِ من حيثُ الاستعمالُ ما رواهُ التابعيُّ عن النبيِّ . وقطعَ الحاكم وغيرُهُ من أهلِ الحديثِ أنَّ الإرسالَ مخصوصٌ بالتابعينَ. وسيجيءُ في فصلِ التدليسِ: أنَّ ابنَ القطّانِ قال: إنَّ الإرسالَ : روايتُهُ عمَّنْ لم يسمع منه .
فعلى هذا مَنْ رَوَى عمَّنْ سمعَ منه ما لم يسمعْهُ منه ، بل بينَه وبينَه فيه واسطةٌ ، ليس بإرسالٍ ، بل هو تدليسٌ ، وعلى هذا فيكونُ هذا قولاً رابعاً في حَدِّ المرسلِ .
122.
وَاحتَجَّ (مَاِلِكٌ) كَذا (النُّعْمَانُ)
وَتَابِعُوْهُمَا بِهِ وَدَانُوْا
123.
وَرَدَّهُ جَمَاهِرُ النُّقَّادِ ؛
لِلجَهْلِ بِالسَّاقِطِ في الإسْنَادِ
124.
وَصَاحِبُ التَّمهيدِ عَنهُمْ نَقَلَهْ
وَ(مُسْلِمٌ) صَدْرَ الكِتَابِ أصَّلَهْ
اختلفَ العلماءُ في الاحتجاجِ بالمرسلِ ، فذهبَ مالكُ بنُ أنسٍ وأبو حنيفةَ
النعمانُ بنُ ثابتٍ وأتباعُهُما في طائفةٍ إلى الاحتجاج به .
فقولُهُ: ( وتابعُوهما ) أي : التابعونَ لهما. ( ودانوا ) أي: جعلَوهُ دِيناً يدينونَ به ، وذهب أكثرُ أهلِ الحديثِ إلى أنَّ المرسلَ ضعيفٌ لا يحتجُّ به . وحكاه ابنُ عبد البرِّ في مقدّمة " التمهيد " عن جماعةٍ من أصحابِ الحديثِ . وقال مسلمٌ في صَدْرِ كتابهِ " الصحيحِ " : (( المرسلُ في أصلِ قولِنا ، وقولِ أهل العلمِ بالأخبارِ ليس بحُجَّةٍ )) . هكذا أطلقَ ابنُ الصلاحِ نَقْلَهُ عن مسلمٍ . ومسلمٌ إنّما ذكرَهُ في أثناءِ كلامِ خَصْمِهِ الذي رَدَّ عليهِ اشتراطَ ثبوتِ اللقاءِ ، فقال : (( فإنْ قال : قُلْتُهُ لأنِّي وَجَدْتُ رواةَ الأخبارِ قديماً وحديثاً يَروي أحدُهُم عن الآخر الحديثَ ، ولمّا يُعاينْهُ ، وما سَمِعَ منه شيئاً قَطُّ ، فلمّا رأيتُهُم استجازُوا روايةَ الحديثِ بَينهُم هكذا على الإرسالِ مِنْ غَيْرِ سماعٍ – والمرسلُ من الرواياتِ في أصلِ قولِنا ، وقولِ أهلِ العلمِ بالأخبارِ ، ليس بحجّةٍ – احتجتُ لما وصفْتُ من العلّةِ إلى البحث عن سماعِ راوي كُلِّ خبرٍ عن راويه، إلى آخر كلامهِ )). فهذا كما تراهُ حكاهُ على لسانِ خَصْمِهِ ، ولكنَّهُ لمّا لم يرد هذا القدرَ منه حين رَدَّ كلامَهُ ، كان كأنَّهُ قائلٌ به ، فلهذا نسبَهُ ابنُ الصلاحِ إليه .
وقولُهُ : ( للجهلِ بالساقطِ ) ، هو تعليلٌ لردِّ المرسلِ ، وذلك أنهُ تقدّمَ أنَّ مِن شرطِ الحديثِ الصحيحِ ثقةَ رجالِهِ . والمرسلُ سقطَ منه رجلٌ لا نعلَمُ حالَه . فعدمُ معرفةِ عدالةِ بعض رواتِهِ ، وإنِ اتفقَ أنَّ الذي أرسلَهُ كان لا يَروي إلا عن ثقةٍ ، فالتوثيقُ في الرجلِ المبهمِ غيرُ كافٍ ، كما سيأتي إن شاءَ اللهُ تعالى .
125.
لَكِنْ إذا صَحَّ لَنَا مَخْرَجُهُ
بمُسْنَدٍ أو مُرْسَلٍ يُخْرِجُهُ
126.
مَنْ لَيْسَ يَرْوِي عَنْ رِجَالِ الأوَّلِ
نَقْبَلْهُ ، قُلْتُ : الشَّيْخُ لَمْ يُفَصِّلِ
127.
و ( الشَّافِعِيُّ ) بِالكِبَارِ قَيَّدَا
وَمَنْ رَوَى عَنِ الثِّقاتِ أبَدَا
128.
وَمَنْ إذا شَارَكَ أهْلَ الحِفْظِ
وَافَقَهُمْ إلاّ بِنَقْصِ لَفْظِ
هذا استدراكٌ ؛ لكونِ المرسلِ يُحتجُّ به إذا أُسندَ من وجهٍ آخرَ ، أو أرسلَهُ مَنْ أخذَ العلمَ عن غيرِ رجالِ المُرسِلِ الأولِ .
وقولُهُ : ( نقبلْهُ ) ، هو مجزومٌ جوابٌ للشرطِ على مذهبِ الكوفيينَ والأخفشِ كقولِ الشاعرِ :
وإذَا تُصِبْكَ مُصِيْبَةٌ فاصبـرْ لَهَاْ
وإذا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فتجَمَّلِ
وقولُهُ : ( قلتُ الشيخُ ) ، إلى آخر الأبياتِ الأربعةِ ، من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ ، وهو اعتراضٌ عليهِ في حكايتِهِ لكلامِ الشافعيِّ . قالَ ابنُ الصَّلاحِ : اعلم أنَّ حكمَ المرسَلِ حكمُ الحديثِ الضعيفِ ، إلاّ أنْ يصحَّ مخرجُهُ بمجيِئهِ من وجهٍ آخرَ، كما سبق بيانُهُ في نوعِ الحسن ، والذي ذكرَ أنَّهُ سبقَ أنّه حكى هناكَ نصَّ الشافعيِّ في مراسيلِ التابعينَ أنّهُ يُقْبَلُ منها المرسلُ الذي جاءَ نحوَهُ مسنداً، وكذلك لو وافقَهُ مرسلٌ آخرُ أرسلَهُ مَنْ أخذَ العلمَ عن غيرِ رجالِ التابعيِّ الأولِ . في كلامٍ لهُ ذكرَ فيه وجوهاً من الاستدلالِ على صحةِ مخرجِ المرسلِ بمجيئِهِ من وجهِ آخرَ . انتهى كلامُ ابنِ الصلاحِ .
ووجهُ الاعتراضِ عليه أنَّهُ أطلقَ القولَ عن الشافعيِّ بأنَّهُ يقبلُ مطلقَ المرسلِ إذا تأكَّدَ بما ذكرَهُ الشافعيُّ . والشافعيُّ إنّما يقبلُ مراسيلَ كِبارِ التابعينَ ، إذا تأكدتْ مع وجودِ الشرطينِ المذكورينِ في كَلامي ، كما نصَّ عليه في كتابِ " الرسالة " . وممَّنْ روى كلامَ الشافعيِّ كذلك أبو بكرٍ الخطيبُ في " الكفاية " ، وأبو بكرِ البيهقيُّ في "المدخلِ" بإسنادَيهما الصحيحينِ إليه ، أنّهُ قالَ : (( والمنقطعُ مختلِفٌ . فمَنْ شاهدَ أصحابَ رسولِ الله مِن التابعينَ فحدَّثَ حديثاً منقطعاً عن النبيِّ اعتُبِرَ عليه بأمُورٍ ، منها : أنْ يُنظرَ إلى ما أرسلَ من الحديثِ . فإنْ شَرِكَهُ فيه الحفّاظُ المأمونونَ فأسندوهُ إلى رسولِ اللهِ ، بمثلِ معنى ما روي ؛ كانت هذهِ دلالةً على صحةِ ما قَبِلَ عنه وحفْظَهُ . وإنِ انفردَ بإرسالِ حديثٍ لم يَشْرَكْهُ فيه مَنْ يُسنِدُهُ قُبِلَ ما يَنفردُ به من ذلك . ويُعتبرُ عليه بأنْ يُنظرَ : هل يوافقُهُ مُرْسِلٌ غيرُهُ ممَّنْ قَبِلَ العلم من غيرِ رجالِهِ الذينَ
قَبلَ عنهم ؟ فإنْ وُجِدَ ذلك كانت دلالةً تُقَوِّي له مرسله، وهي أضعفُ من الأُولى ، وإنْ لم يُوجدْ ذلك نظَرَ إلى بعضِ ما يروى عن بعضِ أصحابِ النبيِّ قولاً له ، فإنْ وجدَ ما يوافقُ ما روى عن رسولِ الله كانتْ في هذا دلالةٌ على أنَّهُ لم يأخذْ مرسلَهُ إلا عن أصلٍ يصحُّ إن شاء اللهُ تعالى ، وكذلك إنْ وُجدَ عوامُّ مِنْ أهلِ العلمِ يُفْتُونَ بمثلِ معنى ما روي عن رسول اللهِ ، ثم يُعتبرُ عليهِ بأنْ يكونَ إذا سَمَّى مَنْ رَوَى عنهُ لم يُسَمِّ مجهولاً ، ولا مرغوباً عن الروايةِ عنه ، فيُستدلُّ بذلك على صحتِهِ فيما رَوَى عنه . ويكونُ إذا شَرِكَ أحداً من الحفّاظِ في حديثِهِ لم يخالفْهُ ، فإن خالفَهُ بأنْ وُجدَ حديثُهُ أنقصَ ، كانت في هذهِ دلائلُ على صحةِ مَخْرَجِ حديثِهِ ومتى خالفَ ما وصفتُ أضَرَّ بحديثِهِ ، حتى لا يَسَعَ أحداً قبولُ مُرسَلِهِ . قال : وإذا وُجدتِ الدلائلُ بصحةِ حديثهِ بما وصفتُ أحببنا أنْ نقبلَ مرسلَهُ . ثم قال : فأمّا مَنْ بعدَ كبارِ التابعينَ ، فلا أعلمُ واحداً يُقْبَلُ مرسَلُهُ لأمورٍ: أحدُها: أنَّهُم أشدُّ تَجَوُّزاً فيمَنْ يَروُوْنَ عنه. والآخَرُ: أنّهمُ وجدَ عليهم الدلائلُ فيما أرسلوا لضَعْفِ مَخْرَجِهِ . والآخَرُ : كثرةُ الإحالةِ في الأخبارِ . وإذا كثرتِ الإحالةُ كانَ أمْكَنَ للوهمِ وضَعْفِ مَن يُقبلُ عنه . قال البيهقيُّ : وقولُ الشافعيِّ : أحببنَا أن نقبلَ مرسلَهُ . أرادَ به : اخترنا . انتهى .
فقولي : ( وَمَنْ رَوى عَن الثقاتِ أبداً ) أي : إذا أرسلَ وسمَّى مَنْ أرسَلَ عنه لم يسمِّ إلا ثقةً ، فيكونُ المرادُ : ومَنْ رَوَى ما أرْسَلَهُ عنِ الثقاتِ . ويحتملُ : ومَنْ رَوَى مطلقاً عن الثقاتِ المراسيلَ وغيرَها . وعبارة الشافعيِّ محتمِلَةٌ للأمْرَيْنِ فليحملِ النَّظْمُ على أرجحِ محملَيْ كلامِ الشافعيِّ .
129.
فَإنْ يُقَلْ : فَالمُسْنَدُ المُعْتَمَدُ
فَقُلْ : دَلِيْلانِ بِهِ يَعْتَضِدُ
أي : فإنْ قيلَ: قولُكم يُقبلُ المرسلُ إذا جاءَ مسنداً مِنْ وجهٍ آخرَ ، لا حاجةَ حينئذٍ إلى المرسلِ ، بلِ الاعتمادُ حينئذٍ على الحديثِ المُسنَدِ . والجوابُ أنَّهُ بالمسنَدِ تبيَّنَا صحةَ المرسلِ ، وصارا دليلينِ يُرَجَّحُ بهما عندَ معارضةِ دليلِ واحد .
فقولُهُ : به ، أي : بالمُسنَدِ يعتضدُ المرسلُ .
130.
وَرَسَمُوا مُنْقَطِعَاً(عَنْ رَجُلِ)
وَفي الأصُوْلِ نَعْتُهُ : بِالمُرْسَلِ
أي : إذا قيلَ في إسنادٍ : عن رجلٍ ، أو عن شيخٍ ، ونحو ذلك . فقالَ الحاكمُ : لا يُسَمَّى مرسلاً ، بل منقطعاً . وكـذا قالَ ابنُ القطّانِ في كتابِ " بيانِ الوهمِ والإيهامِ " : إنَّهُ منقطعٌ . وفي " البرهان " لإمامِ الحرمينِ قَالَ : وقولُ الرَّاوِي : أَخْبَرَنِي رجلٌ ، أو عدلٌ موثوقٌ بِهِ ، من المرسلِ أيضاً . قَالَ : وَكَذَلِكَ كُتُبُ رَسُوْل الله r التي لم يُسَمَّ حاملُها . وفي "المحصول" : أنَّ الراوي إذا سمّى الأصلَ باسمٍ لا يُعرفُ به ، فهو كالمرسلِ . قلتُ : وفي كلامِ غيرِ واحدٍ من أهلِ الحديثِ ، أنَّهُ متّصلٌ في إسنادِهِ مجهولٌ . وحكاهُ الرشيدُ العَطَّارُ في " الغُررِ المجموعةِ " عن الأكثرينَ ، واختارَهُ شيخُنا الحافظُ أبو سعيدٍ العلائيُّ في كتابِ " جامعِ التحصيلِ " .
131.
أمَّا الَّذِي أرْسَلَهُ الصَّحَابِيْ
فَحُكمُهُ الوَصْلُ عَلى الصَّوَابِ
أي : أمّا مراسيلُ الصحابةِ فحكمُها حكمُ الموصولِ . قالَ ابنُ الصلاحِ : ثم إنا لم نعدَّ في أنواعِ المرسلِ ، ونحوِه ، ما يسمَّى في أُصولِ الفِقهِ : مرسلُ الصحابيِّ . مثلُ ما يرويه ابنُ عبّاسٍ ، وغيرُهُ من أحداث الصحابةِ عن رسولِ اللهِ ، ولم يسمعُوْهُ منه ، لأنَّ ذلك في حُكمِ الموصولِ المسنَدِ ؛ لأنَّ روايتَهُم عن الصحابةِ ، والجهالةُ بالصحابيِّ غيرُ قادحةٍ ؛ لأنَّ الصحابةَ كلَّهُم عدولٌ . قلتُ : قولُهُ : لأنَّ روايَتَهم عن الصحابةِ ، فيه نظرٌ . والصوابُ أنْ يُقَالَ : لأنَّ غالبَ روايتِهِم ، إذ قد سمعَ جماعةٌ من الصحابةِ من بعض التابعينَ . وسيأتي في كلامِ ابنِ الصلاحِ في روايةِ الأكابرِ عن الأصاغر ، أنَّ ابنَ عباسٍ ، وبقيّةَ العبادلةِ رَوَوْا عن كعبِ الأحبار ، وهو من التابعينَ ، وروى كعبٌ أيضاً عن التابعينَ ، ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ خلافاً في مُرْسَلِ الصحابيِّ ، وفي بعضِ كُتُبِ الأصولِ للحنفيَّةِ أنَّهُ لا خلافَ في الاحتجاجِ به ، وليسَ بجيِّدٍ .
فقد قال الأستاذُ أبو إسحاق الاسفراينيُّ : إنَّهُ لا يحتجُّ به ، والصوابُ
ما تقدّم . المُنْقَطِعُ و المُعْضَلُ
132.
وَسَمِّ بِالمُنْقَطِعِ : الَّذِي سَقَطْ
قَبْلَ الصَّحَابيِّ بِـهِ رَاوٍ فَقَطْ
133.
وَقِيْلَ : مَا لَمْ يَتَّصِلْ ، وَقَالا:
بِأنَّهُ الأقْرَبُ لا اسـتِعمَالا
134.
وَالمُعْضَلُ : السَّاقِطُ مِنْهُ اثْنَانِ
فَصَاعِداً ، وَمِنْهُ قِسْـمٌ ثَانِ
135.
حَذْفُ النَّبِيِّ وَالصَّحَابِيِّ مَعَا
وَوَقْفُ مَتْنِـهِ عَلَى مَنْ تَبِعَا
اختُلِفَ في صورةِ الحديثِ المنقطعِ . فالمشهورُ : أنّهُ ما سقطَ من رواتِهِ راوٍ واحدٌ غيرُ الصحابيِّ . وحكى ابنُ الصلاحِ عن الحاكمِ وغيرِهِ من أهلِ الحديثِ : أنَّهُ ما سقطَ منه قبلَ الوصولِ إلى التابعيِّ شخصٌ واحدٌ ، وإن كان أكثر من واحدٍ سمّي : معضلاً . ويسمّى أيضاً : منقطعاً .
فقولُ الحاكمِ : قبلَ الوصولِ إلى التابعيِّ ، ليس بجيّدٍ . فإنَّهُ لو سقط التابعيُّ كان منقطعاً أيضاً ، فالأولى أنْ يعبرَ بما قلناهُ : قبل الصحابيِّ . وقالَ ابنُ عبد البرِّ : المنقطعُ ما لم يتصلْ إسنادُهُ ، والمرسلُ مخصوصٌ بالتابعينَ . فالمنقطعُ أعمُّ . وحكى ابنُ الصلاحِ عن بعضِهِم أنَّ المنقطعَ مثلُ المرسلِ ، وكلاهما شاملٌ لكلِّ ما لا يتصلُ إسنادُه. - قال - : وهذا المذهبُ أقربُ ، صارَ إليه طوائفُ من الفقهاءِ وغيرِهم . وهو الذي ذكرَهُ الخطيبُ في " كفَايَتِهِ " إلا أنَّ أكثرَ ما يوصفُ بالإرسالِ من حيثُ الاستعمالُ ما رواهُ التابعيُّ عن النبيِّ ، وأكثرُ ما يوصفُ بالانقطاعِ ما رواهُ مَنْ دون التابعينَ عن الصحابةِ. مثلُ : مالكٍ ، عن ابنِ عمر ، ونحوِ ذلك . انتهى .
والمعضلُ : ما سقطَ من إسنادِه اثنان فصاعداً من أي موضعٍ كان . سواءٌ سقطَ الصحابيُّ والتابعيُّ ، أو التابعيُّ وتابعُهُ ، أو اثنانِ قبلَهُما ، لكن بشرطِ أنْ يكونَ سقوطُهُما من موضعٍ واحدٍ . أمّا إذا سقطَ واحدٌ من بين رجلين ، ثم سقطَ من موضعٍ آخرَ من الإسنادِ واحدٌ آخرُ فهو منقطعٌ في موضعينِ . ولم أجدْ في كلامِهم إطلاقَ المعضلِ عليه ، وإنْ كان ابنُ الصلاحِ أطلقَ عليه سقوطَ اثنينِ فصاعداً ، فهو محمولٌ على هذا . وأما اشتقاقُ لفظهِ ، فقالَ ابنُ الصلاحِ : أهلُ الحديثِ يقولون : أعضَلَهُ فهو مُعْضَلٌ – بفتح الضّادِ - ، وهو اصطلاحٌ مُشِكلُ المأخَذِ من حيث اللغةُ،وبحثتُ فوَجَدْتُ له قولَهُمْ: أمرٌ عَضِيْلٌ، أيْ: مستغلقٌ شديدٌ. ولا التفاتَ في ذلك إلى مُعْضِلٍ -بكسرِ الضادِ- وإنْ كانَ مثلَ عَضِيلٍ في المعنى . ومَثَّلَ أبو نصرٍ السِّـجزِيُّ المعضَلَ بقولِ مالكٍ: بَلَغني عـن أبي هريرةَ أنَّ رسولَ اللهِ ، قال: ((للمملوكِ طعامُهُ وكِسْوتُهُ،…الحديث )) .
وقالَ أصحابُ الحديثِ يسمُّونَه المعضلَ . قال ابنُ الصلاحِ : وقولُ المُصَنِّفِين : قال رسولُ اللهِ كذا ، من قَبيلِ المعضَلِ .
وقولُهُ : ( ومنه قسمٌ ثانٍ ) ، أي: ومن المعضَلِ قسمٌ ثانٍ ، وهو أنْ يروِيَ تابعُ التابعيِّ عن التابعيِّ حديثاً موقوفاً عليه ، وهو حديثٌ متّصلٌ مسندٌ إلى رسولِ اللهِ ، كما روى الأعمشُ عن الشَّعبيِّ ، قال: يُقالُ للرجلِ في القيامةِ عَمِلْتَ كذا وكذا ، فيقولُ ما عَمِلتُهُ . فيُخْتَمُ على فِيْهِ ، الحديثَ . فقد جعلَهُ الحاكمُ نوعاً من المعضَلِ ، أعضَلَهُ الأعمشُ ، ووصَلَهُ فُضَيلُ بنُ عمرٍو ، عن الشعبيِّ ، عن أنسٍ ، قال : كنا عند
النبيِّ فضَحِكَ . فقال : هل تَدرُونَ مِمَّ أضحَكُ ؟ قلنا : اللهُ ورسولُهُ أعلمُ ، فقال : من مخاطبةِ العبدِ ربَّهُ ، يقولُ : يا ربِّ ! ألم تُجِرْنِي من الظُّلمِ ؟ فيقولُ: بَلَى. وذكرَ الحديثَ . رواه مسلمٌ . قالَ ابنُ الصلاحِ : هذا جيّدٌ حسنٌ ؛ لأنَّ هذا الانقطاعَ بواحدٍ مضموماً إلى الوقفِ يشْتَمِلُ على الانقطاعِ باثنينِ : الصحابيِّ ، ورسولِ اللهِ فذلك باستحقاقِ اسمِ الإعضالِ أولَى .
العَنْعَنَةُ
136.
وَصَحَّحُوا وَصْلَ مُعَنْعَنٍ سَلِمْ
مِنْ دُلْسَةٍ رَاويْهِ ، والِلِّقَا عُلِمْ
137.
وَبَعْضُهُمْ حَكَى بِذَا إجمَاعَا
و( مُسْلِمٌ ) لَمْ يَشْرِطِ اجتِمَاعَا
138.
لكِنْ تَعَاصُرَاً ، وَقِيلَ : يُشْتَرَطْ
طُوْلُ صَحَابَةٍ ، وَبَعْضُهُمْ شَرَطْ
139.
مَعْرِفَةَ الرَّاوِي بِالاخْذِ عَنْهُ ،
وَقيْلَ : كُلُّ مَا أَتَانَا مِنْهُ
140.
مُنْقَطِعٌ ، حَتَّى يَبِينَ الوَصْلُ،
وَحُكْمُ ( أَنَّ ) حُكمُ ( عَنْ ) فَالجُلُّ
141.
سَوَّوْا،وَللقَطْعِ نَحَا (البَرْدِيْجِيْ)
حَتَّى يَبِينَ الوَصْلُ في التَّخْرِيجِ
العَنْعَنةُ : مصدرُ عنعنَ الحديثَ ، إذا رواه بلفظِ : عَنْ ، مِنْ غيرِ بيانٍ للتحديثِ ، والإخبارِ ، والسماعِ .
واختلفوا في حكمِ الإسنادِ المعنعنِ ، فالصحيحُ الذي عليهِ العملُ ، وذهبَ إليهِ الجماهيرُ من أئمة الحديثِ وغيرِهم ، أنَّهُ من قبيلِ الإسنادِ المتصلِ بشرطِ سلامةِ الراوي الذي رواهُ بالعنعنةِ من التدليسِ . وبشرطِ ثبوتِ ملاقاتِهِ لمَنْ رواهُ عنه بالعنعنةِ . قالَ ابنُ الصلاحِ : (( وكادَ ابنُ عبد البرِّ يَدَّعي إجماعَ أئمةِ الحديثِ على ذلك )) . قلتُ : لا حاجةَ لقولِهِ : كاد ، فقد ادّعاهُ . وادّعى أبو عَمْرو الدانيُّ إجماعَ أهلِ النقلِ على ذلكَ ، لكنَّهُ اشترطَ أنْ يكونَ معروفاً بالروايةِ عنه ، كما سيأتي في موضعه . لكن قد يظهرُ عدمُ اتّصالِهِ بوجهٍ آخرَ ، كما في الإرسالِ الخفيِّ ، على ما سيأتي في موضعِهِ ، وما ذكرناهُ من اشتراطِ ثبوتِ اللقاءِ هو مذهبُ عليِّ بنِ المدينيِّ ، والبخاريِّ وغيرِهما من أئمة هذا العلمِ .
وأنكرَ مسلمٌ في خُطبةِ صحيحِهِ اشتراطَ ذلك ، وادّعى أنَّهُ قولٌ مخترعٌ لم يسبقْ قائِلُه إليهِ ، وإنَّ القولَ الشائعَ المتفقَ عليهِ بين أهلِ العلمِ بالأخبارِ قديماً وحديثاً أنّهُ يكفي في ذلك أنْ يثبتَ كونُهُما في عصرٍ واحدٍ، وإنْ لم يأتِ في خبرٍ قطُّ أنّهما اجتمَعا أو تشافها. قال ابنُ الصلاحِ : (( وفيما قالَهُ مسلمٌ نظرٌ . – قال - : وهذا الحكمُ لا أراهُ يَستمرُّ بعدَ المتقدّمينَ فيما وُجِدَ من المصنّفينِ في تصانيفهم مما ذكروهُ عن مشايخهِم قائلين فيه : ذكرَ فلانٌ ، قال فلانٌ ، ونحو ذلك . أي : فليسَ له حكمُ الاتصالِ ، إلا إنْ كان له من شيخِهِ إجازةٌ على ما سيأتي في آخر هذا البابِ .
ولم يكتفِ أبو المظفرِ السمعانيُّ بثبوتِ اللقاءِ ، بل اشترطَ طولَ الصُّحبةِ بينهما . واشترطَ أبو عمرو الدانيُّ أنْ يكونَ معروفاً بالروايةِ عنه.واشترط أبو الحسنِ القابسيُّ أنْ يُدْرِكَهُ إدراكاً بَيِّنَاً . وهذا داخلٌ فيما تقدّمَ من الشروطِ ، وبيانُ الإدراكِ لابدَّ منه . وذهبَ بعضُهم إلى أنَّ الإسنادَ المعنعنَ من قبيلِ المرسلِ والمنقطعِ،حتى يتبينَ اتصالُهُ بغيرهِ، وهذا المرادُ بقولِهِ : ( وقيل كلُّ ما أتانا منه منقطع )، إلى آخرهِ .
وقولُهُ : ( وحكمُ أنَّ ، حكمُ عَنْ ، فالجلُّ سَوَّوا ) أي : ذهبَ جمهورُ أهلِ العلمِ إلى التسويةِ بين الروايةِ المعنعنةِ ، وبين الروايةِ بلفظِ : أنَّ فلاناً قالَ . وهو قولُ مالكٍ وممنْ حكاهُ عن الجمهورِ ابنُ عبد البرِّ في " التمهيدِ " . وأنَّهُ لا اعتبارَ بالحروفِ والألفاظِ ، وإنّما هو باللقاءِ والمجالسةِ والسماعِ والمشاهدةِ يعني : مع السلامةِ من التدليسِ . ثم حكى ابنُ عبد البرِّ عن أبي بكرٍ البرديجيِّ أنَّ حرف ( أنَّ ) محمولٌ على الانقطاعِ حتى يتبينَ السماعُ في ذلك الخبرِ بعينِهِ من جهةٍ أخرى . قال : وعندِي لا معنى لهذا ، لإجماعِهم على أنَّ الإسنادَ المتصلَ بالصحابيِّ ، سواءٌ قال فيه : قال ، أو أنَّ ، أو عَنْ ، أو سمعتُ رسول الله ، يعني فكلُّهُ متصِلٌ .
142 .
قَالَ : وَمِثْلَـهُ رَأى (ابْنُ شَيْبَةْ)
كَـذا لَهُ ، وَلَمْ يُصَـوِّبْ صَوْبَـهْ
143 .
قُلتُ:الصَّوَابُ أنَّ مَنْ أدْرَك مَا
رَوَاهُ بالشَّــرْطِ الَّـذي تَقَدَّمَـا
144 .
يُحْكَمْ لَهُ بالوَصْلِ كَيفَمَا رَوَى
بـ(قَالَ) أو (عَنْ) أو بـ(أنَّ) فَسَوَا
145 .
وَمَا حَكَى عَنْ (أحمَدَ بنِ حنبلٍ)
وَقَـولِ (يَعْقُوبٍ) عَلَـى ذا نَـزِّلِ
فاعلُ (( قالَ )) هو : ابنُ الصلاحِ ، فقال : ووجدْتُ مثلَ ما حكاهُ عن البَرْديجي للحافظِ الفَحْلِ يعقوبَ بنِ شيبةَ في مسندِهِ الفحلِ ، قال : فإنّهُ ذكرَ ما رواهُ أبو الزبيرِ ، عن محمدِ ابن الحنفيةِ ، عن عمّارٍ ، قال : أتيتُ النبيَّ ، وهو يُصلِّي فسلمتُ عليه ، فردَّ عليَّ السلامَ . وجعلَهُ مسنداً موصولاً . وذكرَ روايةَ قيسِ بنِ سعدٍ ، كذلك عن عطاءِ بنِ أبي رباحٍ ، عن ابنِ الحنفيةَ : أنَّ عمّاراً مَرَّ بالنبيِّ ، وهو يصلّي فجعله مرسلاً من حيثُ كونُهُ قالَ : إنَّ عمّاراً فعلَ ، ولم يقلْ : عن عمّارٍ ، واللهُ أعلم . انتهى كلامُ ابنِ الصلاحِ . ولم يقع على مقصودِ يعقوبَ بنِ شيبةَ ، وهو المرادُ بقولِهِ : ( كذا له ) أي : لابن الصلاحِ . ( ولم يُصَوِّبْ صوبَهُ ) أي : ولم يعرجْ صوبَ مقصدِهِ ، وبيانُ ذلك أنَّ ما فعلَهُ يعقوبُ هو صوابٌ من العملِ ، وهو الذي عليه عملُ الناسِ ، وهو لم يجعلْهُ مرسلاً من حيثُ لفظُ : أنَّ ، وإنّما جعلَهُ مرسلاً من حيثُ أنّهُ لم يُسنِدْ حكايةَ القصةِ إلى عمّارٍ ، وإلا فلو قالَ : إنَّ عمّاراً قال : مررتُ بالنبيِّ ، لما جعلَهُ مرسلاً ، فلما أتى به بلفظِ : أنَّ عماراً مرَّ ، كانَ محمدُ بنُ الحنفيةِ هو الحاكي لقصّةٍ لم يُدركْهَا ؛ لأنَّهُ لَمْ يُدرِكْ مرورَ عمارٍ بالنبيِّ ، فكانَ نَقْلُهُ لِذَلِكَ مرسلاً . ثُمَّ بينتُ ذَلِكَ بقاعدةٍ يُعرفُ بِهَا المتصلُ من المرسلِ بقولي : ( قلتُ ) ، وهو من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ ، إلا حكايةَ كلامِ أحمدَ ويعقوبَ . وتقريرُ هذهِ القاعدةِ : أنَّ الراوي إذا رَوَى حديثاً فيه قِصّةٌ، أو واقعةٌ، فإن كان أدركَ ما رواهُ ، بأنْحكى قصةً وقعت بين النبيِّ وبينَ بعضِ الصحابةِ ، والراوي لذلك صحابيٌّ أدركَ تلك الواقعةَ ، فهي محكومٌ لها بالاتصالِ ، وإنْ لم يُعلَمْ أنّهُ شاهدَها وإنْ لم يدركْ تلك الواقعةَ ، فهو مرسلُ صحابيٍّ . وإن كان الراوي تابعياً، فهو منقطعٌ ، وإن روى التابعيُّ عن الصحابيِّ قِصَّةً أدركَ وُقوعَها، كان متّصلاً ، وإن لم يدركْ وُقوعَها ، وأسندَها إلى الصحابيِّ كانت متّصلةً . وإنْ لم يدركْهَا ، ولا أسندَ حكايتَها إلى الصحابيِّ فهي منقطعةٌ كروايةِ ابنِ الحنفيةِ الثانيةِ ، عن عمّارٍ . ولابُدَّ من اعتبارِ السلامةِ من التدليسِ في التابعينَ ، ومَنْ بعدَهم .
وقد حكى أبو عبدِ اللهِ بنُ الموَّاقِ اتفاقَ أهلِ التمييزِ من أهلِ الحديثِ على ذلك في كتابه " بُغية النُّقاد " عند ذكرِ حديث عبدِ الرحمنِ بنِ طَرفةَ أنَّ جدَّهُ عَرْفجةَ قُطِعَ أنفُهُ يومَ الكلابِ ، … الحديث . فقال : الحديثُ عندَ أبي داودَ مرسلٌ . وقد نبّهَ ابنُ السَّكَنِ على إرسالِه فقال : فذكرَ الحديثَ مرسلاً . قال ابنُ الموَّاقِ : وهو أمرٌ بَيِّنٌ لا خلافَ بين أهل التمييزِ من أهلِ هذا الشأنِ في انقطاعِ ما يُرْوَى كذلك ، إذا عُلمَ أنَّ الراويَ لم يدركْ زمانَ القِصَّةِ كما في هذا الحديثِ .
وقولُهُ : ( فسَوَا ) ، هو ممدودٌ قُصِرَ لضرورةِ الشعرِ .
وقولُهُ : ( وما حكى ) ، أي : ابنُ الصلاح عن أحمدَ بنِ حنبلٍ ، فإنّهُ حكى قبلَ هذا عن أحمدَ أنَّ : عَنْ فلانٍ ، وأنَّ فلاناً ليسا سواءً .
( وقولِ يعقوبٍ ) ، هو مجرورٌ بالعطفِ ، ويعقوبَ : هو ابنُ شيبةَ. ( على ذا نَزّلْ ) أي : نزلْهُ على هذهِ القاعدةِ . أما كلامُ يعقوبَ فقد تقدمَ تنـزيلُهُ عَلَيْهِ . وأما كلامُ أحمدَ فإنَّ الخطيبَ رَوَاهُ في " الكفاية " بإسنادِهِ إِلَى أبي داودَ قَالَ : سمعتُ أحمدَ قيلَ لَهُ : إنَّ رجلاً قَالَ عروةَ : أنَّ عائشةَ قالت : يا رسولَ اللهِ ، وعن عروةَ عن عائشةَ سواءٌ ؟ قال : كيفَ هذا سواءٌ ، ليس هذا بسواءٍ . فإنَّما فرّقَ أحمدُ بين اللفظينِ ؛ لأنَّ عروةَ في اللفظِ الأولِ لم يُسنِدْ ذلك إلى عائشةَ ، ولا أدرك القِصَّةَ فكانتْ مرسلةً . وأمَّا اللفظُ الثاني فأسْنَدَ ذلك إليها بالعنعنةِ ، فكانت متصلةً .
146 .
وَكَثُرَ استِعْمَالُ (عَنْ) في ذَا الزَّمَنْ
إجَازَةً وَهْـوَ بِوَصْلٍ مَـا قَمَنْ
ما تقدّم ذكرُهُ من أَنَّ (( عَنْ )) محمولةٌ على السماعِ ، هو في الزَّمَنِ المتقدّمِ . وأمّا في هذه الأزمانِ ، فقال : ابنُ الصلاحِ : كَثُرَ في عَصرنا وما قاربَهُ بين المنتسبينَ إلى الحديثِ استعمالُ (( عَنْ )) في الإجازةِ فإذا قال أحدُهُم: قرأتُ على فلانٍ ، عن فلانٍ ، أو نحو ذلك . فَظُنَّ بهِ أنَّهُ رواهُ عنهُ بالإجازة قال : ولا يُخْرِجُه ذلك من قَبيلِ الاتصالِ على ما لا يخفى . وهذا معنى قولي: ( وهو بوصلٍ ما قَمَنْ ) ، أي: بنوعٍ من الوصلِ ؛ لأنَّ الإجازةَ لها حكمُ الاتصالِ لا القطعِ. وقَمَنْ : بفتحِ الميمِ لمناسبةِ ما قبَلَهُ، وفي الميمِ لغتان : الفتحُ ، والكسرُ . ومَعناهُ حَقِيقٌ بذلك وجَدِيرٌ به .
تَعَاْرُضُ الْوَصْلِ والإرْسَاْلِ
أوِ الرَّفْـعِ وَالْـوَقْفِ
147.
وَاحْكُمْ لِوَصْلِ ثِقَةٍ في الأظْهَرِ
وَقِيْلَ : بَلْ إرْسَالُهُ لِلأكْثَرِ
148.
وَنَسبَ الأوَّلَ لِلْنُّظَّارِ
أنْ صَحَّحُوْهُ ، وَقَضَى (البُخَارِيْ)
149.
بِوَصْلِ (( لاَ نِكَاحَ إلاَّ بِوَلِيْ ))
مَـعْ كَوْنِ مَنْ أَرْسَلَهُ كَالْجَبَلِ
150.
وَقِيْلَ الاكْثَرُ ، وَقِيْلَ : الاحْفَظُ
ثُمَّ فَمَا إرْسَالُ عَدْلٍ يَحْفَظُ
151.
يَقْدَحُ فِي أَهْليَّةِ الوَاصِلِ ، أوْ
مُسْنَدِهِ عَلَى الأَصَحِّ ، وَرَأَوْا
152.
أَنَّ الأصَحَّ : الْحُكْمُ لِلرَّفْعِ وَلَوْ
مِنْ وَاحِدٍ في ذَا وَذَا ،كَما حَكَوْا
إذا اختلفَ الثقاتُ في حديثٍ ، فرواهُ بعضُهم متّصلاً ، وبعضُهم مرسلاً . فاختلفَ أهلُ الحديثِ فيهِ هلِ الحكمُ لمَنْ وصلَ ، أو لمَنْ أرسلَ ، أو للأكثرِ ، أو للأحفظِ ؟ على أربعةِ أقوالٍ :
أحدُها : أنَّ الحكمَ لَمنْ وصلَ ، وهو الأظهرُ الصحيحُ . كما صحّحَهُ
الخطيبُ. وقال ابنُ الصلاحِ : إنّهُ الصحيحُ في الفقِهِ وأصولِهِ . وهذا معنى قولِهِ: ( ونَسَبَ ) أي : ابنُ الصلاحِ الأولَ للنُّظّارِ أنْ صحّحوه ، فالنُّظارُ هم أهلُ الفقهِ والأصولِ . وأنْ هنا مصدريةٌ ، أي : تصحيحَهُ . وهو بدلٌ من قولِهِ : ( الأول ) أي: ونَسَبَ تصحيحَ الأولِ للنُّظارِ . وسُئلَ البخاريُّ عن حديثِ : (( لا نكاحَ إلا بولي )) وهو حديث اختلِفَ فيه على أبي إسحاق السَّبِيعيِّ فرواهُ شُعبةُ والثوريُّ عنه ، عن أبي بُردةَ عن النبيِّ مرسلاً ، ورواه إسرائيلُ بنُ يونُسَ في آخرينَ ، عن جدِّهِ أبي إسحاقَ ، عن أبي بُرْدَةَ عن أبي موسى الأشعريِّ ، عن النبيِّ متصلاً ، فحَكَمَ البخاريُّ لمَنْ وصلَهُ ، وقال : الزيادةُ من الثقةِ مقبولةٌ . هذا مع أنَّ مَنْ أرسلَهُ شعبةُ وسفيانُ ، وهما جبلانِ في الحفظِ والإتقانِ .
والقولُ الثاني : أنَّ الحكمَ لمَنْ أرسلَ . وحكاهُ الخطيبُ عن أكثرِ أصحابِ الحديثِ ، وهذا معنى قولِهِ : ( وقيلَ بل إرسالُه للأكثرِ ) . وقولُهُ : ( للأكثرِ ) ، خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ ، أي : وقيلَ الحكمُ لإرسالِهِ ، وهذا للأكثرِ ، أي : قولُ الأكثرِ .
والقولُ الثالثُ : أنَّ الحكمَ للأكثرِ ، فإنْ كان مَنْ أرسلَهُ أكثرَ ممَّن وصلَهُ ، فالحكمُ للإرسالِ ، وإنْ كانَ من وَصَلَهُ أكثرَ ، فالحكمُ للوصلِ .
والقولُ الرابعُ : أنَّ الحكمَ للأحفظِ ، فإنْ كانَ مَنْ أرسلَ أحفظَ ، فالحكمُ له ، وإن كان مَنْ وصلَ أحفظَ فالحكمُ له ، وهذا معنى قولِهِ : وقيلَ : الأكثرُ ، وقيلَ : الأحفظُ . وكلاهُما خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه : وقيلَ : المعتبرُ الأكثرُ ، وقيلَ : الأحفظُ .
وينبني على هذا القولِ الرابعِ - وهو أنَّ الحكمَ للأحفظِ - ما إذا أرسلَ الأحفظُ ، فهلْ يقدحُ ذلكَ في عدالةِ مَنْ وصَلَهُ ، وأهليَّتِهِ ، أوْ لاَ ؟ فيهِ قولانِ : أصحُّهُما ، وبه صَدَّرَ ابنُ الصلاحِ كلامَهُ أنَّهُ : لا يَقدَحُ . قالَ : ومنهم مَنْ قالَ : يَقدَحُ في مسندِهِ ، وفي عدالتِهِ ، وفي أهليتِهِ . وهذا معنى قولِهِ : ( ثُمَّ فَمَا إرْسَالُ عَدْلٍ يَحْفَظُ … ) إِلَى آخره . وقولُهُ : ( أوْ مُسْنَدِهِ ) أي : وما أسندَهُ من الحديثِ غَيْر هَذَا الَّذِي أرْسَلَهُ مَنْ هُوَ أحفظُ ؛ لأنَّ هذا بناءٌ على أنَّ الحكمَ للأحفظِ ، وقد أرسل ، فلا شكَّ في قدحِهِ في هذا المسنَدِ على هذا القولِ . وقولُهُ : ( وَرَأوا أنَّ الأصح الحُكْم للرَّفْع) . أشارَ بهِ إلى مسألةِ تعارضِ الرفعِ والوقفِ . وهو ما إذا رفعَ بعضُ الثقاتِ حديثاً ، ووقفَهُ بعضُ الثقاتِ ، فالحكمُ على الأصَحِّ ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ ، لما زادَهُ الثقةُ من الرفعِ ؛ لأنَّهُ مثبتٌ ، وغيرُهُ ساكتٌ ، ولو كان نافياً فالمثبِتُ مقدّمٌ عليه ؛ لأنَّهُ عَلِمَ ما خَفِيَ عليهِ .
وقولُهُ : ( وَلَو من وَاحِد في ذَا وَذا ) . أشارَ بهِ إلى ما إذا وقعَ الاختلافُ مِن راوٍ واحدٍ ثقةٍ في المسألتينِ معاً فوصَلَهُ في وقتٍ وأرسَلَهُ في وقتٍ ، أو رَفَعهُ في وقتٍ ، ووقَفَهُ في وقتٍ ، فالحكمُ على الأصَحِّ لوصلِهِ ورْفعِهِ ، لا لإرْسالِهِ ووقْفِهِ . هكذا صحّحَهُ ابنُ الصلاحِ . وأما الأصوليون فصححوا أنَّ الاعتبارَ بما وقع منه أكثرُ . فإنْ وقعَ وصلُه ، أو رفعُه أكثرَ من إرسالِهِ ، أو وقفهِ ؛ فالحكمُ للوصلِ ، والرفعِ . وإنْ كان الإرسالُ ، أو الوقفُ أكثرَ ، فالحكمُ له .
التَّدْلِيْسُ
153 .
تَدلِيْسُ الاسْنَادِ كَمَنْ يُسْقِطُ مَنْ
حَدَّثَهُ، وَيَرْتَقِي بـ (عَنْ) وَ (أَنْ)
154 .
وَقَالَ : يُوْهِمُ اتِّصَالاً ، وَاخْتُلِفْ
فِـي أَهْلِهِ ، فَالرَّدُّ مُطْلَقَـاً ثُقِفْ
155 .
وَالأكْثَـرُوْنَ قَبِلُوْا مَـا صَرَّحَا
ثِـقَاتُـهُمْ بِوَصْلِـهِ وَصُحِّحَـا
156 .
وَفي الصَّحِيْحِ عِدَّةٌ (كَالاعْمَشِ)
وَ (كَـهُشَـيْمٍ) بَعْـدَهُ وَفَتِّشِ
التدليسُ على ثلاثةِ أقسامٍ ، ذكرَ ابنُ الصلاحِ منها قسمينِ فقطْ :
القسمُ الأولُ : تدليسُ الإسنادِ : وهو أنْ يُسقطَ اسمَ شيخِهِ الذي سمعَ منه ، ويرتَقي إلى شيخِ شيخِهِ ، أو مَنْ فوقَهُ ، فَيسندُ ذلك إليه بلفظٍ لا يقتضي الاتصالَ ، بل بلفظٍ مُوهمٍ ، كقولِهِ : عَنْ فلانٍ ، أو أنَّ فلاناً ، أو قالَ فلانٌ ، مُوهِماً بذلك أنّهُ سمعَ ممَّنْ رواه عنه ، وإنّما يكونُ تدليساً إذا كانَ المدلِّسُ قد عاصرَ المرويَّ عنه أو لقيَهُ ولم يسمع منه ، أو سمعَ منه ولم يسمعْ منه ذلكَ الحديثَ الذي دلَّسَهُ عنه . وقد فُهِمَ هذا الشرطُ مِنْ قولِهِ : ( يُوْهِمُ اتصَّالاً ) . وإنّما يقعُ الإيهامُ مع المعاصرةِ وقد حدَّهُ أبو الحسنِ ابنُ القطانِ في كتابِهِ " بيان الوهم والإيهام " : بأنْ يرويَ عمَّنْ قد سَمِعَ منه ما لم يسمعْ منهُ ، من غيرِ أنْ يذكرَ أنّهُ سمعَهُ منه ، قال : والفرقُ بينَهُ وبين الإرسالِ : هو أنَّ الإرسالَ روايتُهُ عمَّنْ لم يسمعْ منه ، وقد سبقَ ابنَ القطانِ إلى حدِّهِ بذلك الحافظُ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ عمرِو بنِ عبدِ الخالقِ البزَّارُ ، ذكرَ ذلك في جزءٍ له " في معرفةِ مَنْ يُتركُ حديثُهُ ، أو يقبلُ " . أما إذا روى عمَّنْ لم يدركْهُ بلفظٍ موهمٍ فإنَّ ذلك ليس بتدليسٍ على الصحيحِ المشهورِ . وحكـى ابن عبد البرِّ في " التمهيد " عن قومٍ: أنَّهُ تدليسٌ، فجعلوا التدليسَ أنْ يُحَدِّثَ الرجلُ عن الرجلِ بما لم يسمعْهُ منه بلفظٍ لا يقتضي تصريحاً بالسماعِ ، وإلاَّ لكان كذباً . قالَ ابنُ عبد البرِّ : وعلى هذا فما سَلِمَ من التدليسِ أحدٌ لا مالكٌ ولا غيرُهُ .
فقولُهُ : في البيتِ الثاني : ( وقال ) ، معطوفٌ على قولِهِ : ( بِـ : عَنْ وأنْ ) ، أي : بهذهِ الألفاظِ الثلاثةِ ونحوِها ، ومثله أنْ يُسْقِطَ أداةَ الروايةِ ، ويسمّي الشيخَ فقط فيقولُ : فلانٌ ، وهذا يفعلُهُ أهلُ الحديثِ كثيراً . قال عليُّ بنُ خَشْرَمٍ : كُنَّا عند ابنِ عُيينةَ ، فقالَ : الزُّهْريُّ ، فقيل له : حدّثَكُمُ الزهريُّ ؟ فسكتَ . ثمَّ قالَ : الزهريُّ ، فقيل له : سمعتَهُ من الزهريِّ ؟ فقال : لا لم أسمعْهُ من الزهريِّ ولا ممَّنْ سمِعَهُ من الزهريِّ ، حدّثني عبدُ الرزاقِ ، عن مَعْمَرٍ ، عن الزهريِّ . وقد مَثَّلَ ابنُ الصَّلاحِ للقسمِ الأولِ بهذا المثالِ . ثم حكى الخلافَ فيمَنْ عُرفَ بهذا ، هل يُردُّ حديثُهُ مطلقاً ، أو ما لم يُصرّحْ فيه بالاتصال ؟! واعلمْ أنَّ ابنَ عبد البرِّ قد حكى عن أئمةِ الحديثِ أنَّهُم قالوا: يُقبلُ تدليسُ ابنِ عُيينةَ ؛ لأنَّهُ إذا وقفَ أحالَ على ابنِ جُريجٍ ومعمرٍ ونظائرِهما . وهذا ما رجّحَهُ ابنُ حبّانَ ، وقال : وهذا شيءٌ ليس في الدنيا إلاَّ لسفيانَ بنِ عيينةَ ، فإنّهُ كان يدلِّسُ ، ولا يدلِّسُ إلا عن ثقةٍ متقنٍ ، ولا يكادُ يوجدُ لابنِ عيينةَ خبرٌ دلَّسَ فيهِ ، إلاَّ وقدْ بَيَّنَ سماعَهُ عن ثقةٍ مثل ثقتِهِ ، ثم مَثَّلَ ذلك بمراسيلِ كبار الصحابةِ ، فإنَّهُم لا يرسلونَ إلاّ عن صحابيٍّ . وقد سبقَ ابنَ عبدِ البرِّ إلى ذلك الحافظانِ : أبو بكر البزّارُ ، وأبو الفتحِ الأزديُّ .
فقالَ البزّارُ في الجزءِ المذكورِ : إنَّ مَنْ كان يدلِّسُ عن الثقاتِ كانَ تدليسُهُ عند أهلِ العلمِ مقبولاً . ثم قال : فمَنْ كانت هذهِ صفتُهُ وَجبَ أنْ يكونَ حديثُهُ مقبولاً وإنْ كان مدلساً . وهكذا رأيتُهُ في كلامِ أبي بكرٍ الصَيْرفيِّ مـن الشافعية في كتابِ "الدلائلِ" فقالَ : كلُّ مَنْ ظهرَ تدليسُهُ عن غيرِ الثقاتِ لَمْ يُقبلْ خبرُهُ حَتَّى يقولَ : حدّثني ، أو سمعتُ . انتهى . وقولُهُ : ( واختلفَ في أهْلِه ) أي : في أهلِ هَذَا القسمِ مِنَ التدليسِ ، وهم المعروفونَ بهِ . فقيلَ : يُرَدُّ حديثُهم مطلقاً ، سواءٌ بينوا السماعَ ، أو لَمْ يبينوا ، وأنَّ التدليسَ نفسَهُ جرحٌ ، حكاهُ ابنُ الصلاحِ عن فريقٍ من أهلِ الحديثِ والفقهاءِ ، وَهُوَ المرادُ بقولِهِ : ( فالردُّ مطلقاً ثُقِفْ ) أي : وُجِدَ عن بعضِهم . والصحيحُ كما قالَ ابنُ الصلاحِ ، التفصيلُ . فإنْ صَرَّحَ بالاتصالِ كقولِهِ : سمعتُ ، وحدّثنا ، وأخبرنا ، فهو مقبولٌ محتجٌّ به . وإنْ أتى بلفظٍ محتملٍ فحكمُه حكمُ المرسلِ . وإلى هذا ذهبَ الأكثرونَ كما حكيتُهُ عنهمْ . ولمْ يذكرِ ابنُ الصلاحِ ذلكَ عنِ الأكثرينَ . وهذا من الزيادةِ عليه التي لم تُمَيَّزْ بـ : قلتُ . وممَّنْ حكاهُ عن جمهورِ أئمةِ الحديثِ والفقهِ والأصولِ شيخُنا أبو سعيدٍ العلائيُّ في كتابِ " المراسيل "، وهو قولُ الشافعيِّ ، وعليِّ بنِ المدينيِّ ، ويحيى بنِ معين ، وغيرِهم .
وقد وجدتُ في كلامِ بعضِهم : أنَّ المدلّسَ إذا لم يُصَرِّحْ بالتحديثِ ، لم يُقبلْ اتّفاقاً . وقد حكاهُ البيهقيُّ في " المدخلِ " عن الشافعيِّ ، وسائرِ أهلِ العلمِ بالحديثِ . وحكايةُ الاتفاقِ هنا غلطٌ أو هو محمولٌ على اتفاقِ مَنْ لا يحتجُّ بالمرسلِ . أمّا الذين يحتجُّونَ بالمرسلِ فيحتجونَ بهِ كما اقتضاهُ كلامُ ابنِ الصلاحِ على أنَّ بعضَ مَنْ يحتجُّ بالمرسلِ لا يقبلُ عنعنةَ المدلسِ . فقد حكى الخطيبُ في " الكفايةِ " : أنَّ جُمهورَ مَنْ يحتجُّ بالمرسلِ يقبلُ خبرَ المدلِّسِ .
وقولُهُ : ( وفي الصحيح … ) إلى آخرهِ ، أي : وفي الصَّحيحينِ وغيرِهما مِنَ الكتبِ الصحيحةِ عدّةُ رواةٍ من المدلّسينَ ، كالأعمشِ ، وهُشيمِ بنِ بَشِيرٍ ، وغيرِهما .
وقولُهُ : ( وفَتِّشْ ) أي : وفتشْ ، في الصحيحِ تجدْ جماعةً منهم ، كقتادةَ والسفيانَيْنِ ، وعبدِ الرزاقِ ، والوليدِ بنِ مسلمٍ ، وغيرِهِمْ . وقالَ النوويُّ : إنَّ ما في الصحيحينِ وغيرِهما من الكتبِ الصحيحةِ عن المدلسينَ بـ : عَنْ ، محمولٌ عَلَى ثبوتِ سماعِهِ من جهةٍ أخرى . وَقَالَ الحافظُ أبو محمدٍ عبدُ الكريمِ الحلبيُّ في كتاب
" القِدْح المُعَلّى": قالَ أكثرُ العلماءِ:إنَّ الَّتِي في الصحيحينِ مُنَزَّلةٌ بمنـزلةِ السماعِ.
157.
وَذَمَّـهُ (شُعْبَةُ) ذُو الرُّسُـوْخِ
وَدُوْنَـهُ التَّدْليْـسُ لِلشِّـيُوْخِ
158.
أنْ يَصِفَ الشَّيْخَ بِمَا لا يُعْرَفُ
بِـهِ ، وَذَا بِمقْصِـدٍ يَخْتَـلِفُ
159.
فَشَـرُّهُ للضَّعْفِ وَاسْتِصْغَارا
وَكـ(الخَطِيْبِ) يُوْهِمُ اسْتِكْثَارَا
160.
و (الشَّـافِعيْ) أثْبَتَـهُ بِمَرَّه
قُلْتُ : وَشَـرُّهَا أخُو التَّسْويهْ
أي : وذمّهُ شعبةُ فبالغَ في ذمِّهِ ، وإلاّ فَقَدْ ذمّهُ أكثرُ العلماءِ ، وَهُوَ مكروهٌ جدّاً ، فروَى الشافعيُّ عن شعبةَ قالَ : التدليسُ أخو الكذبِ ، وَقَالَ : لأنْ أزني أحبُّ إليَّ مِنْ أن أدلسَ . قَالَ ابنُ الصلاحِ : (( وهذا من شعبةَ إفراطٌ محمولٌ عَلَى المبالغةِ في الزجرِ عَنْهُ والتنفيرِ )) . وقوله : ( دُوْنَهُ التدليسُ للشيوخِ ) أي: ودونَ القسمِ الأولِ. وهذا هو القسمُ الثاني من أقسامِ التدليسِ .
قالَ ابنُ الصلاحِ : أمرُه أخفُّ منه ، و ( أنْ ) : في أولِ البيتِ الثاني مصدريةٌ . والجملةُ في موضع رفعٍ على أنّهُ بيانٌ للتدليسِ المذكورِ ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديره : وهو أنْ يصفَ المدلّسُ شيخَهُ الذي سمعَ ذلك الحديث منه بوصفٍ لا يُعْرَفُ به من اسمٍ ، أو كنيةٍ ، أو نسبةٍ إلى قبيلةٍ ، أو بلدٍ ، أو صنعةٍ أو نحوِ ذلك ، كي يُوْعِّرِ الطريقَ إلى معرفةِ السامعِ له ، كقول أبي بكرِ بن مجاهدٍ أحدِ أئمةِ القُرَّاْءِ : حدّثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي عبدِ اللهِ ، يريدُ به : عبدَ اللهِ بنَ أبي داود السجستانيَّ ، ونحوَ ذلك . قال ابنُ الصلاحِ : وفيه تضييعٌ للمَرْوِيِّ عنه . قلتُ : وللمَرْوِيِّ أيضاً بأنْ لا يتنبهَ له فيصيرُ بعضُ رواتِهِ مجهولاً .
ويختلفُ الحالُ في كراهةِ هذا القسمِ باختلافِ المقْصَدِالحاملِ على ذلكَ.فشرُّ ذلكَ: إذا كانَ الحاملُ على ذلكَ كونَ المَرْوِيِّ عنهُ ضعيفاً ، فيدلّسُهُ حتى لا تظهرَ روايتُهُ عن الضعفاءِ.وقد يكونُ الحاملُ على ذلكَ كونَ المَرْوِيِّ عنه صغيراً في السِّنِّ،أو تأخّرتْ وفاتُهُ، وشاركَهُ فيه مَنْ هو دونَهُ. وقد يكونُ الحاملُ على ذلك إيهامَ كثرةِ الشيوخِ بأنْ يرويَ عن الشيخِ الواحدِ في مواضعَ ، يُعَرِّفُهُ في موضِعٍ بصفةٍ ، وفي موضعٍ آخرَ بصفةٍ أخرى يُوهِمُ أنّهُ غيرُهُ . وممَّنْ يفعلُ ذلك كثيراً الخطيبُ ، فقد كانَ لهِجَاً به في تصانيفهِ.
ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ حكمَ مَنْ عُرِفَ بهذا القسمِ الثاني من التدليسِ . وقد جزمَ ابنُ الصَّبَّاغُ في " العُدَّةِ " بأنَّ مَنْ فعلَ ذلكَ ؛ لكونِ مَنْ روى عنهُ غيرَ ثقةٍ عندَ الناسِ ، وإنّما أرادَ أنْ يُغيِّرَ اسمَهُ ليقبلوا خبرَهُ ، يجبُ أنْ لا يُقبلَ خَبرُهُ ، وإنْ كانَ هو يعتقدُ منهُ الثقةَ فقدْ غَلَطَ في ذلكَ ؛ لجوازِ أنْ يَعْرِفَ غيرُهُ مِنْ جِرْحهِ ما لا يَعرفُهُ هو ، فإنْ كانَ لصِغَرِ سنِّهِ، فيكونُ ذلكَ روايةً عن مجهولٍ،لا يجبُ قبولُ خَبَرِهِ حتَّى يعرفَ مَنْ رَوَى عنهُ.
وقوله : ( واستصغاراً ) ، منصوبٌ بكانَ المحذوفةِ ، أي : ويكونُ استصغاراً وإيهاماً للكثرةِ ، وقوله : ( وكالخطيبِ ) أي : وكفعلِ الخطيبِ .
وقولُه : ( والشافعيُّ أثبتَهُ ) أي : أصلُ التدليسِ لا هذا القسمُ الثاني منه . قالَ ابنُ الصلاحِ : والحكمُ بأنَّهُ لا يُقبلُ من المدلِّسِ حتَّى يُبَيِّنَ ، قد أجراهُ الشافعيُّ ، فيمَنْ عرفناهُ دلَّسَ مرّةً . وممَّنْ حكاهُ عن الشافعيِّ البيهقيُّ في " المدخلِ " .
وقولُهُ : ( قلتُ : وشرُّها أخو التسوية ) . هذا هو القسمُ الثالثُ من أقسامِ التدليسِ الذي لم يذكرْهُ ابنُ الصلاحِ - وهو تدليسُ التسويةِ - وصورتُه أنْ يرويَ حديثاً عن شيخٍ ثقةٍ ، وذلكَ الثقةُ يرويه عنْ ضعيفٍ عن ثقةٍ ، فيأتي المدلِّسُ الذي سمعَ الحديثَ من الثقةِ الأولِ ، فيُسقطُ الذي في السندِ ، ويجعلُ الحديثَ عن شيخِهِ الثقةِ عن الثقةِ الثاني ، بلفظٍ محتملٍ ، فيستوي الإسنادُ ، كلُّهُ ثقاتٌ . وهذا شرُّ أقسامِ التدليسِ ؛ لأنَّ الثقةَ الأولَ قدْ لا يكونُ معروفاً بالتدليسِ ، ويجدُهُ الواقفُ على السندِ كذلكَ بعدَ التسويةِ قد رواهُ عن ثقةٍ آخرَ فيحْكَمُ له بالصحةِ ، وفي هذا غرورٌ شديدٌ . وممَّنْ نُقِلَ عنه أنَّهُ كان يفعلُ ذلكَ : بقيّةُ بنُ الوليدِ ، والوليدُ بنُ مسلمٍ . أما بقيةُ ، فقال ابنُ أبي حاتمٍ في كتاب " العلل " : سمعتُ أبي ، وذكرَ الحديثَ الذي رواهُ إسحاقُ بنُ راهويهِ، عنْ بقيةَ ، حدّثني أبو وَهْبٍ الأسديُّ ، عن نافعٍ ، عنِ ابنِ عُمَرَ حديث : (( لا تحمدوا إسلامَ المرءِ حتى تعرفوا عقدةَ رأيِهِ )). فقال أبي : هذا الحديثُ له أمرٌ قَلَّ مَنْ يفهمُهُ، رَوَى هذا الحديثَ عبيدُ الله بنُ عمرٍو ، عن إسحاقَ بنِ أبي فروةَ ، عن نافعٍ ، عن ابنِ عمرَ ، عن النبيِّ . وعبيدُ الله بنُ عمرٍو كنيته أبو وَهْبٍ وهو أسديٌ . فكناهُ بقيةُ ونسبَهُ إلى بني أسدٍ لكي لا يُفطَنَ له . حتى إذا تُرِكَ إسحاقُ بنُ أبي فروةَ من الوسط لا يُهتدى له . – قال - : وكان بقيّةُ مِن أفعلِ الناسِ لهذا .
وأمَّا الوليدُ بنُ مسلمٍ فقال أبو مُسْهِرٍ : كانَ الوليدُ بنُ مسلمٍ يحدّثُ بأحاديثِ الأوزاعيِّ عن الكذابينَ ، ثم يدلّسُها عنهم . وقال صالحٌ جَزَرَةُ : سمعتُ الهيثمَ بنَ خارجةَ يقولُ : قلتُ للوليدِ بنِ مسلمٍ : قد أفسدتَ حديثَ الأوزاعيِّ . قال : كيف ؟ قلتُ : تَروي عن الأوزاعيِّ ، عن نافعٍ ، وعن الأوزاعيِّ ، عن الزهريِّ ، وعن الأوزاعيِّ، عن يَحْيَى بنِ سعيدٍوغيرُكَ يُدْخلُ بَيْنَ الأوزاعيِّ وبينَ نافعٍ،عبدَ اللهِ بنَ عامرٍ الأسلميَّ وبينَهُ وبينَ الزهريِّ إبراهيمَ بنَ مُرَّةَ وقُرَّةَ ، قَالَ : أُنَبِّلُ الأوزاعيَّ أنْ يروِيَ عن مثلِ هؤلاءِ . قلتُ : فإذا رَوَى عن هؤلاءِ – وهم ضُعفاءُ – أحاديثَ مناكيرَ فاسقطتَهُمْ أنتَ وصَّيرتَها من روايةِ الأوزاعيِّ عن الثِّقاتِ ؛ ضُعِّفَ الأوزاعيُّ، فلم يلتفِتْ إلى قولي . وذَكَرَ الدارقطنيُّ عن الوليدِ أيضاً هذا النوعَ مِنَ التدليسِ . قال الخطيبُ :
وكانَ الأعمشُ ، والثوريُّ ، وبقيّةُ ، يفعلونَ مثلَ هذَا . وقد سَمَّاهُ ابنُ القطّانِ وغيرُ واحدٍ تدليسَ التسويةِ . قال العلائيُّ في " المراسيلِ " : (( وبالجملةِ فهذا النوعُ أفحشُ أنواعِ التدليسِ مطلقاً وشرُّها )) .
الشَّاذُّ
161.
وَذُو الشُّـذُوذِ : مَا يُخَالِفُ الثِّقَهْ
فِيـهِ المَلاَ فَالشَّـافِعيُّ حقَّقَـهْ
162.
والحَاكِمُ الخِلاَفَ فِيهِ ما اشْتَرَطْ
وَلِلْخَلِيليْ مُفْرَدُ الرَّاوي فَقَـطْ
163.
وَرَدَّ مَـا قَـالاَ بِفَـرْدِ الثِّقَـةِ
كالنَّهْي عَنْ بَيْعِ الوَلاَ وَالهِبَةِ
164.
وَقَوْلُ مُسْلِمٍ : رَوَى الزُّهْـرِيُّ
تِسْـعِينَ فَـرْدَاً كُلُّهَـا قَـوِيُّ
165.
واخْتَارَ فِيْمَـا لَمْ يُخَالِفْ أنَّ مَنْ
يَقْرُبُ مِنْ ضَبْطٍ فَفَرْدُهُ حَسَـنْ
166.
أوْ بَلَـغَ الضَّبْطَ فَصَحِّحْ أَوْ بَعُدْ
عَنْهُ فَمِمَّا شَـذَّ فَاطْـرَحْهُ وَرُدْ
اختلفَ أهلُ العلمِ بالحديثِ في صفةِ الحديثِ الشاذِّ ، فقالَ الشافِعيُّ : ليسَ الشاذُّ مِنَ الحديثِ أنْ يرويَ الثقةُ ما لا يروي غيرُهُ ، وإنَّما أنْ يرويَ الثقةُ حديثاً يخالفُ ما روى الناسُ ، وحكى أبو يعلى الخليليُّ عنْ جماعةٍ من أهلِ الحجازِ نحوَ هذا ، وقالَ الحاكمُ : (( هوَ الحديثُ الذي ينفردُ بهِ ثقةٌ منَ الثقاتِ ، وليسَ لهُ أصلٌ بمتابعٍ لذلكَ الثقةِ )). فلمْ يشترطِ الحاكمُ فيهِ مخالفةَ الناسِ ، وذَكَرَ أنَّهُ يغايرُ المعلَّلَ من حيثُ إِنَّ المعلَّلَ وُقِفَ على علَّتِهِ الدالةِ على جهةِ الوهمِ فيهِ ، والشاذُّ لَمْ يُوقفْ فيهِ على علَّتِهِ كذلكَ .
وقالَ أبو يعلى الخليليُّ : الذي عليهِ حفَّاظُ الحديثِ : أنَّ الشاذَّ ما ليسَ لهُ إلاَّ إسنادٌ واحدٌ ، يشذُّ بذلكَ شيخٌ ، ثقةً كانَ أو غيرَ ثقةٍ ، فما كانَ عنْ غيرِ ثقةٍ فمتروكٌ لا يقبلُ ، وما كانَ عنْ ثقةٍ يُتَوقَفُ فيهِ ولا يحتجُّ بهِ فَلمْ يشترطِ الخليليُّ في الشاذِّ تفردَ الثقةِ ، بلْ مطلقُ التفردِ . وقولُهُ : ورَدَّ ، أي : ابنُ الصلاحِ ما قالَ الحاكمُ والخليليُّ بأفرادِ الثقاتِ الصحيحةِ ، وبقولِ مسلمٍ الآتي ذكرُهُ ، فقالَ ابنُ الصلاحِ : (( أمَّا ما حكمَ الشافعيُّ عليهِ بالشذوذِ ، فلا إشكالَ في أنَّهُ شاذٌّ غيرُ مقبولٍ ، قالَ : وأمَّا ما حكيناهُ عنْ غيرِهِ فيشكِلُ بما ينفردُ بهِ العدلُ الحافظُ الضابطُ ، كحديثِ : (( إنّما الأعمالُ بالنياتِ )) ثمَّ ذكرَ مواضعَ التفردِ منهُ ، ثمَّ قالَ : وأوضحُ من ذلكَ في ذلكَ : حديثُ عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ ، عنْ ابن عمرَ أنَّ النبيَّ : ((نهى عنْ بيعِ الولاءِ وهبتِهِ)) تفرّدَ بهِ عبدُ اللهِ بنُ دينارٍ . وحديثُ مالكٍ ، عنِ الزُّهريِّ ، عنْ أنسٍ أنَّ النبيَّ : (( دخلَ مكَّةَ وعلى رأسِهِ المِغْفَرُ )) تفرّد بهِ مالكٌ عنِ الزهريِّ . فكلُّ هذهِ مُخرجةٌ في الصحيحينِ معَ أنَّها ليسَ لها إلاَّ إسنادٌ واحدٌ تفرَّدَ بهِ ثقةٌ ، قالَ : وفي غرائبِ الصحيحِ أشباهٌ لذلكَ غيرُ قليلةٍ ، قالَ : وقَدْ قالَ مسلمُ بنُ الحجّاجِ : (( للزُّهْريِّ نحوُ تسعينَ حرفاً يَرْوِيهِ عنِ النبيِّ ، لا يُشَارِكُهُ فيها أحدٌ بأسانيدَ جِيادٍ )) قالَ : فهذا الذي ذكرناهُ وغيرُهُ من مذاهبِ أئمةِ الحديثِ يبينُ لكَ أنَّهُ ليسَ الأمرُ في ذلكَ على الإطلاقِ الذي أتى بهِ الخليليُّ والحاكمُ ، بلِ الأمرُ في ذلكَ على تفصيلٍ نُبَيِّنُهُ فنقولُ: إذا انفردَ الراوي بشيءٍ نُظِرَ فيهِ ، فإنْ كانَ مخالفاً لما رواهُ مَنْ هوَ أولى منهُ بالحفظِ لذلكَ ، وأضبطُ ، كانَ ما انفردَ بهِ شاذّاً مردوداً ، وإنْ لَمْ يكنْ فيهِ مخالفةٌ لما رواهُ غيرُهُ وإنّما هوَ أمرٌ رواهُ هوَ ولَمْ يَرْوِهِ غيرُهُ ، فيُنْظَرُ في هذا الراوي المنفردِ ، فإنْ كانَ عدلاً حافظاً موثوقاً بإتقانهِ وضبطِهِ قُبِلَ ما انفردَ بهِ ولَمْ يقدحِ الانفرادُ فيهِ كما سبقَ منَ الأمثلةِ ، وإنْ لَمْ يكنْ ممَّنْ يُوثَقُ بحفظهِ وإتقانِهِ لذلكَ الذي انفرد بهِ ، كانَ انفرادُهُ بهِ خارِماً لهُ مُزَحزِحاً لهُ عنْ حيِّزِ الصحيحِ ، ثمَّ هوَ بعدَ ذلكَ دائرٌ بينَ مراتبَ متفاوتةٍ بحسبِ الحالِ فيهِ ، فإنْ كانَ المنفردُ بهِ غيرَ بعيدٍ من درجةِ الحافظِ الضابطِ المقبولِ تفرّده ، استحسنا حديثَهُ ذلكَ ، ولَمْ نحّطْهُ إلى قبيلِ الحديثِ الضعيفِ ، وإنْ كانَ بعيداً من ذلكَ ردَدْنَا ما انفردَ بهِ ، وكانَ من قبيلِ الشَّاذِّ المنكرِ . انتهى .
وهذا معنى قولِهِ : ( واختارَ ) ، أي : ابنُ الصلاحِ في الفردِ الذي لم يُخالِفْ .
وقولُهُ : ( وَرُدْ ) ، هو أمرٌ معطوفٌ على قولِهِ : ( فاطْرَحْهُ ) ، قالَ ابنُ الصَّلاحِ : فخرجَ من ذلكَ أنَّ الشاذَّ المردودَ قسمانِ :
أحدُهما : الحديثُ الفردُ المخالفُ .
والثاني : الفردُ الذي ليسَ في راويهِ منَ الثقةِ والضبطِ ما يقعُ جابراً لما يوجبُ التفردُ والشذوذُ من النكارةِ والضعفِ ، واللهُ أعلمُ . وسيأتي مثالٌ لقسمي الشَّاذِّ في البابِ الذي بعدَهُ .
الْمُنْكَرُ
167.
وَالْمُنكَـرُ:الفَرْدُ كَذَا البَرْدِيجِيْ
أَطْلَقَ، وَالصَّوَابُ فِي التَّخْرِيْجِ
168.
إِجْـرَاءُ تَفْصِيْلٍ لَدَى الشُّذُوْذِ مَرْ
فَهْـوَ بِمَعْناهُ كَذَا الشَّيْخُ ذَكَرْ
169.
نَحْوَ (( كُلُوا البَلَحَ بالتَّمْرِ )) الخَبَرْ
وَمَالِكٍ سَمَّى ابْنَ عُثْمَانَ : عُمَرْ
170.
قُلْتُ : فَمَاذَا ؟ بَلْ حَدِيْثُ (( نَزْعِهْ
خَاتَمَهُ عِنْدَ الخَلاَ وَوَضْعِهْ ))
قالَ الحافظُ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ هارونَ البَرْديجيُّ : المنكرُ هوَ الحديثُ الذي ينفردُ بهِ الرجلُ ، ولا يُعرفُ متُنُه من غيرِ روايتِهِ ، لا من الوجهِ الذي رواهُ منهُ ولا من وجهٍ آخرَ . قالَ ابنُ الصلاحِ : فأطلقَ البرديجيُّ ذلكَ ، ولمْ يفصِّلْ . قالَ : وإطلاقُ الحكمِ على التفرُّدِ بالرَّدِّ ، أو النَّكارةِ ، أو الشُّذوذِ ، موجودٌ في كلامِ كثيرٍ من أهلِ الحديثِ . قالَ : والصوابُ فيهِ التّفصيلُ الذي بيناهُ آنفاً في شرحِ الشاذِّ ، قالَ : وعندَ هذا نقولُ :
المنكرُ ينقسم قسمينِ على ما ذكرناهُ في الشاذِّ ، فإنَّهُ بمعناهُ .
وقولُهُ : ( نحو كُلوا … ) إلى آخرِ البيتِ هما مثالانِ للمنكرِ الذي هوَ بمعنى الشاذِّ . فالأولُ مثالٌ للفردِ الذي ليسَ في راويهِ من الثقةِ والإتقانِ ما يحتملُ معهُ تفرُّدُهُ ، وهوَ ما رواهُ النسائيُّ ، وابنُ ماجه منْ روايةِ أبي زُكَيْرٍ يحيى بنِ محمّدِ بنِ قيسٍ عنْ هِشامِ بنِ عُروةَ عنْ أبيهِ عنْ عائشةَ ؛ أنَّ رسولَ اللهِ ، قالَ : (( كلوا البَلَحَ بالتَّمْرِ ، فإنَّ ابنَ آدمَ إذا أكلَهُ غَضِبَ الشيطانُ ، … الحديثَ )) ، قالَ النسائيُّ هذا حديثٌ منكرٌ ، قالَ ابنُ الصلاحِ تفرّدَ بهِ أبو زُكيرٍ ، وهوَ شيخٌ صالحٌ أخرجَ عنه مسلمٌ في كتابِهِ غيرَ أنَّهُ لَمْ يبلغْ مبلغَ مَنْ يحتملُ تفرُّدُهُ انتهى .
وإنّما أخرجَ لهُ مسلمٌ في المتابعات .
والثاني : مثالٌ للفردِ المخالفِ لما رواهُ الثقاتُ ، وهوَ ما رواهُ مالكٌ ، عنِ الزهريِّ ، عنْ عليِّ بنِ حسينٍ ، عنْ عمرَ بنِ عثمانَ ، عنْ أُسامةَ بنِ زيدٍ ، عنْ رسولِ اللهِ ، قالَ: (( لا يَرِثُ المسلمُ الكافرَ ، ولا الكافرُ المسلمَ )) . فخالفَ مالكٌ غيرَهُ منَ الثقاتِ في قولهِ : عُمرَ بنِ عُثمانَ ، يعني : بضمِّ العينِ ، وذكرَ مسلمٌ في " التمييز " أنَّ كلَّ مَنْ رواهُ منْ أصحابِ الزهريِّ قالَ فيهِ : عَمْرو بنِ عثمانَ ، يعني : بفتح العينِ ، وذكرَ أنَّ مالكاً كانَ يشيرُ بيدهِ إلى دارِ عُمَرَ بنِ عثمانَ ، كأنَّهُ علمَ أنَّهم يخالفونَهُ ، وعَمرٌو و عُمَرُ جميعاً ولدا عثمانَ غيرَ أنَّ هذا الحديثَ إنّما هوَ عن عَمرٍو – بفتحِ العينِ – وحكمَ مسلمٌ وغيرُهُ على مالكٍ بالوهمِ فيهِ ، هكذا مثَّلَ ابنُ الصلاحِ بهذا المثالِ ، وفيهِ نظرٌ ، منْ حيثُ إنَّ هذا الحديثَ ليسَ بمنكرٍ ، ولمْ يطلقْ عليهِ أحدٌ اسمَ النكارةِ فيما رأيت والمتن ليسَ بمنكرٍ ، وغايتُهُ أنْ يكونَ السندُ منكراً ، أو شاذاً لمخالفةِ الثقاتِ لمالكٍ في ذلكَ ، ولا يلزمُ من شذوذِ السندِ ونكارتِهِ وجودُ ذلكَ الوصفِ في المتنِ فقدْ ذكرَ ابنُ الصلاحِ في نوعِ المعللِ : أنَّ العلةَ الواقعةَ في السندِ قدْ تقدحُ في المتنِ،وقدْ لا تقدحُ ومثَّلَ ما لا تقدحُ بما رواهُ يعلى بنُ عُبيدٍ ، عنِ الثَّوريِّ ، عنْ عَمرِو بنِ دينارٍ، عنِ ابنِ عُمرَ ، عنِ النبيِّ ، قالَ: (( البَيِّعَانِ بالخِيَار )) قالَ : فهذا إسنادٌ معلَّلٌ غيرُ صحيحٍ ، والمتنُ على كلِّ حالٍ صحيحٌ ، قالَ : والعلّةُ في قولهِ عن عَمرِو بنِ دينارٍ ، وإنّما هوَ عنْ عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ. انتهى . فحكمَ على المتنِ بالصحةِ معَ الحكمِ بوهمِ يعلى بنِ عُبيدٍ فيهِ وإلى هذا الإشارةُ بقولي : ( قلتُ : فماذا ) ، وإذا قالَ مالكٌ : عُمَرَ بنَ عثمانَ ، فماذا ؟ أي : فما يلزمُ منهُ من نكارةِ المتنِ .
ثمَّ أشرتُ إِلَى مثالٍ صحيحٍ لأحدِ قسمَيْ المنكرِ ، بقولي : ( بَلْ حَدِيْث نزعه … ) إلى آخرهِ ، أي : بل هذا الحديثُ مثالٌ لهذا القسمِ من المنكر ، وهوَ ما رواهُ أصحابُ السننِ الأربعةِ من روايةِ همّامِ بنِ يحيى عنِ ابنِ جريجٍ عن الزُّهريِّ عن أنسٍ ، قالَ : كانَ النبيُّ (( إذا دَخَلَ الخلاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ )) ، قالَ أبو داودَ بعدَ تخريجهِ : هذا حديثٌ منكرٌ ، قالَ: وإنّما يُعْرَفُ عنِ ابنِ جُرَيجٍ ، عنْ زيادِ بنِ سعدٍ ، عنِ الزهريِّ ، عنْ أنسٍ أنَّ النبيَّ : (( اتّخذَ خاتماً منْ وَرِقٍ ، ثمَّ ألقاهُ )) ، قالَ : والوهمُ فيهِ من همّامٍ ، ولمْ يروِهِ إلاَّ همّامٌ ، وقالَ النسائيُّ بعدَ تخريجهِ : هذا حديثٌ غيرُ محفوظٍ انتهى . فهمّامُ بنُ يحيى ثقةٌ ، احتجَّ بهِ أهلُ الصحيحِ ، ولكنَّهُ خالفَ الناسَ ، فروى عنِ ابنِ جريجٍ هذَا المتنَ بهذا السندِ وإنّما رَوَى الناسُ عنِ ابنِ جريجٍ الحديثَ الذي أشارَ إليهِ أبو داودَ ، ولهذا حكمَ عليهِ أبو داودَ بالنكارةِ ، وأما الترمذيُّ فقالَ فيه : حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ .
الاعْتِبَارُ وَالمُتَابَعَاتُ وَالشَّوَاهِدُ
171.
الاعْتِبَـارُ سَبْرُكَ الحَدِيْثَ هَـلْ
شَـارَكَ رَاوٍ غَيْـرَهُ فيْمَـا حَمَلْ
172.
عَنْ شَيْخِهِ فَإنْ يَكُنْ شُوْرِكَ مِنْ
مُعْتَبَـرٍ بِــهِ فَتَابِـعٌ ، وَإنْ
173.
شُـورِكَ شَيْخُهُ فَفَـوْقُ فَكَذَا
وَقَدْ يُسَـمَّى شَـاهِدَاً ثُمَّ إذَا
174.
مَتْنٌ بِمَعْنَـاهُ أتَى فَالشَّـاهِـدُ
وَمَا خَـلاَ عَنْ كُـلِّ ذَا مَفَـارِدُ
175.
مِثَالُهُ (( لَـوْ أَخَـذُوا إهَابَهَـا ))
فَلَفْظَـةُ (( الدِّبَـاغِ )) مَا أتَى بِهَا
176.
عَنْ عَمْرٍو الاَّ ابنُ عُيَيْنَةٍ وَقَدْ
تُوبِعَ عَمْروٌ في الدِّبَاغِ فَاعْتُضِدْ
177.
ثُـمَّ وَجَدْنَا (( أَيُّمَـا إِهَـابِ ))
فَكَـانَ فيـهِ شَـاهِدٌ في البابِ
هذهِ الألفاظُ يتداولها أهلُ الحديثِ بينَهم .
فالاعتبارُ : أنْ تأتيَ إلى حديثٍ لبعضِ الرواةِ ، فتعتبرُه برواياتِ غيرِهِ منَ الرواةِ بسبرِ طُرُقِ الحديثِ ليُعرفَ هلْ شاركَهُ في ذلكَ الحديثِ راوٍ غيرُهُ فرواهُ عنْ شيخِهِ أمْ لا ؟
فإنْ يَكنْ شاركَهُ أحدٌ ممَّنْ يُعتبرُ بحديثهِ ، أيْ : يصلحُ أنْ يخرجَ حديثُه للاعتبارِ بهِ والاستشهادِ بهِ ، فيسمَّى حديثُ هَذَا الَّذِي شاركَهُ تابعاً – وسيأتي بيانُ مَنْ يعتبرُ بحديثهِ في مراتبِ الجرحِ والتعديلِ – وإنْ لمْ تجدْ أحداً تابعَهُ عليهِ عنْ شيخهِ فانظرْ هلْ تابعَ أحدٌ شيخَ شيخِهِ فرواهُ متابعاً لهُ أمْ لاَ ؟ إنْ وجدتَ أحداً تابعَ شيخَ شيخِهِ عليهِ ، فرواهُ كما رواهُ فسمِّهِ أيضاً تابعاً . وقدْ يسمُّونَهُ شاهداً ، وإنْ لمْ تجدْ فافعلْ ذلكَ فيمنْ فوقَهُ إلى آخرِ الإسنادِ حتَّى في الصحابيِّ ، فكلُّ مَنْ وُجِدَ لهُ متابعٌ فسمِّهِ تابعاً . وقدْ يسمُّونَهُ شاهداً ، كما تقدَّمَ ، فإنْ لَمْ تَجدْ لأحدٍ ممَّنْ فَوقَهُ متابعاً عليهِ فانظرْ هلْ أتى بمعناهُ حديثٌ آخرُ في البابِ أمْ لا ؟ فإنْ أتى بمعناهُ حديثٌ آخرُ فسمِّ ذلكَ الحديثَ شاهداً ، وإنْ لَمْ تجدْ حديثاً آخرَ يؤدِّي معناهُ ، فقد عُدِمَتِ المتابعاتُ والشواهدُ . فالحديثُ إذاً فردٌ . قالَ ابنُ حبَّانَ : وطريقُ الاعتبارِ في الأخبارِ ، مثالُهُ أنْ يرويَ حمَّادُ بنُ سَلَمَةَ حديثاً لَمْ يُتابعْ عليهِ ، عنْ أيُّوبَ ، عنِ ابنِ سِيرينَ ، عنْ أبي هريرةَ ، عنِ النبيِّ ، فيُنْظرَ : هلْ روى ذلكَ ثقةٌ غيرُ أيوبَ، عنِ ابنِ سيرينَ ؟ فإنْ وُجِدَ عُلِمَ أنَّ للخبرِ أصلاً يُرْجَعُ إليهِ ، وإنْ لَمْ يُوجَدْ ذلكَ ، فثِقَةٌ غيرُ ابنِ سيرينَ رواهُ عنْ أبي هريرةَ ، وإلاَّ فصحابيٌّ غيرُ أبي هريرةَ، رواهُ عنِ النبيِّ . فأيُّ ذلكَ وُجِدَ يُعْلَمُ بهِ أنَّ للحديثِ أصلاً يرجعُ إليهِ ، وإلاَّ فَلاَ . انتهى . قلتُ : فمثالُ مَا عُدِمَتْ فيهِ المتابعاتُ من هَذَا الوجهِ من وجهٍ يثبتُ ما رواهُ الترمذيُّ منْ روايةِ حمّادِ بنِ سَلَمَةَ ، عنْ أيوبَ ، عنِ ابنِ سيرينَ ، عنْ أبي هريرةَ ، أراهُ رَفَعَهُ : (( احببْ حبيبكَ هوناً مَا ، … الحديثَ )) . قالَ الترمذيُّ : حديثٌ غريبٌ لا نعرفُهُ بهذا الإسنادِ إلاَّ منْ هَذَا الوجهِ . قلتُ: أيْ من وجهٍ يثبتُ، وقدْ رواهُ الحسنُ بنُ دينارٍ ، وهوَ متروكُ الحديثِ ، عنِ ابنِ سيرينَ ، عنْ أبي هريرةَ ، قالَ ابنُ عَدِيٍّ في " الكاملِ " : (( ولا أعلمُ أحداً قالَ عنِ ابنِ سيرينَ ، عنْ أبي هريرةَ إلاَّ الحسنَ بنَ دينارٍ . ومن حديثِ أيوبَ ، عنِ ابنِ سيرينَ ، عنْ أبي هريرةَ ، رواهُ حمادُ بنُ سلمةَ ، ويرويهِ الحسنُ بنُ أبي جعفرٍ ، عنْ أيوبَ ، عنِ ابنِ سيرينَ عنْ حُمَيدِ بنِ عبدِ الرحمنِ الحِمْيريِّ ، عنْ عليٍّ مرفوعاً . انتهى .
والحسنُ بنُ أبي جعفرٍ منكرُ الحديثِ ، قالَهُ البخاريُّ .
وقولُهُ : ( مثالُه لو أخذوا إهابها ) ، هذا مثالٌ لما وُجِدَ لهُ تابعٌ وشاهدٌ أيضاً . وهوَ مَا روى مسلمٌ والنسائيُّ من روايةِ سفيانَ بنِ عُيينةَ ، عنْ عَمْرِو بنِ دينارٍ ، عنْ عطاءٍ ، عنِ ابنِ عبّاسٍ ، أنَّ رسولَ اللهَ : (( مَرَّ بِشَاةٍ مَطْرُوحَةٍ أُعْطِيَتْهَا مَوْلاَةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنَ الصَّدَقَةِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ : أَلاَّ أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ )) ، فلمْ يذكرْ فيهِ أحدٌ منْ أصحابِ عمرِو بنِ دينارٍ : فدبغوهُ ، إلاَّ ابنُ عيينةَ . وقدْ رواهُ إبراهيمُ بنُ نافعٍ المكيُّ عن عمرٍو ، فلمْ يذكرِ الدِّباغَ . وقولُ ابنِ الصلاحِ : ورواهُ ابنُ جريجٍ عن عمرٍو ، عنْ عطاءٍ ، ولَمْ يذكرْ فيهِ الدِّباغَ ، يوهمُ موافقةَ روايةِ ابنِ جريجٍ لروايةِ ابنِ عيينةَ في السندِ وليسَ كذلكَ ، فإنَّ ابنَ جريجٍ زادَ في السندِ ميمونةَ فجعلهُ من مسندها. وفي روايةِ ابنِ عيينةَ أنَّهُ من مسندِ ابنِ عبّاسٍ ، فلهذا مَثَّلْتُ: بإبراهيمَ بنِ نافعٍ، واللهُ أعلمُ . فَنَظَرنَا هلْ نجدُ أحداً تابعَ شيخَهُ عمرَو بنَ دينارٍ على ذكرِ الدباغِ فيهِ ، عنْ عطاءٍ أمْ لاَ ؟ فوجدنا أسامةَ بنَ زيدٍ الليثيَّ تابعَ عَمْرَاً عليهِ . ورواهُ الدارقطنيُّ والبيهقيُّ من طريقِ ابنِ وَهْبٍ ، عنْ أسامةَ ، عنْ عطاءِ بنِ أبي رباحٍ ، عنِ ابنِ عبّاسٍ: أنَّ النبيَّ قالَ لأهلِ شاةٍ ماتتْ : (( ألا نزعتُمْ إِهَابَهَا فدبَغْتُمُوهُ ، فانتَفَعْتُمْ بهِ )) .
قالَ البيهقيُّ وهكذا رواهُ الليثُ بنُ سعدٍ ، عنْ يزيدَ بنِ أبي حبيبٍ ، عنْ عطاءٍ . وكذلكَ رواهُ يحيى بنُ سعيدٍ ، عنِ ابنِ جريجٍ ، عنْ عطاءٍ .
فكانتْ هذهِ متابعاتٍ لروايةِ ابنِ عيينةَ . ثمَّ نظرْنَا فوجَدْنَا لها شاهداً ، وهوَ ما رواهُ مسلمٌ وأصحابُ السُّننِ من روايةِ عبدِ الرحمنِ بنِ وَعْلةَ المصريِّ ، عنِ ابنِ عبّاسٍ ، قالَ : قالَ رسولُ الله : (( أيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فقدْ طَهُرَ )) .
زِيَادَاتُ الثِّقَاتِ
178.
وَاقْبَـلْ زِيَادَاتِ الثِّقَاتِ مِنْهُـمُ
وَمَنْ سِـوَاهُمْ فَعَلَيْهِ المُعْظَـمُ
179.
وَقِيْلَ : لاَ ، وَقِيْلَ : لاَ مِنْهُمْ وَقَدْ
قَسَّمَهُ الشَّيْخُ ، فَقَالَ : مَا انْفَرَدْ
180.
دُوْنَ الثِّقَـاتِ ثِقَـةٌ خَالَفَهُـمْ
فِيْـهِ صَرِيْحاً فَهْـوَ رَدٌّ عِنْدَهُمْ
181.
أَوْ لَمْ يُخَالِفْ ، فَاقْبَلَنْـهُ وَادَّعَى
فِيْـهِ الخَطِيْبُ الاتِّفَاقَ مُجْمَعَا
182.
أَوْ خَالَفَ الاطْلاَقَ نَحْوُ ((جُعِلَتْ
تُرْبَةُ الارْضِ)) فَهْيَ فَرْدٌ نُقِلَتْ
183.
فَالْشَّـافِعِيْ وَأَحْمَدُ احْتَجَّا بِـذَا
وَالوَصْلُ والارْسَالُ مِنْ ذَا أُخِذَا
184.
لَكِنَّ في الإرْسَالِ جَرْحاً فَاقْتَضَى
تَـقْدِيْمَـهُ وَرُدَّ أنَّ مُقْتَضَـى
185.
هَـذَا قَبُولُ الوَصْلِ إذْ فِيْهِ وَفِيْ
الجَـرْحِ عِلْـمٌ زَائِدٌ لِلْمُقْتَفِيْ
مَعْرِفةُ زياداتِ الثِّقاتِ فنٌّ لطيفٌ ، يُسْتَحسَنُ العِنايةُ بهِ . وَقدْ كانَ الفقيهُ أبو بكرٍ عبدُ اللهِ بنُ محمدِ بنِ زيادٍ النَّيْسابوريُّ مشهوراً بمعرفةِ ذلكَ . قالَ الحاكمُ : كانَ يعرفُ زياداتِ الألفاظِ في المتونِ ، وكذلكَ أبو الوليدِ حسّانُ بنُ محمدٍ القرشيُّ النيسابوريُّ . تلميذُ ابنِ سُرَيْجٍ وغيرُ واحدٍ منَ الأئمةِ .
واخْتُلِفَ في زيادةِ الثقةِ على أقوالٍ :
فذهبَ الجمهورُ منَ الفقهاءِ وأصحابِ الحديثِ ، كما حكاهُ الخطيبُ عنهم ، إلى قبولها سواءٌ تعلقَ بها حكمٌ شرعيٌّ أمْ لا . وسواءٌ غَيَّرَتِ الحكمَ الثابتَ ، أمْ لاَ ، وسواءٌ أوْجبتْ نقصاً منَ أحكامٍ ثبتتْ بخبرٍ ليستْ فِيْهِ تلكَ الزيادةُ أم لا . وسواءٌ كانَ ذلكَ من شخصٍ واحدٍ بأنْ رواهُ مرّةً ناقصاً ، ومرةً بتلكَ الزيادةِ ، أو كانتْ الزيادةُ منْ غيرِ مَنْ رواهُ ناقصاً . وهذا معنى قولي : (وَمَنْ سواهُمْ ) أيْ : وَمَنْ سوَى منْ زادَها بشرطِ كونِهِ ثقةً ؛ لأنَّ الفصلَ معقودٌ لزيادةِ الثقةِ ، لا أنَّ المرادَ : ومَنْ سوى الثقاتِ . وقدِ ادَّعى ابنُ طاهرٍ الاتفاقَ على هذا القولِ عندَ أهلِ الحديثِ ، فقالَ في "مسألةِ الانتصارِ" : لا خلافَ تجدُهُ بينَ أهلِ الصنعةِ أنَّ الزيادةَ منَ الثقةِ مقبولةٌ انتهى . وشَرَطَ أبو بكرٍ الصَّيْرفيُّ منَ الشافعيَّةِ وكذلك الخطيبُ في قبولِ الزيادةِ كونَ مَنْ رواها حافظاً . وشَرَطَ ابنُ الصَّبَّاغِ في " العُدَّةِ " منهم ، ألاَّ يكونَ مَنْ نقلَ الزيادةَ واحداً ، ومَنْ رواهُ ناقصاً جماعةٌ لا يجوزُ عليهمُ الوهمُ ، فإنْ كانَ كذلكَ سقطتِ الزيادةُ وقالَ ذلكَ فيما إذا روياهُ عنْ مجلسٍ واحدٍ ، فإنْ روياهُ عنْ مجلسينِ كانا خبرينِ وعُمِلَ بهِمَا .
والقولُ الثاني : أنَّها لا تقبلُ مطلقاً لا ممَّنْ رواهُ ناقصاً ولاَ مِنْ غيرِهِ حُكيَ ذلكَ عن قومٍ منْ أصحابِ الحديثِ فيما ذَكَرَهُ الخطيبُ في "الكفايةِ" وابنُ الصبّاغِ في "العُدَّة".
والقولُ الثالثُ : أنّها لا تقبلُ ممَّنْ رواهُ ناقصاً ، وتقبلُ مِنْ غيْرِهِ منَ الثقاتِ ، حكاهُ الخطيبُ عن فرقةٍ منَ الشافعيةِ .
وهوَ المرادُ بقولي : ( وقيل : لا منهم ) أي : لا يقبلُ ممَّنْ رواهُ ناقصاً ، ثمَّ رواهُ بتلكَ الزيادةِ ، أو رواهُ بالزيادةِ ، ثمَّ رواهُ ناقصاً . وذكرَ ابنُ الصبّاغِ في " العدّةِ " فيما إذا روى الواحدُ خبراً ، ثمَّ رواهُ بعدَ ذلكَ بزيادةٍ ، فإنْ ذكرَ أنَّهُ سمعَ كلَّ واحدٍ منَ الخبرينِ في مجلسينِ ، قُبلَتِ الزيادةُ ، وإنْ عزى ذلكَ إلى مجلسٍ واحدٍ وتكررتْ روايتُهُ بغيرِ زيادةٍ ثمَّ روى الزيادةَ . فإنْ قالَ : كنتُ أُنسيتُ هذهِ الزيادةَ قُبِلَ منهُ ، وإنْ لَمْ يقلْ ذلكَ وجبَ التوقّفُ في الزيادةِ .
وفي المسألةِ قولٌ رابعٌ : أنَّهُ إنْ كانتِ الزيادةُ مغيرةً للإعرابِ ، كانَ الخبرانِ متعارضينِ ، وإنْ لَمْ تُغَيِّرِ الإعرابَ قُبِلتْ . حكاهُ ابنُ الصبّاغُ عنْ بَعضِ المتكلمينَ .
وفيها قولٌ خامسٌ : أنَّها لا تقبلُ إلاَّ إذا أفادتْ حكماً .
وفيها قولٌ سادسٌ : أنَّها تقبلُ في اللفظِ دونَ المعنى، حكاهما الخطيبُ .
وقولُهُ : ( وقد قسَّمهُ الشيخُ ) أي : ابنُ الصلاحِ ، فقالَ : قدْ رأيتُ تقسيمَ ما ينفردُ بهِ الثقةُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ :
أحدُها : ما يقعُ مخالفاً منافياً لما رواهُ سائرُ الثقاتِ ، فهذا حكمهُ الردُّ ، كما سبقَ في نوعِ الشاذِّ .
الثاني : أنْ لا يكونَ فيهِ منافاةٌ ومخالفةٌ أصلاً لما رواهُ غيرُهُ ، كالحديثِ الذي تفرّدَ بروايةِ جملتِهِ ثقةٌ ، ولاَ تعرض فيهِ لما رواهُ الغيرُ بمخالفةِ أصلٍ .
فهذا مقبول،وقدِ ادَّعى الخطيبُفيهِ اتفاقَ العلماءِ عليهِ،وسبقَ مثالهُ في نوعِ الشاذِّ.
الثالثُ : ما يقعُ بينَ هاتينِ المرتبتينِ ، مثلُ زيادةِ لفظةٍ في حديثٍ لَمْ يذكرْهَا سائرُ مَنْ روى ذلكَ الحديثَ ، مثالُهُ ما رواهُ مالكٌ عنْ نافِعٍ ، عنِ ابنِ عمرَ : أنَّ رسولَ اللهَ : (( فرضَ زكاةَ الفطرِ من رمضانَ على كلِّ حرِّ ، أو عبدٍ ، ذكرٍ ، أو أنثى منَ المسلمينَ )) ، فذكرَ أبو عيسى الترمذيُّ : أنَّ مالكاً انفردَ من بينِ الثقاتِ بزيادةِ قولِهِ : (( منَ المسلمينَ )) . وروى عبيدُ اللهِ بنُ عمرَ ، وأيوبُ ، وغيرُهما هذا الحديثَ عنْ نافعٍ عنْ ابنِ عمرَ دونَ هذهِ الزيادةِ ، فأخذَ بها غيرُ واحدٍ منَ الأئمةَ ، واحتجوا بها منهم : الشافعيُّ وأحمدُ رضي اللهُ عنهما . قالَ : ومنْ أمثلةِ ذلكَ : (( جُعلَتْ لنا الأرضُ مسجداً وَجُعِلَتْ تربتها لنا طهوراً )) . فهذهِ الزيادةُ تفرَّدَ بها أبو مالكٍ سعدُ بنُ طارقٍ الأشجعيُّ ، وسائرُ الرواياتِ لفظها : (( وجُعلتْ لنا الأرضُ مسجداً وطهوراً )) . قالَ : فهذا وما أشبهَهُ يشبهُ القسمَ الأولَ من حيثُ إنَّ ما رواهُ الجماعةُ عامٌّ ، وما رواهُ المنفردُ بالزيادةِ مخصوصٌ ، وفي ذلكَ مغايرةٌ في الصفةِ ، ونوعٌ منَ المخالفةِ يختلفُ بهِ الحكمُ . ويشبهُ أيضاً القسمَ الثانيَ من حيثُ إنَّهُ لا منافاةَ بينهما انتهى كلامُ ابنِ الصلاحِ ، واقتصرَ على المثالِ الثـاني ؛ لأنَّهُ صحيحٌ ، كما ذكرَ : تفرّدَ بالزيادةِ سعدُ بنُ طارقٍ أبو مالكٍ الأشجعيُّ ، والحديثُ رواهُ مسلمٌ والنسائيُّ من روايةِ الأشجعيِّ عنْ رِبْعي ، عن حذيفةَ . وأما المثالُ الأولُ فلاَ يصحُّ؛ لأنَّ مالكاً لم ينفردْ بالزيادةِ ، بلْ تابعهُ عليها عمرُ بنُ نافعٍ ، والضحاكُ بنُ عثمانَ ، ويونسُ بنُ يزيدَ ، وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ ، والمُعَلَّى بنُ إسماعيلَ ، وكثيرُ بنُ فَرْقدٍ . واختُلِفَ في زيادتها على عُبيدِ اللهِ بنِ عمرَ ، وأيوبَ . وقدْ بينتُ هذهِ الطرقَ في " النكتِ " التي جمعتُها على كتابِ ابنِ الصَّلاحِ .
وقولُهُ : ( والوصل والإرسال من ذا أخذ ) أي : إنَّ تعارضَ الوصلِ والإرسال نوعٌ من زيادةِ الثقةِ؛ لأنَّ الوصلَ زيادةُ ثقةٍ، وقدْ تقدّمَ أنَّ الخطيبَ حَكَى عن أكثرِ أهلِ الحديثِ أنَّ الحكمَ لِمَنْ أرسلَ.وقالَابنُ الصلاحِ : إنَّ بينَ الوصلِ والإرسال مِنَ المخالفةِ نحوَ ما ذكرناهُ،أي: في القسمِ الثالثِ.قالَ:ويزدادُ ذلكَ بأن الإرسالَ نوعُ قدحٍ في الحديثِ، فترجيحُهُ ، وتقديمُهُ من قبيلِ تقديمِ الجرحِ على التعديلِ . قالَ : ويجابُ عنهُ بأنَّ الجرحَ قُدِّمَ لما فيهِ من زيادةِ العلمِ . والزيادةُ هاهنا معَ مَنْ وصلَ ، واللهُ أعلمُ .
الأفْـرَاْدُ
186.
الفَرْدُ قِسْمَانِ ، فَفَرْدٌ مُطْلَقا
وَحُكْمُهُ عِنْدَ الشُّذُوْذِ سَبَقا
187.
وَالفَرْدُ بِالنِّسْبَةِ : مَا قَيَّدْتَهُ
بِثِقَةٍ ، أوْ بَلَدٍ ذَكَرْتَهُ
188.
أوْ عَنْ فُلانٍ نَحْوُ قَوْلِ القَائِلْ
لَمْ يَرْوِهِ عَنْ (بَكْرٍ) الاَّ (وَائِلْ)
189.
لَمْ يَرْوِهِ ثِقَةٌ الاّ (ضَمْرَهْ)
لَمْ يَرْوِ هَذَا غيرُ أهْلِ البَصْرَهْ
190.
فَإنْ يُرِيْدُوا وَاحِداً مِنْ أهْلِهَا
تَجَوُّزاً ، فاجْعَلْهُ مِنْ أوَّلهِا
191.
وَلَيْسَ في أفْـرَادِهِ النِّسْبِيَّهْ
ضَعْفٌ لَهَا مِنْ هَذِهِ الحَيْثِيَّهْ
192.
لَكِنْ إذَا قَيَّدَ ذَاكَ بِالثِّقَهْ
فَحُكْمُهُ يَقْرُبُ مِمَّا أطْلَقَهْ
الأفرادُ منقسمةٌ إلى : ما هو فردٌ مطلقاً ، وهو ما ينفردُ به واحدٌ عن كُلِّ أحدٍ . وقد سبقَ حكمُهُ ومثالُهُ في قسمِ الشاذِّ . وإلى ما هو فردٌ بالنسبةِ إلى جهةٍ خاصّةٍ . كتقييدِ الفرديةِ بثقةٍ ، أو بلدٍ معيَّنٍ ، كمكَّةَ والبصرةِ ، والكوفةِ ، أو بكونهِ لم يروِهِ من أهلِ البصرةِ ، أو الكوفةِ – مثلاً – إلاّ فلانٌ ، أو لم يروِهِ عن فلانٍ إلاّ فلانٌ . ونحوِ ذلك . فمثالُ تقييدِ الانفرادِ بكونهِ لم يروِهِ عن فلانٍ إلاّ فلانٌ : حديثٌ رواهُ أصحابُ السُّنن الأربعةِ منِ طريق سفيانَ بنِ عُيينةَ ، عن وائلِ بنِ داودَ ، عن ابنِهِ بكرِ بنِ وائلٍ ، عن الزهريِّ ، عن أنسٍ أنَّ النبيَّ : (( أوْلَمَ على صَفِيَّةَ بِسَوِيقٍ ، وتَمْرٍ )) . قالَ الترمذيُّ : حديثٌ غريبٌ . وقالَ ابنُ طاهرٍ في أطرافِ الغرائبِ : غريبٌ من حديثِ بكرِ بنِ وائلٍ عنه . تفرّدَ به وائلُ بنُ داودَ ، ولم يروِهِ عنه غيرُ سفيانَ بنِ عيينةَ . انتهى . فلا يلزمُ من تفرّدِ وائلٍ به عن ابنهِ بكرٍ تفرّدُهُ به مطلقاً . فقد ذكرَ الدارقطنيُّ في " العللِ " أنهُ رواهُ محمّدُ بن الصَّلْتِ التَّوَّزيُّ ، عن ابنِ عُيينةَ ، عن زيادِ بنِ سعدٍ ، عن الزهريِّ ، قال : ولم يتابعْ عليهِ . والمحفوظُ عن ابنِ عُيينةَ ، عن وائلٍ ، عن ابنِهِ . ورواهُ جماعةٌ عن ابنِ عيينةَ ، عن الزهريِّ بغيرِ واسطةٍ .
ومثالُ تقييدِ الانفرادِ بالثقةِ : حديثُ أنَّ النبيَّ كان يقرأُ في الأضحى ،
والفطرِ : بِقَافْ ، واقتربتِ الساعةُ . رواه مسلمُ وأصحابُ السنَنِ من روايةِ ضَمْرةَ بنِ سعيدٍ المازنيِّ ، عن عُبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ ، عن أبي واقدٍ اللَّيثيِّ ، عن النبيِّ وهذا الحديثُ لم يروِهِ أحدٌ من الثقاتِ إلا ضَمْرَةَ .
قالَ شيخُنا علاءُ الدينِ ابنُ التركمانيِّ في " الدرِّ النقي " : مدارُهُ على ضَمْرةَ – يريدُ حديثَ أبي واقدٍ – . وإنّما قيّدتُ هذا الحديثَ بقولي : أحدٌ من الثقاتِ ؛ لأنَّ الدارقطنيَّ رواهُ من روايةِ ابنِ لَهِيعَةَ ، عن خالدِ بنِ يزيدٍ ، عن الزهريِّ ، عن عروةَ ، عن عائشةَ ، عن النبيِّ . وابنُ لَهِيعَةَ ضَعَّفَهُ الجمهورُ .
ومثالُ ما انفردَ به أهلُ بلدةٍ : ما رواهُ أبو داودَ عن أبي الوليدِ الطيالسيِّ ، عن همَّامٍ ، عن قَتَادةَ ، عن أبي نَضْرةَ ، عن أبي سعيدٍ ، قال : (( أمرَنا رسولُ اللهِ أنْ نقرأَ بفاتحةِ الكتابِ ، وما تَيَسَّرَ )) . قالَ الحاكمُ : تفرّدَ بذكرِ الأمرِ فيهِ أهلُ البصرةِ من أولِ الإسنادِ إلى آخرِه . ولم يشركْهم في هذا اللفظِ سِواهم . ونحوُ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ في صِفةِ وُضوءِ رسـولِ اللهِ : (( وَمَسـحَ رأسَـهُ بماءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدِهِ )) رواهُ مسـلمٌ وأبو داودَ والترمذيُّ . قالَ الحاكمُ : هذهِ سنةٌ غريبةٌ تفرّدَ بها أهلُ مصرَ ولم يشاركهُم فيها أحدٌ .
وقولُهُ : ( فإنْ يُريدوا واحداً من أهلِها ) أي : فإن يريدوا بقولهم : انفردَ بهِ أهلُ البصرةِ ، أو هو من أفرادِ البصريين ، ونحوَ ذلك واحداً من أهلِ البصرةِ انفردَ به متجوّزينَ بذلك كما يضافُ فعلُ واحدٍ من قبيلةٍ إليها مجازاً فاجعلْه من القسمِ الأولِ ، وهو الفردُ المطلقُ . مثالُهُ ما تقدّمَ عند ذكرِ المنكرِ من روايةِ أبي زُكَيْرٍ ، عن هِشامِ بنِ عروةَ ، عن أبيهِ ، عن عائشة مرفوعاً : كُلوا البلحَ بالتمرِ … الحديثَ . قالَ الحاكمُ : هو من أفرادِ البصريينَ عن المدنيينَ تفرّدَ به أبو زُكيرٍ ، عن هشامِ بنِ عُروة . انتهى . فجعلَهُ من أفرادِ البصريينَ ، وأرادَ به واحداً منهم .
وليس في أقسامِ الفردِ المقيّدِ بنسبةٍ إلى جهةٍ خاصّةٍ ما يقتضي الحكمَ بِضَعْفِها من حيثُ كونُها أفراداً ، لكن إذا كانَ القيدُ بالنسبةِ لروايةِ الثقةِ كقولِهِم : لم يروِهِ ثقةٌ إلاّ فلانٌ ، فإنَّ حكمَهُ قريبٌ من حكمِ الفردِ المطلقِ ؛ لأنَّ روايةَ غيرِ الثقةِ كَلا روايةٍ ، إلا أنْ يكونَ قَدْ بلغَ رتبةَ مَنْ يُعتبرُ بحديثه . فلهذا قِيْلَ : ( يقربُ ) . ولم يُجعَلْ حكمُه حكمَ الفردِ المطلقِ من كُلِّ وجهٍ .
المـُعَلَّـلُ
193.
وَسَمِّ مَا بِعِلَّةٍ مَشْمُوْلُ
مُعَلَّلاً ، وَلاَ تَقُلْ : مَعْلُوْلُ
194.
وَهْيَ عِبَارَةٌ عَنَ اسْبَابٍ طَرَتْ
فِيْهَا غُمُوْضٌ وَخَفَاءٌ أثَّرَتْ
195.
تُدْرَكُ بِالخِلاَفِ وَالتَّفَرُّدِ
مَعَ قَرَائِنَ تُضَمُّ، يَهْتَدِيْ
196.
جِهْبِذُهَا إلى اطِّلاَعِهِ عَلَى
تَصْويْبِ إرْسَالٍ لِمَا قَدْ وُصِلاَ
197.
أوْ وَقْفِ مَا يُرْفَعُ ، أوْ مَتْنٍ دَخَلْ
في غَيْرِهِ ، أوْ وَهْمِ وَاهِمٍ حَصَلْ
198.
ظَنَّ فَأمْضَى ، أوْ وَقَفْ فأحْجَمَا
مَعْ كَوْنِهِ ظَاهِرَهُ أنْ سَلِمَا
أي : وسمِّ الحديثَ الذي شملتْهُ علّةٌ من عللِ الحديثِ معلَّلاً . ولا تسمِّهِ معلولاً . وقد وقعَ في عبارةِ كثيرٍ من أهلِ الحديثِ تسمّيتُهُ بالمعلولِ . وذلك موجودٌ في كلامِ الترمذيِّ ، وابنِ عَدِيٍّ ، والدارقطنيِّ ، وأبي يعلى الخليليِّ ، والحاكمِ وغيرِهم . قالَ ابنُ الصلاحِ : (( وذلك منهم ، ومن الفقهاءِ في قولهم في باب القياس : العلّةُ والمعلولُ مرذولٌ عند أهلِ العربية واللغة )) . وقال النوويُّ : (( إنّهُ لَحْنٌ )) . قلتُ : والأجودُ في تسميتِهِ : المُعَلُّ . وكذلك هو في عبارةِ بعضِهم . وأكثرُ عباراتِهم في الفعلِ منه ، أنَّهم يقولون: أعَلَّهُ فلانٌ بكذا. وقياسُهُ: مُعَلٌّ . وهو المعروفُ في اللغةِ. قالَ الجوهريُّ : لا أعلَّكَ اللهُ ، أي : لا أصابَكَ بعِلَّةٍ . وقالَ صاحبُ المحكمِ : واستعملَ أبو إسحاقَ لفظةَ المَعْلولِ في المُتَقارِبِ من (( العَروضِ )) . ثم قال : والمتكلِّمونَ يستعمِلونَ لفظةَ المعلولِ في مثلِ هذا كثيراً . قال : وبالجملةِ فَلَسْتُ منه على ثِقَةٍ ولا ثَلَجٍ ؛ لأنَّ المعروفَ إنّما هو أعلَّهُ اللهُ ، فهو مُعَلٌّ . اللهمَّ إلاَّ أنْ يكونَ على ما ذهبَ إليه سيبويهِ ، من قولِهم : مَجْنُونٌ ، ومَسلولٌ من أنّهما جاءا على جَنَنْتُه وسَللْتُه ؛ وإنْ لم يُستَعملا في الكلام استُغنيَ عنهما بـ : أفعلْتُ ، قالوا : وإذا قالوا : جُنَّ وَسُلَّ . فإنّما يقولونَ جُعِلَ فيه الجُنونُ والسِّلُّ . كما قالوا : حُرِقَ وفُسِلَ . انتهى .
وأمّا عَلَّلَهُ ، فإنّما يستعملُها أهلُ اللغةِ بمعنى : ألهاهُ بالشيءِ وشغلَهُ به . من تعليلِ الصبيِّ بالطعامِ .
والعلّةُ عبارةٌ عن أسبابٍ خفيةٍ غامضةٍ ، طرأتْ على الحديثِ ، فأثّرتْ فيه ، أي : قدحتْ في صحتِهِ . وحذفتْ همزةُ طرأت في النَّظْمِ تخفيفاً ، وأنشدَ الأخفشُ :
إذَا قَلَّ مَاْلُ المَرْءِ قَلَّ صَدِيْقُهُ
واوْمَتْ إليهِ بِالعُيُوْبِ الأصَاْبعُ
حكاهُ صاحبُ المحكمِ في مادةِ : روى ، مثالاً لحرف الروي .
وتدركُ العلةُ بتفردِ الراوي ، وبمخالفةِ غيرِهِ له ، مع قرائنَ تنضمُّ إلى ذلك يهتدي الجهبذُ ، أي : الناقدُ بذلك إلى اطلاعِهِ على إرسالِ في الموصول ، أو وقفٍ في المرفوعِ ، أو دخولِ حديثٍ في حديثٍ ، أو وهمِ واهمٍ بغيرِ ذلكَ ، بحيثُ غلبَ على ظنِّهِ ذلك ، فأمضاهُ، وحكمَ بهِ ، أو تردَّدَ في ذلك فوقف وأحْجَمَ عن الحكمِ بصحةِ الحديثِ. وإنْ لم يغلبْ على ظنهِ صحةُ التعليلِ بذلك مع كونِ الحديثِ المعلِّ ظاهرهُ السلامةُ من العلّةِ .
وإنْ ، في قولي : ( إنْ سلما )، مصدريةٌ . قالَ الخطيبُ : السبيلُ إلى معرفةِ علةِ الحديثِ أنْ تجمعَ بين طرقِهِ ، وتنظرَ في اختلافِ رواتِهِ ، وتعتبرَ بمكانهِم من الحفظِ ، ومنـزلتِهِم في الإتقانِ والضبطِ . وقالَ ابنُ المدينيِّ : (( البابُ إذا لم تجمعْ طرقُه ، لم يتبين خطؤهُ )) .
ومثالُ العلّةِ في الحديثِ ، حديثٌ رواهُ الترمذيُّ وحسَّنَهُ ، أو صحَّحَهُ وابنُ حبّانَ ، والحاكمُ وصحَّحهُ من روايةِ ابن جُرَيجٍ ، عن موسى بن عُقبةَ ، عن سُهَيل بنِ أبي صالحٍ ، عن أبيهِ ، عن أبي هريرةَ مرفوعاً : (( مَنْ جَلَسَ في مجلسٍ فَكثُرَ فيه لَغَطُهُ ، … الحديثَ )) . قال الحاكمُ في " علوم الحديث " : هذا حديثٌ مَنْ تأمَّلَهُ لم يشكَّ أنّه مِنْ شرطِ الصحيحِ ، وله علّةٌ فاحشةٌ . ثم روى أنَّ مسلماً جاء إلى البخاريِّ فسألهُ عن علتهِ ، فقال محمدُ بنُ إسماعيلَ : هذا حديثٌ مليحٌ ، ولا أعلمُ في الدنيا في هذا البابِ غيرَ هذا الحديثِ الواحدِ ، إلا أنَّهُ معلولٌ . حدّثنا به موسى بنُ إسماعيلَ ، قال : حدّثنا وُهَيبُ ، قال : حدّثنا سُهيلٌ ، عن عَوْنِ بنِ عبدِ اللهِ ، قولُه . قالَ البخاريُّ : هذا أولى فإنّهُ لا يُذكَرُ لموسى بنِ عُقبةَ سماعٌ من سهيلٍ . هكذا أعلَّ الحاكمُ في علومِهِ هذا الحديثَ بهذه الحكايةِ . وغالبُ ظنِّي أنَّ هذهِ الحكايةَ ليست بصحيحةٍ ، وأنا أتهمُ بها أحمدَ بنَ حمـدونَ القَصَّارَ راويَهـا عن مسـلمٍ .
وقـدْ بينتُ ذلكَ في النكتِ التي على كتابِ ابنِ الصلاحِ .
199.
وَهْيَ تَجِيءُ غَالِباً في السَّنَدِ
تَقْدَحُ في المتْنِ بِقَطْعِ مُسْنَدِ
200.
أوْ وَقْفِ مَرْفُوْعٍ وَقَدْ لاَ يَقْدَحُ
(كَالبَيِّعَانِ بالخِيَار) صَرَّحُوا
201.
بِوَهْمِ (يَعْلَى بْنِ عُبَيدٍ) : أبْدَلا
(عَمْراً) بـ (عَبْدِ اللهِ) حِيْنَ نَقَلا
202.
وَعِلَّةِ المتْنِ كَنَفْي البَسْمَلَهْ
إذْ ظَنَّ رَاوٍ نَفْيَها فَنَقَلَهْ
203.
وَصَحَّ أنَّ أَنَساً يَقُوْلُ : (لا
أحْفَظُ شَيْئاً فِيهِ) حِيْنَ سُئِلاَ
العلّةُ تكونُ في الإسـنادِ – وهو الأغلبُ الأكثرُ – وتكونُ في المتنِ .
ثُمَّ العلةُ في الإسنادِ قدْ تقدحُ في صحةِ المتنِ أيضاً ، وقد لا تقدحُ. فأما علّةُ الإسنادِ التي تقدحُ في صحةِ المتنِ ، فكالتعليلِ بالإرسالِ ، والوقفِ . وأما علّةُ الإسنادِ التي لا تقدحُ في صحةِ المتنِ ، فكحديثٍ رواه يَعْلَى بنُ عُبيدِ الطَّنَافسيُّ أحدُ رجالِ الصحيحِ ، عن سفيانَ الثَّوريِّ ، عن عَمْرِو بنِ دينارٍ ، عن ابنِ عمرَ ، عن النبيِّ ، قالَ : (( البَيِّعَان بالخِيَارِ )) ، الحديثَ . فوَهِمَ يَعْلَى بنُ عُبيدٍ على سفيانَ في قولِهِ : عمرِو بنِ دينارٍ . وإنّما المعروفُ من حديثِ سفيانَ ، عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ ، عن ابنِ عُمَرَ . هكذا رواهُ الأئمّةُ من أصحابِ سفيانَ أبو نُعيمٍ الفَضْلُ بن دُكَين ، وعُبيدُ الله بنُ موسى العَبْسيُّ ، ومحمّدُ بنُ يوسفَ الفِرْيابيُّ ، ومَخْلَدُ بنُ يزيدَ ، وغيرُهم . وهكذا رواهُ عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ شعبةُ ، وسفيانُ بنُ عُيينةَ ويزيدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الهادِ، ومالكُ بنُ أنسٍ من روايةِ ابنِ وَهْبٍ عنه . والحديثُ مشهورٌ لمالكٍ ، وغيرِهِ ، عن نافعٍ ، عن ابنِ عمرَ . وأما روايةُ عمرِو بنِ دينارٍ له فوهمٌ من يَعْلَى بنِ عُبيدٍ ، وقال عثمانُ بنُ سعيدٍ ، عن يحيى بنِ معينٍ : يعلى بنُ عُبيدٍ ضعيفٌ في الثوريِّ ، ثقةٌ في غيرِهِ .
وقولي : ( أبدلَ عمراً بعبدِ اللهِ ) أي : تركَ عبدَ الله بنَ دينارٍ ، وأتى بعمرِو بنِ دينارٍ ، لأنَّ الباءَ تدخلُ على المتروكِ .
وأمّا علّةُ المتنِ ، فمثالُهُ ما تفرّدَ به مسلمٌ في صحيحهِ من روايةِ الوليدِ بنِ مسلمٍ، حدّثنا الأوزاعيُّ، عن قتادةَ، أنّه كتبَ إليه يخبرُهُ عن أنسِ بنِ مالكٍ أنّهُ حَدَّثَهُ قال: صليتُ خلفَ النبيِّ ، وأبي بكرٍ ، وعمرَ ، وعثمانَ ؛ فكانوا يستفتحونَ بـ : الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين ، لا يذكرون بسم اللهِ الرحمنِ الرحيمِ ، في أولِ قراءةٍ ، ولا في آخرِها .
ثم رواهُ من رواية الوليدِ ، عن الأوزاعيِّ : أخبرني إسحاقُ بنُ عبدِ اللهِ ابنِ أبي طلحةَ أنهُ سمعَ أنسَ بنَ مالكٍ يذكرُ ذلك . وروى مالكٌ في " الموطّأ " عن حُميدٍ ، عن أنسٍ ، قال : صليتُ وراءَ أبي بكرٍ ، وعمرَ ، وعثمانَ ، فكلُّهُم كانَ لا يقرأُ بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ . وزادَ فيه الوليدُ بنُ مسلمٍ ، عن مالكٍ به: صليتُ خلفَ رسولِ اللهِ ، قال ابنُ عبد البرِّ : (( وهو عندهُم خطأٌ )) . وحديثُ أنسٍ قد أعلَّهُ الشافعيُّ ، فيما ذكرَهُ البيهقيُّ في " المعرفةِ " عنه أنّه قال في " سُننِ حَرْمَلةَ " جواباً لسؤالٍ أوردَهُ: فإنْ قالَ قائلٌ قد روى مالكٌ ، فذكرَهُ. قال الشافعيُّ: قيل له خالَفَهُ سفيانُ بنُ عيينةَ والفَزَارِيُّ ، والثَقفيُّ ، وعددٌ لقيتُهم سبعةٌ أو ثمانيةٌ، مُؤتَفِقين مخالفينَ له. قال : والعددُ الكثيرُ أولى بالحفظِ من واحدٍ . ثم رجّحَ روايتَهُم بما رواه عن سفيانَ ، عن أيوبَ ، عن قتادةَ ، عن أنسٍ ، قال : كان النبيُّ ، وأبو بكرٍ ، وعمرَ يفتتحون القراءةَ بـ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ . قال الشافعيُّ : يعني يبدؤون بقراءةِ أمِّ القرآنِ ، قبلَ ما يُقرأُ بعدَها . ولا يعني أنَّهم يتركونَ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ . وحكى الترمذيُّ عن الشافعيِّ في معنى الحديثِ مثلَ هذا .قالَ الدارقطنيُّ : (( هذا هو المحفوظُ عن قتادةَ وغيرِهِ ، عن أنسٍ )) . قالَ البيهقيُّ : وكذلك رواهُ أكثرُ أصحابِ قَتادةَ ، عن قتادةَ قال : وهكذا رواهُ إسحاقُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ أبي طلحةَ ، وثابتٌ البُنانيُّ عن أنسٍ. انتهى. وممَّنْ رواه عن قتادةَ هكذا أيوبُ السَّخْتِيانيُّ ، وشُعبةُ ، وهِشامٌ الدَّسْتَوائيُّ ، وشَيْبانُ بنُ عبدِ الرحمنِ ، وسعيدُ بنُ أبي عَرُوبةَ ، وأبو عوانة وغيرهم . قالَ ابنُ عبدِ البَّرِ : (( فهؤلاءِ حُفّاظُ أصحاب قتادةَ ليسَ في روايتهم لهذا الحديثِ ما يوجبُ سقوطَ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ من أولِ فاتحةِ الكتابِ . انتهى )) . وهذا هو اللفظُ المتفقُ عليه في الصحيحينِ وهو روايةُ الأكثرينَ . وما أوَّلهُ عليه الشافعيُّ مصرّحٌ به في روايةِ الدارقطنيِّ فكانوا يستفتحون بأمِّ القرآنِ فيما يجهرُ به . قال الدارقطنيُّ : هذا صحيحٌ . وأيضاً فلو قالَ قائلٌ إنَّ روايةَ حميدٍ منقطعةٌ بينه وبين أنسٍ ؛ لم يكن بعيداً . فقد رواها ابنُ عديٍّ عن حميدٍ ، عن قتادةَ ، عن أنسٍ قال ابنُ عبدِ البَرِّ: ويقولون: إنَّ أكثرَ روايةِ حميدٍ ، عن أنسٍ ، إنّما سمعَها من قتادةَ ، وثابتٍ عن أنسٍ . وقال ابنُ عبدِ البرِّ في " الاستذكارِ " : اختُلِفَ عليهم في لفظِهِ اختلافاً كثيراً مضطرباً متدافعاً . منهم مَنْ يقولُ فيه : صليتُ خلفَ رسولِ اللهِ وأبي بكرٍ وعمرَ ، ومنهم مَنْ يذكرُ عثمانَ ، ومنهم مَنْ لا يذكرُ : فكانوا لا يقرؤونَ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ . ومنهم مَنْ قال : فكانوا لا يجهرونَ بـ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ . وقال كثيرٌ منهم : فكانوا يفتتحونَ القراءةَ بـ : الحمدُ لله رَبِّ العالمينَ . وقال بعضُهم : فكانوا يجهرونَ بـ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ . وقال بعضُهم : كانوا يقرؤون : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ . قال : وهذا اضطرابٌ لا تقومُ معَهُ حجةٌ لأحدٍ من الفقهاءِ الذين يقرؤون بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ ، والذين لا يقرؤونها .
وقولي : ( إذ ظنَّ راوٍ نفيها ، فنقله ) أي : إذ ظنَّ بعضُ الرواةِ فَهْماً منه أنَّ معنى قولِ أنسٍ : يستفتحون بـ : الحمدُ للهِ ، أنَّهم لا يُبَسْمِلونَ ، فرواهُ على فَهْمِهِ بالمعنى ، وهو مخطئٌ في فَهْمِهِ . وممَّا يدلُّ على أنَّ أنساً لم يُرِدْ بذلك نفيَ البسملةِ ، ما صحَّ عنه مِنْ روايةِ أبي مسلمةَ سعيدِ بنِ يَزِيْدَ ، قال : سألتُ أنسَ بنَ مالكٍ أكانَ رسولُ اللهِ يستفتح بـ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمين أو بـ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم ؟ فقالَ : إنّك لتسألني عن شيءٍ ما أحفظُهُ ، وما سألني عنه أحدٌ قبلَكَ . رواه أحمدُ في مسندِهِ ، وابنُ خزيمة في " صحيحهِ " ، والدارقطنيُّ وقال : هذا إسنادٌ صحيحٌ . قال البيهقيُّ في " المعرفة " : في هذا دلالةٌ على أنَّ مقصودَ أنسٍ ما ذكرَهُ الشافعيُّ . وقد اعترضَ ابنُ عبد البرِّ على هذا الحديثِ بأنْ قال : (( مَنْ حفظَهُ عنه حجّةٌ على مَنْ سألَهُ في حالِ نسيانِهِ )) . وأجابَ أبو شَامةَ بأنّهما مسألتانِ . فسؤالُ أبي مسلمة عن البسملةِ وتركِها ، وسؤالُ قتادةَ عن الاستفتاح بأيِّ سورةٍ . وفي صحيحِ مسلم : أنَّ قتادةَ قال : نحنُ سألناهُ عنه ، فاتضح أنَّ سؤالَ قتادةَ كان غيرَ سؤالِ أبي مسلمة . وأما قولُ ابنِ الجوزيِّ في " التحقيق " : (( حديثُ أبي مسلمة ليسَ في الصحاحِ ، فلا يُعارِضُ ما في الصحاح . وإنَّ الأئمةَ اتفقوا على صحةِ حديثِ أنسٍ )) ففيه نظرٌ . فهذا الشافعيُّ ، والدارقطنيُّ ، والبيهقيُّ لا يقولون بصحةِ حديث أنسٍ الذي فيه نفيُ البسملة . فلا يصحُّ نقلُ اتفاقِ الأئمةِ عليه ، ولا يُردُّ حديثُ أبي مسلمةِ ، بكونهِ ليس في الصحاحِ . فقد صحّحهُ ابنُ خزيمةَ والدارقطنيُّ . وأيضاً فقد وصفَ أنسٌ قراءةَ النبيِّ بـ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ . فروى البخاريُّ في صحيحِهِ من روايةِ قتادةَ، قال: سُئلَ أنسُ بنُ مالكٍ، كيف كانت قراءةُ رسولِ اللهِ ؟ قال: كانت مدّاً. ثمَّ قرأَ: بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ ، يمدُّ بسمِ اللهِ . ويمدُّ الرحمنَ ، ويمدُّ الرحيمَ . قال الدارقطنيُّ : هذا حديثٌ صحيحٌ . وكلُّهم ثقاتٌ . وقال الحازميُّ : هذا حديثٌ صحيحٌ لا يُعرفُ له علّةٌ . وفيه دلالةٌ على الجهرِ مطلقاً ، وإنْ لم يُقَيَّدْ بحالةِ الصلاةِ . فيتناولُ الصلاةَ وغيرَ الصلاةِ . قال أبو شامةَ : وتقريرُ هذا أنْ يُقالَ : لو كانتْ قراءةُ رسولِ اللهِ في أمرِ الجهرِ والإسرارِ تختلفُ في الصلاةِ وخارجِ الصلاةِ ، لقال أنس لمَنْ سألَهُ عن أيِّ قراءتَيْهِ تسألُ ؟ عن التي في الصلاةِ أم عن التي خارجَ الصلاةِ ؟ فلما أجابَ مطلقاً عُلم أنَّ الحالَ لم يختلفْ في ذلكَ . وحيثُ أجابَ بالبسملةِ دونَ غيرِها من آياتِ القرآنِ ، دلَّ على أنَّ النبيَّ كان يجهرُ بالبسملةِ في قراءتهِ . ولولا ذلك لكان أنسٌ أجابَ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، أو غيرها من الآياتِ . قال : وهذا واضحٌ . قال : ولنا أنْ نقولَ : الظاهرُ أنَّ السؤالَ لم يكن إلاّ عن قراءتِهِ في الصلاةِ ، فإنَّ الراوي قتادةُ ، وهو راوي حديثِ أنسٍ ذاك . وقال فيه : نحنُ سألناهُ عنه . انتهى . فهذا ترجيحٌ لقراءةِ البسملةِ . وقد قالَ الحازميُّ : إنّهُ لا يُعرَفُ له علّةٌ . ولم يختلفْ على قتادةَ فيهِ . وأما حديثُ أنسٍ ذاكَ ، فلهُ علّلٌ اختُلفَ على قتادةَ فيه . وأعلَّهُ الشافعيُّ بخطأِ الراوي في فَهْمِهِ ، وأعلَّهُ ابنُ عبدِ البرِّ بالاضطرابِ . ومِنْ عِلَلِهِ أنهُ ليسَ متّصلاً بالسماعِ ، فإنَّ قتادةَ كتبَ إلى الأوزاعيِّ به . والخلافُ في الكتابةِ معروفٌ ، كما سيأتي .
وأما روايةُ مسلمٍ الثانيةُ فإنَّ مسلماً لم يسقْ لفظَها ، وقد ساقَهُ ابنُ عبدِ البرِّ ، كروايةِ الأكثرينَ ، كانوا يفتتحونَ القراءةَ بـ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ ، وليس فيها نفيُ البسملةِ . رواها من روايةِ محمدِ بنِ كثيرٍ قال : حدّثنا الأوزاعيُّ وهذهِ أولى من روايةِ مسلمٍ ؛ لأنَّ تلك من روايةِ الوليدِ بنِ مسلمٍ عن الأوزاعيِّ بالعنعنةِ ، والوليدُ مدلّسٌ ، كما تقدّم . وأيضاً فقد تقدمَ قولُ البيهقيِّ أنَّ روايةَ إسحاقَ ، وثابتٍ هكذا ، وهو خلافُ ما يوهمُهُ عملُ مسلمٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى .
204.
وَكَثُرَ التَّعْلِيْلُ بِالإرْسَالِ
لِلوَصْلِ إنْ يَقْوَ عَلَى اتِّصَالِ
205.
وَقَدْ يُعِلُّوْنَ بِكُلِّ قَدْحِ
فِسْقٍ ، وَغَفْلَةٍ ، وَنَوْعِ جَرْحِ
206.
وَمِنْهُمُ مَنْ يُطْلِقُ اسْمَ العِلَّةِ
لِغَيْرِ قادحٍ كَوَصْلِ ثِقَةِ
207.
يَقُوْلُ : مَعْلُوْلٌ صَحِيْحٌ كَالذّيْ
يَقُوْلُ : صَحَّ مَعْ شُذُوْذٍ احْتُذِيْ
لمَّا تقدّمَ أنَّ العلّةَ تكونُ غامضةً خفيةً في الحديثِ ، ذكر أنّهم يُعِلُّونَ أيضاً بأمورٍ ليست خفيةً . كالإرسالِ ، وفِسْقِ الراوي ، وضَعْفِهِ ، وبما لا يقدحُ أيضاً . قالَ ابنُ الصَّلاح: وكثيراً ما يُعللون الموصولَ بالمُرسلِ، مثلُ أنْ يجيءَ الحديثُ بإسنادٍ موصولٍ ، ويجيءَ أيضاً بإسنادٍ منقطع أقوى من إسناد الموصولِ . قالَ : ولهذا اشتملتْ كتبُ عللِ الحديثِ على جمع طرقِهِ .
وقولي : ( إنْ يَقْوَ ) أي : إنْ يَقْوَ الإرسالُ على الاتّصالِ . وقد يُعِلُّوَنَ الحديثَ بأنواعِ الجرحِ ، من الكذبِ ، والغَفْلةِ ، وسوءِ الحفظِ ، وفسقِ الراوي وذلك موجودٌ في كتبِ عِلَلِ الحديثِ .
وبعضُهم يطلقُ اسمَ العلةِ على ما ليس بقادحٍ من وجوهِ الخلاف ، كالحديثِ الذي وَصَلَهُ الثقةُ الضابطُ ، وأرسلَهُ غيرُه، حتى قالَ: مِنْ أقسامِ الصحيحِ ما هو صحيحٌ معلولٌ . هكذا نقلَهُ ابنُ الصلاحِ عن بعضِهِم ، ولم يسمِّه. وقائلُ ذلك هو أبو يعلى الخليليُّ . قاله في كتابهِ " الإرشادِ " أنَّ الأحاديثَ على أقسامٍ كثيرةٍ . صحيحٍ متفقٍ عليه ، وصحيحٍ معلولٍ ، وصحيحٍ مختلفٍ فيه . ثم مَثَّلَ الصحيحَ المُعَلَّ بحديثٍ رواه إبراهيمُ بنُ طَهْمانَ ، والنُّعمانُ بنُ عبدِ السلامِ ، عن مالكٍ ، عن محمّدِ بنِ عَجْلانَ ، عن أبيهِ ، عن أبي هريرةَ ، عن النبيِّ ، قال : (( للمملوكِ طعامُهُ وشرابُهُ )) . وقد رواه أصحابُ مالكٍ كلُّهم في " الموطّأ " عن مالكٍ ، قال : بلغنا عن أبي هريرةَ . قال الخليليُّ : فقد صارَ الحديثُ بتبيُّنِ الإسنادِ صحيحاً يُعتَمَدُ عليه . قال : وهذا مِنَ الصحيحِ المبيَّن بحجّةٍ ظهَرتْ . قال : وكانَ مالكٌ يرسِلُ أحاديثَ لا يُبيِّنُ إسنادَها . وإذا استقصى عليه مَنْ يتجاسَرُ أنْ يسألَهُ ربّما أجابه إلى الإسنادِ ، وأتيتُ بلفظٍ معلولٍ . وكذلك ابنُ الصلاحِ تَبَعاً لمَنْ حكى كلامَهُ في ذلك ، وهو الخليليُّ .
وقولي : ( كالذي يقولُ …) إلى آخره ، أي : كما قالَ بعضُهم من الصحيحِ ما هو صحيحٌ شاذٌّ .
208.
وَالنَّسْخَ سَمَّى (التِّرْمِذِيُّ) عِلَّهْ
فَإنْ يُرِدْ في عَمَلٍ فَاجْنَحْ لَهْ
أي : وسمَّى الترمذيُّ النسخَ علةً من عللِ الحديثِ .
وقولي : ( فإنْ يرد ) ، هوَ مِنَ الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ ، أي : فإنْ أرادَ الترمذيُّ أنّهُ علّةٌ في العملِ بالحديثِ ، فهو كلامٌ صحيحٌ . فاجنح له ، أي : مِلْ إلى كلامِهِ . وإنْ يُرد أنّهُ علةٌ في صحةِ نقلِهِ ، فلا ؛ لأنَّ في الصحيحِ أحاديثَ كثيرةً منسوخةً ، وسيأتي الكلامُ على النسخِ في فصلِ الناسخِ والمنسوخِ .
المُضْطَـرِبُ
209.
مُضْطَرِبُ الحَدِيثِ : مَا قَدْ وَرَدَا
مُخْتَلِفاً مِنْ وَاحِدٍ فَأزْيَدَا
210.
في مَتْنٍ اوْ في سَنَدٍ إنِ اتَّضَحْ
فِيْهِ تَسَاوِي الخُلْفِ ، أَمَّا إِنْ رَجَحْ
211.
بَعْضُ الوُجُوْهِ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرِبَا
وَالحُكْمُ للرَّاجِحِ مِنْهَا وَجَبَا
212.
كَالخَطِّ للسُّتْرَةِ جَمُّ الخُلْفِ
والاضْطِرَابُ مُوْجِبٌ للضَّعْفِ
المُضْطَرِبُ مِنَ الحديثِ ، هو ما اختَلَفَ راويه فيهِ . فرواهُ مرّةً على وجهٍ ، ومرةً على وجهٍ آخَر مخالفٍ له . وهكذا إنِ اضطربَ فيهِ راويانِ فأكثر ، فرواهُ كلُّ واحدٍ على وجهٍ مخالفٍ للآخرِ .
فقولي : ( من واحدٍ ) أي : من راوٍ واحدٍ ، ثم الاضطرابُ قد يكونُ في المتنِ ، وقد يكونُ في السندِ . وإنّما يُسَمَّى مضطرباً إذا تساوتِ الروايتان المختلفتانِ في الصحةِ بحيثُ لم تترجَّحْ إحداهُما على الأخرى . أمَّا إذا ترجَّحَتْ إحداهما بكونِ راويها أحفظَ ، أو أكثرَ صحبةً للمرويِّ عنهُ ، أو غيرَ ذلك من وجوهِ الترجيحِ ، فإنهُ لا يُطلقُ على الوجهِ الراجحِ وصفُ الاضطرابِ، ولا لَهُ حكمُهُ، والحكمُ حينئذٍ للوجهِ الراجحِ.
مثالُ الاضطرابِ في السندِ : ما رواهُ أبو داودَ ، وابنُ ماجه ، من روايةِ إسماعيلَ بنِ أُميَّةَ ، عن أبي عمرِو بنِ محمدِ بنِ حُرَيثٍ ، عن جَدِّهِ حريثٍ ، عن أبي هريرةَ ، عن رسولِ اللهِ ، قال: (( إذا صلَّى أحدُكُم فليجعَلْ شيئاً تِلْقاءَ وَجْهِهِ … الحديثَ )) . وفيه : (( فإذا لم يجدْ عَصاً ينصبُها بين يديه فَليَخُطَّ خطاً )) . وقدِ اختُلِفَ فيه على إسماعيلَ اختلافاً كثيراً :
فرواهُ بِشْرُ بنُ المُفضَّلِ ، ورَوْحُ بنُ القاسمِ عنه ، هكذا . ورواهُ سفيانُ الثوريُّ عنه ، عن أبي عمرِو بنِ حُريثٍ ، عن أبيهِ ، عن أبي هريرةَ . ورواهُ حُميدُ بنُ الأسودِ عنه، عن أبي عمرِو بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حريثٍ، عن جدِّهِ حريثِ بنِ سُليمٍ عن أبي هريرةَ . ورواهُ وُهَيبُ بنُ خالدٍ ، وعبدُ الوارثِ عنه ، عن أبي عمرِو بنِ حريثٍ ، عن جدِّهِ حريثٍ . ورواهُ ابنُ جُريجٍ عنه ، عن حريثِ بنِ عمّارٍ ، عن أبي هريرةَ . ورواه ذَوَّادُ بن عُلْبَةَ الحارثيُّ عنه، عن أبي عمرِو بنِ محمدٍ، عن جدِّهِ حريثِ بنِ سليمانَ . قالَ أبو زُرعةَ الدمشقيُّ : لا نعلمُ أحداً بيَّنَهُ ونسبَهُ غيرُ ذَوَّادٍ . ورواه سفيانُ بنُ عُيينةَ عنهُ . فاختُلِفَ فيه على ابنِ عيينة . فقال ابنُ المدينيِّ : عن ابنِ عيينةَ ، عن إسماعيلَ ، عن أبي محمدِ بنِ عمرِو بنِ حريثٍ ، عن جدِّهِ حريثٍ رجلٍ من بني عُذْرةَ . قال سفيانُ : لم نجدْ شيئاً نشدُّ به هذا الحديثَ ، ولم يجئ إلاَّ مِنْ هذا الوجهِ . قال ابنُ المدينيِّ : قلتُ له : إنّهم يختلفونَ فيه فتفكَّرَ ساعةً . ثم قال ما أحفظُهُ إلاّ أبا محمدِ بنَ عمرٍو .
ورواه محمّدُ بنُ سلامٍ البِيكَنْديُّ ، عن ابنِ عيينَة ، مثلَ روايةِ بشرِ بنِ المفضّلِ ، ورَوْحٍ . ورواهُ مُسَدَّدٌ ، عن ابنِ عيينةَ ، عن إسماعيلَ ، عن أبي عمرِو بنِ حريثٍ ، عن أبيهِ ، عن أبي هريرةَ . ورواهُ عمّارُ بنُ خالدٍ الواسطيُّ ، عن ابنِ عيينة ، عن إسماعيلَ ، عن أبي عمرِو بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حريثٍ ، عن جَدِّهِ حريثِ بنِ سُليمٍ ، وفيه من الاضطرابِ غيرُ ما ذكرتُ . وهو المرادُ بقولي : ( كالخطِّ ) أي : كحديثِ الخَطِّ للسُّتْرةِ جَمُّ الخُلْفِ ، أي : هو كثيرُ الاختلافِ .
ومثالُ الاضطرابِ في المتنِ ، حديثُ فاطمةَ بنتِ قَيْسٍ ، قالت : سألتُ ، أو سُئِلَ النبيُّ عن الزَّكاةِ ، فقال : (( إنَّ في المالِ لَحَقّاً سِوَى الزَّكَاةِ )) . فهذا حديثٌ قدِ اضطربَ لفظُهُ ومعناهُ . فرواهُ الترمذيُّ هكذا من روايةِ شَرِيكٍ ، عن أبي حمزةَ ، عن الشِّعبيِّ ، عن فاطمةَ . ورواهُ ابنُ ماجه من هذا الوجهِ بلفظِ : (( ليسَ في المالِ حقٌّ سِوَى الزكاةِ )) . فهذا اضطرابٌ لا يحتملُ التأويلَ . وقولُ البيهقيِّ : أنّهُ لا يحفظُ لهذا اللفظِ الثاني إسناداً ، معارَضٌ بما رواهُ ابنُ ماجه هكذا ، واللهُ أعلمُ .
والاضطرابُ موجبٌ لضعفِ الحديثِ المضطربِ لإشعارِهِ بعدمِ ضبطِ راويهِ ، أو رواتِهِ ، واللهُ أعلمُ .
المُـدْرَجُ
213.
المُـدْرَجُ : المُلْحَقُ آخِرَ الخَبَـرْ
مِنْ قَوْلِ راوٍ مَا ، بلا فَصْلٍ ظَهَرْ
214.
نَحْوُ (إذَا قُلْتَ : التَّشَهُّدَ) صَلْ
ذَاكَ (زُهَيْرٌ) وَ (ابنُ ثَوْبَانَ) فَصَلْ
215.
قُلْتُ : وَمِنْهُ مُدْرَجٌ قَبْلُ قُلِبْ
(كَأسْبِغُوا الوُضُوْءَ وَيْلٌ لِلعَقِبْ)
المدرجُ في الحديثِ أقسامٌ :
القسمُ الأولُ منه : ما أُدرجَ في آخرِ الحديثِ من قولِ بعضِ رواتِهِ . أمَّا الصحابيُّ ، أو مَنْ بعدَهُ موصولاً بالحديثِ من غيرِ فَصْلٍ بين الحديثِ وبين ذلك الكلامِ ، بذكرِ قائِلِه ، فيلتبسُ على مَنْ لا يعلم حقيقةَ الحالِ ، ويتوهمُ أنَّ الجميعَ مرفوعٌ . مثالُهُ : ما رواهُ أبو داودَ ، قالَ : حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ النُّفَيْلِيُّ ، قالَ : حدَّثَنا زُهَيرٌ ، قالَ : حدَّثَنا الحسنُ بنُ الحُرِّ ، عن القاسمِ بنِ مُخَيْمِرةَ ، قال : أخذَ عَلْقَمةُ بيدي ، فحدّثني أنَّ عبدَ اللهِ بْنَ مسعودٍ أخذَ بيدِهِ ، وأنَّ رسولَ اللهِ أخذَ بيدِ عبدِ اللهِ ، فعلَّمَنَا التشهدَ في الصلاةِ . قال : فذكرَ مثلَ حديثِ الأعمشِ : إذا قُلتَ هذا ، أو قَضَيْتَ هذا فقد قَضَيْتَ صَلاتَكَ ، إنْ شِئْتَ أنْ تقومَ فَقُمْ . وإنْ شئتَ أنْ تقعُدَ فاقْعُدْ . فقولُهُ : إذا قلتَ إلى آخره ، وصلَهُ زُهيرُ بنُ معاويةَ أبو خَيثمةَ بالحديثِ المرفوعِ في روايةِ أبي داودَ هذهِ . قالَ الحاكمُ : قولُهُ إذا قلتَ ، هذا مدرجٌ في الحديثِ من كلامِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ . وكذا قالَ البيهقيُّ في " المعرفةِ " : قد ذهبَ الحُفَّاظُ إلى أنَّ هذا وهمٌ وأنَّ قولَهُ : (( إذا فعلتَ هذا ، أو قضيتَ هذا ، فقد قَضَيْتَ صَلاتَكَ )) من قولِ ابنِ مسعودٍ ، فأدرجَ في الحديثِ . وكذا قال الخطيبُ في كتابهِ الذي جمَعهُ في الْمُدرجِ: إنّها مُدْرَجَةٌ . وقالَ النَّوويُّ في " الخُلاصة " : اتّفقَ الحفَّاظُ على أنّها مُدرجةٌ . انتهى . وقولُ الخطّابيِّ في " المعالم " : اختلفوا فيهِ ، هلْ هوَ مِنْ قَوْلِ النبيِّ ، أو من قولِ ابنِ مسعودٍ ؟ فأرادَ اختلافَ الرواةِ في وصلِهِ ، وفصلِهِ ، لا اختلافَ الحفَّاظِ ؛ فإنَّهُمْ متَّفِقُونَ على أنَّهَا مُدْرَجَةٌ.على أنَّهُ قدِ اختُلِفَ على زُهيرٍ فيهِ،فرواهُ النُّفَيليُّوأبو النَّضْرِ هاشمُ بنُ القاسمِ، وموسى بنُ داودَ الضَّبِّيُّ ، وأحمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ يونسَ اليَرْبوعيُّ ، وعليُّ بنُ الجَعْدِ ، ويحيى بنُ يحيى النَّيسابوريُّ ، وعاصمُ بنُ عليٍّ ، وأبو داودَ الطيالسيُّ، ويحيى بنُ أبي بُكَيرٍ الكِرْمانيُّ ، ومالكُ بنُ إسماعيلَ النَّهْديُّ عنهُ،هكذا مُدْرَجَاً.
ورواهُ شَبَابةُ بنُ سَوَّارٍ عنهُ ، فَفَصَلَهُ وبيَّنَ أنَّهُ مِنْ قولِ عبدِ اللهِ ، فقالَ : قالَ عبدُ اللهِ : (( فإذا قلتَ ذلكَ فقد قَضَيْتَ ما عليكَ من الصلاةِ ، فإنْ شئتَ أنْ تقومَ فقُمْ ، وإنْ شئتَ أنْ تَقْعُدَ فاقعُدْ )) . رواهُ الدارقطنيُّ ، وقالَ : شَبَابةُ ثقةٌ . وقد فَصَلَ آخِرَ الحديثِ وجعلَهُ من قولِ ابنِ مسعودٍ ، وهو أصحُّ من روايةِ مَنْ أدرجَ آخرَه . وقولُه أشبهُ بالصوابِ ؛ لأنَّ ابنَ ثوبانَ رواهُ عن الحسنِ بنِ الحرِّ كذلك ، وجعل آخرَه من قولِ ابنِ مسعودٍ ، ولم يرفعْهُ إلى النبيِّ . ثم رواهُ من روايةِ غسّانَ بنِ الربيعِ، عن عبدِ الرحمن ابنِ ثابتِ بنِ ثوبانَ ، عن الحسنِ بنِ الحرِّ ، بهِ . وفي آخرِهِ : ثم قال ابنُ مسعودٍ : إذا فرغتَ من هذا فقد فرغتَ من صلاتِكَ ، فإنْ شئتَ فاثبُتْ ، وإن شئتَ فانصرِفْ . ورواه الخطيبُ أيضاً من روايةِ بقيّةَ ، قال : حدّثنا ابنُ ثوبانَ فاستدلَّ الدارقطنيُّ على تصويبِ قولِ شَبَابةَ، بروايةِ ابنِ ثوبانَ هذهِ ، وباتفاقِ حسين الجُعْفِيِّ، وابنِ عَجْلانَ، ومحمدِ بنِ أبانَ في روايتِهِم عن الحسنِ بنِ الحرِّ ، على تَرْكِ ذكرِهِ في آخِرِ الحديثِ ، مع اتفاقِ كُلِّ مَنْ روى التشهدَ عن علقمةَ ، وعَنْ غيرِهِ ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ على ذلك .
واعلمْ أنَّ ابنَ الصلاحِ قَيَّدَ هذا القسمَ من المدرجِ بكونِهِ أُدرجَ عَقِبَ الحديثِ . وقد ذكرَ الخطيبُ في المدرجِ ما أُدخلَ في أوَّلِ الحديثِ ، أو في وَسَطِهِ . فأشرتُ إلى ذلكَ بقولي : ( قلتُ : ومنه مدرجٌ قَبْلُ قُلِبْ ) أي : أُتي بهِ قبلَ الحديثِ المرفوعِ ، أو قبلَ آخرهِ ، في وَسطِهِ مثلاً . وقولُهُ : ( قُلِبْ ) أي : جعلَ آخِرَهُ أوَّلَهُ ؛ لأنَّ الغالبَ في المدرجاتِ ذكرُها عَقِبَ الحديثِ .
ومثالُ ما وُصلَ بأوَّلِ الحديثِ ، وهو مدرجٌ : ما رواه الخطيبُ من روايةِ أبي قَطَن ، وشَبابَة فَرَّقَهُما عن شعبةَ ، عن محمدِ بنِ زيادٍ ، عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله :(( أسبغوا الوضوءَ ، ويلٌ للأعقابِ من النارِ )) .
فقولُهُ: أسبغوا الوضوءَ، من قولِ أبي هريرةَ ، وُصلَ بالحديثِ في أوَّلِهِ كذلك . رواه البخاريُّ في صحيحهِعن آدمَ بنِ أبي إياسٍ،عن شعبةَ،عن محمدِ بنِ زيادٍ ، عن أبي هريرةَ، قال: أسبغوا الوضوءَ، فإنَّ أبا القاسمِ قال: ((ويلٌ للأعقابِ من النارِ)). قال الخطيبُ: وَهِمَ أبو قَطَن عمرُو بنُ الهيثمِ ، وشَبَابةُ بنُ سَوَّارٍ في روايتهما هذا الحديث عن شعبةَ على ما سقناه. وذلك أنَّ قولَهُ : (( أسبغوا الوضوءَ )) كلامُ أبي هريرةَ . وقولُهُ : (( ويلٌ للأعقابِ مِنَ النارِ ))، كلامُ النبيِّ ، وقد رواهُ أبو داودَ الطيالسيُّ، ووَهْبُ بنُ جريرٍ،وآدمُ بنُ أبي إياسٍ ، وعاصمُ بنُ عليٍّ ، وعليُّ بنُ الجَعْدِ ، وغُنْدَرٌ ، وهُشيمٌ ، ويزيدُ بنُ زُرَيعٍ ، والنَّضْرُ بنُ شُميلٍ ، ووكيعٌ ، وعيسى بنُ يونسَ ، ومُعاذُ بنُ معاذٍ ؛ كلُّهُم عن شعبةَ. وجعلوا الكلامَ الأولَ من قولِ أبي هريرةَ، والكلامَ الثانيَ مرفوعاً .
وقولُهُ : ( ويلٌ للعَقِبِ ) ، أُفرِدَ لأجلِ الوزنِ ، وكذلك هو في روايةِ أبي داودَ الطيالسيِّ ، عن شعبةَ : (( ويلٌ للعَقِبِ من النارِ )) .
ومثالُ المدرجِ في وَسَطِ الحديثِ ، ما رواهُ الدارقطنيُّ في سننهِ من روايةِ عبدِ الحميدِ بنِ جعفرٍ ، عن هِشامِ بنِ عُروةَ ، عن أبيهِ ، عن بُسْرَةَ بنتِ صَفْوانَ قالتْ : سمعتُ رسولَ اللهِ يقولُ: (( مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ، أو أُنْثَيَيْهِ أو رُفْغَهُ ، فَلْيَتَوضَّأْ )). قال الدارقطنيُّ : كذا رواه عبدُ الحميدِ ، عن هشامٍ ، ووَهِمَ في ذكرِ الأُنثيين ، والرُّفْغِ ، وإدراجِهِ ذلك في حديثِ بُسْرَةَ . قالَ : والمحفوظُ أنَّ ذلك من قولِ عُروةَ غيرُ مرفوعٍ . وكذلك رواه الثقاتُ عن هشامٍ منهم : أيوبُ السِّخْتِيانيُّ ، وحمّادُ بنُ زيدٍ ، وغيرُهما . ثم رواهُ من طريق أيوبَ بلفظِ : (( مَنْ مَسَّ ذكرَهُ فليتوضَّأ )) ، قال : وكان عروةُ يقولُ : إذا مسَّ رُفْغَيهِ ، أو أُنثييهِ ، أو ذكرَهُ فليتوضَّأْ . وقالَ الخطيبُ : تفرّدَ عبدُ الحميدِ بذكرِ الأُنثيينِ ، والرُّفْغينِ . وليس من كلامِ رسولِ الله ، وإنَّما هو قولُ عروةَ بنِ الزبيرِ ، فأدرَجَهُ الراوي في متنِ الحديثِ . وقد بَيَّنَ ذلك حمّادٌ وأيوبُ .
قلتُ : لم ينفردْ به عبدُ الحميدِ . فقد رواه الطَّبرانيُّ في "المعجمِ الكبيرِ" من روايةِ أبي كاملٍ الجَحْدريِّ ، عن يزيدَ بنِ زُرَيعٍ ، عن أيوبَ ، عن هشامٍ عن أبيه ، عن بُسرة بلفظِ : (( إذا مسَّ أحدُكُم ذَكَرَهُ ، أو أُنْثييهِ ، أو رُفْغيْهِ ، فَلْيَتوضَّأ )) . وعلى هذا فقدِ اختُلِفَ فيه على يزيدَ بنِ زُريعٍ . ورواهُ الدارقطنيُّ أيضاً من روايةِ ابنِ جريجٍ ، عن هشامٍ ، عن أبيهِ ، عن مروانَ ، عن بُسرة ، بلفظ : (( إذا مسَّ أحدُكم ذكرَهُ أو أنْثَييهِ )) ، ولم يذكرِ : الرُّفْغَ ، وزادَ في السندِ مروانَ بنَ الحكمِ . وقد ضعّفَ ابنُ دقيقِ العيدِ الطريقَ إلى الحُكْمِ بالإدراجِ في نحو هذا . فقالَ في " الاقتراح " وممّا يَضعُفُ فيه أنْ يكونَ مُدرجاً في أثناءِ لفظِ الرسولِ ، لاسيما إنْ كان مُقدَّماً على اللفظِ المرويِّ ، أو معطوفاً عليه بواوِ العطفِ ، كما لو قال مَنْ مسَّ أنثييهِ أو ذَكَرَهُ فَلْيَتَوضَّأْ ، بتقديمِ لفظِ الأنثييْنِ على الذَّكَرِ فهاهنا يضعفُ الإدراجُ لما فيه من اتصالِ هذهِ اللفظةِ بالعاملِ الذي هو من لفظِ الرسولِ . قلتُ : ولا يعرفُ في طُرُقِ الحديثِ تقديمُ الأُنثيين على الذَّكَرِ ، وإنّما ذكرَهُ الشيخُ مثالاً ، فليُعلمْ ذلكَ .
216.
وَمِنْهُ جَمْعُ مَا أتَى كُـلُّ طَرَفْ
مِنْهُ بِإسْـنَادٍ بِـوَاحِدٍ سَـلَفْ
217.
كـ (وَائِلٍ) في صِفَةِ الصَّلاَةِ قَدْ
أُدْرِجَ (ثُمَّ جِئْتُهُمْ) وَمَـا اتَّحَدْ
أي : من أقسامِ المدرَجِ ، وَهُوَ القسمُ الثاني : أنْ يكونَ الحديثُ عِنْدَ راويهِ بإسنادٍ إلاّ طرفاً مِنْهُ ، فإنهُ عندَهُ بإسنادٍ آخرَ . فيجمعُ الرَّاوِي عَنْهُ طرفيِّ الحديثِ بإسنادِ الطرفِ الأولِ ، ولا يذكرُ اسنادَ طرفِهِ الثاني . مثالُهُ : حديثٌ رواهُ أبو داودَ من روايةِ زائدةَ ، وشَرِيكٍ ، فَرَّقَهُمَا ، والنسائيُّ من روايةِ سفيانَ بنِ عيينة كلُّهُم ، عن عاصمِ بنِ كُلَيْبٍ ، عن أبيهِ ، عن وائلِ بن حُجْرٍ في صِفَةِ صلاةِ رسولِ الله ، وَقَالَ فِيْهِ: ثُمَّ جِئْتُهُم بعدَ ذلكَ في زمانٍ فِيْهِ بردٌ شديدٌ ، فرأيتُ الناسَ عَلَيْهِمْ جُلَّ الثيابِ ، تَحَرَّكُ أيديِهم تحتَ الثِّيابِ . قَالَ موسى بنُ هارونَ الحمّالُ : ذَلِكَ عندنا وهمٌ . فقولُهُ : ( ثُمَّ جئت ) . ليس هو بهذا الإسنادِ ، وإنّما أُدرج عليه وهو من روايةِ عاصمٍ ، عن عبدِ الجبارِ بنِ وائلٍ عن بعضِ أهلِهِ ، عن وائلٍ . وهكذا رواه مُبَيَّناً زُهيرُ بنُ معاويةَ ، وأبو بَدْرٍ شُجاعُ بنُ الوليدِ ، فمَيَّزَا قصّةَ تحريكِ الأيدي من تحتِ الثيابِ ، وفَصَلاها مِنَ الحديثِ ، وذكر إسنادها ، كما ذكرناه . قال موسى بنُ هارونَ الحمّالُ : وهذه روايةٌ مضبوطةٌ، اتفق عليها زهيرٌ وشُجاعُ بنُ الوليدِ . فهما أثبَتُ له روايةً ممَّنْ رَوَى رفعَ الأيدي من تحتِ الثيابِ،عن عاصمِ بنِ كُليبٍ،عن أبيهِ،عن وائلٍ.وقال ابنُ الصلاح:إنهُ الصّوابُ.
وقولي : ( وما اتّحد ) أي : وما اتحدَ إسنادُ هذا الطرفِ الأخيرِ مع أوَّلِ الحديثِ ، بل إسنادُهما مختلفٌ .
218.
وَمِنْهُ أنْ يُدْرَجَ بَعْضُ مُسْنَدِ
في غَيْرِهِ مَعَ اخْتِلاَفِ السَّنَدِ
219.
نَحْوُ ( وَلاَ تَنَافَسُوْا) في مَتْنِ (لاَ
تَبَاغَضُوا) فَمُدْرَجٌ قَدْ نُقِلاَ
220.
مِنْمَتْنِ (لاَ تَجَسَّسوا)أدْرَجَهُ
( إبْنُ أبي مَرْيَمَ ) إذْ أخْرَجَهُ
أي : ومن أقسامِ المدرجِ ، وهو القسمُ الثالثُ : أنْ يُدرجَ بعضُ حديثٍ في حديثٍ آخرَ مخالفٍ له في السند .
مثالُهُ : حديثٌ رواهُ سعيدُ بنُ أبي مريمَ ، عن مالكٍ ، عن الزهريِّ ، عن أنسٍ ، أنَّ رسولَ اللهِ ، قال : (( لا تَبَاغَضُوا ، ولا تَحَاسَدُوا ، ولا تَدَابَرُوا ولا تَنَافَسُوا ، … الحديثَ )) .
فقولُهُ : (( ولا تنافسُوا )) مدرجَةٌ في هذا الحديثِ أدرَجَها ابنُ أبي مريمَ فيه ، من حديثٍ آخرَ لمالكٍ ، عن أبي الزِّنادِ ، عن الأعرجِ ، عن أبي هريرةَ ، عن النبيِّ : (( إيَّاكُمْ والظَّنَّ ، فإنَّ الظنَّ أكذَبُ الحديثِ ، ولا تَجَسَّسُوا ، ولا تَحَسَّسُوا،ولا تَنَافَسُوا، ولا تَحاسَدُوا ،…)) وكلا الحديثينِ متفقٌ عليه . من طريقِ مالكٍ . وليس في الأولِّ : ولا تنافسوا . وهي في الحديثِ الثاني. وهكذا الحديثانِ عند رواةِ " الموطّأ " : عبدِ الله بنِ يوسفَ، والقَعْنبيِّ، وقُتيبةَ، ويحيى بنِ يحيى، وغيرهم . قال الخطيبُ : وقد وَهِمَ فيها ابنُ أبي مريمَ على مالكٍ،عن ابنِ شهابٍ. وإنّما يرويها مالكٌ في حديثِهِ عن أبي الزِّنادِ.
221.
وَمِنْـهُ مَتْـنٌ عَـنْ جَمَاعَـةٍ وَرَدْ
وَبَعْضُهُمْ خَالَفَ بَعْضَاً في السَّـنَدْ
222.
فَيَجْمَـعُ الكُـلَّ بإسْــنَادٍ ذَكَـرْ
كَمَتْـنِ (أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ) الخَبَرْ
223.
فَإنَّ (عَمْرَاً)عِنْـدَ(وَاصِلٍ)فَقَطْ
بَيْنَ (شَقيْقٍ) وَ (ابْنِ مَسْعُوْدٍ) سَقَطْ
224.
وَزَادَ(الاعْمَشُ)كَذَا(مَنْصُوْرُ)
وَعَمْدُالادْرَاجِ لَهَا مَحْظُـوْرُ
أي : ومن أقسامِ المدرجِ ، وهو القسمُ الرابعُ : أنْ يرويَ بعضُ الرواةِ حديثاً عن جماعةٍ ، وبَيْنهم في إسنادهِ اختلافٌ فيجمعُ الكلَّ على إسنادٍ واحدٍ ممّا اختلفوا فيه ، ويدرجُ روايةَ مَنْ خالفَهم معهم على الاتفاقِ .
مثالُهُ : حديثٌ رواه الترمذيُّ ، عن بُنْدَارٍ ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ مهديٍّ عن سفيانَ الثوريِّ ، عن واصلٍ ، ومنصورٍ ، والأعمشِ ، عن أبي وائلٍ ، عن عمرِو بنِ شُرَحْبِيلَ ، عن عبدِ اللهِ ، قال : (( قلتُ : يا رسولَ اللهِ ، أيُّ الذنبِ أعظَمُ ؟ … )) الحديثَ . وهكذا رواهُ محمدُ بنُ كثيرٍ العبديُّ ، عن سفيانَ فيما رواهُ الخطيبُ . فروايةُ واصلٍ هذهِ مدرجةٌ على روايةِ منصورٍ ، والأعمشِ ؛ لأنَّ واصلاً لا يذكرُ فيه عمراً، بل يجعلُهُ عن أبي وائلٍ ، عن عبدِ اللهِ ، هكذا . رواه شعبةُ ، ومهديُّ بنُ ميمونٍ ، ومالكُ بنُ مِغْولٍ ، وسعيدُ بنُ مسروقٍ ، عن واصلٍ ، كما ذكرَهُ الخطيبُ .
وقد بَيَّنَ الإسنادَيْنِ معاً يحيى بنُ سعيدٍ القطّانُ في روايتهِ ،عن سفيانَ،وفَصَلَ أحدَهُما من الآخرِ . رواه البخاريُّ في صحيحهِ في "كتابِ المحاربينَ" عن عمرِو بنِ عليٍّ ، عن يحيى،عن سفيانَ،عن منصورٍ، والأعمشِ؛ كلاهما عن أبي وائلٍ ، عن عمرٍو ، عن عبدِ اللهِ، وعن سفيانَ، عن واصلٍ، عن أبي وائلٍ، عن عبدِ اللهِ ، من غيرِ ذكرِ عمرِو بنِ شرحبيلَ. قال عمرُو بنُ عليٍّ : فذكرتُهُ لعبدِ الرحمنِ ، وكان حدّثنا عن سفيانَ ، عن الأعمشِ ، ومنصورٍ وواصلٍ ، عن أبي وائلٍ ، عن أبي مَيْسرةَ ، يعني : عمراً ، فقال : دَعْهُ دَعْهُ .
قلتُ : لكن رواهُ النسائيُّ في المحاربةِ ، عن بُنْدارٍ ، عن ابنِ مهديٍّ ، عن سفيانَ، عن واصلٍ – وَحْدَهُ - ، عن أبي وائلٍ ، عن عمرِو بنِ شُرْحَبيلَ ، فزادَ في السند عمْراً من غير ذكرِ أحدٍ ، أدرجَ عليه روايةَ واصلٍ . وكأنَّ ابنَ مهديٍّ لمّا حدَّثَ به عن سفيانَ ، عن منصورٍ ، والأعمشِ ، وواصلٍ ، بإسنادٍ واحدٍ ظنَّ الرواةُ عن ابنِ مهديٍّ اتفاقَ طرقِهِم ، فربَّما اقتصرَ أحدُهم على بعضِ شيوخِ سفيانَ ، ولهذا لا ينبغي لمَنْ يروي حديثاً بسندٍ فيه جماعةٌ في طبقةٍ واحدةٍ مجتمعين في الرواية عن شيخٍ واحدٍ ، أن يحذفَ بعضَهم ؛ لاحتمالِ أنْ يكونَ اللفظُ في السندِ أو المتنِ لأحدِهم وحملَ روايةَ الباقينَ عليه . فربَّما كانَ مَنْ حَذَفَهُ هو صاحبُ ذلكَ اللفظِ، وسيأتي التنبيهُ على ذلكَ في موضعِهِ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
وقولُهُ : ( وزادَ الأعمشُ ) أي : وزادَ الأعمشُ ، ومنصورٌ ، ذِكْرَ عمرِو بنِ شُرحبيلَ بين شَقيقٍ ، وابنِ مسعودٍ ؛ على أنَّهُ قد اختُلِفَ على الأعمشِ في زيادةِ عمرِو بنِ شرحبيلَ اختلافاً كثيراً ، ذكرَهُ الخطيبُ .
وقولُهُ : ( وعَمْدُ الادراجِ لها ) أي : لهذهِ الأقسامِ الأربعةِ ، أو الخمسةِ . محظورٌ ، أي : ممنوعٌ . قالَ ابنُ الصلاحِ : واعلمْ أنَّهُ لا يجوزُ تعمُّدُ شيءٍ مِنَ الادراجِ المذكورِ . وهذا النوعُ قد صنَّفَ فيه الخطيبُ ، فشَفَى وكَفَى .
المَوْضُـوْعُ
225.
شَرُّ الضَّعِيْفِ : الخَبَرُ الموضُوْعُ
الكَـذِبُ، المُختَلَـقُ ، المَصْنُـوْعُ
226.
وَكَيْفَ كَانَ لَمْ يُجِيْزُوا ذِكْرَهُ
لِمَنْ عَلِمْ،مَا لَمْ يُبَيِّـنْ أَمْـرَهُ
227.
وَأكْثَرَ الجَامِعُ فِيْهِ إذْ خَـرَجْ
لِمُطْلَقِ الضَّعْفِ،عَنَى: أبَا الفَرَجْ
أي : شرُّ الأحاديثِ الضعيفةِ : الموضوعُ ، وهو المكذوبُ ، ويقالُ له
المختلَقُ المصنوعُ ، أي : إنَّ واضعَهُ اختلقَهُ وصنَعَهُ . وهذا هو الصوابُ ، كما ذكره ابنُ الصلاحِ هنا . وأما قولُهُ في قسمِ الضعيفِ : إنَّ ما عُدِمَ فيه جميعُ صفاتِ الحديثِ الصحيحِ والحسنِ ، هو القسمُ الآخِرُ الأَرذَلُ ؛ فَهُوَ محمولٌ عَلَى أنَّهُ أرادَ ما لَمْ يكنْ موضوعاً ، اللهمَّ إلا أن يريدَ بفَقْدِ ثقةِ الرَّاوِي أنْ يكونَ كذّاباً . ومعَ هَذَا فَلاَ يلزمُ مِنْ وُجودِ كذّابٍ في السندِ أنْ يكونَ الحديثُ موضوعاً ، إذ مطلقُ كذبِ الرَّاوِي لا يدلُّ عَلَى الوضعِ ، إلا أنْ يعترفَ بوضعِ هَذَا الحديثِ بعينِهِ، أو ما يقومُ مقامَ اعترافِهِ عَلَى ما ستقفُ عَلَيْهِ . وكيفَ كَانَ الموضوعُ ، أي : في أيِّ معنى كانَ ، في الأحكامِ أو القصصِ ، أو الترغيبِ والترهيبِ ، وغيرِ ذَلِكَ . لَمْ يجيزوا لمنْ علمَ أنَّهُ موضوعٌ أنْ يذكرَهُ بروايةٍ ، أو احتجاجٍ، أو ترغيبٍ إلا معَ بيانِ أنّهُ موضوعٌ ، بخلافِ غيرِهِ من الضعيفِ المحتملِ للصدقِ، حَيْثُ جوّزوا روايتَهُ في الترغيبِ والترهيبِ ، كَمَا سيأتي . قَالَ ابنُ الصَّلاَح : ولقد أكثرَ الَّذِي جمعَ في هَذَا العصرِ الموضوعاتِ في نَحْوِ مُجَلّدَيْنِ ، فأودَعَ فِيْهَا كثيراً مِنْهَا ، لا دليلَ عَلَى وضعِهِ ، وإنّما حقُّهُ أنْ يُذكرَ في مطلقِ الأحاديثِ الضعيفةِ . وأراد ابنُ الصلاحِ بالجامعِ المذكورِ، أبا الفَرَجِ بنَ الجَوْزيِّ . وأشرتُ إِلَى ذلكَ بقولي : ( عَنَى : أبا الفرجِ ).
228.
وَالوَاضِعُوْنَ لِلحَدِيْثِ أضْرُبُ
أَضَرُّهُـمْ قَـوْمٌ لِزُهْـدٍ نُسِـبُوا
229.
قَدْ وَضَعُوْهَا حِسْبَةً ، فَقُبِلَتْ
مِنْهُـمْ ، رُكُوْناً لَهُـمُ ونُقِلَـتْ
230.
فَقَيَّـضَ اللهُ لَهَـا نُـقَّادَهَـا
فَبَـيَّنُـوا بِنَقْدِهِـمْ فَسَـادَهَـا
231.
نَحْوَ أبي عِصْمَةَ إذْ رَأَى الوَرَى
زَعْمَاً نَأوْا عَنِ القُرَانِ ، فافْتَرَى
232.
لَهُمْ حَدِيْثَاً في فَضَائِلِ السُّـوَرْ
عَـنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فبئسَمَا ابْتَكَرْ
233.
كَذَا الحَدِيْثُ عَنْ أُبَيٍّ اعْتَرَفْ
رَاوِيْهِ بِالوَضْعِ ، وَبِئسَـمَا اقتَرَفْ
234.
وَكُـلُّ مَنْ أوْدَعَـهُ كِتَابَـهْ
- كَالوَاحِدِيِّ - مُخْطِئٌ صَـوَابَهْ
الواضعونَ للحديثِ عَلَى أصنافٍ بحسبِ الأمرِ الحاملِ لَهُمْ عَلَى الوضعِ .
فضربٌ من الزَّنادقةِ يفعلونَ ذَلِكَ ؛ ليُضلوا به الناسَ ، كعبدِ الكريمِ بنِ أبي
العَوجاءِ الذي أمرَ بضربِ عُنقِهِ محمدُ بنُ سليمانَ بنِ عليِّ ، وكبَيَانٍ الذي قتَلهُ خالدُ القَسْريُّ ، وحرقَهُ بالنارِ . وقدْ رَوَى العُقيليُّ بسندِهِ إلى حمّادِ بنِ زيدٍ قالَ : وضعتِ الزنادقةُ على رسولِ اللهِ أربعةَ عشرَ ألفَ حديثٍ .
وضربٌ يفعلونَهُ انتصاراً لمذاهبِهِم،كالخَطَّابيّةِ والرافضةِ، وقومٍ من السَّالميةِ.
وضربٌ يتقربونَ لبعضِ الخلفاءِ والأمراءِ بوضعِ ما يوافقُ فعلَهُم وآراءهم ، كغِياثِ بنِ إبراهيمَ ، حيثُ وضعَ للمهدي في حديث : (( لا سَبَقَ إلا في نَصْلٍ ، أو خُفٍّ ، أو حافرٍ )) . فزادَ فيه : أو جَناحٍ . وكان المهديُّ إذ ذاك يلعبُ بالحَمَامِ فتركهَا بعد ذلك وأمرَ بذبحِها ، وقال أنا حملتُهُ على ذلك .
وضربٌ كانوا يتكسَّبُونَ بذلك ويرتزِقُونَ به في قَصَصِهم، كأبي سعدٍ المدائنيِّ.
وضَرْبٌ امتُحِنوا بأولادٍ لهم أو ورّاقينَ فوضعُوا لهم أحاديثَ ودَسُّوها عليهم، فحدّثوا بها من غيرِ أنْ يَشْعُروا ، كعبدِ اللهِ بنِ محمدِ بنِ ربيعةَ القُدَامِيِّ .
وضربٌ يلجؤونَ إلى إقامةِ دليلٍ على ما أفتوا به بآرائِهِم ، فيضعُونَ ، كما نُقِلَ عن أبي الخطّابِ بنِ دِحْيةَ ، إنْ ثَبَتَ عنه .
وضربٌ يَقلِبُونَ سَنَدَ الحديثِ ؛ ليُستَغْرَبَ ، فيُرغَبَ في سماعِهِ منهم ، وسيأتي ذلكَ بعدَ هذا في المقلوبِ .
وضربٌ يتديّنُونَ بذلكَ لترغيبِ الناسِ في أفعالِ الخيرِ بزعمِهِم ، وهم منسوبُونَ إلى الزُّهْدِ ، وهم أعظمُ الأصنافِ ضرراً ؛ لأنَّهم يحتسِبُونَ بذلكَ ، ويرونَهُ قربةً ، فلا يمكنُ تركُهم لذلك . والناسُ يَثِقُون بهم ، ويركنونَ إليهم لما نُسِبُوا له من الزهدِ، والصلاحِ، فينقلونَها عنهم . ولهذا قالَ يحيى بنُ سعيدٍ القطّانُ : ما رأيتُ الصَّالحينَ أكذبَ منهم في الحديثِ . يريدُ بذلكَ – واللهُ أعلم – المنسوبينَ للصلاحِ بغيرِ علمٍ يفرّقُونَ بهِ بينَ ما يجوزُ لهم ويمتنعُ عليهم . يدلُّ على ذلكَ ما رواهُ ابنُ عَدِيٍّ والعُقيليِّ بسندِهما الصحيحِ إليه أنّهُ قال : ما رأيتُ الكذبَ في أحدٍ أكثرَ منه فيمَنْ يُنسَبُ إلى الخيرِ . أو أرادَ أنَّ الصالحينَ عندَهم حسنُ ظنٍّ ، وسلامةُ صدرٍ ، فيحمِلونَ ما سمِعَوه على الصدقِ ، ولا يهتدونَ لتمييزِ الخطأ من الصوابِ .
ولكن الواضعون ممَّنْ يُنْسَبُ للصلاحِ ، وإنْ خَفِيَ حالُهم على كثيرٍ من الناسِ ، فإنّه لم يَخْفَ على جَهابِذَةِ الحديثِ ، ونقّادِهِ . فقاموا بأعباءِ ما حُمِّلُواْ فتحمَّلوهُ، فكشفُوا عُوَارَها ، ومَحَوا عَارَها . حتى لقد روينا عن سفيانَ قال : ما سترَ اللهُ أحداً بكذبٍ في الحديثِ . وروينا عن عبدِ الرحمنِ بنِ مهديٍّ أنهُ قال : لو أنَّ رجلاً هَمَّ أنْ يكذبَ في الحديثِ ، لأسقَطَهُ اللهُ تعالى . وروينا عن ابنِ المباركِ قال : لو هَمَّ رجلٌ في السَّحرِ أنْ يكذبَ في الحديثِ ، لأصبحَ والناسُ يقولون فلانٌ كذّابٌ . وروينا عنه أنّهُ قيل له : هذهِ الأحاديثُ المصنوعةُ ، فقال : تعيشُ لها الجَهَابِذةُ إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُوْنَ . وروينا عن القاسمِ بنِ محمدٍ أنّهُ قال : إنَّ الله أعانَنَا على الكذّابينَ بالنسيانِ .
ومثالُ مَنْ كان يضعُ الحديثَ حِسْبةً ، ما رويناه عن أبي عِصْمَة نُوحِ بنِ أبي مريمَ المروزيِّ - قاضي مَرْو - ، فيما رواهُ الحاكمُ بسندهِ إلى أبي عمّارٍ المروزيِّ أنّهُ قيل لأبي عصمةَ : مِن أين لك عن عِكْرمةَ ، عن ابنِ عبّاسٍ في فضائلِ القرآنِ سورةً سورةً ، وليس عند أصحابِ عكرمةَ هذا ؟! فَقَالَ : إنّي رأيتُ الناسَ قَدْ أعرضُوا عن القرآنِ ، واشتغلوا بفقهِ أبي حنيفةَ ، ومغازي محمدِ بنِ إسحاقَ ، فوضعتُ هَذَا الحديثَ حِسْبةً . وَكَانَ يُقال لأبي عصمةَ هَذَا نوحٌ الجامعُ . فَقَالَ أبو حاتمٍ ابنُ حبّانَ : جمعَ كلَّ شيءٍ إلا الصدقَ . وَقَالَ أبو عبدِ اللهِ الحاكمُ : وضعَ حديثَ فضائلِ القرآنِ . وروى ابنُ حبّانَ في مقدّمةِ "تاريخِ الضُّعفاءِ" ،عن ابنِ مهديٍّ قال : قلتُ لِمَيْسرة بن عبدِ ربِّهِ : من أين جئت بهذهِ الأحاديثِ مَنْ قرأ كذا فلَهُ كذا ؟ قال : وضعتُها أُرَغِّبُ الناسَ فيها . وهكذا حديثُ أُبَيٍّ الطويلُ في فضائلِ قراءةِ سُوَرِ القرآنِ سُورةً سورةً . فروينا عن المؤمَّل بنِ إسماعيلَ ، قال : حدّثني شيخٌ به . فقلتُ للشيخِ مَنْ حدّثكَ ؟ فقالَ : حدّثني رجلٌ بالمدائنِ – وهو حيٌّ – فصرتُ إليهِ ، فقلتُ : مَنْ حدّثَكَ ؟ فقال : حدّثني شيخٌ بواسطَ – وهو حيٌّ – فصرتُ إليه ، فقال : حدثني شيخٌ بالبصرةِ ، فصرتُ إليه ، فقال : حدثني شيخٌ بعبادانَ ، فصرتُ إليه ، فأخَذَ بيدي ، فأدخلني بيتاً ، فإذا فيه قومٌ من المتصوّفِةِ ، ومعهم شيخٌ ، فقالَ هذا الشيخُ حدّثني، فقلتُ : يا شيخُ مَنْ حدّثكَ ؟ فقال : لم يحدّثني أحدٌ . ولكنَّا رأينا الناسَ قد رغبُوا عن القرآنِ ، فوضَعنا لهم هذا الحديثَ ؛ ليصرفُوا قُلوبَهم إِلَى القرآنِ .
وكلُّ مَنْ أودعَ حديثَ أُبَيٍّ – المذكورِ – تفسيرَهُ ، كالواحديِّ ، والثَّعْلبيِّ والزَّمَخْشَريِّ مخطئٌ في ذلكَ ؛ لكنّ من أبرزَ إسنادَهُ منهم ، كالثعلبيِّ ، والواحديِّ فهو أبسطُ لِعُذْرِهِ ، إذ أحالَ ناظرَهُ على الكشفِ عن سندِهِ ، وإنْ كان لا يجوزُ له السكوتُ عليه من غيرِ بيانِهِ ، كما تقدّمَ . وأمَّا مَنْ لم يُبْرِزْ سنَدَهُ ، وأوردَهُ بصيغةِ الجزمِ فخطؤُهُ أفحشُ ، كالزَّمخشريِّ .
235.
وَجَوَّزَ الوَضْعَ –عَلَى التَّرْغِيْبِ-
قَوْمُ ابنِ كَرَّامٍ ، وَفي التَّرْهِيْبِ
ذكرَ الإمامُ أبو بكرٍ محمدُ بنُ منصورٍ السَّمعانيُّ : أنَّ بعضَ الكَرَّاميَّةِ ذهبَ إلى جوازِ وضعِ الحديثِ على النبيِّ ، فيما لا يتعلقُ به حكمٌ من الثوابِ والعقابِ ترغيباً للنَّاسِ في الطاعةِ ، وزجْرَاً لهم عن المعصيةِ . واستدلوا بما رُويَ في بعضِ طُرقِ الحديثِ : (( مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتعمِّداً -ليُضِلَّ بهِ الناسَ- فلْيَتبوَّأْ مَقْعدَهُ من النارِ )) . وحملَ بعضُهم حديثَ مَنْ كذبَ عليَّ ، أي : قالَ : إنّهُ ساحرٌ أو مجنونٌ . وقال بعضُ المخذُولِينَ : إنّما قالَ مَنْ كَذَبَ عليَّ ، ونحنُ نكذبُ لَهُ ونقوِّي شَرعَهُ . نسألُ اللهَ السلامةَ من الخِذْلانِ .
وروى العُقيليُّ بإسنادِهِ إلى محمدِ بنِ سعيدٍ - كأنَّهُ المَصْلُوبُ - قال : (( لا بأسَ إذا كانَ كلامٌ حسنٌ أنْ تضعَ له إسناداً )) . وحكى القُرْطبيُّ في " المُفْهِم " عن بعضِ أهلِ الرأي أنَّ ما وافقَ القياسَ الجليَّ جازَ أنْ يُعزَى إِلَى النبيِّ . وروى ابنُ حبّانَ في مقدّمةِ " تاريخِ الضُّعفاءِ " بإسنادِهِ إلى عبدِ اللهِ بنِ يزيدَ المقريء : أنَّ رجلاً من أهلِ البِدَعِ رجعَ عن بدعتِهِ ، فجعلَ يقولُ : انظروا هذا الحديثَ عمَّنْ تأخذونَهُ ، فإنّا كُنَّا إذا رأينا رأياً جعلنا له حديثاً .
236.
وَالوَاضِعُوْنَبَعْضُهُمْ قَدْ صَنَعَا
مِنْ عِنْدِ نَفْسِـهِ ، وَبَعْضٌ وَضَعَا
237.
كَلامَ بَعْضِ الحُكَمَا في المُسْـنَدِ
وَمِنْهُ نَـوْعٌ وَضْعُهُ لَمْ يُقْصَـدِ
238.
نَحْوُ حَدِيْثِ ثَابِتٍ (مَنْ كَثُرَتْ
صَلاَتُهُ) الحَدِيْثَ ، وَهْلَةٌ سَرَتْ
ثُمَّ الواضعونَ منهم مَنْ يَضَعُ كلاماً من عندِ نفسِهِ ، ويرويه إلى النبيِّ ومنهم من يأخُذُ كلامَ بعضِ الحُكَماءِ ، أو بعضِ الزُّهادِ ، أو الإسرائلياتِ فيجعلُهُ حديثاً نحو حديثِ : (( حبُّ الدنيا رأسُ كُلِّ خطيئةٍ )) . فإنّه إمّا من كلامِ مالكِ بن دينارٍ ، كما رواهُ ابنُ أبي الدنيا في كتابِ " مكايدِ الشيطانِ " بإسنَادِهِ إليه . وإمَّا هو مرويٌّ من كلامِ عيسى بنِ مريمَ كما رواه البيهقيُّ في كتابِ " الزهدِ " ، ولا أصلَ لَهُ من حديثِ النبيِّ ، إلا من مراسيلِ الحسنِ البصريِّ ، كما رواهُ البيهقيُّ في " شعبِ الإيمانِ " في البابِ الحادي والسبعين منه . ومراسيلُ الحسن عندَهم شِبْهُ الريحِ .
وكالحديثِ الموضوعِ : (( المَعِدةُ بيتُ الداءِ ، والحِمْيَةُ رأسُ الدَّواءِ )) . فهذا من كلامِ بعضِ الأطباءِ ، لا أصلَ له عن النبيِّ .
ومن أقسامِ الموضوعِ : ما لم يُقْصَدْ وضعهُ ، وإنّما وهمَ فيه بعضُ الرواةِ . وقالَ ابنُ الصلاحِ : إنّهُ شبهُ الوضعِ ، كحديثٍ رواهُ ابنُ ماجه ، عن إسماعيلَ بنِ محمدَ الطَّلْحِيِّ ، عن ثابتِ بنِ موسى الزاهدِ ، عن شَرِيكٍ ، عن الأعمشِ ، عن أبي سُفيانَ ، عن جابرٍ مرفوعاً : (( مَنْ كَثُرَتْ صَلاتُهُ باللَّيلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بالنَّهارِ )) .
قال أبو حاتمٍ الرازيُّ : كتبتُهُ عن ثابتٍ فذكرتُهُ لابن نُميرٍ ، فقال الشيخُ – يعني ثابتاً – لا بأسَ به . والحديثُ منكرٌ . قال أبو حاتمٍ : والحديثُ موضوعٌ . وقال الحاكمُ:دخلَ ثابتُ بنُ موسى على شَريكِ بنِ عبدِ اللهِ القاضي ، والمُستملي بين يديهِ، وشريكٌ يقول : حدّثنا الأعمشُ ، عن أبي سفيانَ ، عن جابرِ ، قال : قالَ رسول الله : ولم يذكرِ المتْنَ . فلما نظرَ إلى ثابتِ بنِ موسى قالَ : (( مَنْ كثُرتْ صلاتُهُ بالليلِ حسُن وجههُ بالنهارِ )) وإنَّما أرادَ ثابتاً لزهدِهِ وورعِهِ ، فظنَّ ثابتٌ أنّه رُوِيَ هذا الحديثُ مرفوعاً بهذا الإسنادِ ، فكان ثابتٌ يحدّثُ به عن شريكٍ ، عن الأعمشِ ، عن أبي سفيانَ ، عن جابرِ ، وقالَ ابنُ حبّانَ : وهذا قولُ شريك . قالَهُ عَقِبَ حديثِ الأعمشِ ، عن أبي سفيانَ ، عن جابرِ : (( يَعْقِدُ الشيطانُ على قافيةِ رأسِ أحدِكم )) . فأدرجهُ ثابتٌ في الخبرِ ، ثمَّ سَرَقَهُ منهجماعةٌ ضعفاءُ، وحدّثوا به عن شريكٍ ؛ فعلى هَذَا هُوَ من أقسامِ المدرجِ.
وقالَ ابنُ عديٍّ : إنّهُ حديثٌ منكرٌ لا يُعرفُ إلا بثابتٍ ، وسرقَهُ مِنْهُ من الضُّعفاء عبدُ الحميدِ بنُ بحرٍ، وعبدُ اللهِ بنُ شبرمةَ الشَّريكيُّ، وإسحاقُ بن بشرٍ الكَاهليُّ،وموسى بنُ محمدٍ أبو الطاهرِالمقدسيُّ. قَالَ : وحدّثنا بِهِ بعضُ الضِّعاف عن زحمويهِ،وكذب؛ فإنَّ زحمويهِ ثقةٌ. قَالَ وبلغني عن محمدِ بنِ عبدِ اللهِ بن نميرٍ أنّهُ ذُكرَ لَهُ هَذَا الحديثُ،عن ثابتٍ ، فَقَالَ: باطلٌ، شُبِّهَ عَلَى ثابتٍ ؛ وذلكَ أنَّ شريكاً كان مَزَّاحاً ، وكانَ ثابتٌ رجلاً صالحاً فيشبهُ أن يكونَ ثابتٌ دخلَ على شَرِيكٍ ، وكان شريكٌ يقولُ: حدثنا الأعمشُ،عن أبي سفيانَ،عن جابرٍ،عن النبيِّ ، فالتفَتَ فرأى ثابتاً فقال يُمازِحُه : (( مَنْ كثُرت صلاتُهُ بالليلِ حسُن وجهُهُ بالنهارِ )) . فظنَّ ثابتٌ لغفلتِهِ أنَّ هذا الكلامَ الذي قالَهُ شريكٌ،هو متنُ الإسنادِ الذي قرأهُ فحملَهُ على ذلك . وإنَّما ذلك قولُ شريكٍ. وقال العقيليُّ : إنّهُ حديثٌ باطلٌ ، ليس له أصلٌ ولا يتابعهُ عليه ثقةٌ . وقال عبدُ الغنيِّ بنُ سعيدٍ: كُلُّ مَنْ حَدَّثَ به عن شريكٍ ، فهو غيرُ ثقةٍ . وقد قالَ ابنُ معينٍ في ثابتٍ هذا: إنّهُ كذَّابٌ . وقولُهُ : ( وَهْلَةٌ ) أي : غَفْلَةٌ . ومنه : قولُ عائشةَ رضي اللهُ عنها في الحديثِ الصحيحِ : (( إنَّهُ لم يكذبْ ولكنَّهُ وَهِلَ )) ، أي : ذهبَ وَهْمُهُ إلى ذلك.
239.
وَيُعْرَفُ الوَضْـعُ بِالإقْـرَارِ،وَمَا
نُـزِّلَ مَـنْـزِلَتَهُ ، وَرُبَّـمَـا
240.
يُعْرَفُ بِالرِّكَةِ، قُلْتُ: اسْتَشْكَلاَ
(الثَّبَجِيُّ) القَطْعَ بِالوَضْـعِ عَلَى
241.
مَا اعْتَرَفَ الوَاضِعُ،إذْ قَدْ يَكْذِبُ
بَلَى نَـرُدُّهُ ، وَعَنْـهُ نُضْرِبُ
قال ابنُ الصلاحِ : وإنّما يُعرف كونُ الحديثِ موضوعاً ، بإقرارِ واضعِهِ أو ما يتنـزلُ منـزلةَ إقرارِهِ . قال : وقد يفهمُونَ الوضعَ من قرينةِ حالِ الراوي ، أو المروِيِّ فقد وُضِعتْ أحاديثُ طويلةٌ يشهدُ بوضعِها رَكاكةُ ألفاظِها ومَعانِيها . انتهى . وروينا عن الربيعِ بنِ خُثَيْمٍ قال : إنَّ للحديثِ ضَوْءاً كضَوْءِ النهارِ ، تعرفُهُ ؛ وظُلمةً كظلمةِ الليلِ تُنْكِرُهُ .
قال ابنُ الجوزيِّ : واعلمْ أنَّ الحديثَ المُنكرَ يقشعرُّ له جلدُ الطـالبِ . للعلمِ ويَنْفُرُ مِنْهُ قلبُهُ في الغالبِ . وَقَدْ استشكلَ ابنُ دقيقِ العيدِ الاعتمادَ عَلَى إقرارِ الرَّاوِي بالوضعِ . فَقَالَ : هَذَا كافٍ في رَدِّهِ لَكِنْ لَيْسَ بقاطعٍ في كونِهِ موضوعاً ؛ لجوازِ أنْ يكذبَ في هذا الإقرارِ بعينِهِ . وهذا هو المعنيُّ بقولي : ( استشكلَ الثَّبَجِي )، وهو ابنُ دقيقِ العيدِ ، وربّما كان يكتبُ هذهِ النسبةَ في خَطِّهِ ، لأنّهُ ولد بثَبَجِ البحرِ بساحلِ يَنْبُعَ من الحِجازِ . ومنهُ الحديثُ الصحيحُ : (( يَرْكَبُوْنَ ثَبَجَ هذا البَحْرِ )) ، أي : ظَهْرَهُ ، وقيلَ : وَسَطَهُ .
المَقْلُـوْبُ
242.
وَقَسَّمُوا المَقْلُوْبَ قِسْمَيْنِ إلى :
مَـا كَانَ مَشْـهُوراً بِـراوٍ أُبْدِلا
243.
بِواحـدٍ نَظِيْرُهُ ، كَـيْ يُرْغَبَا
فِيهِ ، لِلاغْرَابِ إذا مَا اسْتُغْرِبَا
أي : من أقسامِ الضعيفِ المقلوبُ ، وهو قسمانِ :
أحدُهما أنْ يكونَ الحديثُ مشهوراً براوٍ ، فَجُعِلَ مكانَهُ راوٍ آخرُ في طبقتِهِ ؛ ليصيرَ بذلك غريباً مرغوباً فيه . كحديثٍ مشهورٍ بسالمٍ ، فجُعلَ مكانَهُ نافعٌ . وكحديثٍ مشهورٍ بمالكٍ فَجُعِلَ مكانَهُ عُبيدُ اللهِ بنُ عُمَرَ . ونحوِ ذلكَ .
وممَّنْ كانَ يفعلُ ذلك من الوضّاعينَ : حمّادُ بنُ عَمْرٍو النَّصِيْبِيُّ ، وإسْماعيلُ بنُ أبي حَيَّة اليَسَعُ ، وبَهْلُولُ بنُ عُبيدٍ الكِنْدِيُّ . مثالُهُ : حديثٌ رواهُ عمرُو بنُ خالدٍ الحرانيُّ ، عن حمّادِ بنِ عمرٍو النَّصِيْبِيِّ ، عن الأعمشِ ، عن أبي صالحٍ ، عن أبي هريرةَ مرفوعاً : (( إذا لَقِيتُم المشركينَ في طريقٍ ، فلا تبدؤوهم بالسلامِ ، … الحديث )) . فهذا حديثٌ مقلوبٌ . قلبهُ حمّادُ بنُ عمرٍو - أحدُ المتروكينَ - فجعلَهُ عن الأعمشِ ، وإنّما هو معروفٌ بسهيلِ بن أبي صالحٍ ، عن أبيهِ ، عن أبي هريرةَ . هكذا رواهُ مسلمٌ في صحيحهِ من روايةِ شُعبةَ ، والثوريِّ ، وجريرِ بنِ عبدِ الحميدِ ، وعبدِ العزيزِ بنِ محمدٍ الدَّراوَرْدِيِّ ، كلُّهم عن سُهَيْلٍ . قال أبو جعفرٍ العُقيليُّ : لا يحفَظُ هذا من حديثِ الأعمشِ ، إنَّما هذا حديثُ سُهيلِ بنِ أبي صالحٍ ، عن أبيهِ . ولهذا كَرِهَ أهلُ الحديثِ تتبُّعَ الغرائبِ ، فإنهُ قلمّا يصحُّ منها ، كما سيأتي في بابِهِ .
244.
وَمِنْهُ قَلْبُ سَنَدٍ لِمَتْنِ
نَحْوُ : امْتِحَانِهِمْ إمَامَ الفَـنِّ
245.
في مائَةٍ لَمَّا أتَى بَغْـدَادَا
فَـرَدَّهَا ، وَجَوَّدَ الإسْـنَادَا
هَذَا هُوَ القسمُ الثاني من قسمي المقلوبِ ، وَهُوَ أنْ يُؤخذَ إسنادُ متنٍ ، فيجعلَ عَلَى متنٍ آخرَ ، ومتنُ هَذَا فيُجعل بإسنادٍ آخرَ . وهذا قَدْ يُقصَدُ بهِ أيضاً الإغرابُ ؛ فيكونُ
ذلك كالوضعِ ، وقد يُفعلُ اختباراً لحفظِ المحدِّثِ ، وهذا يفعلُهُ أهلُ الحديثِ كثيراً ، وفي جوازِهِ نظرٌ إلا أنّهُ إذا فعلَهُ أهلُ الحديثِ لا يستقرُّ حديثاً ، وإنّما يقصدُ اختبارُ حفظِ المحدّثِ بذلك ، أو اختبارِهِ ، هل يقبل التَّلْقين ، أم لا ؟ وممَّنْ فعل ذلك شعبةُ وحمّادُ بنُ سلمةَ . وقد أنكرَ حَرَمِيُّ على شعبةَ لمّا حدَّثَهُ بهزٌ أنَّ شعبةَ قلبَ أحاديثَ على أبانَ بنِ أبي عيّاشٍ . فقال حَرَميٌّ : يا بئسَ ما صنعَ ، وهذا يحِلُّ ! . فمما فعلَهُ أهلُ الحديثِ للاختبارِ ، قِصّتُهم مع البخاريِّ ببغدادَ . أخبرني محمدُ بنُ محمدِ بنِ إبراهيمَ المَيدُوميُّ ، قال : أخبرنا أبو الفرجِ عبدُ اللطيفِ بنُ عبدِ المنعمِ بنُ عليٍّ الحرّانيُّ ، قال : أخبرنا أبو الفرجِ عبدُ الرحمنِ بنُ عليِّ بنِ محمدِ بنُ الجوزيِّ الحافظُ قراءةً عليه وأنا أسمعُ ببغدادَ ( ح ) وأخبرني محمدُ بنُ إبراهيمَ بنُ محمدٍ البنانيُّ بقراءتي ، واللفظُ لَهُ ، قال : أخبرنا يوسفُ بنُ يعقوبَ الشيبانيُّ كتابةً ، قال : أخبرنا أبو اليُمن الكنديُّ قالا : أخبرنا أبو منصورٍ القزّازُ ، قال : أخبرنا الخطيبُ ، قال : حدّثني محمدُ بنُ أبي الحسنِ السَّاحليُّ ، قال : أخبرنا أحمدُ بنُ الحسنِ الرازيُّ ، قال سمعتُ أبا أحمدَ بنَ عَدِيٍّ يقولُ : سمعتُ عِدَّةَ مشايخَ يحكُونَ : أنَّ محمدَ بنَ إسماعيلَ البخاريَّ قَدِمَ بغدادَ ، فسمعَ به أصحابُ الحديثِ ، فاجتمعوا وعَمَدوا إلى مائةِ حديثٍ فقلَبُوا متونَها ، وأسانيدَها ، وجعلوا مَتْنَ هذا الإسنادِ ، لإسنادٍ آخرَ ، وإسنادَ هذا المتنِ لمتنٍ آخرَ . ودفعوا إلى عَشَرةِ أنفُسٍ ، إلى كُلِّ رجلٍ عَشَرةَ أحاديثَ ، وأمرُوهم إذا حَضُروا المجلسَ يُلقُون ذلك على البخاريِّ ، وأخذوا الموعدَ للمجلسِ، فحضرَ المجلسَ جماعةُ أصحابِ الحديثِ من الغرباءِ من أهل خُراسانَ ، وغيرِهم، ومن البغداديينَ . فلما اطّمأنَّ المجلسُ بأهلِهِ انتدبَ إليه رجلٌ من العَشَرةِ ، فسأله عن حديثٍ من تلك الأحاديثِ ، فقال البخاريُّ : لا أعرِفُهُ . فسأله عن آخرَ ، فقال : لا أعرفُهُ . فما زالَ يُلقي عليهِ واحداً بعدَ واحدٍ حتى فرغَ من عَشَرَتِهِ ، والبخاريُّ يقولُ : لا أعرفُهُ . فكان الفهماءُ ممَّنْ حضرَ المجلسَ يلتفتُ بعضُهم إلى بعضٍ . ويقولون : الرجلُ فَهِمَ ، ومَنْ كان منهم غيرَ ذلكَ يقضي على البخاريِّ بالعَجْزِ والتَّقصِيرِ وقِلّةِ الفَهْمِ ، ثم انتدبَ رجلٌ آخرُ من العَشَرَةِ ، وسألَهُ عن حديثٍ من تلك الأحاديثِ المقلوبة ، فقال البخاريُّ : لا أعرفُهُ . فسألهُ عن آخرَ ، فقال : لا أعرفُهُ . فسألهُ عن آخرَ ، فقالَ : لا أعرفُهُ . فلم يزلْ يُلقي عليه واحداً بعدَ آخرَ، حتى فرغَ من عَشَرَتِهِ ، والبخاريُّ يقولُ : لا أعرفُهُ . ثم انتدبَ له الثالثُ والرابعُ إلى تمام العَشَرةِ ، حتى فرغُوا كلُّهم من الأحاديثِ المقلوبةِ ، والبخاريُّ لا يَزِيدُهم على لا أعرفُه ، فلمَّا عَلِمَ البخاريُّ أنَّهم قد فرغوا التفتَ إلى الأولِ منهم ، فقال : أمّا حديثُكَ الأولُ فهو كذا ، وحديثُكَ الثاني فهو كذا ، والثالثُ والرابعُ على الولاءِ ، حتى أتى على تمامِ العَشَرَةِ ، فردَّ كلَّ متنٍ إلى إسنادِهِ ، وكلَّ إسنادٍ إلى متنِهِ . وفعلَ بالآخرينَ مثلَ ذلكَ ، وردَّ متونَ الأحاديثِ كُلِّها إلى أسانِيدِها ، وأسانيدَها إلى متونِها ، فأقرَّ له الناسُ بالحفظِ وأَذْعَنُوا له بالفضلِ .
246.
وَقَلْبُ مَا لَمْ يَقْصِدِ الرُّوَاةُ
نَحْوُ : (إذَا أُقِيْمَتِ الصَّلاَةُ …)
247.
حَدَّثَهُ -في مَجْلِسِ البُنَاني-
حَجَّاجٌ ، اعْنِي : ابْنَ أبي عُثمَانِ
248.
فَظَنَّهُ -عَنْ ثَابِتٍ- جَرِيْرُ ،
بَيَّنَهُ حَمَّادٌ الضَّرِيْرُ
أيْ : ومن أقسامِ المقلوبِ : ما انقلبَ على راويهِ ، ولم يقصدْ قلبَهُ . مثالُهُ : حديثٌ رواهُ جريرُ بنُ حازمٍ ، عن ثابتٍ البُنانيِّ ، عن أنسٍ ، قال : قال رسولُ اللهِ : (( إذا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فلا تَقُومُوا حتى تَرَوْني )) . فهذا حديثٌ انقلبَ إسنادهُ على جريرِ بنِ حازمٍ. وهذا الحديثُ مشهورٌ ليحيى بن أبي كَثِيرٍ عن عبدِ اللهِ بنِ أبي قَتَادةَ، عن أبيهِ،عن النبيِّ. هكذا رواهُ الأئمّةُ الخمسةُ من طرقٍ عن يحيى . وهو عند مسلمٍ والنسائيِّ من روايةِ حجّاج بنِ أبي عثمانَ الصَّوَّافِّ ، عن يحيى . وجريرٌ إنّما سمعَهُ من حَجَّاجِ بن أبي عثمانَ الصوّافِ ، فانقلبَ عليهِ . وقد بَيَّنَ ذلك حمّادُ بنُ زيدٍ فيما رواهُ أبو داودَ في " المراسيلِ " عن أحمدَ بنِ صالحٍ ، عن يحيى بنِ حسَّانَ ، عن حمّادِ بنِ زيدٍ قال : كنتُ أنا وجريرُ بنُ حازمٍ عند ثابتٍ البُنانيِّ ، فحدّثَ حجّاجُ بنُ أبي عثمانَ ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ ، عن عبدِ اللهِ بنِ أبي قتادةَ ، عن أبيهِ ، عن النبيِّ ، فذكَرَهُ . فظنَّ جريرٌ أنّهُ إنّما حَدَّثَ به ثابتٌ ، عن أنسٍ . وهكذا قالَ إسحاقُ بنُ عيسى الطَّبَّاعُ : حدّثنا جريرُ بنُ حازمٍ بهذا ، فأتيتُ حمّادَ بنَ زيدٍ فسأْلتُهُ عن الحديثِ ، فقال : وَهِمَ أبو النَّضْرِ - يعني: جريرُ بنُ حازمٍ - إنّما كُنَّا جميعاً في مجلسِ ثابتٍ البنانيِّ ، فذكرَ نَحْوَ ما تقدّمَ .
تَنْبِيْهَـاْتٌ
249.
وَإنْ تَجِدْ مَتْنَاً ضَعِيْفَ السَّنَدِ
فَقُلْ : ضَعِيْفٌ ، أيْ : بِهَذَا فَاقْصِدِ
250.
وَلاَ تُضَعِّفْ مُطْلَقَاً بِنَاءا
عَلَى الطَّرِيْقِ ، إذْ لَعَـلَّ جَاءا
251.
بِسَنَدٍ مُجَوَّدٍ ، بَلْ يَقِفُ
ذَاكَ عَلَـى حُكْمِ إمَـامٍ يَصِـفُ
252.
بَيَانَ ضَعْفِهِ ، فَإنْ أطْلَقَهُ
فَالشَّـيْخُ فِيما بَعْـدَهُ حَقَّـقَـهُ
إذا وَجدْتَ حديثاً بإسنادٍ ضعيفٍ ، فلكَ أنْ تقولَ : هذا ضعيفٌ ، وتعني بذلكَ : الإسنادَ . وليسَ لكَ أنْ تعني بذلك ضَعْفَهُ مطلقاً ، بناءً على ضَعْفِ ذلك الطريقِ ؛ إذ لعلَّ له إسناداً آخرَ صحيحاً ، يثبُتُ بمثلِهِ الحديثُ ، بل يقفُ جوازُ إطلاقِ ضَعْفِهِ على حكمِ إمامٍ من أئمةِ الحديثِ ، بأنّهُ ليس لَهُ إسنادٌ يثبتُ به ، مع وصفِ ذلكَ الإمامِ لبيانِ وجهِ الضَّعْفِ مُفسَّراً ، فإنْ أطلقَ ذلكَ الإمامُ ضَعْفَهُ ولم يفسِّرْهُ ففيهِ كلامٌ ذكرَهُ الشيخُ بعد هذا، في النوعِ الثالثِ والعشرينَ من كتابهِ ، وسيأتي بعدَ هذا بتسعةَ عشرَ بيتاً .
253.
وَإنْ تُرِدْ نَقْلاً لِوَاهٍ ، أوْ لِمَا
يُشَكُّ فِيهِ لاَ بِإسْنَادِهِمَا
254.
فَأتِ بِتَمْرِيضٍ ك (يُرْوَى)،وَاجْزِمِ
بِنَقْلِ مَا صَحَّ كـ (قَالَ) فَاعْلَمِ
أي إذا أردتَ نقلَ حديثٍ ضعيفٍ ، أو ما يُشكُّ في صحتِهِ وضعفِهِ يغيرِ إسنادٍ ، فَلاَ تذكرْهُ بصيغةِ الجزمِ ، كقالَ وفعلَ ، ونحوِ ذَلِكَ . وأتِ بِهِ بصيغةِ التمريضِ ، كيُرْوى ، ورُوي ، ووردَ ، وجاءَ ، وبلغنا ، وروى بعضُهم ، ونحوِ ذَلِكَ . أمّا إذا نقلتَ حديثاً صحيحاً بغيرِ إسنادٍ فاذكرْهُ بصيغةِ الجزمِ ، كقالَ ، ونحوِها .
255.
وَسَهَّلُوا في غَيْرِ مَوْضُوْعٍ رَوَوْا
مِـنْ غَيْرِ تَبْيِينٍ لِضَعْفٍ ، وَرَأوْا
256.
بَيَانَـهُ في الحُكْـمِ وَالعَقَائِـدِ
عَـنِ (ابنِ مَهْدِيٍّ) وَغَيْرِ وَاحِدِ
تقدّمَ أنَّهُ لا يجوزُ ذكرُ الموضوعِ إلاّ مَعَ البيانِ ، في أيِّ نوعٍ كانَ . وأمّا غيرُ الموضوعِ فجوّزوا التساهُل في إسنادِهِ وروايتِهِ من غيرِ بيانٍ لضَعْفِهِ إذا كانَ في غيرِ الأحكامِ والعقائدِ. بلْ في الترغيبِ والترهيبِ ، من المواعظِ والقصصِ ، وفضائلِ الأعمالِ، ونحوِها . أما إذا كانَ في الأحكامِ الشرعيةِ من الحلالِ والحرامِ وغيرِهما ، أو في العقائدِ كصفاتِ اللهِ تَعَالَى ، وما يجوزُ ويستحيلُ عَلَيْهِ ، ونحوِ ذلكَ . فَلَمْ يَرَوا التساهلَ في ذَلِكَ . وممَّنْ نصَّ عَلَى ذَلِكَ من الأئمةِ عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ ، وأحمدُ بنُ حنبلٍ ، وعبدُ اللهِ بنُ المباركِ ، وغيرُهُمْ . وقدْ عقدَ ابنُ عديٍّ في مقدّمةِ " الكاملِ " ، والخطيبُ في " الكفايةِ " باباً لذلكَ. فقولي: ( عَنِ ابنِ مَهْدِيٍّ ) ، خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، أي : هذا عن ابنِ مهديٍّ .
مَعْرِفَةُ صِفَةِ مَنْ تُقَبَلُ رِوَايَتُهُ وَمَنْ تُرَدُّ
257.
أَجْمَـعَ جُمْهُـورُ أَئِمَّـةِ الأَثَرْ
وَالْفِقْـهِ فِي قَبُـوْلِ نَاقِلِ الْخَبَـرْ
258.
بِأنْ يَكُـوْنَ ضَابِطـاً مُعَـدَّلاَ
أيْ: يَقِظـاً ، وَلَـمْ يَكُنْ مُغَفَّـلاَ
259.
يَحْفَظُ إنْ حَدَّثَ حِفْظاً،يَحْوِيْ
كِتَابَـهُ إِنْ كَـانَ مِنْـهُ يَـرْوِيْ
260.
يَعْلَمُ مَـا فِي الَّلَفْظِ مِنْ إحِالَـهْ
إنْ يَـرْوِ بالْمَعْنَى ، وَفِي الْعَدَالَـهْ
261.
بِأنْ يَكُوْنَ مُسْـلِمَاً ذَا عَقْـلِ
قَـدْ بَلَـغَ الْحُلْمَ سَـلِيْمَ الفِعْلِ
262.
مِنْ فِسْقٍ اوْ خَرْمِ مُرُوْءةٍ وَمَنْ
زَكَّـاهُ عَدلاَنِ ، فَعَـدْلٌ مُؤْتَمَنْ
263.
وَصُحِّحَ اكْتِفَاؤُهُمْ بِالْوَاحِدِ
جَـرْحَاً وَتَعْدِيْلاً خِلاَفَ الشَّـاهِدِ
قالَ ابنُ الصلاحِ : أجمعَ جماهيرُ أئمّةِ الحديثِ والفقهِ ، على أنَّهُ يشترطُ فيمَنْ يُحْتَجُّ برِوَايَتِهِ أنْ يكونَ عدلاً ضابطاً لما يرويِهِ، ثمَّ فَصَّلَ شروطَ العدالةِ، ثُمَّ شروطَ الضبطِ . وقَدَّمْتُ شروطَ الضبطِ على العدالةِ ؛ لتقدمِ الضبطِ في النَّظْمِ .
فقولي : ( أي : يقظاً ) ، إلى قولي : ( وفي العدالةِ ) ، تفسيرٌ للضبطِ ؛ ويَقُـِظَ – بضمِ القافِ وكسرِها – لغتانِ ، حكاهما الجوهريُّ وغيرُهُ . وقولي : ( يحوي كتابَهُ ) ، أي : يحتوي عليه ، ويحفظُهُ من التبديلِ والتغييرِ . وقد نصَّ الشافعيُّ على اعتبارِ هذهِ الأوصافِ فيمَنْ يحتجُّ بخبرِهِ ، فقالَ في كتابِ " الرسالةِ " التي أرسلَ بها إلى عبدِ الرحمنِ بنِ مهديٍّ : لا تقومُ الحجةُ بخبرِ الخاصّةِ حتّى يَجمعَ أموراً منها : أنْ يكونَ مَنْ حَدَّثَ به ثقةً في دينِهِ ، معروفاً بالصدقِ في حديثِهِ ، عاقِلاً لما يُحدِّثُ به ، عالِماً بما يُحِيلُ مَعانِيَ الحديثِ من اللفظِ ، أو يكونَ ممَّنْ يُؤَدِّي الحديثَ بحروفِهِ ، كما سمعَهُ ، لا يُحدِّثُ به على المعنى ؛ لأنَّهُ إذا حدَّثَ به على المعنى ، وهو غيرُ عالمٍ بما يحيلُ معناهُ ،لم يَدْرِ لعلَّهُ يُحيلُ الحلالَ إلى الحرامِ . وإذا أدَّاهُ بحروفِهِ فلم يَبْقَ وجهٌ يُخافُ فيه إحالتُهُ الحديثَ ، حافظاً إنْ حدَّثَ مِنْ حفظِهِ ، حافظاً لكتابِهِ إنْ حدَّثَ مِن كتابِهِ ، إذا شَرِكَ أهلَ الحفظِ في الحديثِ وافَقَ حديثَهُم ، بريئاً من أنْ يكونَ مُدلِّساً ، يُحَدِّثُ عمَّنْ لقيَ ما لم يَسْمَعْ منه ، ويحدِّثُ عن النبيِّ بما يُحدِّثُ الثقاتُ خلافَهُ ، ويكونُ هكذا مَنْ فوقَه ممَّنْ حدَّثَهُ ، حتى يُنْتهَى بالحديثِ موصُولاً إلى النبيِّ ، أو إلى مَنْ انْتُهيَ بهِ إليهِ دونَهُ ؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ منهم مُثبِّتٌ مَنْ حَدَّثَهُ ومُثْبِتٌ على مَن حَدَّثَ عنه ، فلا يُسْتغنَى في كلِّ واحدٍ منهم عمّا وصفْتُ . انتهى كلامُ الشافعيِّ .
وقولي : ( وفي العدالةِ ... ) ، إلى آخر قولي : ( أو خرم مروءة ) ، بيانٌ لشروطِ العدالةِ ، وهي خمسةٌ : الإسلامُ ، والبلوغُ ، والعقلُ ، والسلامةُ من الفسق - وهو ارتكابُ كبيرةٍ ، أو إصرارٌ على صغيرةٍ - والسلامةُ ممّا يخرمُ المروءة ، ولم نذكرْ في شروطِها الحريةَ ، وإنْ ذكرَه الفقهاءُ في الشهاداتِ ؛ لأنَّ العبدَ مقبولُ الروايةِ بالشروطِ المذكورةِ بالإجماعِ ، كما حكاه الخطيبُ بخلافِ الشهادةِ . على أنَّ جماعةً من السلفِ أجازوا شهادةَ العبدِ العدلِ . وإنْ كان الجمهورُ على خلافِ ذلك . وهذا مما تفترقُ فيه الروايةُ والشهادةُ ، كما ذكرهُ القاضي أبو بكرٍ وغيرُهُ .
فهذهِ إذاً شروطُ العدالةِ في الروايةِ . ومَنْ يقبلُ أيضاً روايةَ الصبيِّ المميِّزِ الموثوقِ به ، لم يشترطِ البلوغَ . وفي المسألةِ وجهانِ حكاهما البغويُّ والإمامُ وتَبِعهَما الرَّافعيُّ، إلا أنّهُ قيَّدَ الوجهينِ في التيمُّمِ بالمُراهِقِ،وصحَّحَ عدمَ القبولِ،وتَبِعَهُ عليه النوويُّ ، وقيَّدَهُ في استقبالِ القبلةِ بالمميِّزِ ، وحكى عن الأكثرين عدمَ القبولِ. وحكى النوويُّ في "شرحِ المهذَّبِ" عن الجمهورِ قبولَ أخبارِ الصبيِّ المميِّزِ فيما طريقُهُ المشاهدةُ بخلافِ ما طريقُهُ النقلُ،كالافتاءِ ، وروايةِ الأخبارِ ، ونحوهِ وسبقَهُ إلى ذلك المُتَولِّي فتبعَهُ، واللهُ أعلمُ.
وقولي : ( ومَنْ زَكَّاهُ عدلانِ ) ، إلى آخرهِ ، بيانٌ لما تثبتُ به العدالةُ . فمما تثبتُ به تنصيصُ معدّلِينَ على عدالتِهِ ، كما في الشهادةِ .
واختلفوا هل تثبتُ العدالةُ والجرحُ بالنسبةِ إلى الروايةِ بتعديلِ عدلٍ واحدٍ وجَرحِه ، أو لا يثبتُ ذلك إلا باثنينِ ، كما في الجرحِ والتعديلِ في الشهادات ؛ على قولينِ . وإذا جُمعتِ الروايةُ مع الشهادةِ صارَ في المسألةِ ثلاثةُ أقوالٍ :
أحدُها : أنّهُ لا يقبلُ في التزكيةِ إلا رجلانِ ، سواءٌ التزكيةُ للشهادةِ والروايةِ وهو الذي حكاهُ القاضي أبو بكرٍ الباقلانيُّ عن أكثرِ الفقهاءِ من أهلِ المدينةِ وغيرِهم .
والثاني : الاكتفاءُ بواحدٍ في الشهادةِ والرواية معاً ، وهو اختيارُ القاضي أبي بكرٍ المذكورِ ؛ لأنَّ التزكيةَ بمثابةِ الخبرِ . قال القاضي : والذي يوجبُهُ القياسُ وجوبُ قَبولِ تزكيةِ كُلِّ عدلٍ مَرْضِيٍّ ، ذكرٍ ، أو أنثى ، حرٍّ أو عبدٍ ، لشاهدٍ ومُخبِرٍ .
والثالثُ:التفرقةُ بين الشهادةِ والروايةِ ، فيشترطُ اثنانِ في الشهادةِ ويُكتفى بواحدٍ في الروايةِ.ورجَّحَهُ الإمامُ فخرُ الدينِ ، والسيفُ الآمديُّ ونقلَهُ عن الأكثرينَ . وكذلك نقلَهُ أبو عمرٍو بنُ الحاجبِعن الأكثرينَ،وهو مخالفٌ لما نقلهُ القاضي عنهم . قال ابنُ الصلاحِ:والصحيحُ الذي اختارهُ الخطيبُ وغيرُهُ أنَّهُ يثبتُ في الروايةِ بواحدٍ؛ لأنَّ العددَ لَمْ يُشترطْ في قبولِ الخبرِ،فَلَمْ يشترطْ في جرحِ راويهِ وتعديلهِ بخلافِ الشهاداتِ. وقولي: (بالواحدِ) أي : بالعدلِ الواحدِ ، فيدخلُ فيه تعديلُ المرأةِ العدلِ ، والعبدِ العدلِ .
وقد اختلفوا في تعديلِ المرأةِ ، فحكى القاضي أبو بكرٍ عن أكثرِ الفقهاءِ من أهلِ المدينةِ وغيرِهم : أنّهُ لا يقبلُ في التعديلِ النساءُ ، لا في الروايةِ ، ولا في الشهادةِ . واختار القاضي أنّهُ يُقبلُ تزكيةُ المرأةِ مطلقاً في الروايةِ والشهادةِ ؛ إلا تزكيتُها في الحكمِ الَّذِي لا تُقبلُ شهادتُها فِيْهِ . وأطلق صاحبُ " المحصولِ " وغيرُهُ قبولَ تزكيةِ المرأةِ من غيرِ تقييدٍ بما ذكرهُ القاضي .
وأما تزكيةُ العبدِ ، فقال القاضي أبو بكرٍ : إنَّهُ يجبُ قبولُها في الخبرِ دونَ الشهادةِ ؛ لأنَّ خبَرهُ مقبولٌ ، وشهادَتَهُ مردودةٌ . قَالَ : والذي يوجبُهُ القياسُ وجوبُ قَبولِ تزكيةِ كلِّ عدلٍ مَرْضِيٍّ ، ذكرٍ ، أو أنثى ، حرٍّ ، أو عبدٍ لشاهدٍ ومُخِبرٍ . وهذا ما صرَّحَ بِهِ صاحبُ " المحصولِ " وغيرُهُ . قَالَ الخطيبُ في " الكفايةِ " : الأصلُ في هَذَا البابِ سؤالُ النبيِّ بَرِيرَةَ في قِصَّةِ الإفْكِ عن حالِ عائشةَ أمِّ المؤمنينَ ، وجوابُها لَهُ .
264.
وَصَحَّحُوا استِغْنَاءَ ذِي الشُّهْرَةِ عَنْ
تَزكِيَةٍ ، كـ (مَالكٍ) نَجْمِ السُّـنَنْ
265.
و(لابـنِ عَبْدِ البَـرِّ) كُلُّ مَـنْ عُنِـي
بِـحَمْلِـهِ العِلْـمَ وَلَـمْ يُوَهَّـنِ
266.
فَإنَّـهُ عَــدْلٌ بِقَـوْلِ المُصْطَفَـى
(يَحْمِلُ هَـذَا العِلْمَ) لكِنْ خُوْلِفَـا
أي : وممَّا تثبتُ به العدالةُ : الاستفاضةُ والشهرةُ . فمن اشتهرتْ عدالتُهُ بين أهلِ النقلِ ، أو نحوِهم من أهلِ العلمِ ، وشاعَ الثناءُ عليه بالثقةِ والأمانةِ استُغنيَ فيه بذلك عن بينةٍ شاهدةٍ بعدالتهِ تنصيصاً .
قالَ ابنُ الصَّلاحِ : وهذا هو الصحيحُ في مذهبِ الشافعيِّ ، وَعَلَيْهِ الاعتمادُ في أصولِ الفقهِ . وممَّنْ ذكرَهُ من أهلِ الحديثِ ؛ الخطيبُ ، وَمَّثلَ ذلك بمالكٍ ، وشعبةَ ، والسفيانَيْنِ ، والأوزاعيِّ ، والليثِ ، وابنِ المباركِ ، ووكيعٍ ، وأحمدَ ، وابنِ معينٍ ، وابنِ المدينيِّ ، ومَنْ جرى مجراهم في نَباهةِ الذكرِ واستقامة الأمرِ ، فلا يُسألُ عن عدالةِ هؤلاءِ ، وأمثالهِمِ ، وإنّما يُسأل عن عدالةِ مَنْ خَفِيَ أمرُهُ على الطالبينَ . انتهى . وقد سُئِلَ أحمدُ بنُ حنبلٍ عن إسحاقَ بنِ راهويهِ ، فقال : مثلُ إسحاقَ يُسألُ عنه؟! وسُئِلَ ابنُ معينٍ عن أبي عُبيدٍ، فقال: مثلي يُسألُ عن أبي عبيد ؟! أبو عُبيدٍ يُسألُ عن الناسِ . وقال القاضي أبو بكرٍ الباقلانيُّ : الشاهدُ والمُخبِرُ إنمّا يحتاجانِ إلى التزكيةِ متى لم يكونا مشهورينِ بالعدالةِ والرِّضا ، وكان أمرُهما مُشْكِلاً مُلتبِسَاً ، ومُجوَّزاً فيه العدالةُ وغيرُها . قال : والدليلُ على ذلك أنَّ العلمَ بظهورِ سِتْرِهما . واشتهارُ عدالتهِما أقوى في النفوسِ من تعديلِ واحدٍ واثنينِ يجوز عليهما الكذبُ والمحاباةُ في تعديلِهِ ، وأغراضٌ داعيةٌ لهما إلى وصفِهِ بغيرِ صفتِهِ ، إلى آخركلامِهِ .
وقولي في وصف مالكٍ : ( نجمِ السننِ ) ، اقتداءٌ بالشافعيِّ حيث يقولُ : إذا ذُكِرَ الأثرُ فمالكٌ النَّجْمُ .
وقالَ ابنُ عبد البرِّ : كلُّ حاملِ علمٍ معروفِ العِنايةِ به ، فهو عدلٌ محمولٌ في أمرهِ أبداً على العدالةِ ، حتى يتبينَ جَرْحُهُ . واستدلَّ على ذلك بحديثٍ رواهُ من طريقِ أبي جعفرٍ العُقيليِّ من روايةِ مُعَان بنِ رِفَاعةَ السَّلاَميِّ ، عن إبراهيمَ بنِ عبدِ الرحمنِ العُذريِّ ، قال: قال النبيُّ : (( يَحْمِلُ هذا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عنه تحريفَ الغالينَ ، وانتحالَ المُبْطِلينَ ، وتأويلَ الجاهلينَ )) . أوردَهُ العُقيليُّ في
"الضُّعفاءِ" في ترجمةِ مُعَانِ بنِ رِفَاعةَ،وقال: لا يُعرفُ إلا به . ورواهُ ابنُ أبي حاتِمٍ في مقدّمةِ " الجرحِ والتعديلِ "، وابنِ عَدِيٍّ في مقدّمةِ " الكاملِ " ، وهو مرسلٌ أو معضلٌ ضعيفٌ . وإبراهيمُ الذي أرسلَهُ قالَ فيه ابنُ القطّانِ : لا نعرفُهُ البتةَ في شيءٍ من العلمِ غيرَ هذا . وفي كتاب " العلل " للخَلاَّلِ : أنَّ أحمدَ سُئلَ عن هذا الحديثِ ، فقيلَ له : كأنَّهُ كلامٌ موضوعٌ ؟ فقالَ : لا . هُوَ صحيحٌ . فقيل لَهُ : ممَّنْ سمعتُهُ ؟ قال : من غيرِ واحدٍ . قيل له : مَنْ هُم ؟ قال : حدّثني به مِسْكِينٌ ، إلاّ أنّهُ يقولُ عن مُعَانٍ ، عن القاسمِ بنِ عبدِ الرحمنِ ، قال أحمدُ : ومُعَانٌ لا بأسَ بهِ . ووثَّقَهُ ابنُ المدينيِّ أيضاً . قال ابنُ القطّان : وخَفِيَ على أحمدَ من أمرهِ ما علمَهُ غيرُهُ ، ثم ذكرَ تضعيفَهُ عن ابنِ معينٍ وأبي حاتِمٍ ، والسَّعْديِّ وابنِ عَدِيٍّ ، وابن حبانَ . انتهى . وقد وردَ هذا الحديثُ مرفوعاً مسنداً من حديثِ أبي هريرةَ ، وعبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، وعليِّ بنِ أبي طالبٍ ، وابنِ عُمرَ ، وأبي أُمامةَ ، وجابرِ بنِ سَمُرةَ . وكلُّها ضعيفةٌ . قال ابنُ عَدِيٍّ : ورواهُ الثقاتُ عن الوليدِ بنِ مسلمٍ ، عن إبراهيمَ بنِ عبدِ الرحمنِ العذريِّ ، قال : حدّثنا الثقةُ من أصحابِنا أنَّ رسولَ اللهِ قال : فذَكَرَهُ. وممَّنْ وافقَ ابنَ عبدِ البرِّ على قولِهِ هذا من المتأخّرينَ : أبو عبدِ اللهِ بنُ الموَّاقِ ، فقال في كتابِهِ " بُغيةِ النُّقادِ " : وأهلُ العلمِ محمولونَ على العدالةِ حتى يظهرَ منهم خلافُ ذلكَ .
وقولُهُ : ( لكنْ خُولفا ) ، أي : خُولفَ ابنُ عبدِ البرِّ في اختيارِهِ هذا وفي استدلالهِ بهذا الحديثِ ، أما اختيارُهُ فقالَ ابنُ الصلاحِ : فيما قالَهُ اتّساعٌ غيرُ مَرْضِيٍّ . وأما استدلالُهُ بهذا الحديثِ ، فلا يصحُّ من وجهينِ :
أحدُهما : إرسالُهُ وضعفُهُ .
والثاني : أنَّهُ إنّما يصحُّ الاستدلالُ بهِ ، أنْ لو كان خبراً ، ولا يصحُّ حملُهُ على الخبرِ لوجودِ من يحملُ العلمَ ، وهو غيرُ عدلٍ ، وغيرُ ثقةٍ ، فلم يبقَ له محملٌ إلا على الأمرِ . ومعناهُ أنّهُ أمرَ الثِّقاتِ بحملِ العلمِ ؛ لأنَّ العلمَ إنّما يُقبلُ عن الثقاتِ . والدليلُ عَلَى أنّه للأمرِ : أنَّ في بعضِ طُرقِ أبي حاتِمٍ : (( لِيحْمِلْ هَذَا العلمَ )) ، بلامٍ للأمْرِ .
267.
وَمَنْ يُوَافِقْ غَالِباً ذا الضَّبْطِ
فَضَابِـطٌ، أوْ نَـادِراً فَمُخْطِـيْ
لمّا تقدّمَ أنهُ لا يقبلُ إلاّ العدلُ الضابطُ ، احتيجَ أنْ يذكرَ ما الذي يُعرفُ به ضبطُ الراوي،وذلك بأنْ يُعتبَرَ حديثُهُ بحديثِ الثقاتِ الضابطينَ،فإنْ وافقَهم في روايِتهم في اللفظِ، أو في المعنى ، ولو في الغالبِ ، عرفنا حينئذٍ كونَهُ ضابطاً ، وإن كانَ الغالبُ على حديثِهِ المخالفةَ لهم ، وإنْ وافقَهم فنادرٌ، عرفنا حينئذٍ خطأهُ ، وعدمَ ضبطِهِ ، ولم يحتَجَّ بحديثِهِ.
268.
وَصَحَّحُـوا قَبُـوْلَ تَعْدِيْـلٍ بِلاَ
ذِكْـرٍ لأسْـبَابٍ لَـهُ ، أنْ تَثْقُلاَ
269.
وَلَمْ يَرَوْا قَبُـوْلَ جَرْحٍ أُبْهِمَـا؛
لِلْخُلْفِ فـي أسـبَابِـهِ ، وَرُبَّمَـا
270.
اسْتُفْسِرَ الجَرْحُ فَلَمْ يَقْدَحْ ، كَمَا
فَسَّـرَهُ (شُـعْبَةُ) بِالـرَّكْضِ ، فَمَا
271.
هَـذَا الَّذِي عَلَيْـهِ حُفَّاظُ الأثَرْ
كـ (شَيْخَيِ الصَّحِيْحِ) مَعْ أهْلِ النَّظَرْ
اختُلِفَ في التعديلِ والجرحِ ، هل يقبلانِ ، أو أحدُهما من غيرِ ذكرِ أسبابِهِما ، أم لا يقبلانِ إلاّ مُفسّرَينِ ؟ على أربعةِ أقوالٍ :
الأولُ : وهو الصحيحُ المشهورُ : التفرقةُ بين التعديلِ والجرحِ ، فيقبلُ التعديلُ من غيرِ ذكرِ سببِهِ ؛ لأنَّ أسبابَهُ كثيرةٌ ، فتثقلُ ويشُقُّ ذكرُها ؛ لأنَّ ذلكَ يُحوِجُ المُعدِّلَ إلى أنْ يقولَ ليسَ يفعلُ كذا ولا كذا ، وَيَعُدُّ ما يجبُ عليه تركُهُ . ويفعلُ كذا وكذا ، فيعدُّ ما يجبُ عليه فِعْلُهُ . فيشقُّ ذلك ، ويطُولُ تفصيلُهُ . وأما الجرحُ فإنَّهُ لا يُقبلُ إلا مفسَّراً مُبَيَّنَ السببِ ؛ لأنَّ الجرحَ يحصلُ بأمرٍ واحدٍ ، فلا يشقُّ ذِكْرُهُ ؛ ولأنَّ الناسَ مختلفونَ في أسبابِ الجرحِ . فيطلقُ أحدُهم الجرحَ بناءً على ما اعتقدَهُ جرحاً ، وليس بجرحٍ في نفسِ الأمرِ ، فلا بدَّ من بيانِ سببِهِ ، ليَظْهرَ أهو قادحٌ أم لا ؟
ويدلُّ على أنَّ الجرحَ لا يُقبلُ غيرَ مُفَسَّرٍ ، أنّهُ ربَّما استُفْسِرَ الجارحُ ، فذكرَ ما ليس بجرحٍ .
فقد روى الخطيبُ بإسنادِهِ إلى محمدِ بنِ جعفرٍ المدائنيِّ ، قال : قيل لشعبةَ : لِمَ تركتَ حديثَ فلانٍ؟ قَالَ : رأيتُهُ يركُضُ عَلَى بِرْذَوْنٍ ، فتركتُ حديثَهُ .
وقولي في آخرِ البيتِ: ( فما )، أي: فماذا يلزمُ من ركضِهِ على برذونٍ . وروى بنُ أبي حاتِمٍ ، عن يحيى بنِ سعيدٍ ، قالَ : أتى شعبةُ المِنْهالَ بنَ عمرٍو ، فسمِعَ صوتاً فترَكَهُ . قال بنُ أبي حاتِمٍ : سمعتُ أبي يقولُ : يعني أنّهُ سَمِعَ قراءةً بألحانٍ فكَرِهَ السماعَ منه من أجلِ ذلك . هكذا قالَ أبو حاتِمٍ في تفسيرِ الصوتِ . وقد روى الخطيبُ بإسنادِهِ إلى وَهْبِ بنِ جريرٍ ، قالَ : قالَ شعبةُ : أتيتُ منـزلَ المِنْهالِ بنِ عَمْرٍو فسمعتُ منه صوتَ الطُّنْبُورِ ، فرجعتُ . فقيلَ له : فهلاَّ سألتَ عنه أنْ لا يَعْلَمَ هو . وروينا عن شعبةَ قال : قلتُ للحكمِ بنِ عُتَيْبةَ : لِمَ لَمْ تروِ عن زَاذانَ ؟ قال : كانَ كثيرَ الكلامِ . وقال محمدُ بنُ حُميدٍ الرازيُّ : حدّثنا جريرٌ قال : رأيتُ سِمَاكَ بنَ حَرْبٍ يبولُ قائماً ، فلم أكتبْ عنه . وقد عقدَ الخطيبُ لهذا باباً في " الكفاية " .
والقولُ الثاني : عكسُ القولِ الأولِ ، أنّهُ يجبُ بيانُ سببِ العدالةِ ، ولا يجبُ بيانُ سببِ الجرحِ ؛ لأنَّ أسبابَ العدالةِ يكثرُ التَّصنُّعُ فِيْهَا ، فيبني المُعدِّلُونَ عَلَى الظاهرِ . حكاهُ صاحبُ " المحصولِ " ، وغيرُهُ . ونقلَهُ إمامُ الحرمينِ في " البرهانِ " ، والغزاليُّ في " المنخولِ " تَبَعاً له ؛ عن القاضي أبي بكرٍ . والظاهرُ أنّهُ وَهْمٌ منهما ، والمعروفُ عنه أنّهُ لا يجبُ ذكرُ أسبابِهِما معاً ، كما سيأتي .
والقولُ الثالثُ : أنَّهُ لابدَّ من ذكرِ أسبابِ العدالةِ والجرحِ معاً . حكاهُ الخطيبُ، والأصوليونَ ، قالوا : وكما قد يجرحُ الجارحُ بما لا يَقْدحُ ، كذلك قد يوثّقُ المُعَدِّلُ بما لا يقتضي العدالةَ . كما روى يعقوبُ الفَسَويُّ في " تاريخه " ، قال : سمعتُ إنساناً يقولُ لأحمدَ بنِ يونسَ : عبدُ اللهِ العمريُّ ضعيفٌ. قال : إنّما يضعّفُهُ رافضيٌّ مبغِضٌ لآبائِهِ، لو رأيتَ لحيتَهُ ، وخِضابَهُ ، وهيئتَهُ ؛ لعرفتَ أنّهُ ثقةٌ . فاستدلَّ أحمدُ بنُ يونسَ على ثقتِهِ بما ليسَ بحجّة ، لأنَّ حُسنَ الهيئةِ يشتركُ فيه العَدْلُ والمجروحُ .
والقولُ الرابعُ : عكسُهُ : أنّهُ لا يجبُ ذكرُ سببٍ واحدٍ منهما ، إذا كانَ الجارحُ والمعدِّلُ عالماً بصيراً . وهو اختيارُ القاضي أبي بكرٍ ، ونقلَهُ عن الجمهورِ فقال : قالَ الجمهورُ من أهلِ العلمِ : إذا جَرَحَ مَنْ لا يعرفُ الجَرْحَ ، يجبُ الكشفُ عن ذلكَ . ولم يوجبوا ذلك على أهلِ العلمِ بهذا الشأنِ . قال : والذي يقوِّي عندنا تركُ الكشفِ عن ذلك ، إذا كان الجارحُ عالماً ، كما لا يجبُ استفسارُ المعدِّلِ عمّا بهِ صارَ عندَهُ المزكّى عدلاً ، إلى آخرِ كلامِهِ . وممَّن حكاهُ عن القاضي أبي بكرٍ، الغزاليُّ في "المستصفى" خلافَ ما حكاهُ عنه في " المنخولِ " . وما ذَكَرَهُ عنه في " المستصفى " هو الذي حكاهُ صاحبُ " المحصولِ " ، والآمديُّ ، وهو المعروفُ عن القاضي ، كما رواهُ عنه الخطيبُ في " الكفايةِ " .
والقولُ الأولُ هو الذي نصَّ عليه الشافعيُّ . وقالَ الخطيبُ: هو الصوابُ عندنا. وقالَ ابنُ الصلاحِ : إنّهُ الصحيحُ المشهورُ . وحكى الخطيبُ أنّهُ ذهبَ الأئمةُ من حفّاظِ الحديثِ ونقّادِهِ ، مثلُ البخاريِّ ، ومسلمٍ ، وغيرِهما ، إلى أنَّ الجرحَ لا يُقبلُ إلا مفسَّراً . قال ابنُ الصلاحِ : وهو ظاهرٌ مقررٌ في الفقِهِ وأُصولِهِ .
272.
فَإنْ يُقَـلْ: (قَـلَّ بَيَانُ مَنْ جَـرَحْ)
كَذَا إذَا قَالُوا: (لِمَتْنٍ لَمْ يَصِحْ)
273.
وَأبْهَمُـوا،فَالشَّـيْخُ قَـدْ أجَابَـا
أنْ يَجِبَ الوَقْـفُ إذا اسْـتَرَابـا
274.
حَتَّـى يُـبِيْـنَ بَـحْثُـهُ قَبُـوْلَـهْ
كَمَنْ أُوْلُو الصَّـحِيْحِ خَرَّجُوا لَهْ
275.
فَفـي (البُخَارِيِّ) احتِجَاجاً (عِكْرِمَه)
مَعَ(ابْنِ مَرْزُوْقٍ)، وَغَيْرُ تَرْجَمَهْ
276.
وَاحْتَـجَّ (مُسْـلِمٌ) بِمَـنْ قَدْ ضُعِّفَا
نَحْوَ (سُـوَيْدٍ) إذْ بِجَرْحٍ مَا اكتَفَى
277.
قُلْتُ : وَقَـدْ قَـالَ (أبُـو المَعَـاليْ)
، واخْتَـارَهُ تِلْمِيْـذُهُ ( الغَـزَاليْ)
278.
و(ابْنُ الخَطِيْبِ) : الْحَقُّ أنْ يُحْكَمْ بِمَا
أطْلَقَـهُ العَالِـمْ بِأسْـبَابِهِمَا
هذا سؤالٌ أوردَهُ ابنُ الصلاحِ على قولِهِم : إنَّ الجرحَ لا يُقبلُ إلا مفسَّرَاً . وكذلك تضعيفُ الحديثِ ، فقال : ولقائلٍ أنْ يقولَ : إنّما يعتمدُ الناسُ في جرحِ الرواةِ ، وردِّ حديثِهِم ، على الكُتُبِ التي صنَّفَها أئمةُ الحديثِ في الجرحِ ، أو في الجرحِ والتعديلِ . وقلَّما يتعرضونَ فيها لبيانِ السببِ،بل يقتصرونَ على مجردِ قولِهم:فلانٌ ضعيفٌ،وفلانٌ ليس بشيءٍ،ونحوُ ذلك.وهذا حديثٌ ضعيفٌ ، وهذا حديثٌ غيرُ ثابتٍ، ونحوُ ذلكَ. فاشتراطُ بيانِ السببِ،يُفضِي إلى تعطيلِ ذلكَ،وسدِّ بابِ الجرحِ في الأغلبِ الأكثرِ.قال:وجوابُهُ أنَّ ذلكَ وإنْ لم نعتمدْهُ في إثباتِ الجرحِ،والحكمِ بهِ،فقد اعتمدناهُ في أنْ توقَّفنا عن قبولِ حديثِ مَنْ قالوا فيه مثلَ ذلك،بناءً على أنَّ ذلك أوقعَ عندنا فيهم رِيبةً قويةً، يوجبُ مثلُها التوقُّفَ . ثم مَنِ انزاحتْ عنه الريبةُ منهم ، ببحثٍ عن حالِهِ ، أوْجَبَ الثقةَ بعدالتِهِ ؛ قبلنا حديثَه ، ولم نتوقَّفْ . كالذينَ احتجَّ بهم صاحِبا " الصحيحينِ " ، وغيرُهما ممَّنْ مسَّهم مثلُ هذا الجرحِ من غيرِهم . فافْهَمْ ذلك فإنهُ مَخْلَصٌ حسَنٌ. ولمّا نقلَ الخطيبُ عن أئمّة الحديثِ: أنَّ الجرحَ لا يُقبلُ إلا مفسَّرَاً ، قال : فإنَّ البخاريَّ احتجَّ بجماعةٍ سبقَ من غيرِهِ الطعنُ فيهم،والجرحُ لهم ، كعِكْرِمَةَمولى ابنِ عبّاسٍ في التابعينَ،وكإسماعيلَبنِ أبي أويسٍ ، وعاصمِ بنِ عليٍّ ، وعمرِو بنِ مَرْزوقٍ في المتأخّرينَ .
قالَ : وهكذا فعلَ مسلمٌ ، فإنّهُ احتجَّ بسُوَيْدِ بنِ سعيدٍ ، وجماعةٍ غيرِهم ، اشتَهَرَ عمَّنْ ينظرُ في حالِ الرواةِ الطعنُ عليهم . قالَ : وسلكَ أبو داودَ هذه الطريقةَ، وغيرُ واحدٍ ممَّنْ بعدَهُ .
وقولي : ( إذ بجرح ) ، أي : بمطلقِ جرحٍ ، وذلك لأنَّ سويدَ بنَ سعيدٍ صدوقٌ في نفسهِ، كما قالَ أبو حاتمٍ ، وصالحٌ جزرةُ ، ويعقوبُ بنُ شيبةَ وغيرُهم . وقد ضعّفهُ البخاريُّ ، والنسائيُّ . فقال البخاريُّ : حديثُهُ منكرٌ . وقال النسائيُّ : ضعيفٌ . ولم يفسِّرِ الجرحَ . وأكثرُ مَنْ فَسَّرَ الجرحَ فيه ، ذكرَ أنّهُ لما عَمِي ربَّما تلقّنَ الشيءَ . وهذا وإنْ كانَ قادحاً فإنّما يقدحُ فيما حدّثَ به بعد العَمى ، وما حدَّثَ به قبلَ ذلك فصحيحٌ . ولعلَّ مسلماً إنّما خَرَّجَ عنه ما عُرِفُ : أنَّهُ حدَّثَ به قبلَ عَماهُ . وأما تكذيبُ ابنِ معينٍ له، فإنّه أنكرَ عليه ثلاثةَ أحاديثَ : حديثَ : (( مَنْ عَشِقَ ، وعَفَّ ))، وحديثَ : (( مَنْ قالَ في دِيننا بِرَأيهِ فاقتُلُوهُ )) ، وحديثَهُ عن أبي معاويةَ، عن الأعمشِ ، عن عطيّةَ ، عن أبي سعيدٍ مرفوعاً : (( الحسنُ والحُسَينُ سَيِّدا شبابِ أهلِ الجنَّةِ )) . فقالَ ابنُ مَعِينٍ : هذا باطلٌ عن أبي معاويةَ . قال الدارقطنيُّ : فلما دخلتُ مِصْرَ ، وجدْتُ هذا الحديثَ في مُسندِ المَنْجَنِيْقيِّ ، وكان ثقةً ، عن أبي كُرَيبٍ ، عن أبي معاويةَ ، فتخلَّصَ منه سُويدٌ ، فأنكرَهُ عليه ابنُ معينٍ ؛ لظنِّهِ أنَّهُ تفرّدَ به عن أبي معاويةَ ، ولا يحتملُ التفرّدَ ، ولم ينفردْ بهِ ، وإنّما كذَّبَهُ ابنُ معينٍ فيما تلقّنَهُ آخراً . فنسبَهُ إلى الكذبِ لأجلهِ . ويدلُّ عليه أنَّ محمّدَ بنَ يحيى السُّوسيَّ ، قال : سألتُ ابنَ معينٍ ، عن سُويدٍ ، فقال : فيما حدَّثَكَ فاكتُبْ عنه ، وما حدَّثَكَ به تلقيناً فلا . فَدَلَّ هذا على أنّهُ صدوقٌ عندَهُ ، أنْكَرَ عليه ما تلقَّنَهُ ، واللهُ أعلمُ .
وإنّما روى عنه مسلمٌ لطلبِ العُلوِّ مما صحَّ عندَهُ بنـزولٍ . ولم يخرجْ عنه ما انفرَدَ به . وقد قالَ إبراهيمُ بن أبي طالبٍ : قلتُ لمسلمٍ : كيفَ استجزتَ الروايةَ عن سويدٍ في الصحيحِ ؟ فقال : ومِنْ أين كنتُ آتي بنسخةِ حفصِ بنِ ميسرةَ ؟ وذلك أنَّ مسلماً لم يروِ عن أحدٍ ممَّنْ سمعَ مِنْ حفصِ بنِ ميسرةَ في الصحيحِ ، إلا عن سويدِ بنِ سعيدٍ فقط . وقد رَوَى في الصحيحِ عن واحدٍ ، عن ابنِ وَهْبٍ ، عن حفصٍ ، والله أعلمُ .
وقولي: ( قلتُ … ) إلى آخر البيتينِ ، هو من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ . وهما ردٌّ على السؤالِ الذي ذكرهُ ، وذلك أنَّ إمامَ الحرمينِ ، أبا المعَالي الجُوينيَّ ، قالَ في كتابِ " البُرهانِ " : الحقُّ أنّهُ إنْ كان المزكّيِّ عالماً بأسبابِ الجرحِ والتعديلِ ، اكتفينا بإطلاقِهِ . وإلاّ فلا . وهذا هو الذي اختارَهُ أبو حامدٍ الغزاليُّ ، والإمامُ فخرُ الدينِ بنُ الخطيبِ ، وقد تقدّم نقلُهُ في شرحِ الأبياتِ التي قبلَ هذهِ عن القاضي أبي بكرٍ ، وأنّهُ نقلَهُ عن الجمهورِ . وممَّنْ اختارَهُ أيضاً من المحدّثينَ : الخطيبُ ، فقالَ بعدَ أنْ فرّقَ بينَ الجرحِ والتعديلِ في بيانِ السببِ : على أنّا نقولُ أيضاً : إنْ كان الذي يرجعُ إليهِ في الجرحِ عدلاً مرضيّاً في اعتقادِهِ ، وأفعالِهِ ، عارفاً بصفةِ العدالةِ والجرحِ ، وأسبابِهما ، عالماً باختلافِ الفقهاءِ في أحكامِ ذلك ؛ قُبِلَ قولُهُ فيمَنْ جرحَهُ مجملاً ، ولا يُسألُ عَنْ سببهِ .
279.
وَقَدَّمُوا الجَرْحَ، وَقِيْلَ : إنْ ظَهَرْ
مَنْ عَدَّلَ الأكْثَرَ فَهْـوَ المُعْتَبَـرْ
إذا تعارضَ الجرحُ والتعديلُ في راوٍ واحدٍ . فجرَّحَهُ بعضُهم ، وَعدَّلَهُ بعضُهم ، ففيهِ ثلاثةُ أقوالٍ :
أحدُها:أنَّ الجرحَ مقدَّمٌ مطلقاً، ولو كانَ المعدِّلُونَ أكثرَ.ونقلَهُ الخطيبُعن جمهورِ العلماءِ.وقال ابنُ الصلاحِ:إنَّهُ الصحيحُوكذا صحَّحَهُ الأصوليونَ،كالإمامِ فخرِ الدينِ والآمديِّ ؛ لأنَّ مع الجارحِ زيَادةَ علمٍ ، لم يطّلعْ عليها المعدِّل ؛ ولأنَّ الجارحَ مصدّقٌ للمعدِّل فيما أخبرَ به عن ظاهرِ حالِهِ ، إلا أنّهُ يخبرُ عن أمرٍ باطنٍ خَفِي عن المعدِّلِ .
والقولُ الثاني : أنّهُ إنْ كانَ عددُ المعدّلينَ أكثرَ قُدِّمَ التعديلُ . حكاه الخطيبُ في " الكفايةِ " ، وصاحبُ " المحصولِ " ؛ وذلك لأنَّ كثرةَ المعدّلين تقوِّي حالَهُم ، وتوجبُ العملَ بخبرِهم . وقلّةَ الجارحينَ تُضْعِفُ خبرَهُم . قال الخطيبُ : وهذا خطأٌ وبُعْدٌ ممَّنْ توهَّمَهُ ؛ لأنَّ المعدِّلين ، وإن كثروا ليسُوا يخبرُونَ عن عَدَمِ ما أخبرَ به الجارحُونَ . ولو أخبرُوا بذلكَ لكانتْ شهادةً باطلةً على نفيٍّ .
والقولُ الثالثُ:أنّهُ يتعارضُ الجرحُ والتعديلُ فلا يرجَّحُ أحدُهما ، إلاّ بمرجِّحٍ ، حكاهُ ابنُ الحاجبِ. وكلامُ الخطيبِ يقتضي نفي هذا القولِ الثالثِ.فإنّهُ قالَ : اتّفقَ أهلُ العلمِ على أنَّ مَنْ جَرَّحَهُ الواحدُ والاثنانِ ، وعَدَّلَهُ مثلُ عددِ مَنْ جَرَّحَهُ ، فإنَّ الجرحَ به أولى. ففي هذهِ الصورةِ حكايةُ الإجماعِ على تقديمِ الجرحِ،خلافَ ما حكاهُ ابنُ الحاجبِ .
وقولي: ( الأكثرَ ) ، هو في موضعِ الحالِ ، وجاءَ معرّفاً ،كما قُرِئَ في الشاذِّ قولُهُ تعالى: لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُ مِنْهَا الأذَلَّ . على أنَّ ( يَخرجُ ) : ثلاثيٌّ قاصرٌ، و( الأذلَّ ) : في موضعِ الحالِ .
280.
وَمُبْهَـمُ التَّعْدِيْـلِ لَيْسَ يَكْتَفِيْ
بِهِ (الخَطِيْبُ) والفَقِيْـهُ (الصَّيْرَفِيْ)
281.
وَقِيْلَ : يَكْفِي ، نَحْوُ أنْ يُقالا:
حَدَّثَنِـي الثِّقَـةُ ، بَـلْ لَوْ قَالاَ :
282.
جَمِيْعُ أشْـيَاخِي ثِقَاتٌ لَـوْ لَمْ
أُسَـمِّ ، لاَ يُقْبَلُ مَـنْ قَـدْ أَبْهَمْ
283.
وَبَعْضُ مَـنْ حَقَّـقَ لَمْ يَـرُدَّهُ
مِنْ عَالِـمٍ في حَـقِّ مَـنْ قَلَّـدَهُ
التعديلُ على الإبهامِ من غيرِ تسميةِ المعدَّلِ ، كما إذا قال : حدّثني الثقةُ ، ونحوَ ذلك ، من غيرِ أنْ يسمّيَهُ ؛ لا يُكتَفَى به في التوثيقِ ، كما ذكرهُ الخطيبُ أبو بكرٍ ، والفقيهُ أبو بكرٍ الصَّيْرفيُّ ، وأبو نصرٍ بنُ الصَّبَّاغِ من الشافعيةِ ، وغيرُهم . وحكى ابنُ الصباغِ في " العُدَّةِ " عن أبي حنيفةَ أنّهُ يُقْبَلُ ، وهو ماشٍ على قولِ مَنْ يحتجُّ بالمرسلِ ، وأولى بالقبولِ . والصحيحُ الأولُ ؛ لأنَّهُ وإنْ كان ثقةً عندَهُ ، فربَّما لو سمّاهُ لكان ممَّنْ جَرَّحَهُ غيرُهُ بجرحٍ قادحٍ . بل إضرابُهُ عن تَسْمِيتِهِ ريبةٌ تُوْقِعُ تردداً في القلبِ . بل زادَ الخطيبُ على هذا بأنّهُ لو صَرَّحَ بأنَّ جميعَ شيوخِهِ ثقاتٌ ، ثم رَوى عمَّنْ لم يسمِّهِ ، أنّا لا نعملُ بتزكيتهِ له . قالَ الخطيبُ في " الكفايةِ " : (( إذا قالَ العَالِمُ كُلُّ مَنْ رَوَيْتُ عنه فهو ثقةٌ ، وإنْ لم أُسمِّهِ . ثم رَوَى عمَّنْ لم يُسَمِّهِ ، فإنّهُ يكونُ مُزَكِّيَاً لهُ . غيرَ أنَّا لا نَعملُ على تزكيتِهِ ؛ لجوازِ أنْ نعرفَهُ إذا ذكرَهُ بخلاف العدالةِ )) . نعمْ ، إذا قالَ العالمُ : كُلُّ مَنْ أَروي لكم عنه وأُسميهِ فهو عدلٌ مرضيٌّ مقبولُ الحديثِ كان هذا القولُ تعديلاً لكلِّ مَنْ رَوَى عنه وسمَّاهُ. هكذا جزمَ به الخطيبُ ، قال : وكان ممَّنْ سلكَ هذهِ الطريقةَ عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ . زادَ البيهقيُّ مع ابنِ مهديٍّ مالكَ بنَ أنسٍ ، ويحيى بنَ سعيدٍ القطّانِ . قال : وقد يوجدُ في روايةِ بعضِهم الروايةُ عن بعضِ الضُّعفاءِ لخفاءِ حالِهِ عليهِ ، كروايةِ مالكٍ ، عن عبد الكريمِ بن أبي المُخَارِقِ .
وفي التعديلِ على الإبهامِ قولانِ آخرانِ :
أحدُهما : أنّهُ يقبلُ مطلقاً ، كما لو عيَّنَهُ ؛ لأنَّهُ مأمونٌ في الحالتينِ معاً .
القولُ الثاني : وهو ما حكاهُ ابنُ الصلاحِ عن اختيارِ بعضِ المحقّقينَ أنّهُ إنْ كانَ القائلُ لذلك عالماً أجزأَ ذلكَ في حقِّ مَـنْ يوافقُـهُ في مذهبِهِ كقـولِ مالكٍ : أخبـرني الثقةُ ، وكقولِ الشافعيِّ ذلكَ أيضاً في مواضعَ . وعليه يدلُّ كلامُ ابنِ الصباغِ في " العدّةِ " ، فإنّهُ قال : إنَّ الشافعيَّ لم يُورِدْ ذلكَ احتجاجاً بالخبرِ على غيرِهِ ، وإنَّما ذَكَرَ لأَصحابهِ قيامَ الحجَّةِ عندَهُ على الحُكْمِ. وقد عرف هو مَنْ رَوَى عنه ذلك . وقد بَيَّنَ بعضُ العلماءِ بعضَ ما أبهما مِنْ ذلكَ باعتبارِ شيوخِهما . فحيثُ قال مالكٌ: عن الثقةِ –عندَهُ– عن بُكَيْرِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الأشجِّ. فالثقةُ مَخْرَمَةُ بنُ بُكَيْرٍ. وحيث قالَ : عن الثقةِ ، عن عمرِو بنِ شُعيبٍ ، فقيلَ : الثقةُ عبدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ ، وقيل : الزهريُّ . ذكر ذلك أبو عُمر بنُ عبدِ البرِّ. وقالَ أبو الحسنِ محمدُ بنُ الحسينِ بنِ إبراهيمَ الأثريُّ السجستانيُّ في كتابِ " فضائلِ الشافعيِّ " : سمعتُ بعضَ أهلِ المعرفةِ بالحديثِ يقولُ : إذا قال الشافعيُّ في كتبهِ : أخبرنا الثقةُ ، عن ابنِ أبي ذِئْبٍ ، فهو ابنُ أبي فُدَيكَ . وإذا قالَ : أخبرنا الثقةُ ، عن الليثِ بنِ سعدٍ ، فهو يحيى بنُ حَسَّانَ . وإذا قال : أخبرنا الثقةُ ، عن الوليدِ بنِ كثيرٍ فهو أبو أسامَةَ . وإذا قال : أخبرنا الثقةُ، عن الأوزاعيِّ،فهو عمرُو بنُ أبي سَلَمَةَ.وإذا قال: أخبرنا الثقةُ ، عن ابنِ جُريجٍ ، فهو مسلمُ بنُ خالدٍ. وإذا قالَ : أخبرنا الثقةُ ، عن صالحٍ مولى التَّوْأَمَةِ ، فهو إبراهيمُ بنُ أبي يحيى.
284.
وَلَمْ يَرَوْا فُتْيَاهُ أوْ عَمَلَهُ
-عَلَى وِفَاقِ المَتْنِ- تَصْحِيْحَاً لَهُ
285.
وَلَيْسَ تَعْدِيلاً عَلَى الصَّحِيْحِ
رِوَايَةُ العَدْلِ عَلَى التَّصْرِيْحِ
أيْ : ولم يَرَوْا فُتيا العالمِ على وفقِ حديثٍ حُكماً منه بصحةِ ذلك الحديثِ ؛ لإمكانِ أنْ يكونَ ذلك منه احتياطاً ، أو لدليلٍ آخرَ وافقَ ذلكَ الخبرَ . وأما روايةُ العدلِ عن شيخٍ بصريحِ اسمِهِ ، فهلْ ذلكَ تعديلٌ له أم لا ؟ فيه ثلاثة أقوالٍ :
أحدُها : أنَّهُ ليس بتعديلٍ ؛ لأنَّهُ يجوزُ أنْ يرويَ عن غيرِ عَدْلٍ . وهذا قولُ أكثرِ العلماءِ من أهلِ الحديثِ ، وغيرِهم . وهو الصحيحُ ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ .
والثاني : أنّهُ تعديلٌ مطلقاً ؛ إذ لو علمَ فيه جرحاً لذكرَهُ ، ولكان غاشاً في الدينِ ، لو علِمَهُ ولم يذكرْهُ حكاه الخطيبُ وغيرُهُ . قال أبو بكر الصَّيْرفيُّ : وهذا خطأٌ ؛ لأنَّ الروايةَ تعريفٌ لهُ والعدالةُ بالخبرةِ .
وأجاب الخطيبُ : بأنَّهُ قد لا يَعلمُ عدالتَهُ ، ولا جرحَهُ .
والثالث : أنّهُ إنْ كانَ ذلكَ العَدْلُ الذي روي عنه لا يَروي إلا عن عدلٍ كانت روايتُهُ تعديلاً ، وإلاّ فلا . وهذا هـو المختارُ عن الأصوليينَ ، كالسيفِ الآمديِّ ، وأبي عمرِو بنِ الحاجبِ ، وغيرِهما . أما إذا رَوَى عَنْهُ من غيرِ تصريحٍ باسمِهِ ، فإنهُ لا يكونُ تعديلاً ، بَلْ وَلَوْ عدلهُ عَلَى الإبهامِ لَمْ يكتفِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
286.
وَاخْتَلَفُوا : هَلْ يُقْبَلُ المَجْهُوْلُ؟
وَهْوَ –عَلَى ثَلاَثَةٍ- مَجْعُوْلُ
287.
مَجْهُوْلُ عَيْنٍ : مَنْ لَهُ رَاوٍ فَقَطْ ،
وَرَدَّهُ الأَكْثَرُ ، وَالقِسْمُ الوَسَطْ :
288.
مَجْهُوْلُ حَالٍ بَاطِنٍ وَظَاهِرِ
وَحُكْمُهُ : الـرَّدُّ لَدَى الجَمَاهِرِ،
289.
وَالثَّالِثُ : المَجْهُولُ لِلعَدالَه
في بَاطِنٍ فَقَطْ . فَقَدْ رَأَى لَه
290.
حُجِّيَّةً-في الحُكْمِ-بَعْضُ مَنْ مَنَعْ
مَا قَبْلَهُ ، مِنْهُمْ (سُلَيْمٌ) فَقَطَعْ
291.
بِهِ ، وَقَالَ الشَّيْخُ : إنَّ العَمَلا
يُشْبِهُ أنَّهُ عَلَى ذَا جُعِلا
292.
في كُتُبٍ منَ الحَدِيْثِ اشْتَهَرَتْ
خِبْرَةُ بَعْضِ مَنْ بِهَا تَعَذَّرَتْ
293.
في بَاطِنِ الأمْرِ ، وبَعْضٌ يَشْهَرُ
ذَا القِسْمَ مَسْتُوْراً ، وَفِيْهِ نَظَرُ
اختلفَ العلماءُ في قَبولِ روايةِ المجهولِ ، وهو على ثلاثةِ أقسامٍ : مجهولِ العينِ ، ومجهولِ الحالِ ظاهراً وباطناً ، ومجهولِ الحال باطناً .
القسمُ الأولُ : مجهولُ العَيْنِ ، وهو مَنْ لم يروِ عنه إلا راوٍ واحدٌ . وفيه أقوالٌ :
الصحيحُ الذي عليه أكثرُ العلماءِ من أهلِ الحديثِ ، وغيرِهم ، أنّهُ لا يقبلُ .
والثاني: يقبلُ مطلقاً.وهذا قولُ مَنْ لم يشترطْ في الراوي مزيداً على الإسلامِ.
والثالثُ : إن كان المنفردُ بالروايةِ عنه لا يروي إلا عَنْ عَدْلٍ ، كابنِ مهديٍّ ، ويحيى بنِ سعيدٍ ، ومَنْ ذُكرَ معهُما ، واكتفينا في التعديلِ بواحدٍ قُبلَ ، وإلاّ فلا .
والرابعُ : إنْ كان مشهوراً في غيرِ العلمِ بالزُّهْدِ ، أو النَّجْدةِ قُبلَ ، وإلاّ فلا . وهو قولُ ابنِ عبدِ البرِّ ، وسيأتي نقلهُ عنه .
والخامسُ : إنْ زَكَّاه أحدٌ من أئمةِ الجرحِ والتعديلِ مع روايةِ واحدٍ عنهُ قُبل ، وإلاّ فلا . وهو اختيارُ أبي الحسنِ بنِ القطّانِ في كتابِ " بيان الوهمِ والإيهامِ " .
قال الخطيبُ في " الكفاية " : المجهولُ عند أصحابِ الحديثِ : كُلُّ مَنْ لم يشتهرْ بطلبِ العلمِ في نفسِهِ ، ولا عرفَهُ العلماءُ به . ومَنْ لم يُعرفْ حديثُهُ إلاّ من جهةِ راوٍ واحدٍ، مثلُ : عَمْرٍو ذِي مرٍّ ، وجَبَّارٍ الطَّائيِّ ، وعبدِ اللهِ بنِ أَعَزَّ الهَمْدانيِّ ، والهَيْثَمِ بنِ حَنَشٍ ، ومالكِ بنِ أَعزَّ ، وسعيدِ بنِ ذي حُدَّانَ ، وقَيْسِ بنِ كُرْكُمٍ ، وخَمْرِ بنِ مالكٍ . قال : وهؤلاءِ كلُّهم لم يَرْوِ عنهم غيرُ أبي إسحاقَ السَّبِيعيِّ . ومثلُ : سَمْعانَ بنِ مُشَنَّجٍ ، والهَزْهازِ بنِ مَيْزنٍ ، لا يُعرفُ عنهما راوٍ إلاّ الشَّعبيُّ . ومثلُ : بَكْرِ بنِ قِرْواشٍ ، وحَلاَّمِ بنِ جَزْلٍ ، لم يروِ عنهما إلا أبو الطُّفَيلِ عامرُ بنُ واثلةَ . ومثلُ : يزيدَ بنِ سُحَيْمٍ ، لم يروِ عنه إلا خِلاَسُ بنُ عَمْرٍو . ومثلُ : جُرَي بنِ كُلَيبٍ ، لم يروِ عنه إلا قتادةُ بن دِعَامةَ . ومثلُ : عُمَيرِ بنِ إسحاقَ ، لم يروِ عنه سوى عبدِ اللهِ بنِ عَوْنٍ . وغيرُ من ذَكرنا . وروينا عن محمدِ بنِ يحيى الذُّهْلِيِّ ، قال : إذا رَوَى عن المحدِّثِ رجلانِ ارتفعَ عنه اسمُ الجهالةِ . وقال الخطيبُ : أقلُّ ما تُرفعُ به الجهالةُ أن يرويَ عنه اثنانِ فصاعداً ، من المشهورينَ بالعلمِ ، إلا أنّه لا يثبتُ له حكمُ العدالةِ بروايتهِما عنه . واعترضَ عليه ابنُ الصلاحِ بأنَّ الهَزْهازَ رَوَى عنه الثوريُّ أيضاً . قلت : وروى عنه أيضاً الجرَّاحُ بنُ مَلِيحٍ ، فيما ذكرَهُ ابنُ أبي حاتمٍ ، وسمَّى أباهُ مازناً، بالألفِ لا بالياءِ . ولعلَّ بعضَهُم أمالَهُ فكتبَهُ بالياءِ . وخَمْرُ ابنُ مالكٍ روى عنه أيضاً عبدُ اللهِ بنُ قَيْسٍ ، وذكرَهُ ابنُ حبّانَ في " الثقاتِ " ، وسمَّاهُ خُمَيْرَ بنَ مالكٍ ، وذكرَ الخلافَ فيه في التَّصْغيرِ والتّكبيرِ ابنُ أبي حاتِمٍ . وكذلِكَ الهَيْثمُ ابنُ حَنَشٍ رَوَى عنه أيضاً سَلَمةُ بنُ كُهَيْل ، قالَهُ أبو حاتمٍ الرازيُّ . وأما عبدُ اللهِ بنُ أَعزّ ، ومالكُ بن أعزَّ ، فقد جعلَهُما ابنُ ماكولا واحداً ، اختُلفَ على أبي إسحاقَ في اسمِهِ . وبَكْرُ بنُ قِرْواشٍ روى عنه أيضاً قتادةُ فيما ذكرَهُ البخاريُّ ، وابنُ حبّانَ في " الثقاتِ " . وسمَّى ابن أبي حاتم أباهُ قُرَيشاً . وحَلاَّمُ بنُ جَزْلٍ ذكرَهُ البخاريُّ في " تاريخه " فقالَ : حِلاَبٌ ، أي : بباء موحّدةٍ ، وخطَّأهُ ابنُ أبي حاتمٍ في كتابٍ جمعَ فيهِ أوهامَهُ في " التاريخ " ، وقال : (( إنّما هو حَلاَّمٌ )) ، أي : بالميمِ . ثم تعقّبَ ابنُ الصلاحِ بعضَ كلامِ الخطيبِ المتقدّم بأنْ قال : قد خَرَّجَ البخاريُّ حديث جماعةٍ ليس لهم غيرُ راوٍ واحدٍ منهم : مِرْدَاسٌ الأسلميُّ ، لم يروِ عنه غيرُ قَيْسٍ بنِ أبي حازمٍ . وخَرَّجَ مسلمٌ حديثَ قومٍ ليس لهم غيرُ راوٍ واحدٍ منهم : ربيعةُ بنُ كعبٍ الأسلميُّ ، لم يروِ عنه غيرُ أبي سَلَمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ . وذلك منهما مَصِيرٌ إلى أنَّ الراوي قد يَخْرُجُ عن كونِهِ مجهولاً مردوداً ، بروايةِ واحدٍ عنه . والخلافُ في ذلك مُتَّجِهٌ ، نحوَ اتجاهِ الخلافِ المعروفِ في الاكتفاءِ بواحدٍ في التعديلِ .
قلتُ : لم ينفردْ عن مِرْداسٍ قَيْسٌ ، بل روى عنه أيضاً زيادُ بنُ عِلاَقةَ فيما ذكرَهُ المزّيُّ في " التهذيبِ " ، وفيه نظرٌ . ولم ينفردْ عن ربيعةَ أبو سَلَمةَ ، بل رَوَى عنه أيضاً نُعَيْمٌ المُجْمِرُوحَنْظلةُ بنُ عليٍّ.وأيضاً فمِرْداسٌ وربيعةُ من مشاهيرِ الصحابةِ، فمِرداسٌ من أهلِ الشَّجَرَةِ،وربيعةُ من أهل الصُّفَّةِ.وقد ذكرَ أبو مسعودٍ إبراهيمُ بنُ محمدٍ الدِّمَشْقيُّ في (( جُزْءٍ له أجابَ فيه عن اعتراضاتِ الدارقطنيِّ على كتابِ مسلمٍ )) ، فقال : لا أعلمُ رَوَى عن أبي عليٍّ عمرِو بنِ مالكٍ الجَنْبيِّ أحدٌ غيرُ أبي هانيءٍ ، قال : وبروايةِ أبي هانيءٍ وَحْدَهُ لا يرتفعُ عنه اسمُ الجهالةِ ، إلا أنْ يكونَ معروفاً في قبيلتهِ ، أو يروي عنه أحدٌ معروفٌ مع أبي هانئٍ ، فيرتفعُ عنه اسمُ الجهالةِ . وقد ذكرَ ابنُ الصلاحِ في النوعِ السابعِ والأربعينَ عن ابنِ عبدِ البرِّ ، قال : كُلُّ مَنْ لم يروِ عنه إلا رجلٌ واحدٌ ، فهو عندَهم مجهولٌ إلا أنْ يكونَ رجلاً مشهوراً في غيرِ حملِ العلمِ كاشتهارِ مالكِ بنِ دينارٍ بالزُّهْدِ ، وعَمْرِو بن مَعْديْ كَرِبَ بالنَّجْدةِ . فشهرةُ هذينِ بالصُّحبةِ عند أهلِ الحديثِ آكدُ في الثقةِ به من مالكٍ وعمرٍو ، والله أعلمُ .
والقسمُ الثاني : مجهولُ الحالِ في العدالةِ في الظاهرِ والباطنِ ، مع كونِهِ معروفَ العَيْنِ بروايةِ عدلينِ عنه . وفيه أقوالٌ :
أحدُها : وهو قولُ الجماهيرِ ، كما حكاهُ ابنُ الصلاحِ أنَّ روايتَهُ غيرُ مقبولةٍ.
والثاني : تقبلُ مطلقاً ، وإنْ لم تقبلْ روايةُ القسمِ الأولِ . قال ابنُ الصلاحِ : وقد يَقبلُ روايةَ المجهولِ العدالةِ مَنْ لا يَقبلُ روايةَ المجهولِ العينِ .
والثالثُ : إنْ كانَ الراويانِ ، أو الرواةُ عنه فيهم مَنْ لا يَروِي عن غيرِ عَدْلٍ قُبِلَ ، وإلاَّ فلاَ .
والقسمُ الثالثُ : مجهولُ العدالةِ الباطنةِ ، وهو عدلٌ في الظاهرِ ، فهذا يحتَجُّ به بعضُ مَنْ رَدَّ القسمَينِ الأولَينِ ، وبهِ قطعَ الإمامُ سُلَيمُ بنُ أيوبَ الرازيُّ ، قال : لأنَّ الإخبارَ مَبنيٌّ على حُسْنِ الظَّنِّ بالراوي ؛ لأنَّ روايةَ الأخبارِ تكونُ عندَ مَنْ تَتَعذَّرُ عليه معرفةُ العدالةِ في الباطنِ ، فاقتُصِرَ فيها على معرفةِ ذلك في الظاهرِ . وتُفَارِقُ الشهادَةَ ، فإنَّها تكونُ عند الحُكَّامِ،ولا يتعذّرُ عليهم ذلكَ ، فاعتُبِرَ فيها العدالةُ في الظاهرِ والباطنِ. قالَ ابنُ الصّلاحِ : ويشبهُ أنْ يكونَ العملُ على هذا الرأي في كثيرٍ من كتبِ الحديثِ المشهورةِ في غيرِ واحدٍ من الرُّواةِ الذين تقادَمَ العهدُ بهم ، وتعذَّرَتِ الخِبْرةُ الباطنةُ بهم ، واللهُ أعلمُ . وأطلقَ الشافعيُّ كلامَهُ في اختلافِ الحديثِ أنَّهُ لا يحتجُّ بالمجهولِ ، وحكى البيهقيُّ في " المدخلِ " : أنَّ الشافعيَّ لا يحتجُّ بأحاديثِ المجهولينَ . ولما ذكرَ ابنُ الصلاحِ هذا القسمَ الأخيرَ ، قال : وهو المستورُ ، فقد قال بعضُ أئمتِنا : المَسْتُورُ مَنْ يكونُ عَدْلاً في الظَّاهرِ ، ولا تُعْرَفُ عدالتُهُ باطناً . انتهى كلامُه . وهذا الذي نَقَلَ كلامَهُ آخراً ، ولم يسمِّهِ ، هو البغويُّ ، فهذا لفظُهُ بحروفِهِ في " التهذيبِ " ، وتَبِعهُ عليه الرافعيُّ. وحكى الرافعيُّ في الصومِ وجهين في قبولِ روايةِ المستورِ من غيرِ ترجيحٍ. وقالَ النوويُّ في " شرحِ المهذّبِ " : (( إنَّ الأصحَّ قبولُ روايتِهِ )) .
وقولي : ( وفيه نظرٌ ) ، ليس في كلامِ ابنِ الصلاحِ ، فهو من الزوائدِ التي لم تتميَّزْ ووجهُ النظرِ الذي أشرتُ إليهِ هو أنَّ في عبارة الشافعيِّ في اختلافِ الحديثِ ما يقتضي أنَّ ظاهِرَي العدالةِ مَنْ يحكمُ الحاكمُ بشهادتِهِمَا .
فقالَ في جوابِ سؤالٍ أوردَهُ : فلا يجوزُ أنْ يَتركَ الحُكْمَ بشهادتِهما إذا كانا عَدْلَيْنِ في الظاهرِ . فعلى هذا لا يُقالُ لمَنْ هو بهذهِ المثابةِ مستورٌ. نَعَمْ، في كلامِ الرافعيِّ في الصومِ أنَّ العدالةَ الباطنةَ هي التي يُرْجَعُ فيها إلى أقوالِ المُزَكِّينَ . ونقلَ الرُّوْيَانيُّ في " البَحر " عن نصِّ الشافعيِّ في " الأمِّ ": أنَّهُ لو حضَرَ العقدَ رجلانِ مسلمانِ ، ولا يُعرفُ حالُهما من الفِسْقِ والعَدالةِ انعقدَ النكاحُ بهما في الظاهرِ . قال: لأنَّ الظّاهرَ من المسلمينَ العدالةُ . والله أعلم .
294.
وَالخُلْفُ في مُبْتَـدِعٍ مَـا كُفِّرَا
قِيْلَ : يُـرَدُّ مُطلَقَاً ، وَاسْـتُنْكِرَا
295.
وَقْيِـلَ : بَلْ إذا اسْتَحَلَّ الكَذِبَا
نُصْـرَةَ مَذْهَـبٍ لَـهُ ، وَنُسِـبَا
296.
(لِلشَّـافِعيِّ) ، إذْ يَقُوْلُ : أقْبَلُ
مِـنْ غَيْرِ خَطَّابِيَّـةٍ مَـا نَقَلُـوْا
297.
وَالأكْثَرُوْنَ -وَرَآهُ الأعْدَلاَ-
رَدُّوَا دُعَاتَهُـمْ فَقَـطْ ، وَنَقَـلا
298.
فِيهِ (ابْنُ حِبَّانَ) اتِّفَاقاً ، وَرَوَوْا
عَنْ أهْلِ بِدْعٍ في الصَّحِيْحِ مَا دَعَوْا
اختلفوا في روايةِ مبتدعٍ لم يُكفَّرْ في بدعتِهِ ، على أقوالٍ :
فقيلَ : تردُّ روايتُـهُ مُطلقاً ؛ لأنَّهُ فاسقٌ ببدعتِهِ . وإنْ كانَ متأوِّلاً فتردُّ كالفاسقِ مَنْ بغيرِ تأويلٍ ، كما استوى الكافرُ المتأوّلُ ، وغيرُ المتأوِّلِ .
وهذا يُروَى عن مالكٍ ، كما قالَ الخطيبُ في " الكفايةِ " . وقالَ ابنُ الصَّلاحِ : إنّهُ بعيدٌ مباعِدٌ للشائعِ عن أئمّةِ الحديثِ . فإنَّ كتبَهم طافحةٌ بالروايةِ عن المتبدعةِ غيرِ الدُّعاةِ ، كما سيأتي .
والقولُ الثاني : أنَّهُ لم يكنْ ممَّنْ يستحلُّ الكذبَ في نُصرةِ مذهبِهِ ، أو لأهلِ مذهبِهِ قُبِلَ ، سواءٌ دَعَى إلى بِدْعَتِهِ . أو لا ؟ وإنْ كان ممَّنْ يستحلُّ ذلكَ لم يقبلْ ، وعزا الخطيبُ هذا القولَ للشـافعيِّ ، لقولِهِ : أقبل شَـهادةَ أهلِ الأهواءِ ، إلاّ الخَطّابيّةَ مِنَ الرَّافِضَةِ ؛ لأنَّهم يَرَوْنَ الشهادةَ بالزُّورِ لموافِقِيهم . قالَ : وحُكِي هذا أيضاً عن ابنِ أبي لَيلَى ، والثوريِّ ، وأبي يوسفَ القاضي . ورَوَى البيهقيُّ في " المدخلِ " عن الشافعيِّ ، قال : ما في أهلِ الأهواءِ قومٌ أشهدُ بالزُّورِ من الرَّافِضَةِ .
والقولُ الثالثُ : أنَّهُ إنْ كانَ داعيةً إلى بدعتِهِ ، لم يقبلْ ، وإنْ لم يكنْ داعيةً قُبِلَ . وإليهِ ذهبَ أحمدُ ، كما قالَ الخطيبُ . قالَ ابنُ الصلاحِ: وهذا مذهبُ الكثيرِ، أو الأكثر . وهو أَعدَلُها وأَوْلاَها . قال ابنُ حبّانَ : الداعيةُ إلى البدعِ لا يجوزُ الاحتجاجُ به عند أئمتنا قاطبةً ، لا أعلمُ بينهم فيه اختلافاً . وهكذا حَكَى بعضُ أصحابِ الشافعيِّ أنَّهُ لا خلافَ بين أصحابهِ أنّهُ لا يقبلُ الداعيةُ،وإنَّ الخلافَ بينَهم فيمَنْ لم يَدْعُ إلى بدعتِهِ.
فقولي : ( وَنَقَلَ فِيهِ ابنُ حِبَّانَ اتِّفَاقاً ) ، أي : في رَدِّ روايةِ الداعيةِ ، وفي قبولِ غيرِ الداعيةِ أيضاً . واقتصرَ ابنُ الصلاحِ على حكايةِ الاتفاقِ عنه في الصورةِ الأولى . وأمَّا الثانيةُ فإنهُ قال في " تاريخ الثقاتِ " في ترجمةِ جعفرِ بنِ سُليمانَ الضُّبَعيِّ : ليسَ بين أهلِ الحديثِ مِنْ أئمتنا خلافٌ أنَّ الصدوقَ المتقنَ إذا كان فيهِ بدعةٌ ، ولم يكن يَدْعُوا إليها أنَّ الاحتجاجَ بأخبارِهِ جائزٌ . فإذا دَعَى إلى بِدْعَتِهِ سقطَ الاحتجاجُ بأخبارِهِ . وفي المسألةِ قولٌ رابعٌ لم يحكِه ابنُ الصلاحِ ، أنَّهُ تقبلُ أخبارُهم مطلقاً ، وإنْ كانوا كفّاراً ، أو فُسَّاقاً بالتأويلِ . حكاهُ الخطيبُ عن جماعةٍ من أهلِ النَّقْلِ ، والمتكلمينَ .
وقولي : ( وَرَآهُ الأعْدَلا ) ، أي : ابنُ الصلاحِ . وهي جملةٌ معترضةٌ بينَ المبتدأ والخبرِ . وفي الصحيحينِ كثيرٌ من أحاديثِ المبتدعةِ غير الدُّعاةِ ، احتجاجاً واستشهاداً . كعِمرانَ بنِ حِطّانَ ، وداودَ بنِ الحُصَينِ ، وغيرِهما . وفي " تاريخِ نيسابورَ " للحاكمِ في ترجمةِ محمدِ بنِ يعقوبَ بنِ الأخرمِ أنَّ كتابَ مُسْلِمٍ ملآنٌ من الشِّيعةِ .
وقولي : ( وَالخُلْفُ في مُبتَدِعٍ مَا كُفِّرَا ) ، احترازٌ عن المبتدعِ الذي يُكَفَّرُ ببدعتِهِ ، كالمجسمِةِ إنْ قلنا بتكفيرِهم على الخلافِ فيه . فإنَّ ابنَ الصلاحِ لم يحكِ فيه خلافاً . وحكاهُ الأصوليونَ ، فذهب القاضي أبو بكرٍ إلى رَدِّ روايتِهِ مطلقاً، كالكافرِ المخالَفِ، والمسلمِ الفاسقِ . ونقَلهُ السيفُ الآمديُّ عن الأكثرينَ وبهِ جزمَ أبو عمرِو بنِ الحاجبِ . وقالَ صاحبُ " المحصولِ " : الحقَّ أنّهُ إنِ اعتقَدَ حرمةَ الكذبِ ، قَبِلْنَا روايتَهُ ، وإلا فلا ؛ لأنَّ اعتقادَ حرمةِ الكذبِ يمنعُهُ مِنْهُ ، واللهُ أعلمُ .
299.
وَ(لِلحُمَيْدِيْ) وَالإمَامِ (أحْمَدَا)
بـأنَّ مَـنْ لِكَـذِبٍ تَعَمَّـدا
300.
أيْ فِي الحَدِيْثِ، لَمْ نَعُدْ نَقْبَلُـهُ
وَإنْ يَتُبْ ، وَ(الصَّـيْرَفِـيِّ) مِثْلُهُ
301.
وَأطْلَقَ الكِذْبَ ، وَزَادَ : أنَّ مَنْ
ضُعِّـفَ نَقْـلاً لَمْ يُقَـوَّ بَعْدَ أنْ
302.
وَلَيْسَ كَالشَّاهِدِ ، وَ(السَّمْعَانِيْ
أبُـو المُظَفَّرِ) يَـرَى فِي الجَانِيْ
303.
بِكَذِبٍ فِي خَبَـرٍ إسْـقَاطَ مَا
لَـهُ مِـنَ الحَدِيْـثِ قَدْ تَقدَّمَـا
مَنْ تَعمَّدَ كَذِباً في حديثِ رسولِ اللهِ،فإنهُ لا تُقبلُ روايتُهُ أبداً،وإن تابَ،وحسنُتْ توبَتُهُ، كما قالَهُ غيرُ واحدٍ من أهلِ العلمِ ، منهم : أحمدُ بنُ حنبلٍ، وأبو بكرٍ الحُمَيديُّ.
أمَّا الكذبُ في حديثِ الناسِ ، وغيرِهِ من أسبابِ الفِسْقِ . فإنّهُ تقبلُ روايةُ التائبِ منهُ. قال ابنُ الصلاحِ : وأطلقَ الإمامُ أبو بكرٍ الصَّيْرفيُّ الشافعيُّ فيما وَجَدْتُ له في (( شرحِهِ لرسالةِ الشافعيِّ )) فقال : كُلُّ مَنْ أسقطنا خبَرهُ من أهلِ النَّقْلِ بكذبٍ ، وجدناهُ عليه ، لم نَعُدْ لِقَبُوْلِهِ بتوبةٍ تظهرُ . ومَنْ ضعَّفنَا نقلَهُ لم نجعلْهُ قويّاً بعدَ ذلكَ . وذَكَرَ أنَّ ذلكَ ممَّا افترقَتْ فيه الروايةُ والشهادةُ . قلتُ : الظاهرُ أنَّهُ إنّما أرادَ الكذبَ في حديثِ النبيِّ ، لا مطلقاً. بدليلِ قولِهِ: من أهلِ النَّقْلِ، أيْ: للحديثِ . ويدلُّ على ذلكَ أنَّهُ قيدَ ذلك بالمحدِّثِ فيما رأيتُه في كتابِ "الدلائلِ و الاعلامِ"، فقال:وليس يطعنُ على المحدِّثِ إلاّ أنْ يقولَ:عَمَدْتُ الكَذِبَ،فهو كاذبٌ في الأوّلِ، ولا يُقبلُخبَرُهُ بعدَ ذلكَ . انتهى .
وقولي: (والصيرفِيِّ)، هو مجرورٌ عَطْفَاً على قولِهِ : ( وللحميديْ ) ، وقولي: ( بعدَ أنْ ) ، أيْ : بعدَ أنْ ضُعِّفَ . فحذفَ لدلالةِ ضُعِّفَ المتقدّمةِ عليهِ . وذكرَ أبو المظفرِ السَّمْعَانيُّ : أنَّ مَنْ كَذَبَ في خبرٍ واحدٍ وجبَ إسقاطُ ما تَقَدَّمَ مِنْ حديثِهِ . قال ابنُ الصلاحِ : وهذا يُضاهي مِنْ حيثُ المعنى ما ذكرَهُ الصَّيْرفيُّ .
304.
وَمَنْ رَوَى عَنْ ثِقَةٍ فَكَذَّبَهْ
فَقَدْ تَعَارَضَا ، وَلَكِنْ كَذِبَهْ
305.
لاَ تُثْبِتَنْ بِقَوْلِ شَيْخِهِ ، فَقَدْ
كَذَّبَهُ الآخَرُ ، وَارْدُدْ مَا جَحَدْ
306.
وَإنْ يَرُدَّهُ بِــ (لاَ أذْكُرُ) أوْ
مَا يَقْتَضِي نِسْيَانَهُ ، فَقَـدْ رَأوْا
307.
الحُكْمَ لِلذَّاكِـرِ عِنْـدَ المُعْظَمِ،
وَحُكِيَ الإسْـقَاطُ عَنْ بَعْضِهِـمِ
308.
كَقِصَّةِ الشَّـاهِدِ واليَمِيْـنِ إذْ
نَسِـيَـهُ (سُـهَيْلٌ) الَّذِي أُخِذْ
309.
عَنْـهُ ، فَكَانَ بَعْدُ عَنْ (رَبِيْعَهْ)
عَنْ نَفْسِـهِ يَرْوِيْـهِ لَنْ يُضِيْعَـهْ
310.
وَ(الشَّافِعي)نَهَى(ابْنَ عَبْدِ الحَكَمِ)
يَـرْوِي عَنِ الحَيِّ لخَـوْفِ التُّهَمِ
إذا روى ثقةٌ عن ثقةٍ حديثاً فكذَّبَهُ المُرْوَى عنهُ صريحاً ، كقولِهِ : كَذَبَ عليَّ ، أو بنفيٍ جازم ، كقولِهِ : ما رويتُ هذا لهُ . فقدْ تعارضَ قولُهما ، فيردُّ ما جحَدَهُ الأصلُ؛ لأنَّ الراوي عنه فرعُهُ . ولكن لا يَثْبُتُ كذبُ الفَرْعِ بتكذيبِ الأصلِ له في غيرِ هذا الذي نفاهُ ، بحيثُ يكونُ ذلك جرحاً للفرعِ ؛ لأنَّهُ أيضاً مُكَذِّبٌ لشَيخِهِ في نَفْيهِ لذلكَ . وليسَ قَبولُ جَرْحِ كُلٍّ منهما بأوْلى من الآخرِ فتَساقَطا .
وقولي في آخرِ البيتِ : (كَذِبَهْ)، مفعولٌ مقدّمٌ لقولي: (لاَ تُثْبِتَنْ). وقولي : ( وَارْدُدْ مَا جَحَدْ ) أي : اردُدْهُ من حيثُ الفرعُ إذا نفى الأصلُ تحديثَهُ للفرعِ به خاصّةً ولا يردُّ من حيثُ الأصلُ نفسهُ إذا حدَّثَ به،كما صرَّحَ بهِ القاضي أبو بكرٍ فيما حكاهُ الخطيبُ عنه . وكذا إذا حَدَّثَ به فرعٌ آخرُ ثقةٌ عنه ، ولم يكذبْهُ الأصلُ ، فهو مقبولٌ ، وهذا واضحٌ . أما إذا لم يكذبْهُ الأصلُ صريحاً ، ولكنْ قالَ : لا أذكرُهُ ، أو لا أعْرِفُهُ ، ونحوَ ذلكَ ممّا يقتضي جوازَ أنْ يكونَ نَسِيَهُ ، فذلكَ لا يقتضي رَدَّ روايةِ الفرعِ عنهُ . ومَعَ ذلكَ فقد اختُلفَ فيه هل يكونُ الحكمُ للفرعِ الذاكرِ ، أو للأصلِ الناسي ؟ فذهبَ جمهورُ أهلِ الحديثِ ، وجمهورُ الفقهاءِ ، والمتكلِّمينَ إلى قبولِ ذلكَ . وأنَّ نسيانَ الأصلِ لا يُسقِطُ العملَ بما نسيَه . قال ابنُ الصلاحِ : وهو الصحيحُ . وذهبَ بعضُ أصحابِ أبي حنيفةَ إلى إسقاطِهِ بذلك ، وحكاهُ ابنُ الصَّبَّاغِ في " العُدَّة " عن أصحابِ أبي حنيفةَ .
مثالُهُ : حديثٌ رواهُ أبو داودَ ، والترمذيُّ ، وابنُ ماجه من روايةِ ربيعةَ بنِ أبي عبدِ الرحمنِ، عن سُهيلٍ بنِ أبي صالحٍ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ ، أنَّ النبيَّ : (( قَضَى باليمينِ معَ الشاهدِ )) . زادَ أبو دوادَ في روايةٍ : أنَّ عبدَ العزيزِ الدَّراوَرديَّ ، قال : فذكرتُ ذلك لسهيلٍ ، فقال : أخبرني ربيعةُ - وهو عندي ثقةٌ - أَنِّي حَدَّثْتُهُ إيّاهُ ، ولا أحفظُهُ . قالَذذ عبدُ العزيزِ : وقدْ كانَ أصابتْ سهيلاً علّةٌ أذهبَتْ بعضَ عقلِهِ ، ونسيَ بعضَ حديثِهِ . فكانَ سهيلٌ بعدُ يُحدِّثهُ ، عن ربيعةَ عنه ، عن أبيهِ .
ورواهُ أبو داودَ أيضاً من روايةِ سليمانَ بنِ بلالٍ ، عن ربيعةَ ، قالَ سليمانُ : فلقيتُ سهيلاً ، فسألتُهُ عن هذا الحديثِ ، فقال : ما أعرفُهُ . فقلتُ لهُ : إنَّ ربيعةَ أخبرني بهِ عنكَ . قال : فإنْ كانَ ربيعةُ أخبركَ عَنِّي ، فحدِّثْ به عَنْ ربيعةَ عَنِّي .
وقد مَثَّلَ ابنُ الصلاحِبحديثٍ آخرَ،تركتُ التمثيلَ به لما سأذكرُهُ.وَهُوَ حديثٌ رواه الثلاثةُ المذكورونَ من روايةِ سليمانَ بنِ موسى،عن الزهريِّ،عن عروةَ،عن عائشةَ رضي اللهُ عنها مرفوعاً:((إذا نُكِحَتِ المرأةُ بغيرِ إذْنِ وَليِّها،فنِكاحُها باطلٌ))فذكرَ الترمذيُّ:أنَّ بعضَ أهـلِ الحديثِ ضعَّفَهُ من أجلِ أنَّ ابنَ جُريجٍ قَالَ:ثُمَّ لقيتُ الزهريَّ،فسألتُهُ فأنكَرَهُ .
وإنّما تركتُ التمثيلَ بهذا المثالِ ؛ لعدم صحةِ إنكارِ الزهريِّ لَهُ . فَقَدْ ذَكَرَ الترمذيُّ بعدَهُ عن ابنِ مَعِينٍ أنَّهُ لَمْ يذكرْ هَذَا الحرفَ عَلَى ابنِ جريجٍ ، إلاّ إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ . قَالَ: وسَمَاعُهُ عن ابنِ جريجٍ ليسَ بذاكَ . إنّما صَحَّحَ كُتُبَهُ عَلَى كتبِ عبدِ المجيدِ بنِ عبدِ العزيزِ بنِ أبي رَوَّادٍ ، ما سمعَ من ابنِ جُريجٍ . وضَعَّفَ يَحْيَى روايةَ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ ، عن ابنِ جريجٍ . وَقَدْ جمعَ غيرُ واحدٍ من الأئمةِ أخبارَ مَنْ حَدَّثَ ، ونَسِيَ ، مِنْهُمْ : الدارقطنيُّ ، والخطيبُ ، قالَ الخطيبُ في " الكفايةِ " : ولأجلِ أنَّ النسيانَ غيرُ مأمونٍ عَلَى الإنسانِ ، فيبادرُ إِلَى جحودِ ما رُوي عَنْهُ ، وتكذيبِ الرَّاوِي لَهُ ، كَرِهَ مَنْ كَرِهَ من العلماءِ التحديثَ عن الأحياءِ . ثُمَّ رَوَى عن الشعبيِّ أنّهُ قَالَ لابنِ عَوْنٍ : لا تحدّثْعن الأحياءِ. وعن مَعْمَرٍ أنّهُ قالَ لعبدِ الرزاقِ : إنْ قَدَرْتَ ألاّ تحدِّثَ عن رجلٍ حيٍّ فافعلْ.وعن الشافعيِّ أنَّهُ قَالَ لابنِ عبدِ الحكم:إيَّاكَ والروايةَ عن الأحياءِ. وفي روايةِ البيهقيِّ في " المدخلِ " : لا تُحدِّثْ عن حيٍّ ، فإنَّ الحيَّ لا يؤمَنُ عَلَيْهِ النسيانُ ، قالَه لهُ حينَ رَوَى عنِ الشافعيِّ حكايةً فأنكرَها ، ثُمَّ ذكرَها .
311.
وَمَـنْ رَوَى بأُجْـرَةٍ لَـمْ يَقْبَلِ
(إسْحَاقُ) و(الرَّازِيُّ) و(ابْنُ حَنْبَلِ)
312.
وَهْـوَ شَـبيْهُ أُجْـرَةِ القُـرْآنِ
يَخْـرِمُ مِـنْ مُـرُوْءةِ الإنْسَـانِ
313.
لَكِـنْ (أبُوْ نُعَيْـمٍ الفَضْلُ) أَخَذْ
وَغَيْـرُهُ تـَرَخُّصَـاً ، فإنْ نَبَـذْ
314.
-شُغْلاً بِهِ- الكَسْبَ أجِزْ إرْفَاقَا،
أفْتَى بِهِ الشَّـيْخُ (أبُوْ إسْـحَاقا)
اختلفوا في قَبولِ روايةِ مَنْ أخذَ على التحديثِ أجراً . فذهبَ أحمدُ وإسحاقُ وأبو حاتِمٍ الرازيُّ،إلى:أنَّهُ لا يقبلُ.ورَخَّصَ في ذلكَ آخرون،منهم:أبو نُعَيْمٍ الفَضْلُ بنُ دُكَيْنٍ، شيخُ البخاريِّ،وعليُّ بنُ عبدِ العزيزِ البغويُّ،فأَخَذُوا العِوَضَ علىالتحديثِ.قالَ ابنُ الصلاحِ : وذلكَ شبيهٌ بأخْذِ الأُجرةِ على تعليمِ القرآنِ ونحوِهِ. غيرَ أنَّ في هذا مِنْ حيثُ العرفُ خَرْماً للمروءةِ،والظنُّ،يُساءُ بفاعلِهِ، إلاّ أنْ يَقترنَ ذلكَ بعُذرٍ يَنْفِي ذلكَ عنه .كمثِل ما حدَّثنيه الشيخُ أبو المُظفّرِ ، عن أبيهِ الحافظِ أبي سعدٍ السَّمْعانيِّ أنَّ أبا الفضلِ محمدَ بنَ ناصرٍ،ذكرَ أنَّ أبا الحُسينِ بنَ النَّقُوُّرِ فعَلَ ذلكَ لأنَّ الشيخَ أبا إسحاقَ الشّيرازيَّ،أفتاهُ بجوازِ أخذِ الأُجرةِ على التحديثِ؛لأنَّ أصحابَ الحديثِ كانوا يمنعونَهُ عن الكسبِ لعيالِهِ .
فقولي : ( يَخْرِمُ من مروءةِ الإنسانِ ) ، أي : أخْذَ الأُجرةِ على التحديثِ ، لا على القرآنِ . فعلى هذا يكونُ يَخْرِمُ خبراً بعدَ خبرٍ .
315.
وَرُدَّ ذُوْ تَسَاهُلٍ في الحَمْلِ
كَالنَّوْمِ وَالأدَا كَلاَ مِـنْ أصْلِ،
316.
أوْ قَبِلَ التَّلقِيْنَ، أوْ قَدْ وُصِفَا
بِالمُنْكَرَاتِ كَثْرَةً ، أوْ عُـرِفَـا
317.
بِكَثْرَةِ السَّهْوِ ، وَمَا حَدَّثَ مِنْ
أصْلٍ صَحِيْحٍ فَهْوَ رَدٌّ ، ثُمَّ إنْ
318.
بُيِّـنْ لَهُ غَلَطُهُ فَمَا رَجَعْ،
سَـقَطَ عِنْدَهُمْ حَدِيْثُـهُ جُمَعْ
319.
كَذَا (الحُمَيْدِيُّ) مَعَ (ابْنِ حَنْبَلِ)
و(ابْـنِ المُبَارَكِ) رَأَوْا فِـي العَمَلِ
320.
قَالَ : وَفيـهِ نَظَرٌ ، نَعَمْ إذَا
كَانَ عِنَادَاً مِنْـهُ مَـا يُنْكَـرُ ذَا
أي : وردوا روايةَ مَنْ عُرِفَ بالتساهُلِ في سماعِ الحديثِ وتحمُّلِهِ ، كالنومِ أي : كمَنْ ينامُ هو ، أو شيخُهُ في حالةِ السماعِ ، ولا يُبالي بذلك . وكذلك رَدُّوا روايةَ مَنْ عُرفَ بالتساهُلِ في حالةِ الأداءِ للحديثِ ، كأنْ يؤدي لا مِنْ أصلٍ صحيحٍ مُقَابَلٍ على أصلهِ ، أو أصلِ شيخِهِ ، على ما سيأتي .
وكذا ردُّوا روايةَ مَنْ عُرفَ بقبولِ التَّلقِيْنِ في الحديثِ ، وهو أنْ يُلَقَّنَ الشيءَ فيُحدِّثَ بهِ من غيرِ أنْ يَعلمَ أنَّهُ من حديثِهِ . كموسى بنِ دينارٍ ونحوِهِ . وكذلكَ رَدُّوا حديثَ مَنْ كَثُرَتِ المناكيرُ والشواذُّ في حديثِهِ ، كما قالَ شعبةُ : لا يجيئكَ الحديثُ الشاذُّ إلا من الرجلِ الشاذِّ. وقيل له أيضاً : مَنْ الذي تُتْرَكُ الروايةُ عنه؟ قال : إذا أكثرَ عن المعروفِ من الروايةِ ما لا يُعرَفُ من حديثِهِ ، وأكثرَ الغلط .
وكذلك رَدُّوا روايةَ مَنْ عُرِفَ بكثرةِ السَّهوِ في رواياتِهِ إذا لم يحدِّثْ من أصلٍ صحيحٍ .
فقولي: (وما حَدَّثَ مِنْ أصلٍ)، هو في موضعِ الحالِ ، أَيْ : ورُدَّ حديثُ مَنْ عُرِفَ بكثرةِ السَّهْوِ في حالِ كونِهِ ما حدَّثَ مِنْ أصلٍ صحيحٍ . أما إذا حدَّثَ من أصلٍ صحيحٍ فالسماعُ صحيحٌ ، وإنْ عُرِفَ بكثرةِ السَّهوِ؛ لأنَّ الاعتمادَ حينئذٍ على الأصلِ ، لا على حفظِهِ . قال الشافعيُّ في "الرسالةِ": من كثُرَ غلطُهُ من المحدِّثينَ ، ولم يَكُنْ له أصلُ كتابٍ صحيحٍ ، لم يُقبلْ حديثُهُ ، كما يكونُ مَنْ أكثرَ الغلطَ في الشهاداتِ لم تُقْبَلْ شهادتُهُ .
وقولي : ( فهو رَدُّ ) ، أي : مردودٌ .
وأمَّا مَنْ أصرَّ على غَلَطِهِ بعدَ البيانِ ، فوردَ عن ابنِ المباركِ ، وأحمدَ بنِ حنبلٍ، والحُميديِّ ، وغيرِهم ، أنَّ مَنْ غَلِطَ في حديثٍ ، وبُيِّنَ له غلطُهُ ، فلم يرجعْ عنه وأصَرَّ على روايةِ ذلك الحديثِ ، سقطَتْ رواياتُهُ ، ولم يُكتَبْ عنه . قال ابنُ الصلاحِ : وفي هذا نظرٌ ، وهو غيرُ مستنْكَرٍ ، إذا ظهرَ أنَّ ذلك منه على جِهَةِ العِنَادِ ، أو نحوِ ذلكَ . وقالَ ابنُ مهديٍّ لشُعبةَ : مَنِ الذي تَتْركُ الروايةَ عنه ؟ قَالَ : إذا تمادَى في غَلَطٍ مُجتمعٍ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَتَّهِم نفسَهُ عندَ اجتماعِهِم عَلَى خلافِهِ ، أو رجلٌ يُتَّهَمُ بالكذبِ . وَقَالَ ابنُ حبّانَ : إنْ بُيِّنَ لَهُ خطؤهُ ، وعَلِمَ ، فلمْ يَرْجَعْ عَنْهُ ، وتمادَى في ذلكَ كانَ كَذَّاباً بعلمٍ صحيحٍ.
321.
وَأعْرَضُـوا فِي هَذِهِ الدُّهُـوْرِ
عَـنِ اجتِمَاعِ هَذِهِ الأمُوْرِ
322.
لِعُسْـرِهَا ، بَلْ يُكْتَفَى بِالعَاقِلِ
المُسْـلِمِ البَالِغِ ، غَيْرِ الفَاعِلِ
323.
لِلفِسْقِ ظَاهِراً ، وَفِي الضَّبْطِ بأنْ
يُثْبِتَ مَا رَوَى بِخَطِّ مُؤْتَمَنْ
324.
وَأنَّـهُ يَرْوِي مِنَ اصْلٍ وَافَقَـا
لأصْلِ شَيْخِهِ ، كَمَا قَدْ سَـبَقَا
325.
لِنَحْوِ ذَاكَ ( البَيْهَقِـيُّ)، فَلَقَـدْ
آلَ السَّـمَاعُ لِتَسَلْسُلِ السَّنَدْ
أعرضَ الناسُ في هذهِ الأعصارِ المتأخّرةِ ، عن اعتبارِ مجموعِ هذهِ الشروطِ لعُسْرِها ، وتعذُّرِ الوَفاءِ بها، فيُكْتَفَى في أهليةِ الشيخِ بكونِهِ مُسلِماً بالغاً عاقلاً ، غيرَ متظاهرٍ بالفِسْقِ ، وما يخرمُ المروءةَ، على ما تقدَّمَ. ويُكتَفَى في اشتراطِ ضَبْطِ الراوي بوجودِ سَماعِهِ متثبتاً بخطِّ ثقةٍ غيرِ مُتَّهَمٍ ، وبروايتِهِ مِنْ أصلٍ موافقٍ لأصلِ شيخِهِ . وقد سبقَ إلى نحوِ ذلكَ البيهقيُّ لمّا ذكرَ تَوَسُّعَ منْ تَوَسَّعَ في السماعِ مِنْ بعضِ محدِّثِي زمانِهِ الذينَ لا يَحْفَظُونَ حديثَهُم ، ولا يُحْسِنُونَ قراءَتَهُ مِنْ كُتُبِهم ، ولا يعرفُونَ ما يُقْرَأُ عَلَيْهِمْ ، بَعْدَ أنْ تكونَ القراءةُ عليهم مِنْ أصْلِ سماعِهِم ، وذلكَ لتدوينِ الأحاديثِ في الجوامعِ التي جمعَها أئمّةُ الحديثِ . قالَ فَمَنْ جاءَ اليومَ بحديثٍ لا يُوجَدُ عندَ جميعِهم ، لم يُقْبَلْ منه . ومَنْ جَاءَ بحديثٍ معروفٍ عندَهُم ، فالذي يرويهِ لا ينفردُ بروايتِهِ ، والحجّةُ قائمةٌ بحديثِهِ ، بروايةِ غيرِهِ . والقَصْدُ من روايتِه والسماعِ منه ، أنْ يصيرَ الحديثُ مُسَلْسَلاً بـ : حَدَّثَنا ، وأخبرنا . وتبقى هذهِ الكرامةُ التي خُصَّتْ بها هذهِ الأمةُ شَرَفاً لِنبيِّنا .
وكذلكَ قالَ السِّلَفِيُّ في جزءٍ لهُ جمَعَهُ في "شرطِ القراءةِ" : إنَّ الشيوخَ الذينَ لا يَعرفُونَ حديثَهم الاعتمادُ في روايتِهم على الثِّقةِ المقيّدِعنهم لا عليهم.وإنَّ هذا كُلَّهُ توسُّلٌ من الحفّاظِ إلىحفظِ الأسانيدِ،إذ ليسوا من شرطِ الصحيحِ،إلاّ على وجهِ المتابعةِ ، ولولا رُخصةُ العلماءِ؛لما جازتِ الكتابةُ عنهم، ولا الروايةُ إلاّ عن قومٍ منهم دونَ آخرينَ . انتهى.وهذا هو الذي استقرَّ عليه العملُ . قالَ الذهبيُّ في مقدّمةِ كتابِهِ "الميزان" : العمدةُ في زمانِنا ليسَ على الرواةِ، بل على المحدِّثينَ ، والمقيِّدينَ،الذين عُرِفَتْ عدالتُهم وصدقُهم في ضَبْطِ أسماءِ السَّامِعِيْنَ . قال : ثُمَّ مِنَ المَعلُومِ أنَّهُ لابُدَّ من صَوْنِ الراوي وسَتْرِهِ .
مَرَاْتِبُ التَّعْدِيْلِ
( إِبْنُ أبي حَاتِمِ ) إِذْ رَتَّبَهُ
وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيْلُ قَدْ هَذَّبَهُ
326.
مَا فِي كَلاَمِ أَهْلِهِ وَجَدْتُ
وَالشَّيْخُ زَادَ فِيْهِمَا ، وَزِدْتُ
327.
هذهِ الترجمةُ معقودةٌ لبيانِ أَلْفاظهِمِ في التعديلِ، التي يَدُلُّ تغايُرُهَا على تبايُنِ أحوالِ الرواةِ في القوَّةِ . وَقَدْ رتَّبَ ابنُ أبي حاتِمٍ في مقدّمةِ كتابِهِ " الجرحِ والتعديلِ " طبقاتِ أَلْفَاظهِمِ فيهما ، فأَجادَ وأَحسنَ . وَقَدْ أَوردَها ابنُ الصلاحِ وزادَ فيهِمَا ألفاظاً أَخَذَهَا منْ كلامِ غيرِهِ. وَقَدْ زِدْتُ عليهِمَا أَلفاظاً من كلامِ أَهْلِ هذا الشأنِ غيرَ مُتمَيِّزَةٍ بـ(قُلتُ)؛ ولكنِّي أوضِّحُ ما زدْتُ عليهِمَا هنا إِنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى .
328.
فَأَرْفَعُ التَّعْدِيلِ : مَا كَرَّرْتَهُ
كَـ(ـثِقَةٍ)( ثَبْتٍ ) وَلَوْ أَعَدْتَهُ
329.
ثُمَّ يَلِيْهِ ( ثِقَةٌ ) أوْ (ثَبْتٌ) اوْ
(مُتْقِنٌ) اوْ (حُجَّةٌ) اوْ إذا عَزَوْا
330.
الحِفْظَ أَوْ ضَبْطاً لِعَدْلٍ وَيَلِي
(لَيْسَ بِهِ بَأسٌ)(صَدُوقٌ) وَصِلِ
331.
بِذَاكَ (مَأَمُوْناً) (خِيَاراً) وَتَلا
(مَحَلُّهُ الصّدْقُ) رَوَوْا عَنْهُ إلى
332.
الصِّدْقِ مَا هُوَ كذَا شَيْخٌ وَسَطْ
أَوْ وَسَطٌ فَحَسْبُ أَوْ شَيْخٌ فَقَطْ
333.
وَ(صَالِحُ الْحَدِيْثِ) أَوْ (مُقَارِبُهْ)
(جَيِّدُهُ) ، (حَسَنُهُ) ، (مُقَارَبُهْ)
334.
صُوَيْلِحٌ صَدُوْقٌ انْ شَاءَاللهْ
أَرْجُوْ بِأَنْ (لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ) عَرَاهْ
مراتبُ التعديلِ على أَربعِ أَوْ خَمْسِ طبقاتٍ .
فالمرتبةُ الأُولى : العُليا منْ ألفاظِ التعديلِ ، ولم يذكرُها ابنُ أبي حاتِمٍ ، ولا ابنُ الصلاحِ فيما زادهُ عليه ؛ وَهِيَ: إذا كُرِّرَ لفظُ التوثيقِ المذكورِ في هَذِهِ المرتبةِ الأُولى ، إمَّا مَعَ تبايُنِ اللَّفظيْنِ ، كقولِهِم : (( ثَبْتٌ حُجَّةٌ )) أو (( ثَبْتٌ حَافظٌ )) أو (( ثقةٌ ثبتٌ )) ، أو (( ثقةٌ مُتْقِنٌ )) أو نحوُ ذَلِكَ. وإمَّا مَعَ إعادةِ اللَّفظِ الأوَّلِ، كقولِهِم: ثقةٌ ثقةٌ ، ونحوِها . وهذا المرادُ بقولي : ( وَلَوْ أعدتَهُ ) ، أي : لَوْ أعدْتَ اللَّفظَ الأَولَ بعينِهِ ، فهذهِ المرتبةُ أعلى العباراتِ في الرواةِ المقبولينَ، كَمَا قالَهَ الحافظُ أبو عبدِ اللهِ الذهبيُّ في مقدّمةِ كتابِهِ " ميزان الاعتدال ". وقولي: ( ك: ثقةٍ ثبتٍ ) ، أُشيرُ بالمثالِ إلى أَنَّ المرادَ تكرارُ ألفاظِ هذهِ المرتبةِ الأُولى ، لا مُطْلَقُ تكرارِ التوثيقِ .
المرتبةُ الثانيةُ : وهي التي جعلَها ابنُ أبي حاتِمٍ ، وتبعَهُ ابنُ الصلاحِ المرتبةَ الأُولى ؛ قال ابنُ أبي حاتِمٍ : (( وَجَدْتُ الأَلفاظَ في الجرحِ والتعديلِ على مراتبَ شَتَّى ، فإذا قِيلَ للواحدِ : إنَّه ثقةٌ أو مُتْقِنٌ ، فهو مِمَّنْ يُحْتَجَّ بحديثهِ )) . قالَ ابنُ الصلاحِ : (( وكذا إذا قيلَ : ثَبْتٌ أو حُجَّةٌ . وكذا إذا قِيلَ في العَدْلِ : إنَّهُ حافظٌ أو ضابطٌ )) . قالَ الخطيبُ : (( أرفعُ العباراتِ أَنْ يقال : حُجَّةٌ ، أو ثقةٌ )) .
المرتبةُ الثالثةُ : قولهُم ليسَ بهِ بأْسٌ ، أو لا بأْسَ بِهِ ، أو صدوقٌ ، أو مأمونٌ ، أو خِيَارٌ. وجَعَلَ ابنُ أبي حاتِمٍ وابنُ الصلاحِ هذهِ المرتبةَ : الثانيةَ واقتصرَا فيهَا على قولِهِم: صدوقٌ ، أو لا بأْسَ به. وأَدخلا فيها قولَهُم : محلُّهُ الصِّدقُ. وقالَ ابنُ أبي حاتِمٍ : إنَّ مَنْ قيلَ فيه ذلك ، فهو مِمَّنْ يُكْتَبُ حديثُهُ وينظَرُ فيه . وأَخَّرْتُ هذه اللفظةَ إلى المرتبةِ التي تلي هذهِ تبعاً لصاحبِ " الميزانِ ".
المرتبةُ الرابعةُ : قولُهُم : محلُّهُ الصِّدقُ ، أو رَوَوْا عنه ، أَو إلى الصِّدْقِ ما هو ، أو شَيْخٌ وَسَطٌ ، أو وَسَطٌ ، أو شيخٌ ، أو صالحُ الحديثِ ، أو مُقارَِبُ الحديثِ - بفتحِ الراءِ وكسرِها – كما حكاهُ القاضِي أبو بكرِ بنُ العربيِّ في " شرحِ الترمذيِّ " ؛ فلهذا كررتُ هذهِ اللفظةَ في وسطِ البيتِ وآخرِهِ . أو جيدُ الحديثِ ، أو حَسَنُ الحديثِ ، أو صُوَيْلحٌ ، أو صدوقٌ إنْ شاءَ اللهُ ، أو أَرجو أنَّه ليس به بأْسٌ ، واقتصرَ ابنُ أبي حاتِمٍ في المرتبةِ الثالثةِ من كلامِهِ على قولِهِم : شيخٌ . وقال : هو بالمنْزِلةِ التي قبلَها يُكتَبُ حديثُهُ ، وَيُنْظَرُ فيه إلاَّ أنَّهُ دونَهُما واقتصرَ في المرتبةِ الرابعةِ على قولِهم : صالحُ الحديثِ. وقالَ : إنَّ مَنْ قيلَ فيه ذلك يُكتَبُ حديثُهُ للاعتَبارِ. ثُمَّ ذَكرَ ابنُ الصلاحِ مِنْ ألفاظهِم على غيرِ ترتيبٍ ، قولَهُم: فلانٌ روَى عنهُ الناسُ ، فلانٌ وسطٌ ، فلانٌ مقارَبُ الحديثِ ، فلانٌ ما أعلَمُ به بأساً . قال : وهو دونَ قولِهِم : لا بَأْسَ بهِ.
وأمَّا تَمْييزُ الأَلفاظِ التي زدْتُها على كتابِ ابنِ الصلاحِ، فهي المرتبةُ الأُوْلَى بكمالِها، وفي المرتبةِ الثالثةِ قولهُم: مأمونٌ خِيَارٌ، وفي المرتبةِ الرابعةِ قولُهُم: فلانٌ إلى الصِّدْقِ مَا هُوَ ، وشَيْخٌ وسطٌ ، وَوَسَطٌ ، وجَيِّدُ الحديثِ ، وحَسَنُ الحديثِ ، وصُوَيلحٌ ، وصَدُوقٌ إِنْ شاءَ اللهُ ، وأرجو أَنَّهُ لا بَأْسَ به ، وهي نظيرُ ما أعلمُ به بأْساً ، و الأُوْلَى أَرفَعُ ؛ لأَنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ العلمِ حصولُ الرجاءِ بذلكَ .
335.
وَ (ابْنُ مَعِيْنٍ) قال: مَنْ أَقُوْلُ: (لاَ
بَأْسَ بِهِ) فَثِقَةٌ وَنُقِلاَ
336.
أَنَّ ابْنَ مَهْدِيٍّ أَجَابَ مَنْ سَأَلْ :
أَثِقَةً كَاَنَ أبو خَلْدَةَ ؟ بَلْ
337.
كَانَ (صَدُوْقاً) (خَيِّراً) (مَأْمُوْنَا)
الثِّقَةُ (الثُّوْرِيُّ) لَوْ تَعُوْنَا
338.
وَرُبَّمَا وَصَفَ ذَا الصِّدْقِ وَسَمْ
ضَعْفاً بـِ(صَالِحِ الْحَدِيْثِ) إِذْ يَسِمْ
لمَاَّ تقدمَ أَنَّ لأَِلفاظِ التعديلِ مراتِبَ ، وأَنَّ قولَهُم : (( ثقةٌ )) أرفعُ مِنْ (( ليسَ به بأْسٌ )) ؛ ذكرَ بعدَهُ أَنَّ كلامَ ابنِ معينٍ يقتضي التسويةَ بينهما ، فإنَّ ابنَ أبي خَيْثَمَةَ قال : قلتُ ليحيى بنِ مَعِينٍ: إنَّكَ تقولُ : فلانٌ ليس بِهِ بَأْسٌ ، وفلانٌ ضعيفٌ ، قالَ : إذا قلتُ لكَ : ليس به بأْسٌ ، فهو ثقةٌ ، وإذا قلتُ لكَ : هو ضعيفٌ ، فليسَ هو بثقةٍ لا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ. قالَ ابنُ الصلاحِ : (( ليسَ في هذا حكايةُ ذلكَ عن غيرِهِ مِنْ أهلِ الحديثِ ، فإِنَّهُ نَسَبَهُ إلى نفسِهِ خاصَّةً ، بخلافِ ما ذكرَهُ ابنُ أبي حاتِمٍ )).
قلتُ : ولمْ يَقُلِ ابنُ معينٍ : إنَّ قولي : ليسَ بهِ بأْسٌ ، كقولي : ثقةٌ ، حَتَّى يلزمَ منه التساوي بينَ اللَّفظَيْنِ ، إنَّمَا قالَ : إنَّ مَنْ قالَ فيهِ هذا فهو ثقةٌ ، وللثقةِ مراتبُ . فالتعبيرُ عنهُ بقولهِم : ثقةٌ ، أرفعُ من التعبيرِ عنهُ بأَنَّهُ لا بأْسَ بِهِ ، وإنِ اشتركا في مُطلقِ الثقةِ ، واللهُ أعلمُ .
وفي كلامِ دُحَيْم ما يوافقُ كلامَ ابنِ معينٍ ، فإنَّ أبا زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيَّ قالَ : قلتُ لعبدِ الرحمنِ بنِ إبراهيمَ : ما تقولُ في عليِّ بنِ حَوْشَبٍ الفَزَاريِّ ؟ قالَ : لا بأْسَ به . قالَ : قُلْتُ : ولِمَ لا تقولُ : ثقةٌ ، ولا نعلمُ إلا خيراً ؟ قالَ : قدْ قلتُ لك : إِنَّهُ ثقةٌ . ويدلُ على أَنَّ التعبيرَ بثقةٍ أرفعُ ؛ أَنَّ عبدَ الرحمنِ ابنَ مَهْدِيٍّ قالَ : حَدَّثَنَا أبو خَلْدةَ فقيلَ لهُ : أَكان ثقةً ؟ فقال: كانَ صدوقاً ، وكان مأموناً ، وكان خَيِّراً - وفي روايةٍ وكانَ خياراً - الثقةُ: شعبةُ وسفيانُ . فانظرْ كيفَ وصفَ أبا خَلْدةَ بما يقتضي القبولَ، ثمَّ ذكرَ أَنَّ هذا اللفظَ يُقالُ لِمِثْلِ شُعبةَ وسفيانَ . ونحوُهُ ما حكاهُ الْمَرُّوْذِيُّ قالَ : سألتُ أبا عبدِ اللهِ - يعني : أحمدَ بنَ حنبلٍ – عبدُ الوهابِ بنُ عطاء ثقةٌ ؟ قالَ : تدري ما الثِّقَةُ ؟! إِنمّا الثِّقَةُ يَحْيَى بنُ سعيدٍ القطانُ .
وقولي : ( لَوْ تَعُوْنَا ) ، تكملةٌ للوزنِ ، أي لو تحفظُونَ مراتبَ الرواةِ . وكانَ ابنُ مَهْدِيٍّ أيضاً – فيما ذكرَ أحمدُ بنُ سِنَانٍ – رُبمَّا جَرَى ذِكْرُ حديثِ الرجلِ فيه ضَعفٌ ، وهو رجلٌ صدوقٌ ، فيقولُ : رجلٌ صالحُ الحديثِ ، والله أعلم .
مَرَاْتِبُ التَّجْرِيْحِ
339.
وَأَسْوَأُ التَّجْرِيْحِ:(كَذَّابٌ) (يَضَعْ)
يَكْذِبُ وَضَّاعٌ وَدَجَّالٌ وَضَعْ
340.
وَبَعْدَهَا مُتَّهَمٌ بَالْكَذِبِ
وَ(سَاقِطٌ) وَ(هَالِكٌ) فَاجْتَنِبِ
341.
وَذَاهِبٌ مَتْرُوْكٌ اوْ فِيْهِ نَظَرْ
وَ(سَكَتُوْا عَنْهُ) (بِهِ لاَ يُعْتَبَرْ)
342.
وَ(لَيْسَ بِالثِّقَةِ) ثُمَّ (رُدَّا
حَدِيْثُهُ) كَذَا (ضَعِيْفٌ جِدَّا)
343.
(وَاهٍ بَمَرَّةٍ) وَ(هُمْ قَدْ طَرَحُوْا
حَدِيْثَهُ) وَ(ارَمِ بِهِ مُطَّرَحُ)
344.
(لَيْسَ بِشَيءٍ) (لاَ يُسَاوِي شَيْئَا)
ثُمَّ (ضَعِيْفٌ) وَكَذَا إِنْ جِيْئَا
345.
بِمُنْكَرِ الْحَدِيْثِ أَوْ مُضْطَرِبِهْ
(وَاهٍ) وَ(ضَعَّفُوهُ) (لاَ يُحْتَجُّ بِهْ)
346.
وَبَعْدَهَا (فِيْهِ مَقَالٌ) (ضُعِّفْ)
وَفِيْهِ ضَعفٌ تُنْكِرُ وَتَعْرِفْ
347.
(لَيْسَ بِذَاكَ بالْمَتِيْنِ بِالْقَوِيْ
بِحُجَّةٍ بِعُمْدَةٍ بِالْمَرْضِيْ)
348.
لِلضَّعْفِ مَا هُوْ فيْهِ خُلْفٌ طَعَنُوْا
فِيْهِ كَذَا (سَيِّئُ حِفْظٍ لَيِّنُ)
349.
(تَكَلَّمُوا فِيْهِ) وَكُلُّ مَنْ ذُكِرْ
مِنْ بَعْدُ شَيْئَاً بِحَدِيْثِهِ اعْتُبِرْ
مراتبُ ألفاظِ التجريحِ على خَمْسِ مراتبَ ، وجَعَلَهَا ابنُ أبي حاتِمٍ - وتبِعَهُ ابنُ الصلاحِ - أربعَ مراتبَ :
المرتبةُ الأُولى : وهي أَسوؤُها أَنْ يُقالَ : فلانٌ كذَّابٌ ، أو يكذِبُ ، أو فلانٌ يضعُ الحديثَ ، أو وَضَّاعٌ ، أو وَضَعَ حديثاً ، أو دَجَّالٌ . وادخلَ ابنُ أبي حاتِمٍ ، والخطيبُ بعضَ ألفاظِ المرتبةِ الثانيةِ في هذهِ . قالَ ابنُ أبي حاتِمٍ : (( إذا قالوا : متروكُ الحديثِ ، أو ذاهبُ الحديثِ ، أو كذَّابٌ ، فهو ساقطٌ ، لا يُكتَبُ حديثُهُ )). وقالَ الخطيبُ : أَدونُ العباراتِ أَنْ يُقالَ : كذَّابٌ ساقِطٌ ، وقد فَرَّقْتُ بين بعضِ هذهِ الألفاظِ تبعاً لصاحبِ " الميزانِ " .
المرتبةُ الثانيةُ : فلانٌ مُتَّهَمٌ بالكذبِ ، أو الوضعِ ، وفلانٌ ساقطٌ ، وفلانٌ هالكٌ ، وفلانٌ ذاهبٌ ، أو ذاهبُ الحديثِ ، وفلانٌ متروكٌ ، أو متروكُ الحديثِ أو تركوهُ ، وفلانٌ فيه نظرٌ ، وفلانٌ سكتوا عنه - وهاتانِ العبارتانِ يقولهُمُا البخاريُّ فيمَنْ تركوا حديثَهُ -، فلانٌ لا يُعْتَبَرُ بِهِ ، أو لا يُعْتَبَرُ بحديثِهِ ، فلانٌ ليسَ بالثقةِ ، أو ليسَ بثقةٍ ، أو غيرُ ثقةٍ ولا مأمونٍ ، ونحوُ ذلك.
المرتبةُ الثالثةُ : فلانٌ رُدَّ حديثُهُ ، أو رَدُّوا حديثَهُ ، أو مردودُ الحديثِ ، وفلانٌ ضعيفٌ جِدَّاً ، وفلانٌ واهٍ بمرّةٍ ، وفلانٌ طرحوا حديثَهُ ، أو مُطرَّحٌ ، أو مطرَّحُ الحديثِ ، وفلانٌ أرمِ بِهِ ، وفلانٌ ليس بشئٍ ، أو لا شئَ ، وفلانٌ لا يُسَاوي شيئاً ، ونحوُ ذلك. وكلُّ مَنْ قِيْلَ فيهِ ذلكَ من هذهِ المراتبِ الثلاثِ ، لا يُحْتَجُّ بهِ ، ولا يُسْتَشْهَدُ بِهِ ، ولا يُعْتَبَرُ بِهِ .
المرتبةُ الرابعةُ : فلانٌ ضعيفٌ ، فلانٌ مُنكَرُ الحديثِ ، أو حديثُهُ منكرٌ ، أو مضطربُ الحديثِ ، وفلانٌ واهٍ ، وفلانٌ ضَعَّفُوهُ ، وفلانٌ لا يُحْتَجُّ بِهِ .
المرتبةُ الخامسة :ُ فلانٌ فيه مقالٌ ، فلانٌ ضُعِّفَ ، أو فيه ضَعْفٌ ، أو في حديثِهِ ضَعْفٌ ، وفلانٌ تَعْرِفُ وتُنْكِرُ ، وفلانٌ ليس بذاك ، أو بذاك القويِّ وليس بالمتينِ ، وليس بالقويِّ ، وليس بحُجَّةٍ، وليسَ بِعُمْدَةٍ، وليس بالمرضِيِّ وفلانٌ للضَّعْفِ ما هو ، وفيه خُلْفٌ ، وطعنُوا فيهِ ، أو مَطْعُوْنٌ فيه ، وَسَيِّئُ الحِفْظِ ، وَلَيِّنٌ ، أو لَيِّنُ الحديثِ ، أو فيه لِيْنٌ ، وتكلَّمُوا فيهِ ، ونحوُ ذلكَ .
وقولي : ( وَكُلُّ مَنْ ذُكِرْ مِنْ بَعْدُ شَيْئَا ) ، أي : مِنْ بعد قولي : ( لا يُساوي شيئاً ) ، فإنَّهُ يُخَرَّجُ حديثُه للاعتبارِ ، وهمُ المذكورون في المرتبةِ الرابعةِ والخامسةِ .
قالَ ابنُ أبي حاتِمٍ: إذا أجابوا في رَجُلٍ بأنه ليِّنُ الحديثِ، فهو مِمَّنْ يُكْتَبُ حديثُهُ ، وينظرُ فيه اعتباراً . وإذا قالوا: ليسَ بقويٍّ: فهو بمـنْزِلتِهِ في كَتْبِ حديثِهِ ، إلاَّ أنَّهُ دونَهُ . وإذا قالوا : ضعيفُ الحديثِ ، فَهُوَ دونَ الثاني ، لا يُطْرحُ حديثُهُ ، بَلْ يُعْتَبَرُ بِهِ . وَقَدْ تقدَّمَ في كلامِ ابنِ مَعِينٍ ما قدْ يخالفُ هَذَا مِنْ أَنَّ مَنْ قالَ فِيْهِ : ضعيفٌ ، فليس بثقةٍ ، لا يُكتَبُ حديثُهُ . وتقدَّمَ أَنَّ ابنَ الصلاحِ أجابَ عَنْهُ : بأَنَّهُ لَمْ يَحْكِهِ عن غيرِهِ من أهلِ الحديثِ . وسألَ حمزةُ السَّهْمِيُّ الدَّارَقطنيَّ: أَيْشٍ تريدُ إذا قلْتَ : فلانٌ لينٌ ؟ قال: لا يكونُ ساقطاً متروكَ الحديثِ ، ولكنْ مجروحاً بشيءٍ لا يُسْقِطُ عن العدالةِ .
وأما تَمْييزُ ما زدْتُهُ من ألفاظِ الجرحِ على ابنِ الصلاحِ ، فهي : فلانٌ وضَّاعٌ ، ويضعُ ، ووضَعَ ، ودجَّالٌ ، ومتَّهمٌ بالكذِبِ ، وهالكٌ ، وفيه نظرٌ ، وسَكَتُوا عنهُ ، ولا يُعتبرُ به ، وليس بالثقةِ ، ورُدَّ حديثُهُ، وضعيفٌ جِدَّاً ، وواهٍ بمرّةٍ ، وطرحُوا حديثَهُ ، وارمِ بِهِ، ومطَرَّحٌ ، ولا يُسَاوِي شيئاً ، ومنكرُ الحديثِ وواهٍ ، وضعفوهُ، وفيهِ مقالٌ، وضُعِّفَ ، وتَعْرِفُ وتُنكرُ ، وليس بالمتينِ ، وليسِ بحُجَّةٍ ، وليس بِعُمْدَةٍ ، وليسَ بالمَرْضِيِّ ، وللضَّعْفِ ما هوَ ، وفيهِ خُلْفٌ ، وطعنوا فيه ، وسَيِّئُ الحفظِ ، وتَكَلَّمُوا فيهِ .
فهذهِ الألفاظُ لم يذكُرْهَا ابنُ أبي حاتِمٍ ، ولا ابنُ الصلاحِ ، وهي موجودةٌ في كلامِ أئَمةِ أهلِ هذا الشأَنِ ، وأشرتُ إلى ذلك بقولي : ( وزدْتُ ما في كَلاَمِ أهلِهِ وَجدْتُ ) .
مَتَى يَصِحُّ تَحَمُّلُ الْحَدِيْثِ ، أَوْ يُسْتَحَبُّ ؟
350.
وَقَبِلُوا مِنْ مُسْلِمٍ تَحَمُّلاَ
فِي كُفْرِهِ كَذَا صَبِيٌّ حُمِّلاَ
351.
ثُمَّ رَوَى بَعْدَ الْبُلُوْغِ وَمَنَعْ
قَوْمٌ هُنَا وَرُدَّ (كَالسِّبْطَيْنِ) مَعْ
352.
إِحْضَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلصِّبْيَانِ ثُمّْ
قَبُوْلُهُمْ مَا حَدَّثُوا بَعْدَ الْحُلُمْ
مَنْ تحمَّلَ قبلَ دخولهِ في الإسلامِ ، وروى بعدَهُ قُبِلَ ذلك منهُ . مثالهُ : حديثُ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ المتفقُ على صحتِهِ:أَنَّهُ سمعَ النبيَّ r يقرأُ في المغربِ بالطُّوْرِ. وكانَ جاءَ في فِدَاءِ أُسَارَى بدرٍ قَبلَ أَنْ يُسْلِمَ. وفي روايةٍ للبُخَاريِّ : وذلكَ أَوَّلُ ما وقرَ الإيمانُ في قلبي. وكذلك تُقْبلُ روايةُ مَنْ سمعَ قبلَ البلوغِ ، وَرَوَى بعدَهُ. ومنعَ مِنْ ذلكَ قومٌ هنا ، أي : في مسألةِ الصبيِّ ، وهوَ خطأٌ مردودٌ عليهم .
وقولي: ( كالسِّبْطَيْنِ ) ، أي: كروايةِ الحَسنِ والحُسينِ ، وغيرهِما ، مِمَّنْ تَحَمَّلَ في حالِ صباهُ ، كعبدِ اللهِ بنِ الزُّبيرِ ، والنُّعمانِ بنِ بَشِيرٍ ، وعبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ ، والسائبِ بنِ يزيدَ ، والمِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ ، ونحوِهم .
وَقبِلَ الناسُ روايتَهُم مِنْ غيرِ فَرْقٍ بينَ ما تحمَّلُوهُ قبلَ البلوغِ وبعدَهُ . وكذلك كانَ أَهلُ العلمِ يُحضِرُونَ الصِّبيانَ مجالسَ الحديثِ وَيَعْتَدُّوْنَ بروايتِهِمْ بذلكَ بعدَ البلوغِ.
353.
وَطَلَبُ الْحَدِيْثِ فِي الْعِشْرِيْنِ
عِنْدَ (الزُّبَيْرِيِّ) أَحَبُّ حِيْنِ
354.
وَهْوَ الَّذِي عَلَيْهِ (أَهْلُ الْكُوْفَهْ)
وَالْعَشْرُ فِي (الْبَصْرَةِ) كَالْمَألُوْفَهْ
355.
وَفِي الثَّلاَثِيْنَ (لأَهْلِ الشَّأْمِ)
وَيَنْبَغِي تَقْيِيْدُهُ بِالْفَهْمِ
356.
فَكَتْبُهُ بالضَّبْطِ ، والسَّمَاعُ
حَيْثُ يَصِحُّ ، وَبِهِ نِزَاعُ
357.
فَالْخَمْسُ لِلْجُمْهُورِ ثُمَّ الحُجَّهْ
قِصَّةُ (مَحْمُوْدٍ) وَعَقْلُ الْمَجَّهْ
358.
وَهْوَ ابْنُ خَمْسَةٍ، وَقِيْلَ أَرْبَعَهْ
وَلَيْسَ فِيْهِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَهْ
359.
بَلِ الصَّوَابُ فَهْمُهُ الْخِطَابَا
مُمَيِّزاً وَرَدُّهُ الْجَوَابَا
حكى أبو محمَّدِ بنُ خَلاَّدٍ الرَّامَهُرْمُزِيُّ في كتابهِ " المحدِّثِ الفاصلِ " ، عن أبي عبدِ اللهِ الزُّبيريِّ من الشافعيةِ ، واسمُهُ الزُّبيرُ بنُ أحمدَ ، أَنَّهُ قالَ : يُستحبُ كَتْبُ الحديثِ في العشرينِ ؛ لأَنَّها مُجتمعُ العقلِ ، قالَ : وأحبُّ أَنْ يَشْتَغِلَ دونَها بحفِظِ القرآنِ ، والفرائِضِ .
وقولي : ( في العشرينِ ) - بكسر النون - على لغةٍ كقولِ الشاعرِ :
……………… وَقَدْ جاوزْتُ حَدَّ الأربعِيْنِ
وقالَ موسى بنُ إسحاقَ : كانَ أهلُ الكوفةِ لا يُخرِجُونَ أولادَهُم في طلبِ الحديثِ صِغَاراً ، حَتَّى يستكمِلوا عشرينَ سنةً . وقالَ موسى بنُ هارونَ الحمَّالِ : أهلُ البصرةِ يكتبُوْنَ لعشرِ سنينَ ، وأهلُ الكوفةِ لعشرينَ ، وأهلُ الشَّامِ لثلاثينَ .
وقوليِ : ( وَيَنْبَغِي تَقْييدُهُ ) ، أي : طلبُ الحديثِ وكتابتُهُ بالضبطِ ، وسماعُهُ مِنْ حيثُ يصحُّ . فقولهُ : ( والسَّماعُ ) ، مرفوعٌ عطفاً على قولهِ : ( فكتبهُ ) . قال ابنُ الصلاحِ : (( وينبغي بعدَ أَنْ صار الملحوظُ إبقاءَ سلسلةِ الإسنادِ أن يُبَكَّرَ بإسماعِ الصغيرِ في أَولِ زمانٍ يَصِحُّ فيهِ سماعُهُ . وأمَّا الاشتغالُ بِكَتْبِهِ الحديثَ وتحصيلِهِ ، وضبطِهِ ، وتقييدِهِ ، فمن حيثُ يتأهَّلُ لذلكَ ويستعدُ لهُ ، وذلكَ يختلفُ باختلافِ الأشخاصِ ، وليس ينحصرُ في سِنٍّ مخصوصٍ )) . وقولي : ( وَبِهِ نِزَاعٌ ) ، أي : وفي الوقتِ الذي يصحُ فيه السماعُ نزاعٌ بين العلماءِ ، وهي أربعةُ أقوالٍ : أحدُها : ما ذهبَ إليه الجمهورُ أَنَّ أقلَّهُ خمسُ سنينَ . وحكاهُ القاضي عياضٌ في " الإلماع " عن أَهلِ الصنعةِ . وقالَ ابنُ الصلاحِ : هو الذي استقرَّ عليه عملُ أهلِ الحديثِ المتأخِّرينَ ، وحجتُهُم في ذلكَ ما رواهُ البخاريُّ في صحيحِهِ والنسائيُّ وابنُ ماجه ، من حديثِ محمودِ بنِ الرَّبيعِ قالَ : عَقَلْتُ مِنَ النبيِّ مَجَّةً مَجَّهَا في وَجْهِي مِنْ دلوٍ وأنا ابنُ خمسِ سنينَ . بَوَّبَ عليهِ البخاريُّ : متى يصحُّ سماعُ الصغيرِ ؟ قالَ ابنُ عبدِ البَرِّ : حَفِظَ ذلكَ عنهُ وهوَ ابنُ أربعِ سنينَ ، أو خمسِ سنينَ .
وأثبْتُ هاءَ التأنيثِ في خمسةٍ أو أربعةٍ لإرادةِ الأعوامِ. وأثبْتُ مع حذفِ المعدودِ عَلَى إِحدى اللُّغتيْنِ . وليسَ في حديثِ محمود سُنَّةٌ مُتَّبعةٌ ، إذ لا يلزمُ منه أَنْ يُمَيِّزَ كلُّ أَحدٍ تمييزَ محمودٍ ، بلْ قد ينقصَ عنه وقدْ يزيدُ . ولا يلزمُ منه ألاَّ يعقِلَ مثلَ ذلكَ وسِنُّهُ أَقلُ من ذلكَ ، ولا يلزمُ مِنْ عَقْلِ المَجَّةِ أَنْ يَعْقِلَ غيرَ ذلك مما يسمَعُهُ. والقولُ الثاني من الخلافِ في صحةِ سماعِ الصغيرِ اعتبارُ تمييزِهِ على الخصوصِ، فمتى كانَ يفهمُ الخطابَ، ويردُّ الجوابَ ؛ كان سماعُهُ صحيحاً ، وإنْ كانَ ابْنَ أقلّ مِنْ خمسٍ وإنْ لم يكنْ كذلك لم يصحَّ ، وإنْ زادَ على الخمسِ . وهذا هو الصوابُ ، وسيأتي القولانِ الآخرانِ في الأبياتِ التي تلي هذا .
360.
وَقِيْلَ: (لابْنِ حَنْبَلٍ) فَرَجُلُ
قال : لِخَمْسَ عَشْرَةَ التَّحَمُّلُ
361.
يَجُوْزُ لاَ فِي دُوْنِهَا، فَغَلَّطَهْ
قال : إذا عَقَلَهُ وَضَبَطَهْ
362.
وَقِيْلَ: مَنْ بَيْنَ الْحِمَارِ وَالْبَقَرْ
فَرَّقَ سَامِعٌ ، وَمَنْ لاَ فَحَضَرْ
363.
قال: بِهِ الَحْمَّالُ ، وابْنُ الْمُقْرِيْ
سَمَّعَ لاِبْنِ أَرْبَعٍ ذِي ذُكْرِ
وممَّا يدلُّ على اعتبارِ التمييزِ في صحةِ سماعِ الصبيِّ ، قولُ أحمدَ وقدْ سُئِلَ : مَتَى يصحُّ سماعُ الصبيِّ للحديثِ ؟ فقالَ: إذا عَقَلَ وَضَبَطَ. فَذُكرَ لهُ عَنْ رجلٍ أنَّهُ قالَ : لا يجورُ سماعُهُ حَتَّى يكونَ له خمسَ عَشْرَةَ سنةً ، فأنكرَ قولَهُ ، وقالَ : بئسَ القولُ . وهذا هو القولُ الثالثُ .
والقولُ الرابعُ : وهو قولُ موسى بنِ هارونَ الحمَّالِ ، وقد سُئِلَ متى يجوزُ سماعُ الصبيِّ للحديثِ ؟ فقالَ : إذا فَرَّقَ بَيْنَ البقرةِ والدابَّةِ ، وفي روايةٍ بَيْنَ البَقَرَةِ والحِمَاْرِ . وقولي : ( وابنُ الْمُقْرِيْ ) هُوَ مبتدأٌ ليسَ معطوفاً عَلَى الحمَّالِ . والذي سمعَ لهُ ابنُ المقرئ هُوَ الْقَاضِي أبو محمدٍ عبدُ اللهِ بنُ محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ اللَّبانِ الأصبهانيُّ. فروينا عَنْ الخطيبِ قالَ: سمعتُهُ يقولُ : حفِظْتُ القرآنَ ولي خمسُ سنينَ ، وأُحْضِرْتُ عِنْدَ أبي بكرِ بنِ المقري ، ولي أربعُ سنينَ ، فأرادوا أن يُسَمِّعُوا لي فِيْمَا حَضَرْتُ قراءتَهُ ، فَقَالَ بعضُهُم : إنَّهُ يصغرُ عَنْ السماعِ ! فقالَ لي ابنُ المقرئ : اقرأْْ سورةَ (( الكافرون )) ، فقرأتُها . فقالَ : اقرأْ سورةَ (( التكويرِ )) ، فقرأتها . فقالَ لي غيرُهُ : اقرأْ سورةَ و (( المرسلاتِ ))، فقرأتها، وَلَمْ أَغلطْ فِيْهَا . فَقَالَ ابنُ المقرئ: سمِّعوا لَهُ والعُهْدَةُ عليَّ. وقالَ ابنُ الصلاحِ : بَلَغَنَا عنْ إبراهيمَ بنِ سعيدٍ الْجَوْهَرِيِّ ، قالَ : رأيتُ صبيَّاً ابنَ أربعِ سنينَ ، قد حُمِلَ إلى المأمونِ ، قد قَرأَ القرآنَ ، ونظرَ في الرأيِ ، غيرَ أَنّهُ إذا جاع يَبْكي ! والذي يَغْلبُ على الظنِّ عدمُ صحةِ هذهِ الحكايةِ ، وقد رواها الخطيبُ في الكفايةِ بإسنادِهِ ، وفي سَنَدِها أحمدُ بنُ كاملٍ القاضي ، وكان يعتمدُ على حفظِهِ فيهم. وقال الدَّارقطنيُّ : كانَ متساهلاً .
أَقْسَاْمُ التَّحَمُّلِ
وَأَوَّلُهَا : سَمَاْعُ لَفْظِ الشَّيْخِ
364.
أَعْلَى وُجُوْهِ الأَخْذِ عِنْدَ الْمُعْظَمِ
وَهْيَ ثَمَانٍ : لَفْظُ شَيْخٍ فَاعْلَمِ
365.
كتَاباً او حِفْظاً وَقُلْ: (حَدَّثَنَا)
(سَمِعْتُ) ، أَوْ (أَخْبَرَنَا) ، (أَنْبَأَنَا)
366.
وَقَدَّمَ (الْخَطِيْبُ) أَنْ يَقُوْلاَ :
(سَمِعْتُ) إِذْ لاَ يَقْبَلُ التَّأْوِيْلاَ
367.
وَبَعْدَهَا (حَدَّثَنَا) ، (حَدَّثَنِي)
وَبَعْدَ ذَا (أَخْبَرَنَا) ، (أَخْبَرَنِي)
368.
وَهْوَ كَثْيِرٌ وَ (يَزِيْدُ) اسْتَعْمَلَهْ
وَغَيْرُ وَاحِدٍ لِمَا قَدْ حَمَلَهْ
369.
مِنْ لَفْظِ شَيْخِهِ، وَبَعْدَهُ تَلاَ:
(أَنْبَأَنَا) ، (نَبَّأَنَا) وَقَلَّلاَ
وجوهُ الأخذِ للحديثِ وتحمُّلهِ عن الشيوخِ ثمانيةٌ . فأرفعُ الأقسامِ وأعلاهَا عندَ الأكثرينَ : السماعُ مِنْ لفظِ الشيخِ ، سواءٌ حَدَّثَ من كتابِهِ أو حفظهِ بإملاءٍ أو غيرِ إملاءٍ . وقولي : ( وقُلْ : حَدَّثَنَا ) ، أي : وقُلْ في حالةِ الأداءِ لما سمعتَهُ هكذا من لفْظِ الشيخِ . قال القاضي عياضٌ : لا خلافَ أَنَّهُ يجوزُ في هذا أن يقولَ السامعُ منهُ : حَدَّثَنَا ، وأخبرنا ، وأنبأنا ، وسمعتُ فلاناً يقولُ ، وقالَ لنا فلانٌ ، وذكرَ لنا فلانٌ . وقالَ ابنُ الصلاحِ : في هذا نظرٌ ، وينبغي فيما شاعَ استعمالُهُ من هذهِ الألفاظِ مخصوصاً بما سمعَ من غيرِ لفظِ الشيخِ أن لا يُطْلَقَ فيما سَمِعَ من لفظهِ، لما فيهِ من الإيهامِ، والإلباسِ . قلت : ولم أذكرْ هذا في النَّظْمِ ؛ لأنَّ القاضي حكى الإجماعَ على جوازهِ ، وهو مُتَّجِهٌ، ولا شكَ أَنَّهُ لا يجبُ على السامعِ أَنْ يُبَيِّنَ هل كان السماعُ من لفظِ الشيخِ أو عَرْضَا ؟ نَعَمْ ، إطلاقُ أنبأنا بعد أنِ اشتهَرَ استعمالُها في الإجازةِ يؤدي إلى أَنْ يُظنَّ بما أدَّاهُ بها أنَّهُ إجازةٌ فيسقطُهُ مَنْ لا يحتجُ بالإجازةِ فينبغي أن لا تُستعملَ في المتصلِ بالسماعِ، لما حدثَ من الاصطلاحِ . وقال الخطيبُ : أرفعُ العباراتِ : سمعتُ ، ثُمَّ حَدَّثَنَا وحَدَّثَني ، ثُمَّ أخبرنا ، وهو كثيرٌ في الاستعمالِ ، ثم أنبأنا ونبأنا ، وهو قليلٌ في الاستعمالِ . وقال أحمدُ بنُ صالحٍ : أخبرنا وأنبأنا دونَ حَدَّثَنَا . وقال أحمدُ بنُ حنبلٍ : أخبرنا أسهلُ من حَدَّثَنَا ، حَدَّثَنَا شديدٌ . واستدلَ الخطيبُ على ترجيحِ سمعتُ بأَنَّهُ لا يكادُ أحدٌ يقولُها في أَحاديثِ الإجازةِ ، والمكاتبةِ ، ولا في تَدْليسِ ما لم يسمعْهُ . واستعملَ بعضهُمُ حَدَّثَنَا في الإجازةِ ، ورُوِيَ عن الحسن ، قال : حَدَّثَنَا أبو هريرة ويتأوَّلُ : حَدَّثَ أهلَ المدينةِ والحسنُ بها . قال ابنُ دقيقِ العيدِ : وهذا إذا لمْ يَقُمْ دليلٌ قاطعٌ على أَنَ الحسنَ لم يسمعْ من أبي هريرةَ لم يَجُزْ أَنْ يُصَارَ إليه . قلتُ: قال أبو زرعةَ ، وأبو حاتِم : مَنْ قال عن الحسن حَدَّثَنَا أبو هريرةَ ، فقد أخطأ. انتهى. والذي عليهِ العملُ أَنَّهُ لم يَسْمَعْ منه شيئاً . قال أيوبُ وبَهْزُ بنُ أسدٍ ويونسَ بنُ عبيدٍ وأبو زُرْعَةَ وأبو حاتِمٍ والترمذيُ والنسائيُ والخطيبُ ، وغَيْرُهُم . وزاد يونُسُ ما رآه قَطُّ . وقيل : سمعَ منه ، وهو ضعيفٌ . وقال ابنُ القطانِ : واعلمْ أنَّ حَدَّثَنَا ليستْ بنصٍ في أَنَّ قائِلَها سمعَ ، ففي مسلمٍ حديثُ الذي يقتلُهُ الدَّجَّالُ ، فيقولُ : أنتَ الدَّجَّالُ الذي حَدَّثَنَا بهِ رسولُ اللهِ ؟ قَالَ : ومعلومٌ أَنَّ ذَلِكَ الرجلَ متأخِّرُ الميقاتِ . انتهى .
فيكونُ مرادُهُ حَدَّثَ أُمَّتَهُ وَهُوَ مِنْهُمْ . وَقَدْ قالَ مَعْمَرٌ : إِنَّهُ الخضرُ ، فحينئذٍ لا مانعَ من سماعهِ . وقولي : ( ويزيدُ استعمَلَه ) ، أي : ويزيدُ بنُ هارونَ وغيرُ واحدٍ استعملَ أخبرَنا فيما سَمِعَهُ من لفظِ الشيخِ . قالَ محمدُ بنُ أبي الفوارسِ : هُشَيْمُ ويزيدُ بنُ هارونَ وعبدُ الرزاقِ ؛ لا يقولونَ إلا أخبرنا ، فإذا رأيتَ حَدَّثَنَا فهو مِنْ خطأ الكاتبِ . وحكى الخطيبُ : أَنَّ مِمَّنْ كان يفعلُ ذلكَ أيضاً : حمَّادَ بنَ سلمةَ وابنَ المباركِ وهُشيماً وعبيدَ اللهِ بنَ موسى وعمرَو بنَ عَوْنٍ ويحيى بنَ يحيى التَّمِيميَّ وابنَ رَاهَوَيْهِ وأحمدَ بنَ الفراتِ ومحمّدَ ابنَ أيوبَ الرازيَّيْنِ . وذُكِرَ عَنْ محمدِ بنِ رافعٍ أَنَّ عبدَ الرزاقِ كانَ يقولُ : أخبرنا ، حتى قدمَ أحمدُ وإسحاقُ فقالا له : قُلْ حَدَّثَنَا ، مما سمعتَ معَ هَؤلاءِ ، قالَ : حَدَّثَنَا . وما قبل ذلكَ كانَ يقولُ : أخبرنا . وقالَ ابنُ الصلاحِ بعد حكايةِ كلامِ ابنِ أبي الفوارسِ : - قُلتُ:- وكان هذا كلُّهُ قبلَ أَنْ يشيعَ تخصيصُ أخبرنا بما قُرئَ على الشيخِ .
370.
وَقَوْلُهُ : (قَالَ لَناَ) وَنَحْوُهَا
كَقُوْلِهِ : (حَدَّثَنَا) لَكِنَّهَا
371.
الْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهَا مُذَاكَرَهْ
وَدُوُنَهَا (قَالَ) بِلاَ مُجَارَرَهْ
372.
وَهْيَ عَلى السَّمَاعِ إِنْ يُدْرَ اللُّقِيْ
لاَ سِيَّمَا مَنْ عَرَفُوْهُ فِي الْمُضِيْ
373.
أنْ لاَ يَقُوْلَ ذَا بِغَيْرِ مَا سَمِعْ
مِنْهُ (كَحَجَّاجٍ) وَلَكِنْ يَمْتَنِعْ
374.
عُمُوْمُهُ عِنْدَ الْخَطيْبِ وَقُصِرْ
ذَاكَ عَلى الَّذِي بِذَا الوَصْفِ اشْتُهِرْ
قولُ الراوي: قالَ لنا فلانٌ، أو قالَ لي ، أو ذَكَرَ لنا ، أو ذَكَرَ لِي، ونحوُ ذلك ؛ هو من قبيلِ قولِهِ : حَدَّثَنَا فلاَنٌ في أَنَّهُ متصلٌ. لكنَّهُم كثيراً ما يستعملونَ هذا فيما سمعوهُ في حالةِ المذاكرةِ . قال ابنُ الصلاحِ : إنه لائقٌ بهِ وهو بهِ أشبهُ مِنْ حَدَّثَنَا . وخالف أبو عبدِ الله بنُ مَنْدَه في ذلك ، فقالَ فيما رويناهُ في جزءٍ له : أَنَّ البخارِيَّ حيثُ قال : قالَ لي فلانٌ ، فهو إجازةٌ ، وحيثُ قال : قالَ فلانٌ ، فهو تدليسٌ ، ولم يقبلِ العلماءُ كلامَهُ هذا ، وسيأتي كلامُ ابنِ حمْدَانَ بما يخالفُ هذا في كيفيةِ الروايةِ بالمناولةِ والإجازةِ ، حيث ذكرَهُ ابنُ الصلاحِ . ولما ذكرَ أبو الحسنِ بنُ القطانِ تدليسَ الشيوخِ ؛ قال : وأَما البخاريُّ فذلك عنه باطلٌ .
ودون هذهِ العبارةِ قولُ الراوي: قال فلانٌ وذكرَ فلانٌ منِ غيرِ ذِكْرِ الجارِ والمجرورِ ، وهذا معنى قولي : ( بلا مجارَرَه ) ، وهو براءَيْنِ ، وهذهِ أوضعُ العباراتِ ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ ، ومع ذلك فهي محمولةٌ على السماعِ بالشرطِ المذكورِ في الْمُعَنْعَنِ ، وهو إذا عُلِمَ اللُّقِيُّ ، أي : وسَلِمَ الراوي من التدليسِ ، كما اشترطَ هناكَ وإِنْ لم يذكرْ هنا تبعاً لابنِ الصلاحِ ، لا سِيِّما مَنْ عُرِفَ من حالِهِ أَنَّهُ لا يَرْوي إِلا ما سمعَهُ . كحجَّاجِ بنِ محمدٍ الأعورِ ، فروى كُتبَ ابنِ جُرَيْجٍ بلفظِ : قالَ ابنُ جريجٍ ، فحملَها الناسُ عنه واحتَجُّوا بها ، هذا هو المحفوظُ المعروفُ ، وخصَّصَ الخطيبُ ذلك بمَنْ عُرِفَ من عادتهِ مثلُ ذلك ، فأمَّا مَنْ لا يُعْرَفُ بذلك ، فلا يحملِهُ على السماعِ .
مَرَاْتِبُ التَّعْدِيْلِ
إِبْنُ أبي حَاتِمِ إِذْ رَتَّبَهُ
وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيْلُ قَدْ هَذَّبَهُ
326.
مَا فِي كَلاَمِ أَهْلِهِ وَجَدْتُ
وَالشَّيْخُ زَادَ فِيْهِمَا ، وَزِدْتُ
327.
هذهِ الترجمةُ معقودةٌ لبيانِ أَلْفاظهِمِ في التعديلِ، التي يَدُلُّ تغايُرُهَا على تبايُنِ أحوالِ الرواةِ في القوَّةِ . وَقَدْ رتَّبَ ابنُ أبي حاتِمٍ في مقدّمةِ كتابِهِ " الجرحِ والتعديلِ " طبقاتِ أَلْفَاظهِمِ فيهما ، فأَجادَ وأَحسنَ . وَقَدْ أَوردَها ابنُ الصلاحِ وزادَ فيهِمَا ألفاظاً أَخَذَهَا منْ كلامِ غيرِهِ. وَقَدْ زِدْتُ عليهِمَا أَلفاظاً من كلامِ أَهْلِ هذا الشأنِ غيرَ مُتمَيِّزَةٍ بـقُلتُ؛ ولكنِّي أوضِّحُ ما زدْتُ عليهِمَا هنا إِنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى .
328.
فَأَرْفَعُ التَّعْدِيلِ : مَا كَرَّرْتَهُ
كَــثِقَةٍ ثَبْتٍ وَلَوْ أَعَدْتَهُ
329.
ثُمَّ يَلِيْهِ ثِقَةٌ أوْ ثَبْتٌ اوْ
مُتْقِنٌ اوْ حُجَّةٌ اوْ إذا عَزَوْا
330.
الحِفْظَ أَوْ ضَبْطاً لِعَدْلٍ وَيَلِي
لَيْسَ بِهِ بَأسٌصَدُوقٌ وَصِلِ
331.
بِذَاكَ مَأَمُوْناً خِيَاراً وَتَلا
مَحَلُّهُ الصّدْقُ رَوَوْا عَنْهُ إلى
332.
الصِّدْقِ مَا هُوَ كذَا شَيْخٌ وَسَطْ
أَوْ وَسَطٌ فَحَسْبُ أَوْ شَيْخٌ فَقَطْ
333.
وَصَالِحُ الْحَدِيْثِ أَوْ مُقَارِبُهْ
جَيِّدُهُ ، حَسَنُهُ ، مُقَارَبُهْ
334.
صُوَيْلِحٌ صَدُوْقٌ انْ شَاءَاللهْ
أَرْجُوْ بِأَنْ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ عَرَاهْ
مراتبُ التعديلِ على أَربعِ أَوْ خَمْسِ طبقاتٍ .
فالمرتبةُ الأُولى : العُليا منْ ألفاظِ التعديلِ ، ولم يذكرُها ابنُ أبي حاتِمٍ ، ولا ابنُ الصلاحِ فيما زادهُ عليه ؛ وَهِيَ: إذا كُرِّرَ لفظُ التوثيقِ المذكورِ في هَذِهِ المرتبةِ الأُولى ، إمَّا مَعَ تبايُنِ اللَّفظيْنِ ، كقولِهِم : ثَبْتٌ حُجَّةٌ أو ثَبْتٌ حَافظٌ أو ثقةٌ ثبتٌ ، أو ثقةٌ مُتْقِنٌ أو نحوُ ذَلِكَ. وإمَّا مَعَ إعادةِ اللَّفظِ الأوَّلِ، كقولِهِم: ثقةٌ ثقةٌ ، ونحوِها . وهذا المرادُ بقولي : وَلَوْ أعدتَهُ ، أي : لَوْ أعدْتَ اللَّفظَ الأَولَ بعينِهِ 5 ، فهذهِ المرتبةُ أعلى العباراتِ في الرواةِ المقبولينَ، كَمَا قالَهَ الحافظُ أبو عبدِ اللهِ الذهبيُّ في مقدّمةِ كتابِهِ " ميزان الاعتدال " . وقولي: ك: ثقةٍ ثبتٍ ، أُشيرُ بالمثالِ إلى أَنَّ المرادَ تكرارُ ألفاظِ هذهِ المرتبةِ الأُولى ، لا مُطْلَقُ تكرارِ التوثيقِ .
المرتبةُ الثانيةُ : وهي التي جعلَها ابنُ أبي حاتِمٍ ، وتبعَهُ ابنُ الصلاحِ المرتبةَ الأُولى ؛ قال ابنُ أبي حاتِمٍ : وَجَدْتُ الأَلفاظَ في الجرحِ والتعديلِ على مراتبَ شَتَّى ، فإذا قِيلَ للواحدِ : إنَّه ثقةٌ أو مُتْقِنٌ ، فهو مِمَّنْ يُحْتَجَّ بحديثهِ . قالَ ابنُ الصلاحِ : وكذا إذا قيلَ :