الاثنين، 14 مايو 2018

ج1//4 زاد المعاد



ج1/4 زاد المعاد فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الكسوف
لما كَسَفَتِ الشَّمسُ، خرجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المسجد مُسرِعاً فزِعاً يجُرُّ رداءه، وكان كسُوفُها في أوَّل النهار على مقدار رُمحين أو ثلاثة مِن طلوعها، فتقدَم، فصلى ركعتين، قرأ في الأولى بفاتحة الكتاب، وسورة طويلة، جهر بالقراءة، ثم ركع، فأطال الركوع، ثم رفع رأسه من الركوع، فأطال القيام وهو دون القيام الأول، وقال لما رفع رأسه: "سَمعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الحَمْد" ، ثم أخذ في القراءة، ثم ركع، فأطال الركوع وهو دون الركوع الأولِ، ثم رفع رأسه من الركوع، ثم سجد سجدة طويلة فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الأخرى مِثلَ ما فعل في الأولى، فكان في كُلِّ ركعة رُكوعان وسجودان، فاستكمل في الركعتين أربعَ ركعات وأربعَ سجدات، ورأى في صلاته تلك الجنة والنار، وهمَّ أن يأخذ عُنقوداً من الجنة، فيُريَهم إياه، ورأى أهل العذاب في النار، فرأى امرأة تخدِشُها هِرَّةٌ ربطتها حتى ماتت جُوعاً وعطشاً، ورأى عمرو بن مالك يجر أمعاءَه في النار، وكان أولَ من غيَّر دين إبراهيم، ورأى فيها سارِقَ الحاج يُعذَب، ثم انصرف، فخطب بهم خطبة بليغة، حُفِظَ منها قوله: "إنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَر آَيَتَانِ مِن آياتِ الله لا يَخْسِفَانِ بمَوْتِ أَحَدٍ، وَلا لِحَياتِهِ، فإذا رَأيْتُم ذَلِكَ، فادعوا الله وكَبروا، وصَلُوا، وتَصدَقوا يا أُمَّةَ مُحَمَّد، والله مَا أَحَدٌ أَغيَرَ مِنَ الله أَنْ يزنيَ عَبدُهُ، أَوْ تَزْنيَ أَمَته، يا أمَّة محَمَّد، والله لَو تَعلَمون ما أَعلَم لَضحِكتم قَليلاً، وَلَبَكَيْتمْ كَثِيراً ".
وقال: " لَقَدْ رَأيتُ في مَقَامِي هذا كُلَّ شَيءٍ وُعِدتُم به، حَتَّى لَقَدْ رأيتُني أريد أن آخذَ قِطفاً مِن الجنة حِينَ رأيتُمُوني أَتَقدَمُ، وَلَقَد رأيتُ جَهَنَّم يَحطِم بَعْضُها بَعْضَاً حِينَ رأيْتمُوني تَأَخَّرتُ".
وفي لفظ: وَرَأيت الناَّرَ فلم أرَ كاليوم مَنْظراَ قَطّ أَفْظَعَ منها، ورَأيْت
أكثَر أهلِ ألنار النِّسَاءَ. قالُوا: وَبِمَ يا رسول الله؟ قال: بِكُفرِهنَّ. قيل: أيكفُرنَ بالله؟ قال: يَكْفرنَ العَشيرَ، وَيَكفرنَ الإِحسَان، لو أَحسَنتَ إلى إحْداهنَّ الدَّهْرَ كُلَّه، ثُمَّ رأت مِنكَ شَيئاً، قالت: مَا رَأيْتُ مِنكَ خَيراً قطُّ.
ومنها: "ولَقَدْ أُوحِي إليَّ أنَكُم تُفتَنون في القُبورِ مِثلَ، أو قَريباً مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَال، يُؤْتى أَحَدُكُم فَيُقال له: ما عِلْمُك بِهَذا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا المُؤمِن أو قال: المُوقِن، فيقول: مُحَمَّد رَسُول الله، جاءنَا بالبيِّنَاتِ وَالهُدَى، فَأَجَبنا، وآمنَاَّ، واتَّبَعنَا، فيُقال لَهُ: نم صَالِحاً فَقَدْ عَلِمنَا إن كنتَ لمؤمنا، وأمَّا المُنافِق أَوْ قَالَ: المُرْتابُ، فيَقُول: لا أدْرِي، سمِعْت النَّاسَ يَقولُون شَيئاً، فقلتُه".
وفي طريق أخرى لأحمد بن حنبل رحمه الله، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سَلَّمَ، حَمِدَ الله وأثنى عليه، وشَهد أن لا إلَه إلاَّ الله، وأنَّه عبدُه ورسولُه، ثم قال: "أَيُّهَا الناَّسُ، أُنُشِدُكُم باللهِ هَلْ تَعْلَمونَ أنِّي قَصرْتُ في شيء مِنْ تَبْلِيغ رِسَالاتِ ربِّي لمَا أخْبَرتُموني بِذَلِك؟ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: نَشْهَدُ أَّنكَ قَدْ بَلَّغْتَ رِسَالاَتِ رَبِّكَ، وَنَصَحْتَ لأُمَّتِكَ، وقَضيْتَ الَّذي عَلَيْكَ". ثُمَّ قَال: "أمَّا بَعدُ فإنَّ رِجَالاً يَزعَمُونَ أَنَّ كُسُوفَ هذِهِ الشَّمْس، وكُسُوفَ هَذا القَمَر، وَزَوَالَ هذه
النُّجُومِ عَن مَطالِعها لِموتِ رِجَالٍ عُظَمَاءَ مِنْ أَهْل الأرْضِ، وإنَّهُم قَدْ كَذَبُوا، وَلَكِنَّهَا آيات مِن آياتِ الله تَبارَكَ وَتَعَالى يَعْتَبِرُ بِهَا عِبادُهُ، فَيَنظُرُ منْ يُحْدِثُ مِنهُم تَوْبَةً، وايْمُ اللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ منُذ قُمْتُ أُصَلِّي ما أَنْتُم لاقُوه مِنْ أمْرِ دُنيَاكُمْ وآخِرَتِكُم، وإنَّهُ - واللهُ أَعْلَمُ - لا تَقوم السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلاثَون كَذَّاباً آخرُهُم الأعْوَرُ الدَّجَّالُ، مَمْسُوح العَيْنِ اليسْرى، كَأَنَّها عَيْنُ أَبي تحيى لِشيْخٍ حِينَئذٍ مَن الأَنْصَارِ، بَينَه وبَيْنَ حُجرَة عائشة، وإنَّه مَتَى يَخْرُجْ، فسَوْفَ يَزْعُمُ أنَّه اللهُ، فَمَن آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ واتّبَعَه، لَم يَنفَعْه صَالح مِن عَمَلِه سَلَفَ، وَمن كَفَر به وكَذَّبه، لَم يُعاقَب بشيءٍ مِنْ عَمَلِهِ سَلَفاً، وإنَّه سَيَظهَرُ عَلَى الأَرْضِ كُلِّهَا إلاَّ الحَرَمَ وَبَيْتَ المَقدِس، وإنه يَحْصُر المُؤمنين في بَيْت المَقْدِس، فَيُزَلْزَلونَ زِلزَالاً شَدِيدَاً، ثُمَّ يُهلِكُه الله عزَّ وجَلَّ وَجنودَه، حتى إنَّ جِذْمَ الحَائِطِ أَوْ قَال: أَصْلَ الحَائِطِ، وأصْلَ الشَّجَرَةِ ليُنَادي: يا مُسْلمُ، يا مُؤْمِن، هذَا يَهُودِيٌ، أَوْ قَالَ: هَذَا كَافِرٌ، فَتَعَالَ فاقْتُلْهُ قَالَ: وَلَنْ يَكُونَ ذلِكَ حَتَى تَرَوْا أُمُوراً يَتَفَاقَمُ بَيْنكم شَأْنُهَا في أَنْفُسِكم، وتساءلونَ بَيْنكم: هَلْ كَانَ نَبيّكُمْ ذَكَر لَكُمْ مِنْهَا ذِكْراَ: وحتَّى تَزُولَ جِبَالٌ عَنْ مَراتِبها، ثمَّ على أثَر ذَلِكَ القَبْضُ".
فهذا الذي صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صفة صلاة الكسوف وخطبتها. وقد رُوي عنه أنه صلاَّها على صفات أخر.
منها: كُلّ ركعة بثلاث ركوعات.
ومنها: كل ركعة بأربع ركوعات.
ومنها: إنها كإحدى صلاة صُلِّيت كل ركعة بركوع واحد، ولكن كِبار الأئمة، لا يُصححون ذلك، كالإِمام أحمد، والبخاري، والشافعي، ويرونه غلطاً. قال الشافعي وقد سأله سائل، فقال: روى بعضُهم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بثَلاث ركعاتٍ في كل ركعة، قال الشافعي: فقلتُ له: أتقول به أنت؟ قال: لا، ولكن لِم لم تقل به أنت وهو زيادةٌ على حديثكم؟ يعني حديثَ الركوعين في الركعة، فقلتُ: هو من وجه منقطع، ونحن لا نثبت المنقطع على الانفراد، ووجهٍ نراه -والله أعلم - غلطاً، قال البيهقي: أراد بالمنقطع قولَ عبيد بن عمير: حدثني من أصدِّق، قال عطاء: حسبته يُريد عائشة الحديث، وفيه: فركع في كلِّ ركعة ثلاثَ رُكوعات وأربعَ سجدات. وقال قتادة: عن عطاء، عن عُبيد بن عمير، عنها: ست ركعات في أربع سجدات فعطاء، إنما أسنده عن عائشة بالظن والحسبان، لا باليقين، وكيف يكون ذلك محفوظاً عن عائشة، وقد ثبت عن عُروة، وعَمرة، عن عائشة خلافه وعروة وعمرة أخصُّ بعائشة وألزمُ لها من عُبيد بن عمير وهما اثنان، فروايتُهما أولى أن تكون هي المحفوظة. قال: وأما الذي يراه الشافعي غلطاً، فأحسبه حديثَ عطاء عن جابر: "انكسفتِ الشمسُ في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ ماتَ إبراهيمُ بن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.، فقال الناسُ إنما انكسفت الشَّمسُ لموت إبراهيم، فقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلّى بالنَّاس ستِ
ركعات في أربع سجدات" الحديث.
قال البيهقي: من نظر في قصة هذا الحديث، وقصة حديث أبي الزبير، علم أنهما قصة واحدة، وأن الصلاة التي أخبر عنها إنما فعلها مرة واحدة، وذلك في يوم توفي ابنه إبراهيم عليه السلام.
قال: ثم وقع الخلافُ بين عبد الملك يعني ابن أبي سُليمان، عن عطاء، عن جابر، وبين هشام الدستوائي، عن أبي الزُّبير، عن جابر في عدد الركوع في كل ركعة، فوجدنا رواية هشام أولى، يعني أن في كل ركعة ركوعين فقط، لكونه مع أبي الزبير أحفظ من عبد الملك، ولموافقة روايته في عدد الركوع رواية عَمرة وعروة عن عائشة، ورواية كثير بن عباس، وعطاء بن يسار، عن ابن عباس، ورواية أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو، ثم رواية يحيى بن سليم وغيره، وقد خولف عبدُ الملك في روايته عن عطاء، فرواه ابن جريج وقتادة، عن عطاء، عن عُبيد بن عمير: ست ركعات في أربع سجدات، فرواية هشام عن أبي الزبير عن جابر التي لم يقع فيها الخلافُ ويُوافقها عدد كثيرٌ أولى من روايتي عطاء اللتين إنما إسناد أحدِهما بالتوهم، والأخرى يتفرد بها عنه عبد الملك بن أبي سليمان، الذي قد أُخذَ عليه الغلطُ في غير حديث.
قال: وأما حديثُ حبيب بن أبي ثابت، عن طاووس، عن ابن عباس، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه صلى في كسوف، فقرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم سجد قال والأخرى مثلها، فرواه مسلم في "صحيحه" وهو مما تفرد به حبيب بن أبي ثابت، وحبيب وإن كان ثقة، فكان يُدلس، ولم يُبين فيه سماعَه مِن طاووس، فيشبه أن يكون حمله
عن غير موثوق به، وقد خالفه في رفعه ومتنه سليمان المكي الأحول، فرواه عن طاووس، عن ابن عباس مِن فعله ثلاثَ ركعات في ركعة. وقد خولف سليمان أيضاً في عدد الركوع، فرواه جماعة عن ابن عباس مِن فعله، كما رواه عطاء بن يسار وغيره عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعني في كل ركعة ركوعان. قال: وقد أعرض محمد بن إسماعيل البخاريَ عن هذه الروايات الثلاث، فلم يخرِّج شيئاً منها في "الصحيح" لمخالفتهن ما هو أصح إسناداً، وأكثر عدداً، وأوثق رجالاً، وقال البخاري في رواية أبي عيسى الترمذي عنه: أصحُّ الروايات عندي في صلاة الكسوف أربعُ ركعات في أربع سجداتٍ قال البيهقي: وروي عن حذيفة مرفوعاً "أربع ركعات في كل ركعة"، وإسناده ضعيف.
ورُوي عن أبيِّ بنِ كعب مرفوعاً "خمس ركوعات في كل ركعة" وصاحبا الصحيح لم يحتجا بمثل إسناد حديثه.
قال: وذهب جماعة من أهل الحديث إلى تصحيح الروايات في عدد الركعات، وحملوها على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلها مراراً، وأن الجميع جائز، فممن ذهب إليه إسحاقُ بن راهويه، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبو بكر بن إسحاق الضبعي، وأبو سليمان الخطابي، واستحسنه ابن المنذر. والذي ذهب إليه البخاري والشافعي من ترجيح الأخبار أولى لما ذكرنا من رجوع الأخبار إلى حكاية صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يومَ توفي ابنه.
قلت: والمنصوصُ عن أحمد أيضاًَ أخذه بحديث عائشة وحده في كل ركعة ركوعان وسجودان. قال في رواية المروزي: وأذهب إلى أن صلاة الكسوف أربعُ ركعات، وأربعُ سجدات، في كل ركعة ركعتان وسجدتان، وأذهب إلى حديث عائشة، أكثرُ الأحاديث على هذا. وهذا اختيارُ أبي بكر وقدماء الأصحاب، وهو اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية.؟كان يضعف كُلَّ ما خالفه من الأحاديث، ويقول: هي غلط، وإنما صلَّى النبي:صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكسوفَ مرة واحدة يومَ مات ابنه ابراهيم. والله أعلم.
وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكسوف بذكرِ الله، والصلاةِ، والدعاء، والاستغفار والصدقة، والعتاقة، والله أعلم.
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الاستسقاء
ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه استسقى على وجوه.
أحدها: يومَ الجمعة على المنبر في أثناء خطبته، وقال : "اللهم أَغِثنا، اللهُم أَغِثنَا، اللهُمَّ أَغِثْنَا، اللهم اسقِنا، اللهُم اسقِنَا، اللهُمَّ اسقِنَا".
الوجه الثاني: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعد الناسَ يوماً يخرجُون فيه إلى المصلى، فخرج لما طلعت الشمسُ متواضعاً، متبذِّلاً، متخشِّعاً، مترسِّلاً، متضِّرعاً، فلما
وافى المصلَّى، صَعِدَ المنبر - إن صحِ، وإلا ففي القلب منه شيء - فحمد الله وأثنى عليه وكبَّره، وكان مما حُفِظ من خطبته ودعائه: " الحَمْدُ لِله رَبِّ العالَمين، الرَّحْمن الرَّحيم، مالِكِ يَوْمِ الذَين، لا إله إلا اللهُ، يَفْعَلُ ما يُريد، اللهُم أَنتَ الله لا إله إلا أنت، تَفْعَل ما تُريدُ، اللهُم لا إلا إله إلا أَنْتَ، أَنْتَ الغَنيُ وَنَحْن الفُقَراءُ، أَنْزِل عَلَينَا الغَيْثَ، واجعَل ما أَنْزَلْتَه علينا قُوَّةً لَنَا، وَبلاغَاً إلى حين" ث م رفع يديه، وأخذ في التضرُّع، والابتهال، والدعاء، وبالغ في الرفع حتى بدا بياضُ إبطيه، ثم حوَّل إلى الناس ظهَره، واستقبل القبلة، وحول إذ ذاك رداءَه وهو مستقبل القبلة، فجعل الأيمنَ على الأيسر، والأيسر على الأيمن، وظهرَ الرداء لبطنه، وبطنه لظهره، وكان الرداء خميصةً سوداء، وأخذ في الدعاء مستقبلَ القِبلة، والناسُ كذلك، ثم نزل فصلَّى بهم ركعتين كصلاة العيد من غير أذان ولا إقامة ولا نداءٍ البتة، جهر فيهما بالقراءة، وقرأ في الأولى بعد فاتحة الكتاب:.{سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1]، وفي الثانية: {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية: 1].
الوجه الثالث:أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استسقى على منبر المدينة استسقاء مجرداً في غير يوم جمعة، ولم يُحفظ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الاستسقاء صلاة.
الوجه الرابع: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استسقى وهو جالس في المسجد، فرفعٍ يديه،
ودعا اللهَ عز وجل، فحُفِظَ مِن دعائه حينئذ: "اللهُم اسْقِنا غَيْثاً مُغيثا مَرِيعاً طَبَقاً عَاجِلاً غَيْرَ رائِثٍ، نافِعاً غَيْرَ ضَارٍّ"
الوجه الخامس: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استسقى عند أحجار الزيت قريباَ من الزَّوراء، وهي خارج باب المسجد الذي يُدعى اليوم باب السلام نحو قذفةِ حجر، ينعطفُ عن يمين الخارج من المسجد.
الوجه السادس: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استسقى في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمينَ العطشُ، فشَكَوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال بعضُ المنافقين: لو كان نبياً، لاستسقى لقومه، كما استسقى موسى لقومه، فبلغ ذلك النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: "أَوَقَدْ قَالُوها؟ عَسَىَ رَبّكم أَنْ يَسْقِيَكم، ثُمَ بَسَطَ يَدَيه، ودعا، فما ردَّ يديه من دعائه، حتى أظلَّهُمُ السَّحابُ، وأُمطِروا، فأفعمَ السيلُ الوادي، فشرب الناس، فارتَوَوْا".
وحُفظ من دعائه في الاستسقاء: " اللهُم اسقِ عِبَادَكَ وَبَهَائِمَكَ، وانْشُرِ رَحْمَتَك، وأَحْي بَلَدَكَ المَيِّتَ"، "اللَهُم اسْقِنا غَيثاً مُغِيثاً مَريئاً، مريعاً، نافِعاً غير
ضارٍّ، عاجِلاً غَيْرَ اَجِل ". وأُغيث صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل مرة استسقى فيها.
واستسقى مرة، فقام إليه أبو لُبابة فقال: يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن التمر في المَرابد، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم اسقِنَا حَتَّى يَقومَ أبو لُبَابة عُرياناً، فَيَسدَّ ثَعلَبَ مِرْبَدِه بإزاره"، فأمطرت، فاجتمعوا إلى أبي لُبابة، فقالوا: إنها لن تُقلعَ حتى تقوم عُرياناً، فتسُدَّ ثعلبَ مربدك بإزارك كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففعل، فاستهلت السماء.
ولما كثر المطر، سألوه الاستصحاء، فاستصحى لهم وقال: "اللهم حَوَالَيْنَا ولا عَلَينَا، اللهُم على الآكام والجِبال، وَالظِّراب، وبُطونِ الأودية وَمَنَابِت الشَّجَر".
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا رأى مطر قال: "الَّلهم صيِّبَاً نَافِعاً"
وكان يحسر ثوبَه حتى يصيبه من المطر، فسئل عن ذلك،فقال: "لأنه حَديثُ عَهْدٍ بِرَبِّه".
قال الشافعي رحمه الله: أخبرني من لا أتهم عن يزيد بن الهاد،
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سال السيل قال: "اخرُجُوا بِنَا إلى هَذَا الَذِي جَعَلَهُ الله طَهُوراً، فَنَتَطَهَّرَ منه، ونَحْمَدَ اللهَ عَلَيْهِ".
وأخبرني من لا أتَّهم، عن إسحاق بن عبد الله أن عمر كان إذا سال السيلُ ذهب بأصحابه إليه، وقال: ما كان لِيجيء منْ مجيئه أحدٌ إلا تمسَّحنا به.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رأى الغيمَ والريح، عُرِفَ ذلك في وجهه، فأقبل وأدبر، فإذا أمطرت، سُرِّيَ عنه، وذهب عنه ذلك، وكان يخشى أن يكون فيه العذاب. قال الشافعي: وروي عن سالم بنِ عبد الله عن أبيه مرفوعاً أنه كان إذا استسقى قال: "اللهُم اسقِنَا غيثاً مُغيثاً هَنِيئاً مَرِيئاً غَدَقاً مُجلِّلاً عَامَّاً طَبَقاً سَحَّاً دائماً، اللهُم اسقِنَا الغَيْثَ، ولا تجعلنا من القَانِطين، اللهم إن بِالعبادِ والبِلادِ والبهائِم والخلق مِن اللأواءِ والجهد والضَّنْكِ ما لا نشكوه إلاَّ إليك، اللهم أَنْبِتْ لنا الزَّرَعَ، وأَدِرَّ لنا الضَّرْعَ، واسقِنا مِن بركات السماء، وأنبِتْ لنا مِن بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجَهْدَ والجُوعَ والعُريَ، واكشفْ عنا مِن البلاء ما لا يكشِفُه غيرُك، اللهم إنا نستغفِرك، إنك كنتَ غفَّاراً، فأرسل السماء علينا مِدراراً".
قال الشافعي رحمه الله: وأحبُّ أن يدعوَ الإِمام بهذا، قال: وبلغني أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا دعا في الاستسقاء رفع يديه وبلغنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتمطَّر في أول مطرة حتى يصيبَ جسده. قال: وبلغني أن بعض أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أصبح وقد مُطِرَ الناس، قال: مُطِرنا بنَوءِ الفَتح، ثم يقرأ:
{ما يَفتحَ اللهُ لِلنَّاس من رَحْمَةٍ فلا ممسِكَ لَهَا} [فاطر: 2].
قال: وأخبرني من لا أتهم عن عبد العزيز بن عمر،عن مكحول عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "اطلبُوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش وإقامة الصلاة، ونزول الغيث ".
وقد حَفظْتُ عن غير واحد طلبَ الإِجابة غد: نزول الغيث، وإقامة الصلاة. قال البيهقى: وقد روينا في حديث موصول عن سهل بن سعد، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الدعاء لا يُرَدُّ عنِدَ النداءِ، وَعِنْدَ البَأس، وتَحْتَ المَطَرِ". وروينا عن أبي أمامة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "تُفتَحُ أبوابُ السماء، ويُستجابُ الدعاء في أربعة مواطن: عند التقاء الصُّفوف، وعِندَ نُزُول الغَيْث، وعندَ إقَامَة الصَّلاةِ، وَعِنْدَ رُؤْيَةِ الكَعْبَةِ".
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفره وعبادته فيه
كانت أسفاره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائرةَ بين أربعة أسفار: سفرِه لهجرته، وسفره للجهاد وهو أكثرها، وسفرِه للعمرة، وسفرِه للحج.
وكان إذا أراد سفراً، أقرع بين نسائه، فأيَّتُهُن خرج سهمُها، سافر بها معه، ولما حجّ، سافر بهن جميعاً.
وكان إذا سافر، خرج مِن أول النهار، وكان يستحِبُّ الخروجَ يوم الخميس، ودعا الله تبارك وتعالى أن يُبارك لأُمَّتِهِ في بُكورها.وكان إذا بعث سرية أو جيشاً، بعثهم من أول النهار، وأمرَ المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمِّروا أحدهم. ونهى أن يُسافر الرجل وحدَه، وأخبر أن الراكِبَ شَيْطَانٌ، والرَّاكِبانِ شَيْطَانَانِ، وَالثَّلاثَةُ رَكْب.
وذُكِرَ عنه أنه كان يقول حين ينهض للسفر "اللَهُم إلَيْك تَوَجَهْتُ، وبِكَ اعْتَصَمْت، اللهُم اكْفِني مَا أَهمَّني وَمَا لاَ أَهْتَم بهِ، اللهُمَّ زَوِّدْني التَّقْوَى، وَاغْفِرْ لي ذَنْبِي، وَوَجِّهْنِي لِلخَيْرِ أَيَنَمَا تَوَجَّهْتُ".
وكان إذا قُدِّمتَ إليه دابتُه ليركبها، يقول: "بسم الله حين يضع رجله في الرِّكاب، وإذا استوى على ظهرها، قال: الحمدُ لله الَذي سَخَّرَ لَنَا هَذا وَمَا كُنَّا لَهُ بمقْرِنينَ وَإنَّا إِلَى رَبِّنَا لمنْقَلِبونَ، ثُمَّ يَقُولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ، الحَمد لِلَّهِ، الحَمْدُ لِلَّهِ، ثم يقول:. الله أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكبر، ثم يقولٌ: سُبْحَانَكَ إِنَيّ ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغفِرِ لِي إِنَّه لاَ يَغْفر الذُنُوبَ إِلاَّ أَنتَ " وكان يقول: " اللهم إنَّا نَسْألُكَ في سَفَرِنَا هَذَا البِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ العَمَلِ مَا تَرْضَى، اللهُم هَوِّن عَلَيْنَا سَفَرَنَا هذا، وَاطْوِ عَنَّا بُغدَهُ، اللهم أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، وَالخَلِيفَةُ في الأَهْلِ، اللَهُمَّ إنيِّ أَعُوذُ بِكَ مِن وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ المنقَلَبِ، وَسوءِ المَنْظَرِ في الأَهلِ وَالمَالِ" وإذا رجع، قالهن، وزاد فيهن: "آيبون تَائِبُونَ عَابِدُون لِرَبِّنَا حَامِدُون".
وكان هو وأصحابُه إذا عَلوا الثنايا، كبَّروا، وإذا هبطوا الأودية،سبَحوا.
وكان إذا أشرف على قرية يُريد دخولَها يقولُ "اللهُمًّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وما أظْلَلْنَ، وَرَبَّ الأَرضين السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وما أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَما ذَرَيْنَ، أَسْأَلُكَ خَيْرَ هذِه القَرْيَةِ وَخَيْرَ أهْلِهَا، وأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا"
وذكر عنه أنه كان يقول: "اللهُمَّ إِنِّي أسأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هذِهِ القَرْيَة وَخَيْرِ مَا جَمَعْتَ فِيهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشرِّ مَا جَمَعْتَ فِيهَا، اللهُمّ ارزُقْنَا جَنَاهَا، وَأَعِذْنَا مِنْ وَبَاهَا، وَحَبِّبْنَا إِلَى أَهْلِهَا، وَحَبِّب صَالِحِي أَهْلِهَا إِلَيْنَا".
وكان يَقصُر الرُّبَاعية، فيصليها ركعتين مِن حين يخرُج مسافراً إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبُت عنه أنه أتمَّ الرُّباعية في سفره البتة، وأما حديث عائشة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقصُرُ في السفر ويتِمُّ، ويُفْطِرُ ويَصُومُ، فلا يَصحّ. وسمعتُ شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتهى، وقد روي: كان يقصرُ وتتم، الأول بالياء آخر الحروف، والثاني بالتاء المثناة من فوق، وكذلك يُفطر ويَصوم، أي: تأخذ هى بالعزيمة في. الموضعين، قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل ما كانت أم المؤمنين لِتُخالف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجميعَ أصحابه، فتصليَ خلاف صلاتهم، كيف والصحيح عنها أنها قالت: إن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، زِيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر فكيف يُظن بها مع ذلك أن تُصليَ بخلاف صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين معه.
قلت: وقد أتمَّت عائشةُ بعد موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال ابن عباس وغيره: إنها تأوَّلت كما تأوَّل عثمان وإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقصر دائماً، فركب
بعضُ الرواة من الحديثين حديثاً، وقال: فكان رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقصر وتُتم هي، فغلط بعضُ الرواة، فقال: كان يقصُرُ ويُتِمُّ، أي: هو.
والتأويل الذي تأولته قد اختُلِف فيه، فقيل: ظنت أن القصر مشروط بالخوف في السفر، فإذا زال الخوف، زال سكبُ القصر، وهذا التأويل غيرُ صحيح، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سافر آمِناً وكان يقصرُ الصلاة، والآية قد أشكلت على عُمر وعلى غيره، فسأل عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأجابه بالشِّفاء وأن هذا صَدَقَة مِنَ اللهِ وشرع شرعه للأمة، وكان هذا بيانَ أن حكم المفهوم غيرُ مراد، وأن الجناح مرتفعٌ في قصر الصلاة عن الآمِن والخائف، وغايتُه أنه نوع تخصيص للمفهوم، أو رفع له، وقد يقال: إن الآية اقتضت قصراً يتناول قصرَ الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنُقصان ركعتين، وقُيِّدَ ذلك بأمرين: الضرب في الأرض، والخوفِ، فإذا وُجدَ الأمرانِ، أبيحَ القصران، فيُصلُون صلاةَ الخوف مقصورة عددُها وأركانُها، وإن انتفى الأمرانِ، فكانوا آمنين مقيمين، انتفى القصران، فتصلُّون صلاة تامة كاملة، وإن وُجِدَ أحدُ السببين، ترتب عليه قصرُه وحدَه، فإذا وُجِدَ الخوف والإِقامة، قُصرت الأركان، واستوفي العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، فإن وجد السفرُ والأمن، قُصِرَ العدد واستوفي الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قَصْرٍ، وليس بالقصر المطلق، وقد تُسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تُسمى تامة باعتبار إتمام أركانها، وأنها لم تدخل في
قصر الآية، والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني يدل عليه كلام الصحابة، كعائشة وابن عباس وغيرهما، قالت عائشة: فُرِضَتِ الصلاةُ ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، زيد في صلاة الحضر، وأُقِرَّتْ صلاة السفر. فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غيرُ مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك، وأن فرض المسافر ركعتان. وقال ابن عباس: فرضَ اللهُ الصَّلاَة على لِسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة متفق على حديث عائشة، وانفرد مسلم بحديث ابن عباس وقال عمر رضى الله عنه: صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان،والعيد ركعتان، تمامٌ غيرُ قصرٍ على لسان محمد، وقد خاب من افترى. وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه، وهو الذي سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما بالُنا نقصُر وقد أمِنَّا؟ فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صدَقَةٌ تَصَدَّقَ بهَا اللهُ عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلوا صَدَقَتَهُ".
ولا تناقضَ بين حديثيه، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أجابه بأن هذه صدقةُ الله عليكم، ودِينُه اليسر السمح، علم عمرُ أنه ليس المرادُ من الآية قصرَ العدد كما فهمه كثير من الناس، فقال: صلاة السفر ركعتان، تمامٌ غير قصر. وعلى هذا، فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي، فعله، وإن شاء أتم.
وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين، ولم يُربِّع قطُّ إلا شيئاً فعله في بعض صلاة الخوف، كما سنذكره هناك، ونبين ما فيه إن شاء الله تعالى.
وقال أنس: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة إلى مكة، فكان يُصلي ركعتين ركعتين حتى رجَعْنَا إلى المدينة. متفق عليه.
ولما بلغ عبد الله بن مسعود أن عثمانَ بن عفان صلَّى بمِنى أربعَ ركعات قال: إنَّا لله وإنَّا إليه راجِعون، صليتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمِنى ركعتين وصليتُ مع أبي بكر بمِنى ركعتين، وصليتُ مع عمر بن الخطاب بِمنى ركعتين، فليت حظي مِن أربع رَكعاتٍ ركْعَتَانِ متقبَّلتَانِ. متفق عليه. ولم يكن ابنُ مسعود لِيسترجع مِن فعل عثمان أحد الجائزين المخيَّرِ بينهما، بل الأولى على قول، وإنما استرجع لما شاهده مِن مداومة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخُلفائه على صلاة ركعتين في السفر.
وفي "صحيح البخاري" عن ابن عمر رضي الله عنه قال: صحبتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان في السفر لا يَزيد على ركعتين، وأبا بكر وعُمَر وعُثمان يعني في صدر خلافة عثمان، وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته، وكان
ذلك أحدَ الأسباب التي أُنكِرت عليه. وقد خرج لفعله تأويلات:
أحدها: أن الأعراب كانوا قد حجُوا تلك السنة، فأراد أن يُعلِّمَهم أن فرضَ الصلاة أربع، لئلا يتوهَّموا أنها ركعتان في الحضر والسفر، ورُدَّ هذا التأويلُ بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانوا حديثي عهد بالإِسلام، والعهدُ بالصلاة قريبٌ، ومع هذا، فلم يُربِّعْ بهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
التأويل الثاني : أنه كان إماماً للناس، والإِمام حيث نزل، فهو عمله ومحل ولايته، فكأنه وطنه، ورُدَّ هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإِطلاق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان هو أولى بذلك، وكان هو الإِمامَ المطلق، ولم يُربِّع.
التأويل الثالث أن مِنى كانت قد بُنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده، ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل كانت فضاءً، ولهذا قيل له: يا رسول الله ألا نبني لك بمِنى بيتاً يُظِلُكَ مِن الحر؟ فقال: "لا منى مُنَاخُ مَنْ سَبَق". فتأوَّل عثمانُ أن القصر إنما يكون في حال السفر. هذا التأويلُ بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقام بمكة عشراً يقصُر الصلاة.
التأويل الرابع : أنه أقام بها ثلاثاً، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُقيمُ المُهَاجر بَعْدَ قَضَاءِ نسُكِهِ ثَلاثاً" فسماه مقيماً، والمقيم غيرُ مسافر، ورُدَّ هذا التأويلُ بأن هذه
إقامة مقيدة في أثناء السفر ليست بالإِقامة التي هي قسيم السفر، وقد أقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة عشراً يقصُر الصلاة، وأقام بمِنى بعد نسُكه أيامَ الجمار الثلاث يقصُرُ الصَّلاة.
التأويل الخامس : أنه كان قد عزم على الإِقامة والاستيطان بمِنى، واتخاذِها دارَ الخلافة، فلهذا أتم، ثم بدا له أن يَرجع إلى المدينة، وهذا التأويل أيضاً مما لا يقوى، فإن عثمانَ رضي الله عنه من المهاجرين الأولين، وقد مَنع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهاجرين من الإِقامة بمكة بعد نسكهم، ورخَّص لهم فيها ثلاثة أيام فقط، فلم يكن عُثمانُ لِيقيم بها، وقد منع النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك، وإنما رخَص فيها ثلاثاً وذلك لأنهم تركوها للّه، وما تُرِكَ للّه، فإنه لا يُعاد فيه، ولا يُسترجع، ولهذا منع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن شراء المتصدِّق لصدقته، وقال لعمر: "لا تَشتَرِهَا، ولا تَعُدْ في صَدَقَتِكَ". فجعله عائداً في صدقته مع أخذها بالثمن.
التأويل السادس : أنه كان قد تأهَّل بمنى والمسافر إذا أقام في موضع، وتزوج فيه، أو كان له به زوجة، أتم، ويُروى في ذلك حديث مرفوع، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فروى عكرمة بن إبراهيم الأزدي، عن ابن أبي ذُباب، عن أبيه قال: صلى عثمان بأهل مِنى أربعاً وقال: يا أيُّها الناسُ! لما قَدِمتُ تأهَّلت بها، وإني سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إذا تَأهَّل الرَّجُل بِبَلْدَةٍ، فإنَّه يُصَلِّي بها صلاةَ مُقيم ". رواه الإِمام أحمد رحمه الله في "مسنده"
وعبد الله بن الزبير الحُميدي في "مسنده" أيضاً، وقد أعله البيهقي بانقطاعه، وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم. قال أبو البركات ابن تيمية: ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإن البخاري ذكره في "تاريخه" ولم يطعن فيه، وعادتُه ذكر الجرح والمجروحين، وقد نص أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج، لزمه الإِتمام، وهذا قول أبي حنيفة، ومالك، وأصحابهما، وهذا أحسن ما اعتُذِر به عن عثمان.
وقد اعتُذِرَ عن عائشة أنها كانت أمَّ المؤمنين، فحيث نزلت كان وطنها، وهو أيضاً اعتذار ضعيف، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو المؤمنين أيضاً، وأمومة أزواجه فرع عن أبوته، ولم يكن يُتم لهذا السبب. وقد روى هشام بن عُروة، عن أبيه، أنها كانت تُصلي في السفر أربعاً، فقلت لها: لو صليتِ ركعتين، فقالت: يا ابن أختي! إنه لا يشق عليَّ.
قال الشافعي رحمه الله: لو كان فرضُ المسافر ركعتين، لما أتمها عثمان، ولا عائشة، ولا ابنُ مسعود، ولم يَجُزْ أن يُتمها مسافر مع مقيم، وقد قالت عائشة: كلُّ ذلك قد فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أتم وقصر، ثم روى عن إبراهيم بن محمد، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة قالت: كُلّ ذلك فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قصر الصلاة في السفر وأتم.
قال البيهقى: وكذلك رواه المغيرة بن زياد، عن عطاء، وأصح إسناد فيه ما أخبرنا أبو بكر الحارثي، عن الدارقطني، عن المحاملي، حدثنا سعيد بن محمد بن ثواب، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عمر بن سعيد، عن عطاء،
عن عائشة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يقصرُ في الصلاةِ ويتم، ويُفطر، ويصوم.
قال الدارقطني: وهذا إسناد صحيح ثم ساق من طريق أبي بكر النيسابوري، عن عباس الدوري، أنبأنا أبو نعيم، حدثنا العلاء بن زهير، حدثني عبد الرحمن بن الأسود، عن عائشة، أنها اعتمرت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة إلى مكة، حتى إذا قَدِمت مكة، قالت: يا رسول الله بأبي أنتَ وأمي، قصرتَ وأتممت، وصمتَ وأفطرتُ. قال: "أحسنتِ يا عائشة".
وسمعتُ شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذبٌ على عائشة، ولم تكن عائشة لتُصلي بخلاف صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصُرون، ثم تتم هي وحدها بلا موجب. كيف وهي القائلة: فُرِضتِ الصلاةُ ركعتين ركعتين، فَزِيد في صلاة الحضر، وأُقِرَّت صلاةُ السفر. فكيف يُظن أنها تزيد على ما فرض الله، وتُخالف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.
قال الزهري لعروة لما حدثه عنها بذلك: فما شأنها كانت تُتم الصلاة؟ فقال: تأولت كما أول عثمان فإذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حسَّن فِعلها وأقرَّها عليه، فما للتأويل حينئذ وجه، ولا يصح أن يُضاف إتمامُها إلى التأويل على هذا التقدير، وقد أخبر ابن عمر، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يكن يَزيدُ في السفر على ركعتين، ولا أبو بكر، ولا عمر. أفيُظَنُّ بعائشة
أم المؤمنين مخالفتهم، وهي تراهم يقصُرون؟ وأما بعد موته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنها أتمت كما أتم عثمان، وكلاهما تأول تأويلاً، والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له والله أعلم. وقد قال أميةُ بن خالد لعبد الله بن عمر: إنا نجد صلاة الحضر، وصلاة الخوف في القرآن، ولا نجد صلاة السفر في القرآن؟ فقال له ابنُ عمر: يا أخي إن الله بعث محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نعلم شيئاً، فإنما نفعل كما رأينا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل.وقد قال أنس: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة، فكان يُصلي ركعتينِ ركعتينِ، حتى رجعنا إلى المدينة.وقال ابن عمر: صحبتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، وهذه كلّها أحاديثُ صحيحة.
فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفره الاقتصارُ على الفرض، ولم يُحفظ عنه أنه صلى سُنة الصلاة قبلَها ولا بعدَها، إلا ما كان من الوِتر وسنة الفجر، فإنه لم يكن ليدعهما حَضراً، ولا سفراً. قال ابنُ عمر وقد سئل عن ذلَك: فقال: صحبتُ اَلنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم أره يُسبِّح في السفر، وقال الله
عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، ومراده بالتسبيح: السنة الراتبة، وإلا فقد صحّ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان يُسبِّح على ظهر راحلته حيث كان وجهه. وفي "الصحيحين"، عن ابن عمر، قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي في السفر على راحلته حيثُ توجهت، يُومئ إيماءً صلاةَ الليل، إلا الفرائضَ ويُوتر على راحلته.
قال الشافعي رحمه الله: وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان يتنفل ليلاً، وهو يقصُر، وفي "الصحيحين": عن عامر بن ربيعة، أنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي السُّبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته فهذا قيام الليل.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله، عن التطوع في السفر؟ فقال: أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأسٌ، ورُوي عن الحسن قال: كان أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسافرون، فيتطوَّعون قبل المكتوبة وبعدها، وروي هذا عن عمر، وعلي، وابنِ مسعود، وجابرٍ، وأنس، وابنِ عباس، وأبي ذر.
وأما ابنُ عمر، فكان لا يتطوَّع قبلَ الفريضة ولا بعدَهَا، إلا مِن جوف الليل مع الوتر، وهذا هو الظاهر من هدي النبي بطلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان لا يُصلي قبل الفريضة المقصورة ولا بعدها شيئاً، ولكن لم يكن يمنعُ من التطوع قبلها ولا بعدها، فهو كالتطوع المطلق، لا أنه سنة راتِبة للصلاة، كسنة صلاة الإِقامة
ويؤيد هذا أن الرباعية قد خُففت إلى ركعتين تخفيفاً على المسافر، فكيف يجعل لها سنة راتبة يُحافظ عليها وقد خفف الفرض إلى ركعتين، فلولا قصد التخفيف على المسافر، وإلا كان الإِتمام أولى به، ولهذا قال عبد الله بن عمر: لو كنت مسبِّحاً، لأتممتُ، وقد ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه صلى يوم الفتح ثمان ركعات ضُحى، وهو إذ ذاك مسافر. وأما ما رواه أبو داود والترمذي في السنن، من حديث الليث، عن صفوان بن سليم، عن أبي بُسرة الغفاري، عن البراء بن عازب، قال: سافرتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمانيةَ عشر سفراً، فلم أره ترك ركعتين غد زَيْغِ الشمس قبل الظهر. قال الترمذي: هذا حديث غريب. قال: وسألت محمداً عنه، فلم يعرفه إلا من حديث الليث بن سعد، ولم يعرف اسم أبي بسرة ورآه حسناً. وبسرة: بالباء الموحدة المضمومة، وسكون السين المهملة.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يدعُ أربعاً قبل الظهر، وركعتينِ بعدها، فرواه البخاري في "صحيحه" ولكنه ليس بصريح في فعله ذلك في السفر، ولعلها أخبرت عن أكثر أحواله وهو الإِقامة، والرجال أعلم بسفره من النساء، وقد أخبر ابن عمر أنه لم يزد على ركعتين، ولم يكن ابن عمر يصلي قبلها ولا بعدها شيئاً. والله أعلم.
فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاةُ التطوع على راحلته حيث توجَّهت به،
وكان يُومئ إيماءً برأسه في ركوعه، وسجوده، وسجودُه أخفضُ مِن ركوعه، وروى أحمد وأبو داود عنه، مِن حديث أنس، أنه كان يستقبِل بناقته القِبلَة عند تكبيرة الافتتاح، ثم تصلي سائرَ الصلاة حيث توجَّهت به. وفي هذا الحديث نظر، وسائر من وصف صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على راحلته، أطلقوا أنه كان يُصلي عليها قِبَلَ أيِّ جهة توجَّهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإِحرام ولا غيرَها، كعامر بن ربيعة، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأحاديثُهم أصحُ مِن حديث أنس هذا، والله أعلم.وصلى على الراحلة، وعلى الحمار إن صح عنه، وقد رواه مسلم في "صحيحه" من حديث ابن عمر.
وصلى الفرضَ بهم على الرواحل لأجل المطر والطين إن صح الخبرُ بذلك، وقد رواه أحمد والترمذي والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام انتهى إلى مضيق هو وأصحابُه وهو على راحلته، والسَّماء مِن فوقهم، والبِلَّةُ من أسفلَ منهم، فحضرتُ الصلاةُ، فأمر المؤذِّن فأذن، وأقام، ثم تقدَم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على راحلته، فصلى بهم يُومى إيماءً، فجعل السجود أخفضَ من الركوع.
قال الترمذي: حديث غريب، تفرد به عمر بن الرماح، وثبت ذلك عن أنس من فعله.
فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه إذا ارتحل قبل أن تَزيغ الشمسُ، أخَّر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل، فجمع بينهما، فإن زالت الشمسُ قبل أن يَرتَحِلَ، صلَّى الظهر، ثم ركب. وكان إذا أعجله السيرُ، أخَّر المغربَ حتى يجمع بينها وبين العشاء في وقت العشاء. وقد رُوي عنه في غزوة تبوك، أنه كان إذا زاغت الشمسُ قبل أن يرتحِل، جمع بين الظهر والعصر، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخَّر الظهر حتى ينزل للعصر، فيصليهما جميعاً، وكذلك في المغرب والعشاء، لكن اختلف في هذا الحديث، فمن مصحح له، ومن محسن، ومن قادح فيه، وجعله موضوعاً كالحاكم، وإسناده على شرط الصحيح، لكن رُمي بعلّة عجيبة، قال الحاكم: حدثنا أبو بكر بن محمد بن أحمد بن بالويه، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا قُتيبة بن سعيد، حدثنا الليث بنُ سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطُفيل، عن معاذ بن جبل، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزِيغ الشمس، أخَّر الظهر حتى يجمعها إلى العصر، ويُصليَهما جميعاً، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس، صلى الظهر والعصر جميعاً، ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب، أخَّر المغرب حتى يُصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب،
عجل العشاء فصلها مع المغرب. قال الحاكم: هذا الحديث رواته أئمة ثقات، وهو شاذ الإِسناد والمتن، ثم لا نعرِف له علة نُعله بها. فلو كان الحديث عن الليث، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، لعللنا به الحديث. ولو كان عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، لعللنا به، فلما لم نجد له العلتين، خرج عن أن يكون معلولاً، ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية، ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عن أحد من أصحاب أبي الطفيل، ولا عن أحد ممن روى عن معاذ بن جبل غير أبي الطفيل، فقلنا: الحديث شاذ. وقد حدثوا عن أبي العباس الثقفي قال: كان قُتيبة بن سعيد يقول لنا: على هذا الحديث علامةُ أحمد بن حنبل، وعليَ بن المديني، ويحيى بن معين، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبي خيثمة، حتى عد قتيبة سبعة من أئمة الحديث كتبوا عنه هذا الحديث، وأئمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجُّباً من إسناده ومتنه، ثم لَمْ يَبلُغْنَا عن أحد منهم أنه ذكر للحديث عِلَّة، ثم قال: فنظرنا فإذا الحديث موضوع، وقتيبة ثقة مأمون، ثم ذكر بإسناده إلى البخاري. قال: قلت لقتيبة بن سعيد: مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل؟ قال: كتبته مع خالد بن القاسم أبي الهيثم المدائني. قال البخاري: وكان خالد المدائني يُدخل الأحاديث على الشيوخ.
قلت: وحكمه بالوضع على هذا الحديث غيرُ مسلَّم، فإن أبا داود رواه عن يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الرملي، حدثنا المفضل بن فضالة،
عن الليث بن سعد، عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ فذكره... فهذا المفضل قد تابع قتيبة، وإن كان قتيبة أجلَّ من المفضل وأحفظ، لكن زال تفرد قتيبة به، ثم إن قُتيبة صرح بالسماع فقال: حدثنا ولم يعنعن، فكيف يُقدح في سماعه، مع أنه بالمكان الذي جعله الله به من الأمانة، والحفظ، والثقة، والعدالة. وقد روى إسحاق بن راهويه: حدثنا شبابة، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كان إذا كان في سفر، فزالت الشمسُ، صلَّى الظهر والعصر، ثم ارتحل". وهذا إسناد كما ترى، وشبابة: هو شبابة بن سوار الثقة المتفق على الاحتجاج بحديثه، وقد روى له مسلم في "صحيحه" عن الليث بن سعد بهذا الإِسناد، على شرط الشيخين، وأقلُّ درجاته أن يكون مقوياً لحديث معاذ، وأصله في "الصحيحين" لكن ليس فيه جمعُ التقديم. ثم قال أبو داود: وروى هشام، عن عروة، عن حسين بن عبد للّه، عن كريب، عن ابن عباس، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نحو حديث المفضل، يعني حديث معاذ في الجمع والتقديم، ولفظه: عن حسين بن عبد الله بن عُبيد الله بن عباس، عن كريب، عن ابن عباس، أنه قال: ألا أخبركم عن صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفر؟ كان إذا زالتِ الشمس وهو في منزله، جمع بين الظهر والعصر
في الزوال، وإذا سافر قبل أن تزول الشمس، أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر، قال: وأحْسِبُه قال في المغرب والعشاء مثل ذلك، ورواه الشافعي من حديث ابن أبي يحيى، عن حسين، ومن حديث ابن عجلان بلاغاً عن حسين.
قال البيهقي: هكذا رواه الأكابر، هشام بن عروة وغيره، عن حسين بن عبد الله. ورواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن حسين، عن عكرمة، وعن كريب كلاهما عن ابن عباس، ورواه أيوب عن أبي قِلابة، عن ابن عباس، قال: ولا أعلمه إلا مرفوعاً.
وقال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا إسماعيل بن أبي إدريس، قال: حدثني أخي، عن سليمان بن مالك، عن هشام بن عروة، عن كريب عن ابن عباس، قال: كان رسولى الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جدَّ به السير، فراح قبل أن تَزيغ الشمسُ، ركِب فسار، ثم نزل، فجمع بين الظهر والعصر، وإذا لم يَرُحْ حتى تزِيغ الشمس، جمع بين الظهر والعصر، ثم ركب، وإذا أراد أن يركب ودخلت صلاةُ المغرب، جمع بين المغرب وبين صلاة العشاء.
قال أبو العباس بن سريج: روى يحيى بن عبد الحميد، عن أبي خالد الأحمر، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخض إذا لم يرتحِلْ حتى تزيغ الشمس، صلَّى الظهر والعصر جميعاً، فإذا لم تَزِغْ، أخَرها حتى يجمع بينهما في وقت العصر.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: ويدل على جمع التقديم جمعه بعرفة بين الظهر والعصر لمصلحة الوقوف، ليتصل وقت الدعاء، ولا يقطعُه بالنزول
لصلاة العصر مع إمكان ذلك بِلا مشقة، فالجمعُ كذلك لأجل المشقة والحاجة أولى.
قال الشافعي: وكان أرفقَ به يوم عرفة تقديمُ العصر لأن يتَّصِلَ له الدعاءُ، فلا يقطعه بصلاة العصر، وأرفق بالمزدلفة أن يتصلَ له المسير، ولا يقطعه بالنزول للمغرب، لما في ذلك من التضييق على الناس. والله أعلم.
فصل
ولم يكن مِن هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجمعُ راكباً في سفره، كما يفعله كثير من الناس، ولا الجمع حال نزوله أيضاً، وإنما كان يجمع إذا جدَّ به السير، وإذا سار عقيبَ الصلاة، كما ذكرنا في قصة تبوك، وأما جمعه وهو نازل غيرُ مسافر، فلم يُنقل ذلك عنه إلا بعرفة لأجل اتصال الوقوف، كما قال الشافعي رحمه الله وشيخنا، ولهذا خصه أبو حنيفة بعرفة، وجعله من تمام النسك، ولا تأثير للسفر عنده فيه. وأحمد، ومالك، والشافعي، جعلوا سببه السفر، ثم اختلفوا، فجعل الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه التأثير للسفر الطويل، ولم يجوزاه لأهل مكة، وجوز مالك وأحمد في الرواية الأخرى عنه لأهل مكة الجمعَ، والقصرَ بعرفة، واختارها شيخُنا وأبو الخطاب في عباداته، ثم طرَّد شيخنا هذا، وجعله أصلاً في جواز القصر والجمع في طويل السفر وقصيره، كما هو مذهبُ كثير من السلف، وجعله مالك وأبو الخطاب مخصوصاً بأهل مكة.
ولم يحدَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مُطلق السفر والضرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمم في كل سفر، وأما ما يُروى عنه من التحديد باليوم، أو اليومين، أو الثلاثة، فلم يصح عنه منها شيء البتة، والله أعلم.
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قراءة القرآن، واستماعه، وخشوعه، وبكائه عند قراءته، واستماعه وتحسين صوته به وتوابع ذلك
كان له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِزب يقرؤه، ولا يُخِلُّ به، وكانت قراءتُه ترتيلاً لا هذَّا ولا عجلة، بل قِراءةً مفسَّرة حرفاً حرفاً. وكان يُقَطِّع قراءته آية آية، وكان يمدُّ عند حروف المد، فيمد (الرحمن) ويمد (الرحيم)، وكان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم فى أول قراءته، فيقول: "أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَجِيم"، ورُبَّما كان يقول: "اللهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم من هَمْزِهِ ونَفْخِهِ، ونَفثِهِ ". وكان تعوّذُه قبلَ القراءة.
وكان يُحبُّ أن يسمع القراَنَ مِن غيره، وأمر عبد الله بن مسعود، فقرأ عليه وهو يسمع. وخَشَع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسماع القران مِنه، حتى ذرفت عيناه.وكان يقرأ القراَن قائماً، وقاعداً، ومضطجعاً ومتوضئاً، ومُحْدِثاً،
ولم يكن يمنعه من قِراءته إلا الجنابة.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتغنَّى به، ويُرجِّع صوتَه به أحياناً كما رجَّع يوم الفتح في قراءته {إنَّا فتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً} [الفتح: 1]. وحكى عبد الله بن مغفَّل ترجِيعَه، آ ا آ ثلاث مرات، ذكره البخاري.
وإذا جمعت هذه الأحاديثَ إلى قوله: "زَيِّنُوا القُرآن بأصْواتِكُم". وقوله: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآن ". وقوله: "ما أَذِنَ اللهُ لِشَيء، كأَذَنِهِ لِنَبيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالقُرْان". علمت أن هذا الترجيعَ منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان اختياراً لا اضطراراً لهزِّ الناقة له، فإن هذا لو كان لأجل هزِّ الناقة، لما كان داخلاً تحت الاختيار، فلم يكن عبدُ الله بن مغفَّل يحكيه ويفعلُه اختياراً لِيُؤتسى به، وهو يرى هزَّ الراحلة له حتى ينقطع صوتُه، ثم يقول؟
كان يُرجِّعُ في قراءته، فنسب التَّرجيع إلى فعله. ولو كان مِن هزِّ الراحلة، لم يكن منه فعل يسمى ترجيعاً.
وقد استمع ليلةً لقراءة أبي موسى الأشعري، فلما أخبره بذلك، قال: لوْ كنتُ أعلم أنك تسمعه، لحبَّرْته لَكَ تَحْبِيراً. أي: حسَّنته وزيَّنته بصوتي تزييناً، وروى أبو داود في "سننه" عن عبد الجبار بن الورد، قال. سمعتُ ابنَ أبي مُليكة يقول: قال عبد الله بن أبي يزيد: مر بنا أبو لُبابة، فاتَّبعناه حتى دخل بيته، فإذا رجلٌ رثُّ الهيئة، فسمعتُه يقول: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بالقراَنِ". قال: فقلت لابن أبي مُليكة: يا أبا محمد! أرأيتَ إذا لم يكن حسنَ الصوت؟ قال: يُحسِّنُه ما استطاع.
قلت: لا بد من كشف هذه المسألة، وذكر اختلافِ الناس فيها، واحتجاج كلِّ فريق، وما لهم وعليهم في احتجاجهم، وذكر الصواب في ذلك بحول الله تبارك وتعالى ومعونته، فقالت طائفة: تكره قراءة الألحان، وممن نص على ذلك أحمد ومالكٌ وغيرهما، فقال أحمد في رواية علي
بن سعيد في قراءة الألحان: ما تعجبُني وهو محْدَث. وقال في رواية المروَزي: القراءةُ بالألحان بدعة لا تسمع، وقال في رواية عبد الرحمن المتطبب: قراءةُ الألحان بدعة، وقال في رواية ابنه عبد الله، ويوسف بن موسى، ويعقوب بن بختان، والأثرم، وإبراهيم بن الحارث: القراءةُ بالألحان لا تُعجبني إلا أن يكون ذلك حُزناً، فيقرأ بحزن مثلَ صوت أبي موسى، وقال في رواية صالح: "زَيِّنُوا القُرْاَنَ بِأصْوَاتِكُم "، معناه: أن يُحسِّنه، وقال في رواية المروَزي: "ما أذِن الله لشيء كأذَنِهِ لنبي حسن الصوت أن يتغنَّى بالقرآن" وفي رواية قوله: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ" ، فقال: كان ابنُ عيينة يقول: يستغني به. وقال الشافعي: يرفع صوته، وذكر له حديث معاوية بن قرة في قصة قراءة سورة الفتح والترجيع فيها، فأنكر أبو عبد الله أن يكون على معنى الألحان، وأنكر الأحاديثَ التي يُحتج بها في الرخصة في الألحان.
وروى ابن القاسم، عن مالك، أنه سئل عن الألحان في الصلاة، فقال: لا تُعجبني، وقال: إنما هو غناءٌ يتغنَّون به، ليأخذوا عليه الدراهم، وممن رُويت عنه الكراهةُ، أنس بن مالك، وسعيد بن المسيِّب، وسعيد بن جبير، والقاسم بن محمد، والحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي. وقال عبد الله بن يزيد العكبري: سمعت رجلاً يسأل أحمد، ما تقولُ في القراءة بالألحان؟ فقال ما اسمك؟ قال محمد: قال: أيسرك أن يقال لك: يا موحمد ممدوداً، قال القاضي أبو يعلى: هذه مبالغة في الكراهة. وقال الحسن بنُ عبد العزيز الجَرَوي: أوصى إليَّ رجل بوصية، وكان فيما خلَّف جارية تقرأ بالألحان، وكانت أكثَر تَرِكته أو عامتها، فسألتُ أحمد بن حنبل والحارث بن مسكين، وأبا عُبيد، كيف أبيعُها؟ فقالوا: بعها ساذجةً، فأخبرتُهم بما في بيعها من النقصان، فقالوا: بعها ساذَجة، قال القاضي: وإنما قالوا ذلك، لأن سماع ذلك منها مكروه، فلا يجوز أن يُعاوض عليه كالغناء.
قال ابن بطَّال: وقالت طائفة: التغنِّي بالقران، هو تحسينُ الصوت به، والترجعُ بقراءته، قال: والتغني بما شاء مِن الأصوات واللحون هو قول ابن المبارك، والنضرِ بن شُميل، قال: وممن أجاز الألحان في القرآن: ذكر الطبري، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه كان يقول لأبي موسى: ذكِّرنا ربَّنا، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن، وقال: من استطاع أن يتغنى بالقرآن غِناء أبي موسى، فليفعل، وكان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتاً بالقراَن، فقال له عمر: اعرض عليَّ سورة كذا، فعَرض عليه، فبكى عمر، وقال: ما كنتُ أظن أنها نزلت، قال: وأجازه ابن عباس، وابن مسعود، وروي عن عطاء بن أبي رباح، قال: وكان عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد، يتتبَع الصوتَ الحسن في المساجد في شهر رمضان. وذكر الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه: أنهم كانوا يستمعون القران بالألحان. وقال محمد بن عبد الحكم: رأيت أبي والشافعي ويوسف بن عمر يستمعون القرآن بالألحان، وهذا اختيارُ ابن جرير الطبرى.
قال المجوِّزون - واللفظ لابن جرير-: الدليلُ: على أن معنى الحديث تحسينُ الصوت، والغناء المعقول الذي هو تحزين القارئ سامعَ قراءته، كما أن الغناء بالشعر هو الغناءُ المعقولُ الذي يُطرب سامعه -: ما روى سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "مَا أذنَ اللهُ لشيء مَا أذنَ لنبيٍّ حسن التَّرنُّم بالقُرْآن" ومعقول عند ذوي الحِجا، أنَ الترنُّم لاَ يكًون إلا بالَصوت إذا حسَّنه المترنم وطرَّب به. وروي في هذا الحديث "ما أذِنَ الله لشيء ما أذن لنبي حسنِ الصوت يتغنى بالقراَن يجهرُ به". قال الطبري: وهذا الحديث من أبين البيان أن ذلك كما قلنا، قال: ولو كان كما قال ابنُ عيينة، يعني: يستغني به عن غيره، لم يكن لذكر
حُسن الصوت والجهر به معنى، والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسنُ الصوت بالترجيع، قال الشاعر:
تَغَنَ بِالشِّعْرِ إمَّا كُنْتَ قَائِلَه ... إنَّ الغِنَاءَ لِهَذا الشِّعرِ مِضْمَارُ
قال: وأما ادعاء الزاعم، أن تغنّيتَ بمعنى استغنيت فاشٍ في كلام العرب، فلم نعلم أحداً قال به من أهل العلم بكلام العرب. وأما احتجاجُه لتصحيح قوله بقولِ الأعشى:
وكُنْتُ امْرَءاً زَمَناً بالعِرَاق ... عَفِيفَ المُنَاخِ طويلَ التَّغَنْ
وزعم أنه أراد بقوله: طويل التغني: طويل الاستغناء، فإنه غلط منه، وإنما عنى الأعشى بالتغني في هذا الموضع: الإِقامة من قول العرب: غني فلان بمكان كذا إذا أقام به، ومنه قوله تعالى: {كأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف: 92] واستشهاده بقول الآخر:
كِلاَنا غَنِيُّ عَنْ أخِيهِ حَيَاتَهُ ... وَنَحْنُ إذا مِتْنا أَشَدُ تَغَانِيا
فإنه إغفال منه، وذلك لأن التغاني تفاعل من تغنَّى: إذا استغنى كل واحد منهما عن صاحبه، كما يقال: تضارب الرجلان، إذا ضرب كل واحد منهما
صاحبه، وتشاتما، وتقاتلا. ومن قال: هذا في فعل اثنين، لم يجز أن يقول مثله في فعل الواحد، فيقول: تغانى زيد، وتضارب عمرو، وذلك غيرُ جائز أن يقول: تغنى زيد بمعنى استغنى، إلا أن يريد به قائله أنه أظهر الاستغناء، وهو غير مستغن، كما يقال: تجلَّد فلان: إذا أظهر جَلَدا من نفسه، وهو غير جليد، وتشجَّع، وتكرَّم، فإن وجَّه موجِّه التغنِّي بالقرآن إلى هذا المعنى على بُعده من مفهوم كلام العرب، كانت المُصيبة في خطئه في ذلك أعظمَ، لأنه يُوجب على من تأوله أن يكون الله تعالى ذِكرُه لم يأذن لنبيه أن يستغني بالقرآن، وإنما أذِنَ له أن يُظهر من نفسه لنفسه خلافَ ما هو به من الحال، وهذا لا يخفى فسادُه. قال: ومما يُبين فسادَ تأويل ابن عُيينة أيضاً أن الاستغناء عن الناس بالقرآن مِن المحال أن يُوصف أحد به أنه تؤذن له فيه أو لا يؤذن، إلا أن يكون الأذن غد ابن عيينة بمعنى الإِذن الذي هو إطلاق وإباحة، وإن كان كذلك، فهو غلط من وجهين، أحدهما: من اللغة، والثاني: من إحالة المعنى عن وجهه. أما اللغة، فإن الأذن مصدر قوله: أذن فلان لكلام فلان، فهو يأذَن له: إذا استمع له وأنصت، كما قال تعالى: {وأَذِنَت لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق. 2]، بمعنى سمِعت لربها وحُقَّ لها ذلك، كما قال عدى بن زيد:
إنَّ هَمِّي فِي سَمَاعٍ وأذَن
بمعنى، في سماع واستماع. فمعنى قوله: ما أذن الله لشيء، إنما هو: ما استمع الله لشيء من كلام الناس ما استمع لنبي يتغنى بالقرآن. وأما الإِحالة في المعنى، فلأن الاستغناء بالقُرْآن عن الناس غيرُ جائز وصفه بأنه مسموع ومأذون له، انتهى كلام الطبري.
قال أبو الحسن بن بطال: وقد وقع الإِشكال في هذه المسألة أيضاً، بما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثني موسى بن عليّ بن رباح، عن أبيه، عن عُقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَعَلَّموا القُرْآنَ وتَغَنَّوا بِهِ، واكتبوه، فَوالذي نَفسي بِيَدِهِ، لَهوَ أَشَدُّ تَفَصِّياَ مِنَ المَخَاضِ مِنَ العقُلِ". قال: وذكر عمر بن شَبَّة، قال: ذكر لأبي عاصم النبيل تأويلُ ابن عيينة في قوله "يتغنّىَ بالقرآن" يستغني به، فقال: لم يصنع ابن عيينة شيئاً، حدثنا ابنُ جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عُمير، قال: كانت لداود نبيِّ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِعزَفَةٌ يتغنَّى عليها يَبكي ويُبكي. وقال ابن عباس: إنه كان يقرأ الزبور بسبعين لحناً، تكون فيهن، ويقرأ قراءة يَطْرَبُ منها الجموعُ. وسئل الشافعي رحمه الله، عن تأويل ابن عيينة فقال: نحن أعلمُ بهذا، لو أراد به الاستغناء، لقال: "من لم يستغن بالقُرآن"، ولكن لما قال: "يتغنَّى بالقرآن"، علمنا أنه أراد به التغنِّي.
قالوا: ولأن تزيينه، وتحسين الصوت به، والتطريب بقراءته أوقعُ في النفوس، وأدعى إلى الاستماع والإِصغاء إليه، ففيه تنفيذ للفظه إلى الأسماع، ومعانيه إلى القلوب، وذلك عونٌ على المقصود، وهو بمنزلة الحلاوة التي تُجعل في الدواء لتنفذه إلى موضع الداء، وبمنزلة الأفاويه والطِّيب الذي يُجعل في الطعام، لتكون الطبيعة أدعى له قبولاً، وبمنزلة الطِّيب والتحكِّي، وتجمُّل المرأة لبعلها، ليكون أدعى إلى مقاصد النكاح. قالوا: ولا بد للنفس من طرب واشتياق إلى الغناء، فعُوِّضت عن طرب الغناء بطرب القرآن، كما عُوِّضت عن كل محرَّم ومكروه بما هو خيرٌ لها منه،
وكما عوِّضت عن الاستقسام بالأزلام بالاستخارة التي هي محضُ التوحيد والتوكل، وعن السِّفاح بالنكاح، وعن القِمار بالمُراهنة بالنِّصال وسباق الخيل، وعن السماع الشيطاني بالسماع الرحماني القرآني، ونظائره كثيرة جداً.
قالوا: والمحرَّم، لا بد أن يشتمِل على مفسدة راجحة، أو خالصة، وقراءة التطريب والألحان لا تتضمن شيئاً مِن ذلك، فإنها لا تُخرِجُ الكلام عن وضعه، ولا تَحولُ بين السامع وبين فهمه، ولو كانت متضمِّنة لزيادة الحروف كما ظن المانع منها، لأخرجت الكلمة عن موضعها، وحالت بين السامع وبين فهمها، ولم يدر ما معناها، والواقعُ بخلاف ذلك.
قالوا: وهذا التطريب والتلحين، أمر راجع إلى كيفية الأداء، وتارة يكون سليقة وطبيعة، وتارة يكون تكلُّفاً وتعقُلاً، وكيفيات الأداء لا تخرِجُ الكلام عن وضع مفرداته، بل هي صِفات لصوت المؤدِّي، جارية مجرى ترقيقه وتفخيمه وإمالته، وجارية مجرى مدود القرَّاء الطويلة والمتوسطة، لكن تلك الكيفيات متعلقة بالحروف، وكيفيات الألحان والتطريب، متعلقة بالأصوات، والآثار في هذه الكيفيات، لا يمكن نقلُها، بخلاف كيفيات أداء الحروف، فلهذا نُقلت تلك بألفاظها، ولم يمكن نقل هذه بألفاظها، بل نقل منها ما أمكن نقله، كترجيع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سورة الفتح بقوله: "آ آ آ". قالوا: والتطريب والتلحين راجع إلى أمرين: مدٍ وترجيع، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان يمد صوته بالقراءة يمد "الرحمن" ويمد "الرَّحيم"، وثبت عنه الترجيع كما تقدم.
قال المانعون من ذلك: الحجة لنا من وجوه. أحدها: ما رواه حُذيفة بن اليمان، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إقرؤوا القُرْآن بِلحُونِ العَرَبِ وأصْوَاتِها، وإيَاكُم وَلُحُونَ أَهْلِ الكِتَابِ وَالفِسْق، فإنَّهُ سَيَجيء فى مِنْ بَعْدِي أَقوَامٌ يُرَجِّعُونَ
بِالقُرْآنِ تَرْجِيعَ الغِنَاءِ وَالنَّوْحِ، لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهم، مَفتُونَةً قُلُوبُهُم، وَقُلُوبُ الَذِينَ يُعْجِبُهُم شَأْنُهُم" رواه أبو الحسن رَزِينّ في "تجريد الصحاح" ورواه أبو عبد الله الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول". واحتج به القاضي أبو يعلى في "الجامع"، واحتج معه بحديث آخر، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر شرائطَ الساعة، وذكر أشياء، منها: "أن يُتخذ القرآنُ مَزاميرَ، يُقدِّمونَ أَحَدَهُم لَيْسَ بِأَقْرَئِهِم وَلا أَفْضَلِهِم ما يُقَدِّمُونَهُ إلا لِيُغَنِّيَهُم غِنَاءً".
قالوا: وقد جاء زياد النهدي إلى أنس رضي الله عنه مع القراء، فقيل له: إقرأ، فرفع صوته وطرَّب، وكان رفيعَ الصوت، فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خِرقة سوداء، وقال: يا هذا! ما هكذا كانوا يفعلون، وكان إذا رأى شيئاً يُنكره، رفع الخِرقة عن وجهه. قالوا: وقد منع النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المؤذِّن المُطَرِّبَ في أذانه من التطريب، كما روى ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤذِّن يطرِّب، فقال
النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الأذان سَهْلِّ سمح.، فإن كان أَذَانُكَ سَهْلا سَمْحاً، وإلاَّ فَلا تُؤذِّن" رواه الدارقطني وروى عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث قتادة، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه، قال: كانت قراءةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدَّ، ليس فيها ترجيع. قالوا: والترجيع والتطريب يتضمن همزَ ما ليس بمهموز، ومدَّ ما ليس بممدود، وترجيعَ الألف الواحد ألفات، والواوَ واوات، والياء ياءاتٍ، فيؤدِّي ذلك إلى زيادة في القران، وذلك غير جائز، قالوا: ولا حدَّ لما يجوز من ذلك، وما لا يجوز منه، فإن حُدَّ بحدٍّ معيَّنٍ، كان تحكُّماً في كتاب الله تعالى ودِينه، وإن لم يُحَدَّ بحدٍّ، أفض إلى أن يُطلق لفاعله ترديدُ الأصوات، وكثرةُ الترجيعات، والتنويعُ في أصناف الإِيقاعات والألحان المشبِهة للغناء، كما يفعل أهلُ الغناء بالأبيات، وكما يفعله كثير من القُرَّاء أمام الجنائز، ويفعلُه كثيرٌ مِن قراء الأصوات، مما يتضمن تغييرَ كتاب الله والغِناء به على نحو ألحان الشعر والغناء، ويُوقعون الإِيقاعات عليه مثل الغناء سواء، اجتراءً على الله وكتابه، وتلاعباً بالقرآن، وركوناً إلى تزيين الشيطان، ولا يجيز ذلك أحدٌ من علماء الإِسلام، ومعلوم: أن التطريبَ والتلحين ذريعةٌ مُفضية إلى هذا إفضاءً قريباً، فالمنع منه، كالمنع من الذرائع الموصلة إلى الحرام، فهذا نهايةُ اقدام الفريقين، ومنتهى احتجاج الطائفتين.
وفصل النزاع، أن يقال: التطريب والتغنِّي على وجهين، أحدهما: ما اقتضته الطبيعة، وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم، بل إذا خُلّي وطبعه، واسترسلت طبيعته، جاءت بذلك التطريب والتلحين، فذلك جائز، وإن أعان طبيعتَه بفضلِ تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى
الأشعري للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَو علمتُ أنّكَ تَسمَع لَحَبَّرْتُه لَكَ تحبِيراً" والحزين ومَن هاجه الطرب، والحبُ والشوق لا يملك من نفسه دفعَ التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوسَ تقبلُه وتستحليه لموافقته الطبع، وعدم التكلف والتصنع فيه، فهو مطبوع لا متطبِّع، وكَلفٌ لا متكلَف، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه، وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثر به التالي والسامعُ، وعلى هذا الوجه تُحمل أدلة أرباب هذا القول كلها.
الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعةً من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصُل إلا بتكلُّف وتصنُّع وتمرُّن، كما يتعلم أصوات الغِناء بأنواع الألحان البسيطة، والمركبة على إيقاعات مخصوصة، وأوزانٍ مخترعة، لا تحصل إلا بالتعلُم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلفُ، وعابوها، وذمّوها، ومنعوا القراءةَ بها، وأنكروا على من قرأ بها، وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه، وبهذا التفصيل يزول الاشتباهُ، ويتبين الصوابُ من غيره، وكلُّ من له علم بأحوال السلف، يعلم قطعاً أنهم بُرآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة، التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى للّه من أن يقرؤوا بها، ويُسوّغوها، ويعلم قطعاً أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويحسِّنون أصواتَهم بالقرآن، ويقرؤونه بِشجىً تارة، وبِطَربِ تارة، وبِشوْق تارة، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال: "لَيْسَ مِنَّا مَن لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقرآنِ " وفيه وجهان: أحدهما: أنه إخبار بالواقع الذي كلُّنا نفعله، والثاني: أنه نفي لهدي من لم يفعله عن هديه وطريقته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عيادة المرضى
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعودُ مَنْ مَرِضَ من أصحابه، وعاد غلاماً كان يَخدِمه مِن أهل الكتاب، وعاد عمَّه وهو مشرك، وعرض عليهما الإِسلام، فأسلم اليهودي، ولم يسلم عمُّه.
وكان يدنو من المريض، ويجلِسُ عند رأسه، ويسألُه عن حاله، فيقول: كيف تجدُك؟
وذكر أنه كان يسأل المريضَ عما يشتهيه، فيقول: "هَل تَشْتَهِي شَيئاً"؟ فإن اشتهى شيئاً وعلِم أنه لا يضرّه، أمر له به.وكان يمسح بيده اليُمنى على المريض، ويقول: " اللهُمَّ رَبَّ النَّاس، أَذْهِبِ البأْسَ، واشْفِه أَنتَ الشَّافي، لا شِفَاءَ إلا شِفاؤكَ، شِفاءً لا يُغادر
سَقَماً".
وكان يقول: "امسَح البَأسَ رَبَّ النَاس، بيَدكَ الشِّفَاءُ، لا كَاشفَ له إلاَّ أنت".
وكان يدعو للمريض ثلاثاً كما قاله لسعد: "اللهم اشْفِ سَعْداً، اللهُمَّ اشْفِ سَعْداً اللهُمَّ اشْفِ سَعْداً".
وكان إذا دخل على المريض يقول له: " لا بَأسَ طَهُورٌ إنْ شَاءَ الله".
وربما كان يقول: " كَفَّارَةٌ وَطَهورٌ " وكان يَرْقِي مَن به قَرحة، أو جُرح، أو شكوى، فيضِع سبَابته بالأرض، ثم يرفعها ويقول: "بِسْمِ الله، تُرْبَةُ أرْضِنا، بِرِيقَةِ بَعضِنا يُشْفى سَقِيمُنَا، بإذْنِ رَبِّنا" هذا في "الصحيحين"، وهو يبطل اللفظة التي جاءت في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأنهم لا يرْقُونَ ولا يَسْتَرْقُونَ فقوله في الحديث: "لا يرقون" غلط من الراوي، سمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول ذلك. قال: وإنما الحديث "هم الذين لا يَسْتَرْقُونَ". قلت: وذلك لأن هؤلاء دخلوا الجنة
بغير حساب، لكمال توحيدهم، ولهذا نفى عنهم الاسترقاء، وهو سؤالُ الناس أن يرقوهم. ولهذا قال:." وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" ، فلكمال توكُّلهم على ربهم، وسُكونهم إليه، وثقتهم به، ورِضاهم عنه، وإنزال حوائجهم به، لا يسألون الناس شيئاً، لا رُقيةً ولا غيرها، ولا يحصُلُ لهم طِيرَةٌ تصدُّهم عما يقصِدونه، فإن الطِّيَرَةَ تَنْقُصُ التوحيد وتُضْعِفُه. قال: والراقي متصدِّق مُحسن، والمسترقي سائل، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَى، ولم يسترق، وقال : "مَنْ اسْتطاع منكم أَنْ يَنْفَعَ أَخاه فَلْيَنْفَعْه".
فإن قيل: فما تصنعون بالحديث الذي في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان إذا أوى إلى فراشه، جمع كفَّيه ثم نفَث فيهما، فقرأ {قل هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَق} [الفلق: 1]، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} [الناس: 1]، ويمسح بهما ما استطاع مِن جسده، ويبدأ بهما على رأسه ووجهه ماَ أقبل من جسده، يفعلُ ذلك ثلاث مرات قالت عائشة: فلما اشتكى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يأمرني أن أفعل ذلك به.
فالجواب : أن هذا الحديث قد روي بثلاثة ألفاظ. أحدها: هذا. والثاني: أنه كان ينفُث على نفسه، والثالث : قالت: كنت أنفُث عليه بهن، وأمسح بيد نفسه لبركتها، وفي لفظ رابع: كان إذا اشتكى، يقرأ على نفسه بالمعوِّذات وينفُث، وهذه الألفاظ يُفسِّر بعضها بعضاً. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينفث على نفسه، وضعفه ووجعُه يمنعه من إمرار يده على جسده كله. فكان يأمر عائشة أن تُمر يده على جسده بعد نفثه هو، وليس ذلك من الاسترقاء في
شيء، وهي لم تقل: كان يأمرني أن أرقيه، وإنما ذكرت المسح بيده بعد النفث على جسده، ثم قالت: كان يأمرني أن أفعل ذلك به، أى: أن أمسح جسده بجده، كما كان هو يفعل.
ولم يكن مِن هديه عليه الصلاة والسلام أن يَخُصَّ يوماً من الأيام بعيادة المريض، ولا وقتاً من الأوقات، بل شرع لأمته عيادة المرضى ليلاً ونهاراً، وفي سائر الأوقات. وفي "المسند" عنه: "إذا عَادَ الرَّجُلُ أَخَاهُ المُسلِمَ مَشَى في خُرفَةِ الجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسَ، فَإِذَا جَلَسَ، غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ، فَإن كَانَ غُدوَةً، صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإن كَانَ مَسَاءً، صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ". وفي لفظ "ما مِنْ مُسْلِم يَعُودُ مُسْلِماً إلا بَعَثَ اللَهُ لَه سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يصَلّونَ عَلَيه أَيَّ ساعةٍ مِنَ النَّهار كانت حتَّى يُمْسِيَ، وأيَّ ساعَةٍ مِن الليلِ كانت حتَّى يُصْبِحَ ".
وكان يعود من الرمد وغيره، وكان أحياناً يضع يده على جبهة المريض، ثم يمسحُ صدره وبطنه ويقول: "اللهُمَّ اشْفِهِ" وكان يمسح وجهه أيضاً.وكان إذا يئس من المريض قال: "إنا للهِ وإنَّا إليه رَاجِعُون".
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنائز والصلاة عليها، واتباعها، ودفنها، وما كان يدعو به للميت في الصلاة الجنازة وبعد الدفن وتوابع ذلك
كان هديُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنائز أكملَ الهدي، مخالفاً لهدي سائر الأمم، مشتمِلاً على الإِحسان إلى الميت ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده، وعلى الإِحسان إلى أهله وأقاربه، وعلى إقامة عبودية الحي لِلَّه وحدَه فيما يُعامل به الميت. وكان مِن هديه في الجنائز إقامةُ العبوديةِ للربِّ تبارك وتعالى على أكمل الأحوال، والإِحسان إلى الميت، وتجهيزه إلى الله على أحسن أحواله وأفضلِها، ووقوفه ووقوف أصحابه صفوفاً يحمَدون الله ويستغفرون له، ويسألون له المغفرةَ والرحمةَ والتجاوزَ عنه، ثم المشي بين يديه إلى أن يُودِعُوهُ حفرته، ثم يقوم هو وأصحابه بين يديه على قبره سائلين له التثبيت أحوجَ ما كان إليه، ثم يتعاهدُه بالزيارة له في قبره، والسلام عليه، والدعاء له كما يتعاهدُالحيُّ صاحِبَه في دار الدنيا.
فأول ذلك: تعاهدُه في مرضه، وتذكيرُه الآخرة، وأمرُه بالوصية، والتوبة، وأمرُ مَنْ حضره بتلقينه شهادة أن لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه، ثم النهى عن عادة الأمم التي لا تؤمِنُ بالبعث والنُّشور، مِن لطم الخدُود، وشقِّ الثياب، وحلقِ الرؤوس، ورفع الصوت بالنَّدب، والنِّياحة وتوابع ذلك.
وسَنَّ الخشوعَ للميت، والبكاءَ الذي لا صوت معه، وحُزْنَ القلب، وكان يفعل ذلك ويقول: "تَدْمَعُ العينُ وَيَحْزَنُ القَلبُ وَلاَ نَقولُ إلا ما يُرضِي الرَّبَّ".
وسَنَّ لأمته الحمد والاسترجاعَ، والرضى عن الله، ولم يكن ذلك منافياً لدمع العين وحُزنِ القلب، ولذلك كان أرضى الخلقِ عن الله في قضائه، وأعظمهم له حَمداً، وبكى مع ذلك يوم موت ابنه إبراهيم رأفة به، ورحمة للولد، ورِقَّة عليه، والقلبُ ممتلئ بالرَضى عن الله عز وجل وشكره، واللسانُ مشتغل بذِكره وحمده.
ولما ضاق هذا المشهدُ والجمُع بين الأمرين على بعض العارفين يوم مات ولده، جعل يضحك، فقيل له: أتضحك في هذه الحالة؟ قال: إنَّ الله تَعالى قَضى بقَضَاءٍ، فأحْبَبتُ أن أرضى بِقَضَائِهِ، فأشكل هذا على جماعة من أهل العلم، فقالوا: كيف يبكي رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ مات ابنُه إبراهيم وهو أرضى الخلقِ عن الله، ويبلغ الرضى بهذا العارف إلى أن يضحك، فسمعتُ شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: هَدْيُ نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أكمَلَ من هدي هذا العارف، فإنه أعطى العبودية حقها فاتسع قلبه للرضى عن الله، ولرحمة الولد، والرقَّةِ عليه، فحمِد الله، ورَضيَ عنه في قضائه، وبكى رحمةَ ورأفة، فحملته الرأفة على البكاء، وعبوديتُه للّه، ومحبته له على الرضى والحمد، وهذا العارفُ ضاق قلبُه عن اجتماع الأمرين، ولم يتسع باطنُه لشهودهما والقيامِ بهما، فَشَغَلَتْهُ عبودية الرضى عن عبودية الرحمة والرأفة.
فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِسراعُ بتجهيز الميت إلى الله، وتطهيره، وتنظيفِه، وتطييبه، وتكفيِنه في الثياب البيض، ثم يؤتى به إليه، فيُصلِّي عليه بعد أن كان يُدعى إلى الميت عند احتضاره، فيُقيم عنده حتى يقضي، ثم يحضر تجهيزه، ثم يُصلِّي عليه، ويشيِّعه إلى قبره، ثم رأى الصحابةُ أن ذلك يشقُ عليه، فكانوا إذا قض الميتُ، دعوه، فحضر تجهيزه، وغسله، وتكفينَه. ثم رأوا أن ذلك يشقُّ عليه، فكانوا هم يُجهِّزون ميتهم، ويحملونه إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سريره، فيُصلي عليه خارِج المسجد.
ولم يكن من هديه الراتب الصلاةُ عليه في المسجد، وإنما كان يُصلي على الجنازة خارج المسجد، ورُبما كان يصلي أحياناً على الميت في المسجد، كما صلى على سهيل بن بيضاء وأخيه في المسجد ولكن لم يكن ذلك سنتَه وعادتَه،،، فقد روى أبو داود في "سننه" من حديث صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلَّى على جَنَازَة في المَسْجِد فَلاَ شَيء له ". وقد اختلف في لفظ الحديث، فقال الخطيب في روايته لكتاب السنن: في الأصل "فلا شَيءَ عَلَيْهِ" وغيرُه يرويه "فَلاَ شَيءَ لَهُ" وقد رواه ابن ماجه في "سننه" ولفظه: "فَلَيْسَ لَهُ شَيء". ولكن قد ضعف الإِمام أحمد وغيره هذا الحديث، قال الإِمام أحمد: هو مما تفرد به صالح
مولى التوأمة، وقال البيهقي: هذا حديث يعدُّ في أفراد صالح، وحديث عائشة أصح منه، وصالح مختلَف في عدالته، كان مالك يجرحه، ثم ذكر عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أنه صُلِّي عليهما في المسجد.
قلت: وصالح ثقة في نفسه، كما قال عباس الدُّوري عن ابن معين: هو ثقة في نفسه. وقال ابن أبي مريم ويحيى: ثقة حجة، فقلت له: إن مالكاً تركه، فقال: إن مالكاً أدركه بعد أن خَرِفَ، والثوري إنما أدركه بعد أن خَرِفَ، فسمع منه، لكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يَخرَفَ. وقال علي بن المديني: هو ثقة إلا أنه خَرِفَ وكَبِرَ فسمع منه الثوري بعد الخرف وسماع ابن أبي ذئب منه قبل ذلك. وقال ابن حبان: تغير في سنة خمس وعشرين ومائة، وجعل يأتي بما يُشبه الموضوعات عن الثقات، فاختلط حديثه الأخير بحديثه القديم ولم يتميز، فاستحق الترك انتهى كلامه.
وهذا الحديث: حسن، فإنه من رواية ابن أبي ذئب عنه، وسماعه منه قديم قبل اختلاطه، فلا يكون اختلاطه موجباً لرد ما حدَّث به قبل الاختلاط. وقد سلك الطحاوي في حديث أبي هريرة هذا، وحديث عائشة مسلكاً آخر، فقال: صلاةُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سُهيل بن بيضاء في المسجد منسوخة، وترك ذلك آخر الفعلين من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدليل إنكار عامة الصحابة ذلك على عائشة، وما كانوا لِيفعلوه إلا لما علموا خلافَ ما نقلت. ورَد ذلك على الطحاوي جماعة، منهم: البيهقي وغيره. قال البيهقى: ولو كان عند أبي هريرة نسخُ ما روته عائشة، لذكره يوم صلِّيَ على أبي بكر الصديق في المسجد، ويوم صُلِّيَ على عمر بن الخطاب في المسجد، ولذكره من أنكر على عائشة أمرها بإدخاله المسجد، ولذكره أبو هريرة حين روت فيه الخبر، وإنما أنكره من لم يكن له معرفة بالجواز، فلما روت فيه الخبر، سكتوا ولم يُنكروه، ولا عارضوه بغيره.
قال الخطابي: وقد ثبت أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صُلِّىَ عليهما في المسجد، ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما، وفي تركهم الإِنكار الدليلُ على جوازه، قال: ويحتمِل أن يكون معنى حديث أبي هريرة إن ثبت، متأولاً على نقصان الأجر، وذلك أن من صلى عليها في المسجد، فالغالبُ أنه ينصرف إلى أهله ولا يشهد دفنه، وأن من سعى إلى الجنازة، فصلى عليها بحضرة المقابر، شهد دفنه، وأحرز أجر القيراطين، وقد يؤجر أيضاً على كثرة خُطاه، وصار الذي يُصلي عليه في المسجد منقوصَ الأجر بالإِضافة إلى من صلي عليه خارج المسجد.
وتأولت طائفة معنى قوله: "فلا شيء له"، أي فلا شيء عليه، ليتحد معنى اللفظين، ولا يتناقضان كما قال تعالى: {وإن أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، أي: فعليها، فهذه طرق الناس في هذين الحديثين. والصواب ما ذكرناه أولاً، وأن سُنَّته وهديه الصلاةُ على الجنازة خارج المسجد إلا لعذر، وكلا الأمرين جائز، والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد. والله أعلم.
فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسجيةُ الميت إذا مات، وتغميضُ عينيه، وتغطيةُ وجهه وبدنه، وكان رُبما يُقبِّل الميت كما قبَّل عثمانَ بن مظعون وبكى وكذلك الصِّدِّيقُ أكبَّ عليه، فقبَّله بعد موته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان يأمر بغسل الميت ثلاثاً أو خمساً، أو أكثر بحسب ما يراه الغاسِل، ويأمر بالكافور في الغسلة الأخيرة، وكان لا يُغسَل الشهَداءَ قَتلَى المعركة، وذكر الإِمام أحمد، أنه نهى عن تغسيلهم، وكان ينزع عنهم الجلودَ والحديدَ ويَدفِنُهم في ثيابهم، ولم يُصلِّ عليهم.
وكان إذا مات المُحرِمُ، أمر أن يُغسل بماء وسِدْر، ويُكفن في ثوبيه وهما ثوبا إحرامه: إزاره ورداؤه، وينهى عن تطييبه وتغطية رأسه وكان يأمرمن ولي الميتَ أن يُحسن كفنه، ويُكفنه في البياض، وينهى عن المغالاة في الكفن، وكان إذا قصَّرَ الكفنُ عن سَتر جميع البدن، غطَّى رأسه، وجعل على رجليه من العُشب.
فصل
وكان إذا قُدِّم إليه ميت يُصلِّي عليه، سأل: هل عليه دَين، أم لا؟ فإن لم يكن عليه دَين، صلَّى عليه، وإن كان عليه دين، لم يصل عليه، وأذِن لأصحابه أن يُصلوا عليه، فإن صلاته شفاعة، وشفاعتُه موجبة، والعبد مرتَهَنٌ بدَينه، ولا يدخل الجنة حتى يُقضى عنه، فلما فتح الله عليه، كان يُصلي على المدِين، ويتحمَّل دينه، ويدع ماله لورثته
فإذا أخذ في الصلاة عليه، كبر وحَمِدَ الله وَأَثنَى عَليْهِ، وصلى ابن عباس على جنازة، فقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب جهراً، وقال: "لِتَعْلَمُوا أنها سُنَّة" وكذلك قال أبو أُمامة بنُ سهل: إنَّ قراءة الفاتحة في الأولى سنَّة. ويُذكر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه أمر أن يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب.
ولا يصح إسناده. قال شيخنا: لا تجب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، بل هى سنة، وذكر أبو أمامة بنُ سهل، عن جماعة من الصحابة، الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة على الجنازة وروى يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد المقبُري، عن أبي هريرة، أنه سأل عُبادَة بنَ الصامت عن الصلاة على الجنازة فقال: أنا واللهِ أُخبرُك: تبدأ فتكبِّر، ثُمَّ تُصلِّي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتَقُول: اللهُمَّ إنَّ عَبْدَكَ فَلاناً كَانَ لا يُشْرِكُ بِك وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، إنْ كَانَ مُحْسِناً، فَزِدْ في إحسَانِهِ، وإنْ كَانَ مُسِيئاً، فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، اللهُمً لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلاَ تُضِلَّنَا بَعَدَهُ .
فصل
ومقصودُ الصلاة على الجنازة: هو الدعاء للميت، لذلك حفظَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونُقِلَ عنه ما لم يُنقل مِنْ قراءة الفاتِحة والصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فحُفِظَ من دعائه: "اللهُمَّ اغفِرْ لَهُ، وارْحَمْهُ، وعَافِهِ، واعَفُ عَنهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَه، وَوَسِّعْ مَدْخَلَه، واغْسِلْهُ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ، ونَقِّهِ مَنَ الخطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وأَبْدِلْهُ دَارَاً خَيْراً مِنْ دَارِه، وَأَهْلاً خَيْراً مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوجاً خَيْراً مِنْ زَوْجِهِ، وأَدْخِلْهُ الجَنةَ، وَأَعِذْهُ
مِن عَذَابِ القَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَارِ".
وحُفِظَ من دعائه: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا، وَصَغِيرِنَا، وكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا، وأُنْثَانَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبنَا، اللهُمَّ مَنْ أَحيَيْتَهُ مِنَّا، فأَحْيهِ عَلَى الإِسْلاَم، وَمَنْ تَوفَّيْتَهُ مِنَّا، فَتَوَفَّه عَلَى الإِيمَانِ، اللهُمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلاَ تَفتِنَّا بَعْدَهُ".
وحُفِظَ مِن دعائه: "اللهُمَّ إنَّ فُلانَ بْنَ فُلانٍ في ذِمَّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِكَ، فَقِهِ مَنْ فِتْنَةِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّار، فأَنْتَ أَهْلُ الوَفَاءِ وَالحَق، فَاغفِرْ لَهُ وَارْحَمهُ، إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ".
وحُفِظَ مِن دعائه أيضاً: "اللهُمَّ أَنْتَ رَبهَا، وَأَنْتَ خَلَقْتَهَا، وَأَنتَ رَزَقْتَهَا، وأَنْتَ هَدَيْتَهَا للإِسْلامِ، وَأَنْتَ قَبضْتَ رُوحَهَا، وتَعْلَمُ سِرَّهَا وَعَلانِيَتَهَا، جئْنَا شفَعَاءَ فَاغفِرْ لَهَا".
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بإخلاص الدعاء للميت، وكان يُكبرِّ أربعَ تكبيرات، وصح عنه أنه كبَّر خمساً، وكان الصحابة بعده يُكبِّرون أربعاً، وخمساً، وستاً، فكبَّر زيد بن أرقم خمساً، وذكر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كبرها، ذكره مسلم.
وكبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه على سهل بن حُنيف ستاً،
وكان يُكبر على أهل بدر ستاً، وعلى غيرهم من الصحابة خمساً، وعلى سائر الناس أربعاً، ذكره الدارقطني.
وذكر سعيد بنُ منصور، عن الحكم بن عُتيبة أنه قال: كانوا يكبرون على أهل بدر خمساً، وستاً، وسبعاً. وهذه آثار صحيحة، فلا موجب للمنع منها، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يمنع مما زاد على الأربع، بل فعله هو وأصحابُه من بعده.
والذين منعوا من الزيادة على الأربع، مِنهم من احتج بحديث ابن عباس، أن آخر جنازة صلَّى عليها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كبَّرَ أربعاً قالوا: وهذا آخر الأمرين، وإنما يؤخذ بالآخِر، فالآخر مِن فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا. وهذا الحديثُ، قد قال الخلال في "العلل": أخبرني حرب: قال: سئل الإِمام أحمد عن حديث أبي المليح، عن ميمون، عن ابن عباس، فذكر الحديث. فقال أحمد: هذا كذب ليس له أصل، إنما رواه محمد بن زياد الطحان وكان يضع الحديث. واحتجوا بأن ميمون بن مهران روى عن ابن عباس، أن الملائكة لما صلَت على آدم عليه الصلاة والسلام، كبَّرت عليه أربعاً، وقالوا: تِلك سنتكم يا بني آدم. وهذا الحديث قد قال في الأثرم: جرى ذكر محمد بن معاوية النيسابوري الذي كان بمكة، فسمعتُ أبا عبد الله قال: رأيت أحاديثه موضوعة، فذكر منها عن أبي المليح، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، أن الملائكة لما صلَّت على آدم، كبَّرت عليه أربعاً، واستعظمه أبو عبد الله وقال: أبو المليح كان أصح حديثاً وأتقى لله من أن يَرويَ مثلَ هذا.
واحتجوا بما رواه البيهقي من حديث يحيى، عن أبيّ، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن الملائكة لما صلَّت على آدم، فكبرت عليه أربعاً، وقالت: هذه سنتكم يا بني آدم، وهذا لا يصح وقد روي مرفوعاً وموقوفاً.
وكان أصحاب معاذ يُكبِّرون خمساً، قال علقمة: قلتُ لعبد الله: إن ناساً من أصحاب معاذ قدموا من الشام، فكبَّروا على ميت لهم خمساً، فقال عبد الله: ليسَ على المِّيت في التكبير وقتٌ، كبِّر ما كبَّرَ الإِمام، فإذا انصرفَ الإمام فانصرِفْ.
فصل
وأما هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التسليم من صلاة الجنازة. فروي عنه: إنه كان يسلِّم واحدة. وروي عنه: أنه كان يسلم تسليمتين.
فروى البيهقي وغيره، من حديث المقبُري، عن أبي هريرة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على جنازة، فكبر أربعاَ، وسلم تسليمة واحدة لكن قال الإِمام أحمد في رواية الأثرم: هذا الحديث عندي موضوع، ذكره الخلال في "العلل"
وقال إبرهيم الهجري: حدَّثنا عبد الله بن أبي أوفى: إنه صلى على جنازة ابنته، فكبر أربعاً، فمكث ساعة حتى ظننا أنه يكبر خمساً، ثم سلم عن يمينه وعن شماله، فلما انصرف، قلنا له: ما هذا؟ فقال: إني لا أزيدكم على ما رأيت رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنعُ، أو هكذا صنع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن مسعود: ثلاثُ خِلال كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يفعلهن تركهُنَّ الناسُ، إحداهن: التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة، ذكرهما البيهقي. ولكن إبراهيم بن مسلم العبدي الهجري، ضعفه يحيى بن معين، والنسائي، وأبو حاتم، وحديثه هذا، قد رواه الشافعي في كتاب حرملة عن سفيان عنه وقال: كبّر عليها أربعاً، ثم قام ساعة، فسبَّح به القومُ فسلم، ثم قال: كنتم ترون أن أزيد على أربع، وقد رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كبر أربعاً، ولم يقل: ثم سلَم عن يمينه وشماله. ورواه ابن ماجه من حديث المحاربي عنه كذلك، ولم يقل: ثم سَلَّمَ عن يمينه وشماله.
وذِكر السلام عن يمينه وعن شماله انفرد بها شريك عنه. قال البيهقي: ثم عزاه للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التكبير فقط، أو في التكبير وغيره.
قلت: والمعروف عن ابن أبي أوفى خلاف ذلك، أنه كان يسلم واحدة، ذكره الإِمام أحمد عنه. قال أحمد بن القاسم، قيل لأبي عبد الله، أتعرف عن
أحد من الصحابة أنه كان يسلم على الجنازة تسليمتين؟ قال: لا، ولكن عن ستة من الصحابة أنهم كانوا يسلمون تسليمةً واحدة خفيفةً عن يمينه، فذكر ابنَ عمر، وابنَ عباس، وأبا هريرة، وواثِلة بن الأسقع، وابن أبي أوفى، وزيد بن ثابت. وزاد البيهقي: علي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وأبا أمامة بن سهل بن حنيف، فهؤلاء عشرة من الصحابة، وأبو أمامة أدرك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسماه باسم جده لأمه أبي أمامة: أسعد بن زرارة، وهو معدود في الصحابة ومن كبار التابعين.
وأما رفع اليدين، فقال الشافعي: ترفع للأثر، والقياس على السنة في الصلاة، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرفع يديه في كل تكبيرة كبَّرها في الصلاة وهو قائم.
قلت: يريد بالأثر ما رواه عن ابن عمر، وأنس بن مالك، أنهما كانا يرفعان أيديهما كلما كبَّرا على الجنازة ويذكر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان يرفع يديه في أول التكبير، ويضع اليمنى على اليسرى، ذكره البيهقي في السنن.
وفي الترمذي من حديث أبي هُريرة،"أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وضع يده اليمنى على يده اليسرى في صلاة الجنازة"، وهو ضعيف بيزيد بن سنان الرهاوى.
فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فاتته الصلاة على الجنازة، صلى على القبر، فصلى مرة على قبر بعد ليلة، ومرة بعد ثلاث، ومرة بعد شهر، ولم يُوقت في ذلك وقتاً.
قال أحمد رحمه الله: من يشكُّ في الصلاة على القبر؟! ويُروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان إذا فاتته الجنازةُ، صلى على القبر من ستة أوجه كُلُها حِسَان، فحدَّ الإِمام أحمد الصلاة على القبر بشهر، إذ هو أكثر ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه صلى بعده، وحدَّه الشافعي رحمه الله، بما إذا لم يَبْلَ الميت، ومنع منها مالكٌ وأبو حنيفة رحمهما الله إلا لِلوليِّ إذا كان غائباً.
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان يقومُ عند رأس الرجل وَوَسْطِ المرأة.
فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاةُ على الطفل، فصح عنه أنه قال: "الطِّفْل يُصَلى عَلَيْهِ".
وفي "سنن ابن ماجه" مرفوعاً، "صلُوا على أَطْفَالِكُم، فإنَّهم مِنْ أَفْراطِكُم".
قال أحمد بن أبي عبدة: سألتُ أحمد: متى يَجِبُ أن يُصلى على السِّقط؟ قال: إذا أتى عليه أربعة أشهر، لأنه يُنفخ فيه الروح.
قلتُ: فحديث المغيرة بن شعبة "الطفل يُصلى عليه"؟ قال: صحيح مرفوع، قلتُ: ليس في هذا بيانُ الأربعة الأشهر ولا غيرها؟ قال: قد قاله سعيد بن المسيِّب.
فإن قيل: فهل صلى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ابنه إبراهيم يوم مات؟ قيل: قد اختلف في ذلك، فروى أبو داود في "سننه" عن عائشة رضي الله عنها قالت: مات إبراهيمُ بن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثمانية عشر شهراً، فلم يصلىِ عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الإِمام أحمد: حدَّثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدَّثني أبي عن ابن إسحاق حدَّثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن
عائشة... فذكره.
وقال أحمد في رواية حنبل: هذا حديث منكر جداً، ووهَّى ابنَ إسحاق.
وقال الخلال: وقرئ على عبد الله: حدَّثني أبي، حدَّثنا أسود بن عامر، حدَّثنا إسرائيل، قال: حدثنا جابر الجعفي، عن عامر، عن البراء بن عازب، قال: صلَّى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ابنه إبراهيم ومات وهو ابنُ ستة عشر شهرا.
وذكر أبو داود عن البهي، قال: لما مات إبراهيمُ بن رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صلَّى عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المقاعد وهو مرسل، والبهي اسمه عبد الله بن يسار كوفي.
وذكر عن عطاء بن أبي رباح، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى على ابنه إبراهيم وهو ابنُ سبعين ليلة وهذا مرسل وهم فيه عطاء، فإنه قد كان تجاوز السنة.
فاختلف الناسُ في هذه الآثار، فمنهم من أثبت الصلاة عليه، ومنع صحةَ حديثِ عائشة، كما قال الإِمام أحمد وغيرُه: قالوا: وهذه المراسيلُ، مع حديث البراء، يشدُّ بعضُها بعضاً، ومنهم من ضعَّف حديثَ البراء بجابر الجعفي، وضعف هذه المراسيل وقال: حديث ابن إسحاق أصح منها.
ثم اختلف هؤلاء في السبب الذي لأجله لم يُصلِّ عليه، فقالت طائفةٌ: استغنى ببنوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قُرْبة الصلاة التي هي شفاعة له، كما استغنى الشهيد بشهادته عن الصلاة عليه.
وقالت طائفة أخرى: إنه مات يوم كسفت الشمس، فاشتغل بصلاة الكسوف عن الصلاة عليه.
وقالت طائفةٌ: لا تعارض بين هذه الآثار، فإنه أمر بالصلاة عليه، فقيل: صُلِّي عليه، ولم يُباشرها بنفسه لاشتغاله بصلاة الكسوف، وقيل: لم يُصل عليه، وقالت فرقة: رواية المثبت أولى، لأن معه زيادة علم، وإذا تعارض النفي والإِثبات، قُدَم الإِثبات.
فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّه لا يُصلِّي على مَن قتل نفسه، ولا على مَنْ غَلَّ من الغنيمةُ.
واختلف عنه في الصلاة على المقتُولِ حداً، كالزاني المرجوم، فصح عنه
أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على الجهنية التي رجمها، فقال عمر: تُصلِّي عليها يا رسولَ الله وقد زَنَتْ؟ فقال: " لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لو قُسِمَتْ بين سَبْعِينَ مِن أهْلِ المَدِينَةِ لَوَسِعَتْهم، وهَل وَجَدْتَ تَوْبَةً أفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لله تعالى ". ذكره مسلم.
وذكر البخاري في "صحيحه"، قصة ماعِز بنِ مالك وقال: فقالَ له النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْراً وَصَلَّى عَلَيْهِ وقد اختلِفَ على الزهري في ذكر الصلاة عليه، فأثبتها محمودُ بن غيلان، عن عبد الرزاق عنه، وخالفه ثمانية من أصحاب عبد الرزاق، فلم يذكروها، وهم: إسحاق بن راهويه، ومحمد بن يحيى الذُهلي، ونوح بن حبيب، والحسنُ بن علي، ومحمَّدُ بن المتوكل، وحُميد بن زنجويه، وأحمد بن منصور الرمادي.
قال البيهقي: وقول محمود بن غيلان: إنه صلى عليه، خطأ لإِجماع أصحاب عبد الرزاق على خلافه، ثم إجماع أصحاب الزهري على خلافه.
وقد اختلف في قصة ماعز بن مالك، فقال أبو سعيد الخدري: ما استغفر له ولا سَبَّه، وقال بُريدة بن الحصيب: إنه قال: "اسْتَغْفِروا لِمَاعِز بن مَالِك". فقالوا: غَفَرَ اللهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ. ذكرهما مسلم. وقال جابر: فصلَّى عليه، ذكره البخاري، وهو حديث عبد الرزاق المعلَّل،






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق