الاثنين، 14 مايو 2018

ج3//2 زاد المعاد



ج3//2 تابع لـ ج3//1 في الصفحة السابقة زاد المعاد  ولم يأخذها من يهود خيبر خيبر، فظن بعض الغالِطين المخطئين أن هذا حكم مختصٌ بأهل خيبر، وأنه لا يؤخذ منهم جزيةٌ وإن أُخِذَتْ منِ سائر أهل الكتاب، وهذا مِن عدم فقهه فى السير والمغازى، فإن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتلهم وصالحهم على أن يُقِرَّهم فى الأرض ما شاء، ولم تكن الجزيةُ نزلت بعد، فسبق عقدُ صلحهم وإقرارُهم فى أرض خيبر نزولَ الجزية، ثم أمره الله سبحانه وتعالى أن يُقاتِلَ أهلَ الكِتاب حتى يُعطوا الجزية، فلم يدخل فى هذا يهودُ خيبر إذ ذاك، لأن العقد كان قديماً بينه وبينهم على إقرارهم، وأن يكونوا عمالاً فى الأرض بالشطر، فلم يُطالبهم بشىء غيرِ ذلك، وطالبَ سواهم من أهل الكتاب ممن لم يكن بينه وبينهم عقدٌ كعقدهم بالجزية، كنصارى نجرانَ، ويهودِ اليمن، وغيرِهم، فلما أجلاهم عمرُ إلى الشام، تغيّر ذلك العقدُ الذى تضمن إقرارَهم فى أرض خيبر، وصار لهم حكمُ غيرهم مِن أهل الكتاب.
ولما كان فى بعض الدول التى خفيت فيها السُّنَّة وأعلامها، أظهر طائفة منهم كتاباً قد عَتَّقُوهُ وزوَّرُوهُ، وفيه: أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسقط عن يَهودِ خيبر الجزية، وفيه: شهادةُ على بن أبى طالب، وسعد بن معاذ، وجماعة مِن الصحابة رضى الله عنهم، فراج ذلك على مَنْ جَهِلَ سُنَّة رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومغازيَه وسِيَرَه، وتوهَّموا، بل ظنوا صِحته، فَجَروْا على حُكم هذا الكتاب المزور، حتى أُلقى إلى شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه وطُلِبَ منه أن يُعين على تنفيذه، والعملِ عليه، فبصق عليه، واستدلّ على كذبه بعشرة أوجه:
منها : أن فيه شهادةَ سعد بن معاذ، وسعد توفى قبل خيبر قطعاً.
ومنها: أن فى الكتاب، أنه أسقط عنهم الجزية، والجزية لم تكن
نزلت بعد، ولا يعرِفها الصحابة حينئذ، فإن نزولها كان عام تبوك بعد خيبر بثلاثة أعوام.
ومنها: أنه أسقط عنهم الكُلَفَ والسُّخَرَ، وهذا محال، فلم يكن فى زمانه كُلَفٌ ولا سُخَرٌ تُؤخذ منهم، ولا مِن غيرهم، وقد أعاذه الله، وأعاذ أصحابَه مِن أخذ الكُلَفِ والسُّخَرِ، وإنما هى من وضع الملوكِ الظَّلمة، واستمر الأمر عليها.
ومنها: أن هذا الكتاب لم يذكره أحد من أهل العلم على اختلاف أصنافهم، فلم يذكره أحدٌ من أهل المغازى والسير، ولا أحدٌ من أهل الحديث والسُّنَّة، ولا أحد من أهل الفقه والإفتاء، ولا أحدٌ من أهل التفسير، ولا أظهروه فى زمان السَلَف، لعلمهم أنهم إن زوَّروا مثلَ ذلك، عرفوا كذبَه وبُطلانه، فلما استخفُّوا بعضَ الدول فى وقت فتنةٍ وخفاء بعض السُّنَّة، زوَّروا ذلك، وعتَّقوهُ وأظهروه، وساعدهم على ذلك طمعُ بعضِ الخائنين لله ولرسوله، ولم يستمرَّ لهم ذلك حتى كشف الله أمره، وبيَّن خلفاءُ الرسل بطلانه وكذبَه.
فصل
فلما نزلت آيةُ الجزية، أخذها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن ثلاث طوائف: مِن المجوسِ، واليهود، والنصارى، ولم يأخذها من عُبَّادِ الأصنام. فقيل: لا يجوزُ أخذُها مِن كافر غير هؤلاء، ومَن دان بدينهم، اقتداءً بأخذه وتركه. وقيل: بل تُؤخذ من أهل الكتاب وغيرِهم من الكفار كعبدة الأصنام من العجم دون العرب، والأول: قول الشافعى رحمه الله، وأحمد،
فى إحدى روايتيه. والثانى: قولُ أبى حنيفة، وأحمد رحمهما الله فى الرواية الأخرى.
وأصحاب القول الثانى يقولون: إنما لم يأخذها مِنْ مشركى العربِ، لأنها إنما نزَلَ فرضُها بعد أن أسلمت دَارَةُ العرب، ولم يبق فيها مُشِركٌ، فإنها نزلت بعد فتح مكة، ودخولِ العربِ فى دين الله أفواجاً، فلم يبق بأرض العرب مشرك، ولهذا غزا بعد الفتح تبوكَ، وكانُوا نصارى، ولو كان بأرض العرب مشركون، لكانُوا يلونه، وكانوا أولى بالغزو من الأبعدين.
ومن تأمَّل السِّيَرَ، وأيامَ الإسلام، علم أن الأمرَ كذلك، فلم تؤخذ منهم الجزيةُ لعدم مَن يُؤخذ منه، لا لأنهم ليسوا مِن أهلها، قالوا: وقد أخذها من المجوس، وليسوا بأهلِ كتاب، ولا يَصح أنه كان لهم كتاب، ورفع وهو حديث لا يثبُت مثلُه، ولا يصح سنده.
ولا فرق بين عُبَّادِ النَّار، وعُبَّاد الأصنام، بل أهلُ الأوثانِ أقربُ حالاً من عُبَّادِ النار، وكان فيهم مِن التمسك بدين إبراهيم ما لم يكُن فى عُبَّاد النار، بل عُبَّاد النار أعداءُ إبراهيم الخليل، فإذا أُخِذَتْ منهم الجزية، فأخذها من عُبَّاد الأصنام أولى، وعلى ذلك تدل سُنَّة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما ثبت عنه فى "صحيح مسلم" أنه قال: "إذا لَقيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فادْعهُم إلى إِحْدَى خِلاَلٍ ثَلاَثٍ، فَأيَّتهنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا، فاقْبَلْ مِنْهُم، وكُفَّ عنهم". ثم أمرَه أن يَدْعُوَهُم إلى الإِسْلاَمِ، أَو الجِزْيَةِ، أو يُقَاتِلَهم.
وقال المغيرة لعاملِ كسرى: "أمرنا نبيُّنَا أن نُقاتِلَكم حتى تعبُدوا الله، أو تؤدُّوا الجزية".
وقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقريش: "هَلْ لَكُمْ فى كَلِمةٍ تَدِينُ لَكُمْ بِهَا العَرَبُ، وتُؤدَّى العَجَمُ إِلَيْكُمُ بِهَا الجِزْيَةَ" ؟. قالُوا: ما هى ؟ قال: "لاَ إِلَهََ إِلاَّ الله".
فصل
"ولما كان فى مرجعه من تبوك، أخذت خَيْلُه أُكْيدِرَ دُوْمَةَ، فصالحه على الجزية، وحقن له دمه".
"وصالحَ أهلَ نجران مِن النصارى على ألفى حُلَّةٍ. النِّصْفُ فى صفر، والبقيةُ فى رجب، يؤدونها إلى المسلمين، وعاريَّة ثلاثين دِرعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً، وثلاثين مِن كُلِّ صِنف من أصناف السلاح، يغزُون بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يردُّوها عليهم إن كان باليمن كَيْدٌ أو غَدْرَةٌ، على ألا تُهدم لهم بَيْعة، ولا يُخرج لهم قَسٌ، ولا يُفتنوا عن دينهم ما لم يُحْدِثُوا حَدَثاً أَو يَأْكُلُوا الرَّبا".
وفى هذا دليل على انتقاض عهد الذِّمة بإحداث الحَدَث، وأكلِ الرِّبا إذا كان مشروطاً عليهم.
ولما وجه معاذاً إلى اليمن، "أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ مُحْتَلِمٍ دِينَاراً أَوْ قِيمَتَهُ مِنَ المَعَافِرِىِّ، وهى ثيابٌ تكون باليمن".
وفى هذا دليل على أن الجزية غيرُ مقدَّرة الجنس، ولا القدرِ، بل يجوز أن تكونَ ثياباً وذهباً وحُللاً، وتزيدُ وتنقُصُ بحسب حاجة المسلمين، واحتمال مَن تؤخذ منه، وحاله فى الميسرة، وما عنده من المال.
ولم يفرِّق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا خلفاؤه فى الجزية بين العربِ والعجم، بل أخذها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نصارى العرب، وأخذها مِن مجوس هجر، وكانوا عرباً، فإن العرب أمةٌ ليس لها فى الأصل كتاب، وكانت كل طائفة منهم تدين بدين مَن جاورها من الأُمم، فكانت عربُ البحرين مجوساً لمجاورتها فارِسَ، وتنوخَ، وبُهْرَة، وبنو تغلب نصارى لمجاورتهم للروم، وكانت قبائلُ من اليمن يهود لمجاورتهم ليهود اليمن، فأجرى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحكامَ الجِزية، ولم يعتبر آباءهم، ولا متى دخلُوا فى دينِ أهل الكتاب: هل كان دخولهم قبل النسخ والتبديل أو بعده، ومن أين يعرِفُونَ ذلك، وكيف ينضبط وما الذى دلَّ عليه ؟ وقد ثبت فى السير والمغازى، أن من الأنصار مَن تهوَّد أبناؤهم بعد النسخ بشريعة عيسى، وأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام، فأنزل الله تعالى: {لا إكْرَاهَ فِى الدِّينِ} [البقرة: 256]، وفى قوله لمعاذ: "خُذْ مِنْ كُلِّ حالم ديناراً" دليل على أنها لا تُؤخذ من صبى ولا امرأة.
فإن قيل: فكيف تصنعون بالحديث الذى رواه عبد الرزاق فى "مصنفه" وأبو عبيد فى "الأموال" أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمَرَ معاذَ بن جبل: أن يأخذ مِن اليمن الجزية مِن كل حالم أو حالمة، زاد أبو عبيد: "عبداً أو أمةً، ديناراً أو قيمته من المعافرِى" فهذا فيه أخذها من الرجل والمرأة، والحر
والرقيق ؟ قيل: هذا لا يصح وصله، وهو منقطع، وهذه الزيادة مختلف فيها، لم يذكرها سائر الرواة، ولعلها من تفسير بعض الرواة.
وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود والترمذى، والنسائى، وابن ماجه، وغيرهم هذا الحديث، فاقتصروا على قوله: أمره "أن يأخذ من كل حالم ديناراً" ولم يذكروا هذه الزيادة، وأكثر مَنْ أخذ منهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزية العرب مِنَ النصارى، واليهود، والمجوس، ولم يكشف عن أحد منهم متى دخل فى دينه، وكان يعتبرهم بأديانهم لا بآبائهم.
فصل: فى ترتيب سياق هَديه مع الكفار والمنافقين، من حين بُعِث إلى حين لقى الله عَزَّ وجَلَّ

أوَّل ما أوحى إليه ربُّه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسمِ ربه الذى خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ فى نفسه، ولم يأمرْه إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه: {يَا أيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1-2] فنبأه بقوله: {اقْرَأْ} ، وأرسله ب {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ثم أمره أن يُنذِرَ عشيرتَه الأقربِينَ، ثم أنذر قومَه، ثم أنذرَ مَنْ حَوْلَهُم مِن العرب، ثم أنذر العربَ قاطبة، ثم أنذر
العالَمِين، فأقام بِضْعَ عشرة سنة بعد نبوته يُنْذِرُ بالدعوة بغير قتال ولا جِزية، ويُؤمر بالكفِّ والصبرِ والصَّفح.
ثم أُذِنَ له فى الهجرة، وأُذِنَ له فى القتال، ثم أمره أن يُقاتِلَ مَن قاتله، ويَكُفَّ عمن اعتزله ولم يُقاتله، ثم أمره بِقتالِ المشركين حتى يكونَ الدِّينُ كُلُّه لله، ثم كان الكفارُ معه بعد الأمرِ بالجهاد ثلاثة أقسام: أهلُ صُلح وهُدنة، وأهلُ حرب، وأهلُ ذِّمة، فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يُوفى لهم به ما استقامُوا على العهد، فإن خاف منهم خِيانة، نبذَ إليهم عهدهم، ولم يُقاتِلْهم حتى يُعْلِمَهم بِنَقْضِ العهد، وأُمِرَ أن يقاتل مَن نقض عهده. ولما نزلت سورة "براءة" نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمره فيها أن يُقاتِلَ عدوَّه مِن أهل الكتاب حتى يُعطوا الجزيَةَ، أو يدخلوا فى الإسلام، وأمره فيها بجِهَادِ الكُفَّارِ والمنافقين والغِلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيفِ والسنانِ، والمنافقين بالحُجَّةِ واللِّسان.
وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عُهودهم إليهم، وجعلَ أهلَ العهد فى ذلك ثلاثة أقسام: قسماً أمره بقتالهم، وهُم الذين نقضُوا عهده، ولم يستقِيموا له، فحاربهم وظهر عليهم. وقسماً لهم عهد مُؤقَّت لم ينقضُوه، ولم يُظاهِروا عليه، فأمره أن يُتِمَّ لهم عهدَهم إلى مدتهم. وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يُحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يُؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت قاتلهم، وهى الأشهر الأربعة المذكورة فى قوله:
{فَسِيحُواْ فِى الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] وهى الحُرُمُ المذكورة فى قوله: {فإذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتلُواْ الْمُشرِكيِنَ} [التوبة: 5]. فالحُرُم ههنا: هى أشهر التسيير، أولها يومُ الأذان
وهو اليومُ العاشر من ذى الحِجة، وهو يومُ الحجِّ الأكبر الذى وقع فيه التأذين بذلك، وآخِرُها العاشر من ربيع الآخر، وليست هى الأربعة المذكورة فى قوله: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فى كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] فإن تلك واحِد فرد، وثلاثة سرد: رجبٌ، وذُو القَعدة، وذو الحِجة، والمحَرَّمُ، ولم يسير المشركين فى هذه الأربعة، فإن هذا لا يُمكن، لأنها غيرُ متوالية، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يُقاتلهم، فقتل الناقض لعهده، وأجَّل مَنْ لا عهد له، أو له عهد مطلق أربعة أشهر، وأمره أن يُتمَّ للموفى بعهده عهدَه إلى مدته، فأسلم هؤلاء كُلُّهم، ولم يُقيموا على كفرهم إلى مدتهم، وضَرَبَ على أهل الذِّمة الجِزية.
فاستقر أمرُ الكفار معه بعد نزول "براءة" على ثلاثة أقسام: محاربينَ له، وأهلِ عهد، وأهلِ ذِمة، ثم آلت حالُ أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذِمة، والمحاربون له خائفون منه، فصار أهلُ الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمِن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب.
وأما سيرته فى المنافقين، فإنه أُمِرَ أن يَقبل مِنهم علانيتَهم، ويَكِلَ سرائِرَهم إلى الله، وأن يُجاهِدَهم بالعِلم والحُجَّة، وأمره أن يُعرِضَ عنهم، ويُغلِظَ عليهم، وأن يَبْلُغَ بالقولِ البليغ إلى نفوسهم، ونهاه أن يُصلِّىَ عليهم، وأن يقومَ على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم، فلن يغفر الله لهم، فهذه سيرتُه فى أعدائه مِن الكفار والمنافقين.
فصل
وأما سيرتُه فى أوليائه وحِزبه، فأمرهُ أن يَصْبِرَ نفسَه مع الذين يدعون ربَّهم بالغداةِ والعشى يُريدون وجهه، وألا تعدُُوَ عيناه عنهم، وأمره أن يعفوَ عنهم، ويستغفِرَ لهم، ويُشَاوِرَهم فى الأمر، وأن يُصلِّى عليهم.
وأمره بهجر مَن عصاهُ، وتخلَّف عنه، حتى يتوبَ، ويُراجِعَ طاعته، كما هجر الثلاثة الذين خُلِّفُوا.
وأمره أن يُقيمَ الحدودَ على مَن أتى موجباتِها منهم، وأن يكونُوا عنده فى ذلك سواء شَريفُهم ودنيئُهم.
وأمره فى دفع عدوِّه مِن شياطينِ الإنس، بأن يدفع بالتى هى أحسن، فيُقابل إساءة مَن أساء إليه بالإحسان، وجهلَه بالحِلم، وظلمَه بالعفو، وقطيعتَه بالصلة، وأخبره أنه إن فعل ذلك، عاد عدوُّه كأنه ولى حميم.
وأمره فى دفعه عدوه من شياطين الجن بالاستعاذة باللهِ منهم، وجمع له هذين الأمرين فى ثلاثة مواضع مِن القرآن: فى سورة "الأعراف" و"المؤمنين" وسورة "حم فصلت" فقال فى سورة الأعراف: {خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرَضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ
نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللهِ إنَّهُ سَمًيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 199-200]. فأمره باتقاء شر الجاهلين بالإعراض عنهم، وباتقاء شر الشيطان بالاستعاذة منه، وجمع له فى هذه الآيةِ مكارِمَ الأخلاق والشيم كلها، فإن ولىَّ الأمر مع الرعية ثلاثة أحوال: فإنه لا بدَّ له مِن حقٍّ عليهم يلزمهم القيامُ به، وأمرٍ يأمرُهم به، ولا بُدَّ مِن تفريط وعُدوان يقع منهم فى حقه، فأُمِرَ بأن يأخذ من الحق الذى عليهم ما طوَّعَتْ به أنفسُهم وسمحت به، وسَهُلَ عليهم، ولم يَشُقَّ، وهو العفو الذى لا يلحقهم ببذله ضررٌ ولا مشقة، وأمر أن يأمرهم بالعُرْف، وهو المعروف الذى تَعرفُه العقولُ السليمة، والفِطَرُ المستقيمة، وتُقر بحسنه ونفعه، وإذا أمر به يأمر بالمعروف أيضاً لا بالعنف والغلظة. وأمره أن يُقابِلَ جهلَ الجاهلين منهم بالإعراض عنه، دون أن يُقابلَه بمثله، فبِذلك يكتفى شرهم.
وقال تعالى فى سورة المؤمنين: {قُل رَّبِّ إمَّا تُرِيَنِّى مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلِنْى فى القَوْمِ الظَّالمينَ وَإنَّا عَلَى أَنْ نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 93-98].
وقال تعالى فى سورة حم فُصِّلت: {وَلا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فإذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ باللهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34-36]، فهذه سيرته مع أهل الأرض إنسهم، وجنهم، مُؤمنهم، وكافرهم.
فصل: في سياق مغازيه وبعوثه على وجه الاختصار
وكان أوَّل لواء عقده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحمزة بن عبد المطلب فى شهر رمضان، على رأس سبعة أشهر من مُهَاجَرِه، وكان لواءً أبيضَ، وكان حامِله أبو مَرْثَد كَنَّاز بن الحُصين الغَنَوى حليف حمزة، وبعثه فى ثلاثين رَجُلاً مِن المهاجرين خاصّة، يعترِضُ عِيراً لقريش جاءت من الشام، وفيها أبُو جهل بن هشام فى ثلاثمائة رجل، فبلغوا سِيْفَ البحرِ من ناحية العِيصِ، فالتَقَوْا واصطفُّوا للقتال، فمشى مجدى بن عمرو الجُهنى، وكان حليفاً للفريقين جميعاً، بين هؤلاء وهؤلاء، حتى حَجَزَ بينهم ولم يقتتِلوا.
فصل
ثم بعث عُبَيْدَةَ بنَ الحارث بن المطلب فى سريَّة إلى بَطنِ رَابغ فى شوَّال على رأسِ ثمانية أشهر من الهجرة، وعقد له لواءً أبيضَ، وحمله مِسْطَحُ بن أُثَاثَة بن عبد المطلب بن عبد مناف، وكانوا فى ستين من المهاجرين ليس فيهم أنصارى، فلقى أبا سفيان بنَ حرب، وهو فى مائتين على بَطن رابغ، على عشرة أميالٍ من الجُحْفَةِ، وكان بينهم الرمىُ، ولم يَسُلُّوا السيوف، ولم يصطفوا للقتال، وإنما كانت مناوشة، وكان سعدُ بن أبى وقاص فيهم، وهو أوَّلُ مَن رمى بسهم فى سبيل الله، ثم انصرف الفريقانِ على حاميتهم.
قال ابن إسحاق: وكان على القوم عِكرمة بنُ أبى جهل، وقدم سريَّة عُبيدة على سريَّة حمزة.
فصل
ثم بعثَ سعدَ بن أبى وقاصٍ إلى الخرَّارِ فى ذى القَعدة على رأس تسعة أشهر، وعقد له لواءً أبيضَ، وحمله المقدادُ بنُ عمرو، وكانوا عشرين راكباً يعترِضُونَ عِيراً لقريش، وعَهِدَ أن لا يُجاوِزَ الخَرَّار، فخرجوا على أقدامهم، فكانوا يكمُنون بالنهار، ويسيرون بالليل، حتى صبَّحوا المكان صَبِيحةَ خمس، فوجدوا العِير قد مرَّت بالأمس.
فصل
ثم غزا بنفسه غزوة الأبواء، ويقال لها: وَدَّان، وهى أولُ غزوة غزاها بنفسه، وكانت فى صَفَر على رأس اثنى عشر شهراً مِن مُهَاجَرِهِ، وحمل لواءه حمزةُ بنُ عبد المطلب، وكان أبيض، واستخلف على المدينة سعدَ بن عبادة، وخرج فى المهاجرين خاصة بعترِض عِيراً لقريش، فلم يلق كيداً، وفى هذه الغزوة وادع مخشىَّ بن عمرو الضَّمْرِى وكان سيِّدَ بنى ضَمْرة فى زمانه على ألا يغزو بنى ضَمْرَة، ولا يغزوه، ولا أن يُكثِّروا
عليه جمعاً، ولا يُعِينُوا عليه عدواً، وكتب بينه وبينهم كتاباً، وكانت غيبتُه خمسَ عشرة ليلة.
فصل
ثم غزا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُوَاطَ فى شهر ربيع الأول، على رأس ثلاثةَ عشرَ شهراً مِن مُهَاجَرِهِ، وحمل لواءَه سعدُ بنُ أبى وقاص، وكان أبيضَ، واستخلف على المدينة سعدَ بن معاذ، وخرج فى مائتين مِن أصحابه يعترِض عِيراً لقُريش، فيها أميةُ بنُ خلف الجُمحى، ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، فبلغ بُواطاً، وهما جبلان فرعان، أصلهما واحد من جبالِ جُهينة، مما يلى طريقَ الشام، وبين بُواط والمدينة نحُوُ أربعةِ بُرُد، فلم يلق كيداً فرجع.
فصل
ثم خرج على رأسِ ثلاثة عشر شهراً مِن مُهَاجَرِه يطلب كُرْز بن جابر الفهرى، وحمل لِواءه علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وكان أبيضَ، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، وكان كُرز قد أغار على سرح المدينة، فاستاقه، وكان يرعى بالحِمى، فطلبه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بلغ وادياً يقال له: "سَفَوان" مِن ناحية بدر، وفاته كُرز ولم يلحقه، فرجع إلى المدينة.
فصل
ثم خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى جُمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهراً، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيضَ، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومى، وخرج فى خمسين ومائة، ويقال: فى مائتين مِن المهاجرين، ولم يُكْرِهْ أحداً على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيراً يَعْتَقِبُونَها يَعْترِضُون عيراً لقريش ذاهبة إلى الشام، وقد كان جاءه الخبرُ بفصولها مِن مكة فيها أموالٌ لقريش، فبلغ ذَا العُشيرَةِ وقيل: العُشيراء بالمد. وقيل: العُسيرة بالمهملة وهى بناحية ينبع، وبين ينبع والمدينة تسعة بُرُد، فوجد العِيرَ قد فاتته بأيام، وهذه هى العيرُ التى خرج فى طلبها حين رجعت من الشام، وهى التى وعده الله إياها، أو المقاتلة، وذات الشَوْكة، ووفَّى له بوعده.
وفى هذه الغزوة، وادع بنى مُدْلِج وحُلفاءهم من بنى ضَمْرَة.
قال عبد المؤمن بن خلف الحافظ: وفى هذه الغزوة كنى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً أبا تُراب، وليس كما قال، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما كَنَّاهُ أبا تراب بعد نكاحه فاطمة، وكان نِكاحُها بعد بدر، فإنه لما دخل عليها وقال: "أيْنَ ابْنُ عَمِّكِ" ؟ قالت: خَرَجَ مُغاضِباً، فجاءَ إلى المسجد، فوجده مضطجعاً فيه، وقد لصق به التراب، فجعل ينفُضه عنه ويقول: "اجْلِسْ أبا تُرابٍ، اجْلِسْ أبا تُرابٍ " وهو أول يوم كُنى فيه أبا تراب.
فصل
ثمَّ بعثَ عبدَ الله بن جَحْشٍ الأسَدِىَّ إلى نَخْلَةَ فى رجب، على رأْسِ سبعةَ عشرَ شهراً مِن الهِجْرة، فى اثنى عشر رجلاً مِن المهاجرين، كُلُّ اثنين يعتقبان علَى بعير، فوصلُوا إلى بطن نخلة يرصُدُون عِيراً لقريش، وفى هذِهِ السَّرِيَّة سمَّى عبدَ الله بن جحش أميرَ المؤمنين، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب له كِتاباً، وأمره أن لا ينظُرَ فيه حتى يسيرَ يومين، ثم ينظُرَ فيه، ولما فَتحَ الكِتاب، وجد فيه: "إذَا نَظَرْتَ فى كِتَابى هذا، فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةَ بَيْنَ مَكَّةَ والطَّائِفِ، فَتَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشَاً، وتَعْلَمَ لنا مِنْ أَخْبَارِهم" فقال: سمعاً وطاعةً، وأخبر أصحابَه بذلكَ، وبأنه لا يستكرِهُهم، فمن أحبَّ الشهادةَ، فلينهض، ومن كرِهَ الموت،
فليرجِعْ، وأما أنا فناهض، فَمَضَوْا كُلُّهم، فلما كان فى أثناء الطريق، أضلَّ سعدُ بن أبى وقاص، وعتبةُ بنُ غزوان بعيراً لهما كانَا يَعْتَقِبَانِهِ، فتخلفا فى طلبه، وبَعُدَ عبدُ الله بنُ جحش حتى نزل بِنخلة، فمرَّت به عِيرٌ لقريش تَحْمِلُ زبيباً وأَدَماً وتِجارةً فيها عَمْرو بن الحَضْرَمى، وعثمان، ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكمُ بنُ كيسان مولى بنى المغيرة.
فتشاور المسلمُون وقالوا: نحن فى آخر يومٍ من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم، انتهكنا الشهرَ الحرام، وإن تركناهم الليلةَ، دخلوا الحَرَم، ثم أجمعوا على مُلاقاتهم، فرمى أحدُهم عَمْرو بن الحضرمى فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفْلَتَ نوفل، ثم قَدِمُوا بالعِير والأسيرين، وقد عزلوا مِن ذلك الخُمس، وهو أول خُمس كان فى الإسلام، وأول قتيل فى الإسلام، وأول أسيرين فى الإسلام، وأنكر رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم ما فعلوه، واشتدَّ تعنُّتُ قريش وإنكارُهم ذلك، وزعموا أنهم قد وجدوا مقالاً، فقالوا: قد أحلَّ محمد الشهرَ الحرَامَ، واشتد على المسلمين ذلك، حتى أنزل الله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ، قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ، والفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].
يقول سبحانه: هذا الذى أنكرتموه عليهم، وإن كان كبيراً، فما ارتكبتموه أنتم مِن الكفر بالله، والصدِّ عن سبيله، وعن بيتهِ، وإخراجِ المسلمين الذين هم أهلُه منه، والشِرك الذى أنتم عليه، والفتنة التى حصلت منكم به أكبرُ
عند اللهِ مِن قِتالهم فى الشهر الحرام، وأكثرُ السَلَف فسَّروا الفتنة ههنا بالشرك، كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] ويدل عليه قوله: { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلا أنْ قَالُواْ وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] أى: لم يكن مآلُ شركهم، وعاقبته وآخرُ أمرهم، إلا أن تبرّؤوا منه وأنكروه.
وحقيقتها: أنها الشرك الذى يدعو صاحبُه إليه، ويُقاتِل عليه، ويُعاقب مَن لم يَفَتِتنْ به، ولهذا يُقال لهم وقتَ عذابهم بالنار وفتنتهم بها: {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14] قال ابن عباس: "تكذيبَكم"، وحقيقته: ذوقوا نهاية فتنتكم، وغايَتَها، ومصيرَ أمرها، كقولهِ: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزمر: 24]، وكما فتنوا عباده على الشرك، فُتِنُوا على النار، وقيل لهم: ذوقوا فتنتكم، ومنه قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ} [البروج: 10] فُسِّرت الفتنةُ ههنا بتعذيبهم المؤمنين، وإحراقهم إياهم بالنار، واللَّفظُ أعمُّ من ذلك، وحقيقته: عذَّبُوا المؤمنين ليفتَتِنُوا عن دينهم، فهذه الفتنةُ المضافةُ إلى المشركين.
وأما الفتنة التى يُضيفها اللهُ سبحانه إلى نفسه أو يُضيفها رسولُه إليه، كقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53] وقول موسى: {إنْ هِىَ إلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِى مَن تَشَاءُ} [الأعراف: 155]، فتلك بمعنى آخر، وهى بمعنى الامتحان، والاختبار، والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر، بالنعم والمصائب، فهذه لون، وفتنةُ المشركين لون، وفتنة المؤمن فى ماله وولده وجاره لون آخر، والفتنة التى يوقعها بين أهل الإسلام، كالفتنة التى أوقعها بين أصحاب علىّ ومعاوية، وبين أهل الجمل وصفين، وبين المسلمين، حتى يتقاتلوا ويتهاجروا لون آخر، وهى الفتنة
التى قال فيها النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَتَكُونُ فِتْنَةٌ، القَاعِدُ فيها خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، والقائِمُ فِيهَا خَيْرٌ منَ المَاشى، والماشى فيها خَيْرٌ من السَّاعِى" وأحاديثُ الفتنة التى أمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها باعتزال الطائفتين، هى هذه الفتنة.
وقد تأتى الفتنة مراداً بها المعصية كقوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِّى وَلا تَفْتِنِّى} [التوبة: 49] يقوله الجدُّ بنُ قيس، لما ندبه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى تبوكَ، يقول: ائذن لى فى القُعود، ولا تفتنى بتعرضى لبنات بنى الأصفر، فإنى لا أَصْبِرُ عنهن، قال تعالى: {أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} [التوبة: 49]، أى: وقعوا فى فتنة النفاق، وفروا إليها مِن فتنة بناتِ الأصفر.
والمقصود: أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، ولم يُبرئ أولياءَه من ارتكاب الإثم بالقتالِ فى الشهر الحرام، بل أخبر أنه كبير، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبرُ وأعظمُ مِن مجردِ القتالِ فى الشهر الحرام، فهم أحقُّ بالذمِّ والعيبِ والعُقوبَةِ، لا سيما وأولياؤه كانوا متأوِّلين فى قتالهم ذلك، أو مقصِّرين نوعَ تقصير يغفِره الله لهم فى جنب ما فعلوه مِن التوحيد والطاعات، والهِجرة مع رسوله، وإيثارِ ما عند الله، فهم كما قيل:
وإذَا الحَبِيبُ أَتى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ ... جَاءَتْ مَحَاسِنُه بِأَلْفِ شَفِيع
فكيف يُقاس ببغيضٍ عدوٍ جاء بكُلِّ قبيح، ولم يأت بشفيع واحد مِن المحاسن.
فصل
ولما كان فى شعبان من هذه السنة، حُوِّلت القِبْلة، وقد تقدم ذكرُ ذلك.
فصل: فى غزوة بدر الكبرى
فلما كان فى رمضانَ مِن هذه السنة، بلغ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرُ العِير المقبلة من الشام لقريش صُحبةَ أبى سفيان، وهى العِير التى خرجوا فى طلبها لما خرجت مِن مكة، وكانوا نحو أربعين رجلاً، وفيها أموالٌ عظيمة لٍقريش، فندب رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناسَ للخروج إليها، وأمر مَن كان ظهرُه حاضراً بالنهوض، ولم يحْتَفِلْ لها احتفالاً بليغاً، لأنه خرج مُسْرِعاً فى ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، ولم يكن معهم من الخيل إلا فَرَسانِ: فرس للزبير بن العوام، وفرسٌ للمِقداد بن الأسود الكِندى، وكان معهم سبعون بعيراً يَعْتَقِبُ الرجلان والثلاثةُ على البعير الواحد، فكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلىّ، ومَرْثَدُ ابنُ أبى مَرْثَدٍ الغَنوى، يعتقِبُون بعيراً،
وزيدُ بن حارثة، وابنُه، وكبشةُ موالى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعتَقِبُونَ بعيراً، وأبو بكر، وعمر، وعبدُ الرحمن ابن عوف، يعتقِبُونَ بعيراً، واستخلف على المدينةِ وعلى الصلاة ابنَ أمِّ مكتوم، فلما كان بالرَّوحاءِ رد أبا لُبابة بنَ عبد المنذر، واستعمله على المدينة، ودفع اللِّواء إلى مُصعبِ بنِ عُمَير، والراية الواحدة إلى علىِّ بن أبى طالب، والأخرى التى للأنصار إلى سعد بن معاذ، وجعل على الساقة قيسَ بنَ أبى صَعْصَعَةَ، وسار، فلما قَرُبَ مِن الصَّفْرَاء، بعث بَسْبَسَ بنَ عمرو الجهنى، وعدى ابن أبى الزغباء إلى بدر يتجسَّسان أخبارَ العِير، وأما أبو سفيان، فإنه بلغه مخرجَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقصده إياه، فاستأجر ضَمْضَمَ بنَ عَمْرو الغِفارى إلى مكة، مُستصْرخاً لقريش بالنَّفير إلى عِيرهم، ليمنعوه من محمد وأصحابه، وبلغ الصريخُ أهلَ مكة، فنهضوا مُسرِعين، وأوعبوا فى الخروج، فلم يتخلَّفْ من أشرافهم أحدٌ سوى أبى لهب، فإنَّه عوَّض عنه رجلاً كان له عليه دَيْن، وحشدُوا فيمن حولهم من قبائل العرب، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بنى عدى، فلم يخرُجْ معهم منهم أحد، وخرجوا مِن ديارهم كما قال تعالى: {بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [الأنفال: 47]، وأقبلوا كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِم، تُحَادُّهُ وَتُحَادُّ رَسُولَه"، وجاؤوا على حَرْدٍ قادرين، وعلى حميَّةٍ،
وغضبٍ، وحَنَقٍ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابِه، لما يُريدون مِن أخذ عيرهم، وقتل مَن فيها، وقد أصابُوا بالأمسِ عَمْرو بن الحضرمى، والعِير التى كانت معه، فجمعهم اللهُ على غير ميعاد كما قال الله تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِى الْمِيعَادِ، وَلَكِنْ لِّيَقْضِىَ الله أمْرَاً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال: 42].
ولما بلغَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خروجُ قريش، استشار أصحابه، فتكلَّم المهاجِرون فأحسَنُوا، ثم استشارهم ثانياً، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثالثاً، ففهمت الأنصارُ أنه يَعنيهم، فبادر سعدُ بنُ معاذ، فقال: "يا رسول الله، كَأَنَّكَ تُعَرِّضُ بنا ؟" وكان إنما يَعنيهم، لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود فى ديارهم، فلما عزم على الخُروج، استشارهم لِيعلم ما عندهم، فقال له سعد: "لَعَلَّكَ تَخْشَى أَنْ تَكُون الأَنصارُ تَرَى حقاً عليها أن لا ينصروك إلا فى ديارها، وإنى أقول عن الأنصار، وأُجِيب عنهم: فاظْعَنْ حَيْثُ شِئْت، وَصِلْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، واقْطَعْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وخُذْ مِنْ أمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، وَأَعطِنَا مَا شِئْتَ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا كَانَ أَحَبَّ إلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ، ومَا أَمَرْتَ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ فَأَمْرُنَا تَبَعٌ لأَمْرِكَ، فَواللهِ لَئِن سِرْتَ حَتَّى تَبْلُغ البَرْكَ مِنْ غمدَان، لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ، وَوَاللهِ لَئِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هذَا البَحْرَ خُضْنَاهُ مَعَكَ"، وقَالَ لَهُ المِقْدَادُ: "لا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فقاتِلا إنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ، وَمِنْ خَلْفِكَ". فأشرق وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسُرَّ بِمَا سَمِعَ مِنْ أصحابِه، وقالَ: "سِيرُوا وأَبْشروا،فإنَّ الله قَدْ وَعَدَنى إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وإنِّى
قَدْ رَأَيْتُ مَصارعَ القَوْمِ".
فسار رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بدر، وخَفَضَ أبو سفيان فَلَحِقَ بساحل البحر، ولما رأى أنه قد نجا، وأحرز العير، كتب إلى قريش: أن ارجعوا، فإنكم إنما خرجتُم لِتُحْرِزُوا عيركم. فأتاهم الخبرُ، وهم بالجُحْفَةِ، فهمُّوا بالرجوع، فقال أبو جهل: واللهِ لا نرجع حتى نَقْدَمَ بدراً، فنقيمَ بها، ونُطعِمَ مَنْ حَضَرَنَا مِن العرب، وتخافُنَا العربُ بعد ذلك، فأشار الأخنس بن شُريق عليهم بالرجوع، فَعَصَوْه، فرجع هو وبنو زُهرة،
فلم يشهد بدراً زُهرى، فاغتبطت بنو زُهرة بعدُ برأى الأخنس، فلم يزل فيهم مطاعاً معظماً، وأرادَتْ بنو هاشم الرجوع، فاشتدَّ عليهم أبو جهل،
وقال: لا تُفَارِقُنَا هذه العِصابة حتى نَرْجِعَ فساروا، وسارَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزل عشياً أدنى ماء مِن مياه بدر، فقال: "أَشيرُوا عَلَىَّ فى المَنْزِل". فقال الحُبَابُ بنُ المنذر: يا رسول الله؛ أنا عالم بها وبِقُلُبِهَا، إن رأيتَ أن نسيرَ إلى قُلُبٍ قد عرفناها، فهى كثيرة الماء، عذبة، فننزِلَ عليها ونَسبِقَ القوم إليها ونُغوِّر ما سواها مِن المياه.
وسار المشركون سِراعاً يريدون الماء، وبعث علياً وسعداً والزبير إلى بدر يلتمِسُون الخبر، فَقَدِمُوا بعبدين لقريش، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم يُصلِّى، فسألهما أصحابُه: مَنْ أنتما ؟ قالا: نحن سُقاةٌ لِقريش، فكره ذلك أصحابه، وودُّوا لو كانا لِعير أبى سفيان، فلما سلَّم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهما:
"أخْبِرَانِى أيْنَ قُرَيْشٌ" ؟ قالا: وراء هذا الكثيب. فقال: "كم القومُ" ؟ فقالا: لا عِلم لنا، فقال: "كم ينحرونَ كُلَّ يوم" ؟ فقالا: يوماً عشراً، ويوماً تسعاً، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "القومُ ما بينَ تسعمائة إلى الألف"، فأنزل الله عزَّ وجلَّ فى تلك الليلة مطراً واحداً، فكان على المشركين وابلاً شديداً منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طَلاً طهَّرهم به، وأذهب عنهم رجْسَ الشيطان، ووطَّأ به الأرضَ، وصلَّب به الرملَ، وثبَّتَ الأقدام، ومهَّدَ به المنزل، وربطَ به على قلوبهم، فسبق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه إلى الماء، فنزلوا عليه شطرَ الليل، وصنعوا الحياض، ثم غوَّروا ما عداها من المياه، ونزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه على الحياض. وبُنِىَ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عريش يكون فيها على تلٍّ يُشرِفُ على المعركة، ومشى
فى موضع المعركة، وجعل يُشير بيده، هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان إن شاء الله، فما تعدى أحد منهم موضع إشارته.
فلما طلع المشركون، وتراءى الجمعانِ، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهُمَّ هذه قُرَيْشٌ جَاءَتْ بِخيلائِها وفَخْرِهَا، جَاءَتْ تُحادُّك، وَتَكَذِّبُ رَسُولَكَ". وقام، ورفع يديه، واستنصر ربَّه وقال: "اللهُمَّ أنْجِزْ لى مَا وَعَدْتَنِى، اللهُمَّ إنِّى أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ" ، فالتزمه الصِّدِّيق من ورائه، وقال: "يا رسول الله؛ أبشر، فوالذى نفسى بيده، لَيُنجِزَنَّ الله لكَ ما وَعَدَكَ".
واستنصر المسلمون الله، واستغاثوه، وأخلصوا له، وتضرَّعُوا إليهِ، فَأَوْحَى الله إلى مَلائِكَتِهِ: {أنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ، سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} [الأنفال: 12]
وأَوْحَى الله إلى رسوله: {أنِّى مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] قرئ بكسر الدال ر
وفتحها فقيل: المعنى إنهم رِدْفٌ لكم. وقيل: يُرْدِفُ بعضُهم بعضاً أرسالاً لم يأتوا دَفعةً واحدة.
فإن قيل: ههنا ذكر أنه أمدَّهم بألفٍ، وفى سورة "آل عمران" قال: {إذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ألَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى، إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 124-125]، فكيف الجمع بينهما ؟
قيل: قد اختُلِفَ فى هذا الإمداد الذى بثلاثة آلاف، والذى بالخمسة على قولين:
أحدهما: أنه كان يومَ أُحُد، وكان إمداداً معلَّقاً على شرط، فلما فات شرطُه، فات الإمدادُ، وهذا قولُ الضحاك ومقاتِل، وإحدى الروايتين عن عِكرمة.
والثانى : أنه كان يومَ بدر، وهذا قولُ ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والرواية الأخرى عن عِكرمة، اختاره جماعة من المفسِّرين. وحجة هؤلاء أن السياق يدل على ذلك، فإنه سبحانه قال: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُم تَشْكُرونَ إذْ تَقُولُ لِلْمُؤمِنينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ
بَلَى، إن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} إلى أن قال: {وما جَعَلَهُ اللهُ } [آل عمران: 123-126] أى: هذا الإمداد {إلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ} [آل عمران: 126]. قال هؤلاء: فلما استغاثوا، أمدَّهم بتمام ثلاثةِ آلاف، ثم أمدَّهم بتمامِ خمسة آلافٍ لما صبرُوا واتقوا، فكان هذا التدريجُ، ومتابعة الإمداد، أحسن موقعاً، وأقوى لِنفوسهم، وأسرَّ لها من أن يأتى به مرةً واحدة، وهو بمنزلة متابعة الوحى ونزوله مرة بعد مرة.
وقالت الفرقةُ الأولى: القصة فى سياق أُحُد، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضاً فى أثنائها، فإنه سبحانه قال: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، وَاللهُ سَِميعٌ عَلِيمٌ إذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أن تَفْشَلا واللهُ وَليُّهُما، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُون} [آل عمران: 121-122]، ثم قال: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهِ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [آل عمران: 123] فذكَّرهم نعمتَه عليهم لمَّا نصرهم ببدر، وهم أذلة، ثم عاد إلى قصةِ أُحُد، وأخبر عن قول رسوله لهم: {ألَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ } [آل عمران: 124]، ثم وعدهم أنهم إن صبرُوا واتَّقُوا، أمدَّهم بخمسة آلاف، فهذا من قول رسولِهِ، والإمداد الذى ببدر من قوله تعالى، وهذا بخمسة آلاف، وإمدَادُ بدر بألف، وهذا معلَّق على شرط، وذلك مطلق، والقصة فى سورة "آل عمران" هى قصة أُحُد مستوفاة مطوَّلة، وبدر ذُكرت فيها اعتراضاً، والقصة فى سورة "الأنفال" قصة بدر مستوفاة مطوَّلة، فالسياق فى "آل عمران" غير السياق فى
"الأنفال".
يوضح هذا أن قوله: {وَيَأْتُوكُم مِّنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} [آل عمران: 125]، قد قال مجاهد: إنه يومُ أُحد، وهذا يستلزِمُ أن يكون الإمدادُ المذكور فيه، فلا يَصِحُّ قولُه: إن الإمداد بهذا العدد كان يومَ بدر، وإتيانُهم من فورهم هذا يومَ أُحُد.. والله أعلم.
فصل: [فى بدء القتال بالمبارزة ]
وباتَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلى إلى جِذْع شجرة هُناك، وكانت ليلةَ الجمعة السابع عشرَ من رمضان فى السنة الثانية، فلما أصبحوا، أقبلتْ قريشٌ فى كتائبها، واصطَف الفريقانِ، فمشى حكيمُ بنُ حِزام، وعُتبةُ بن ربيعة فى قريش، أن يرْجِعُوا ولا يقاتلوا، فأبى ذلك أبو جهل، وجرى بينه وبين عتبة كلامٌ أَحْفَظَهُ، وأمر أبو جهل أخا عَمْرو بن الحضرمى أن يطلب دَمَ أخيه عَمْرو، فكشف عن اسْتِهِ، وصرخ: واعَمْراهُ، فحمى القومُ، ونشَبتِ الحربُ، وعَدَّلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصفوفَ، ثم رجع إلى العَريشِ هو وأبو بكر خاصة، وقام سعدُ بن معاذ فى قوم من الأنصار على باب العريشِ، يحمون رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وخرج عتبةُ وشيبةُ ابنا ربيعة، والوليدُ بن عُتبة، يطلبون المبارزة، فخرج إليهم ثلاثةٌ من الأنصار: عبدُ الله بن رواحة، وعوفٌ، ومُعَوٍّذٌ ابنا عفراء، فقالوا لهم: مَن أنتم ؟ فقالوا: من الأنصار. قالوا: أكفَاءٌ كِرام، وإنما نُريد بنى عمنا، فبرز إليهم علىٌ وعُبيدة بن الحارث وحمزةُ، فقتل علىُّ قِرْنَه الوليد، وقتل حمزة قِرنه عُتبة وقيل: شيبةُ واختلف عُبيدة وقِرنُه ضربتين، فكَّر علىُّ وحمزةُ على قِرن عُبيدة، فقتلاه واحتملا عُبيدة وقد قُطِعت رجله، فلم يزل ضَمِنَاً، حتى مات بالصَّفْراءِ.
وكان علىُّ يُقسِمُ بالله: لنزلت هذه الآيةُ فيهم: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبِّهِمْ} [الحج: 19] الآية.
ثم حمى الوطيسُ، واستدارت رَحى الحربِ، واشتدَّ القِتال، وأخذ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الدعاء والابتهالِ، ومناشدة ربِّه عَزَّ وجَلَّ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فردَّه عليه الصِّدِّيق، وقال: بعضَ مُناشَدَتِكَ ربَّكَ، فإنَّهُ منجزٌ لَكَ ما وَعَدَكَ.
فأغفى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إغفاءة واحدة، وأخذ القومَ النعاسُ فى حال الحربِ، ثم رفعَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسَه فقال: "أَبْشِرْ يا أَبَا بَكْر، هذا جِبْرِيلُ عَلَى ثَنَايَاه النَّقْع".
وجاء النصر، وأنزل الله جنده، وأيَّد رسوله والمؤمنين، ومنحهم
أكتافَ المُشركِينَ أسراً وقتلاً، فقتلوا منهم سبعين، وأَسرُوا سبعينَ.
فصل
ولما عزموا على الخروج، ذكروا ما بينهم وبينَ بنى كنانة مِن الحرب، فتبدَّى لهم إبليسُ فى صورة سُراقة بن مالك المُدْلجى، وكان مِن أشراف بنى كنانة، فقال لهم: لا غَالِبَ لكم اليومَ من الناس، وإنى جارٌ لكم من أن تأتيكم كِنانة بشىءٍ تكرهُونه، فخرجوا والشيطانُ جارٌ لهم لا يُفارقهم، فلما تعبَّؤوا للقتال، ورأى عدوُّ الله جندَ اللهِ قد نزلت مِن السماء، فرَّ، ونَكَصَ على عقبيه، فقالوا: إلى أين يا سُراقة ؟ ألم تكن قُلْتَ: إنك جار لنا لا تُفَارِقُنَا ؟ فقال: إنى أرى ما لا ترون، إنى أخاف اللهَ، واللهُ شديدُ العِقَاب، وصدق فى قوله: إنى أرى ما لا ترون، وكذب فى قوله: إنى أخاف اللهَ. وقيل: كان خوفه على نفسه أن يَهْلِكَ معهم، وهذا أظهر.
ولما رأى المنافقون ومَن فى قلبه مرض قِلَّة حزبِ الله وكثرةَ أعدائه، ظنُّوا أن الغلبة إنما هى بالكثرة، وقالوا: { غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} [الأنفال: 49]، فأخبر سبحانه أن النصر بالتوكل عليه لا بالكثرة، ولا بالعدد، والله عزيز لا يُغالَب، حكيم ينصر مَن يستحق النصر، وإن كان ضعيفاً، فعزتُه وحكمتُه أوجبت نصرَ الفئةِ المتوكِّلَةِ عليه.
ولما دنا العدو وتواجه القومُ، قام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الناس، فوعظهم، وذكَّرهم بما لهم فى الصبر والثباتِ مِن النصرِ، والظفرِ العاجِلِ، وثوابِ اللهِ الآجل، وأخبرهم أن الله قد أوجبَ الجنة لمن استشهد فى سبيلِهِ،
فقام عُمَيْرُ بنُ الحُمَامِ، فَقَالَ: يا رسولَ اللهِ؛ جَنَّةٌ عَرْضُهَا سَّماواتُ والأَرْضُ ؟ قال: "نَعَمْ". قال: بَخٍ بَخٍ يَا رَسولَ اللهِ. قالَ: "مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ" ؟ قال: لا واللهِ يا رَسُولَ اللهِ إلاَّ رَجَاءَ أنْ أكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ: "فَإنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا" قال: فأَخرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يأكُلُ مِنْهُنَّ، ثم قال: لَئِنْ حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِى هذِهِ، إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. فكان أول قتيل.
وأخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِلءَ كَفِّهِ مِنَ الحصباءِ، فَرَمَى بِهَا وجوهَ العَدُوِّ، فلم تترك رَجُلاً مِنهم إلاَّ ملأَتْ عينيه، وشُغِلُوا بالتراب فى أعينهم، وشُغِلَ المسلمُونَ بقتلهم، فأنزل الله فى شأن هذه الرمية على رسوله {وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
وقد ظن طائفة أن الآية دلَّت على نفى الفعل عن العبد، وإثباتهِ لله،
وأنه هو الفاعلُ حقيقة، وهذا غلط منهم من وجوه عديدة مذكورة فى غير هذا الموضع. ومعنى الآية: أن الله سبحانه أثبت لِرسوله ابتداءَ الرَّمى، ونفى عنه الإيصال الذى لم يحصل برميته، فالرمىُ يُرادُ به الحذفُ والإيصال، فأثبت لنبيه الحذفَ، ونفى عنه الإيصال.
وكانت الملائكة يومئذ تُبادِرُ المسلمين إلى قتل أعدائهم، قال ابن عباس: "بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فى أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ المُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إذّ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَه، وَصَوْتُ الفَارِسِ فَوْقَهُ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُوم، إذْ نَظَرَ إلَى المُشْرِكِ أَمَامَهُ مُسَتَلْقِياً، فَنَظَرَ إلَيْهِ، فَإذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ، فَاخْضَرَّ ذلِكَ أجْمَعُ، فَجَاءَ الأَنْصَارِىُّ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثالث".
وقال أبو داود المَازِنى: "إنِّى لأتْبَعُ رَجُلاً مِن المُشْرِكِينَ لأَضْرِبَه، إذْ وَقَع رَأْسُه قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ سَيْفِى، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ غَيْرِى".
وجاء رجلٌ مِن الأنصار بالعبَّاسِ بنِ عبد المطلب أسيرَاً، فقال العباسُ: إنَّ هذا واللهِ ما أسرنى، لقد أسرنى رجل أجلح، مِن أحسن النَّاسِ وجهاً، على فرسٍ أبْلَق، ما أراه فى القومِ، فقال الأنصارى: أنا أسرتُه يا رسول اللهِ، فقال: "اسْكُتْ فَقَدْ أيَّدَكَ اللهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ". وأُسِر من بنى عبد المطلب ثلاثة: العباسُ، وعقيلٌ، ونوفل بن الحارث.
وذكر الطبرانى فى "معجمه الكبير" عن رِفاعة بن رافع، قال: "لما رأى إبليسُ ما تفعَلُ الملائكةُ بالمشرِكِينَ يومَ بدر، أشفق أن يَخْلُصَ القتلَ إليه، فتشبَّثَ بِهِ الحارث بن هشام، وهو يظنُّه سُراقَةَ بِنَ مالك، فوكز فى صَدْرِ الحارث فألقاه، ثم خَرَجَ هارباً حتى ألقى نفسَه فى البحر، ورفع يديه وقال: اللهُمَّ إنِّى أَسْأَلُكَ نَظِرَتَكَ إيَّاى، وخاف أن يخلُصَ إليه القتل، فأقبل أبو جهل بن هشام، فقال: يا معشر النَّاسِ؛ لا يَهْزِمَنَّكُم خِذْلانُ سُرَاقَةَ إيَّاكُم، فإنَّهُ كَانَ عَلَى مِيعاد مِنْ مُحَمَّدِ، ولا يَهولَنَّكُم قَتْلُ عُتْبَةَ وشَيْبَةَ والوَلِيدِ، فإنَّهُم قد عجلوا، فواللاَّتِ والعُزَّى، لا نرجِعُ حتى نَقْرِنَهُم بالحِبال، ولا أُلفِيَنَّ رَجُلاً مِنْكُم قَتَلَ رجلاً مِنهم، ولكن خُذوهم أخذاً حتى نُعرِّفَهم سوء صنيعهم.
واستفتح أبو جهل فى ذلك اليوم، فقال: اللهُمَّ أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه فأَحِنْهُ الغداة، اللهُمَ أيُّنَا كان أحبَّ إليكَ، وأرضى عِنْدَكَ، فانصره اليومَ، فأنزل الله عَزَّ وجَلّ : {إن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ، وَإن تَنْتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإنْ تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِىَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً ولَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤمِنِينَ} [الأنفال: 19].
ولما وضع المسلمون أيدَيهم فى العدو يقتلون ويأسِرون، وسعدُ بن معاذ واقفٌ على باب الخيمة التى فيها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهى العَرِيشُ متوشِّحاً بالسيف فى ناسٍ مِن الأنصار، رأى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى وجهِ سعدِ بنِ معاذ الكراهية لما يصنَعُ الناسُ، فقالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كأنَّكَ
تَكْرَهُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ " ؟ قال: أجَلْ واللهِ، كانت أولَ وقعةٍ أوقعها الله بالمشركين، وكان الإثخانُ فى القتل أحبَّ إلىَّ من استبقاء الرجال.
ولما بردت الحربُ، وولَّى القومُ منهزمينَ، قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ يَنْظُرُ لَنَا مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ" ؟ فانطلق ابنُ مسعودٍ، فوجَدَهُ قد ضَرَبَهُ ابنا عَفْراء حتَّى بَرَدَ، وأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ فقال: أنْتَ أَبُو جَهْلٍ ؟ فَقَالَ: لِمَن الدَّائِرةُ اليوم ؟ فقال: للهِ وَلِرَسوله، وهَلْ أَخْزَاكَ اللهُ يَا عَدُوَّ اللهِ ؟ فقال: وهل فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ ؟ فَقَتَلَهُ عبدُ اللهِ، ثم أتى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: قتلتُه، فقال: "اللهِ الَّذِى لا إله إلا هُو" فردَّدَهَا ثلاثاً، ثم قال: "الله أكبر، الحمد لله الذى صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق أرنيه" فانطلقنا فأريته إياه، فقال: "هذا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ".
وأسر عبدُ الرحمن بنُ عوف أُميَّةَ بن خلف، وابنَه علياً، فأبصره بلالٌ، وكان أُميَّةُ يُعذِّبُه بمكة، فقال: رأسُ الكفر أُمية بن خلف، لا نَجَوْتُ إن نَجَا، ثم اسْتَوْخَى جماعةً مِنَ الأنْصَارِ، واشتد عبد الرحمن بهما يُحرِزهما مِنهم، فأدركُوهم، فشغَلَهم عَنْ أُميَّة بابنه، ففَرَغُوا مِنْه، ثم لَحِقُوهما، فقالَ لَهُ عَبْدُ الرحمن: ابرُك، فَبَرَكَ فأَلْقَى نَفْسَه عَلَيْهِ، فَضَربُوهُ بالسُّيُوفِ مِنْ تَحتِه حَتَّى قَتَلُوهُ، وأصابَ بعضُ السيوف رِجْلَ عبد الرحمن بن عوف، قال له أُمية قبل ذلك: مَن الرَّجُلُ المُعَلَّمُ فى صَدْرهِ
بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ ؟ فَقَالَ: ذَلِكَ حمزةُ بنُ عبد المطلب. فقال: ذَاكَ الَّذِى فَعَلَ بِنَا الأفاعِيلَ، وَكانَ مع عبد الرحمن أدراعٌ قد استلبها، فلما رآه أُميَّةُ قال له: أنا خَيْرٌ لَكَ مِنْ هذه الأدراع، فألقَاهَا وأخذه، فَلَمَّا قتله الأنْصَارُ، كَانَ يَقُولُ: يَرْحَمُ اللهُ بِلالاً، فَجَعَنِى، بأدْرَاعِى وبِأَسِيرى.
وانقطع يومئذ سيفُ عُكَّاشةَ بنِ مِحْصَنٍ، فأعطاهُ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِذْلاً مِنْ حَطَبٍ،
فَقَالَ: "دُونَكَ هذَا"، فلما أخذه عُكَّاشَةُ وهزَّه، عاد فى يده سيفاً طويلاً شديداً أبيض، فلم يزل عنده يُقاتِلُ به حتَّى قُتِلَ فى الرِّدة أيامَ أبى بكر.
ولقى الزبيرُ عُبيدةَ بن سعيد بنِ العاص، وهو مُدَجَّجٌ فى السلاح لا يُرَى مِنه إلا الحَدَقُ، فحمل عليه الزبيرُ بحربته، فطعنه فى عَينه، فمات، فوضع رجله على الحربة، ثم تمطَّى، فكان الجَهْدُ أن نزعها، وقد انثنى طرفاها، قال عروة: فسأله إياها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعطاه إياها، فلما قُبِضَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخذَها، ثم طَلَبها أبُو بكر، فأَعطَاه إياها، فلما قُبِض أبو بكر، سأله إيَّاها عمر، فأعطاه إياها، فلما قُبِض عُمرُ، أخذها، ثم طلبها عثمان، فأعطاه إياها، فلما قُبضَ عثمانُ، وقعت عِند آلِ علىّ، فطلبها عبدُ الله بن الزبير، وكانت عنده حتى قُتِلَ.
وقال رِفاعةُ بنُ رافع: "رُمِيتُ بسهمٍ يومَ بدر، فَفُقِئَتْ عينىِ، فَبَصَقَ فيها رَسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا لى، فما آذانى منها شئ".
ولما انقضتِ الحربُ، أقبلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى وقَفَ عَلَى القَتْلَى فقال: "بِئْسَ عَشيرةُ النبى كُنْتُم لِنَبِّيكُم، كَذَّبْتُمُونى، وصَدَّقَنى النَّاسُ، وخَذَلْتَمونى ونَصَرَنى النَّاسُ، وأَخْرَجْتمُونى وآوانى النَّاسُ".
ثم أمر بهم، فسُحِبوا إلى قَلِيبٍ مِن قُلُب بدر، فطُرِحُوا فيه، ثم وقف عليهم، فقال: "يا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، ويا شَيْبَةَ بْنَ رَبيعَةَ، ويا فلانُ، ويا فُلانُ، هَل وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ ربُّكم حَقًّاً، فَإنِّى وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِى رَبِّى حَقًّاً"، فقال عُمَرُ بنُ الخطاب: يا رَسُولَ اللهِ ؛ ما تُخَاطِبُ مِنْ أقوام قَدْ جَيَّفُوا ؟ فقالَ: "والَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُم، وَلَكِنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الجَوَابَ"، ثم أقامَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالعَرْصَةِ ثَلاثاً، وكان إذا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِعَرْصَتِهِم ثلاثاً.
ثم ارتحل مؤيَّداً منصوراً، قريرَ العين بنصر الله له، ومعه الأسارى والمغانمُ، فلما كان بالصَّفراء، قسمَ الغنائم، وضرب عُنُقَ النَّضْرِ بن الحارث بن كلدة، ثُمَّ لما نَزَلَ بِعِرْقِ الظَّبْيَةِ، ضرب عُنُقَ عُقبةَ بن أبى مُعَيْطٍ.
ودخل النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينةَ مؤيَّداً مظفَّراً منصوراً قد خافه كُلُّ عدوٍ له بالمدينة وحولَها، فأسلم بَشَر كثير مِن أهل المدينة، وحينئذ دخل عبد الله بن أُبَىٍّ المنافقُ وأصحابُه فى الإسلام ظاهراً.
وجملة مَن حضر بدراً من المسلمين ثلاثمائة وبضعةَ عشر رجلاً، من المهاجرين ستة وثمانون، ومن الأوس أحدٌ وستون، ومن الخزرج مائة وسبعون، وإنما قَلّ عَدَد الأوسِ عن الخزرج، وإن كانوا أشدَّ منهم، وأقوى شوكَةً، وأصبرَ عند اللِّقاء، لأن منازِلهم كانت فى عوالى المدينة، وجاء النفيرُ بغتةً، وقال النَّبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يَتْبَعُنَا إلاَّ مَنْ كان ظَهْرُهُ حَاضِراً"، فاستأذنه رِجالٌ ظُهورُهم فى عُلو المدينة أن يستأنىَ بهم حتى يذهبُوا إلى ظهورهم، فأبى ولم يَكُن عَزْمُهُم عَلَى اللِّقَاءِ، ولا أعدُّوا لهُ عدته، ولا تأهبوا له أهبتَه، ولكن جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
واستشهد من المسلمين يومئذ أربعةَ عشرَ رجلاً: ستةٌ من المهاجرينَ، وستة من الخزرج، واثنانِ من الأوس، وفرغ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شأن بدر والأسارى فى شوَّال.
فصل
ثم نهض بنفسه صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه بعد فراغه بسبعةِ أيَّامٍ إلى غَزو بنى سُليم، واستعمل على المدينةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ. وقيل: ابنَ أُمِّ مكتومٌ، فبلغ ماءً يقال له: الكُدْرُ، فأقام عليه ثلاثاً، ثم انصرف، ولم يلق كيداً.
فصل
ولما رجع فَلُّ المشرِكِينَ إلى مكَّةَ موتُورين، محزونين، نَذَرَ أبو سفيان أن لا يَمَسَّ رأسَه ماءٌ حتى يغزوَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج فى مائتى راكِبٍ، حتى أتى العُرَيْضَ فى طرفِ المدينة، وبات ليلةً واحدة عند سلام بن مِشْكَم اليهودى، فسقاه الخمرَ، وبَطَنَ له مِن خبر الناس، فلما أصبح، قطع أصْواراً مِنَ النخل، وقتل رجلاً من الأنصار وحليفاً له، ثم كرَّ راجعاً، ونَذِرَ به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج فى طلبه، فبلغ قَرْقَرَةَ الكُدْرِ، وفاته أبو سفيان، وطرحَ الكفارُ سويقاً كثيراً مِن أزوادِهم يتخفَّفُونَ به، فأخذها المسلمون، فَسُمِّيِتْ غزوةَ السويق، وكان ذلك بعد بدر بشهرين.
فأقامَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينةِ بَقيَّةَ ذى الحِجَّة، ثم غزا نجداً يُرِيدُ غطفان، واستعملَ على المدينةِ عُثمانَ بنَ عفان رضى الله عنه، فأقام هُناك صَفَرَاً كُلَّهَ مِن السنة الثالثة، ثم انصرف، ولم يلق حرباً.
فصل
أقامَ بالمدينة ربيعاً الأول، ثم خرجَ يُريدُ قريشاً، واستخلف على المدينة ابنَ أُمِّ مكتوم، فبلغ بُحرَانَ مَعْدِناً بالحِجَازِ من ناحية الفُرْع، ولم يَلْقَ حَرباً، فأقَام هُنَالك ربيعاً الآخر، وجُمادَى الأولى، ثم انصرف إلى المدينة.
فصل
ثم غزا بنى قَيْنُقَاع، وكانُوا مِن يهودِ المدينة، فنقضُوا عهدَه، فحاصرهم خمسة عشرَ ليلةً حتى نزلُوا على حُكمه، فَشَفَعَ فيهم عبدُ اللهِ بن أُبَىّ، وألحَّ عليه، فأطلقهم له، وهم قومُ عبدِ الله بن سلام، وكانوا سَبعمائة مقاتل، وكانوا صاغة وتجاراً.
فصل: فى قتل كعب بن الأشرف
وكان رجلاً مِن اليهود، وأُمُّه مِن بنى النضير، وكان شديدَ الأذى لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يُشَبِّبُ فى أشعاره بنساء الصحابة، فلما كانت وقعةُ بدر، ذهب إلى مكة، وجعل يُؤَلِّبُ على رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى المؤمنين، ثم رجع إلى المدينة على تلك الحال، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فإنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ ورَسُولَهُ"، فانتدب له محمدُ بنُ مَسْلَمَة، وعَبَّادُ بْنُ بِشْر، وأبو نَائِلة واسمه سِلْكَانُ بْنُ سلامة، وهو أخو كعبٍ من الرضاع، والحارث بن أوس، وأَبُو عَبْسِ بنُ جَبر، وأذن لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقولوا ما شاؤوا مِنْ كلام يخدعونه به، فذهبوا إليه فى ليلة مُقْمِرَةٍ، وشيَّعهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بَقيع الغَرْقَدِ، فلما انْتَهوا إليه، قدَّموا سِلْكَانَ بْنَ سَلاَمة إليه، فأظهر له موافقته على الانحرافِ عن رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشَكا إليه ضِيقَ حاله، فكلَّمَهُ فى أن يَبيعه وأصحابَه طعاماً، ويَرْهَنُونَه سِلاحَهم، فأجابَهم إلى ذلك.
وَرَجَع سِلْكَان إلى أصحابه، فأخبرهم، فأتوْه، فخرج إليه مِن
حِصنه، فَتَماشَوْا، فوضَعُوا عليه سُيُوفَهم، ووضع محمدُّ بن مَسْلَمَة مِغْولاً كان معه فى ثُنَّتِهٍ، فقتله، وصاحَ عدوُّ الله صيحةً شديدة أفزعت مَنْ حوله. وأوقدوا النيرانَ، وجاء الوفدُ حتى قَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آخر الليل، وهو قائم يُصلى، وجُرِحَ الحارث بن أوس ببعض سيوفِ أصحابه، فتفل عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبرئ، فَأَذِنَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى قتل مَنْ وجد مِن اليهود لنقضهم عهده ومحاربتِهم الله ورسوله.
فصل: فى غزوة أُحُد
ولما قتل الله أشرافَ قريشٍ ببدر، وأُصيبُوا بمصيبةٍ لم يُصابُوا بمثلها، ورَأَسَ فيهم أبو سفيانَ بنُ حربٍ لِذهاب أكابرهم، وجاء كما ذكرنا إلى أطرافِ المدينة فى غزوة السَّويق، ولم يَنَلْ ما فى نفسه، أخذ يُؤلِّبُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى المسلمين، ويجمِّع الجموعَ، فجمع قريباً مِن ثلاثةِ آلافٍ من قريش، والحلفاء، والأحابيش، وجاؤوا بنسائهم لئِلا
يَفِرُّوا، وليحاموا عنهن، ثم أقبل بهم نحوَ المدينة، فنزل قريباً من جبل أُحُد بمكان يقال لهُ: عَيْنَيْنِ، وذلك فى شوَّال مِن السنة الثالثةِ،
واستشار رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابًَه أَيخرُج إليهم، أم يمكثُ فى المدينة ؟ وكان رأُيُه ألا يخرجُوا من المدينة، وأن يتحصَّنُوا بها، فإن دخلوها، قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنِّساء مِن فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأى عبدُ الله بن أُبَىّ، وكان هو الرأىَ، فبادر جماعةٌ مِن فُضلاء الصحابة ممن فاته الخروجُ يوم بدر، وأشاروا عليه بالخروج، وأَلحُّوا عليه فى ذلك، وأشار عبد الله بن أُبَىّ بالمُقام فى المدينة، وتابعه على ذلك بعضُ الصحابةِ، فألحَّ أولئك على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنهض ودخل بيته، ولَبِسَ لأْمَتَهُ، وخرج عليهم، وقد انثنى عزمُ أُولئك، وقالوا: أكْرَهْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الخُروج، فقالوا: يا رسولَ الله؛ إن أحببتَ أن تَمْكُثَ فى المدينة فافعَلْ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا يَنبَغِى لِنَبِىٍّ إذَا لَبِسَ لأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ عدوِّه".
فخرج رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ألف من الصحابة، واستعمل ابنَ أُمِّ مكتُوم على الصلاة بمن بقى فى المدينة، وكان رسولُ الله رأى رؤيا، وهو بالمدينةِ، رأى أن فى سيفِه ثُلْمَةً، ورأى أن بقراً تُذبح، وأنه أدخل يده فى
درع حَصِينةٍ، فتأوَّل الثُّلمة فى سيفه برجل يُصاب مِن أهل بيته، وتأوَّل البقرَ بِنَفَرٍ من أصحابه يُقتلون، وتأوَّل الدِّرع بالمدينة.
فخرج يوم الجمعة، فلما صار بالشَّوْط بَيْنَ المدينةِ وأُحُد، انخزَلَ عبدُ الله ابن أُبَىّ بنحو ثُلثِ العسكر، وقال: تُخالفنى وتسمَعُ مِن غيرى، فتبعهم عبدُ الله بن عمرو بن حرام، والد جابر بن عبد الله يوبِّخهم ويحضُّهم على الرجوع، ويقول: تعَالَوْا قاتِلُوا فى سبيل الله، أو ادفعوا. قالوا: لو نَعلَمُ أنكم تُقاتلون، لم نرجع، فرجع عنهم، وسبَّهم، وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحُلفائهم مِن يهود، فأبى، وسلك حرَّة بنى حارثة، وقال: "مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى القَوْمِ مِنْ كَثَبٍ" ؟، فخرج به بعضُ الأنصارِ حتى سلَك فى حائط لِبعض المنافقين، وكان أعمى، فقام يحثو الترابَ فى وجوه المسلمين ويقول: لا أُحِلُّ لكَ أن تدخُلَ فى حائطى إن كنتَ رسولَ اللهِ، فابتدره القومُ لِيقتلوه، فقال: "لا تقتُلوه فهذا أعمى القلب أعمى البصرِ".
ونفذ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزلَ الشِّعبَ مِن أُحُد فى عُدْوَةِ الوَادِى، وجعلَ ظهرَه إلى أُحُد، ونهى الناسَ عَنِ القِتَال حتى يأمرهمْ، فلما أصبحَ يومَ السبت، تَعَبَّى للقتال، وهو فى سبعِمائة، فيهم خمسون فارساً، واستعمل على الرُّماة وكانوا خمسين عبدَ الله بن جُبير، وأمره وأصحابَه أن يَلزمُوا مركزهم، وألا يُفارقُوه، ولو رأى الطيرَ تتخطفُ العسكر، وكانوا خلفَ الجيش، وأمرَهُم أنْ يَنْضَحُوا المُشرِكِينَ بالنَّبْلِ، لِئَلا يأتُوا المُسْلِمِينَ مِنْ وَرَائِهِم.
فظاهر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ دِرعَيْن يومئِذٍ، وأعطى اللِّواء مُصْعَبَ بنَ عُمير، وجعل على إحدى المجَنِّبَتَيْنِ الزبيرَ بنَ العوام، وعلى الأخرى المُنذرَ بنَ عمرو، واستعرض الشبابَ يومئذٍ، فردَّ مَن استصغره عن القتال، وكان منهم عبدُ الله بنُ عمر، وأُسامَة بن زيد، وأُسَيْدُ بن ظَهِيرٍ، والبراءُ بن عازب، وزيد بن أرقم، وزيدُ بن ثابت، وعَرَابةُ بن أوس، وعمرو بنُ حَزْمٍ، وأجازَ مَن رآهُ مُطِيقاً، وكان مِنهم سَمُرَةُ بنُ جُنْدَبٍ، ورافعُ بن خَديج، ولهما خمسَ عشْرة سنة. فقيل: أجاز مَن أجاز لبلوغه بالسِّنِّ خمس عشرة سنةً، وردَّ مَن رَدَّ لِصغره عن سِنِّ البُلُوغ، وقالت طائفة: إنما أجازَ مَنْ أجاز لإطاقته، وردَّ مَن رَدَّ لِعدم إطاقته، ولا تأثيرَ للبلوغ وعدمِه فى ذلك قالوا: وفى بعض ألفاظ حديث ابن عمر: "فلمَّا رَآنى مُطِيقاً أَجَازَنى".
وتعبَّتْ قريشٌ للقتال، وهم فى ثلاثةِ آلافٍ، وفيهم مائتا فارسٍ، فجعلوا على ميمنتهم خالدَ بن الوليد، وعلى الميسرةِ عِكرمةَ بنَ أبى جهل، ودفعَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيفَه إلى أبى دُجَانَة سِمَاكِ بن خَرَشَةَ، وكان شُجاعاً
بطلاً يَخْتَالُ عِند الحرب.
وكان أوَّلَ مَنْ بَدَر مِن المشركين أبو عامر الفاسِقُ، واسمه عبد عَمْرِو بن صَيْفِى، وكان يُسمَّى "الرَّاهبَ"، فسمَّاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفاسِقَ، وكان رأس الأوس فى الجاهلية، فلما جاء الإسلامُ، شَرِقَ به، وجاهَرَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعَدَاوة، فخرج مِنَ المدينة، وذهب إلى قُريش يُوَلِّبُهُم عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحضُّهم على قِتاله، ووعدَهم بأن قومَه إذا رأوه أطاعُوه، ومالُوا معه، فكان أوَّل مَنْ لَقِىَ المسلمينَ، فنادى قومَه، وتعرَّف إليهم، فَقَالُوا له: لا أنعم اللهُ بكَ عيناً يَا فَاسِقُ، فقال: لقد أصابَ قومى بعدى شرٌ، ثم قاتل المسلمين قِتالاً شديداً، وكان شِعارُ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ: أَمِتْ.
وأبلى يومئذ أبو دُجَانَةَ الأنصارىُّ، وطلحةُ بنُ عبيد الله، وأسدُ الله وأسدُ رسوله حمزةُ بنُ عبد المطَّلب، وعلىُّ بنُ أبى طالب، وأنسُ بن النضر، وسعدُ بنُ الربيع.
وكانت الدولةُ أوَّلَ النهارِ للمسلمين على الكفَّار، فانهزم عدوُّ اللهِ، وولَّوا مُدْبِرينَ حتى انتَهَوْا إلى نِسائهم، فلما رأى الرُمَاةُ هزيمتَهم، تركوا مركَزَهم الذى أمرهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفظه، وقالوا: يا قومُ الغنيمةَ، فذكَّرهم أميرُهم عهدَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يسمعُوا، وظنوا أن ليس للمشركين رجعةٌ، فذهبُوا فى طلب الغنيمةِ، وأخْلُوا الثَّغْرَ، وكرَّ فُرسَانُ المشركين، فوجدوا الثَّغْر خالياً، قد خلا مِن الرُّماة، فجازُوا منه، وتَمكَّنُوا حتى أقبل آخِرهُم، فأحاطُوا بالمسلمين، فأكرم اللهُ مَنْ
أكرمَ منهم بالشهادة، وهم سبعون، وتولَّى الصَّحَابة،
وخلَصَ المشركون إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجرحُوا وجهَه، وكسروا رَباعِيَّتَه اليُمْنى، وكانت السُّفلى، وهَشَمُوا البيضة على رأسه ورمَوْهُ بالحِجَارة حتى وقع لِشقه، وسقط فى حُفرة مِن الحُفَرِ التى كان أبو عامر الفاسِقُ يَكيدُ بها المسلمين، فأخذ علىُّ بيده، واحتضنه طلحةُ بنُ عُبيد الله، وكان الذى تولَّى أذاه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرُو بنُ قَمِئَةَ، وعُتُبَةُ بنُ أبى وقاص، وقيل: إن عبد الله بن شهاب الزهرىَّ، عمّ محمد بن مسلم بن شهاب الزهرى، هو الذى شجَّهُ.
وقُتِلَ مصعبُ بن عمير بين يديه، فدفع اللِّواء إلى علىِّ بن أبى طالب، ونشبت حَلَقَتَانِ مِن حلق المِغْفَرِ فى وجهه، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجرَّاح، وعضَّ عليهما حتى سقطت ثنيتاه مِن شدَّةِ غوصِهِمَا فى وجْهِهِ
وامتصَّ مَالكُ بنُ سنان والد أبى سعيد الخدرى الدَّمَ مِن وجنته، وأدركه المشركون يُريدُونَ ما اللهُ حائلٌ بينَهُم وبينَه، فحال دُونَه نفرٌ مِن المسلمين نحو عشرة حتى قُتِلُوا، ثم جالدهم طلحةُ حتى أجهضهم عنه، وترَّسَ أبو دُجانة عليه بظهره، والنبل يقع فيه، وهو لا يتحرَّك، وأصيبت يومئذ عينُ قتادة بن النعمان، فأتى بها رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فردَّها عليه بيده، وكانَتْ أصحَّ
عينيه وأحسنَهما، وصرخ الشيطانُ بأعلى صوتِهِ: إنَّ محمداً قَد قُتِلَ، ووقع ذلك فى قلوب كثيرٍ من المسلمين، وفرَّ أكثرُهم، وكان أمرُ الله قدراً مقدوراً.
ومر أنسُ بنُ النَّضر بقوم من المسلمين قد ألقَوا بأيديهم، فقال: ما تنتظِرُونَ ؟ فقالوا: قُتِلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ما تَصْنَعُونَ فى الحياة بعده ؟ قومُوا فموتُوا على ما مَاتَ عليه، ثم استقبلَ الناسَ، ولقى سعدَ بنَ معاذ فقال: يَا سَعْدُ؛ إنى لأَجِدُ رِيحَ الجَنَّةِ مِنْ دُونِ أُحُد، فقاتل حتى قُتِلَ، ووُجِدَ به سبعونَ ضَربة،
وجُرِحَ يومئذ عبد الرحمن بن عوف نحواً من عشرينَ جِراحة.
وأقبل رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحوَ المسلمين، وكان أوَّل مَن عرفه تحتَ المِغْفَرِ كعبُ بن مالك، فصاحَ بأعلى صوته: يا معشرَ المسلمين؛ أَبْشِرُوا هذا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأشار إليه أن اسْكُت، واجتمع إليه المسلمونَ ونهضُوا معه إلى الشِّعب الذى نزل فيه، وفيهم أبو بكر، وعمر، وعلى، والحارث بنُ الصِّمَّة الأنصارى وغيرُهم، فلما استندوا إلى الجبل، أدركَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُبىُّ بنُ خَلَف على جواد له يُقال له: العَوْذ، زعم عدوُّ اللهِ أنه يقتُل عليه رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما اقترب منه، تناول رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحربةَ مِن الحارث بنً الصِّمَّةِ، فطعنَه بها فجاءت فى تَرْقُوتِهِ، فكرَّ عدوُّ الله منهزِمَاً، فقال له المشركون: واللهِ ما بك من بأسٍ، فقال: واللهِ لو كان ما بى بأهلِ ذِى المَجَازِ، لماتُوا أجمعُون، وكانَ يَعْلِفُ فرسَه بمكةَ ويقولُ: أقْتُلُ عليه محمداً، فبلغ ذلك رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "بَلْ أنَا أَقْتُلُه إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى" فلما طعنَه، تَذكَّر عدوُّ الله قوله: "أنا قاتِلهُ"، فأيقن بأنه مقتول مِن ذلك الجرح، فمات منه فى طريقه بِسَرِفَ مَرْجِعَهُ إلى مكَّةَ.
وجاءَ علىّ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بماء ليشرب منه، فوجده آجناً، فرده، وغسل عن وجهه الدم، وصبَّ على رأسه، فأراد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعلُوَ صخرةً هُنالك، فلم يَسْتَطِع لِما به، فجلس طلحةُ تحتَه حتى صَعِدَهَا، وحانتِ الصلاةُ، فصلَّى بهم جالساً، وصار رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ذلك اليوم تحتَ لِواء الأنصار.
وشدَّ حنظلةُ الغسيل وهو حنظلةُ بن أبى عامر على أبى سفيان، فلما تمكَّن منه، حَمَلَ على حنظلة شَدَّادُ بنُ الأسود فقتله، وكان جُنُباً، فإنه سَمِعَ الصَّيْحَةَ، وهو على امرأته، فقَامَ مِن فَوره إلى الجهاد، فأخبرَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصْحَابَهُ: "أنَّ المَلائِكَةَ تُغَسِّلُهُ" ثم قال: "سَلُوا أَهْلَهُ: مَا شَأْنُهُ" ؟ فسألُوا امرأته، فَأَخْبَرَتْهُمُ الخَبَرَ. وجعل الفقهاءُ هذا حُجة، أن الشهيدَ إذا قُتِلَ جُنباً، يُغسَّل اقتداءً بالملائكة.
وقتل المسلمون حامِلَ لواءِ المشركينَ، فرفَعَتْهُ لهم عَمْرَةُ بنتُ علقمةَ الحارِثِيَّة، حتى اجتمعوا إليه، وقاتلت أُمُّ عُمارة، وهى نُسيبة بنتُ كعب المازنية قِتالاً شديداً، وَضَرَبَتْ عمرَو بن قَمِئَةَ بالسَّيْفِ ضَرَبَاتٍ فَوَقَتْهُ دِرعانِ كانتا عليه، وضربها عمرو بالسِّيْفِ، فجرحها جُرحاً شديداً على عاتقها.
وكان عمرو بن ثابتِ المعروفُ بالأُصَيْرم من بنى عبد الأشهل يأبى الإسلامَ، فلما كان يَوْمَ أُحُدٍ، قذف اللهُ الإسلامَ فى قلبه للحُسْنى التى سبقت له منه، فأسلم وأخذ سيفَه، ولَحِقَ بالنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَاتل فأُثْبِتَ بالجِرَاحِ، ولم يعلم أحدٌ بأمره، فلما انجلت الحرب، طاف بنو عبد الأشهل فى القتلى، يلتمِسُون قتلاهم، فوجَدوا الأُصَيْرمَ وبهِ رَمَقٌ يسير،
فقالوا: واللهِ إن هذا الأصيرمَ، ما جاء به ؟ لقد تركناه وإنه لَمُنْكِرٌ لهذا الأمر، ثم سألوه ما الَّذِى جاء بك ؟ أَحَدَبٌ عَلى قَوْمِكَ، أم رغبةٌ فى الإسلام ؟ فقال: بل رغبةٌ فى الإسلام، آمنتُ باللهِ ورسوله، ثم قاتلتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أصابنى ما تَرَوْنَ، ومات من وقته، فذكروه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "هُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ ". قال أبو هريرة: ولم يُصَلِّ للهِ صَلاَةً قَطُّ.
ولما انقضَتِ الحربُ، أشرف أبو سفيان على الجبل، فنادى: أفيكُم محمد ؟ فلم يُجيبُوهُ، فقال: أفيكُمُ ابنُ أبى قُحَافة ؟ فلم يُجيبوه. فقال: أفيكُم عُمرُ بنُ الخطاب ؟ فلم يجيبوه، ولم يَسْأَلْ إلاَّ عن هؤلاء الثلاثة لِعلمه وعِلم قومه أن قِوَامَ الإسلام بهم، فقال: أمَّا هَؤلاء، فقد كُفيتُموهم، فلم يَملِكُ عُمَر نفسَه أن قال: يَا عَدُوَّ اللهِ؛ إنَّ الَّذِينَ ذكرتَهُمْ أحياءٌ، وقد أبقى اللهُ لَكَ ما يَسُوءُكَ، فقال: قَدْ كان فى القوم مُثْلَةٌ لم آمُر بها، ولم تسؤْنى، ثم قال: أعْلُ هُبَلُ. فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا تُجِيبُونَه" ؟ فَقَالُوا: ما نقُولُ ؟ قال: "قُولُوا: اللهُ أَعْلَى وأَجَلُّ"، ثم قال: لَنَا العُزَّى ولا عُزَّى لكم. قال: "ألا تُجِيبُونَه" ؟ قالُوا: ما نقول ؟ قال: "قولُوا: اللهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكم"
فأمرهم بجوابه عند افتخاره بآلهته، وبِشرْكِهِ تعظيماً للتوحيد، وإعلاماً بعزة مَنْ عبده المسلمون، وقوةِ جانبه، وأنه لا يُغلب، ونحن حزبُه وجُنده، ولم يأمرهم بإجابته حين قال: أفيكم محمد ؟ أفيكم ابنُ أبى قُحافة ؟ أفيكم عمر ؟ بل قد رُوى أنه نهاهم عن إجابته، وقال: "لا تُجيبوه"، لأن كَلْمَهُمْ لم يكن بَرَدَ بَعْدُ فى طلب القوم، ونارُ غيظهم بعد متوقِّدة، فلما قال لأصحابه: أما هؤلاء فقد كُفيتموهم، حمىَ عمر بنُ الخطاب، واشتد غضبُه وقال: كذبْت يا عدوَّ الله، فكان فى هذا الإعلام من الإذلال، والشجاعة، وعدمِ الجُبن، والتعرفِ إلى العدو فى تلك الحال، ما يُوذِنُهم بقوة القوم وبَسالتهم، وأنهم لم يَهِنُوا ولم يَضْعُفُوا، وأنه وقومَه جديرون بعدم الخوفِ منهم، وقد أبقى اللهُ لهم ما يسوؤهُم منهم، وكان فى الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة وهلة بعد ظنَّهِ وظنِّ قومه أنهم قد أُصيبوا من المصلحة، وغيظ العدو وحِزبِهِ، والفتِّ فى عَضُدِهِ ما ليس فى جوابه حين سأل عنهم واحداً واحداً، فكان سؤالُه عنهم، ونعيُهم لِقومه آخِر سهام العدو وكيده، فصبر له النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى استوفى كيده، ثم انتدب له عُمَرُ، فرد سِهَام كيدِهِ عليه، وكان تركُ الجوابِ أولاً عليه أحسن، وذكره ثانياً أحسن، وأيضاً فإن فى ترك إجابته حين سأل عنهم إهانةً له، وتصغيراً لشأنه، فلما منَّته نفسُه موتَهم، وظنَّ أنهم قد قتِلُوا، وحصل بذلك من الكِبر والأشر ما حصل، كان فى جوابه إهانةٌ له، وتحقيرٌ، وإذلالٌ، ولم يكن هذا مخالفاً لقول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تُجِيبُوه"، فإنه إنما نهى عن إجابته حين سأل: أفيكم محمّدٌ ؟ أفيكم فلانٌ ؟ أفيكم فلانٌ ؟ ولم ينه عن إجابته حين قال: أما هؤلاء، فقَد قُتِلُوا، وبكل حال، فلا أحسنَ من ترك إجابته أولاً، ولا أحسنَ من إجابته ثانياً.
ثمَّ قال أبو سفيان: يَوْمٌ بِيوم بَدْرٍ، والحَرْبُ سِجَالٌ، فأجابه عُمَرُ فقال: لاَ سَوَاء، قَتْلانَا فى الجَنَّةِ، وَقَتْلاكُمْ فى النَّارِ.
وقال ابن عباس: ما نُصِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى مَوْطِنٍ نَصْرَه يَوْمَ أُحُد، فأُنْكِرَ ذلِكَ عليه، فَقَالَ: بينى وبَيْنَ من يُنكِرُ كِتابُ الله، إنَّ الله يَقُولُ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ} [آل عمران: 152]، قال ابنُ عباس: والحَسُّ: القتلُ، ولقد كان لِرسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأصحابه أوَّلُ النهار حَتَّى قُتِلَ مِن أصحابِ المشركينَ سبعةٌ أو تسعةٌ... وذكر الحديث.
وأنزل اللهُ عليهم النُّعاسَ أمنةً مِنْهُ فى غَزاةِ بدرٍ وأُحُدٍ، والنعاسُ فى الحرب وعند الخوفِ دليل على الأمنِ، وهو من الله، وفى الصَّلاة ومجالِس الذكر والعِلم مِن الشيطان.
وقاتلت الملائكةُ يومَ أُحُدٍ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففى "الصحيحين": عن سعدِ بن أبى وقاص، قال: "رأيتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَمَعَهُ رَجُلانِ يُقََاتِلانِ عَنْهُ، عليهمَا ثِيَابٌ بِيْضٌ كَأَشَدِّ القِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ".
وفى "صحيح مسلم": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ فى سَبْعَةٍ مِنَ الأنصارِ، وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، فلما رَهِقُوه، قَالَ: "مَنْ يَرُدُّهمْ عَنَّا، وَلَهُ الجَنَّة"،
أو "هُوَ رفِيقى فى الجَنَّةِ" ؟ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثم رَهِقُوهُ، فقال: "مَنْ يَرُدُّهُم عنَّا، ولهُ الجَنَّةُ"، أَو "هُوَ رَفِيقى فى الجنَّة"، فَتَقَدّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَاتَلَ حتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقَالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا" ، وهذا يُروى على وجهين: بسكون الفاء ونصبِ "أصحابنا" على المفعولية، وفتح الفاء ورفع "أصحابنا" على الفاعلية.
ووجه النصب: أن الأنصار لما خرجُوا للقتال واحداً بعد واحد حتى قُتِلُوا، ولم يخرج القرشيان، قال ذلك، أى: ما أنصفت قريشٌ الأنصار.
ووجه الرفع: أن يكون المراد بالأصحاب، الذين فرُّوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أُفْرِدَ فى النفر القليل، فَقُتِلُوا واحداً بعد واحد، فلم يُنْصِفُوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَنْ ثبت معه.
وفى "صحيح ابن حبان" عن عائشة، قالت: قال أبو بكر الصِّديقُ: لمَّا كان يومُ أُحُدٍ، انصرفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَنِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكنتُ أوَّلَ مَنْ فَاءَ إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرأيتُ بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلاً يُقَاتِلُ عنه ويَحْمِيه، قلتُ: كُنْ طَلْحَةَ فِدَاكَ أبى وأُمِّى، كُنْ طَلْحَةَ فِدَاكَ أبِى وأُمِّى. فلم أَنْشَبْ، أَنْ أَدْرَكَنِى أبو عُبَيْدَة بنُ الجرَّاحِ، وإذَا هُوَ يشتَدُّ كأنه طيرٌ حتى لحقنى، فدفعنا إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا طلحةُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَرِيعاً، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دُونَكُمْ أَخَاكُم فقد أَوْجَبَ "، وقد رُمىَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى جبينه، وروى: فى وَجْنَتِهِ حتَّى غَابَتْ حَلَقَةٌ مِنَ حَلَقِ المِغْفَرِ فى وَجْنَتِهِ، فَذَهَبْتُ لأنْزِعَهَا عَن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أَبُو عبيدة: نَشَدْتُك باللهِ يا أبا بكر إلاَّ تَرَكْتَنى ؟ قال: فَأَخَذَ أبو عبيدة السَّهْمَ بفِيه، فَجَعَلَ يُنَضْنِضُهُ كَرَاهَةَ أَنْ يُؤْذِىَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ثُمَّ استلَّ السَّهْمَ بفِيه، فَنَدَرَتْ ثَنِيَّةُ أبى عُبيدة، قال أبو بكر: ثم ذَهَبْتُ لآخُذَ الآخَرَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: نَشَدْتُكَ باللهِ يا أبا بَكْرٍ، إلا تَركْتَنِى ؟ قال: فَأَخَذَهُ، فَجَعَلَ يُنَضْنِضُهُ حَتَّى اسْتَلَّهُ، فَنَدَرَتْ ثَنِيَّةُ أبى عُبَيْدَةَ الأُخْرَى، ثمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دُونكُمْ أخَاكُمْ فَقَدْ أَوْجَبَ"، قال: فأقبلنا عَلَى طلحة نُعالِجُه، وقد أصابته بضعة عَشَر ضربة.
وفى "مغازى الأموى": أن المشرِكِينَ صَعِدُوا على الجبل، فقال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ: "اجنُبْهُمْ" يقول: اردُدْهم. فقال: كيف أَجْنُبُهُمْ وَحْدِى ؟ فقال ذلك ثلاثاً، فأخذ سعدٌ سهماً مِن كِنانته، فرمى به رجلاً فقتله، قال: ثم أخذتُ سهمى أَعْرِفُهُ، فرميتُ بِهِ آخر فقتلتُه، ثم أخذتُه أعْرِفُه، فرميتُ به آخر فقتلتُه، فهبطُوا مِن مَكَانِهم، فقلتُ: هذا سهمٌ مبارك، فجعلته فى كِنانتى، فكان عند سعد حتى مات، ثمَّ كان عند بنيه.
وفى "الصحيحين" عن أبى حازم، أنه سئلَ عن جُرح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "واللهِ إنِّى لأَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسِلُ جُرْحَ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَنْ كَانَ يَسْكُبُ المَاءَ، وبِمَا دُووى، كَانَتْ فَاطِمَةُ ابنتهُ تَغْسِلُه، وعلىُّ بْنُ أبى طَالِبٍ يَسْكُبُ المَاءَ بِالمِجَنِّ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أنَّ المَاءَ لاَ يَزِيدُ الدَّمَ إلا كَثْرَةً، أَخَذَتْ قطعة مِنْ حَصيرٍ، فَأَحْرَقٌتَها فَأَلْصَقَتْهَا فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ".
وفى "الصحيح": أنه كُسِرَت رَبَاعِيتُه، وشُجَّ فى رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدمَّ عنه، ويقُول: "كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا وَجْهَ نبيِّهمْ، وكَسَرُوا رَبَاعِيَّتَه، وهُوَ يَدْعُوهم" فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128].
ولمَّا انهزم الناسُ، لم ينهزِمْ أنسُ بنُ النضر. وقال: اللهُمَّ إنِّى أَعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤلاَءِ، يعنى المُسْلِمِينَ، وَأَبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤلاَءِ، يَعنى المُشْرِكِينَ، ثم تقدَّم، فَلَقِيَه سعدُ بن معاذ، فقال: أينَ يا أبا عُمَرُ ؟ فَقَالَ أَنَسٌ: واهاً لِرِيحِ الجَنَّةِ يَا سَعْدُ، إنِّى أجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ، ثُمَّ مَضَى، فَقَاتَلَ القَوْمَ حَتَّى قُتِلَ، فَمَا عُرفَ حَتَّى عَرَفَتْهُ أُخْتُه بِبَنَانِهِ، وَبِهِ بِضْعٌ وثَمَانُونَ، مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، وَضَرْبَةٍ بًسَيْفٍ، وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ.
وانهزم المشركون أوَّل النهارِ كما تقدَّم، فصرخ فيهم إبليسُ: أىْ عِبادَ الله، أخزاكم اللهُ، فارجِعُوا مِن الهزيمة، فاجتلدوا.
ونظر حُذيفة إلى أبيهِ، والمُسْلِمُونَ يريدون قتله، وهم يظنُّونه مِن المُشْرِكِينَ، فقال: أىْ عِبَادَ اللهِ؛ أبى، فَلَمْ يَفْهَمُوا قولَه حتَّى قتلُوه، فَقَالَ: يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ، فأرادَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدِيَه، فَقَالَ: قَدْ تَصَدَّقْتُ بديته عَلَى المُسْلِمِينَ، فزادَ ذَلِكَ حُذَيْفَةَ خَيْراً عِنْدَ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال زيدُ بنُ ثابت: بعثنى رسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أُحُدٍ أطلُب سعدَ بنَ الرَّبيعِ، فقال لى: "إنْ رَأَيْتَهُ فأقرئه منِّى السَّلاَمَ، وقُلْ لهُ: يقولُ لَكَ رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ تَجِدُكَ" ؟ قالَ: فجعلتُ أطوفُ بَيْنَ القَتْلَى، فأتيتُه، وهو بآخِرِ رَمَق، وفيه سبعونَ ضربةً، ما بين طعنةٍ برُمح، وضربةٍ بسيف، ورميةٍ بسهم، فقلت: يا سعدُ؛ إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ عليكَ السَّلامَ، ويقول لك: أخبرنى كيف تَجِدُكَ ؟ فقال: وعلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السلامُ، قل له: يا رسُولَ اللهِ؛ أَجِدُ ريحَ الجنة، وقل لقومى الأنصار: لا عُذْرَ لكم عند الله إن خُلِصَ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيكم عَيْنٌ تَطْرِفُ، وفاضَتْ نفسُهُ من وقته.
ومرَّ رجل مِن المهاجرين برجُل مِن الأنصار، وهو يَتَشَحَّطُ فى دَمِهِ، فقال: يا فلانُ؛ أشعرتَ أن محمَّداً قد قُتل ؟ فقال الأنصَارِىُّ: إن كان محمد قد قُتلَ، فقد بلَّغ، فقاتِلُوا عَنْ دِينكم، فنزل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] الآية.
وقال عبد الله بن عمرو بن حرام: رأيتُ فى النَّومِ قَبْلَ أُحُد، مبشِّرَ بنَ عبدِ المنذر يقول لى: أنت قادِمٌ علينا فى أيَّام، فقلتُ: وأين أنتَ ؟ فقال:
فى الجنة نَسْرَحُ فيها كَيْفَ نشاء، قلت له: ألم تُقتَلْ يومَ بدرٍ ؟ قال: بلى، ثم أُحْيِيْتُ، فذكر ذَلِكَ لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "هَذِهِ الشَّهَادَةُ يَا أبا جَابِر".
وقال خيثمة أبو سعد، وكان ابنُه استُشْهِدَ مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ بدر:"لَقَدْ أَخْطَأًَتْنِى وَقْعَةُ بَدْرٍ، وكُنْتُ واللهِ عليها حَرِيصَاً، حتى سَاهَمْتُ ابنى فى الخُرُوجِ، فخرجَ سهمُه، فَرُزِقَ الشَّهَادَةَ، وقد رأيتُ البَارِحَةَ ابنى فى النوم فى أَحْسَنِ صُورةٍ يَسْرَحُ فى ثِمارِ الجَنَّةِ وأَنْهَارِهَا، ويقولُ: الْحَقْ بِنَا تُرافِقْنَا فى الجَنَّةِ، فَقَدْ وَجَدْتُ ما وَعَدَنِى رَبِّى حقاً، وقد واللهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَصْبَحْتُ مُشْتَاقاً إلى مُرَافَقَتِهِ فى الجَنَّةِ، وقَد كَبِرَتْ سِنِّى، وَرَقَّ عَظْمِى، وأحبَبْتُ لِقَاءَ رَبِّى، فَادْعُ اللهَ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَرْزُقَنى الشَّهَادَة، ومُرافقة سَعْدٍ فى الجنَّةِ، فَدَعَا له رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقُتِلَ بِأُحُدٍ شَهِيداً".
وقال عبدُ الله بنُ جَحْشٍ فى ذلك اليوم: اللهُمَّ إنِّى أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ ألْقى العَدُوَّ غَدَاً، فَيَقْتُلُونِى، ثُمَّ يَبْقُرُوا بَطْنِى، ويَجْدعُوا أَنْفِى، وَأُذُنِى، ثُمَّ تَسْأَلُنِى: فيمَ ذلِكَ، فَأَقُولُ فيكَ.
وَكَانَ عَمْرُو بنُ الجَمُوحِ أَعْرَجَ شَدِيدَ العَرَجِ، وكانَ له أربَعَةُ بَنينَ شَبَاب، يَغْزُونَ مَعَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا غَزَا، فَلمَّا تَوَجَّهَ إلى أُحُدٍ، أرادَ أن يَتَوجَّهَ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ بَنُوهُ: إنَّ اللهَ قد جعلَ لك رخصةً، فلو قَعَدْتَ ونحنُ نَكْفِيكَ، وقد وَضَعَ اللهُ عَنْكَ الجِهَادَ، فأتى عَمْرُو بْنُ الجَمُوحِ رسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسُولَ اللهِ؛ إنَ بَنِىَّ هؤلاء يمنعُونى أن أخْرُجَ
مَعَكَ، وواللهِ إنى لأَرْجُو أن أُسْتَشْهدَ فأطأَ بعَرْجَتِى هذِهِ فى الجَنَّةِ، فَقَال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمَّا أَنْتَ، فَقَدْ وَضَعَ اللهُ عَنْكَ الجِهَادَ" وَقَالَ لِبَنِيهِ: " ومَا عَلَيْكُم أَنْ تَدَعُوهُ، لَعَلَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ أَنْ يَرْزُقَهُ الشَّهَادَةَ"، فخرجَ مَعَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شهيداً.
وانتهى أنسُ بنُ النَّضرِ إلى عُمَرَ بنِ الخطاب، وطلحةَ بن عبيد الله فى رِجالٍ من المهاجرين والأنصار، وقد ألقَوْا بأيديهِم، فقال: ما يُجْلِسُكم ؟ فَقَالُوا: قُتِلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: فما تَصْنَعُونَ بِالحَيَاةِ بَعْدَهُ ؟ فَقُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثمَّ استقبلَ القَوْمَ، فقاتَلَ حتَّى قُتِلَ.
وأقبل أُبىُّ بنُ خَلَفٍ عَدُوُّ اللهِ، وهو مُقَنَّعٌ فى الحديد، يقول: لا نجوتُ إنْ نجا محمَّد، وكان
حَلَفَ بمكة أن يقتُل رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستقبلهُ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، فَقُتِلَ مُصْعَبٌ، وأبصَرَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْقُوَةَ أُبىِّ بْنِ خَلَف مِنْ فُرْجةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ الدِّرْع والبَيْضَةِ، فطعنَه بِحَرْبتِهِ، فوقَعَ عَنْ فَرَسِهِ، فاحتمله أصحابُه، وهو يخُور خُوارَ الثَّورِ، فقالُوا: ما أجزعَكَ ؟
إنمَا هو خَدْشٌ، فذَكر لهم قول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بل أنا أقتله إن شاء الله تعالى" فمات برابغ.
قال ابن عمر: "إنى لأسيرُ ببطنِ رَابغ بعد هُوىٍّ من الليل، إذا نارٌ تأجَّجُ لى، فيممتُها، وإذا رجل يخرج منها فى سِلْسِلَة يجتذبُها يصيحُ: العطش، وإذا رجلٌ يقول: لا تَسْقِهِ، هذا قتيلُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا أُبىُّ بنُ خلف".
وقال نافعُ بن جُبير: سمعتُ رجلاً من المهاجرين يقولُ: شَهِدْتُ أُحُداً، فنظرتُ إلى النَّبل يأتى من كُلِّ ناحيةٍ، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسَطَهَا، كُلُّ ذَلِكَ يُصرفُ عنه، ولقد رأيتُ عبدَ اللهِ بن شهاب الزهرى يقول يومئذ: دُلُّونى على محمد، لا نجوتُ إن نَجا، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى جنبه ما معه أحد، ثم جاوزهُ، فعاتبه فى ذلك صَفوان، فقال: واللهِ ما رأيتُهُ، أَحْلِفُ باللهِ، إنه مِنَّا ممنوعٌ، فخرجنا أربعةً، فتعاهدنا، وتعاقدنا على قتله، فلم نخلُص إلى ذلك.
ولما مصَّ مالك أبو أبى سَعِيدٍ الخُدْرىّ جرحَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أنقاهُ، قال له: "مُجَّهُ" قال: واللهِ لا أَمُجُّهُ أبداً، ثم أدبر، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلى رَجُلٍ منْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إلَى هذَا".
قالَ الزُّهرى، وعاصم بن عمر، ومحمد بن يحيى بن حبان وغيرُهم: كان يومُ أحد يومَ بلاء وتَمحِيص، اختبر اللهُ عَزَّ وجَلَّ به المؤمنين، وأظهر
به المنافقين ممن كان يُظْهِرُ الإسلام بلسانِهِ، وهو مُستخفٍ بالكُفر، فأَكْرَمَ اللهُ فيه مَن أراد كرامتَه بالشهادةِ من أهل ولايته، فكان مما نزل من القرآن فى يوم أُحُد ستون آية مِن آل عمران، أولها: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] إلى آخر القصة.
فصل: فيما اشتملت عليه هذه الغزوة من الأحكام والفِقه
منها: أن الجهادَ يلزمُ الشُّروع فيه، حتى إن مَنْ لَبِسَ لأْمَتَه وَشَرَعَ فى أسْبَابِهِ، وتأَهَّبَ لِلخُروج، ليس له أن يَرْجِعَ عن الخروج حتى يُقاتِلَ عدوَّه.
ومنها: أنه لا يَجِبُ على المسلمين إذا طَرَقَهُمْ عدوُّهم فى ديارهم الخروجُ إليه، بل يجوزُ لهم أن يلزمُوا دِيارهم، ويُقاتلوهم فيها إذا كانَ ذلك أنصرَ لهم على عدوِّهم، كما أشار به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم يومَ أُحُد.
ومنها: جوازُ سُلُوكِ الإمام بالعسكرِ فى بعض أملاك رعيَّته إذا صادفَ ذلك طريقَه، وإن لم يرضَ المالكُ.
ومنها: أنه لا يأذنُ لِمن لا يُطيق القِتَالَ من الصبيان غيرِ البالغين، بل يردُّهم إذا خرجوا، كما رد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنَ عمر ومَن معه.
ومنها: جوازُ الغزوِ بالنساء، والاستعانةُ بِهِنَّ فى الجهاد.
ومنها: جوازُ الانغماس فى العدو، كما انغمسَ أنسُ بنُ النضر وغيرُه.
ومنها: أن الإمَامَ إذا أصابته جِراحة صلَّى بهم قاعداً، وصلُّوا وراءه
قعوداً، كما فَعَلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى هذِهِ الغزوة، واستمرت على ذلك سُنَّته إلى حين وفاته.
ومنها: جوازُ دعاءِ الرجل أن يُقتَلَ فى سَبيل الله، وتمنيه ذلك، وليس هذا من تمنى الموت عنه، كما قال عبد الله بن جحش: اللهُم لقِّنى من المشركين رجلاً عظيماً كفره، شديداً حَردُه، فأقاتله، فيقتلنى فيك،. ويسلبنى، ثم يجدَع أنفى وأُذنى، فإذا لقيتُكَ، فقلتَ: يا عبدَ اللهِ
بن جحش، فيم جُدِعْتَ ؟ قلت: فيك يا رَبِّ.
ومنها: أن المسلِمَ إذا قتل نفسه، فهو من أهل النار، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى قُزْمَانَ الذى أبلى يومَ أُحُدٍ بلاءً شديداً، فلما اشتدَّت بِهِ الجِراحُ، نَحَرَ نفسه، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ".
ومنها: أن السُّنَّةَ فى الشهيدِ أنه لا يُغَسَّل، ولا يُصلَّى عليه، ولا يُكَفَّن فى غير ثيابه، بل يُدفَن فيها بدمه وكُلومه، إلا أن يُسْلَبَهَا، فيكفَّنَ فى غيرها.
ومنها: أنه إذا كان جُنباً، غُسِّلَ كما غسَّلَتِ الملائكةُ حنظلةَ بن أبى عامر.
ومنها: أن السُّنَّة فى الشهداء أن يُدفنوا فى مصَارِعهم، ولا يُنقلوا إلى مكان آخر، فإن قوماً من الصحابة نقلوا قتلاهم إلى المدينة، فنادى منادى رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأمرِ بَردِّ القتلى إلى مصارعهم، قال جابر: بينا أنا فى النَّظَّارَةِ، إذ جاءت عمَّتى بأبى وخالى عَادَلَتْهُمَا على ناضِح، فدخَلَتْ بهما المدينة، لنَدْفِنَهُمَا فى مقابرنا، وجاء رجل يُنادى: ألا إنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَأْمُرُكُم أن تَرْجِعُوا بِالقَتْلَى، فَتَدْفِنُوهَا فى مَصَارِعِهَا حَيْثُ قُتِلَتْ. قال: فرجعنَا بِهِمَا، فدفنَّاهما فى القتلى حيثُ قُتِلا، فبينا أنا فى خلافةِ معاويةَ بنِ أبى سُفيان، إذ جاءنى رجلٌ، فقال: يا جابرُ؛ واللهِ لقد أثار أَبَاكَ عُمَّالُ معاويَة فبدا، فخَرجَ طائفة منه، قال: فأتيتُه، فوجدتُه على النحو الذى تركتُه لم يتَغيَّرْ منهُ شئ. قال: فواريتُه، فصارت سُنَّة فى الشهداء أن يُدْفَنُوا فى مصارِعهم.
ومنها: جوازُ دفن الرجلينِ أو الثلاثة فى القبر الواحد، فإنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَدْفِنُ الرجلين والثلاثة فى القبر، ويقول: "أيُّهم أكْثَرُ أخذاً لِلقُرآنِ، فإذا أشارُوا إلى رَجُلٍ، قَدَّمه فى اللحد ".
ودفن عبدَ الله بنَ عَمْرِو بن حرام، وعمرَو بنَ الجموح فى قبر واحد، لِمَا كان بينهُمَا مِن المحبة فقال: "ادْفِنُوا هَذَيْنِ المُتَحَابّيْنِ فى الدُّنْيَا فى
قَبْرٍ واحد"
ثمَّ حُفِرَ عنهما بعد زمنٍ طويل، ويدُ عبدِ اللهِ بن عمرو بن حرام على جرحه كما وضعها حين جُرِحَ، فأُمِيطَتْ يدُه عن جرحه، فانبعثَ الدَّمُ، فَرُدَّت إلى مكانهَا، فسكن الدم.
وقال جابر: رأيتُ أبى فى حُفرته حين حُفِرَ عليه، كأنَّه نائم، وما تغيَّر مِن حاله قليلٌ ولا كثير. قيل له: أفرأيتَ أكفانَه ؟ فقال: إنما دُفن فى نمرة خُمِرَّ وجْهُه، وعلى رجليه الحَرْمَلُ، فوجدنا النَّمِرَةَ كما هى، والحرملَ على رجليه علَى هَيْئَتِهِ، وبين ذلك ست وأربعون سنة.
وقد اختلف الفقهاء فى أمرِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُدفن شهداءُ أُحُد فى ثيابهم، هل هو على وجه الاستحبابِ والأولويَّة، أو على وجه الوجوب ؟ على
قولين. الثانى: أظهرُهما وهو المعروفُ عن أبى حنيفة، والأول: هو المعروف عن أصحاب الشافعى وأحمد، فإن قيل: فقد روى يعقوبُ بن شيبة وغيرُه بإسناد جيد، أن صفيَّةَ أرسلت إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثوبَيْنِ لِيكفِّن فيهما حمزة، فكفَّنه فى أحدهما، وكفَّن فى الآخر رجلاً آخر. قيل: حمزةُ، كان الكفارُ قد سلبوه، ومثَّلُوا به، وبقَرُوا عن بَطنِه، واستخرجوا كَبدَه، فَلِذلِكَ كُفِّنَ فى كَفَنٍ آخر. وهذا القولُ فى الضعف نظيرُ قول مَن قال: يُغسَّلُ الشهِيدُ، وسُنَّةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوْلى بالاتباع.
ومنها: أن شهيدَ المعركة لا يُصلَّى عليه، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُصَلِّ على شُهدَاء أُحُد، ولم يُعرف عنه أنه صلَّى على أحد ممن استشهد معه فى مغازيه، وكذلك خلفاؤُه الراشِدُون، ونوابُهم مِن بعدهم.
فإن قيل: فقد ثبت فى "الصحيحين" من حديث عُقبة بنِ عامر، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يوماً، فصلَّى على أهل أُحُدٍ صلاتَه على الميت، ثم انصرف إلى المنبر.
وقال ابنُ عباس: "صلَّى رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قتلى أُحُد".
قيل: أما صلاتُه عليهم، فكانت بعد ثمانِ سنين مِن قتلهم قُرْبَ موته، كالمودِّع لهم، ويُشبِهُ هذا خروجُه إلى البقيع قبل موته، يستغفِرُ لهم كالمودِّع للأحياء والأموات، فهذه كانت توديعاً منه لهم، لا أنها سُنَّةُ الصلاة على الميت، ولو كان ذلك كذلك، لم يُؤخِّرها ثمان سنين، لا سيما عند مَنْ يقول: لا يُصلَّى على القبر، أو يصلَّى عليه إلى شهر.
ومنها: أن مَن عذره الله فى التخلف عن الجهاد لمرض أو عرج، يجوز له الخروجُ إليه، وإن لم يجب عليه، كما خرج عمرُو بن الجموح، وهو أعرج.
ومنها: أن المسلمين إذا قَتَلُوا واحداً منهم فى الجهاد يظنُّونه كافراً، فعلى الإمام ديتُه مِن بيتِ المالِ، لأن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يَدِىَ اليمانَ أبا حُذيفة، فامتنع حُذيفَةُ من أخذ الدية، وتصدَّقَ بها على المسلمين.
فصل: فى ذكر بعضِ الحكم والغايات المحمودة التى كانت فى وقعة أُحُد
وقد أشار اللهُ سبحانه وتعالى إلى أُمهاتِها وأُصولها فى سورة "آل عمران" حيث افتتح القصة بقوله: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] إلى تمام ستين آية.
فمنها: تعريفُهم سوءَ عاقبة المعصية، والفَشَل، والتنازُعِ، وأن الذى أصابَهم إنما هو بِشُؤمِ ذلِكَ، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ، حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وتَنَازَعْتُمْ فِى الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ، مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ،
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران: 152].
فلما ذاقُوا عاقبةَ معصيتهِم للرسول، وتنازعهم، وفشلهم، كانُوا بعد ذلك أشدَّ حذراً ويقظة، وتحرُّزاً مِن أسبابِ الخِذلان.
ومنها: أن حِكمة الله وسُنَّته فى رُسله، وأتباعِهم، جرت بأن يُدَالوا مَرَّةً، ويُدَالَ عليهم أُخرى، لكن تكونُ لهم العاقبةُُ، فإنهم لو انتصرُوا دائماً، دخلَ معهم المؤمنون وغيرُهم، ولم يتميَّز الصَّادِقُ مِن غيره، ولو انتُصِرَ عليهم دائماً، لم يحصل المقصودُ من البعثة والرسالة، فاقتضت حِكمة الله أن جمع لهم بينَ الأمرين ليتميز مَن يتبعُهم ويُطيعهُم للحق، وما جاؤوا به ممن يتبعُهم على الظهور والغلبة خاصة.
ومنها: أن هذا مِن أعلام الرسل، كما قال هِرَقْلُ لأبى سفيان: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ قال: نعم. قَالَ: كَيْفَ الحَرْبُ بَيْنَكُم وبَيْنَه ؟ قالَ: سِجَال، يُدالُ علينا المرة، ونُدالُ عليه الأخرى. قال: كَذلِكَ الرُّسُل تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَة.
ومنها: أن يتميَّز المؤمنُ الصَّادِقُ مِن المنافقِ الكاذبِ، فإنَّ المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يومَ بدر، وطار لهم الصِّيتُ، دخل معهم فى الإسلام ظاهراً مَنْ ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حِكمةُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ أن سَبَّبَ لعباده مِحْنَةً ميَّزت بين المؤمن والمنافق، فأَطْلَعَ المنافقون رُؤوسَهم فى هذه الغزوة، وتكلَّموا بما كانوا يكتُمونه، وظهرت مُخَبَّآتُهم، وعاد تلويحُهم تصريحاً، وانقسم الناسُ إلى كافر، ومؤمن، ومنافق، انقساماً ظاهراً، وعَرَفَ المؤمنون أن لهم عدواً فى نفس دُورهم، وهم معهم لا يُفارقونهم، فاستعدُّوا لهم، وتحرَّزوا منهم. قال تعالى: {مَا
كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 179]. أى: ما كان اللهُ ليذركم على ما أنتم عليه من التباسِ المؤمنين بالمنافقين، حتى يميزَ أهلَ الإيمانِ مِن أهل النفاق، كما ميَّزهم بالمحنة يومَ أُحُد، وما كان الله لِيُطلعكم على الغيب الذى يَمِيزُ به بينَ هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميِّزون فى غيبه وعلمه، وهو سبحانه يُريد أن يميزهم تمييزاً مشهوداً، فيقع معلومهُ الذى هو غيبٌ شهادةً. وقوله: {وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 179] استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب، سوى الرسلِ، فإنه يُطلعهم على ما يشاء مِن غيبه، كما قال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26-27] فحظكم أنتم وسعادتكم فى الإيمان بالغيبِ الذى يُطْلِعُ عليه رسله، فإن آمنتم به وأيقنتم، فلكم أعظمُ الأجر والكرامة.
ومنها: استخراجُ عبوديةِ أوليائه وحزبِه فى السَّراء والضرَّاء، وفيما يُحبُّون وما يكرهون، وفى حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتُوا على الطاعة والعبودية فيما يُحبون وما يكرهون، فهم عبيدهُ حقاً، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد مِن السَّراء والنعمة والعافية.
ومنها: أنه سبحانه لو نصرهم دائماً، وأظفرهم بعدوِّهم فى كُلِّ موطن، وجعل لهم التَّمْكِينَ والقهرَ لأعدائهم أبداً، لطغتْ نفوسُهم، وشمخت وارتفعت، فلو بسط لهم النصرَ والظفرَ، لكانُوا فى الحال التى يكونون فيها لو بَسَطَ لهم الرِّزْقَ، فلا يُصْلِحُ عِباده إلا السَّراءُ والضَّراءُ، والشدةُ والرخاءُ، والقبضُ والبسطُ، فهو المدبِّرُ لأمر عباده كما يليقُ
بحكمته، إنه بهم خبير بصير.
ومنها: أنه إذا امتحنهم بالغَلَبَةِ، والكَسْرَةِ، والهزيمة، ذلُّوا وانكسَروا، وخضعُوا، فاستوجبوا منه العِزَّ والنَّصْرَ، فإن خِلعة النصر إنما تكونُ مع ولاية الذُّلِّ والانكسارِ، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]، وقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُم شَيْئاً} [التوبة: 25]، فهو سبحانه إذا أراد أن يُعِزَّ عبدَه، ويجبُرَه، وينصُرَه، كسره أوَّلاً، ويكونُ جبرُه له ونصره، على مِقدار ذُلِّه وانكساره.
ومنها: أنه سبحانه هيَّأ لعباده المؤمنين منازِلَ فى دار كرامته، لم تبلُغْها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنةِ، فقيَّض لهم الأسبابَ التى تُوصِلُهُم إليها من ابتلائه وامتحانه، كما وفقهم للأعمال الصالحة التى هى من جملة أسباب وصولهم إليها.
ومنها: أن النفوسَ تكتسِبُ من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً ورُكوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يَعُوقُها عن جِدِّها فى سيرها إلى الله والدارِ الآخرة، فإذا أراد بها ربُّهَا ومالِكُهَا وراحِمُهَا كرامته، قيَّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقى العليلَ الدواءَ الكريه، ويقطع منه العروقَ المؤلمةَ لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه، لَغَلَبَتْهُ الأدواءُ حتى يكون فيها هلاكه.
ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقرَّبون من عباده، وليس بعد درجة الصِّدِّيقيَّة إلا الشهادةُ، وهو سبحانه يُحب أن يتّخِذَ مِن عباده شهداءَ، تُراقُ دماؤهم فى محبته ومرضاته، ويُؤْثرونَ
رضاه ومحابَّه على نفوسهم، ولا سبيلَ إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو.
ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم، وطغيانهم، ومبالغتهم في أذي أوليائه، ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك فى قوله: { وَلا تَهِنُواْ وَلا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ، وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ ولِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139-141]، فجمع لهم فى هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم، وإحياء عزائمهم وهِممهم، وبينَ حُسنِ التسلية، وذكر الحِكمِ الباهِرَة التى اقتضت إدالة الكفار عليهم فقال: {إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140]، فقد استويتُم فى القرح والألَمِ، وتباينتم فى الرجاء والثواب، كما قال: {إِن تَكُونُواْ تَأَلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَألَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104]، فما بالكم تَهِنُونَ وتضعُفُون عند القرحِ والألم، فقد أصابهم ذلك فى سبيلِ الشيطان، وأنتم أُصِبتم فى سبيلى وابتغاء مرضاتى.
ثم أخبرَ أنه يُدَاوِلُ أيامَ هذه الحياة الدنيا بين الناسِ، وأنها عَرَضٌ حاضِر، يقسمها دُوَلاً بين أوليائه وأعدائِهِ بخلاف الآخِرةِ، فإن عزَّها ونصرَها ورجاءَها خالصٌ للذين آمنُوا.
ثم ذكر حِكمة أُخرى، وهى أن يتميَّزَ المؤمنون من المنافقين، فيعلمُهم عِلْمَ رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومِين فى غيبه، وذلك العلم الغيبى لا يترتَّب عليه ثوابٌ ولا عقاب، وإنمَّا يترتب الثوابُ والعقابُ على المعلوم إذا صار مشاهداً واقعاً فى الحسِ.
ثم ذكر حكمة أُخرى، وهى اتخاذُه سبحانه منهم شهداء، فإنه يُحبُّ الشهداء من عباده، وقد أعَدَّ لهم أعلى المنازل وأفضلَها، وقد اتخذهم لنفسه، فلا بدَّ أن يُنِيلَهم درجة الشهادة.
وقوله: {واَللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57]، تنبيه لطيفٌ الموقِع جداً على كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخَذَلُوا عن نبيه يومَ أُحُد، فلم يشهدوه، ولم يَتَّخِذْ منهم شهداء، لأنه لم يُحبهم، فأركَسَهم وردَّهُم لِيَحْرِمَهُم ما خصَّ به المؤمنين فى ذلكَ اليوم، وما أعطاهُ مَن استُشهِدَ منهم، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التى وفق لها أولياءَهُ وحِزبه.
ثم ذكر حِِكمة أُخرى فيما أصابهم ذلك اليوم، وهو تمحيص الذين آمنوا، وهو تنقيتُهم وتخليصُهم من الذنوب، ومن آفاتِ النفوس، وأيضاً فإنه خلَّصهم ومحَّصهم من المنافقين، فتَمَيَّزوا منهم، فحصل لهم تمحيصان: تمحيص من نفوسهم، وتمحيص ممن كان يُظهِرُ أنه منهم، وهو عدوُّهم.
ثم ذكر حكمة أخرى، وهى محقُّ الكافرين بطغيانهم، وبغيهم، وعُدوانهم، ثم أنكر عليهم حُسبانَهم، وظنَّهُم أن يدخلُوا الجنَّة بدون الجهاد فى سبيله، والصبرِ على أذى أعدائه، وإن هذا ممتنع بحيثُ يُنْكَرُ على مَن ظنه وحَسِبَه.
فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، أى: ولما يَقَعْ ذلِكَ منكم، فيعلمه، فإنه لو وقع، لعلمه، فجازاكم عليه
بالجنة، فيكونَ الجزاء على الواقع المعلوم، لا على مجرد العلم، فإن الله لا يجزى العبدَ على مجرد علمه فيه دون أن يقعَ معلومُه، ثم وبَّخهم على هزيمتهم مِن أمر كانوا يتمنَّونه ويودُّون لِقاءه.
فقال: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143].
قال ابن عباس: ولما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة، رغبوا فى الشهادة، فتمنوا قتالاً يستشهِدُونَ فيه، فيلحقُونَ إخوانَهم، فأراهم الله ذلك يوم أُحُد، وسبّبه لهم، فلم يَلْبَثُوا أن انهزموا إلا مَن شاء الله منهم، فأنزل الله تعالى: {ولَقَدْ كُنْتُم تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143].
ومنها: أن وقعةَ أُحُدٍ كانت مُقَدِّمَةً وإرهاصاً بين يدى موتِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فثبَّتهم، ووبَّخهم على انقلابهم على أعقابهم أَنْ ماتَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو قُتِلَ، بل الواجبُ له عليهم أن يثبتُوا على دِينه وتوحِيدهِ ويموتوا عليه، أو يُقتلُوا، فإنهم إنما يعبدُون ربَّ محمد، وهو حىٌ لا يموت، فلو ماتَ محمد أو قُتِلَ، لا ينبغى لهم أن يَصْرِفَهم ذلِكَ عن دينه، وما جاء به، فكلُّ نفسٍ ذائِقةُ الموت، وما بُعِثَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيخلَّد لا هُوَ ولا هُم، بل لِيمُوتُوا على الإسلامِ والتَّوحيدِ، فإن الموت لا بُدَّ منه، سواء ماتَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بَقِىَ، ولهذا وبَّخَهُم على رجوع مَن رجع منهم عن دينه لما صرخ الشَّيْطَانُ: إنَّ محمداً قد قُتِلَ، فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإن مَّاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، والشاكرون: هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قُتِلُوا، فظهر أثرُ هذا العِتَابِ، وحكمُ هذا الخطاب
يومَ مات رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وارتدَّ مَن ارتدَّ على عقبيه، وثبت الشاكِرُون على دينهم، فنصرهم الله وأعزَّهم وظفَّرهم بأعدائهم، وجعل العاقبة لهم،
ثم أخبر سبحانه أنه جعل لكل نفس أجلاً لا بُدَّ أن تستوفيه، ثم تلحَقَ به، فيَرِدُ الناسُ كُلُّهم حوضَ المنايا مَوْرِداً واحِداً، وإن تنوَّعت أسبابه، ويصدُرونَ عن موقف القِيامة مصادِرَ شتَّى، فريقٌ فى الجنة وفريقٌ فى السعير،
ثم أخبر سبحانه أن جماعةً كثيرةً من أنبيائه قُتِلُوا وقُتِلَ معهم أتباعٌ لهم كثيرون، فما وَهَنَ مَنْ بقىَ منهم لِما أصابهم فى سبيله، وما ضَعُفُوا، وما استكانُوا، وما وَهَنُوا عندَ القتل، ولا ضعفُوا، ولا استكانوا، بل تَلَقَّوا الشهادةَ بالقُوَّةِ، والعزِيمةِ، والإقْدَامِ، فلم يُسْتَشْهَدُوا مُدَبِرِينَ مستكينين أذلةً، بل استُشْهِدُوا أعزَّةً كِراماً مقبلينَ غير مدبرين، والصحيح: أن الآية تتناول الفريقين كليهما.
ثم أخبر سُبحانه عما استنصرت به الأنبياءُ وأُممهم على قومهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم وسؤالهم ربهم، أن يُثَبِّت أقدامَهم، وأن ينصُرَهم على أعدائهم فقال: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ، وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} [آل عمران: 147-148]. لما علم القومُ أن العدو إنما يُدَالُ عليهم بذنوبهم، وأن الشيطانَ إنما يستزِلُّهم ويهزِمُهم بها، وأنها نوعان: تقصيرٌ فى حق أو تجاوزٌ لحد، وأن النصرةَ منوطة بالطاعة، قالُوا: ربنا اغفِرْ لنا ذنوبَنا وإسرافَنَا فى أمرنا، ثم عَلِمُوا أن ربَّهم تبارك وتعالى إن لم يُثبِّتْ أقدامَهم ويَنْصُرْهم، لم يَقْدِرُوا هُم على تثبيتِ أقدامِ أنفسهم، ونصرها على أعدائهم، فسألوه ما يعلمون أنَّهُ بيده دُونهم، وأنه إن لم يُثبِّتْ أقدامَهم وينصرهم
لم يثبتُوا ولم ينتصِرُوا، فَوَفَّوا المقَامَيْنِ حقَّهما: مقامَ المقتضى، وهو التوحيد والالتجاء إليه سبحانه، ومقامَ إزالةِ المانع من النصرة، وهو الذنوبُ والإسرافُ، ثم حذَّرهم سبحانه مِن طاعة عدوِّهم، وأخبر أنَّهم إن أطاعوهم خَسِرُوا الدنيا والآخِرَة، وفى ذلك تعريضٌ بالمنافقينَ الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفِروا يومَ أُحُد.
ثم أخبر سبحانه أنه مولى المؤمنين، وهو خير الناصرين، فمَن والاه فهو المنصور.
ثم أخبرهم أنه سيُلقى فى قلوب أعدائهم الرعب الذى يمنعهم من الهُجُومِ عليهم، والإقدام على حربهم، وأنَّه يُؤيِّد حزبَه بجند مِن الرعب ينتصِرونَ به على أعدائهم، وذلك الرعبُ بسبب ما فى قلوبهم مِن الشركِ باللهِ، وعلى قدرِ الشركِ يكون الرعبُ، فالمشركُ باللهِ أشدُّ شىءٍ خوفاً ورُعباً، والذين آمنوا ولم يَلْبِسُوا إيمانَهم بالشِّرْكِ، لهم الأمنُ والهُدى والفلاحُ، والمشركُ له الخوفُ والضلالُ والشقاءُ.
ثم أخبرهم أنه صَدَقَهُمْ وعدَه فى نُصرتهم على عدوهم، وهو الصادقُ الوعد، وأنهم لو استمرُّوا على الطاعةِ، ولزوم أمر الرسول لاستمرَّت نُصرتهم، ولكن انخلعوا عن الطاعة، وفارقُوا مركزهم، فانخلعوا عن عصمة الطاعة، ففارقتهم النصْرَةُ، فصرفهم عن عدوهم عقوبةً وابتلاءً، وتعريفاً لهم بسوء عواقِب المعصيةِ، وحُسنِ عاقبة الطاعة.
ثم أخبر أنه عَفَا عنهم بعد ذلك كُلِّه، وأنه ذو فضلٍ على عباده المؤمنين. قيل للحسن: كيف يعفو عنهم، وقد سلَّط عليهم أعداءَهم حتى قتلُوا منهم مَن قتلوا، ومثَّلُوا بهم، ونالُوا منهم مَا نالوه ؟ فقال: لولا عفوُه عنهم، لاستأصلَهم، ولكن بعفوه عنهم دَفَعَ عنهم عدوَّهم بعد أن كانوا مُجمعين على استئصالهم.
ثمَّ ذكَّرهم بحالهم وقتَ الفرارِ مُصعدينَ، أى: جادِّين فى الهربِ والذهاب فى الأرضِ، أو صاعدين فى الجبلِ لا يَلْوونَ على أحدٍ من نبيهم ولا أصحابهم، والرسولُ يدعوهم فى أُخراهم: "إلىَّ عِبَادَ اللهِ، أَنَا رسُولُ اللهِ"، فأثابهم بهذا الهرب والفرارِ، غمَّاً بعدَ غَمٍّ: غمَّ الهزيمة والكسرةِ، وغمَّ صرخةِ الشيطان فيهم بأن محمداً قد قُتل.
وقيل: جازاكم غمَّاً بما غممتُم رسولَه بفراركم عنه، وأسلمتمُوه إلى عدوِّهِ، فالغمُّ الذى حصل لكم جزاءً على الغمِّ الذى أوقعتموه بنبيه، والقولُ الأولُ أظهر لوجوه:
أحدها: أن قوله: {لِكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلى مَا فَاتَكُم وَلا مَا أَصَابَكُمْ} [آل عمران: 153] تنبيهٌ على حِكمة هذا الغم بعدَ الغمِّ، وهو أن يُنسيَهم الحزنَ على ما فاتهم مِن الظفر، وعلى ما أصابهم مِن الهزيمةِ والجِراحِ، فنسُوا بذلك السبب، وهذا إنما يحصُل بالغمِّ الذى يعقُبُه غمٌ آخر.
الثانى: أنه مطابق للواقع، فإنَّه حَصَلَ لهم غمُّ فواتِ الغنيمة، ثم أعقبه غمُّ الهزيمةِ، ثم غمُّ الجراح التى أصابتهم، ثم غَمُّ القتلِ، ثم غَمُّ سماعِهم أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قُتِلَ، ثم غَمُّ ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم، وليس المراد غمَّين اثنين خاصة، بل غمَّاً متتابعاً لتمام الابتلاء والامتحان.
الثالث: أن قوله: {بِغَمٍّ} [آل عمران: 153]، من تمام الثوابِ، لا أنه سببُ جزاء الثواب، والمعنى: أثابكم غمَّاً متَّصِلاً بغمٍّ، جزاءً على ما وقع منهم من الهروب وإسلامهم نبيَّهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وترك استجابتهم له وهو يدعوهم، ومخالفتهم له فى لزومِ مركزهم، وتنازعهِم فى الأمر، وفشلهم، وكُلُّ واحد من هذه الأمور يُوجب غمَّاً يخصُّه، فترادفت عليهم الغمومُ كما ترادفت
منهم أسبابُها وموجباتُها، ولولا أن تداركهم بعفوِه، لكان أمراً آخَرَ.
وَمِن لطفه بهم، ورأفته، ورحمته، أن هذه الأمور التى صدرت منهم، كانت من موجبات الطباع، وهى من بقايا النفوس التى تمنع من النصرة المستقرة، فقيَّض لهم بلطفه أسباباً أخرجها من القوة إلى الفعل، فترتَّب عليها آثارُها المكروهة، فعلموا حينئذ أن التوبةَ منها والاحترازَ مِن أمثالها، ودفعها بأضدادها أمرٌ متعيَّنٌ، لا يتم لهم الفلاحُ والنصرةُ الدائمة المستقرة إلا به، فكانوا أشدَّ حذراً بعدها، ومعرفة بالأبوابِ التى دخل عليهم منها.
ورُبَّمَا صَحَّتِ الأَجْسَامُ بِالعِلَلِ
ثم إنه تداركهم سُبحانه برحمته، وخفَّف عنهم ذلك الغَمَّ، وغيَّبه عنهم بالنُّعاسِ الذى أنزله عليهم أمناً منه ورحمة، والنعاسُ فى الحرب علامةُ النصرة والأمنِ، كما أنزله عليهم يومَ بدر، وأخبر أن مَن لم يُصبْه ذلك النعاسُ، فهو ممن أهمته نفسُه لا دِينُه ولا نبيُّه ولا أصحابُه، وأنهم يظنون باللهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ الجاهلية.
وقد فُسِّرَ هذا الظنُّ الذى لا يليقُ باللهِ، بأنه سبحانه لا ينصُرُ رسولَه، وأن أمْرَهُ سيضمحِلُّ، وأنه يُسلِمُه للقتل، وقد فُسِّرَ بظنهم أن ما أصابَهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حِكمة له فيه، ففسر بإنكارِ الحِكمة، وإنكارِ القدر، وإنكارِ أن يُتمَّ أمرَ رسوله ويُظْهِرَه على الدِّين كُلِّه، وهذا هو ظنُّ السَّوْءِ الذى ظَنَّهُ المنافقُونَ والمشرِكُونَ به سبحانه وتعالى فى "سورة الفتح" حيث يقول: { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينََ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ، عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ، وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ، وَسَاءَتْ مَصِيراً}[ الفتح:5]،
وإنما كان هذا ظنَّ السَّوْءِ، وظنَّ الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل، وظنَّ غير الحق، لأنه ظنَّ غير ما يليق بأسمائه الحسنى، وصفاتِهِ العُليا، وذاتِه المبَّرأة من كُلِّ عيبٍ وسوء، بخلافِ ما يليقُ يحكمته وحمدِه، وتفرُّدِهِ بالربوبية والإلهيَّة، وما يَليق بوعده الصادِق الذى لا يُخلفُهُ، وبكلمته التى سبقت لرسله أنه ينصُرُهم ولا يخذُلُهم، ولجنده بأنهم هُمُ الغالبون، فمَن ظنَّ بأنه لا ينصرُ رسولَه، ولا يُتِمُّ أمرَه، ولا يؤيِّده، ويؤيدُ حزبه، ويُعليهم، ويُظفرهم بأعدائه، ويُظهرهم عليهم، وأنه لا ينصرُ دينه وكتابه، وأنه يُديل الشركَ على التوحيدِ، والباطلَ على الحقِّ إدالة مستقرة يضمحِلّ معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً، فقد ظنَّ بالله ظن السَّوْءِ، ونسبه إلى خلاف ما يليقُ بكماله وجلاله، وصفاته ونعوته، فإنَّ حمدَه وعزًَّته، وحِكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يَذِلَّ حزبُه وجندُه، وأن تكون النصرةُ المستقرة، والظفرُ الدائم لأعدائه المشركين به، العادلين به، فَمن ظنَّ به ذلك، فما عرفه، ولا عرف أسماءَه، ولا عرف صفاتِه وكماله، وكذلك مَن أنكر أن يكونَ ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه، ولا عرف ربوبيَته، وملكه وعظمتَه، وكذلك مَن أنكر أن يكون قدَّر ما قدَّره من ذلك وغيره لِحكمة بالغة، وغاية محمودة يستحقُّ الحمدَ عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردةٍ عن حكمة، وغايةٍ مطلوبة هى أحبُّ إليه من فوتها، وأن تلك الأسبابَ المكروهةَ المفضية إليها لا يخرج تقديرُها عن الحكمةِ لإفضائِهَا إلى ما يُحِبُّ، وإن كانت مكروهة له، فما قدَّرها سُدى، ولا أنشأها عبثاً، ولا خلقها باطلاً، {ذَلِكَ ظَنُّ الذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ}[ ص: 27] وأكثرُ النَّاسِ يظنون بالله غيرَ الحقِّ ظنَّ السَّوءِ فيما يختصُّ بهم وفيما يفعلُه بغيرهم، ولا يسلَمُ عن ذلك إلا مَن عرف الله، وعرف أسماءَه وصفاتِهِ، وعرفَ
موجبَ حمدِهِ وحكمته، فمَن قَنِطَ مِن رحمته، وأيسَ مِن رَوحه، فقد ظن به ظنَّ السَّوء.
ومَن جوَّز عليه أن يعذِّبَ أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويُسوِّى بينهم وبين أعدائه، فقد ظَنَّ به ظَنَّ السوءِ.
ومَن ظنَّ به أن يترُكَ خلقه سُدى، معطَّلينَ عن الأمر والنهى، ولا يُرسل إليهم رسله، ولا ينزِّل عليهم كتبه، بل يتركهم هَمَلاً كالأنعام، فقد ظَنَّ به ظنَّ السَّوء.
ومَن ظن أنه لن يجمع عبيدَه بعد موتِهم للثوابِ والعِقاب فى دار يُجازى المحسنَ فيها بإحسانه، والمسىءَ بإساءته، ويبيِّنُ لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهرُ للعالمين كلِّهم صدقَه وصدقَ رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظنَّ به ظن السَّوءِ.
ومن ظنَّ أنه يُضَيِّعُ عليه عملَه الصالحَ الذى عملَه خالصاً لوجهه الكريمِ على امتثال أمره، ويُبطِلَه عليه بلا سبب من العبد، أو أنه يُعاقِبُه بما لا صُنعَ فيه، ولا اختيار له، ولا قدرةَ، ولا إرادة فى حصوله، بل يُعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظنَّ به أنه يجوزُ عليه أن يؤيِّدَ أعداءَه الكاذبين عليه بالمعجزاتِ التى يؤيِّدُ بها أنبياءه ورسله، ويُجرِيها على أيديهم يُضِلُّونَ بها عباده، وأنه يحسُن منه كُلُّ شئ حتى تعذيبُ مَن أفنى عمره فى طاعته، فيخلدُه فى الجحيم أسفلَ السافلينَ، ويُنعِمُ مَن استنفد عُمُرَه فى عداوته وعداوة رسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين عنده فى الحسن سواء، ولا يُعرف امتناعُ أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق وإلا فالعقل لا يقضى بقُبح أحدهما وحُسنِ الآخر، فقد ظَنَّ به ظَنَّ السَّوْء.
ومَن ظن به أنه أخبرَ عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل، وتشبيه، وتمثيل، وترك الحقَّ، لم يُخبر به، وإنما رَمزَ إليه رموزاً بعيدة، وأشار إليه إشاراتٍ مُلْغِزةً لم يُصرِّح به، وصرَّح دائماً بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد مِن خلقه أن يُتعِبُوا أذهانَهم وقُواهم وأفكارَهم فى تحريفِ كلامه عن مواضعه، وتأويلهِ على غير تأويله، ويتطلَّبوا له وجوهَ الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التى هى بالألغاز والأحاجى أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم فى معرفة أسمائِه وصفاتِه على عقولهم وآرائهم، لا على كتابِه، بل أراد منهم أن لا يحمِلوا كلامَه على ما يعرِفُون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يُصَرِّحَ لهم بالحق الذى ينبغى التصريح به، ويُريحَهم من الألفاظ التى توقعهم فى اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلافَ طريق الهدى والبيان، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ، فإنه إن قال: إنه غيرُ قادر على التعبير عن الحقِّ باللَّفظ الصريح الذى عبَّر به هو وسلفُه، فقد ظن بقُدرته العجز، وإن قال: إنه قادِرٌ ولم يُبَيِّن، وعدَلَ عن البيان، وعن التصريح بالحقِّ إلى ما يُوهم، بل يُوقِعُ فى الباطل المحال، والاعتقاد الفاسد، فقد ظنَّ بحكمته ورحمته ظَنَّ السَّوءِ، وظنَّ أنه، هو وسلفُه عبَّروا عن الحقِّ بصريحه دُونَ الله ورسوله، وأن الهُدى والحقَّ فى كلامهم وعباراتهم. وأما كلام الله، فإنما يؤخذ مِن ظاهره التشبيه، والتمثيل، والضلال، وظاهِر كلام المتهوِّكين الحيارى، هو الهُدى والحق، وهذا من أسوإ الظن بالله، فَكُلُّ هؤلاء من الظانين بالله ظن السَّوْءِ، ومن الظانين به غير الحق ظن الجاهلية.
ومَن ظن به أن يكونَ فى ملكه ما لا يشاء ولا يَقْدِرُ على إيجاده وتكوينه، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ.
ومَن ظن به أنه كان مُعَطَّلاً مِن الأزل إلى الأبدِ عن أن يفعلَ، ولا يُوصفُ حينئذ بالقُدرة على الفعل، ثم صارَ قادراً عليه بعد أن لم يكن قادراً، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ.
ومَن ظنَّ به أنه لا يَسمع ولا يُبصِرُ، ولا يعلم الموجودات، ولا عَدد السماواتِ والأرضِ، ولا النجوم، ولا بنى آدمَ وحركاتهِم وأفعالهم، ولا يعلم شيئاً من الموجودات فى الأعيان، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ.
ومَن ظنَّ أنه لا سمعَ له، ولا بصرَ، ولا عِلم له، ولا إرادة، ولا كلامَ يقولُ به، وأنه لم يُكلِّم أحداً من الخلق، ولا يتكلَّمُ أبداً، ولا قال ولا يقولُ، ولا له أمرٌ ولا نهى يقومُ به، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ.
ومَن ظنَّ به أنه فوقَ سماواتِه على عرشه بائناً من خلقه، وأن نِسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنِسبتها إلى أسفلِ السافلين، وإلى الأمكنة التى يُرغب عن ذكرها، وأنه أسفلُ، كما أنه أعلى، فقد ظنَّ به أقبحَ الظنِّ وأسوأه.
ومَن ظنَّ به أنه يُحِبُّ الكفر، والفسوقَ، والعِصيانَ، ويحبُّ الفسادَ كما يُحبُّ الإيمان، والبر، والطاعة، والإصلاح، فقد ظنَّ به ظن السَّوْءِ.
ومَن ظنَّ به أنه لا يُحبُّ ولا يَرضى، ولا يَغضب ولا يَسخط، ولا يُوالى ولا يُعادى، ولا يقرب من أحد من خلقه، ولا يقرُب منه أحد، وأن ذواتِ الشياطين فى القُرب مِن ذاته كذوات الملائكة المقرَّبين وأوليائه
المفلحين، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ.
ومَن ظنَّ أنه يُسوى بين المتضادَّيْن، أو يفرِّق بين المتساويين من كل وجه، أو يُحْبِطُ طاعاتِ العمر المديد الخالصةَ الصوابَ بكبيرة واحدة تكون بعدها، فيخلد فاعل تلك الطاعات فى النار أبدَ الآبدين بتلك الكبيرة، ويُحبطُ بها جميع طاعاته ويُخَلِّدُه فى العذاب، كما يخلد مَن لا يؤمن به طرفة عين، وقد استنفد ساعاتِ عمره فى مساخِطه ومعاداة رسله ودينه، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ.
وبالجملة.. فمَن ظنَّ به خِلاَفَ ما وصف به نَفسه ووصفه به رسله، أو عطَّل حقائقَ ما وصف به نفسه، ووصفته به رُسله، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ.
ومَن ظن أن له ولدَاً، أو شريكاً أو أن أحدَاً يشفعُ عنده بدون إذنه، أو أن بينَه وبين خلقه وسائطَ يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نَصَبَ لعباده أولياء مِن دونه يتقرَّبون بهم إليه، ويتوسلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيدعونهم، ويحبونهم كحبه، ويخافونهم ويرجونهم، فقد ظنَّ به أقبحَ الظن وأسوأه.
ومَن ظن به أنه ينالُ ما عنده بمعصيته ومخالفته، كما يناله بطاعته والتقربِ إليه، فقد ظنَّ به خلافَ حِكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته، وهو من ظن السَّوْءِ.
ومَن ظنَّ به أنه إذا ترك لأجله شيئاً لم يُعوِّضه خيراً منه، أو مَن فعل لأجله شيئاً لم يُعطه أفضلَ منه، فقد ظنَّ به ظن السَّوْءِ.
ومَن ظنَّ به أنه يغضبُ على عبده، ويُعاقبه ويحرمه بغير جُرم، ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة، ومحض الإرادة، فقد ظنَّ به ظن السَّوْءِ.
ومن ظنَّ به أنه إذا صدقه فى الرغبة والرهبة، وتضرَّع إليه، وسأله، واستعان به، وتوكَّل عليه أنه يُخيِّبُه ولا يُعطيه ما سأله، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوءِ، وظنَّ به خلافَ ما هو أهلُه.
ومن ظنَّ به أنهُ يُثيبه إذا عصاه بما يُثيبه به إذا أطاعه، وسأله ذلك فى دعائه، فقد ظنَّ به خلافَ ما تقتضيه حِكمتُه وحمده، وخلافَ ما هو أهلُه وما لا يفعله.
ومن ظن به أنه إذا أغضبه، وأسخطه، وأوضع فى معاصيه، ثم اتخذ من دونه ولياً، ودعا مِن دونه مَلَكاً أو بَشَراً حَياً، أو ميتاً يرجُو بذلك أن ينفَعَه عند ربِّه، ويُخَلِّصَه مِن عذابه، فقد ظنَّ به ظَنَّ السَّوْءِ، وذلك زيادة فى بُعْدِه من الله، وفى عذابه.
ومَن ظنَّ به أنه يُسلِّطُ على رسولِهِ محمّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعداءَهُ تسليطاً مستَقِرّاً دائماً فى حياته وفى مماته، وابتلاه بهم لا يُفارقونه، فلما مات استبدُّوا بالأمر دون وَصِيَّه، وظلمُوا أهلَ بيتِهِ، وسلبُوهم حقَّهُم، وأذلُّوهم، وكانت العزَّةُ والغلبةُ والقهرُ لأعدائِه وأعدائِهم دائماً مِن غير جرم ولا ذنب لأوليائه، وأهل الحق، وهو يرى قهرَهم لهم، وغصبهم إياهم حقَّهم، وتبديلَهم دِينَ نبيهم، وهو يقدر على نُصرة أوليائه وحزبه وجنده، ولا ينصُرُهم ولا يُديلهم، بل يُديل أعداءهم عليهم أبداً، أو أنَّه لا يقدِرُ على ذلكَ، بل حصل هذا بغير قُدرته ولا مشيئته، ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه فى حفرته، تُسَلِّمُ أُمتُه عليه وعليهم كل وقت كما تظنه الرافضةُ، فقد ظنَّ به أقبحَ الظنِّ وأسوأه، سواءً قالوا: إنه قادرٌ على أن ينصرَهم، ويجعل لهم الدولةَ والظفرَ، أو أنه غيرُ قادر على ذلك، فهم قادِحون فى قُدرته، أو فى حِكمته وحمده، وذلك مِن ظنِّ السَّوْءِ به، ولا ريب أن الربَّ
الذى فعل هذا بغيضٌ إلى مَن ظ نَّ به ذلك غير محمود عندهم، وكان الواجبُ أن يفعل خلافَ ذلك، لكن رَفَوْا هذا الظنَّ الفاسِدَ بخرق أعظمَ منه، واستجاروا من الرَّمضاءِ بالنار، فقالوا: لم يكن هذا بمشيئة الله، ولا له قدرةٌ على دفعه ونصر أوليائه، فإنه لا يَقْدِرُ على أفعال عباده، ولا هى داخلةٌ تحت قدرته، فظنُّوا به ظَنَّ إخوانهم المجوس والثَّنَوِيةِ بربهم، وكلٌ مبطل، وكافر، ومبتدِع مقهور مستذل، فهو يظن بربه هذا الظن، وأنه أولى بالنصر والظفر، والعلو من خصومه، فأكثر الخلق، بل كلهم إلا مَن شاء الله يظنون باللهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ السَّوْءِ، فإن غالبَ بنى آدم يعتقد أنه مبخوسُ الحق، ناقصُ الحظ وأنه يستحق فوقَ ما أعطاهُ اللهُ، ولِسان حاله يقول: ظلمنى ربِّى، ومنعنى ما أستحقُه، ونفسُه تشهدُ عليه بذلك، وهو بلسانه يُنكره ولا يتجاسرُ على التصريح به، ومَن فتَّش نفسَه، وتغلغل فى معرفة دفائِنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامِناً كُمونَ النار فى الزِّناد، فاقدح زنادَ مَن شئت يُنبئك شَرَارُه عما فى زِناده، ولو فتَّشت مَن فتشته، لرأيت عنده تعتُّباً على القدر وملامة له، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغى أن يكون كذا وكذا، فمستقِلٌ ومستكثِر، وفَتِّشْ نفسَك هل أنت سالم مِن ذلك ؟
فَإنْ تَنجُ مِنْهَا تنج مِنْ ذِى عَظِيمَةٍ ... وَإلاَّ فَإنِّى لاَ إخَالُكَ نَاجِيَاً
فليعتنِ اللبيبُ الناصحُ لنفسه بهذا الموضعِ، وليتُبْ إلى الله تعالى وليستغفِرْه كلَّ وقت من ظنه بربه ظن السَّوْءِ، وليظنَّ السَّوْءَ بنفسه التى هى مأوى كل سوء، ومنبعُ كل شر، المركَّبة على الجهل والظلم، فهى أولى بظن السَّوْءِ من أحكم الحاكمين، وأعدلِ العادلين، وأرحمِ
الراحمين، الغنىِّ الحميد، الذى له الغنى التام، والحمدُ التام، والحكمةُ التامة، المنزّهُ عن كل سوءٍ فى ذاته وصفاتِهِ، وأفعالِه وأسمائه، فذاتُه لها الكمالُ المطلقُ مِن كل وجه، وصفاتُه كذلك، وأفعالُه كذلك، كُلُّها حِكمة ومصلحة، ورحمة وعدل، وأسماؤه كُلُّها حُسْنَى.
فَلا تَظْنُنْ بِرَبِّكَ ظَنّ سَؤْءِ ... فَإنَّ اللهَ أَوْلَى بِالجَمِيلِ
وَلا تَظْنُنْ بِنَفْسِكَ قَطُّ خَيْرَاً ... وَكَيْفَ بِظَالِمٍ جَانٍ جَهُولِ
وَقُلْ يَا نَفْسُ مَأْوَى كُلِّ سُوءِ ... أَيُرجَى الخَيْرُ مِنْ مَيْتٍ بَخيلِ
وظُنَّ بِنَفّسِكَ السُّوآى تَجِدْهَا ... كَذَاكَ وخَيْرُهَا كَالمُسْتَحِيلِ
وَمَا بِكَ مِنْ تُقىً فِيهَا وَخَيْرٍ ... فَتِلْكَ مَوَاهِبُ الرَّبِّ الجَلِيلِ
وَلَيْسَ بِهَا وَلاَ مِنْهَا وَلَكِنْ ... مِنَ الرَّحْمن فَاشْكُرْ لِلدَّلِيلِ
والمقصود ما ساقنا إلى هذا الكلام مِن قوله: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}[ آل عمران:125]، ثم أخبر عن الكلام الذى صدَر عن ظنهم الباطل، وهو قولهم: {هَل لَّنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَىْءٍ}[ آل عمران:154]، وقولهم : {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا}[ آل عمران:154]، فليس مقصودُهم بالكلمةِ الأولى والثانية إثباتَ القدر، ورد الأمرِ كُلِّه إلى الله، ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى، لما ذُمُّوا عليه، ولما حَسُنَ الردُّ عليه بقوله: {قُلْ إنَّ الأمْرَ كُلَّهُ للهِ}[ آل عمران:154]، ولا كان مصدرُ هذا الكلام ظَنَّ الجاهلية، ولهذا قال غيرُ واحد من المفسِّرين: إن ظنَّهم الباطل هاهنا: هو التكذيب بالقدر، وظنهم أن الأمرَ لو كان إليهم، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه تبعاً لهم يسمعُون منهم، لما أصابهم القتلُ، ولكان النصرُ والظفرُ لهم، فأكذبهم اللهُ عَزَّ وجَلَّ فى هذا الظنِّ الباطل الذى هو ظنُّ
الجاهلية، وهو الظنُّ المنسوب إلى أهل الجهل الذين يزعمون بعد نفاذِ القضاء والقدر الذى لم يكن بُدٌ من نفاذه أنهم كانوا قادرين على دفعه، وأن الأمرَ لو كان إليهم، لما نفذ القضاءُ، فأكذَبَهُم اللهُ بقوله: {قُلْ إنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ}[ آل عمران:154]، فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدرُه، وجرى به عِلمه وكتابه السابق، وما شاء اللهُ كان ولا بُدَّ، شاءَ الناسُ أم أبَوْا، وما لم يَشَأ لم يكن، شاءه الناسُ أم لم يَشاؤوه، وما جرى عليكم من الهزيمةِ والقتل، فبأمره الكونى الذى لا سبيلَ إلى دفعه، سواء أكان لكم من الأمر شئ، أو لم يكن لكم، وأنَّكُم لو كنتم فى بيوتكم، وقد كُتِبَ القتلُ على بعضكم لخرج الذين كُتِب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولا بُد، سواء أكان لهم من الأمر شئ، أو لم يكن، وهذا مِن أظهر الأشياء إبطالاً لقول القَدَرِيَّةِ النفاة، الذين يُجوِّزون أن يقع ما لا يشاؤُه اللهُ، وأن يشاء ما لا يقع.
فصل
ثم أخبر سبحانه عن حِكمة أُخرى فى هذا التقديرِ، هى ابتلاءُ ما فى صدورهم، وهو اختبار ما فيها من الإيمانِ والنفاق، فالمؤمنُ لا يزدادُ بذلك إلا إيماناً وتسليماً، والمنافقُ ومَن فى قلبه مرضٌ، لا بد أن أن يظهر ما فى قلبه على جوارحه ولسانه.
ثم ذكر حِكمة أُخرى: وهو تمحيصُ ما فى قلوب المؤمنين، وهو تخليصهُ وتنقيتُه وتهذيبه، فإن القلوبَ يُخالطها بِغلبات الطبائع، وميل النفوس، وحكمِ العادة، وتزيينِ الشيطانِ، واستيلاءِ الغفلة ما يُضادُّ ما أُودعَ فيها
من الإيمانِ والإسلام والبر والتقوى، فلو تُرِكت فى عافية دائمة مستمرة، لم تَتخَلَّص من هذه المخالطة، ولم تتمحَّص منه، فاقتضت حِكمةُ العزيزِ أن قَيَّض لها مِن المِحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده، وإلا خِيف عليه منه الفسادُ والهلاكُ، فكانت نعمتُه سبحانه عليهم بهذه الكسرة والهزيمة، وقتل مَن قُتِل منهم، تُعادِلُ نعمتَه عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم بعدوهم، فله عليهم النعمةُ التامةُ فى هذا وهذا.
ثم أخبر سبحانه وتعالى عن توَلِّى مَنْ تَولَّى من المؤمنين الصادقين فى ذلك اليوم، وأنه بسبب كسبهم وذنوبهم، فاسْتَزَلَّهُمُ الشيطان بتلك الأعمال حتى تولَّوْا، فكانت أعمالهم جنداً عليهم، ازداد بها عدوُّهم قوة، فإن الأعمال جند للعبد وجندٌ عليه، ولا بُدَّ فللعبد كلَّ وقت سَرِيَّةٌ مِن نفسه تَهْزِمُه، أو تنصره، فهو يمُدُّ عدوَّه بأعماله من حيث يظن أنه يُقاتله بها، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه، فأعمالُ العبد تسوقُهُ قسراً إلى مقتضاها مِن الخير والشر، والعبدُ لا يشعر أو يشعر ويتعامى، ففرارُ الإنسان من عدوه، وهو يُطيقه إنما هو بجُند مِن عمله، بعثه له الشيطان واستزلَّه به.
ثم أخبر سبحانه: أنه عفا عنهم، لأن هذا الفرارَ لم يكن عن نفاق ولا شكٍ، وإنما كان عارضاً، عفا الله عنه، فعادت شجاعةُ الإيمانِ وثباتُه إلى مركزها ونصابِها
ثم كرَّر عليهم سُبحانه: أن هذا الذى أصابهم إنما أُتوا فيه مِن قِبَل أنفسهم، وَبِسبب أعمالهم، فقال: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قَلْتُمْ أَنَّى هَذَا، قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ، إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165]، وذكر هذا بعينه فيما هو أعمُّ
من ذلك فى السور المكِّية فقال : {وَمَا أَصَابَكُمْ مِّن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ}[ النساء: 79]، فالحسنة والسيئة هاهنا: النعمة والمصيبةُ، فالنعمةُ مِن الله ِ مَنَّ بها عليك، والمصيبةُ إنما نشأت مِن قِبَل نفسِك وعملِك، فالأول فضلُه، والثانى عدلُه، والعبد يتقلَّب بين فضلِه وعدله، جارٍ عليه فضلُهُ، ماضٍ فيه حكمه، عدلٌ فيه قضاؤه
وختم الآية الأولى بقوله: {إنّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} بعد قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}، إعلاماً لهم بعموم قدرته مع عدله، وأنه عادلٌ قادر، وفى ذلك إثباتُ القدرِ والسببِ، فذكر السببَ، وأضافه إلى نفوسهم، وذكر عمومَ القدرة وأضافها إلى نفسه، فالأول ينفى الجَبْرَ، والثانى ينفى القولَ بإبطال القدر، فهو يشاكل قوله: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28-29].
وفى ذكر قدرته هاهنا نكتة لطيفة، وهى أن هذا الأمر بيده وتحت قدرتِهِ، وأنه هو الذى لو شاء لصرفه عنكم، فلا تطلبُوا كشفَ أمثاله من غيره، ولا تتَّكِلُوا على سواه، وَكَشَفَ هذا المعنى وأوضَحَه كُلَّ الإيضاح بقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللهً} [آل عمران:166]. وهو الإذن الكونى القدرى، لا الشرعى الدينى، كقوله فى السحر: {وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ بِإذْنِ اللهِ}[البقرة:102]
ثم أخبر عن حِكمة هذا التقدير، وهى أن يعلَمَ المؤمنين مِن المنافقين عِلمَ عَيان ورؤية يتميز فيه أحدُ الفريقين من الآخر تمييزاً ظاهراً، وكان مِن حكمة هذا التقديرِ تكلُّمُ المنافقين بما فى نفوسهم، فسمعه المؤمنون، وسمعوا ردَّ اللهِ عليهم وجوابه لهم، وعرفوا مؤدَّى النفاق وما يؤول إليه، وكيف يُحرم صاحبُه سعادةَ الدنيا
والآخرة، فيعودُ عليه بفساد الدنيا والآخرة، فللَّهِ كم من حكمة فى ضِمن هذه القِصة بالغةٍ، ونعمة على المؤمنين سابغةٍ، وكم فيها من تحذيرٍ وتخويفٍ وإرشاد وتنبيه، وتعريفٍ بأسباب الخير والشر ومآلهما وعاقبتهما
ثم عزَّى نبيه وأولياءه عمن قُتل منهم فى سبيله أحسنَ تعزية، وألطفَها وأدعَاها إلى الرضى بما قضاه لها، فقال: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً، بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[آل عمران: 169-170]، فجمع لهم إلى الحياة الدائمةِ منزلةَ القُربِ منه، وأنهم عنده، وجريان الرزق المستمر عليهم، وفرحَهم بما آتاهم من فضله، وهو فوق الرضى، بل هو كمال الرضى
واستبشارهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يَتمُّ سُرورُهم ونعيمُهم، واستبشارهم بما يُجدِّدُ لهم كُلَّ وقت مِن نعمته وكرامته، وذَكَّرهم سبحانه فى أثناء هذه المحنة بما هو مِن أعظمِ مننه ونعمه عليهم التى إن قابلوا بها كُلَّ محنة تنالهم وبلية، تلاشت فى جنب هذه المنة والنعمة، ولم يبق لها أثر البتة، وهى مِنَّتُه عليهم بإرسال رسولٍ من أنفسهم إليهم، يتلُو عليهم آياتِه، ويُزكيهم، ويُعلمهم الكتابَ والحِكمة، ويُنقذُهم مِن الضلال الذى كانُوا فيه قبل إرساله إلى الهدى، ومِن الشقاء إلى الفلاح، ومن الظُّلمة إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، فكُلُّ بليةٍ ومحنةٍ تنالُ العبد بعد حصول هذا الخيرِ العظيم له أمرٌ يسيرٌ جداً فى جنب الخير الكثير، كما ينالُ الناس بأذى المطرِ فى جنب ما يحصل لهم به من الخير، فأعلمهم أن سببَ المُصيبة من عند أنفسهم ليحذروا، وأنها بقضائه وقدره لِيوحِّدوا ويتَّكِلُوا، ولا يخافوا غيره، وأخبرهم بما لهم فيها مِن الحكم لئلا يتهموه فى قضائه وقدره،
وليتعرَّف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته، وسلاَّهم بما أعطاهم مما هو أجلُّ قدراً، وأعظمُ خطراً مما فاتهم من النصر والغنيمة، وعزَّاهم عن قتلاهم بما نالُوه من ثوابه وكرامته، لينافِسوهم فيه، ولا يحزنُوا عليهم، فله الحمدُ كما هو أهلُه، وكما ينبغى لكرم وجهه، وعزِّ جلاله.
فصل [ فى انقضاء الحرب ورجوع المشركين ]
ولما انقضت الحربُ، انكفأ المشركون، فظنَّ المسلمون أنهم قَصَدُوا المدينةَ لإحراز الذرارى والأموال، فَشَقَّ ذلك عليهم، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه: "اخْرُجْ فى آثارِ القَوْمِ فانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَاذَا يُرِيدُونَ، فَإنْ هُمْ جَنَّبُوا الخَيْلَ وامْتَطَوُا الإِبلَ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مَكَّةَ، وَإِنْ رَكِبُوا الخَيْلَ وسَاقُوا الإِبلَ فَإنَّهُمْ يُرِيدُونَ المَدِينَةَ، فوالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لِئَنْ أرادُوهَا، لأَسِيرَنَّ إلَيْهِمْ، ثُمَّ لأَنَاجِزَنَّهُم فِيهَا".
قال على: فخرجتُ فى آثارهم انظرُ ماذا يصنعون، فجنَّبوا الخيلَ، وامتطوا الإبل، ووجَّهوا إلى مكة، ولما عزمُوا على الرجوع إلى مكة، أشرف على المسلمين أبو سفيان، ثم ناداهم: مَوْعِدُكم المَوْسِمُ ببدر، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قولوا: نَعَمْ قَدْ فَعَلْنَا" قال أبو سفيان: "فَذلِكُم المًَوْعِد" ثم انصرف هو وأصحابه، فلما كان فى بعض الطريق، تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعُوا شيئاً، أصبتُم شوكتَهم وحدَّهم، ثم تركتُموهم، وقد بقى منهم رؤوس يجمعون لكم، فارجِعُوا حتى نستأصِل شأفَتَهم، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنادى فى الناس، وندبَهم إلى المسيرِ إلى لقاء عدوهم، وقال: "لاَ يَخْرُجْ مَعَنَا إلاَّ مَنْ شَهِدَ القِتَالَ"، فقال له عبد الله بن أُبَىّ: أركبُ معك ؟ قال: "لا"، فاستجاب له المسلمون على ما بِهم من القرح الشديدِ والخوفِ، وقالُوا: سمعاً وطاعةً، واستأذنه جابرُ بنُ عبد الله،
وقال: يا رَسُولَ الله؛ إنى أُحب ألاَّ تشهدَ مشهداً إلا كنتُ معك، وإنما خلَّفنى أبى على بناتِهِ، فأذَنْ لى أسيرُ معك، فأذِن له، فسارَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون معه حتى بَلَغُوا حمراء الأسد"، وأقبل معبدُ بن أبى معبد الخُزاعى إلى رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسلم، فأمره أن يلحقَ بأبى سفيان، فيخذِّله، فلحقه بالروحاء، ولم يعلم بإسلامه، فقال: ما وراءكَ يا معبدُ ؟ فقال: محمدٌ وأصحابه، قد تحرَّقوا عليكم، وخرجُوا فى جمع لم يخرجُوا فى مثله، وقد نَدِم مَن كان تخلَّف عنهم من أصحابهم، فقال: ما تقولُ ؟ فقال: ما أرى أن ترتَحِلَ حتى يطلع أولُ الجيش من وراء هذه الأَكَمَة. فقال أبو سفيان: واللهِ لقد أجمعنا الكرَّةَ عليهم لنستأصلهم. قال: فلا تفعل، فإنى لك ناصح، فرجعوا على أعقابهم إلى مكة، ولقى أبو سفيان بعضَ المشركين يريد المدينة، فقال: هل لك أن تُبَلِّغَ محمداً رسالة، وأُوقِرَ لك راحلتَكَ زبيباً إذا أتيتَ إلى مكة ؟ قال: نعم، قال: أبلغْ محمداً أنَّا قد أجمعنا الكَرَّةَ لِنَستأصِلَه ونَسْتَأْصِلَ أصحابَه، فلما بلغهم قولُه، قالُوا: {حَسْبُنَا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، واتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ، وَاللهُ ذو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.
فصل
كانت وقعة أحد يوم السبت في سابع شوال سنة ثلاث كما تقدم، فرجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، فاقام بها بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرم، فلما استهل هلال المحرم، بلغه أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعوان بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبعث أبا سلمة، وعقد له لواء، وبعث معه مائة وخمسين رجلاً من الأنصار والمهاجرين، فأصابوا إبلاً، وشاء، ولم يلقوا كيداً، فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة.
فصل
فلما كان خامِسُ المحرَّم، بلغه أنَّ خالدَ بنَ سُفيان بن نُبَيْح الهُذَلى قد جمع له الجموعَ، فبعث إليه عبدَ اللهِ أُنَيس فقتله، قال عبدُ المؤمن بن خلف: وجاءَه برأسه، فوضعه بين يديه، فأعطاه عصاً، فقال:
"هَذِهِ آيَةُ بَيْنِى وبَيْنَكَ يَوْمَ القِيَامَةِ"، فلما حضرته الوفاةُ أوصى أن تُجعل معه فى أكفانه، وكانت غيبتهُ ثمانَ عشرةَ لَيلة، وَقَدِمَ يومَ السبت لسبع بَقين مِن المحرَّم.
فلمَّا كان صفر، قًدِمَ عليه قَوْمٌ مِن عَضَلٍ والقَارةِ، وذكروا أن فيهم إسلاماً، وسألُوهُ أن يَبْعثَ معهم مَن يُعَلِّمُهم الدِّينَ، ويُقرئهُمُ القُرآن، فبعث معهم سِتَّة نَفَرٍ فى قول ابن إسحاق، وقال البخارى: كانُوا عشرة، وأَمَّر عليهم مَرْثَدَ بنَ أبى مَرْثَدٍ الغَنَوِى، وفيهم خُبيب بنُ عدى، فذهبوا معَهم، فلما كانُوا بالرَّجِيع، وهو ماءٌ لهُذَيْلٍ بناحيةِ الحِجاز غدرُوا بهم، واستصرخُوا عليهم هُذيلاً، فجاؤوا حتَّى أحاطُوا بهم، فقتلُوا عامَّتَهُم، واستأسرُوا خُبَيْبَ بْنَ عدِىٍّ، وزَيْدَ ابن الدّثِنَةِ، فذهبُوا بهما، وباعُوهما بمكة، وكانا قَتلا مِن رؤوسهم يَوْمَ بدر فأما خُبيب،
فمكث عندهم مسجوناً، ثم أجمعُوا قتله، فخرجُوا به مِن الحَرَمِ إلى التنعيم، فلما أجمعُوا على صَلبه، قال: دَعُونى حَتَّى أَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ، فتركُوهُ فصلاهما، فلمَّا سَلَّمَ قال: واللهِ، لَوْلاَ أنْ تَقُولُوا إنَّ مَا بى جَزَعٌ، لَزِدْتُ، ثُمَّ قال: "اللهُمَّ أَحْصِهمْ عَدَداً، واقْتُلْهُمْ بِدَدَاً، ولا تُبْقِ مِنْهُم أحداً،" ثم قال:
لَقَدْ أَجْمَعَ الأَحْزَابُ حَوْلى، وَأَلّبُوا ... قَبَائِلَهُم واسْتَجْمَعُوا كُلَّ مجْمَعِ
وكلُّهُمُ مبدى العداوةِ جاهدٌ ... عَلَىَّ لأنى فى وِثاقٍ بِمَضْيَعِ
وقَدْ قَرَّبُوا أَبْنَاءَهُم ونسَاءَهُم ... وقُرِّبْتُ مِنْ جِذْعٍ طوِيلٍ مُمَنَّعِ
إلَى اللهِ أَشْكُوا غُرْبَتِى بَعْدَ كُرْبَتِى ... وَمَا أَرْصَدَ الأَحْزَابُ لى عِنْدَ مَصْرَعِى
فَذَا العَرْشِ صَبِّرْنى عَلَى ما يُرادُ بى ... فَقَدْ بَضَّعُوا لحْمى وَقَد يَاسَ مَطْمَعِى
وَقَدْ خَيَّرُونى الكُفْرَ، والمَوْتُ دُونهُ ... فَقَدْ ذَرَفَتْ عَيْنَاىَ مِنْ غَيْرِ مَجْزَعِ
وَمَا بِى حِذَارُ المَوْت إنِّى لَمَيِّتٌ ... وإنَّ إلى ربِّى إيَابى ومَرْجِعى
وَلَسْتُ أُبَالِى حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِما ... عَلَى أَىِّ شِقٍّ كان فى اللهِ مَضْعَجِى
وَذلِكَ فى ذَاتِ الإلهِ وإنْ يَشأْ ... يُبارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شلْوٍ مُمَزَّعِ
فَلَسْتُ بمبدٍ للعدوِّ تَخَشُّعاً ... ولا جَزَعاً، إنى إلى الله مَرجعى
فقال له أبو سفيان: أيسرُّك أنَّ محمداً عندنا تُضْرَبُ عنقُه وإنك فى أهلك، فقال: لا واللهِ، ما يسرُّنى أنى فى أهلى، وأنَّ محمداً فى مكانهِ الَّذِى هُوَ فيه تُصيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤذِيه.
وفى "الصحيح": أن خبيباً أوَّلُ مَنْ سنَّ الركعتين عِند القتل. وقد نقل أبو عمر بن عبدِ البر، عن اللَّيثِ بن سعد، أنه بلغه عن زيدِ بن حارثة، أنه صلاهما فى قصةٍ ذكرها، وكذلك صلاهما حُجْرُ بنُ عدى حين أمر معاويةُ بقتله بأرضِ عذراء من أعمالِ دمشق.
ثم صَلبوا خُبَيْبَاً، ووكَّلوا به مَن يَحْرُسُ جُثَّته، فجاء عمرو بنُ أُمية الضَّمْرِى، فاحتمله بجذعه ليلاً، فذهب به، فدفنه.
ورؤى خُبيبٌ وهو أسيرٌ يأكل قِطْفاً مِن العِنَبِ، وما بمكة ثَمَرَةٌ، وأما زيدُ بن الدَّثِنَةِ، فابتاعه صفوانُ بنُ أُمية، فقتله بأبيه.
وأما موسى بن عقبة، فذكر سبب هذه الوقعة، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث هؤلاء الرهط يتحسَّسُون له أخبار قُريش، فاعترضهم بنو لَحيان.
فصل
وفى هذا الشهر بعينه، وهو صفر من السنة الرابعة، كانت وقعة بِئر مَعُونة، وملخَّصُها أن أبا براء عامِرَ بنَ مالك المدعو ملاعبَ الأسِنَّة، قَدِمَ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينةَ، فدعاه إلى الإسلام، فلم يُسلم، ولم
يبعد، فقال: يا رسولَ اللهِ؛ لو بعثتَ أصحابَك إلى أهلِ نَجْدٍ يدعونهُم إلى دِينك، لرجوتُ أن يُجيبُوهم. فقال: "إنى أخَافُ عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْدٍ"، فقال أبو براء: أنا جارٌ لهم، فبعث معه أربعينَ رجلاً فى قول ابن إسحاق. وفى الصحيح: "أنَّهم كانُوا سبعينَ" والذى فى الصحيح: هو الصحيح.وأمَّر عليهم المنذر بن عمرو أحد بنى ساعِدة الملقب بالمُعْنِقِ ليموت وكانوا من خِيارِ المسلمينَ، وفُضلائهم، وساداتِهم، وقرائِهم، فسارُوا حتى نزلوا بئر مَعُونة، وهى بين أرض بنى عامر، وحرَّة بنى سُليم، فنزلوا هناك، ثم بعثوا حَرامَ بنَ ملحان أخا أُمِّ سليم بكتابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عدوِّ الله عامِر بن الطفيل، فلم ينظُرْ فيه، وأمرَ رجلاً، فطعنه بالحربةِ من خلفه، فلما أنفذها فيه، ورأى الدَّمَ، قال: "فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ". ثم استَنفَرَ عدوُّ اللهِ لِفوره بنى عامر إلى قتال الباقين، فلم يُجيبُوهُ لأجل جِوار أبى بَراء، فاستنفر بنى سليم، فأجابته عُصَيَّةُ وَرِعْلٌ وذَكْوَانُ، فجاؤوا حتى أحاطُوا بأصحابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقاتلُوا حتى قُتِلُوا عن آخرهم إلا كعبََ بنَ زيدِ بن النجار، فإنه أرتُثَّ بين القتلى، فعاش حتَّى قُتِل يومَ الخندق، وكان عمرو بن أُمية الضمرى، والمنذرُ بن عقبة بن عامر فى سَرْح المسلمينَ، فرأيا الطيرَ تحومُ على موضع الوقعة، فنزل
المنذر بن محمد، فقاتلَ المشركين حتى قُتِلَ مع أصحابه، وأُسِرَ عَمرُو بن أُمية الضَّمْرِى، فلما أخبر أنه من مُضَر، جَزَّ عامِرٌ ناصيتَه، وأعتقه عن رقبة كانت على أُمِّه، ورجع عمرُو بن أمية، فلما كان بالقَرْقَرَةِ مِن صدرِ قناة نزل فى ظِلِّ شجرة، وجاء رجلان من بنى كِلاب، فنزلا معه، فلما ناما، فتكَ بهما عمرُو، وهُو يرى أنه قد أصاب ثأراً من أصحابه، وإذا معهما عهدٌ مِنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يشعُرْ به، فلما قَدِمَ، أخبرَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما فعلَ، فقال: "لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلينِ لأَدِيَنَّهُمَا".
فكان هذا سببَ غزوة بنى النضير، فإنه خرج إليهم لِيعينوه فى ديتهما لما بينه وبينهم من الحلف، فقالوا: نعم، وجلَس هو وأبو بكر وعمر وعلى، وطائفة من أصحابه، فاجتمع اليهود وتشاوروا، وقالوا: مَن رجلٌ يُلقِى على محمَّدٍ هذه الرَّحى فيقتله ؟ فانبعث أشقاها عمرو بن جِحاش لعنه الله، ونزل جبريلُ مِن عند رب العالمين على رسولِهِ يُعلمه بما همُّوا به، فنهض رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن وقته راجعاً إلى المدينة، ثم تجهَّز، وخرج بنفسه لِحربهم، فحاصرهم سِتَّ ليال، واستعمل على المدينة ابنَ أُمِّ مكتوم، وذلك فى ربيع الأول.
قال ابن حزم: وحينئذ حُرِّمَتِ الخمرُ، ونزلوا على أن لهم ما حملت إبلُهم غيرَ السلاح، ويرحلُون مِن ديارهم، فترحَّل أكابِرُهم كحُيَىّ
بن أخْطَبَ، وسلامِ بنِ أبى الحُقَيْق إلى خيبر، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، وأسلم منهم رجلانِ فقط، يامين بن عمرو، وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما، وقسم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أموالَ بنى النضير بين المهاجرينَ الأوَّلين خاصة، لأنها كانت مما لم يُوجِفِ المسلمون عليه بخيل ولا رِكاب، إلا أنه أعطى أبا دُجانة، وسهَل بنَ حُنَيْفٍ الأنصاريين لِفقرهما.
وفى هذه الغزوة، نزلت سورةُ الحشر، هذا الذى ذكرناه، هو الصحيح عند أهل المغازى والسير.
وزعم محمد بن شهاب الزهرى، أن غزوة بنى النضير كانت بعد بدرٍ بستة أشهر، وهذا وهم منه أو غلط عليه، بل الذى لا شك فيه أنها كانت بعدَ أُحُد، والتى كانت بعد بدر بستة أشهر: هى غزوة بنى قَيْنُقَاع، وقُريظة بعد الخندق، وخيبر بعد الْحُدَيْبية، وكان له مع اليهود أربعُ غزوات، أولها: غزوة بنى قَيْنُقَاع بعد بدر، والثانية: بنى النضير بعد أُحُد، والثالثة: قُريظة بعد الخندقِ، والرابعة: خيبر بعد الحُديبية.
فصل: [فى قنوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً يدعو على الَّذِين قتلوا القُرَّاءَ]
وقنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرَاً يَدْعُو عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا القُرَّاءَ أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، ثم تَركَهُ، لَمَّا جَاؤوا تَائِبِينَ مُسْلِمِينَ.
فصل: [فى غزوة ذات الرِّقاع ]
ثُمَّ غزا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه غزوةَ ذاتِ الرِّقاعِ، وهى غزوةُ نجدٍ، فخرج فى جُمادى الأولى مِن السنة الرابعة، وقيل: فى المحرَّم، يُريدُ مُحَارِبَ، وبنى ثعلبة بن سَعْدِ بن غَطَفَان، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفارىَّ، وقيل: عثمانَ بن عفان،
وخرج فى أربعمائة من أصحابه. وقيل: سبعمائة، فلقى جمعاً مِن غَطَفَان، فتواقفُوا، ولم يكن بينهم قِتال، إلا أنه صلَّى بهم يومئذ صلاَة الخوف، هكذا قال ابن إسحاق، وجماعة من أهل السير والمغازى فى تاريخ هذه الغزاة، وصلاة الخوف بها
وتلقَّاه الناسُ عنهم، وهو مُشْكِلٌ جدَاً، فإنه قد صحَّ أن المشركين حَبَسُوا رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الخَنْدَقِ عَنْ صَلاةِ العصْرِ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ.
وفى "السنن" و"مسند أحمد"، والشافعى رحمهما الله، أنَّهُم حَبَسُوهُ عن صَلاَةِ الظُّهْرِ، والعَصْرِ، والمغْرِبِ، والعَشَاء، فصلاهُنَّ جميعاً. وذلك قبلَ نزولِ صلاةِ الخوفِ، والخندقُ بعدَ ذاتِ الرِّقاع سنةَ خمس.
والظاهرُ أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول صلاة صلاها للخوف بعُسْفَان، كما قال أبو عيَّاش الزُّرَقِى: كنَّا مع النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعُسْفان، فَصَلَّى بنا الظُّهْرَ، وعَلَى المُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ خَالدُ بنُ الوَلِيدِ، فَقَالُوا: لَقَدْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ غَفْلَةً، ثُمَّ قَالُوا: إنَّ لَهُمْ صَلاةً بَعْدَ هَذِهِ هِىَ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِن أمْوَالِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، فَنَزَلَتْ صَلاةُ الخَوْفِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، فَصَلَّى بِنَا العَصْرَ، فَفَرقَنَا فِرْقَتَيْنِ... وذكر الحديث رواه أحمد وأهلُ السنن
وقال أبُو هُريرة: كَانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَازلاً بَيْنَ ضَجْنَانَ وعُسْفَانَ
مُحاصِرَاً للمُشْرِكِينَ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ: إنَّ لِهؤُلاَءِ صَلاةً هِىَ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، أَجْمِعُوا أَمْرَكُم، ثُمَّ مِيلُوا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً، فَجَاءَ جِبْرِيلُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَ أَصْحَابَه نِصْفَيْنِ.... وذكر الحديث، قال الترمذىُّ: حديثٌ حسنٌ صحيح.
ولا خِلاَفَ بينهم أن غزوةَ عُسْفَانَ كانت بعدَ الخندق، وقد صحَّ عنه أنه صلَّى صلاة الخوفِ بِذَاتِ الرِّقاع، فعُلِمَ أنها بعد الخندقِ وبعد عُسْفَان، ويؤيِّدُ هذا أنَّ أبا هُرَيرة، وأبا موسى الأشعرى شهدا ذاتَ الرِّقاع، كما فى "الصحيحين" عن أبى موسى، أنه شهد غزوة ذات الرِّقاع، وأنَّهُمْ كَانُوا يَلفُّونَ عَلَى أرْجُلِهِمُ الخِرَقَ لَمَّا نَقِبَتْ.
وأمَّا أبو هُريرَة، ففى "المسند" "والسنن" أن مروانَ بنَ الحكم سأله: هَلْ صَلَّيْتَ مَعَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاةَ الخوفِ ؟ قال: نعم، قال: متى ؟ قال: عَامَ غَزْوَةِ نَجْدٍ.
وهذا يَدُلُّ على أن غزوة ذاتِ الرِّقاع بعد خيبر، وأنَّ من جعلها قبل الخندق، فقدْ وهمَ وهماً ظاهراً، ولمَّا لَمْ يَفْطَن بعضُهم لهذا، ادَّعى أن غزوةَ ذاتِ الرِّقاع كانت مرَّتين، فمرةً قبلَ الخندق، ومرةً بعدها على عادتهم فى تعديدِ الوقائع إذا اختلفت ألفاظَهَا أو تاريخُهَا.
ولو صحَّ لهذا القائل ما ذكره، ولا يَصِحُّ، لم يمكن أن يكونَ قد صلَّى بهم صلاةَ الخوف فى المرة الأولى لما تقدم مِن قصة عُسْفَان، وكونها بعد الخندق، ولهم أن يُجيبوا عن هذا بأن تأخيرَ يومِ الخندق جائزٌ غيرُ منسوخ، وأن فى حال المسايفة يجوزُ تأخيرُ الصلاة إلى أن يتمكَّن من فعلها، وهذا أحدُ القولين فى مذهب أحمد رحمه الله وغيره، لكن لا حِيلة لهم فى قصة عُسفان أن أول صلاة صلاها للخوف بها، وأنها بعد الخندق.
فالصواب تحويل غزوةِ ذات الرِّقاع مِن هذا الموضع إلى ما بعدَ الخندق، بل بعدَ خَيبر، وإنما ذكرناها هاهنا تقليداً لأهل المغازى والسير، ثم تبيَّن لنا وهمُهم وبالله التوفيق.
ومما يدلُّ على أن غزوةَ ذاتِ الرِّقاع بعد الخندق، ما رواه مسلم فى "صحيحه" عن جابر قال: أقبلْنَا مَعَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتّى إذا كُنَّا بذات الرِّقاعِ، قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة، تركناها لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء رجل من المشركين، وسيف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَلَّقٌ بالشَّجرةِ فَأَخَذَ السَّيْفَ، فاخْتَرَطَهُ، فذكر القِصَّةَ، وقال: فُنودى بالصَّلاة، فصلَّى بطائفةٍ رَكعتينِ، ثمَّ تأخَّرُوا، وصلَّى بالطَّائِفَةِ الأُخْرَى رَكعتينِ، فكانت لِرسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرْبَعُ رَكَعَاتٍ، ولِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ.
وصلاة الخوف، إنما شُرِعَتْ بعدَ الخندقِ، بل هذا يدُلُّ على أنها
بعد عُسْفَان.. والله أعلم.
وقد ذكروا أن قصَّةَ بَيْعِ جَابِرٍ جَمَلَه مِن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت فى غزوة ذَاتِ الرِّقاع. وقيل: فى مرجعه مِن تبوك، ولكن فى إخباره للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تلك القضية، أنَّه تزوج امرأة ثيباً تقومُ على أخواتِهِ، وتكفُلهن، إشعارٌ بأنه بادر إلى ذلك بعد مقتل أبيه، ولم يؤخِّرْ إلى عام تبوك.. والله أعلم.
وفى مرجعهم مِن غزوةِ ذات الرِّقاع، سَبَوُا امرأةً من المشركين، فنذَرَ زوجُهَا ألاّ يَرْجِعَ حتَّى يُهْرِيقَ دماً فى أصحابِ محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء ليلاً، وقد أرصدَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ رَبِيئَةً لِلمسلمين مِن العدو، وهما عبَّادُ بنُ بِشر، وعمَّارُ بنُ ياسر، فضرب عباداً، وهو قائمٌ يُصلِّى بسهمٍ، فنزعه، ولم يُبطل صلاته، حتى رَشَقَه بثلاثة أسهم، فلم ينْصَرِفْ منها حَتَّى سَلَّمَ، فَأَيْقَظَ صاحِبَه فقال: سبحان الله. هلاَّ أنبهتنى ؟ فقال: إنِّى كُنْتُ فى سُورةٍ، فكرِهْتُ أن أقطَعَهَا.
وقال موسى بن عقبة فى "مغازيه": ولا يُدرى متى كانت هذه الغزوةُ قَبْلَ بدرٍ، أو بعدَهَا، أو فيما بَيْنَ بدرٍ وأُحُد أو بعد أُحُد. ولقد أبعَدَ جدّاً إذ جوَّز أن تكون قبْلَ بدرٍ، وهذا ظاهِرُ الإحالة، ولا قَبْلَ أُحُدٍ، ولا قَبْلَ الخندق كما تقدم بيانُه.
فصل
وقد تقدّم أن أبا سُفيانَ قال عِند انصرافِهِ من أُحُد: مَوْعِدُكُم وإيانا العامُ القابلُ ببدر، فلما كان شعبانُ وقيل: ذو القَعدةِ مِن العامِ القابِلِ، خرجَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِموعِده فى ألفٍ وخمسمائة، وكانتِ الخيلُ عشرةَ أفراس، وحَمَلَ لِواءَهُ علىُّ بن أبى طالب، واستخلف على المدينةِ عبدَ الله بنَ رواحة، فانتهى إلى بدر، فأقام بها ثمانيةَ أيامٍ ينتظرُ المشركين، وخرجَ أبو سفيان بالمشركين مِن مكَّةَ، وهم ألفانِ، ومعهم خمسون فرساً، فلما انْتَهَوْا إلى مَرِّ الظَّهْرَانِ على مَرْحَلَة مِنْ مكَّة قال لهم أبو سفيان: إن العامَ عامُ جَدْبٍ، وقد رأيتُ أنى أرجِعُ بكم، فانصرَفُوا راجعين، وأخلفوا الموعِدَ، فسُمِّيت هذهِ بدرَ الموعد، وتسمى بدرَ الثانية.
فصل: فى غزوة دُومَة الجندل
وهى بضم الدَّال، وأما دَومة بالفتحِ فمكانٌ آخر. خرج إليها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ربيع الأول سنة خمسٍ، وذلك أنه بلغه أن بها جمعاً كثيراً يُريدُونَ أن يَدْنُوا مِن المدينةِ، وبينها وبينَ المدينة خَمْسَ عشرةَ ليلة، وهى مِن دمشق على خمس ليال، فاستعمل علَى المَدينةِ سِبَاعَ بنَ عُرْفُطَةَ الغِفارى، وخرج فى ألفٍ من المسلمين، ومعه دليلٌ من بنى عُذرة، يقال له "مذكور"، فلما دنا مِنهم، إذا هُم مُغرِّبُونَ، وإذا آثار النعم والشاءِ
فهجَمَ على ماشيتهم ورُعاتهم، فأصابَ مَن أصابَ، وهَرَبَ مَنْ هَرَبَ، وجاء الخبرُ أهلَ دُومَة الجَنْدَلِ، فتفرَّقُوا، ونزل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَاحَتِهِم، فلم يَجِدْ فيها أحداً، فأقامَ بها أياماً، وبثَّ السرايا، وفرَّق الجيوشَ، فلم يصِبْ منهم أحدَاً، فرجَعَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، ووادع فى تلك الغزوة عُيينةَ بْنُ حصن.
فصل: فى غزوةِ المُرَيْسِيع
وكانت فى شعبانَ سنَةَ خَمسٍ، وسببُها: أنه لما بلغه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الحارث ابن أبى ضِرار سيِّدَ بنى المُصْطَلِق سار فى قومه ومن قَدَرَ عليه مِن
العرب، يُريدونَ حربَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبعثَ بُريْدَةَ بنَ الحُصيب الأسلمى يَعْلَمُ له ذلك فأتاهم، ولقى الحارث بن أبى ضِرار، وكلَّمه، ورجَعَ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبره خبرَهم، فندب رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناسَ فأسرعوا فى الخروج، وخرج معهم جماعةٌ مِن المنافقين، لم يخرُجوا فى غَزاةٍ قبلَهَا، واستعمل على المدينة زيدَ بنَ حارِثَة، وقيل: أبا ذر، وقيل: نُمَيْلَةَ بن عبد الله اللَّيثى، وخرج يومَ الإثنين لليلتين خَلتَا من شعبان، وبلغ الحارثَ بن أبى ضرار ومَنْ معه مسيرُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَتْلُه عينَه الذى كان وجَّهه لِيأتِيَه بخبرِهِ وخبرِ المسلمين، فخافُوا خوفاً شديداً، وتفرَّق عنهم مَنْ كان معهم مِن العرب، وانتهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المُرَيْسِيعِ، وهو مكانُ الماءِ، فضرب عليه قُبَّتَه، ومعه عائشةُ وأمُّ سَلَمة، فتهيؤوا لِلقتال، وصفَّ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابَه، ورايةُ المهاجِرِينَ مع أبى بكر الصِّدِّيق، ورايةُ الأنصارِ مع سعد بن عُبادة، فترامَوْا بالنَّبْلِ ساعةً، ثم أمَر رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابَه، فحملوا حملةَ رجلٍ واحد، فكانت النُّصرةُ، وانهزم المشركون، وقُتِلَ مَنْ قُتِلَ منهم، وسَبَى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النساءَ والذَّرارى، والنَّعَمَ والشَّاءَ، ولم يُقْتَلْ مِن المسلمين إلا رجلٌ واحد، هكذا قال عبدُ المؤمن ابن خلف فى "سيرته" وغيرُه، وهو وهم، فإنه لم يكن بينهم قِتال، وإنما أغارَ عليهم على الماء، فَسَبى ذَرَارِيَهم، وأموالَهم،
كما فى "الصحيح": أغارَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بَنى المُصْطَلِقِ، وهُمْ غَارُّونَ....."، وذكر الحديث.
وكان مِن جُملة السبى جُوَيْرِيَةُ بنتُ الحارث سَيِّدِ القومِ، وقعت فى سَهْم ثابتِ بنِ قيس، فكاتبها، فأدَّى عنها رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتزوَّجَها، فأعتقَ المسلمون بسبب هذا التزويج مائة أهْلِ بيتٍ من بنى المُصْطَلِق قد أسلموا، وقالُوا: أصهارُ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ابنُ سعد: وفى هذه الغزوةِ سقط عِقْدٌ لعائِشَة، فاحتبسُوا على طَلَبهِ، فنزلت آيةُ التيمم.
وذكر الطبرانى فى "معجمه" من حديث محمد بن إسحاق عن يحيى بن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة قالت: "ولمَّا كانَ مِن أَمْرِ عِقْدى ما كان، قال أهلُ الإفك ما قالُوا، فخرجتُ مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى غَزاةٍ أُخرى، فسقطَ أيضاً عِقدى حتَّى حَبَسَ التماسُه الناس، ولقيتُ مِن أبى بكر ما شاء اللهُ، وقال لى: يا بُنيَّةُ؛ فى كُلِّ سفرٍ تكونين عَناءً وبلاءً، وليس مع الناس ماء، فأنزل اللهُ الرُّخصةَ فى التيَّمُّمِ".
وهذا يدل على أن قِصة العقد التى نزل التيممُ لأجلها بعد هذه الغزوة، وهو الظاهرُ، ولكن فيها كانت قِصة الإفك بسبب فقد العقد والتماسه، فالتبسَ على بعضِهم إحدى القِصتين بالأخرى، ونحن نشير إلى قصة الإفك.
وذلك أن عائشة رضى الله عنها كانت قد خَرَجَ بها رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معه فى هذه الغَزوةِ بقُرعة أصابَتْهَا، وكانَت تِلكَ عادته مع نسائه، فلما رجعُوا مِن الغزوة، نزلُوا فى بعض المنازل، فخرجَتْ عائشةُ لِحاجتها، ثمَّ رجعت، ففقَدَتْ عِقْداً لأُختها كانت أعارتها إياه، فرجَعَتْ تلتمسُه فى الموضع الذى فَقَدَتْهُ فيه، فجاء النَّفَرُ الَّذِينَ كانُوا يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا، فظنُّوها فيه، فحملوا الهودجَ، ولا يُنكرون خِفته، لأنها رضىَ الله عنها كانت فَتِيَّةَ السِّن، لم يغشها اللَّحْمُ الذى كان يُثْقِلُهَا، وأيضاً، فإن النفرَ لما تساعدوا على حمل الهودج، لم يُنكِرُوا خِفَّته، ولو كان الذى حمله واحداً أو اثنين، لم يَخْفَ عليهما الحالُ، فرجعت عائشةُ إلى منازلهم، وقد أصابتِ العِقد، فإذا ليس بها داعٍ ولا مُجيب، فقعدت فى المنزل، وظنَّت أنهم سيفقدونها، فيرجِعُون فى طلبها، واللهُ غالِبٌ على أمرهِ، يُدبِّرُ الأمرَ فَوقَ عرشه كما يشاءُ، فغلبتها عيناهَا، فنامَتْ، فلم تستيقِظْ إلا بِقَوْل
صَفْوَانَ بنِ المُعَطِّل: إنَّا للهِ وإنَّا إليه رَاجِعُونَ، زوجةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان صفوان قد عرَّسَ فى أُخريات الجيش، لأنه كان كثيرَ النوم، كما جاء عنه فى "صحيح أبى حاتم" وفى "السنن": فلما رآها عَرفها، وكانَ يَراها قبلَ نزولِ الحِجَابِ، فاسترجع، وأناخَ راحِلَته، فقرَّبها إليهَا، فركِبَتْهَا، وما كلَّمَها كلمةً واحدة، ولم تَسْمَعْ منه إلا استرجاعَه، ثم سار بها يَقُودُهَا حتَّى قَدِمَ بها، وقد نزل الجيشُ فى نحرِ الظهيرة، فلما رأى ذلك الناسُ، تكلَّم كُلٌ منهم بِشاكِلته، وما يَليقُ به، ووجد الخبيثُ عدوُّ اللهِ ابنُ أُبىّ متنفَّساً، فتنفَّس مِن كَرْبِ النفاق والحسدِ الذى بين ضُلوعه، فجعل يَستحكى الإفكَ، ويَستوشِيه، ويُشِيعه، ويُذِيعه، ويَجمعُه، ويُفرِّقه، وكان أصحابُه يتقرَّبُونَ به إليه، فلما قَدِمُوا المدينةَ، أفاضَ أهلُ الإفكِ فى الحديثِ، ورسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساكِتٌ لا يتكلَّم ثم استشار أصحابَه فى فراقها، فأشار عليه علىٌ رضى الله عنه أن يُفارقَهَا، ويأخُذَ غيرها تلويحاً لا تصريحاً، وأشار عليه أُسامةُ وغيرُه بإمساكِها، وألا يلتفِتَ إلى كلام الأعداء، فعلىُّ لما رأى أن ما قِيل مشكوكٌ فيه، أشار بترك الشَّكِّ والرِّيبة إلى اليقين ليتخلَّص رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الهمِّ والغمِّ الذى لحقه مِن كلام الناس، فأشار بحسم الداء، وأُسامة لما عَلِمَ حُبَّ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها ولأبيها، وعَلِمَ مِن عِفتها وبراءتها، وحَصانتها ودِيانتها ما هى فوقَ ذلك، وأعظمُ منه، وعرفَ مِن كرامةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ربِّه ومنزلته عنده، ودفاعِه عنه، أنه لا يجعلُ ربةَ بيته وحبيبته من النساء، وبنتَ صِدِّيقه بالمنزلة التى أنزلها بهِ أربابُ الإفك، وأن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرمُ على ربه، وأعزُّ عليه من أن يجعل تحته امرأة بَغيّاً، وعلم أنَّ الصِّدِّيقةَ حبيبةَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرمُ على ربها مِن أن يَبْتَلِيهَا
بالفَاحِشَةِ، وهىَ تحتَ رسوله، ومَنْ قَوِيَتْ معرفته لله ومعرفته لرسوله وقدره عندَ اللهِ فى قلبه، قال كما قال أبو أيوب وغيره مِن سادات الصحابة، لما سمعوا ذلك: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}[النور: 16].
وتأمل ما فى تسبيحهم للهِ، وتنزيههم له فى هذا المقامِ مِن المعرفةِ به، وتنزيهه عما لا يليقُ به، أن يجعلَ لِرسوله وخليلِه وأكرمِ الخلق عليه امرأةً خبيثةً بغيَّا، فمن ظنَّ به سُبحانه هذا الظَّنَّ، فقد ظَنَّ به ظنَّ السَّوْءِ، وعرف أهلُ المعرفة باللهِ ورسوله أن المرأة الخبيثةَ لا تليقُ إلا بمثلها، كما قال تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ}[النور: 26] ، فقطعوا قطعاً لا يشُكُّونَ فيهِ أن هذا بُهتان عظيم، وفِريةٌ ظاهرة.
فإن قيل: فما بالُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توقَّفَ فى أمرها، وسألَ عنها، وبحَثَ، واستشارَ، وهو أعرفُ باللهِ، وبمنزلتِهِ عِندهُ، وبما يليقُ به، وهَلاَّ قال: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}[النور: 16]، كما قاله فضلاءُ الصحابة ؟
فالجوابُ أن هذا مِن تمامِ الحِكَمِ البَاهِرةِ التى جعل اللهُ هذهِ القِصةَ سبباً لها، وامتحاناً وابتلاءً لرسولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولجميع الأمة إلى يومِ القيامة، ليرفع بهذه القصة أقواماً، ويضعَ بها آخرينَ، ويزيدَ اللهُ الذين اهتَدَوْا هُدىً وإيماناً، ولا يزيدُ الظالمين إلا خَساراً، واقتضى تمامُ الامتحان والابتلاء أن حُبِسَ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحىُ شهراً فى شأنها، لا يُوحى إليه فى ذلك شئ لتتم حِكمتُهُ التى قدَّرها وقضَاهَا، وتظهرَ على أكمل الوجوه، ويزدادَ
المؤمنونَ الصادِقُونَ إيماناً وثباتاً على العدل والصدق، وحُسْنِ الظنِّ باللهِ ورسولهِ، وأهلِ بيتهِ، والصِّدِّقينَ مِن عباده، ويزدادَ المنافقون إفكاً ونفاقاً، ويُظْهِرَ لِرسوله وللمؤمنين سرائرهم، ولتتم العبوديةُ المرادة مِن الصِّدِّيقةِ وأبويها، وتتمَ نعمةُ اللهِ عليهم، ولِتشتد الفاقةُ والرغبةُ مِنها ومِن أبويها، والافتقارُ إلى اللهِ والذلُّ له، وحُسن الظن به، والرجاء له، ولينقطع رجاؤها من المخلوقين، وتيأسَ مِن حصول النُّصرةِ والفرج على يد أحد من الخلق، ولهذا وفّت هذا المقَام حقًَّه، لما قال لها أبواها: قُومى إليه، وقد أنزلَ اللهُ عليه براءتَها، فقالت: واللهِ لا أقُومُ إلَيْهِ، ولا أَحْمَدُ إلاَّ اللهَ، هُو الذى أنْزَلَ بَرَاءَتِى.
وأيضاً فكان مِن حكمةِ حَبْس الوحى شهراً، أن القضية مُحِّصَتْ وتمحَّضتْ، واستشرفَتْ قلوبُ المؤمنين أعظَم استشرافٍ إلى ما يُوحيه اللهُ إلى رسوله فيها، وتطلَّعت إلى ذلك غايةَ التطلُّع، فوافى الوحىُ أحوجَ ما كان إليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهلُ بيته، والصِّدِّيقُ وأهلُه، وأصحابُه والمؤمنون، فورد عليهم ورودَ الغيثِ على الأرضِ أحوجَ ما كانت إليه، فوقع منهم أعظمَ موقع وأَلطَفَه، وسُرُّوا به أتمَّ السُّرورِ، وحصل لهم به غايةُ الهناء، فلو أطلع اللهُ رسولَه على حقيقة الحالِ مِن أوَّلِ وَهلة، وأنزل الوحىَ على الفور بذلك، لفاتت هذه الحِكمُ وأضعافُها بل أضعافُ أضعافها.
وأيضاً فإن الله سُبحانه أحبَّ أن يُظْهِرَ منزلَةَ رسوله وأهلِ بيته عنده، وكرامتهم عليه، وأن يُخرِجَ رسولَه عن هذه القضية، ويتولَّى هو بنفسه الدفاعَ والمنافحَة عنه، والردَّ على أعدائه، وذمهم وعيبهم بأمر لا يكون له فيه عمل، ولا يُنسب إليه، بل يكونُ هو وحدَه المتولىَ لذلك،
الثائرَ لرسوله وأهل بيته.
وأيضاً فإن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان هو المقصودَ بالأذى، والتى رُمِيَتْ زوجتُه، فلم يكن يليقُ به أن يشهد ببراءتها مع علمه، أو ظنه الظنَّ المقاربَ للعلم ببراءتها، ولم يظنَّ بها سُوءاً قطُّ، وحاشاه، وحاشاها، ولذلك لما استعذر مِن أهل الإفك، قال: "مَنْ يَعْذِرُنى فى رَجُلٍ بَلَغَنى أذَاهُ فى أَهْلى، واللهِ مَا عَلِمْتُ عَلى أَهْلى إلاَّ خَيْراً، ولَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً ما عَلِمْتُ عَلَيْهِ إلاَّ خَيْراً، ومَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلى إلاَّ مَعى"، فكان عنده مِنَ القرائن التى تشهدُ ببراءة الصِّدِّيقة أكثر مما عند المؤمنين، ولكن لِكمال صبره وثباته، ورِفقه، وحُسنِ ظنه بربه، وثِقته به، وفّى مقامَ الصبر والثبات، وحسن الظن بالله حقَّه، حتى جاءه الوحىُ بما أقرَّ عينَه، وسرَّ قلبَه، وعظَّمَ قدرَه، وظهر لأُمته احتفالُ ربه به، واعتناؤه بشأنه.
ولما جاء الوحىُ ببراءتها، أمرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن صرَّح بالإفك، فَحُدُّوا ثمانين ثمانين، ولم يُحد الخبيثُ عبد الله بن أُبَىّ، مع أنه رأسُ أهل الإفك، فقيل: لأن الحدودَ تخفيفٌ عن أهلها وكفَّارة، والخبيثُ ليس أهلاً لذلك، وقد وَعَدَهُ الله بالعذابِ العظيمِ فى الآخرةِ، فيكفيهِ ذلك عن الحد، وقيل: بل كان يستوشى الحديثَ ويجمعُه ويحكيه، ويُخرجه فى قوالب مَن لا يُنسب إليه، وقيل: الحدُّ لا يثبتُ إلا بالإقرار، أو ببيِّنة، وهو لم يُقر بالقذف، ولا شهد به عليه أحد، فإنه إنما كان يذكُره بين أصحابه، ولم يشهدُوا عليه، ولم يكن يذكُره بين المؤمنين.
وقيل: حدُّ القذف حقُّ الآدمى، لا يُستوفى إلا بمطالبته، وإن قيل: إنه حقٌ لله، فلا بُدَّ مِن مطالبة المقذوف، وعائشةُ لم تُطالب به ابنَ أُبَىَّ.
وقيل: بل تَرَك حدَّه لمصلحة هى أعظمُ مِن إقامته، كما ترك قتله مع ظهورِ نفاقه، وتكلمِه بما يُوجب قتله مراراً، وهى تأليفُ قومه، وعدمُ تنفيرهم عن الإسلام، فإنه كان مطاعاً فيهم، رئيساً عليهم، فلم تُؤمن إثارةُ الفتنة فى حدِّه، ولعله تُرِكَ لهذِهِ الوجوهِ كُلِّهَا.
فجلد مِسْطَحَ بنَ أثاثة، وحسانَ بن ثابت، وحَمْنَةَ بنتَ جَحْشٍ، وهؤلاء مِن المؤمنين الصَّادقين تطهيراً لهم وتكفيراً، وترك عبد الله بن أُبَىِّ إذاً، فليس هو من أهل ذاك.
فصل
ومَن تأمَّل قولَ الصِّدِّيقةِ وقد نزلت براءتُهَا، فقال لها أبواها: قُومى إلى رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: "واللهِ لا أقومُ إلَيْهِ، ولا أَحْمَدُ إلا اللهَ"، علم معرفَتها، وقوةَ إيمانها، وتوليتها النعمة لربِّها، وإفرادَه بالحمد فى ذلك المقَام، وتجريدَها التوحيد، وقوةَ جأشها، وإدلالَها ببراءة ساحتها، وأنها لم تفعل ما يُوجب قيامَها فى مقام الراغب فى الصُّلح، الطالب له، وثقتها بمحبة رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها قالت ما قالت، إدلالاً للحبيب على حبيبه، ولا سيما فى مثل هذا المقام الذى هو أحسنُ مقامات الإدلال، فوضعتهُ موضِعَه، وللهِ ما كان أحبَّها إليه حين قالت: "لا أحْمَدُ إلا الله، فإنه هو الذى أنزل براءتى"، ولله ذلك الثباتُ والرزانةُ منها، وهو أحبُّ شئ إليها، ولا صبرَ لها عنه، وقد تنكَّر قلبُ حبيبها لها شهراً، ثم صادفَتِ الرِّضى منه والإقبال، فلم تُبادِرْ إلى القيام إليه، والسرور برضاه وقربه مع شدة محبتها له، وهذا غايةُ الثبات والقوة.
فصل
وفى هذه القضية أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال: "مَنْ يَعْذِرُنِى فى رَجُلٍ بَلَغَنِى أَذَاهُ فى أَهْلِى " ؟ قام سعدُ بن معاذ أخو بنى عبد الأشهل، فقال: أنا أعذِرُكَ مِنْهُ يا رسولَ اللهِ، وقد أشكلَ هذا على كثيرٍ من أهلِ العلم، فَإنَّ سعد بن معاذ لا يختلِفُ أحدٌ من أهل العلم، أنه تُوفى عقيبَ حُكمه فى بنى قُريظة عقيبَ الخندق، وذلك سنةَ خمس على الصحيح، وحديث الإفك لا شك أنه فى غزوة بنى المُصْطَلِق هذه، وهى غزوةُ المُريسيع، والجمهُورُ عندهم أنها كانت بعد الخندق سنة ست، فاختلفت طرقُ الناسِ فى الجوابِ عن هذا الإشكال، فقال موسى بن عقبة: غزوة المُريسيع كانت سنةَ أربعٍ قبلَ الخندق، حكاه عنه البخارى. وقال الواقدى: كانت سنة خمس. قال: وكانت قريظة والخندق بعدها. وقال القاضى إسماعيل بن إسحاق: اختلفوا فى ذلك، والأولى أن تكون المريسيع قبل الخندق، وعلى هذا، فلا إشكال، ولكن الناس على خلافه، وفى حديث الإفك، ما يدل على خلاف ذلك أيضاً، لأن عائشة قالت: إن القضية، كانت بعدما أُنزل الحجاب، وآيةُ الحجاب نزلت فى شأن زينب بنت جحش، وزينبّ إذ ذاك كانت تحتَه، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألها عن عائشة، فقالت: "أحمى سَمْعِى وَبَصَرِى" قالت عائِشَةُ: وهى التى كانت تُسامينى مِن أزواج النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقَد ذكر أربابُ التواريخ أن تزويجَه بزينب كان فى ذى القَعدة
سنة خمس، وعلى هذا فلا يصح قولُ موسى بن عقبة. وقال مُحمد بن إسحاق: إن غزوة بنى المُصْطَلِق كانت فى سنة ست بعد الخندق، وذكر فيها حديث الإفك، إلا أنه قال عن الزهرى، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة، فذكر الحديث. فقال: فقام أُسيدُ بن الحضير، فقال: أنا أعذِرُكَ منه، فردَّ عليه سعدُ بن عبادة، ولم يذكر سعد بن معاذ، قال أبو محمد بنُ حزم: وهذا هو الصحيحُ الذى لا شك فيه، وذكر سعد بن معاذ وهم، لأنَّ سعدَ بن معاذ مات إثر فتح بنى قريظة بلا شك، وكانت فى آخِر ذى القَعدةِ مِن السنة الرابعة، وغزوة بنى المصطلِق فى شعبان من السنة السادسة بعد سنة وثمانية أشهر من موت سعد، وكانت المقاولة بين الرجلين المذكورين بعد الرجوع من غزوة بنى المُصطَلِق بأزيدَ من خمسين ليلة.
قلت: الصحيح: أن الخندق كان فى سنة خمس كما سيأتى.
فصل
ومما وقع فى حديث الإفك، أن فى بعض طُرق البخارى، عن أبى وائل عن مسروق، قال: سألتُ أمَّ رُومان عن حديثِ الإفك، فحدَّثتنى. قال غيرُ واحد: وهذا غلط ظاهر، فإن أمَّ رُومان ماتت على عهدِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى قبرها، وقال: "مَنْ سَرَّهُ
أَنْ يَنْظُرَ إلى امْرَأَةٍ مِنَ الحُورِ العينِ، فَلْيَنْظُرْ إلى هذه " قَالُوا: ولو كان مسروقٌ قَدِمَ المدينةَ فى حياتها وسألها، للقى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسمع منه، ومسروق إنما قَدِمَ المدينة بعد موتِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالوا: وقد روى مسروق، عن أمِّ رومان حديثاً غير هذا، فأرسلَ الروايةَ عنها، فظنَّ بعضُ الرواة، أنه سمع منها، فحمل هذا الحَديث على السماع، قالوا: ولَعل مسروقاً قال: "سُئلت أم رومانَ" فتصَّحفت على بعضهم: "سألت"، لأن من الناس مَن يكتب الهمزة بالألف على كل حال، وقال آخرون: كل هذا لا يَرُدُّ الرواية الصحيحة التى أدخلها البخارى فى "صحيحه" وقد قال ابراهيم الحربى وغيره: إن مسروقاً سألها، وله خمسَ عشرة سنة، ومات وله ثمان وسبعون سنة، وأمُّ رومان أقدمُ مَنْ حدَّثَ عنه، قالوا: وأما حديثُ موتها فى حياة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزوله فى قبرها، فحديثٌ لا يَصِحُّ، وفيه علتان تمنعان صِحته، إحداهما: رواية على بن زيد بن جدعان له، وهو ضعيفُ الحديث لا يُحتجُّ بحديثه، والثانية: أنه رواه عن القاسم بن محمد، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والقاسم لم يُدرك زمنَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف يُقدَّم هذا على حديثٍ إسناده كالشمس يرويه البخارى فى "صحيحه" ويقول فيه مسروق: سألتُ أمَّ رومان، فحدثتنى، وهذا يرد أن يكون اللَّفظ: "سئلت". وقد قال أبو نعيم فى كتاب "معرفة الصحابة": قد قيل: إن أم رومان توفيت فى عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو وهم.
فصل
ومما وقع فى حديث الإفك أن فى بعض طرقه: أن علياً قال للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما استشاره: سل الجَارِيَةَ تصدقَكَ، فدعا بَرِيرَة، فسألها، فقالَتْ: ما عَلِمْتُ عليها إلا ما يَعْلَمُ الصائغُ على التِّبْرِ، أو كما قالت، وقد استُشْكِلَ هذا، فإن بريرة إنما كاتبت وعَتَقَتْ بعد هذا بمدَّةِ طوبلة، وكان العباسُ عمُّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ ذاك فى المدينة، والعباسُ إنما قَدِمَ المدينةَ بعد الفتح، ولهذا قال له النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد شَفِعَ إلى بَريرة: أن تُراجعَ زوجَها، فأبت أن تُراجعه: "يا عبَّاسُ؛ ألا تَعْجَبُ مِنْ بغض بَرِيرَةَ مُغِيثاً وحُبِّهِ لَهَا".
ففى قصة الإفك، لم تكن بريرةُ عند عائشة، وهذا الذى ذكروه، إن كان لازِماً فيكون الوهمُ مِن تسميته الجارية بريرة، ولم يَقْل له علىُّ: سَلْ بريرَة، وإنما قال: فسل الجارية
تصدُقك، فظن بعضُ الرواة أنها بريرة، فسماها بذلك، وإن لم يلزم بأن يكون طلب مغيث لها استمر إلى بعد الفتح، ولم ييأس منها، زال الإشكال.. والله أعلم.
فصل
وفى مرجعهم مِن هذه الغزوة، قال رأسُ المنافقين ابنُ أُبَىّ: لئن
رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فبلغها زيد بن أرقم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وجاء ابن أبي يعتذر ويحلف ما قال ، فسكت عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فأنزل الله تصديق زيد فى سورة المنافقين ، فأخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأذنه ، فقال :" أبشر فقد صدقك الله "، ثم قال : " هذا الذي وفى لله بأذنه "، فقال له عمر : يا رسول الله ! مر عباد بن بشر ، فليضرب عنقه ، فقال : " فكيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه " .
فصل: فى غزوة الخندق
وكانت فى سنةِ خمسٍ مِن الهجرةِ فى شوَّال على أصحِّ القولين، إذ لا خِلاَفَ أن أُحُداً كانت فى شوَّال سنةَ ثلاثٍ، وواعدَ المشركُون رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العام المُقبلِ، وهو سنةُ أربع، ثم أخلفُوه لأجل جَدْبِ تلك السنةِ، فرجعُوا، فلما كانت سنة خمس، جاؤوا لِحربه، هذا قولُ أهلِ السِّيَرِ والمغازى.
وخالفهم موسى بنُ عقبة وقال: بل كانت سنةَ أربع، قال أبو محمد بن حزم: وهذا هو الصحيحُ الذى لا شَكَّ فيه، واحتج عليه بحديثِ ابنِ عُمَرَ فى "الصحيحين" أنه عُرِضَ على النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ أُحُدٍ، وهو ابنُ أربع
عشرةَ سنة، فلم يُجِزْهُ، ثم عُرِضَ عليه يومَ الخندقِ، وهو ابنُ خَمسَ عشرةَ سنة، فأجازه.
قال: فصحَّ أنه لم يكن بينهما إلا سنةٌ واحدة.
وأجيب عن هذا بجوابين، أحدهما: أن ابنَ عمر أخبرَ أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ردَّهُ لما استصغَرَهُ عَنِ القِتال، وأجازه لمَّا وصَلَ إلى السِّنِّ التى رآه فيها مطيقاً، وليس فى هذا ما ينفى تجاوُزَها بسنةٍ أو نحوها.
الثانى: أنه لعلَّه كان يومَ أُحُدٍ فى أوَّلِ الرابعة عشرة ويومَ الخندق فى آخرِ الخامسة عشرة.
فصل
وكان سبب غزوة الخندق أن اليهودَ لما رَأُوا انتصارَ المشركين على المسلمين يَوْمَ أُحُد، وعلِمُوا بميعادِ أبى سفيان لِغزو المسلمين، فخرج لذلك، ثم رجع للِعام المُقْبِلِ، خرج أشرافُهم، كسلاَّم بن أبى الحُقيق، وسلاَّم بن مِشْكَم، وكِنَانة بن الرَّبيع وغيرِهم إلى قريش بمكة يُحرِّضُونهم
عَلَى غَزوِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عَليه وسلم، ويؤلِّبُونهم عليه، ووعدوهم مِن أنفسهم بالنَّصرِ لهم، فأجابَتْهُم قريشٌ، ثم خرجُوا إلى غَطَفَان فدعَوْهُم، فاستجابُوا لهم، ثمَّ طافُوا فى قبائل العربِ، يدعونَهم إلى ذلك، فاستجابَ لهم مَن استجاب، فخرجت قُريشٌ وقائدهم أبو سفيان فى أربعةِ آلافٍ، ووافَتْهُم بنو سليم بِمَرِّ الظَّهْرَان، وخرجت بنُو أسد، وفَزَارَة، وأشجع، وبنو مُرَّةَ، وجاءت غَطَفَانُ وقائدُهم عُيينةُ بنُ حِصْنٍ. وكان مَن وافى الخندقَ مِن الكفار عشرة آلاف.
فلما سَمِعَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمسيرهم إليه، استشار الصحابةَ، فأشار عليه سلمانُ الفارسى بحفر خندقٍ يحُول بين العدوِّ وبينَ المدينة، فأمر به رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبادر إليه المسلمون، وعَمِلَ بنفسه فيه، وبادروا هجومَ الكُفّارِ عليهم، وكان فى حَفرِه من آياتِ نُبوته، وأعلام رسالته ما قد تواتر الخبرُ به، وكان حفرُ الخندق أمامَ سَلْعٍ، وسَلْعٌ: جبل خلفَ ظهورِ المسلمين، والخندقُ بينهم وبين الكفار.
وخرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ثلاثة آلاف من المسلمين، فتحصَّن بالجبل من خلفه، وبالخندق أمامهم.
وقال ابن إسحاق: خرج فى سبعمائة، وهذا غلط مِن خروجه يوم أُحُدٍ.
وأمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنِّسَاءِ والذرارى، فَجُعِلُوا فى آطامِ المدينةِ، واستخلف عليها ابنَ أُمِّ مكتوم.
وانطلق حُيَىُّ بنُ أخْطَب إلى بنى قُريظة، فدنا مِن حصنهم، فأبى كعبُ بن أسد أن يفتَح له، فلم يَزَلْ يُكلِّمُهُ حتى فتح له، فلما دخل عليه، قال: لقد جئتُكَ بعزِّ الدهر، جئتُكَ بقريش وغَطَفَان وأَسَدٍ على قادتها لِحرب محمد، قال كعب: جِئْتَنى واللهِ بذُلِّ الدهرِ، وبِجَهَامٍ
قد هراقَ مَاؤُه، فهو يَرْعُد ويَبْرُق ليس فيه شىء. فلم يزل به حتَّى نقضَ العَهد الذى بينَه وبينَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودخل مع المشركين فى مُحاربته، فَسُرَّ بذلك المشركون، وشرط كعب على حُيَىِّ أنه إن لم يظفُروا بمحمد أن يجئ حتى يدخُلَ معه فى حِصنه، فيصيبه ما أصابه، فأجابه إلى ذلك، ووفَّى له به.
وبلغ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرُ بنى قُريظة ونقضهم للعهد، فبعث إليهم السَّعْديْنِ، وخوَّاتَ بن جُبير، وعبدَ اللهِ بن رواحة لِيَعْرِفُوا: هل هم على عهدهم، أو قد نقضُوه ؟ فلما دَنوْا منهم، فوجدُوهم على أخبث ما يكون، وجاهروهم بالسبِّ والعداوة، ونالُوا مِن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانصرفُوا عنهم، ولحنُوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحناً يُخبرونه أنهم قد نقضُوا العَهد، وغدَرُوا، فعظُمَ ذلك على المسلمين، فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذلك: "اللهُ أكْبَرُ أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ المُسْلِمينَ" ، واشتدَّ البلاءُ، ونَجَمَ النِّفَاقُ، واستأذن بعضُ بنى حارثة رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الذهاب إلى المدينة وقَالُوا: {إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ومَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إنْ يُرِيدُونَ إلاَّ فِرَاراً} [الأحزاب: 13]، وهمَّ بنو سلمَةَ بالفَشَلِ، ثم ثبَّت اللهُ الطائفتين.
وأقام المشركُون محاصِرِينَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً، ولم يكن بينهم قِتال لأجل ما حال اللهُ به مِن الخندق بينهم وبين المسلمين، إلا أن فَوارِسَ مِن قُريش، منهم عمُرو بن عبد وُدٍّ وجماعة معه أقبلُوا نحوَ الخندق، فلما وقفُوا عليه، قالوا: إن هذه مَكيدةٌ ما كانت العربُ تعرِفُها، ثم تيمَّمُوا مكاناً ضيِّقاً من الخندق، فاقتحمُوه، وجالت بهم خيلُهم فى السّبخة بين الخندقِ وسَلْعٍ، وَدَعَوْا إلى البِرَاز، فانتدب لِعمرو علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فبارزهُ، فقتله اللهُ على يديه، وكان مِن شُجعان المشركين
وأبطالِهم، وانهزمَ الباقون إلى أصحابهم، وكان شِعارُ المسلمين يومئذ "حم لا يُنْصَرُونَ".
ولما طالت هذه الحالُ على المسلمين، أراد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُصالح عُيينةَ بنَ حِصْنٍ، والحارِثَ بنَ عوف رئيسى غَطَفَان، على ثُلثِ ثِمار المدينةِ، وينصرفا بقومهما، وجرت المراوضةُ على ذلك، فاستشار السَّعدين فى ذلك، فقالا: يا رسولَ اللهِ؛ إن كان اللهُ أمَرَكَ بهذا، فسمعاً وطاعةً، وإن كان شيئاً تصنعُه لنا، فلا حاجةَ لنا فيه، لقد كُنَّا نحن وهؤلاء القومُ على الشِّركِ باللهِ وعِبادةِ الأوثان، وهم لا يطمعُون أن يأكلُوا منها ثمرة إلا قِرىً أو بيعاً، فحين أكرمنا اللهُ بالإسلام، وهدانا له، وأعَزَّنا بك، نُعطيهم أموالَنَا ؟، واللهِ لا نُعطيهم إلا السيفَ، فصوَّبَ رأيَهما، وقال: "إنَّمَا هُوَ شَىءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ لَمَّا رَأَيْتُ العَرَبَ قَدْ رَمَتْكُم عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ".
ثم إنَّ الله عزَّ وجلَّ وله الحمدُ صنع أمراً مِنْ عنده، خَذَلَ به العدوَّ، وهزم جموعَهم، وفلَّ حدَّهم، فكان مما هيَّأَ مِن ذلك، أن رجلاً مِن غَطَفَانَ يُقَال له: نُعَيْمُ بنُ مسعود بنِ عامر رضى الله عنه، جاء إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول اللهِ؛ إنى قد أسلمتُ، فمُرنى بما شئت، فقالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا مَا اسْتَطَعْتَ فَإنَّ الحَرْبَ خَدْعَة" ، فذهب مِن فوره ذلك إلى بنى قُريظة، وكان عشيراً لهم فى الجاهلية، فدخل عليهم، وهم لا يعلمون بإسلامه، فقال: يا بنى قُريظة؛ إنكم قد حاربتُم محمداً، وإن قريشاً إن أصابُوا فُرصة انتهزوها،
وإلا انشمَرُوا إلى بلادهم راجعين، وتركُوكُم ومحمداً، فانتقم منكم. قالوا: فما العملُ يا نُعيم ؟ قال: لا تُقاتِلُوا معهم حتى يُعطوكم رهائِن، قالوا: لقد أشرتَ بالرأى، ثم مضى على وجهه إلى قُريش، فقال لهم: تعلمون وُدِّى لكم، ونُصحى لكم، قالوا: نعم. قال: إن يهودَ قد نَدِمُوا على ما كان منهم من نقضِ عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلُوه أنهم يأخذون منكم رَهائِنَ يدفعونَها إليه، ثمَ يُمالِئُونه عليكم، فإن سألوكم رهائِنَ، فلا تُعطوهم، ثم ذهب إلى غَطَفَان، فقال لهم مِثْلَ ذلِكَ، فلما كان ليلةُ السبت من شوَّال، بعثوا إلى اليهود: إنَّا لسنا بأرض مُقام، وقد هلك الكُراعُ والخُفُّ، فانهضُوا بنا حتى نُنَاجِزَ محمَّداً، فأرسل إليهم اليهود: إن اليومَ يومُ السبت، وقد علمتم ما أصاب مَنْ قبلنا أحدثُوا فيه، ومع هذا فإنَّا لا نُقاتِلُ معكم حتى تبعثوا إلينا رَهائِنَ، فلما جاءتهم رُسُلُهُم بذلك، قالت قُريش: صدقَكُم واللهِ نُعيم، فبعثوا إلى يهود: إنَّا واللهِ لا نُرسِلُ إليكم أحداً، فاخرجُوا معنا حتى نُناجِزَ محمداً، فقالت قُريظة:صدقكم والله نُعيم، فتخاذلَ الفريقانِ، وأرسلَ اللهُ على المشركين جُنداً من الريح، فجعلتْ تُقوِّضُ خِيامَهم، ولا تَدَعُ لهم قِدراً إلا كَفَأتْها، ولا طُنُباً، إلا قَلَعَتْه، ولا يَقِرُّ لهم قرار، وجندُ اللهِ مِن الملائكة يزلزلونهم، ويُلقون فى قلوبهم الرُّعْبَ والخوفَ، وأرسل رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُذيفةَ بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحال، وقد تهيؤوا للرحيل، فرجع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبره برحيل القوم، فأصبح رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد ردَّ اللهُ عدوَّهُ بغيظه، لم ينالُوا خيراً، وكفاهُ الله قِتالهم، فصدق وعدَه، وأعزَّ جندَه، ونصر عبدَه، وهزم الأحزابَ وحده، فدخل المدينةَ ووضعَ السلاحَ، فجاءه جبريلُ عليه السلامُ، وهو يغتسِلُ فى بيت
أُمِّ سلمة، فقال: أَوَضَعْتُمُ السِّلاحَ ؟ إنَّ المَلائِكَةَ لَمْ تَضَعْ بَعْدُ أَسْلِحَتَهَا، انْهَضْ إلَى غَزْوَةِ هؤلاءِ، يَعْنِى بنى قُرَيْظَةَ، فَنادَى رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن كَانَ سَامِعَاً مُطِيعاً، فَلاَ يُصَلِّيَنَّ العَصْرَ إلا فى بنى قُرَيْظَة"، فخرج المسلمون سِراعاً، وكان من أمره وأمر بنى قُريظة ما قدَّمناه، واستشهد يومَ الخندق ويومَ قريظة نحُوُ عشرةٍ مِن المسلمين.
فصل
وقد قدَّمنا أن أبا رافع كان مِمَّنْ أَلَّبَ الأحزابَ على رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يُقتلْ مع بنى قُريظة كما قُتِلَ صاحبُه حُيَىّ بن أخطب، ورغبتِ الخزرجُ فى قتله مساواةً للأوس فى قتل كعبِ بنِ الأشرف، وكان اللهُ سُبحانه وتعالى قد جعل هذين الحيَّيْنِ يتصاولان بينَ يدى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الخيراتِ، فاستأذنُوه فى قتله، فَأَذِنَ لهم، فانتدب له رِجالٌ كُلُّهُم مِن بنى سلمة، وهم عبدُ الله بن عَتيكٍ، وهو أميرُ القوم، وعبدُ اللهِ بنُ أُنيس،
وأبو قتادة، الحارث بن رِبْعى، ومسعود بن سنان، وخُزَاعىُّ بن أسود، فساروا حتى أتوه فى خيبر فى دار له، فنزلُوا عليه ليلاً، فقتلُوه، ورجعوا إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكُلُّهُمُ ادَّعى قتله، فقال: "أَرُونى أَسْيَافَكُم" ، فلما أَرَوْهُ إيَّاهَا، قال لِسيفِ عبدِ اللهِ بن أُنيس: "هذَا الَّذِى قَتَلَهُ أرى فيهِ أثَرَ الطَّعَام".
فصل
ثم خرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بنى لِحْيَان بَعْدَ قُرَيْظَةَ بستة أشهرِ لِيغزوهم، فخرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى مائتى رجل، وأظهر أنه يُريد الشام، واستخلف على المدينة ابنَ أُمِّ مكتومٍ، ثم أسرعَ السير حتى انتهى إلى بطن غُرَانَ، وادٍ من أودية بلادهم، وهُوَ بين أمَج وعُسفان حيث كان مُصابُ أصحابه، فترحَّم عليهم ودعا لهم، وسَمِعَتْ بنو لِحْيَان، فهربُوا فى رؤوسِ الجبال، فلم يقدر مِنهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يَقْدِرُوا عليهم، فسار إلى عُسفان، فبعث عشرة فوارس إلى كُراع الغَمِيم لِتسمعَ به قُريش، ثم رجع إلى المدينة، وكانت غيبتُه عنها أربعَ عشرة ليلة.
فصل: فى سرية نَجْد
ثم بعثَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت بثُمَامَةَ بنِ أُثال الحنيفى سيِّد بنى حنيفة، فربطه رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ساريةٍ من سوارى المسجد، ومَرَّ به، فقال: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ" ؟ فقال: يا مُحَمَّدُ؛ إنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وإن تَنْعِمْ تَنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وإنْ كُنْتَ تُرِيدُ المال، فَسَلْ تُعطَ منه ما شئتَ، فتركه، ثم مرَّ به مرة أخرى، فقال له مِثْلَ ذلكَ، فردَّ عليه كما رَدَّ عليه أولاً، ثم مرَّ مرةً ثالثة، فقال: "أطْلِقُوا ثُمَامَة" ، فأطلقُوه، فذهب إلى نخلٍ قريبٍ من المسجد، فاغتسل، ثم جاءه، فأسلم وقال: واللهِ ما كان على وجه الأرض وجهٌ أبغضَ إلىَّ من وجهك، فقد أصبحَ وجهُكَ أحبَّ الوُجوه إلىَّ، واللهِ ما كان على وجه الأرض دِينٌ أبغَضَ علىَّ مِن دينك، فقد أصبح دينُك أحبَّ الأديانِ إلىَّ، وإنَّ خيلك أخذتنى، وأنا أُريدُ العُمرة، فبشَّره رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمره أن يعتمر، فلما قدم على قريشٍ، قالوا: صَبَوْتَ يا ثُمَامةُ ؟ قال: لا واللهِ، ولكنى أسلمتُ مع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا واللهِ لا يأتيكم من اليمَامَةِ حَبَّةُ حِنطَةٍ حَتَّى يأذَنَ فيها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت اليمامةُ ريفَ مكة، فانصرف إلى بلاده، ومنع الحملَ إلى مكة حتى جَهِدَتْ قريش، فكتبوا إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألُونه بأرحامهم أن يكتُب إلى ثُمامةَ يُخلِّى إليهم حملَ الطعام، ففعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فصل: فى غزوة الغابة
ثم أَغار عُيَيْنَةُ بنُ حِصْنٍ الفَزَارِىُّ فى بنى عبد اللهِ بن غَطَفَانَ على لِقَاحِ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التى بالغابة، فاستاقها، وقتل راعِيَهَا وهو رجلٌ من عُسفان، واحتملوا امرأته، قال عبدُ المؤمن بن خلف: وهو ابن أبى ذر، وهو غَرِيبٌ جداً، فجاء الصريخُ، ونودى: يا خَيْلَ اللهِ ارْكَبى، وكان أول ما نُودى بها، ورَكِبَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقنَّعاً فى الحديد، فكان أول مَنْ قدم إليه المقدادُ بن عمرو فى الدِّرع والمِغْفَرِ، فَعَقَدَ له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللِّواءَ فى رُمحه، وقال: " امْضِ حتَّى تلحقك الخيولُ، إنَّا عَلَى أَثَرِكَ" ، واستخلفَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنَ أُمِّ مكتوم، وأدركَ سلمةُ بنُ الأكوع القومَ، وهو على رِجليه، فجعلَ يرميهم بالنَّبْلِ ويَقُول:
خُذْهَا وَأنَا ابْنُ الأَكْوَع ... والْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّع
حتى انتهى إلى ذى قَرَدٍ وقد استنقذَ مِنهم جميعَ اللِّقَاح وثلاثين بُردة، قال سلمة: فَلَحِقَنَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخيلُ عِشاءً، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ؛ إن القومَ عِطاش، فلو بعثتنى فى مائة رجل استنقذتُ ما فى أيديهم من السَّرْح، وأخذتُ بأَعناق القوم، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَلَكْتَ فَأسْجِحْ" ثم قالَ: "إنَّهُم الآنَ لَيُقْرَوْنَ فى غَطَفَان".
وذهب الصريخُ بالمدينة إلى بنى عَمْرو بن عوف، فجاءت الأمدادُ ولم تزلِ الخيلُ تأتى، والرجالُ على أقدامهم وعلى الإبل، حتى انْتَهَوْا إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِى قَرَدٍ.
قال عبد المؤمن بن خلف: فاستنقذوا عَشْرَ لِقاح، وأُفلِتَ القومُ بما بقى، وهو عشر.
قلت: وهذا غلط بيِّن، والذى فى "الصحيحين": أنهم استنقذوا اللِّقَاحَ كُلَّها، ولفظ مسلم فى "صحيحه" عن سلمة: "حتى ما خلق اللهُ مِن شىءٍ مِن لِقاح رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا خلَّفتُه وراء ظهرى، واستلبتُ مٍنهم ثلاثِينَ بُردةً".
فصل
وهذه الغزوةُ كانت بعدَ الحُديبية، وقد وَهِمَ فيها جماعةٌ مِن أهلِ المغازى والسِّيرِ، فذكُروا أنها كانت قَبْلَ الحُدَيْبِيَة، والدليلُ على صِحةِ ما قُلناه: ما رواه الإمام أحمد، والحسن بن سفيان، عن أبى بكر بن أبى شيبة، قال: حدثنا هاشمُ بنُ القاسم، قال: حدثنا عِكرمة بنُ عمار، قال: حدثنى إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: قَدِمْتُ المدينةَ زَمَنَ الحُديبيةِ
مَعَ رَسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "خَرَجْتُ أنا ورَبَاح بفرس لطلحة أُنَدِّيهِ مع الإبل، فلما كان بِغَلَسٍ، أغارَ عبدُ الرحمن بنُ عيينة على إبل رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَ رَاعِيَهَا"... وساقَ القصة، رواها مسلم فى "صحيحه" بطولها.
ووهم عبدُ المؤمن بن خَلَف فى "سيرته" فى ذلك وهماً بيِّناً، فذكر غَزاة بنى لِحيان بعد قُريظة بستة أشهر، ثم قال: لما قَدمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، لم يمكُث إلا ليالى حتى أغار عبد الرحمن بن عُيينة... وذكر القصة. والذى أغار عبدُ الرحمن، وقيل: أبوهُ عُيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، فأين هذا مِن قول سلمة: قدمتُ المدينة زمن الحُديبية ؟.
وقد ذكر الواقدى عِدة سرايا فى سنة ستٍ من الهجرة قبل الحُديبية
فقال: بعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ربيع الأول أو قال: الآخر سنةَ سِتٍّ مِن قدومه المدينة عُكَّاشَةَ بْنَ مِحْصن الأسدى فى أربعين رجلاً إلى الغَمْرِ، وفيهم ثابت ابن أقرم، وسِباع بن وهب، فأجَدَّ السير، ونَذِرَ القَومُ بهم، فهربوا، فنزل على مياههم، وبعث الطلائِعَ فأصابُوا مَن دلَّهُم على بعض ماشيتهم، فوجدوا مائتى بعير، فساقُوها إلى المدينة.
وبعثَ سرية أبى عُبيدة بن الجراح إلى ذى القَصَّة، فساروا ليلتَهم مُشاةً، ووافَوْهَا مع الصُّبْح، فأغَارُوا عليهم، فأعجزوهم هرباً فى الجبال، وأصابُوا رجلاً واحداً فأسلم.
وبعث محمد بنَ مسلمة فى ربيع الأولِ فى عشرة نفر سَريَّة، فَكَمَنَ القَوْمُ لَهُم حتى ناموا، فما شَعَرُوا إلا بالقوم، فَقُتِلَ أصحابُ محمد بن مسلمة، وأفلتَ محمد جريحاً.
وفى هذه السنة وهى سنةُ ست كانت سريَّةُ زيد بن حارثة بالجَمُومِ، فأصاب امرأة مِن مُزينة يقال لها: حليمة، فدلتهم على محلَّة من محالِّ بنى سُليم، فأصابُوا نَعَمَاً وشَاءً وأسرى، وكان فى الأسرى زوجُ حَليمة، فلما قَفَلَ زيد بن حارثة بما أصابَ، وهَبَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمُزنية نفسَها وزوجها.
وفيها يعنى: سنة ست كانت سريَّةُ زيد بن حارثة إلى الطَّرِفِ فى جُمادى الأولى إلى بنى ثعلبة فى خمسة عشر رجلاً، فهربت الأعرابُ، وخافُوا أن يكونَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سارَ إليهم، فأصاب مِنْ نَعَمِهِم عِشرينَ بعيرَاً، وغاب أربَع ليال.
وفيها كانت سريَّةُ زيدِ بنِ حارثة إلى العيص فى جُمادى الأولى،
وفيها: أُخِذَتِ الأموالُ التى كانت مع أبى العاص بن الربيع زوجِ زينبَ مَرجِعَه مِنَ الشَامِ، وكانت أموالَ قريش، قال بن إسحاق: حدثنى عبدُ الله بن محمد بن حزم، قال: خرج أبو العاص بنُ الربيع تاجراً إلى الشام، وكان رجلاً مأموناً، وكانت معه بضائعُ لقريش، فأقبل قافلاً فلَقِيَتْهُ سَرِيَّةٌ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستاقُوا عِيره، وأُفلِت، وقَدِمُوا على رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أصابُوا، فَقَسَمه بينهم،
وأتى أبو العاص المدينةَ، فدخلَ على زينبَ بنت رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستجار بها، وسألها أن تطلُبَ له مِن رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردَّ ماله عليه، وما كان معهُ مِنْ أموال الناس، فدعا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّرِيَّة، فقال: " إنَّ هذا الرَّجُلَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُم، وَقَدْ أَصَبْتُم لَهُ مَالاً وَلِغَيْرِهِ، وهُوَ فَىءُ اللهِ الَّذِى أَفَاءَ عَلَيْكُمْ، فَإنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تَرُدُّوا عَلَيْهِ، فَافْعَلُوا، وَإنْ كَرِهْتُم، فَأَنْتُمْ وَحَقُّكُم" ، فقالُوا: بل نردُّه عليه يا رسولَ الله، فردوا عليه ما أصابُوا، حتى إن الرجلَ ليأتى بالشَّنِّ، والرجلَ بالإداوة، والرجلَ بالحبل، فما تركوا قليلاً أصابوه ولا كثيراً إلا ردُّوه عليه، ثم خرج حتى قَدِمَ مكة، فأدَّى إلى الناس بضائِعَهم، حتى إذا فرغ، قال: يا معشرَ قريش؛ هل بقى لأحدٍ منكم معى مالٌ لم أردَّهُ عليه ؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيراً، قد وجدناك وفيَّاً كريماً، فقال: أما واللهِ ما منعنى أن أُسْلِمَ قبل أن أَقْدَمَ عليكم إلا تخوفاً أن تَظنُّوا أنى إنما أسلمتُ لأَذهبَ بأموالِكم، فإنى أشهدُ أنْ لاَ إلَه إلا اللهُ، وأنَّ محمداً عبدُه ورسولُه.
وهذا القولُ من الواقدى وابن إسحاق يدل على أن قصة أبى العاص كانت قَبْلَ الحُدَيبية، وإلا فبعدَ الهُدنة لم تتعرَّضْ سرايا رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقريش. ولكن زعم موسى بن عقبة، أن قصة أبى العاص كانت بعد
الهُدنة، وأن الذى أخذ الأموال أبو بصير وأصحابُه، ولم يكن ذلك بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنهم كانوا مُنحازين بِسِيفِ البحر، وكانت لا تمرُّ بهم عِيرٌ لقريش إلا أخذوها، هذا قولُ الزهرى.
قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب فى قصة أبى بصير: ولم يزل أبو جندل، وأبو بَصير وأصحابُهما الذين اجتمعوا إليهما هُنالك، حتَّى مرَّ بهم أبو العاص بن الربيع، وكانت تحتَه زينبُ بنتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى نفر من قريش، فأخذوهم وما معهم، وأسرُوهم، ولم يقتلُوا منهم أحداً لِصهر رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبى العاص، وأبو العاص يومئذ مشركٌ، وهو ابنُ أخت خديجة بنتِ خُويلد لأبيها وأُمها، وخَلَّوْا سبيل أبى العاص، فَقَدِمَ المدينةَ على امرأته زينب، فكلمها أبو العاص فى أصحابه الذين أسرهم أبو جندل وأبو بصير، وما أخذوا لهم، فكلَّمت زينبُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ذلك، فزعموا أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام، فخطب الناسَ، فقال : "إنَّا صَاهَرْنَا أُنَاساً، وَصَاهَرْنَا أبا العَاصِ، فَنِعْمَ الصِّهْرُ وَجَدْناهُ، وإنَّهُ أَقَبَلَ مِنَ الشَّامِ فى أَصْحابٍ لَهُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَخَذَهُمْ أَبُو جَنْدَلٍ وَأَبُو بَصِيرٍ، وأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدَاً، وإنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ سَأَلَتْنِى أَنْ أُجيِرَهُم، فَهَلْ أَنْتُمْ مُجِيرُونَ أبَا العَاصِ وَأَصْحَابَه" ؟ فقال الناسُ: نعم، فلما بلغَ أبا جندل وأصحابَه قَوْلُ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أبى العاص وأصحابِه الذين كانوا عنده مِن الأسرى، ردَّ إليهم كُلَّ شئ أخذ منهم، حتى العقالَ، وكتب رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبى جندل وأبى بصير، يأمرهم أن يَقْدَمُوا عليه، ويأمُرُ مَن معهما مِن المسلمين أن يَرْجِعُوا إلى بلادهم وأهليهم، وألا يتعرَّضُوا لأحد مِن قريش وعِيرها، فَقَدِمَ كتابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبى بصير، وهو فى الموت، فمات وهو على صدره، ودفنه
أبو جندل مكانَه، وأقبل أبو جندل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَمِنَتْ عِيرُ قريش وذكر باقى الحديث.
وقول موسى بن عقبة أصوب، وأبو العاص إنما أسلم زمنَ الهُدنة، وقُريش إنما انبسطت عِيرُها إلى الشام زَمَنَ الهُدنة، وسياقُ الزهرى للقصة بيِّنٌ ظاهر أنها كانت فى زمن الهُدنة.
قال الواقدى: وفيها أقبل دِحْيَةُ بن خليفة الكَلبى مِن عند قيصر، وقد أجازه بمالٍ وكُسوة، فلما كان بِحِسْمى، لقِيه ناسٌ مِن جُذَام، فقطعُوا عليه الطريقَ، فلم يتركُوا معه شيئاً، فجاء رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يدخُلَ بيته فأخبره، فبعثَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيدَ بن حارثة إلى "حِسْمى". قلت: وهذا بعد الحُديبية بلا شك.
قال الواقدى: وخرج علىُّ فى مائة رجل إلى فَدَك إلى حىٍّ مِن بنى سعد بنِ بكر، وذلك أنه بلَغَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن بها جمعاً يُريدون أن يَمُدُّوا يهودَ خيبر، فسار إليهم، يسيرُ اللَّيل، ويَكْمُنُ النهارَ، فأصاب عيناً لهم، فأقرَّ له أنهم بعثُوه إلى خيبر، فعرضُوا عليهم نُصرتهم على أن يجعلوا لهم ثمرَ خيبر.
قال: وفيها سريَّةُ عبدِ الرحمن بن عوف إلى دُومة الجندل فى شعبان، فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن أطاعوك، فتزوَّج ابنةَ ملكهم" فأسلم القومُ، وتزوَّج عبد الرحمن تُماضِرَ بنتَ الأصْبَغِ،
وهى أم أبى سلمة، وكان أبوها رأسَهم ومَلِكَهم.
قال: وكانت سرَّيةُ كُرز بن جابر الفِهْرِى إلى العُرَنِيِّينَ الذين قَتَلُوا راعىَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستاقُوا الإبلَ فى شوَّال سنةَ سِتٍّ، وكانت السَّرِيَّةُ عشرين فارساً.
قلت: وهذا يدُلُّ على أنها كانت قبلَ الحُديبية كانت فى ذى القَعدة كما سيأتى، وقصة العُرَنِيِّينَ فى "الصحيحين" من حديث أنس، أن رهطاً من عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّا أَهْلَُ ضَرْع، ولم نَكُنْ أَهْلَ ريف، فَاسْتَوْخَمْنَا المَدِينَة، فَأَمَرَ لهم رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَوْدٍ، وأَمَرَهُم أَنْ يَخْرُجُوا فِيهَا، فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وأَبْوَالِهَا، فَلَمَّا صَحُّوا، قَتَلُوا راعِىَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واسْتَّاقُوا الذَّوْدَ، وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلامِهِم.
وفى لفظ لمسلم: سَمَلُوا عَيْنَ الرَّاعى، فبعثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى طَلَبِهمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُم وَأَرْجُلَهُم، وَتَرَكَهُم فى ناحِيَةِ الحَرَّةِ حتَّى ماتُوا.
وفى حديث أبى الزُّبير، عن جابر: فقَال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهُمَّ عَمِّ عَلَيْهِم الطَّرِيقَ، واجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ أَضْيَقَ مِنْ مَسْكِ جَمَل"، فعمَّى الله عليهم السبيلَ، فأُدْرِكُوا... وذكر القِصَّة.
وفيها من الفقه جوازُ شُربِ أبوالِ الإبل، وطهارةُ بول مأكول اللَّحم، والجمع للمحارب إذا أخذ المال وقتل بين قَطْع يَدِهِ ورِجْلِهِ وقتله، وأنه يُفعل بالجَانى كما فعل، فإنهم لما سَمَلُوا عَيْنَ الراعى، سملَ أعينهم، وقد ظهر بهذا أن القِصة محكمةٌ ليست منسوخة، وإن كانت قبل أن تنزِلَ الحدودُ، والحدودُ نزلت بتقريرها لا بإبطالها.. والله أعلم.
فصل: فى قصة صلح الحديبية
قال نافع: كانت سنةَ سِتٍّ فى ذى القَعدة، وهذا هو الصحيحُ، وهو قولُ الزهرى، وقتادةَ، وموسى بن عقبة، ومحمَّد بن إسحاق، وغيرهم. قال هشام بن عروة، عن أبيه: خرجَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحُديبيةِ
فى رمضان، وكانت فى شوَّال، وهذا وهم، وإنما كانت غزاةُ الفتح فى رمضان، وقد قال أبو الأسود عن عروة: إنها كانت فى ذى القَعدة على الصواب.
وفى "الصحيحين" عن أنس، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر أربَعَ عُمَر، كُلُّهُنَّ فى ذى القَعْدَةِ، فذكر منها عُمرة الحديبية.
وكان معهُ ألفٌ وخمسُمائة، هكذا فى "الصحيحين" عن جابر، وعنه فيهما: "كانوا ألفاَ وأربعمائة" وفيهما: عن عبد الله بن أبى أوفى: "كُنَّا أَلْفاً وثَلاثمائة"، قال قتادة: قلتُ لِسعيد بن المسيِّب: كم كان الذينَ شَهِدُوا بيعةَ الرِّضوان ؟ قال: خمسَ عشرةَ مائة. قال: قلتُ: فإن جابرَ بنَ عبد الله قال: كانُوا أربعَ عشرةَ مائة، قال: يرحمُه الله أوْهَمَ، هو حدَّثنى أنهم كانوا خمسَ عشرة مائة. قلت: وقد صح عن جابر القولانِ، وصح عنه أنَّهُم نحرُوا عام الحُديبية سبعينَ بَدَنةً، البدنةُ
عن سبعةٍ، فقيل له: كم كنتُم ؟ قال: ألفاً وأربعمائة بخيلنا ورَجِلنا، يعنى فَارِسَهم وراجلهم، والقلبُ إلى هذا أميل، وهو قولُ البراء بن عازب، ومَعْقِلِ بنِ يسار، وسلمة ابنِ الأكوعِ فى أصحِّ الروايتين، وقولُ المسيِّب بن حَزْن، قال شعبةُ: عن قتادة، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبيه: كنَّا معَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحتَ الشجرةِ ألفاً وأربَعمائة.
وغلط غلطاً بيِّناً مَن قال: كانوا سبعمائة، وعُذْرُه أنهم نحرُوا يومئذ سبعينَ بَدَنَةً، والبدنةُ قد جاء إجزاؤها عن سبعة وعن عشرة، وهذا لا يدُلُّ على ما قاله هذا القائل، فإنه قد صرَّح بأن البدنَة كانت فى هذه العُمْرة عن سبعة، فلو كانت السبعون عن جميعهم، لكانُوا أربعمائة وتسعين رجلاً، وقد قال فى تمام الحديث بعينه: إنَّهم كانُوا ألفاً وأربعمائة.
فصل
فلما كانوا بذى الحُليفة، قلَّد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الهَدْىَ وأشعَرَه، وأحرمَ بالعُمرة، وبعث بينَ يديه عَيْناً له مِن خُزَاعَةَ يُخبِرُه عن قريش، حتى إذا كان قريباً من عُسفان، أتاه عَيْنُه، فقال: إنى تركتُ كعبَ بنَ
لُؤى قد جمعوا لك الأحَابِيشَ، وجمعوا لك جموعاً، وهم مقاتِلوك وصادُّوك عن البيت ومانعوك، واستشار النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابَه، وقال: "أترون أن نمِيلَ إلى ذَرارى هؤلاء الذين أعانُوهم فَنُصِيبَهم، فإن قعدُوا، قعدُوا موتُورين محروبين، وإن يجيؤوا تَكُنْ عُنقاً قطعها اللهُ، أم ترون أن نَؤُمَّ البيت، فمن صدَّنا عنه قاتلناه" ؟
فقالَ أبو بكر: اللهُ ورسولُه أعلم، إنما جِئنا معتمرِين، ولم نجئ لِقتال أحد، ولكن مَن حال بيننا وبينَ البيت، قاتلناه، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَرُوحُوا إذاً"، فراحوا حتى إذا كانوا بِبعضِ الطريق، قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ خَالِدَ بْنَ الوَليدِ بالغَمِيمِ فى خَيْلٍ لِقُرَيْش طَلِيعَةً، فَخُذُوا ذَاتَ اليَمِينِ" ، فواللهِ ما شعر بهم خالد حتى إذا هُمْ بِقَتَرَةِ الجيش، فانطلق يركُض نذيراً لقريش، وسار النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إذا كان بالثَّنِيَّةِ التى يُهْبَطُ عليهم مِنْهَا بركَتْ بهِ رَاحِلتُه، فقال الناسُ: حَلْ حَلْ، فألحَّتْ، فقالُوا: خَلأتِ القَصْوَاء، خَلأتِ القَصْواءُ، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما خَلأَتِ القَصْوَاء، ومَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلكِنْ حَبَسَهَا حَابسُ الفِيل "، ثم قال: "والَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لا يَسْأَلُونى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فيها حُرُماتِ الله، إلاَّ أعطيتُهم إيَّاها"، ثم زجرها، فوثَبَتْ به،
فَعَدَلَ حتى نزل بأقصى الحُدَيبية على ثَمَدٍ قليل الماء، إنما يتبرّضُهُ النَّاسُ تَبرُّضاً، فلم يُلْبِثْهُ النَّاسُ أن نَزحُوه، فَشَكَوْا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العَطَشَ، فانتزع سهماً مِنْ كِنَانَتِهِ، ثمَّ أمرهم أن يَجْعلُوه فيه، قال: فواللهِ ما زالَ يَجِيشُ لهم بالرِّىِّ، حتى صدرُوا عنه.
وفَزِعَتْ قريشٌ لنزوله عليهم، فأحبَّ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبعَثَ إليهم رجلاً من أصحابه، فدعا عمر بنَ الخطَّاب لِيبعثه إليهم، فقال: يا رسولَ اللهِ؛ ليس لى بمكة أحدٌ من بنى كعب يغضَبُ لى إن أوذيتُ، فَأَرْسِلْ عُثْمَانَ بن عفان، فإن عشيرَتَه بها، وإنه مبلِّغٌ ما أردتَ، فدعا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عثمانَ بنَ عفان، فأرسله إلى قريش، وقال: "أخبرهم أنَّا لم نأتِ لقتال، وإنما جئنا عُمَّاراً، وادعُهُم إلى الإسلام"، وأمره أن يأتىَ رجالاً بمكة مؤمنين، ونساءً مؤمناتٍ، فيدخُلَ عليهم، ويبشِّرَهم بالفتح، ويخبِرَهم أن الله عزَّ وجلَّ مظهِرٌ دينَه بمكة، حتى لا يُسْتَخْفى فيها بالإيمان، فانطلق عثمان، فمرَّ على قريش ببلدح، فقالوا: أين تريد ؟ فقال: بعثنى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدعوكُم إلى الله وإلى الإسلام، وأُخبِركُم أنَّا لم نأتِ لِقتال، وإنما جئنا عُمَّاراً، فقالوا: قد سمعنا ما تقُولُ، فانفُذْ لِحاجتك، وقام إليه أبانُ بنُ سعيد بن العاص، فرحَّب به، وأسرج فرسَه، فحمل عُثمانَ على الفرس، وأجاره، وأردفَه أبانُ حتى جاء مكة، وقال المسلمون قبل أن يَرْجِعَ عثمانُ: خَلَص عثمان قبلنا إلى البيت وطافَ به، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَظنُّه طَافَ بالبَيْتِ ونَحنُ مَحْصُورُونَ" ،
فقالُوا: وما يمنعُه يا رسول اللهِ وقد خَلَصَ ؟ قال: "ذَاكَ ظَنِّى به، ألاَّ يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ حَتَّى نَطُوفَ مَعَهُ"
واختلط المسلمون بالمشركين فى أمر الصلح، فرمى رجلٌ من أحد الفريقين رجلاً مِن الفريق الآخر، وكانت معركة، وترامَوْا بالنَّبلِ والحِجارة، وصاح الفريقانِ كلاهما، وارتهن كُلُّ واحدٍ مِن الفريقين بمن فيهم، وبلغ رسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن عثمانَ قد قُتِلَ، فدعا إلى البَيْعة، فثار المسلمون إلى رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو تحتَ الشجرة، فبايعُوه على ألاَّ يَفِرُّوا، فأخذ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيد نفسه، وقال: "هذِهِ عَنْ عُثْمَان ".
ولما تَمَّتِ البيعة، رجع عُثمان، فقال له المسلمون: اشتفيتَ يا أبا عبد الله مِن الطواف بالبيت، فقال: بئس ما ظننتُم بى، والذى نفسى بيده، لو مكثت بها سنةً، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقيمٌ بالحُدَيْبِيَةِ، ما طُفْتُ بِها حتى يَطُوفَ بها رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولقد دعتنى قريشٌ إلى الطوافِ بالبيت، فأبيتُ، فقال المسلمون: رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أعلمنَا باللهِ، وأحسننا ظَنا، وكان عمر آخِذاً بِيدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلبَيْعةِ تحتَ الشجرة، فبايعه المسلمون كُلُّهُم إلا الجدَّ بْنَ قَيْسٍ.
وكانَ مَعْقِلُ بنُ يسار آخذاً بِغصنها يرفَعهُ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان أوَّلَ من بايعه أبو سِنان الأسَدِى.
وبايعه سلمةُ بنُ الأكوع ثلاثَ مرات، فى أول الناس، وأوسطِهم، وآخِرِهم.
فبينما هم كذلك، إذ جاء بُدَيْلُ بنُ ورقاءَ الخُزاعى فى نَفرٍ مِن خُزاعة، وكانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن أهل تِهامَة، فقال: إنى تركتُ كعبَ بنَ لُؤَى، وعامر بن لؤى نزلوا أعدَادَ مِياه الحُدَيْبية معهم العُوذُ المَطَافِيلُ، وهم مقاتِلُوكَ، وصادُّوك عن البيت، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّا لَمْ نِجِئْ لِقِتَالِ أحَدٍ، ولَكِنْ جِئْتَنا مُعْتَمِرِينَ، وإنَّ قُرَيْشَاً قَدْ نَهَكَتْهُمُ الحَرْبُ، وأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإنْ شَاؤُوا مَادَدْتُهُم، ويُخَلُّوا بيْنى وبَيْنَ النًَّاسِ، وَإنْ شَاؤوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دخل فيهِ الناس، فَعَلُوا وإلاَّ فَقَدْ جَمُّوا، وإنْ هُم أَبَوْا إلاَّ القِتَالَ، فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لأُقَاتِلَنَّهُم عَلَى أَمْرِى هذَا حَتَّى تَنْفَردَ سَالِفَتِى، أوْ لَيُنْفِذَنَّ اللهُ أَمْرَهُ".
قال بُديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قُريشاً، فقال: إنى قد جئتُكم مِن عند هذا الرجل، وقد سمعتُه يقول قولاً، فإن شئتم عرضتُه عليكم. فقال سفهاؤهم: لا حاجةَ لنا أن تُحدِّثنا عنه بشىء. وقال ذوو الرأى منهم: هاتِ ما سمعته، قال: سمعتُه يقول كذا وكذا. فحدَّثهم بما قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقال عُروةُ بنُ مسعود الثَّقفى: إن هذَا قد عَرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشد، فاقبلوها، ودعونى آتِه، فقالوا: ائته، فأتاه، فجعل يُكلمه، فقال له النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحواً من قوله لِبُديل، فقال له عروةُ عند ذلك: أى محمد؛ أرأيتَ لو استأصلتَ قومَك هل سمعتَ بأحدٍ مِن العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى، فواللهِ إنى لأرى وجوهاً، وأرى أوشَاباً من الناس خليقاً أن يَفِرُّوا ويدعوك، فقال له أبو بكر: امْصُصْ بَظْرَ اللاَّتِ، أنحنُ نَفِرُّ عنه وندعه. قال: مَن ذا ؟ قالُوا: أبو بكر. قال: أما والذى نفسى بيده، لولا يَدٌ كانت لكَ عندى لم أَجْزِكَ بها، لأجبتُك، وجعل يُكلِّم النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلما كلَّمه أخذَ
بلحيته، والمغيرةُ بنُ شُعبة عِند رأسِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعه السيفُ، وعليه المِغفرُ، فكلما أهوى عُروةُ إلى لحية النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ضرب يَده بِنَعْلِ السيفِ، وقال: أخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحية رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرفع عروة رأسه وقال: مَن ذا ؟ قالوا: المغيرةُ بنُ شعبة. فقال: أَىْ غُدَرُ، أوَ لستُ أسعى فى غَدرتك ؟ وكان المغيرةُ صحب قوماً فى الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم. فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمَّا الإسْلامُ فأقْبَلُ، وأَمَّا المَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ فى شَىء".
ثم إن عروة جعلَ يَرْمُق أصحابَ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعينيه، فواللهِ مَا تَنَخَّمَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخامة إلا وقعت فى كفِّ رَجُلٍ منهم، فَدَلَكَ بها جِلدَه ووجهَه، وإذا أمرهم، ابتدروا أمرَه، وإذا توضأ، كادُوا يقتتِلُون على وضوئه، وإذا تكلَّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظرَ تعظيماً له، فرجع عروةُ إلى أصحابه، فقال: أىْ قوم؛ واللهِ لقد وفدتُ على الملوكِ: على كسرى، وقيصرَ، والنجاشىِّ، واللهِ ما رأيتُ ملكاً يُعظمه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ محمد محمداً، واللهِ إن تنخَّم نُخامة إلا وَقَعتْ فى كفِّ رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ، كادُوا يقتتِلُون على وضوئه، وإذا تكلَّم، خفضُوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظرَ تعظيماً له، وقد عرض عليكم خُطَّةَ رُشد، فاقبلُوها، فقال رجل من بنى كِنانة: دعونى آتِهِ، فقالوا: ائْتِهِ، فلما أشرفَ على النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه. قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هذا فُلانٌ"، وهو من قوم يُعظِّمون البُدْنَ، فابعثُوها له، فبعثوها له، واستقبله القومُ يُلَبُّون، فلما رأى ذلك قال: "سُبْحَانَ اللهِ، مَا يَنْبَغى لِهَؤُلاَء أن يُصَدُّوا عَنِ البَيتِ"، فرجع إلى أصحابه، فقال: رأيتُ البُدن قد
قُلِّدَتْ وأُشْعِرَتْ. وما أرى أن يُصَدُّوا عن البيت
فقام مِكْرَزُ بنُ حَفص، فقال: دعونى آته. فقالوا: ائتهِ. فلما أشرف عليهم، قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هذا مِكْرَزُ بن حَفْصٍ، وهو رجل فاجر"، فجعل يُكَلِّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبينا هُوَ يكلمه، إذ جاء سُهيلُ بنُ عمرو، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ سُهِّلَ لَكُمْ من أمْركُم"، فقال: هاتِ، اكتُب بيننا وبينكم كِتاباً، فدعا الكاتب، فقال: "اكتُب بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ". فقال سهيل: أما الرحمنُ، فواللهِ ما ندرى ما هُو، ولكن اكتب: باسمِكَ اللهُمَّ كما كنتَ تكتبُ، فقال المسلمون: واللهِ لا نكتُبها إلا بسمِ اللهِ الرَّحمن الرحيم، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اكْتُبْ باسْمِكَ اللهُمَّ" ، ثم قال: "اكْتُبْ: هذا ما قاضى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رسُولُ اللهِ"، فقال سُهيل: فواللهِ لو كنَّا نعلمُ أنك رسولُ اللهِ، ما صددناكَ عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنِّى رَسُولُ اللهِ وإنْ كَذَّبْتُمُونى، اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله" فَقَال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "على أَنْ تخَلُّوا بَيْنَنَا وبَيْن البَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ"، فقال سهيل: واللهِ لا تتحدَّثُ العربُ أنَّا أُخِذْنَا ضَغْطَةً، ولكن ذلك مِن العام المقبل، فكتب، فقال سهيل: على أن لا يأتِيك مِنَّا رجل وإن كان على دِينك إلا رددتَه إلينا، فقال المسلمون: سُبْحَانَ اللهِ، كيف يُردُّ إلى المشركين، وقد جاء مسلماً.
فبينا هُم كذلك، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسُفُ فى قيوده قَدْ خَرَج من أسفل مكة حتى رَمَى بنفسه بين ظُهورِ المُسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمدُ أول ما أقاضيكَ عليه أن تَرُدَّهُ إلىَّ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّا لم نقضِ الكتابَ بعد"، فقال: فواللهِ إذاً لا أُصَالحك على شىء أبداً، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَجِزْهُ لى"، قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: "بلى فافعل"، قال: ما أنا بفاعل. قال مِكرز:
بلى قد أجزناه. فقال أبو جندل: يا معشرَ المسلمين؛ أُرَدُّ إلى المشركين، وقد جِئتُ مسلماً، ألا ترون ما لقيتُ ؟ وكان قد عُذِّبَ فى اللهِ عذاباً شديداً، قال عُمَرُ بنُ الخطاب: واللهِ ما شككتُ منذ أسلمتُ إلا يومئذ. فأتيتُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: يا رسولَ الله؛ ألستَ نبى الله حقاً ؟ قال: "بلى"، قلتُ: ألسنا على الحق وعدوُّنا على الباطل ؟ قال: "بلى"، فقلتُ: علامَ نُعطى الدَّنيَّةَ فى ديننا إذاً، ونَرْجِعَ ولما يَحْكُم اللهُ بيننا وبينَ أعدائنا ؟ فقال: "إنِّى رَسُولُ اللهِ، وَهُوَ نَاصِرِى، وَلَسْتُ أعْصِيهِ"، قلتُ: أوَ لستَ كنتَ تُحدثنا أنَّا سنأتى البيتَ ونطوفُ به ؟ قال: "بَلَى، أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ العَام" ؟، قلتُ: لا. قالَ: "فإنَّكَ آتيهِ ومُطَّوِّفٌ به ". قال: فأتيتُ أبا بكر، فقلتُ له كما قلتُ لِرسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وردَّ علىَّ أبو بكر كما ردَّ علىّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواء، وزاد: فاستَمْسِك بِغَرْزِهِ حَتَّى تَمُوتَ، فواللهِ إنَّه لَعَلى الحَقِّ. قال عُمر: فعملت لذلك أعمالاً.
فلمَّا فرغ مِن قضية الكتاب، قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُومُوا فَانْحَرُوا، ثم احْلِقُوا" فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رجلٌ واحد حتى قال ذلك ثلاثَ مرات، فلما لم يَقُمْ مِنْهم أحد، قام فدخل على أُمِّ سلمة، فذكر لها مَا لَقِىَ مِنَ الناس، فقالت أُمُّ سلمة: يا رسُول الله؛ أَتُحِبُّ ذلك ؟ اخرُجْ ثم لا تكلِّم أحداً منهم كلمة حتى تَنْحَرَ بُدْنَك، وتدعو حَالِقَكَ فيحلقَكَ، فقام، فخرج، فلم يُكَلِّمْ أحداً منهم حتى فعل ذلك: نحر بُدنة، ودعا حَالِقه فحلقه، فلما رأى الناسُ ذلك، قامُوا فنحروا، وجعل بعضُهم يَحْلِقُ بعضاً، حتى كادَ بعضُهم يقتُلُ بعضاً غماً، ثم جاءه نسوةٌ مؤمناتٌ،
فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} حتى بلغ: {بِعِصَمِ الكَوَافِرِ}[ الممتحنة:10]فطلَّق عُمَرُ يومئذٍ امرأتين كانتا له فى الشِرْك، فتزوَّج إحداهُمَا معاوية، والأُخرى صفوان بن أُمية، ثم رجع إلى المدينة، وفى مرجعه أنزل الله عليه: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ ومَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيمَاً وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً}[ الفتح: 1-2]، فقال عمر: أوَ فتحٌ هُوَ يا رسول الله ؟ قال: "نعم"، فقال الصحابةُ: هنيئاً لكَ يا رَسُولَ اللهِ، فما لَنَا ؟ فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ...}[الفتح: 4]الآية.
ولما رجع إلى المَدِينة، جاءه أبو بصير رجل من قريش مسلماً، فأرسلوا فى طلبه رجلين، وقالوا: العهدَ الذى جعلتَ لنا، فدفعه إلى الرَّجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحُلَيْفَةِ، فنزلوا يأكُلون مِن تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: واللهِ إنِّى لأرى سيفَكَ هذا جيداً، فاستلَّه الآخرُ، فقال: أَجَلْ واللهِ إنه لجيد، لقد جربتُ به ثم جربت، فقال أبو بصير: أرنى أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه به حتى برد، وفرَّ الآخرُ بعدو حتى بلغ المدينة، فدخل المسجدَ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رآهُ: "لَقَدْ رَأى هذَا ذُعْرَاً"، فلما انتهى إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: قُتِلَ واللهِ صاحبى، وإنى لمقتول، فجاء أبو بصير، فقال: يا نبىَّ اللهِ؛ قد واللهِ أوفى الله ذِمَّتك، قد رددتنى إليهم، فأنجانى الله منهم، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَر حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ" ، فلما سمِعَ ذلك، عرف أنه سيرده
إليهم، فخرج حتى أتى سِيفَ البَحرِ، وينفلتُ منهم أبو جندل بنُ سهيل، فلحق بأبى بصير، فلا يخرُجُ مِن قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبى بصير، حتى اجتمعت منهم عِصابة، فواللهِ لا يسمعُونَ بعيرٍ لقُريش خرجت إلى الشام إلا اعترضُوا لها، فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريشٌ إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُنَاشِدُهُ الله والرحم لمَا أرسل إليهم، فمَن أتاه منهم، فهو آمن، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ....} حتى بلغ: {حَمِيَّةَ الجَاهِليَّةِ}[الفتح: 24-26]، وكانت حميتُهم أنهم لم يُقِرُّوا أنه نبى الله، ولم يُقروا بِبِسْمِ اللهِ الرحمن الرحيم، وحالُوا بينهم وبين البيت.
قلتُ: فى "الصحيح": أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "توضأ، ومجَّ فى بئر الحديبية من فمه، فجاشتْ بالماءِ" كذلك قال البراء بنُ عازب، وسلمةُ بنُ الأكوع فى "الصحيحين".
وقال عروة: عن مروان بن الحكم، والمِسور بن مَخْرَمَة، أنه غرز فيها سهماً مِن كنانته، وهو فى "الصحيحين" أيضاً.
وفى مغازى أبى الأسود عن عروة: توضأ فى الدَّلْوِ، ومضمض فاه، ثم مَجَّ فيه، وأمر أن يُصَبَّ فى البئر، ونزع سهماً من كِنانته، وألقاه فى البئر، ودعا الله تعالى، فَغَارَتْ بالماء حتى جعلُوا يغترِفُونَ بأيديهم منها، وهم جلوس على شقِّها، فجمع بين الأمرين، وهذا أشبه والله أعلم.
وفى "صحيح البخارى": عن جابر، قال: عَطِشَ الناسُ يومَ الحُديبية، ورسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين يديه رَكْوَة يتوضأ منها، إذ جَهَشَ الناسُ نحوه، فقال: "ما لكم" ؟ قالوا: يا رسُولَ اللهِ؛ ما عندنا ماء نشرب، ولا ما نتوضأ إلا ما بينَ يديكَ، "فوضع يده فى الرَّكوة، فجعل الماءُ يفورُ من بين أصابعه أمثال العيون، فشربوا، وتوضؤوا، وكانوا خمسَ عشرة مائة، وهذِهِ غيرُ قصة البئر".
وفى هذه الغزوة أصابهم ليلة مطر، فلما صلَّى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبحَ، قال: " أَتَدْرُونَ مَاذا قالَ رَبُّكُم اللَّيْلَةَ" ؟ قالوا: اللهُ ورسُوله أعلم. قال: "أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِى مُؤْمِنٌ بى وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ ورَحْمَتهِ، فَذلِكَ مُؤْمنٌ بى، كَافرٌ بالكَوْكَبِ، وأمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كذَا وكَذَا، فَذلِكَ كَافرٌ بى مُؤْمنٌ بالكوكب".

يتبع ب ج3//3 ان شاء الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق