الاثنين، 21 مايو 2018

ج3 /2.الروض الأنف للسهيلي ج3 /2 فَصْلٌ فِي حَدِيثِ إسْلَامِ عُمَرَ


فَصْلٌ وَفِي حَدِيثِ إسْلَامِ عُمَرَ فَنَهَمَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَيْ زَجَرَهُ وَالنّهِيمُ زَجْرُ الْأَسَدِ وَالنّهَامِيّ الْحَدّادُ وَالنّهَامُ طَائِرٌ وَفِيهِ قَوْلُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ قَالَ هَكَذَا [ خَلّوا ] عَنْ الرّجُلِ وَهِيَ كَلِمَةٌ مَعْنَاهَا : الْأَمْرُ بِالتّنَحّي ، فَلَيْسَ يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا ، كَمَا يَعْمَلُ إذَا قُلْت : اجْلِسْ هَكَذَا ، أَيْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ وَإِنْ كَانَ لَا بُدّ مِنْ عَامِلٍ فِيهَا إذَا جَعَلْتهَا لِلْأَمْرِ لِأَنّهَا كَافُ التّشْبِيهِ دَخَلَتْ عَلَى ذَا ، وَهَا : تَنْبِيهٌ فَيُقَدّرُ الْعَامِلُ إذًا مُضْمَرًا ، كَأَنّك قُلْت : ارْجِعُوا هَكَذَا ، وَتَأَخّرُوا هَكَذَا ، وَاسْتُغْنِيَ بِقَوْلِك : هَكَذَا عَنْ الْفِعْلِ كَمَا اُسْتُغْنِيَ بِرُوَيْدًا عَنْ اُرْفُقْ . [ ص 127 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ لَمّا أَسْلَمَ أَبِي عُمَرُ قَالَ أَيّ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ ؟ فَقِيلَ لَهُ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيّ . قَالَ فَغَدَا عَلَيْهِ قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ : فَعَدَوْت أَتّبِعُ أَثَرَهُ وَأَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ وَأَنَا غُلَامٌ أَعْقِلُ كُلّ مَا رَأَيْت ، حَتّى جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ أَعَلِمْت يَا جَمِيلُ أَنّي قَدْ أَسْلَمْت : وَدَخَلْت فِي دِينِ مُحَمّدٍ ؟ قَالَ فَوَاَللّهِ مَا رَاجَعَهُ حَتّى قَامَ يَجُرّ رِدَاءَهُ وَاتّبَعَهُ عُمَرُ وَاتّبَعْت أَبِي ، حَتّى إذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، وَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ [ ص 128 ] بَابِ الْكَعْبَةِ ، أَلَا إنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ قَدْ صَبَأَ قَالَ يَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ كَذَبَ وَلَكِنّي قَدْ أَسْلَمْت ، وَشَهِدْت أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . وَثَارُوا إلَيْهِ فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ حَتّى قَامَتْ الشّمْسُ عَلَى رُءُوسِهِمْ . قَالَ وَطَلَحَ فَقَعَدَ وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ فَأَحْلِفُ بِاَللّهِ أَنْ لَوْ قَدْ كُنّا ثَلَثَمِائَةِ رَجُلٍ لَتَرَكْنَاهَا لَكُمْ أَوْ لَتَرَكْتُمُوهَا لَنَا ، قَالَ فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، عَلَيْهِ حُلّةٌ حَبِرَةٌ وَقَمِيصٌ مُوَشّى ، حَتّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ مَا شَأْنُكُمْ ؟ قَالُوا : صَبَأَ عُمَرُ فَقَالَ فَمُهُ رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا ، فَمَاذَا تُرِيدُونَ ؟ أَتَرَوْنَ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ يُسَلّمُونَ لَكُمْ صَاحِبَهُمْ هَكَذَا ؟ خَلّوا عَنْ الرّجُلِ . قَالَ فَوَاَللّهِ لَكَأَنّمَا كَانُوا ثَوْبًا كَشَطّ عَنْهُ . قَالَ فَقُلْت لِأَبِي بَعْدَ أَنْ هَاجِرَ إلَى الْمَدِينَةِ : يَا أَبَتْ مَنْ الرّجُلُ الّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْك بِمَكّةَ يَوْمَ أَسْلَمْت ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَك ؟ فَقَالَ ذَلِكَ أَيْ بُنَيّ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّهُ قَالَ يَا أَبَتْ مَنْ الرّجُلُ الّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْك يَوْمَ أَسْلَمْت ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَك ، جَزَاهُ اللّهُ خَيْرًا ؟ قَالَ يَا بُنَيّ ذَاكَ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ لَا جَزَاهُ اللّهُ خَيْرًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ بَعْضِ آلِ عُمَرَ أَوْ بَعْضِ أَهْلِهِ قَالَ قَالَ عُمَرُ لَمّا أَسْلَمْت تِلْكَ اللّيْلَةَ تَذَكّرْت أَيّ أَهْلِ مَكّةَ أَشَدّ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَدَاوَةً حَتّى آتِيَهُ فَأَخْبَرَهُ أَنّي قَدْ أَسْلَمْت ، قَالَ قُلْت : أَبُو جَهْلٍ - وَكَانَ عُمَرُ لِخَتْمَةَ بِنْتِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ - قَالَ فَأَقْبَلْت حِينَ أَصْبَحْت ، حَتّى ضَرَبْت عَلَيْهِ بَابَهُ . قَالَ فَخَرَجَ إلَيّ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ مَرْحَبًا وَأَهْلًا يَا بْنَ أُخْتِي ، مَا جَاءَ بِك ؟ جِئْت لِأُخْبِرَك أَنّي قَدْ آمَنْت بِاَللّهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمّدٍ وَصَدّقْت بِمَا جَاءَ بِهِ قَالَ فَضَرَبَ الْبَابَ فِي وَجْهِي ، وَقَالَ قَبّحَك اللّهُ وَقَبّحَ مَا جِئْت بِهِSجَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ قَوْلَ عُمَرَ لِجَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيّ إنّي قَدْ أَسْلَمْت ، وَبَايَعْت مُحَمّدًا ، فَصَرَخَ جَمِيلٌ بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَلَا إنّ عُمَرَ قَدْ صَبَأَ . جَمِيلٌ هَذَا هُوَ الّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ ذُو الْقَلْبَيْنِ وَفِيهِ نَزَلَتْ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ { مَا جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [ الْأَحْزَابُ : 4 ] ، وَفِيهِ قِيلَ
وَكَيْفَ ثَوَائِي بِالْمَدِينَةِ بَعْدَمَا ... قَضَى وَطَرًا مِنْهَا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ
[ ص 128 ] عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي مَنْزِلِهِ وَاسْتَأْذَنَ عُمَرَ فَسَمِعَهُ وَهُوَ يَتَغَنّى ، وَيُنْشِدُ بالركبانية ، وَهُوَ غِنَاءٌ يُحْدَى بِهِ الرّكّابُ فَلَمّا دَخَلَ عُمَرُ قَالَ لَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ إنّا إذَا خَلَوْنَا ، قُلْنَا مَا يَقُولُ النّاسُ فِي بُيُوتِهِمْ وَقَلَبَ الْمُبَرّدُ هَذَا الْحَدِيثَ وَجَعَلَ الْمُنْشِدُ عُمَرَ وَالْمُسْتَأْذَنَ عَبْدَ الرّحْمَنِ وَرَوَاهُ الزّبَيْرُ كَمَا تَقَدّمَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَذَا الشّأْنِ .
خَبَرُ الصّحِيفَةِ
[ ص 129 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ نَزَلُوا بَلَدًا أَصَابُوا بِهِ أَمْنًا وَقَرَارًا ، وَأَنّ النّجَاشِيّ قَدْ مَنَعَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ مِنْهُمْ وَأَنّ عُمَرَ قَدْ أَسْلَمَ ، فَكَانَ هُوَ وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَجَعَلَ الْإِسْلَامَ يَفْشُو فِي الْقَبَائِلِ اجْتَمَعُوا وَائْتَمَرُوا أَنْ يَكْتُبُوا كِتَابًا يَتَعَاقَدُونَ فِيهِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ ، وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ ، عَلَى أَنْ لَا يَنْكِحُوا إلَيْهِمْ وَلَا يَنْكِحُوهُمْ وَلَا يَبِيعُوهُمْ شَيْئًا ، وَلَا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ فَلَمّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةٍ ثُمّ تَعَاهَدُوا وَتَوَاثَقُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمّ عَلّقُوا الصّحِيفَةَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ تَوْكِيدًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَكَانَ كَاتِبُ الصّحِيفَةِ مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ - فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَشَلُ بَعْضِ أَصَابِعِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا فَعَلَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ انْحَازَتْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطّلِبِ إلَى أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَدَخَلُوا مَعَهُ فِي شِعْبِهِ وَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ وَخَرَجَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ : أَبُو لَهَبٍ عَبْدُ الْعُزّى بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، إلَى قُرَيْشٍ ، فَظَاهَرَهُمْ .
مَوْقِفُ أَبِي لَهَبٍ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ أَنّ أَبَا لَهَبٍ لَقِيَ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ [ ص 130 ] ، حِينَ فَارَقَ قَوْمَهُ وَظَاهَرَ عَلَيْهِمْ قُرَيْشًا ، فَقَالَ يَا بِنْتَ عُتْبَةَ هَلْ نَصَرْت اللّاتَ وَالْعُزّى ، وَفَارَقْت مَنْ فَارَقَهُمَا وَظَاهَرَ عَلَيْهِمَا ؟ قَالَتْ نَعَمْ فَجَزَاك اللّهُ خَيْرًا يَا أَبَا عُتْبَةَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحُدّثْت أَنّهُ كَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ مَا يَقُولُ يَعْدُنِي مُحَمّدٌ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا ، يَزْعُمُ أَنّهَا كَائِنَةً بَعْدَ الْمَوْتِ فَمَاذَا وُضِعَ فِي يَدَيْ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمّ يَنْفُخُ فِي يَدْيِهِ وَيَقُولُ تَبّا لَكُمَا ، مَا أَرَى فِيكُمَا شَيْئًا مِمّا يَقُولُ مُحَمّدٌ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ { تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ } قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَبّتْ خَسِرَتْ . وَالتّبَابُ الْخُسْرَانُ . قَالَ حَبِيبُ بْنُ خَدِرَةَ الْخَارِجِيّ : أَحَدُ بَنِي هِلَالِ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ يَا طَيّبُ إنّا فِي مَعْشَرٍ ذَهَبَتْ مَسْعَاتُهُمْ فِي التّبَارِ وَالتّبَبِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُSحَدِيثُ الصّحِيفَةِ الّتِي كَتَبَتْهَا قُرَيْشٌ
[ ص 129 ] ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ أَبِي لَهَبٍ لِيَدَيْهِ تَبّا لَكُمَا ، لَا أَرَى فِيكُمَا شَيْئًا مِمّا يَقُولُ مُحَمّدٌ فَأَنْزَلَ اللّهُ [ ص 130 ] { تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ } هَذَا الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِذِكْرِ اللّهِ سُبْحَانَهُ يَدَيْهِ حَيْثُ يَقُولُ { تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وَأَمّا قَوْلُهُ وَتَبّ تَفْسِيرُهُ مَا جَاءَ فِي الصّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ لَمّا أَنَزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [ الشّعَرَاءُ 214 ] خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَتّى أَتَى الصّفَا ، فَصَعِدَ عَلَيْهِ فَهَتَفَ " يَا صُبَاحَاه " ، فَلَمّا اجْتَمَعُوا إلَيْهِ قَالَ " أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدّقِيّ " ؟ قَالُوا : مَا جَرّبْنَا عَلَيْك كَذِبًا . قَالَ " فَإِنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ . فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبّا لَك أَلِهَذَا جَمَعْتنَا ؟ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ } هَكَذَا قَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالْأَعْمَشُ ، وَهِيَ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - قِرَاءَةٌ مَأْخُوذَةٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنّ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَلْفَاظًا كَثِيرَةً تُعِينُ عَلَى التّفْسِيرِ قَالَ مُجَاهِدٌ : لَوْ كُنْت قَرَأْت قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَبْل أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبّاسٍ ، مَا احْتَجْت أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِمّا سَأَلْته ، وَكَذَلِكَ زِيَادَةٌ قَدْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فُسّرَتْ أَنّهُ خَبَرٌ مِنْ اللّهِ تَعَالَى ، وَأَنّ الْكَلَامَ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الدّعَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ } [ التّوْبَةُ 35 ] ، أَيْ إنّهُمْ أَهْلٌ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ هَذَا ، فَتَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ لَيْسَ مِنْ بَابِ قَاتَلَهُمْ اللّهُ وَلَكِنّهُ خَبَرٌ مَحْضٌ بِأَنّ قَدْ خَسِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَالْيَدَانِ آلَةُ الْكَسْبِ وَأَهْلُهُ وَمَالُهُ مِمّا كَسَبَ فَقَوْلُهُ { تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } تَفْسِيرُهُ قَوْلُهُ { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } وَوَلَدُ الرّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَيْ خَسِرَتْ يَدَاهُ هَذَا الّذِي كَسَبْت ، وَقَوْلُهُ وَتَبّ تَفْسِيرُهُ . { سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ } أَيْ قَدْ خَسِرَ [ ص 131 ] أَبِي لَهَبٍ تَبّا لَكُمَا ، مَا أَرَى فِيكُمَا شَيْئًا ، يَعْنِي : يَدَيْهِ سَبَبُ لِنُزُولِ تَبّتْ يَدَا كَمَا تَقَدّمَ . وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ تَبّا لَك يَا مُحَمّدُ سَبَبٌ لِنُزُولِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَبْ فَالْكَلِمَتَانِ فِي التّنْزِيلِ مَبْنِيّتَانِ عَلَى السّبَبَيْنِ وَالْآيَتَانِ بَعْدَهُمَا تَفْسِير لِلسّبَبَيْنِ . تَبَابِ يَدَيْهِ وَتَبَابُهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ وَالتّبَبُ عَلَى وَزْنِ التّلَفِ لِأَنّهُ فِي مَعْنَاهُ وَالتّبَابُ كَالْهَلَاكِ وَالْخَسَارِ وَزْنًا وَمَعْنًى ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِيهِ تَبَبٌ وَتَبَابٌ .
شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ
[ ص 131 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا اجْتَمَعَتْ عَلَى ذَلِكَ قُرَيْشٌ ، وَصَنَعُوا فِيهِ الّذِي صَنَعُوا ، قَالَ أَبُو طَالِبٍ [ ص 132 ] [ ص 133 ]
أَلَا أَبْلِغَا عَنّي عَلَى ذَاتِ بَيْنَنَا ... لُؤَيّا وَخُصّا مِنْ لُؤَيّ بَنِي كَعْبٍ
أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنّا وَجَدْنَا مُحَمّدًا ... نَبِيّا كَمُوسَى خُطّ فِي أَوّلِ الْكُتُبِ
وَأَنّ عَلَيْهِ فِي الْعِبَادِ مَحَبّةً ... وَلَا خَيْرَ مِمّنْ خَصّهُ اللّهُ بِالْحُبّ
وَأَنّ الّذِي أَلْصَقْتُمْ مِنْ كِتَابِكُمْ ... لَكُمْ كَائِنٌ نَحِسًا كَرَاغِيَةِ السّقْبِ
أَفِيقُوا أَفِيقُوا ، قَبْلَ أَنْ يُحْفَرَ الثّرَى ... وَيُصْبِحُ مَنْ لَمْ يَجْنِ ذَنْبًا كَذِي الذّنْبِ
وَلَا تَتْبَعُوا أَمْرَ الْوُشَاةِ وَتَقْطَعُوا ... أَوَاصِرَنَا بَعْدَ الْمَوَدّةِ وَالْقُرْبِ
وَتَسْتَجْلِبُوا حَرْبًا عَوَانًا ، وَرُبّمَا ... أَمُرّ عَلَى مَنْ ذَاقَهُ جَلَبُ الْحَرْبِ
فَلَسْنَا - وَرَبّ الْبَيْتِ - نُسْلِمُ أَحَمْدًا ... لَعَزّاءَ مِنْ عَضّ الزّمَانِ وَلَا كَرْبِ
وَلَمّا تَبِنْ مِنّا ، وَمِنْكُمْ سَوَالِفُ ... وَأَيْدٍ أُتِرّتْ بِالّقُسَاسِيّةِ الشّهُبِ
بِمَعْتَرَكٍ ضَيْقٍ تَرَى كَسْرَ الْقَنَا ... بِهِ وَالنّسُورَ الطّخْمَ يَعْكُفْنَ كَالشّرْبِ
كَأَنّ مُجَالَ الْخَيْلِ فِي حُجُرَاتِهِ ... وَمَعْمَعَةَ الْأَبْطَالِ مَعْرَكَةٌ الْحَرْبِ
أَلَيْسَ أَبُونَا هَاشِمٌ شَدّ أُزْرَهُ ... وَأَوْصَى بَنِيهِ بِالطّعَانِ وَبِالضّرْبِ
وَلَسْنَا نَمَلّ الْحَرْبَ حَتّى تَمَلّنَا ... وَلَا نَشْتَكِي مَا قَدْ يَنُوبُ مِنْ النّكْبِ
وَلَكِنّنَا أَهْلُ الْحَفَائِظِ وَالنّهَى ... إذَا طَارَ أَرْوَاحُ الْكُمَاةِ مِنْ الرّعْبِ
[ ص 134 ] أَرَادَ صِلَتَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ .
مِنْ جَهَالَةِ أَبِي جَهْلٍ
وَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ - فِيمَا يَذْكُرُونَ - لَقِيَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ ، مَعَهُ غُلَامٌ يَحْمِلُ قَمْحًا يُرِيدُ بِهِ عَمّتَهُ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ ، وَهِيَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَعَهُ فِي الشّعْبِ ، فَتَعَلّقَ بِهِ وَقَالَ أَتَذْهَبُ بِالطّعَامِ إلَى بَنِي هَاشِمٍ ؟ وَاَللّهِ لَا تَبْرَحْ أَنْتَ وَطَعَامَك ، حَتّى أَفْضَحَك بِمَكّةَ . فَجَاءَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ [ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ] ، فَقَالَ مَا لَك وَلَهُ ؟ فَقَالَ يَحْمِلُ الطّعَامَ إلَى بَنِي هَاشِمٍ فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيّ طَعَامٌ كَانَ لِعَمّتِهِ عِنْدَهُ بَعَثْت إلَيْهِ [ فِيهِ ] ، أَفَتَمْنَعُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامِهَا ؟ خَلّ سَبِيلَ الرّجُلِ فَأَبَى أَبُو جَهْلٍ حَتّى نَالَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَأَخَذَ أَبُو الْبَخْتَرِيّ لَحْيَ بَعِيرٍ فَضَرَبَهُ بِهِ فَشَجّهُ وَوَطِئَهُ وَطْأً شَدِيدًا ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ قَرِيبٌ يَرَى ذَلِكَ وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِهِمْ وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى ذَلِكَ يَدْعُو قَوْمَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا وَسِرّا وَجِهَارًا ، مُنَادِيًا بِأَمْرِ اللّهِ لَا يَتّقِي فِيهِ أَحَدًا مِنْ النّاسِ .Sمِنْ تَفْسِيرِ شِعْرِ أَبِي طَالِبٍ
فَصْلٌ ذِكْرُ شِعْرِ أَبِي طَالِب : أَلَا أَبْلِغَا عَنّي عَلَى ذَاتِ بَيْنِنَا
قَالَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ ذَاتِ بَيْنَنَا ، وَذَاتِ يَدِهِ وَمَا كَانَ نَحْوُهُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفِ مُؤَنّثٌ كَأَنّهُ يُرِيدُ الْحَالَ الّتِي هِيَ ذَاتُ بَيْنِهِمْ كَمَا قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } [ الْأَنْفَالُ 1 ] فَكَذَلِكَ إذَا قُلْت : ذَاتِ يَدِهِ . يُرِيدُ أَمْوَالَهُ أَوْ مُكْتَسَبَاتِهِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت : لَقِيته ذَاتَ يَوْمٍ أَيْ لِقَاءَةً أَوْ مَرّةً ذَاتَ يَوْمٍ فَمَا حُذِفَ الْمَوْصُوفُ وَبَقِيَتْ الصّفّةُ صَارَتْ كَالْحَالِ لَا تَتَمَكّنُ وَلَا تُرْفَعُ فِي بَابِ مَا لَمْ يُسَمّ فَاعِلُهُ كَمَا تُرْفَعُ الظّرُوفُ الْمُتَمَكّنَةُ وَإِنّمَا هُوَ كَقَوْلِك : سَيْرٌ عَلَيْهِ شَدِيدًا وَطَوِيلًا ، وَقَوْلُ الْخَثْعَمِيّ - وَاسْمُهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ [ مَدَرك ] : عَزَمْت عَلَى إقَامَةِ ذَاتَ صَبَاحٍ لَيْسَ هُوَ عِنْدِي مِنْ هَذَا الْبَابِ وَإِنْ كَانَ سِيبَوَيْهِ قَدْ جَعَلَهَا لُغَةً لِخَثْعَمٍ وَلَكِنّهُ عَلَى مَعْنَى إقَامَةِ يَوْمٍ وَكُلّ يَوْمٍ هُوَ ذُو صَبَاحٍ كَمَا تَقُولُ مَا كَلّمَنِي ذُو شَفَةٍ أَيْ مُتَكَلّمٌ وَمَا مَرَرْت بِذِي نَفْسٍ [ ص 132 ] قَيْلَةَ بِنْتِ مَخْرَمَةَ ، وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ وَقَعَ فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ : أَنّ أُخْتَهَا قَالَتْ لِبَعْلِهَا : إنّ أُخْتِي تُرِيدُ الْمَسِيرَ مَعَ زَوْجِهَا حُرَيْثِ بْنِ حَسّانَ ذَا صَبَاحٍ بَيْنَ سَمْعِ الْأَرْضِ وَبَصَرِهَا ، فَهَذَا يَكُونُ مِنْ بَابِ ذَاتِ مَرّةٍ وَذَاتِ يَوْمٍ غَيْرَ أَنّهُ وَرَدَ مُذَكّرًا ؛ لِأَنّهُ تَشْتَغِلُ تَاءُ التّأْنِيثِ مَعَ الصّادِ وَتَوَالِي الْحَرَكَاتِ فَحَذَفُوهَا ، فَقَالُوا : لَقِيته ذَا صَبَاحٍ وَهَذَا لَا يَتَمَكّنُ كَمَا لَا يَتَمَكّنُ ذَاتُ يَوْمٍ وَذَاتُ حِينٍ وَلَا يُضَافُ إلَيْهِ مَصْدَرٌ وَلَا غَيْرُهُ . وَقَوْلُ الْخَثْعَمِيّ عَزَمْت عَلَى إقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ قَدْ أَضَافَ إلَيْهِ فَكَيْفَ يُضِيفُ إلَيْهِ ثُمّ يَنْصِبُهُ أَوْ كَيْفَ يُضَارِعُ الْحَالَ مَعَ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَيْهِ ؟ فَكَذَلِكَ خَفْضُهُ وَأَخْرَجَهُ عَنْ نَظَائِرِهِ إلّا أَنْ يَكُونَ سِيبَوَيْهِ سَمِعَ خَثْعَمَ يَقُولُونَ سِرْت فِي ذَاتِ يَوْمٍ أَوْ سِيَر عَلَيْهِ ذَاتُ يَوْمٍ بِرَفْعِ التّاءِ فَحِينَئِذٍ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَقُولَ لُغَةُ خَثْعَمَ ، وَأَمّا الْبَيْتُ الّذِي تَقَدّمَ فَالشّاهِدُ لَهُ فِيهِ وَمَا أَظُنّ خَثْعَمَ ، وَلَا أَحَدًا مِنْ الْعَرَبِ يُجِيزُ التّمَكّنَ فِي نَحْوِ هَذَا ، وَإِخْرَاجِهِ عَنْ النّصْبِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . لَا الّتِي لِلتّبْرِئَةِ فَصْلٌ وَفِيهِ وَلَا خَيْرَ مِمّنْ خَصّهُ اللّهُ بِالْحُبّ
وَهُوَ مُشْكِلٌ جِدّا لِأَنّ لَا فِي بَابِ التّبْرِئَةِ لَا تَنْصِبُ مِثْلَ هَذَا إلّا مُنَوّنًا تَقُولُ لَا خَيْرًا مِنْ زَيْدٍ فِي الدّارِ وَلَا شَرّا مِنْ فُلَانٍ وَإِنّمَا تَنْصِبُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ إذَا كَانَ الِاسْمُ غَيْرَ مَوْصُولٍ بِمَا بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } [ يُوسُفُ 92 ] . لِأَنّ عَلَيْكُمْ لَيْسَ مِنْ صِلَةِ التّثْرِيبِ لِأَنّهُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ ، وَأَشْبَهَ مَا يُقَالُ فِي بَيْتِ أَبِي طَالِبٍ أَنّ خَيْرًا مُخَفّفٌ مِنْ خَيْرِ كَهَيْنِ وَمَيْت [ مِنْ هَيّنٍ وَمَيّتٍ ] وَفِي التّنْزِيلِ { خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [ الرّحْمَنُ 70 ] هُوَ مُخَفّفٌ مِنْ خَيْرَاتٍ . عَوْدٌ إلَى شَرْحِ شِعْرِ أَبِي طَالِبٍ وَقَوْلُهُ مِمّنْ . مَنْ مُتَعَلّقَةٌ بِمَحْذُوفِ كَأَنّهُ قَالَ لَا خَيْرَ أَخْيَرُ مِمّنْ خَصّهُ اللّهُ وَخَيْرٌ وَأَخْيَرُ لَفْظَانِ مِنْ جَنْسٍ وَاحِدٍ فَحَسُنَ الْحَذْفُ اسْتِثْقَالًا لِتَكْرَارِ اللّفْظِ كَمَا حَسُنَ { وَلَكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ } [ الْبَقَرَةُ 177 ] . و { الْحَجّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } [ الْبَقَرَةُ 197 ] لِمَا فِي تَكْرَارِ الْكَلِمَةِ مَرّتَيْنِ مِنْ الثّقَلِ عَلَى اللّسَانِ وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ اللّهِ تَعَالَى : { وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ } [ يُونُسُ 11 ] أَيْ لَوْ عَجّلَهُ لَهُمْ إذَا اسْتَعْجَلُوا بِهِ اسْتِعْجَالًا مِثْلَ اسْتِعْجَالِهِمْ بِالْخَيْرِ فَحَسُنَ هَذَا الْكَلَامُ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ ثِقَلِ التّكْرَارِ وَإِذَا حَذَفُوا حَرْفًا وَاحِدًا لِهَذِهِ الْعِلّةِ كَقَوْلِهِمْ بَلّحَرث بَنُونَ فُلَانٍ وَظَلِلْت وَأُحِشّتْ فَأَحْرَى أَنْ يَحْذِفُوا كَلِمَةَ مِنْ [ ص 133 ] يَكُونَ حَذْفُ التّنْوِينِ مُرَاعَاةً لِأَصْلِ الْكَلِمَةِ لِأَنّ خَيْرًا مِنْ زَيْدٍ إنّمَا مَعْنَاهُ أَخْيَرُ مِنْ زَيْدٍ وَكَذَلِكَ شَرّ مِنْ فُلَانٍ إنّمَا أَصْلُهُ أَشَرّ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ وَحُذِفَتْ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا ، وَأَفْعَلُ لَا يَنْصَرِفُ فَإِذَا انْحَذَفَتْ الْهَمْزَةُ انْصَرَفَ وَنُوّنَ فَإِذَا تَوَهّمْتهَا غَيْرَ سَاقِطَةٍ الْتِفَاتًا إلَى أَصْلِ الْكَلِمَةِ لَمْ يَبْعُدْ حَذْفُ التّنْوِينِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعَ مَا يُقَوّيهِ مِنْ ضَرُورَةِ الشّعْرِ . وَقَوْلُهُ بِالّقُسَاسِيّةِ الشّهُبِ يَعْنِي : السّيُوفَ نَسَبَهَا إلَى قُسَاس ، وَهُوَ مَعْدِنٌ حَدِيدٌ لِبَنِي أَسَدٍ ، وَقِيلَ اسْمٌ لِلْجَبَلِ الّذِي فِيهِ الْمَعْدِنُ قَالَ الرّاجِزُ يَصِفُ فَأْسًا :
أَحْضِرْ مِنْ مَعْدِنِ ذِي قُسَاس ... كَأَنّهُ فِي الْحَيْدِ ذِي الْأَضْرَاسِ
يُرْمَى بِهِ فِي الْبَلَدِ الدّهَاسِ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْقُسَاسِيّة : لَا أَدْرِي إلَى أَيّ شَيْءٍ نُسِبَ وَاَلّذِي ذَكَرْنَاهُ قَالَهُ الْمُبَرّدُ وَقَوْلُهُ ذِي قُسَاس كَمَا حَكَى ، ذُو زَيْدٍ أَيْ صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ وَفِي أَقْيَالِ حِمْيَرَ : ذُو كَلَاعٍ وَذُو عَمْرٍو ، أُضِيفَ الْمُسَمّى إلَى اسْمِهِ كَمَا قَالُوا : زَيْدُ بَطّةَ أَضَافُوهُ إلَى لَقَبِهِ . وَذُكِرَ فِيهِ النّسُورِ الطّخْمَة ، قِيلَ هِيَ السّودُ الرّءُوسُ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَقَالَ أَيْضًا : الطّخْمَة سَوَادٌ فِي مُقَدّمِ الْأَنْفِ . وَقَوْلُهُ كَرَاغِيَةِ السّقْبِ يُرِيدُ وَلَد النّاقَةِ الّتِي عُقْرُهَا قُدَار ، فَرَغَا وَلَدُهَا ، فَصَاحَ بِرُغَائِهِ كُلّ شَيْءٍ لَهُ صَوْتٌ فَهَلَكَتْ ثَمُودُ عِنْدَ ذَلِكَ فَضَرَبَتْ الْعَرَبُ ذَلِكَ مَثَلًا فِي كُلّ هَلَكَةٍ . كَمَا قَالَ عَلْقَمَةُ [ بْنُ عَبْدَةَ ] :
رَغَا فَوْقَهُمْ سَقْبُ السّمَاءِ فَدَاحِصٌ ... بِشِكّتِهِ لَمْ يُسْتَلَبْ وَسَلِيبُ
[ ص 134 ] وَقَالَ آخَرُ
لَعَمْرِي لَقَدْ لَاقَتْ سُلَيْمٌ وَعَامِرٌ ... عَلَى جَانِبِ الثّرْثَارِ رَاغِيَةَ الْبِكْرِ
مَا لَقِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قَوْمِهِ
فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ مَنَعَهُ اللّهُ مِنْهَا ، وَقَامَ عَمّهُ وَقَوْمُهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ دُونَهُ وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا أَرَادُوا مِنْ الْبَطْشِ بِهِ يَهْمِزُونَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَيُخَاصِمُونَهُ وَجَعَلَ الْقُرْآنَ يَنْزِلُ فِي قُرَيْشٍ بِأَحْدَاثِهِمْ وَفِيمَنْ نُصّبَ لِعَدَاوَتِهِ مِنْهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ سُمّيَ لَنَا
أَبُو لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ
[ ص 135 ] نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فِي عَامّةِ مَنْ ذَكَرَ اللّهُ مِنْ الْكُفّارِ فَكَانَ مِمّنْ سُمّيَ لَنَا مِنْ قُرَيْشٍ مِمّنْ نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ عَمّهُ أَبُو لَهَبِ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَامْرَأَتُهُ أُمّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ حَمّالَةَ الْحَطْبِ وَإِنّمَا سَمّاهَا اللّهُ تَعَالَى حَمَالَةَ الْحَطْبِ ؟ لِأَنّهَا كَانَتْ - فِيمَا بَلَغَنِي - تَحْمِلُ الشّوْكَ فَتَطْرَحُهُ عَلَى طَرِيقِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَيْثُ يَمُرّ ، فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمَا : تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْجِيدُ الْعُنُقُ . قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
يَوْمَ تُبْدِي لَنَا قَتِيلَةٌ عَنْ جيـ ... وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَجَمْعُهُ أَجْيَادٌ . وَالْمَسَدُ شَجَرٌ يُدَقّ كَمَا يُدَقّ الْكَتّانُ فَتُفْتَلُ مِنْهُ حِبَالٌ . قَالَ النّابِغَةُ الذّبْيَانِيّ - وَاسْمُهُ زِيَادُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ
مَقْذُوفَةٍ بِدَخِيسِ النّحْضِ بَازِلُهَا ... لَهُ صَرِيفٌ صَرِيفَ الْقَعْوِ بِالْمَسَدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَوَاحِدَتُهُ مَسَدَةٌ [ ص 136 ] [ ص 137 ] [ ص 138 ] [ ص 139 ]Sذِكْرُ أُمّ جَمِيلٍ وَالْمَسَدِ وَعَذَابِهَا
[ ص 135 ] وَذَكَرَ أُمّ جَمِيلٍ بِنْتَ حَرْبٍ عَمّةَ مُعَاوِيَةَ وَذَكَرَ أَنّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ الشّوْكَ وَتَطْرَحُهُ فِي طَرِيقِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَنْزَلَ اللّهُ فِيهَا : { وَامْرَأَتُهُ حَمّالَةَ الْحَطَبِ } قَالَ الْمُؤَلّفُ فَلَمّا كَنّى عَنْ ذَلِكَ الشّوْكِ بِالْحَطَبِ وَالْحَطَبُ لَا يَكُونُ إلّا فِي حَبْلٍ مِنْ ثُمّ جَعَلَ الْحَبْلَ فِي عُنُقِهَا ، لِيُقَابِلَ الْجَزَاءُ الْفِعْلَ . وَقَوْلُهُ مِنْ مَسَدٍ هُوَ مِنْ مَسَدْت الْحَبْلَ إذَا أَحَكَمْت فَتْلَهُ إلّا أَنّهُ قَالَ مِنْ مَسَدٍ وَلَمْ يَقُلْ حَبْلُ مَسَدٍ وَلَا مَمْسُودٍ لِمَعْنَى لَطِيفٍ ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ التّفْسِيرِ قَالَ الْمَسَدُ يُعَبّر بِهِ فِي الْعُرْفِ عَنْ حَبْلِ الدّلْوِ وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ يُصْنَعُ بِهَا فِي النّارِ مَا يُصْنَعُ بِالدّلْوِ تُرْفَعُ بِالْمَسَدِ فِي عُنُقِهَا إلَى شَفِيرِ جَهَنّمَ ثُمّ يُرْمَى بِهَا إلَى قَعْرِهَا هَكَذَا أَبَدًا ، وَقَوْلُهُمْ أَنّ الْمَسَدَ هُوَ حَبْلُ الدّلْوِ فِي الْعُرْفِ صَحِيحٌ فَإِنّا لَمْ نَجِدْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إلّا كَذَلِكَ كَقَوْلِ [ النّابِغَةِ ] الذّبْيَانِي : لَهُ صَرِيفٌ صَرِيفَ الْقَعْوِ بِالْمَسَدِ
[ ص 136 ] وَقَالَ الْآخَرُ وَهُوَ يَسْتَقِي عَلَى إبِلِهِ
يَا مَسَدَ الْخُوصِ تَعَوّذْ مِنّي ... إنْ تَكُ لَدْنًا لَيّنًا فَإِنّي
مَا شِئْت مِنْ أَشْمَطَ مَقْسَئِنّ
وَقَالَ آخَرُ
يَا رَبّ عَبْسٍ لَا تُبَارِكْ فِي أَحَدْ ... فِي قَائِمٍ مِنْهُمْ وَلَا فِيمَنْ قَعَدْ
غَيْرَ الْأُولَى شِدّوا بِأَطْرَافِ الْمَسَدْ أَيْ اسْتَقَوْا ، وَقَالَ آخَرُ وَهُوَ يَسْتَقِي :
وَمَسَدٍ أُمِرّ مِنْ أَيَانِقِ ... لَيْسَ بِأَنْيَابِ وَلَا حَقَائِقِ
يُرِيدُ جَمْعَ أَيْنُقٍ وَأَيْنُقٌ جَمْعُ نَاقَةٍ مَقْلُوبٌ وَأَصْلُهُ أَنْوُقٌ فَقُلِبَ وَأُبْدِلَتْ الْوَاوُ يَاءً لِأَنّهَا قَدْ أُبْدِلَتْ يَاءً لِلْكِسْرَةِ إذَا قَالُوا : نِيَاقٌ وَقَلَبُوهُ فِرَارًا مِنْ اجْتِمَاعِ هَمْزَتَيْنِ لَوْ قَالُوا : أَنْوُقٌ عَلَى الْأَصْلِ يُرِيدُ أَنّ الْمَسَدَ مِنْ جُلُودِهَا . وَفِي الْحَدِيثِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ فِي الْمَدِينَةِ : قَدْ حَرّمْتهَا إلّا لِعُصْفُورِ قَتَبٍ أَوْ مَسَدٍ مَحَالَةُ وَالْمَحَالَةُ الْبَكَرَةُ . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّهُ حَرّمَهَا بَرِيدًا فِي بَرِيدٍ إلّا الْمِنْجَدَةَ أَوْ مَسَدَ وَالْمِنْجَدَةُ عَصَا الرّاعِي . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النّبَاتِ كُلّ مَسَدٍ رِشَاءٌ وَأَنْشَدَ
وَبَكْرَةً وَمِحْوَرًا صَرّارَا ... وَمَسَدًا مِنْ أَبَقٍ مُغَارَا
وَالْأَبَقُ الْقِنّبُ وَالزّبْرُ الْكَتّانُ وَأَنْشَدَ أَيْضًا :
أَنَزَعُهَا تَمَطّيًا وَمَثّا ... بِالْمَسَدِ الْمَثْلُوثِ أَوْ يَرْمِثَا
فَقَدْ بَانَ لَك بِهَذَا أَنّ الْمَسَدَ حَبْلُ الْبِئْرِ وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَةِ جَهَنّمَ - أَعَاذَنَا اللّهُ مِنْهَا - أَنّهَا كَطَيّ الْبِئْرِ لَهَا قَرْنَانِ وَالْقَرْنَانِ مِنْ الْبِئْرِ كَالدّعَامَتَيْنِ لِلْبَكَرَةِ فَقَدْ بَانَ لَك بِهَذَا كُلّهِ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التّفْسِيرِ مِنْ صِفَةِ عَذَابِهَا أَعَاذَنَا اللّهُ مِنْ عَذَابِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ وَبِهَذَا تُنَاسِبُ الْكَلَامَ وَكَثُرَتْ مَعَانِيهِ وَتَنَزّهَ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَشْوٌ أَوْ لَغْوٌ - تَعَالَى اللّهُ مَنْزِلُهُ فَإِنّهُ كِتَابٌ عَزِيزٌ . [ ص 137 ] مُجَاهِدٍ : إنّهَا السّلْسِلَةُ الّتِي ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا لَا يَنْفِي مَا تَقَدّمَ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَرْبِقَ فِي تِلْكَ السّلْسِلَةِ أُمّ جَمِيلٍ وَغَيْرَهَا ، فَقَدْ قَالَ أَبُو الدّرْدَاءِ لِامْرَأَتِهِ يَا أُمّ الدّرْدَاءِ إنّ لِلّهِ سِلْسِلَةٌ تَغْلِي بِهَا مَرَاجِلُ جَهَنّمَ مُنْذُ خَلَقَ اللّهُ النّارَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَدْ نَجَاك مِنْ نِصْفِهَا بِالْإِيمَانِ بِاَللّهِ فَاجْتَهِدِي فِي النّجَاةِ مِنْ النّصْفِ الْآخَرِ بِالْحَضّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ : إنّهَا كَانَتْ تَمْشِي بِالنّمَائِمِ لَا يَنْفِي حَمْلَهَا الشّوْكَ وَهُوَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ سَائِغٌ أَيْضًا ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْأَسْلَتِ لِقُرَيْشِ حِينَ اخْتَلَفُو ا :
وَنُبّئْتُكُمْ شَرْجَيْنِ كُلّ قَبِيلَةٍ ... لَهَا زُمّلٌ مِنْ بَيْنِ مُذْكٍ وَحَاطِبٍ
فَالْمُذَكّي الّذِي يُذَكّي نَارَ الْعَدَاوَةِ وَالْحَاطِبُ الّذِي يَنُمّ وَيُغْرِي كَالْمُحْتَطَبِ النّارَ وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى ، وَكَأَنّهُ مُنْتَزَعٌ مِنْهُ قَوْلُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ قَتّاتٌ وَالْقَتّاتُ هُوَ الّذِي يَجْمَعُ الْقَتّ وَهُوَ مَا يُوقَدُ بِهِ النّارُ مِنْ حَشِيشٍ وَحَطَبٍ صِغَارٍ . عَنْ الْجِيدِ وَالْعُنُقِ وَقَوْلُهُ فِي جِيدِهَا ، وَلَمْ يَقُلْ فِي عُنُقِهَا ، وَالْمَعْرُوفُ أَنْ يُذْكَرَ الْعُنُقَ إذَا ذُكِرَ الْغُلّ ، أَوْ الصّفْعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : إنّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا [ يس : 8 ] وَيُذْكَرُ الْجِيدُ إذَا ذُكِرَ الْحُلِيّ أَوْ الْحُسْنُ فَإِنّمَا حَسُنَ هَهُنَا ذِكْرُ الْجِيدِ فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ لِأَنّهَا امْرَأَةٌ وَالنّسَاءُ تُحَلّي أَجِيَادَهُنّ وَأُمّ جَمِيلٍ لَا حُلِيّ لَهَا فِي الْآخِرَةِ إلّا الْحَبْلُ الْمَجْعُولُ فِي عُنُقِهَا ، فَلَمّا أُقِيمَ لَهَا ذَلِكَ مَقَامَ الْحُلِيّ ذُكِرَ الْجِيدَ مَعَهُ فَتَأَمّلْهُ فَإِنّهُ مَعْنًى لَطِيفٌ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الْأَعْشَى : يَوْم تُبْدِي لَنَا قُتَيْلَة عَنْ جِيدٍ
وَلَمْ يَقُلْ عَنْ عُنُقٍ يَقُولُ الْآخَرُ وَأَحْسَنُ مِنْ عُقَدِ الْمَلِيحَةِ جِيدُهَا
و قَالَهُ لَكَانَ غَثّا مِنْ الْكَلَامِ فَإِنّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُ الْجِيدِ حَيْثُ قُلْنَا ، [ ص 138 ] { فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آلُ عِمْرَانَ : 21 ] أَيْ لَا بُشْرَى لَهُمْ إلّا ذَلِكَ وَقَوْلُ الشّاعِرِ [ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ ] :
[ وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْت لَهَا بِخَيْلِ ] ... تَحِيّةُ بَيْنِهِمْ كَرْبٌ وَجِيعُ
أَ يْ لَا تَحِيّةَ لَهُمْ . كَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ أَيْ لَيْسَ ثُمّ جِيدٌ يُحَلّى ، إنّمَا هُوَ حَبْلُ الْمَسَدِ وَانْظُرْ كَيْفَ قَالَ وَامْرَأَتُهُ وَلَمْ يَقُلْ وَزَوْجُهُ لِأَنّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجِ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَلِأَنّ التّزْوِيجَ حِلْيَةٌ شَرْعِيّةٌ وَهُوَ مِنْ أَمْرِ الدّينِ يُجَرّدُهَا مِنْ هَذِهِ الصّفّةِ كَمَا جَرّدَ مِنْهَا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ ، فَلَمْ يَقُلْ زَوْجَ نُوحٍ وَقَدْ قَالَ لِآدَمَ { اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ } [ الْبَقَرَةُ 35 ] وَقَالَ لِنَبِيّهِ عَلَيْهِ السّلَامُ { قُلْ لِأَزْوَاجِكَ } وَقَالَ وَأَزْوَاجُهُ أُمّهَاتُهُمْ إلّا أَنْ يَكُونَ مُسَاقَ الْكَلَامِ فِي ذِكْرِ الْوِلَادَةِ وَالْحَمْلِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ لَفْظُ الْمَرْأَةِ لَائِقًا بِذَلِكَ الْمَوْطِنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا } [ مَرْيَمُ : 5 - 8 ] ، { فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرّةٍ } [ الذّارِيَاتُ 29 ] لِأَنّ الصّفَةَ الّتِي هِيَ الْأُنُوثَةُ هِيَ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْحَمْلِ وَالْوَضْعِ لَا مِنْ حَيْثُ كَانَ زَوْجًا . غُلُوّ فِي الْوَصْفِ بِالْحُسْنِ فَصْلٌ وَأَنْشَدَ شَاهِدًا عَلَى الْجِيدِ قَوْلَ الْأَعْشَى :
يَوْمَ تُبْدِي لَنَا قُتَيْلَة عَنْ ... جِيدِ أَسِيلٍ تَزْيِنُهُ الْأَطْوَاقُ
وَقَوْلُهُ تَزْيِنُهُ أَيْ تَزِيدُهُ حَسَنًا ، وَهَذَا مِنْ الْقَصْدِ فِي الْكَلَامِ وَقَدْ أَبَى الْمُوَلّدُونَ إلّا الْغُلُوّ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَأَنْ يَغْلِبُوهُ فَقَالَ فِي الْحَمَاسَةِ حُسَيْنُ بْنُ مُطَيْرٍ [ الْأَسَدِيّ ] :
مُبَلّلَةُ الْأَطْرَافِ زَانَتْ عُقُودُهَا ... بِأَحْسَنَ مِمّا زِينَتُهَا عُقُودُهَا
وَقَالَ خَالِدٌ الْقَسْرِيّ لِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَنْ تَكُنْ الْخِلَافَةُ زِينَتُهُ فَأَنْتَ زِينَتُهَا ، وَمَنْ تَكُنْ شَرّفْته ، فَأَنْتَ شَرّفْتهَا ، وَأَنْتَ كَمَا قَالَ [ مَالِكُ ابْنُ أَسَمَاءَ ] :
وَتَزِيدِينَ أَطْيَبَ الطّيبِ طِيبًا ... إنّ تَمَسّيهِ أَيْنَ مِثْلُك أَيْنَا
وَإِذَا الدّرّ زَانٍ حُسْنَ وُجُوهٍ ... كَانَ لِلدّرّ حَسَنُ وَجْهِك زَيْنَا
[ ص 139 ] فَقَالَ عُمَرُ إنّ صَاحِبَكُمْ أَعْطَى مَقُولًا ، وَلَمْ يُعْطِ مَعْقُولًا ، قَالَ الْمُؤَلّفُ وَإِنّمَا لَمْ يَحْسُنْ هَذَا مِنْ خَالِدٍ لَمّا قَصَدَ بِهِ التّمَلّقَ . وَإِلّا فَقَدْ صَدَرَ مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ الصّدّيقِ فَحَسُنَ لِمَا عَضّدَهُ مِنْ التّحْقِيقِ وَالتّحَرّي لِلْحَقّ وَالْبَعْدِ عَنْ الْمَلَقِ وَالْخِلَابَةِ وَذَلِكَ حِينَ عَهِدَ إلَى عُمَرَ بِالْخِلَافَةِ وَدَفَعَ إلَيْهِ عَهْدَهُ مَخْتُومًا ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَا فِيهِ فَلَمّا عَرَفَ مَا فِيهِ رَجَعَ إلَيْهِ حَزِينًا كَهَيْئَةِ الثّكْلَى : يَقُولُ حَمّلْتنِي عِبْئًا أَلّا أَضْطَلِعُ بِهِ وَأَوْرَدْتنِي مَوْرِدًا لَا أَدْرِي : كَيْفَ الصّدْرُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ الصّدّيقُ مَا آثَرْتُك بِهَا ، وَلَكِنّي آثَرْتهَا بِك ، وَمَا قَصَدْت مُسَاءَتَك ، وَلَكِنْ رَجَوْت إدْخَالَ السّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِك ، وَمِنْ هَاهُنَا أَخَذَ الْحُطَيْئَة قَوْلُهُ
مَا آثَرُوك بِهَا إذْ قَدّمُوك لَهَا ... لَكِنْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانَتْ بِهَا الْإِثْرُ
وَقَدْ سَبَكَ هَذَا الْمَعْنَى فِي النّسِيبِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبّاسٍ الرّومِيّ ، فَقَالَ
وَأَحْسَنُ مِنْ عِقْدِ الْمَلِيحَةِ جِيدُهَا ... وَأَحْسَنُ مِنْ سِرْبَالِهَا الْمُتَجَرّدُ
وَمِمّا هُوَ دُونَ الْغُلُوّ وَفَوْقَ التّقْصِيرِ قَوْلُ الرّضِيّ
حَلْيُهُ جِيدُهُ لَا مَا يُقَلّدُهُ ... وَكُحْلُهُ مَا بِعَيْنَيْهِ مِنْ الْكُحْلِ
وَنَحْوٌ مِنْهُ مَا أَنْشَدَهُ الثّعَالِبِيّ :
وَمَا الْحَلْيُ إلّا حِيلَةٌ مِنْ نَقِيصَةٍ ... يُتَمّمُ مِنْ حُسْنٍ إذَا الْحُسْنُ قَصّرَا
فَأَمّا إذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفّرًا ... فَحَسْبُك لَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يُزَوّرَا
وَسَمِعْت الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ مُحَمّدَ بْنَ الْعَرَبِيّ يَقُولُ حَجّ أَبُو الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيّ الزّاهِدُ ذَاتَ مَرّةٍ فَلَمّا أَشْرَفَ عَلَى الْكَعْبَةِ ، وَرَأَى مَا عَلَيْهَا مِنْ الدّيبَاجِ تَمَثّلَ وَقَالَ
مَا عَلّقَ الْحُلِيّ عَلَى صَدْرِهَا ... إلّا لِمَا يُخْشَى مِنْ الْعَيْنِ
تَقُولُ وَالدّرّ عَلَى نَحْرِهَا ... مَنْ عَلّقَ الشّيْن عَلَى الزّيْنِ
وَبَيْتُ الْأَعْشَى الْمُتَقَدّمُ بَعْدَهُ
وَشَتِيتٍ كَالْأُقْحُوَانِ جَلّاهُ ... الطّلّ فِيهِ عُذُوبَةٌ وَاتّسَاقُ
وَأَثِيثٍ جَثْلِ النّبَاتِ تَرْوِي ... ه لَعُوبٌ غَرِيرَةٌ مِفْتَاقُ
حُرّةٌ طِفْلَةُ الْأَنَامِلِ كَالدّمْ ... لَا عَانِسٌ وَلَا مِهْزَاقُ
[ ص 140 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَذَكَرَ لِي : أَنّ أُمّ جَمِيلٍ حَمَالَةَ الْحَطَبِ حِينَ سَمِعَتْ مَا نَزَلَ فِيهَا ، وَفِي زَوْجِهَا مِنْ الْقُرْآنِ أَتَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ مِنْ حِجَارَةٍ فَلَمّا وَقَفَتْ عَلَيْهِمَا أَخَذَ اللّهُ بِبَصَرِهَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَا تَرَى إلّا أَبَا بَكْرٍ فَقَالَتْ يَا أَبَا بَكْرٍ أَيْنَ صَاحِبُك ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنّهُ يَهْجُونِي ؟ وَاَللّهِ لَوْ وَجَدْته لَضَرَبْت بِهَذَا الْفِهْرِ فَاهُ أَمَا وَاَللّهِ إنّي لَشَاعِرَةٌ ثُمّ قَالَتْ
مُذَمّمًا عَصَيْنَا ... وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا
وَدِينَهُ قَلَيْنَا
ثُمّ انْصَرَفْت ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللّهِ أَمَا تَرَاهَا رَأَتْك ؟ فَقَالَ مَا رَأَتْنِي ، لَقَدْ أَخَذَ اللّهُ بِبَصَرِهَا عَنّي قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهَا : " وَدِينَهُ قَلَيْنَا " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إنّمَا تُسَمّي رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مُذَمّمًا ، ثُمّ يَسُبّونَهُ فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ أَلَا تَعْجَبُونَ لِمَا يَصْرِفُ اللّهُ عَنّي مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ ، يَسُبّونَ وَيَهْجُونَ مُذَمّمًا ، وَأَنَا مُحَمّدٌSالْفِهْرُ [ ص 140 ] وَذَكَرَ قَوْلَ أُمّ جَمِيلٍ لِأَبِي بَكْرٍ لَوْ وَجَدْت صَاحِبَك لَشَدَخْت رَأْسَهُ بِهَذَا الْفِهْرِ . الْمَعْرُوفُ فِي الْفِهْرِ التّأْنِيثُ وَتَصْغِيرُهُ فُهَيْرَةُ وَوَقَعَ هَاهُنَا مُذّكّرًا . حَوْلَ قَوْلِهِمْ مُذَمّمٌ وَحَدِيثُ خَبّابٍ وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا تَرَوْنَ إلَى مَا يَدْفَعُ اللّهُ عَنّي مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ ، يَشْتُمُونَ وَيَهْجُونَ مُذَمّمًا وَأَنَا مُحَمّدٌ " ؟ وَأَدْخَلَ النّسَوِيّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الطّلَاقِ فِي بَابِ " مَنْ طَلّقَ بِكَلَامِ لَا يُشْبِهُ الطّلَاقَ فَإِنّهُ غَيْرُ لَازِمٍ " وَهُوَ فِقْهٌ حَسَنٌ لِقَوْلِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَلَا تَرَوْنَ إلَى مَا يَدْفَعُ اللّهُ عَنّي فَجَعَلَ أَذَاهُمْ مَصْرُوفًا عَنْهُ لِمَا سَبّوا مُذَمّمًا ، وَمُذَمّمًا لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لَهُ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهَا : كُلِي وَاشْرَبِي ، وَأَرَادَ بِهِ الطّلَاقَ لَمْ يَلْزَمْهُ وَكَانَ مَصْرُوفًا عَنْهُ لِأَنّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَبّارَةً عَنْ الطّلَاقِ .
إيذَاءُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ لِلرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
[ ص 141 ] وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ جُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ كَانَ إذَا رَأَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَمَزَهُ وَلَمَزَهُ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ { وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدّدَهُ يَحْسَبُ أَنّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلّا لَيُنْبَذَنّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللّهِ الْمُوقَدَةُ الّتِي تَطّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ إِنّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدّدَةٍ } . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْهُمَزَةُ الّذِي يَشْتِمُ الرّجُلَ عَلَانِيَةً وَيَكْسِرُ عَيْنَيْهِ عَلَيْهِ وَيَغْمِزُ بِهِ . قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ :
هَمَزْتُك فَاخْتَضَعْت لِذُلّ نَفْسٍ ... بِقَافِيَةِ تَأَجّجُ كَالشّوَاظِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَجَمْعُهُ هَمَزَاتٌ . وَاللّمَزَةُ الّذِي يَعِيبُ النّاسَ سِرّا وَيُؤْذِيهِمْ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : فِي ظِلّ عَصْرِي بَاطِلِي وَلَمْزِي
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ وَجَمْعُهُ لَمَزَاتٌ . إيذَاءُ الْعَاصِ لِلرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ ، كَانَ خَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ ، صَاحِبَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَيْنًا بِمَكّةَ يَعْمَلُ السّيُوفَ وَكَانَ قَدْ بَاعَ مِنْ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ سُيُوفًا عَمِلَهَا لَهُ حَتّى كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ فَقَالَ لَهُ يَا خَبّابُ أَلَيْسَ يَزْعُمُ مُحَمّدٌ صَاحِبُكُمْ هَذَا الّذِي أَنْتَ عَلَى دِينِهِ أَنّ فِي الْجَنّةِ مَا ابْتَغَى أَهْلُهَا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضّةٍ أَوْ ثِيَابٍ أَوْ خَدَمٍ ؟ قَالَ خَبّابٌ بَلَى . قَالَ فَأَنْظِرْنِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَا خَبّابُ حَتّى أَرْجِعَ إلَى تِلْكَ الدّارِ فَأَقْضِيك هُنَالِكَ حَقّك ، فَوَاَللّهِ لَا تَكُونُ أَنْتَ وَصَاحِبُك يَا خَبّابُ آثَرَ عِنْدَ اللّهِ مِنّي ، وَلَا أَعْظَمَ حَظّ فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ { أَفَرَأَيْتَ الّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنّ مَالًا وَوَلَدًا أَطّلَعَ الْغَيْبَ } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا } [ هِيَ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ : 77 - 80 ]S[ ص 141 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ خَبّابٍ مَعَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ وَمَا أَنَزَلَ اللّهُ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ { أَفَرَأَيْتَ الّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا } وَقَدْ تَقَدّمَ الْكَلَامُ عَلَى : أَرَأَيْت ، وَأَنّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلِيَهَا الِاسْتِفْهَامُ كَمَا يَلِي : عَلِمْت وَنَحْوَهَا ، وَهِيَ هَاهُنَا : عَامِلَةٌ فِي الّذِي كَفَرَ وَقَدْ قَدّمْنَا مِنْ الْقَوْلِ فِيهَا مَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا ، فَلْيُنْظَرْ فِي سُورَةِ اقْرَأْ وَحَدِيثِ نُزُولِهَا
إيذَاءُ أَبِي جَهْلٍ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 142 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - فَقَالَ لَهُ وَاَللّهِ يَا مُحَمّدُ لَتَتْرُكَنّ سَبّ آلِهَتِنَا ، أَوْ لَنَسُبّنّ إلَهَك الّذِي تَعْبُدُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ { وَلَا تَسُبّوا الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبّوا اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الْأَنْعَامُ 108 ] فَذَكَرَ لِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَفّ عَنْ سَبّ آلِهَتِهِمْ وَجَعَلَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ .Sسَدّ الذّرَائِعِ
[ ص 142 ] وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي جَهْلٍ لَتَكُفّنّ عَنْ سَبّ آلِهَتِنَا أَوْ لَنَسُبّنّ إلَهَك ، فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى { وَلَا تَسُبّوا الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبّوا اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الْأَنْعَامُ 108 ] الْآيَةَ . وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيّة ِ فِي إثْبَاتِ الذّرَائِعِ وَمُرَاعَاتِهَا فِي الْبُيُوعِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَذَلِكَ أَنّ سَبّ آلِهَتِهِمْ كَانَ مِنْ الدّينِ فَلَمّا كَانَ سَبَبًا إلَى سَبّهِمْ الْبَارِيَ - سُبْحَانَهُ - نَهَى عَنْ سَبّ آلِهَتِهِمْ فَكَذَلِكَ مَا يَخَافُ مِنْهُ الذّرِيعَةَ إلَى الرّبَا ، يَنْبَغِي الزّجْرُ عَنْهُ وَمِنْ الذّرَائِعِ مَا يَقْرُبُ مِنْ الْحَرَامِ وَمِنْهَا مَا يَبْعُدُ فَتَقَعُ الرّخْصَةُ وَالتّشْدِيدُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ وَلَمْ يَجْعَلْ الشّافِعِيّ الذّرِيعَةَ إلَى الْحَرَامِ أَصْلًا ، وَلَا كَرِهَ شَيْئًا مِنْ الْبُيُوعِ الّتِي تُتّقَى فِيهَا الذّرِيعَةُ إلَى الرّبَا ، وَقَالَ تُهْمَةُ الْمُسْلِمِ وَسُوءُ الظّنّ بِهِ حَرَامٌ وَمِنْ حُجّتِهِمْ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ : إنّمَا الرّبَا عَلَى مَنْ قَصَدَ الرّبَا ، وَقَوْلُ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ إنّمَا الْأَعْمَالُ بِالنّيّاتِ ، وَإِنّمَا لِكُلّ امْرِئِ مَا نَوَى فِيهِ أَيْضًا مُتَعَلّقٌ لَهُمْ وَقَالُوا : وَنَهْيُهُ تَعَالَى عَنْ سَبّ آلِهَتِهِمْ لِئَلّا يُسَبّ اللّهُ تَعَالَى لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِأَنّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ لِمُؤْمِنِ وَلَا تَضْيِيقَ عَلَيْهِ وَكَمَا تُتّقَى الذّرِيعَةُ إلَى تَحْلِيلِ مَا حَرّمَ اللّهُ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُتّقَى تَحْرِيمُ مَا أَحَلّ اللّهُ فَكِلَا الطّرَفَيْنِ ذَمِيمٌ وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا ، وَالرّبَا مَعْلُومٌ فَمَا لَيْسَ مِنْ الرّبَا فَهُوَ مِنْ الْبَيْعِ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلطّائِفَتَيْنِ وَالِاحْتِجَاجُ لِلْفَرِيقَيْنِ يَتّسِعُ مِجَالُهُ وَيَصُدّنَا عَنْ مَقْصُودِنَا مِنْ الْكِتَابِ .
إيذَاءُ النّضْرِ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَالنّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ ، [ ص 143 ] كَانَ إذَا جَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَجْلِسًا ، فَدَعَا فِيهِ إلَى اللّهِ تَعَالَى ، وَتَلَا فِيهِ الْقُرْآنَ وَحَذّرَ قُرَيْشًا مَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ خَلْفُهُ فِي مَجْلِسِهِ إذَا قَامَ فَحَدّثَهُمْ عَنْ رُسْتُم السّدِيدِ وَعَنْ إسفنديار ، وَمُلُوكِ فَارِسَ ، ثُمّ يَقُولُ وَاَللّهِ يَا مُحَمّدُ بِأَحْسَنَ حَدِيثًا مِنّي ، وَمَا حَدِيثُهُ إلّا أَسَاطِيرُ الْأَوّلِينَ اكْتَتَبَهَا كَمَا اكْتَتَبَتْهَا . فَأَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الّذِي يَعْلَمُ السّرّ فِي السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } [ الْفُرْقَانُ : 5 ، 6 ] . وَنَزَلَ فِيهِ { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوّلِينَ } وَنَزَلَ فِيهِ { وَيْلٌ لِكُلّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمّ يُصِرّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الْجَاثِيَةُ 7 ، 8 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْأَفّاكُ الْكَذّابُ . وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى : { أَلَا إِنّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللّهُ وَإِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الصّافّاتُ 151 ، 152 ] . وَقَالَ رُؤْبَةُ لِامْرِئِ أَفّكَ قَوْلًا إفْكًا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمًا - فِيمَا بَلَغَنِي - مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَجَاءَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ حَتّى جَلَسَ مَعَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ وَفِي الْمَجْلِسِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَتَكَلّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَعَرَضَ لَهُ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَكَلّمَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَتّى أَفْحَمَهُ ثُمّ تَلَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ { إِنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ } [ الْأَنْبِيَاءُ 98 - 100 ] . [ ص 144 ] ابْنُ هِشَامٍ : حَصَبُ جَهَنّمَ كُلّ مَا أُوقِدَتْ بِهِ . قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيّ وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ خَالِدٍ
فَأَطْفِئْ وَلَا تُوقِدْ وَلَا تَكُ مُحْصِبًا ... لِنَارِ الْعُدَاةِ أَنْ تَطِيرَ شَكَاتُهَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . وَيُرْوَى : وَلَا تَكُ مِحْضَأ . قَالَ الشّاعِرُ
حَضَأْت لَهُ نَارِي فَأَبْصَرَ ضَوْأَهَا ... وَمَا كَانَ لَوْلَا حَضَأْةُ النّارَ يَهْتَدِيSعَنْ النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَرُسْتُم
فَصْلٌ حَدِيثُ النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَقَالَ فِي نَسَبَهُ كَلَدَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ النّسّابِ [ ص 143 ] حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ وَحَدِيثُ النّضْرِ أَنّهُ تَعَلّمَ أَخْبَارَ رُسْتُم وإسفندياز ، وَكَانَ يَقُولُ اكْتَتَبْتهَا كَمَا اكْتَتَبَهَا مُحَمّدٌ وَوَقَعَ فِي الْأَصْلِ اكْتَتَبَهَا كَمَا اكْتَتَبَهَا مُحَمّدٌ وَفِي الرّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ اكْتَتَبْتهَا كَمَا اكْتَتَبَهَا ، وَرُسْتُم الشّيْد بِالْفَارِسِيّةِ مَعْنَاهُ ذُو الضّيَاءِ وَالْيَاءُ فِي الشّيْد وَالْأَلِفُ سَوَاءٌ وَمِنْهُ " أرفخشاذ " وَقَدْ تَقَدّمَ شَرْحُهُ وَمِنْهُ " جَمّ شَاذّ " ، وَهُوَ مِنْ أَوّلِ مُلُوكِ " الْأَرْضِ " وَهُوَ الّذِي قَتَلَهُ الضّحّاكُ " بيوراسب " ، ثُمّ عَاشَ إلَى مُدّةِ " أفريذون وَأَبِيهِ جَمّ " ، وَبَيْنَ " أفريذون " وَبَيْنَ " جَمّ " تِسْعَة آبَاءٍ وَقَالَ لَهُ حِينَ قَتَلَهُ مَا قَتَلْتُك بِجَمّ وَمَا أَنْتَ لَهُ بِكُفْءِ وَلَكِنْ قَتَلْتُك بِثَوْرِ كَانَ فِي دَارِهِ وَقَدْ تَقَدّمَ طَرَفٌ مِنْ أَخْبَارِ رُسْتُم وإسفندياز فِي الْجُزْءِ قَبْلَ هَذَا .
ابْنُ الزّبَعْرَى وَالْأَخْنَسِ وَمَا قِيلَ فِيهِمَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى السّهْمِيّ حَتّى جَلَسَ فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَعْرَى : وَاَللّهِ مَا قَامَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لَابْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ آنِفًا وَمَا قَعَدَ وَقَدْ زَعَمَ مُحَمّدٌ أَنّا وَمَا نَعْبُدُ مِنْ آلِهَتِنَا هَذِهِ حَصَبُ جَهَنّمَ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى : أَمَا وَاَللّهِ لَوْ وَجَدْته لَخَصَمْته ، فَسَلُوا مُحَمّدًا : أَكُلّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللّهِ فِي جَهَنّمَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ ؟ فَنَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَالْيَهُودَ تَعْبُدُ عُزَيْرًا وَالنّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السّلَامُ فَعَجِبَ الْوَلِيدُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَعْرَى ، وَرَأَوْا أَنّهُ قَدْ احْتَجّ وَخَاصَمَ . فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الزّبَعْرَى فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُلّ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَعْبُدَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَهُوَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ إنّهُمْ إنّمَا يَعْبُدُونَ الشّيَاطِينَ وَمَنْ أَمَرَتْهُمْ بِعِبَادَتِهِ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ { إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ } [ الْأَنْبِيَاءُ 101 ، 102 ] : أَيْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، وَعُزَيْرًا ، وَمَنْ عَبَدُوا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرّهْبَانِ الّذِينَ مَضَوْا عَلَى طَاعَةِ اللّهِ فَاِتّخَذَهُمْ مَنْ يَعْبُدُهُمْ مِنْ أَهْلِ الضّلَالَةِ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّهِ . [ ص 145 ] وَنَزَلَ فِيمَا يَذْكُرُونَ أَنّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَأَنّهَا بَنَاتُ اللّهِ { وَقَالُوا اتّخَذَ الرّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الْأَنْبِيَاءُ 26 ، 27 ] . إلَى قَوْلِهِ { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ } [ الْأَنْبِيَاءُ 29 ] . وَنَزَلَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ أَمْرِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَنّهُ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَعَجِبَ الْوَلِيدُ وَمَنْ حَضَرَهُ مِنْ حُجّتِهِ وَخُصُومَتِهِ { وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدّونَ } [ الزّخْرُفُ 57 ] . أَيْ يَصِدّونَ عَنْ أَمْرِك بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ . ثُمّ ذَكَرَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَقَالَ [ ص 146 ] { إِنْ هُوَ إِلّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنّ بِهَا وَاتّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [ الزّخْرُفُ 59 - 61 ] أَيْ مَا وُضِعَتْ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْآيَاتِ مِنْ إحْيَاءِ الْمَوْتَى ، وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ فَكَفَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِ السّاعَةِ يَقُولُ { فَلَا تَمْتَرُنّ بِهَا وَاتّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }Sحَدِيثُ ابْنِ الزّبَعْرَى وَعُزَيْرٍ
[ ص 144 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ الزّبَعْرَى ، وَقَوْلُهُ إنّا نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَأَنّ النّصَارَى تَعْبُدُ الْمَسِيحَ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ وَمَا أَنَزَلَ اللّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الْحُسْنَى } الْآيَةَ قَالَ الْمُؤَلّفُ وَلَوْ تَأَمّلَ ابْنُ الزّبَعْرَى وَغَيْرُهُ مِنْ كُفّارِ قُرَيْشٍ الْآيَةَ لَرَأَى اعْتِرَاضَهُ غَيْرَ لَازِمٍ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ خِطَابٌ مُتَوَجّهٌ عَلَى الْخُصُوصِ لِقُرَيْشِ وَعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَقَوْلُهُ إنّا نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ حَيْدَةً وَإِنّمَا وَقَعَ الْكَلَامُ وَالْمُحَاجّةُ فِي اللّاتِي وَالْعُزّى وَهُبَلَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ . [ ص 145 ] وَالثّانِي : أَنّ لَفْظَ التّلَاوَةِ { إِنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } وَلَمْ يَقُلْ وَمَنْ تَعْبُدُونَ فَكَيْفَ يَلْزَمُ اعْتِرَاضُهُ بِالْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ وَالْمَلَائِكَةِ وَهُمْ يَعْقِلُونَ وَالْأَصْنَامُ لَا تَعْقِلُ وَمِنْ ثُمّ جَاءَتْ الْآيَةُ بِلَفْظِ مَا الْوَاقِعَةِ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ وَإِنّمَا تَقَعُ مَا عَلَى مَا يَعْقِلُ وَتُعْلَمُ بِقَرِينَةِ مِنْ التّعْظِيمِ وَالْإِبْهَامِ وَلَعَلّنَا نَشْرَحُهَا وَنُبَيّنُهَا فِيمَا بَعْدُ إنّ قُدّرَ لَنَا ذَلِكَ وَسَبَبُ عِبَادَةِ النّصَارَى لِلْمَسِيحِ مَعْرُوفٌ وَأَمّا عِبَادَةُ الْيَهُودِ عُزَيْرًا ، وَقَوْلُهُمْ فِيهِ إنّهُ ابْنُ اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ وَسَبَبُهُ فِيمَا ذَكَرَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْكَشّيّ أَنّ التّوْرَاةَ لَمّا احْتَرَقَتْ أَيّامَ بُخْتَ نَصّرَ وَذَهَبَ بِذَهَابِهَا دِينُ الْيَهُودِ ، فَلَمّا ثَابَ إلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ وَجُدُوا لِفَقْدِهَا أَعْظَمَ الْكَرْبِ فَبَيْنَمَا عُزَيْرٌ يَبْكِي لِفَقْدِ التّوْرَاةِ ، إذْ مَرّ بِامْرَأَةِ جَاثِمَةٍ عَلَى قَبْرٍ قَدْ نَشَرَتْ شَعْرَهَا ، فَقَالَ لَهَا عُزَيْرٌ مَنْ أَنْتِ ؟ قَالَتْ أَنَا إيلْيَا أُمّ الْقُرَى أَبْكِي عَلَى وَلَدِي ، وَأَنْتَ تَبْكِي عَلَى كِتَابِك ، وَقَالَتْ لَهُ إذَا كَانَ غَدًا ، فَأْتِ هَذَا الْمَكَانَ فَلَمّا أَنْ جَاءَ مِنْ الْغَدِ لِلسّاعَةِ الّتِي وَعَدَتْهُ إذَا هُوَ بِإِنْسَانِ خَارِجٍ مِنْ الْأَرْضِ فِي يَدِهِ كَهَيْئَةِ الْقَارُورَةِ فِيهَا نُورٌ فَقَالَ لَهُ افْتَحْ فَاك ، فَأَلْقَاهَا فِي جَوْفِهِ فَكَتَبَ عُزَيْرٌ التّوْرَاةَ - كَمَا أَنَزَلَهَا اللّهُ ثُمّ قُدّرَ عَلَى التّوْرَاةِ بَعْدَمَا كَانَتْ دُفِنَتْ أَنْ ظَهَرَتْ فَعُرِضَتْ التّوْرَاةُ ، وَمَا كَانَ عُزَيْرٌ كَتَبَ فَوَجَدُوهُ سَوَاءَ فَمِنْهَا قَالُوا : إنّهُ وَلَدُ اللّهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ .
حَصَبُ جَهَنّمَ
[ ص 146 ] { أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } وَيُرْوَى : حَضَبُ جَهَنّمَ بِضَادِ مُعْجَمَةٍ فِي شَوَاذّ الْقِرَاءَاتِ وَهُوَ مِنْ حَضَبَتْ النّارُ بِمَنْزِلَةِ حَضَأْتهَا ، يُقَالُ أَرّثْتهَا وَأَثْقَبِتهَا وَحَشَشْتهَا وَأَذْكَيْتهَا وَفَسّرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَهُ يَصُدّونِ وَمَنْ قَرَأَ يَصِدّونَ فَمَعْنَاهُ يَعْجَبُونَ .
وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثّقَفِيّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ الْقَوْمِ وَمِمّنْ يُسْتَمَعُ مِنْهُ فَكَانَ يُصِيبُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيَرُدّ عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ { وَلَا تُطِعْ كُلّ حَلّافٍ مَهِينٍ هَمّازٍ مَشّاءٍ بِنَمِيمٍ } [ الْقَلَمُ 10 ، 11 ] . إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { زَنِيمٍ } وَلَمْ يَقُلْ زَنِيمٌ لِعَيْبِ فِي نَسَبِهِ لِأَنّ اللّهَ لَا يَعِيبُ أَحَدًا بِنَسَبِ وَلَكِنّهُ حَقّقَ بِذَلِكَ نَعْتَهُ لِيُعْرَفَ . وَالزّنِيمُ الْعَدِيدُ لِلْقَوْمِ وَقَدْ قَالَ الْخَطِيمِ التّمِيمِيّ فِي الْجَاهِلِيّةِ
زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرّجَالُ زِيَادَةً ... كَمَا زِيدَ فِي عَرْضِ الْأَدِيمِ الْأَكَارِعُ
مَا قِيلَ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأُبَيّ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ
[ ص 147 ] وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، قَالَ أَيُنَزّلُ عَلَى مُحَمّدٍ وَأُتْرَكُ وَأَنَا كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيّدُهَا ، وَيُتْرَكُ أَبُو مَسْعُودٍ عَمْرُو بْنُ عُمَيْرٍ الثّقَفِيّ سَيّدُ ثَقِيفٍ ، وَنَحْنُ عَظِيمَا الْقَرْيَتَيْنِ ؟ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ فِيمَا بَلَغَنِي : { وَقَالُوا لَوْلَا نُزّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزّخْرُفُ 30 ] . إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { مِمّا يَجْمَعُونَ } وَأُبَيّ بْنُ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ ، وَكَانَا مُتَصَافِيَيْنِ حَسَنًا مَا بَيْنَهُمَا . فَكَانَ عُقْبَةُ قَدْ جَلَسَ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَسَمِعَ مِنْهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ أُبَيّا ، فَأَتَى عُقْبَةُ فَقَالَ أَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنّك جَالَسْت مُحَمّدًا ، وَسَمِعْت مِنْهُ ثُمّ قَالَ وَجْهِي مِنْ وَجْهِك حَرَامٌ أَنْ أُكَلّمَك - وَاسْتَغْلَظَ مِنْ الْيَمِينِ - إنْ أَنْتَ جَلَسْت إلَيْهِ أَوْ سَمِعْت مِنْهُ أَوْ لَمْ تَأْتِهِ فَتَتْفُلَ فِي وَجْهِهِ . فَفَعَلَ مِنْ ذَلِكَ عَدُوّ اللّهِ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ لَعَنَهُ اللّهُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمَا : { وَيَوْمَ يَعَضّ الظّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتّخَذْتُ مَعَ الرّسُولِ سَبِيلًا } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا } [ الْفُرْقَانُ : 27 - 29 ] . وَمَشَى أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِعَظْمِ بَالٍ قَدْ ارْفَتّ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ أَنْتَ تَزْعُمُ أَنْ يُبْعَثَ هَذَا بَعْدَ مَا أَرِمَ ثُمّ فَتّهُ بِيَدِهِ ثُمّ نَفَخَهُ فِي الرّيحِ نَحْوَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - نَعَمْ أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ ، يَبْعَثُهُ اللّهُ وَإِيّاكَ بَعْدَمَا تَكُونَانِ هَكَذَا ، ثُمّ يُدْخِلُك اللّهُ النّارَ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الّذِي أَنْشَأَهَا أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ } [ يس : 79 ، 80 ] .Sمَا نَزَلَ فِي الْأَخْنَسِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ مَا أَنَزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ - وَاسْمُهُ أُبَيّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { عُتُلّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } وَقَدْ قِيلَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَقَدْ قِيلَ فِي الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ الزّهْرِيّ ، وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ لَهُ زَنَمَتَانِ كَزَنَمَتَيْ الشّاةِ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْهُ . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنّهُ قَالَ الزّنِيمُ الّذِي لَهُ زَنَمَتَانِ مِنْ الْبَشَرِ يُعْرَفُ بِهَا ، كَمَا تُعْرَفُ الشّاةُ بِزَنَمَتِهَا ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَيْضًا مِثْلُ مَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ أَنّ الزّنِيمَ الْمُلْصَقُ بِالْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الْأَزْرَقِ الْحَرُورِيّ وَقَالَ أَمَا سَمِعْت قَوْلَ حَسّانَ زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرّجَالُ الْبَيْتَ وَقَدْ أَنْشَدَ ابْنُ هِشَامٍ هَذَا الْبَيْتَ مُسْتَشْهِدًا بِهِ وَنَسَبَهُ لِلْخَطِيمِ التّمِيمِيّ ، وَالْأَعْرَف أَنّهُ لِحَسّانَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ ، وَأَمّا الْعُتُلّ فَهُوَ الْغَلِيظُ الْجَافِي مِنْ [ ص 147 ] { خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ } [ الدّخَانُ 47 ] . وَقَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنَا أُنَبّئُكُمْ بِأَهْلِ النّارِ كُلّ عُتُلّ جَوّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ جَمّاعٍ مَنّاعٍ
مَا قِيلَ فِي حَقّ الّذِينَ اعْتَرَضُوا الرّسُولَ فِي الطّوَافِ
[ ص 148 ] وَاعْتَرَضَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ - فِيمَا بَلَغَنِي - الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ ، وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ ، وَكَانُوا ذَوِي أَسْنَانٍ فِي قَوْمِهِمْ فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ هَلُمّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ ، وَتَعْبُدُ مَا نَعْبُدُ فَنَشْتَرِكَ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الْأَمْرِ فَإِنْ كَانَ الّذِي تَعْبُدُ خَيْرًا مِمّا نَعْبُدُ كُنّا قَدْ أَخَذْنَا بِحَظّنَا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَا نَعْبُدُ خَيْرٌ مِمّا تَعْبُدُ كُنْت قَدْ أَخَذْت بِحَظّك مِنْهُ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ { قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الْكَافِرُونَ 1 - 6 ] . [ ص 149 ]S{ قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ }
فَصْلٌ وَذَكَرَ قَوْلَهُمْ الّذِي أَنَزَلَ اللّهُ فِيهِ { قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ } إلَى آخِرِهَا فَقَالَ [ ص 148 ] { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } أَيْ فِي الْحَالِ { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } أَيْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَكَذَلِكَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَقُولُ لَهُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَهُمْ قَدْ قَالُوا : هَلُمّ فَلْنَعْبُدْ رَبّك ، وَتَعْبُدُ رَبّنَا ، كَيْفَ نَفَى عَنْهُمْ مَا أَرَادُوا وَعَزَمُوا عَلَيْهِ ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ عَلِمَ أَنّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ فَأَخْبَرَ بِمَا عَلِمَ . الثّانِي : أَنّهُمْ لَوْ عَبَدُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الّذِي قَالُوهُ مَا كَانَتْ عِبَادَةً وَلَا يُسَمّى عَابِدًا لِلّهِ مَنْ عَبَدَهُ سَنَةً وَعَبَدَ غَيْرَهُ أُخْرَى ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } وَلَمْ يَقُلْ مَنْ أَعْبُدُ وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيّةِ إنّ مَا تَقَعُ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ فَكَيْفَ عَبّرَ بِهَا عَنْ الْبَارِي تَعَالَى ؟ فَالْجَوَابُ أَنّا قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلُ أَنّ مَا قَدْ تَقَعُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ بِقَرِينَةِ فَهَذَا أَوَانُ ذِكْرِهَا ، وَتِلْكَ الْقَرِينَةُ الْإِبْهَامُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي التّعْظِيمِ وَالتّفْخِيمِ وَهِيَ فِي مَعْنَى الْإِبْهَامِ لِأَنّ مَنْ جَلّتْ عَظَمَتُهُ حَتّى خَرَجَتْ عَنْ الْحَصْرِ ، وَعَجَزَتْ الْأَفْهَامُ عَنْ كُنْهُ ذَاتِهِ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ هُوَ مَا هُوَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ : سُبْحَانَ مَا سَبّحَ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ { وَالسّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } فَلَيْسَ كَوْنُهُ عَالِمًا مِمّا يُوجِبُ لَهُ مِنْ التّعْظِيمِ مَا يُوجِبُ لَهُ أَنّهُ بَنَى السّمَوَاتِ وَدَحَا الْأَرْضَ فَكَانَ الْمَعْنَى : إنّ شَيْئًا بَنَاهَا لَعَظِيمٌ أَوْ مَا أَعْظَمَهُ مِنْ شَيْءٍ فَلَفْظُ مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُؤْذِنُ بِالتّعَجّبِ مِنْ عَظَمَتِهِ كَائِنًا مَا كَانَ هَذَا الْفَاعِلُ لِهَذَا ، فَمَا أَعْظَمَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصّةِ آدَم : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ } وَلَمْ يَقُلْ لِمَنْ خَلَقْت ، وَهُوَ يَعْقِلُ لِأَنّ السّجُودَ لَمْ يَجِبْ لَهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ يَعْقِلُ وَلَا مِنْ حَيْثُ كَانَ لَا يَعْقِلُ وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ أُمِرُوا بِالسّجُودِ لَهُ فَكَائِنًا مَا كَانَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ مَا أُمِرُوا بِهِ فَمِنْ هَاهُنَا حَسُنَتْ مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا مِنْ جِهَةِ التّعْظِيمِ لَهُ وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ مَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ مِنْ السّجُودِ لَهُ فَكَائِنًا مَنْ كَانَ وَأَمّا قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } فَوَاقِعَةٌ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ لِأَنّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَقَوْلُهُ { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } اقْتَضَاهَا الْإِبْهَامُ وَتَعْظِيمُ الْمَعْبُودِ مَعَ أَنّ الْحِسّ مِنْهُمْ مَانِعٌ لَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا مَعْبُودَهُ كَائِنًا مَا كَانَ فَحَسُنَتْ مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ فَبِهَذِهِ الْقَرَائِنِ يَحْسُنُ وُقُوعُ مَا عَلَى أُولِي الْعِلْمِ وَبَقِيَتْ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ يَتَعَيّنُ التّنْبِيهُ عَلَيْهَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } بِلَفْظِ الْمَاضِي ، ثُمّ قَالَ { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ فِي الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا ، إذَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ مَا أَعْبُدُ وَلَمْ يَقُلْ مَا عَبَدْت ، وَالنّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنّ مَا لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِبْهَامِ - وَإِنْ كَانَتْ خَبَرِيّةً - تُعْطِي مَعْنَى الشّرْطِ فَكَأَنّهُ قَالَ مَهْمَا عَبَدْتُمْ شَيْئًا ، فَإِنّي لَا أَعْبُدُهُ وَالشّرْطُ يُحَوّلُ الْمُسْتَقْبِلَ إلَى لَفْظِ الْمَاضِي ، تَقُولُ إذَا قَامَ زَيْدٌ غَدًا فَعَلْت كَذَا ، [ ص 149 ] خَرَجَ زَيْدٌ غَدًا خَرَجْت ، فَمَا : فِيهَا رَائِحَةُ الشّرْطِ مِنْ أَجْلِ إبْهَامِهَا ؛ فَلِذَلِكَ جَاءَ الْفِعْلُ بَعْدَهَا بِلَفْظِ الْمَاضِي ، وَلَا يَدْخُلُ الشّرْطُ عَلَى فِعْلِ الْحَالِ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي أَوّلِ السّورَةِ مَا تَعْبُدُونَ لِأَنّهُ حَالٌ لِأَنّ رَائِحَةَ الشّرْطِ مَعْدُومَةٌ فِيهَا مَعَ الْحَالِ وَكَذَلِكَ رَائِحَةُ الشّرْطِ مَعْدُومَةٌ فِي قَوْلِهِ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لِأَنّهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَحَوّلَ عَنْ عِبَادَةِ رَبّهِ لِأَنّهُ مَعْصُومٌ فَلَمْ يَسْتَقِمْ تَقْدِيرُهُ بِمَهْمَا ، كَمَا اسْتَقَامَ ذَلِكَ فِي حَقّهِمْ لِأَنّهُمْ فِي قَبْضَةِ الشّيْطَانِ يَقُودُهُمْ بِأَهْوَائِهِمْ فَجَائِزٌ أَنْ يَعْبُدُوا الْيَوْمَ شَيْئًا ، وَيَعْبُدُوا غَدًا غَيْرَهُ وَلَكِنْ مَهْمَا عَبَدُوا شَيْئًا ، فَالرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا يَعْبُدُهُ فَلِذَلِكَ قَالَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فِي الْحَالِ وَفِي الْمَآلِ لِمَا عَلِمَ مِنْ عِصْمَةِ اللّهِ لَهُ وَلِمَا عَلِمَ اللّهُ مِنْ ثَبَاتِهِ عَلَى تَوْحِيدِهِ فَلَا مَدْخَلَ لِمَعْنَى الشّرْطِ فِي حَقّهِ عَلَيْهِ السّلَامُ وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ الشّرْطُ فِي الْكَلَامِ بَقِيَ الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ عَلَى لَفْظِهِ كَمَا تَرَاهُ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّا } اضْطَرَبُوا فِي إعْرَابِهَا وَتَقْدِيرُهَا لَمّا كَانَتْ مَنْ بِمَعْنَى الّذِي ، وَجَاءَ بَكَانِ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي ، وَفَهِمَهَا الزّجّاجُ فَأَشَارَ إلَى أَنّ مَنْ فِيهَا طَرَفٌ مِنْ مَعْنَى الشّرْطِ وَلِذَلِكَ جَاءَتْ كَانَ بِلَفْظِ الْمَاضِي بَعْدَهُ فَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ مَنْ يَكُنْ صَبِيّا ، فَكَيْفَ يُكَلّمُ ؟ لَمّا أَشَارَتْ إلَى الصّبِيّ أَنْ كَلّمُوهُ وَلَوْ قَالُوا : كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ هُوَ فِي الْمَهْدِ الْآنَ لَكَانَ الْإِنْكَارُ وَالتّعَجّبُ مَخْصُوصًا بِهِ فَلَمّا قَالُوا : كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ كَانَ صَارَ الْكَلَامُ أَبْلَغَ فِي الِاحْتِجَاجِ لِلْعُمُومِ الدّاخِلِ فِيهِ . إلَى هَذَا الْغَرَضِ أَشَارَ أَبُو إسْحَاقَ وَهُوَ الّذِي أَرَادَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا لَفْظَهُ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْعِبَارَاتِ وَإِنّمَا الْمَقْصُودُ تَصْحِيحُ الْمَعَانِي الْمُتَلَقّاةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْإِشَارَاتِ .
مَا قِيلَ فِي حَقّ أَبِي جَهْلٍ
وَأَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ - لَمّا ذَكَرَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ شَجَرَةَ الزّقّومِ تَخْوِيفًا بِهَا لَهُمْ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، هَلْ تَدْرُونَ مَا شَجَرَةُ الزّقّومِ الّتِي يُخَوّفُكُمْ بِهَا مُحَمّدٌ ؟ قَالُوا : لَا ، قَالَ عَجْوَةُ يَثْرِبَ بِالزّبْدِ وَاَللّهِ لَئِنْ اسْتَمْكَنّا مِنْهَا لَنتَزَقّمنّها تَزَقّمًا . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ [ ص 150 ] { إِنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } [ الْجَاثِيَةُ 44 - 46 ] . أَيْ لَيْسَ كَمَا يَقُولُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْمُهْلُ كُلّ شَيْءٍ أَذَبْته ، مِنْ نُحَاسٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فِيمَا أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ . وَبَلَغَنَا عَنْ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَنّهُ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَالِيًا لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ عَلَى بَيْتِ مَالِ الْكُوفَةِ ، وَأَنّهُ أَمَرَ يَوْمًا بِفِضّةِ فَأُذِيبَتْ فَجُعِلَتْ تُلَوّنُ أَلْوَانًا ، فَقَالَ هَلْ بِالْبَابِ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ فَأَدْخَلُوهُمْ فَأُدْخِلُوا فَقَالَ إنّ أَدْنَى مَا أَنْتُمْ رَاءُونَ شَبَهًا بِالْمُهْلِ لِهَذَا وَقَالَ الشّاعِرُ
يَسْقِيهِ رَبّي حَمِيمَ الْمُهْلِ يَجْرَعُهُ ... يَشْوِي الْوُجُوهَ فَهُوَ فِي بَطْنِهِ صَهْر
وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَيْرِ الْأَسَدِيّ
فَمَنْ عَاشَ مِنْهُمْ عَاشَ عَبْدًا وَإِنْ يَمُتْ ... فَفِي النّارِ يُسْقَى مُهْلَهَا وَصَدِيدَهَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَيُقَالُ إنّ الْمُهْلَ صَدِيدُ الْجَسَدِ . بَلَغَنَا أَنّ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - لَمّا حَضَرَ أَمَرَ بِثَوْبَيْنِ لَبِيسَيْنِ يُغْسَلَانِ فَيُكَفّنُ فِيهِمَا ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ قَدْ أَغْنَاك اللّهُ يَا أَبَتْ عَنْهُمَا ، فَاشْتَرِ كَفَنًا ، فَقَالَ إنّمَا هِيَ سَاعَةٌ حَتّى يَصِيرَ إلَى الْمُهْلِ قَالَ الشّاعِرُ
شَابَ بِالْمَاءِ مِنْهُ مُهْلًا كَرِيهًا ... ثُمّ عَلّ الْمَنُونُ بَعْدَ النّهَالِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ { وَالشّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلّا طُغْيَانًا كَبِيرًا } [ الْإِسْرَاءُ 60 ]Sالزّقّومُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي جَهْلٍ حِينَ ذَكَرَ شَجَرَةَ الزّقّومِ يُقَالُ إنّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لَمْ تَكُنْ مِنْ لُغَةِ قُرَيْشٍ ، وَأَنّ رَجُلًا أَخْبَرَهُ أَنّ أَهْلَ يَثْرِبَ : يَقُولُونَ تَزَقّمْتُ إذَا أَكَلْت التّمْرَ بِالزّبْدِ [ ص 150 ] فَجَعَلَ بِجَهْلِهِ اسْمَ الزّقّومِ مِنْ ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً وَقِيلَ إنّ هَذَا الِاسْمَ أَصْلًا فِي لُغَةِ الْيَمَنِ ، وَأَنّ الزّقّومَ عِنْدَهُمْ كُلّ مَا يُتَقَيّأُ مِنْهُ . وَذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النّبَاتِ أَنّ شَجَرَةً بِالْيَمَنِ يُقَالُ لَهَا : الزّقّومُ لَا وَرَقَ لَهَا وَفُرُوعُهَا أَشْبَهُ شَيْءٍ بِرُءُوسِ الْحَيّاتِ فَهِيَ كَرِيهَةُ الْمَنْظَرِ وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ سَلّامٍ وَالْمَاوَرْدِيّ أَنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ فِي الْبَابِ السّادِسِ مِنْ جَهَنّمَ أَعَاذَنَا اللّهُ مِنْهَا ، وَأَنّ أَهْلَ النّارِ يَنْحَدِرُونَ إلَيْهَا . قَالَ ابْنُ سَلّامٍ وَهِيَ تَحْيَا بِاللّهَبِ كَمَا تَحْيَا شَجَرَةُ الدّنْيَا بِالْمَطَرِ . وَقَوْلُهُ { الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ } أَيْ الْمَلْعُونُ آكُلّهَا ، وَقِيلَ بَلْ هُوَ وَصْفٌ لَهَا كَمَا يُقَالُ يَوْمٌ مَلْعُونٌ أَيْ مَشْئُومٌ .
قِصّةُ ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ
[ ص 151 ] وَوَقْفُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُكَلّمُهُ وَقَدْ طَمِعَ فِي إسْلَامِهِ فَبَيْنَا هُوَ فِي ذَلِكَ إذْ مَرّ بِهِ ابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى ، فَكَلّمَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَعَلَ يَسْتَقْرِئُهُ الْقُرْآنَ فَشَقّ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَتّى أَضْجَرَهُ وَذَلِكَ أَنّهُ شَغَلَهُ عَمّا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْوَلِيدِ وَمَا طَمِعَ فِيهِ مِنْ إسْلَامِهِ فَلَمّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ انْصَرَفَ عَنْهُ عَابِسًا ، وَتَرَكَهُ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ { عَبَسَ وَتَوَلّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { فِي صُحُفٍ مُكَرّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهّرَةٍ } أَيْ إنّمَا بَعَثْتُك بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، لَمْ أَخُصّ بِك أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ ، فَلَا تَمْنَعْهُ مِمّنْ ابْتَغَاهُ وَلَا تَتَصَدّيَنّ بِهِ لِمَنْ لَا يُرِيدُهُ . [ ص 152 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : ابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ ، أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللّهِ وَيُقَالُ عَمْرٌوSحَدِيثُ ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ
فَصْلٌ
[ ص 151 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ ، وَذَكَرَ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ . وَأُمّ مَكْتُومٍ اسْمُهَا : عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَنْكَثَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ . وَذَكَرَ الرّجُلَ الّذِي كَانَ شَغَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنّهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَقَدْ قِيلَ كَانَ أُمَيّةَ بْنَ خَلَفٍ ، وَفِي حَدِيثِ الْمُوَطّأِ : عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يُسَمّهِ وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى } مِنْ الْفِقْهِ أَنْ لَا غِيبَةَ فِي ذِكْرِ الْإِنْسَانِ بِمَا ظَهَرَ فِي خِلْقَتِهِ مِنْ عَمًى أَوْ عَرَجٍ إلّا أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الِازْدِرَاءَ فَيَلْحَقُ الْمَأْثَمُ بِهِ لِأَنّهُ مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِينَ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { أَتَتّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [ الْبَقَرَةُ 67 ] . وَفِي ذِكْرِهِ إيّاهُ بِالْعَمَى مِنْ الْحِكْمَةِ وَالْإِشَارَةِ اللّطِيفَةِ التّنْبِيهُ عَلَى مَوْضِعِ الْعَتَبِ لِأَنّهُ قَالَ { أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى } فَذَكَرَ الْمَجِيءَ مَعَ الْعَمَى ، وَذَلِكَ يُنْبِئُ عَنْ تَجَشّمِ كُلْفَةٍ وَمَنْ تَجَشّمَ الْقَصْدَ إلَيْك عَلَى ضَعْفِهِ فَحَقّك الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ لَا الْإِعْرَاضُ عَنْهُ فَإِذَا كَانَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَعْتُوبًا عَلَى تَوَلّيهِ عَنْ الْأَعْمَى ، فَغَيْرُهُ أَحَقّ بِالْعَتَبِ مَعَ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ آمَنَ بَعْدُ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّهُ يَزّكّى } الْآيَةَ وَلَوْ كَانَ قَدْ صَحّ إيمَانُهُ وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُ لَمْ يَعْرِضْ عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلَوْ أَعَرَضَ لَكَانَ الْعَتَبُ أَشَدّ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْبِرَ عَنْهُ وَيُسَمّيهِ بِالِاسْمِ الْمُشْتَقّ مِنْ الْعَمَى ، دُونَ الِاسْمِ الْمُشْتَقّ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ لَوْ كَانَ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ قَبْلَ ذَلِكَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَإِنّمَا دَخَلَ فِيهِ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - اسْتَدِنّنِي يَا مُحَمّدُ وَلَمْ يَقُلْ اسْتَدِنّنِي يَا رَسُولَ اللّهِ مَعَ أَنّ ظَاهِرَ الْكَلَامِ يَدُلّ عَلَى أَنّ الْهَاءَ فِي لَعَلّهُ يَزّكّى عَائِدَةٌ عَلَى الْأَعْمَى ، لَا عَلَى الْكَافِرِ لِأَنّهُ لَمْ يَتَقَدّمْ لَهُ [ ص 152 ] ذَكَرَ بَعْدُ وَلَعَلّ تُعْطِي التّرَجّي وَالِانْتِظَارَ وَلَوْ كَانَ إيمَانُهُ قَدْ تَقَدّمَ قَبْلَ هَذَا لَخَرَجَ عَنْ حَدّ التّرَجّي وَالِانْتِظَارِ لِلتّزَكّي ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
الْعَائِدُونَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ
[ ص 153 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَلَغَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِينَ خَرَجُوا إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، إسْلَامُ أَهْلِ مَكّةَ ، فَأَقْبَلُوا لَمّا بَلَغَهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَتّى إذَا دَنَوْا مِنْ مَكّةَ ، بَلَغَهُمْ أَنّ مَا كَانُوا تَحَدّثُوا بِهِ مِنْ إسْلَامِ أَهْلِ مَكّةَ كَانَ بَاطِلًا ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا بِجِوَارِ أَوْ مُسْتَخْفِيًا . فَكَانَ مِمّنْ قَدِمَ عَلَيْهِ مَكّةَ مِنْهُمْ فَأَقَامَ بِهَا حَتّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَشَهِدَ مَعَهُ بَدْرًا ، وَمَنْ حُبِسَ عَنْهُ حَتّى فَاتَهُ بَدْرٌ وَغَيْرُهُ وَمَنْ مَاتَ بِمَكّةَ . مِنْهُمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ : عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ رُقْيَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، امْرَأَتُهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ . وَمِنْ حَلْفَائِهِمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ [ ص 154 ] وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ : عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ . وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ : الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامّ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ . وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ : مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَسُوَيْبِطُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حَرْمَلَةَ . وَمِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيّ : طُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ أَبِي كَبِيرِ بْنِ عَبْدٍ . وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ : عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو ، حَلِيفٌ لَهُمْ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، حَلِيفٌ لَهُمْ . وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ : أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ سَلَمَةَ بِنْت أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَشِمَاسُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الشّرِيدِ بْنِ سُوَيْد بْنِ هَرَمِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ حَبَسَهُ عَمّهُ بِمَكّةَ فَلَمْ يَقْدَمْ إلّا بَعْدَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ ، وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ هَاجَرَ مَعَهُ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَلَحِقَ بِهِ أَخَوَاهُ لِأُمّهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ ، فَرَجَعَا بِهِ إلَى مَكّةَ ، فَحَبَسَاهُ بِهَا حَتّى مَضَى بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ . وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، يَشُكّ فِيهِ أَكَانَ خَرَجَ إلَى الْحَبَشَةِ أَمْ لَا ؟ وَمُعَتّبُ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَامِرِ مِنْ خُزَاعَةَ . وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْبٍ : عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ وَابْنُهُ السّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ وَقَدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَظْعُونٍ [ ص 155 ] بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْب ٍ خُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ ، حُبِسَ بِمَكّةَ بَعْدَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ ، حَتّى قَدِمَ بَعْدَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ . وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ : عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، حَلِيفٌ لَهُمْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ غَانِمٍ . وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ : عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَخْرَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ أَبِي قَيْسٍ : وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَكَانَ حُبِسَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ ، حَتّى كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ فَانْحَازَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إلَى رَسُولِ اللّهِ فَشَهِدَ مَعَهُ بَدْرًا ، وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْم بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَالسّكْرَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسٍ ، مَاتَ بِمَكّةَ قَبْلَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ ، فَخَلّفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى امْرَأَتِهِ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ . وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ . وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ : أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْجَرّاحِ وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدّادٍ ، وَسُهَيْلُ ابْنُ بَيْضَاءَ . وَهُوَ سُهَيْلُ بْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالٍ ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سَرْحِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالٍ " كُنْيَتُهُ أَبُو سَعْدٍ كَمَا فِي الْإِصَابَةِ " . فَجَمِيعُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ مَكّةَ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا ، فَكَانَ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ بِجِوَارِ فِيمَنْ سُمّيَ لَنَا : عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبٍ الْجُمَحِيّ دَخَلَ بِجِوَارِ مِنْ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، دَخَلَ بِجِوَارِ مِنْ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَكَانَ خَالَهُ . وَأُمّ أَبِي سَلَمَةَ بَرّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِSقِصّةُ الْغَرَانِيقِ وَإِسْلَامُ مَكّةَ
[ ص 153 ] وَذَكَرَ مَا بَلَغَ أَهْلَ الْحَبَشَةِ مِنْ إسْلَامِ أَهْلِ مَكّةَ ، وَكَانَ بَاطِلًا ، وَسَبَبُهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَرَأَ سُورَةَ النّجْمِ فَأَلْقَى الشّيْطَانُ فِي أَمْنِيّتَهُ أَيْ فِي تِلَاوَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ اللّاتِي وَالْعُزّى ، وَإِنّهُمْ لَهُمْ الْغَرَانِقَة الْعُلَى ، وَإِنّ شَفَاعَتَهُمْ لَتُرْتَجَى ، فَطَارَ ذَلِكَ بِمَكّةَ فَسُرّ الْمُشْرِكُونَ وَقَالُوا : قَدْ ذَكَرَ آلِهَتَنَا بِخَيْرِ فَسَجَدَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي آخِرِهَا ، وَسَجَدَ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ ثُمّ أَنَزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { فَيَنْسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ } الْآيَةَ فَمِنْ هَاهُنَا [ ص 154 ] أَرْضِ الْحَبَشَةِ أَنّ قُرَيْشًا قَدْ أَسْلَمُوا ، ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ إسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ وَأَهْلُ الْأُصُولِ يَدْفَعُونَ هَذَا الْحَدِيثَ بِالْحُجّةِ وَمَنْ صَحّحَهُ قَالَ فِيهِ أَقْوَالًا ، مِنْهَا : أَنّ الشّيْطَانَ قَالَ ذَلِكَ وَأَشَاعَهُ . وَالرّسُولُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - لَمْ يَنْطِقْ بِهِ وَهَذَا جَيّدٌ لَوْلَا أَنّ فِي حَدِيثِهِمْ أَنّ جِبْرِيل قَالَ لِمُحَمّدِ مَا أَتَيْتُك بِهَذَا ، وَمِنْهَا : أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَعَنَى بِهَا الْمَلَائِكَةَ إنّ شَفَاعَتَهُمْ لَتُرْتَجَى . وَمِنْهَا : أَنّ النّبِيّ - عَلَيْهِ السّلَامُ - قَالَهُ حَاكِيًا عَنْ الْكَفَرَةِ وَأَنّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ فَقَالَهَا مُتَعَجّبًا مِنْ كُفْرِهِمْ وَالْحَدِيثُ عَلَى مَا خَيّلْت غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِصِحّتِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 155 ] أَجْلِ ذَلِكَ الْخَبَرِ ، وَذَكَرَ فِيهِمْ طُلَيْبًا ، وَقَالَ فِي نَسَبِهِ ابْنُ أَبِي كَبِيرِ بْنِ عَبْدِ بْنِ قُصَيّ ، وَزِيَادَةُ أَبِي كَبِيرٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يُوَافِقُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ وَجَدْت فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ التّنْبِيهِ عَلَى هَذَا وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ وَنَسَبَهُ كَمَا نَسَبَهُ ابْنُ إسْحَاقَ بِزِيَادَةِ أَبِي كَبِيرٍ وَكَانَ بَدْرِيّا فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْوَاقِدِيّ وَابْنُ عُقْبَةَ وَمَاتَ بِأَجْنَادَيْنِ شَهِيدًا لَا عَقِبَ لَهُ .
قِصّةُ ابْنِ مَظْعُونٍ مَعَ الْوَلِيدِ
[ ص 156 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَمّا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ، فَإِنّ صَالِحَ بْنَ إبْرَاهِيمَ بْنِ الأعلام" > عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حَدّثَنِي عَمّنْ حَدّثَهُ عَنْ عُثْمَانَ قَالَ لَمّا رَأَى عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ مَا فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الْبَلَاءِ وَهُوَ يَغْدُو وَيَرُوحُ فِي أَمَانٍ مِنْ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، قَالَ وَاَللّهِ إنّ غُدُوّي وَرَوَاحِي آمِنًا بِجِوَارِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ - وَأَصْحَابِي ، وَأَهْلُ دِينِي يَلْقَوْنَ مِنْ الْبَلَاءِ وَالْأَذَى فِي اللّهِ مَا لَا يُصِيبُنِي - لَنَقْصٌ كَبِيرٌ فِي نَفْسِي ، فَمَشَى إلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا الأعلام" > عَبْدِ شَمْسٍ ، وَفَتْ ذِمّتُك ، قَدْ رَدَدْت إلَيْك جِوَارَك ، فَقَالَ لَهُ لَمْ يَا بْنَ أَخِي ؟ لَعَلّهُ آذَاكَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِي ، قَالَ لَا ، وَلَكِنّي أَرْضَى بِجِوَارِ اللّهِ وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَجِيرَ بِغَيْرِهِ ؟ قَالَ فَانْطَلِقْ إلَى الْمَسْجِدِ فَارْدُدْ عَلَيّ جِوَارِي عَلَانِيَةً كَمَا أَجَرْتُك عَلَانِيَةً . قَالَ فَانْطَلَقَا فَخَرَجَا حَتّى أَتَيَا الْمَسْجِدَ فَقَالَ الْوَلِيدُ هَذَا عُثْمَانُ قَدْ جَاءَ يَرُدّ عَلَيّ جِوَارِي ، قَالَ صَدَقَ قَدْ وَجَدْته وَفِيّا كَرِيمَ الْجِوَارِ وَلَكِنّي قَدْ أَحْبَبْت أَنْ لَا أَسْتَجِيرَ بِغَيْرِ اللّهِ فَقَدْ رَدَدْت عَلَيْهِ جِوَارَهُ انْصَرَفَ عُثْمَانُ وَلَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ فِي مَجْلِسٍ مِنْ قُرَيْشٍ يَنْشُدُهُمْ فَجَلَسَ مَعَهُمْ عُثْمَانُ فَقَالَ لَبِيدٌ أَلَا كُلّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللّهَ بَاطِلُ [ ص 157 ] قَالَ عُثْمَانُ صَدَقْت ، قَالَ وَكُلّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ قَالَ عُثْمَانُ كَذَبْت ، نَعِيمُ الْجَنّةِ لَا يَزُولُ . قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، وَاَللّهِ مَا كَانَ يُؤْذَى جَلِيسُكُمْ فَمَتَى حَدَثَ هَذَا فِيكُمْ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : إنّ هَذَا سَفِيهٌ فِي سُفَهَاءَ مَعَهُ قَدْ فَارَقُوا دِينَنَا ، فَلَا تَجِدَنّ فِي نَفْسِك مِنْ قَوْلِهِ فَرَدّ عَلَيْهِ عُثْمَانُ حَتّى شَرِيَ أَمْرُهُمَا ، فَقَامَ إلَيْهِ ذَلِكَ الرّجُلُ فَلَطَمَ عَيْنَهُ فَخَضّرَهَا ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَرِيبٌ يَرَى مَا بَلَغَ مِنْ عُثْمَانَ فَقَالَ أَمَا وَاَللّهِ يَا بْنَ أَخِي إنْ كَانَتْ عَيْنُك عَمّا أَصَابَهَا لَغَنِيّةً لَقَدْ كُنْت فِي ذِمّةٍ مَنِيعَةٍ . قَالَ يَقُولُ عُثْمَانُ بَلْ وَاَللّهِ إنّ عَيْنِي الصّحِيحَةَ لَفَقِيرَةٌ إلَى مِثْلِ مَا أَصَابَ أُخْتَهَا فِي اللّهِ وَإِنّي لَفِي جِوَارِ مَنْ هُوَ أَعَزّ مِنْك وَأَقْدَرُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ ، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ هَلُمّ يَا بْنَ أَخِي ، إنْ شِئْت فَعُدْ إلَى جِوَارِك ، فَقَالَ لَاSتَأْوِيلُ كُلّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللّهَ بَاطِلُ [ ص 156 ] فَصْلٌ وَذَكَرَ قَوْلَ لَبِيدٍ : أَلَا كُلّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللّهَ بَاطِلُ وَقِصّةُ ابْنِ مَظْعُونٍ إلَى آخِرِهَا ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَشْكُلُ غَيْرَ سُؤَالٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشّاعِرُ " قَوْلُ لَبِيدٍ أَلَا كُلّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللّهَ بَاطِلُ فَصَدّقَهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - يَقُولُ فِي مُنَاجَاتِهِ " أَنْتَ الْحَقّ ، وَقَوْلُك الْحَقّ ، وَوَعْدُك الْحَقّ ، وَالْجَنّةُ حَقّ ، وَالنّارُ حَقّ ، وَلِقَاؤُك حَقّ " . فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ أَلَا كُلّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللّهَ بَاطِلُ [ ص 157 ] أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ مَا خَلَا اللّهَ مَا عَدَاهُ وَعَدَا رَحْمَتِهِ الّتِي وَعَدَ بِهَا مَنْ رَحِمَهُ وَالنّارُ وَمَا تَوَعّدَ بِهِ مَنْ عِقَابِهِ وَمَا سِوَى هَذَا فَبَاطِلٌ أَيْ مُضْمَحِلّ وَالْجَوَابُ الثّانِي : أَنّ الْجَنّةَ وَالنّارَ وَإِنْ كَانَتَا حَقّا ، فَإِنّ الزّوَالَ عَلَيْهِمَا جَائِزٌ لِذَاتِهِمَا ، وَإِنّمَا يَبْقَيَانِ بِإِبْقَاءِ اللّهِ لَهُمَا ، وَأَنّهُ يَخْلُقُ الدّوَامَ لِأَهْلِهِمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الدّوَامَ وَالْبَقَاءَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى الذّاتِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيّ وَإِنّمَا الْحَقّ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الزّوَالُ وَهُوَ الْقَدِيمُ الّذِي انْعِدَامُهُ مُحَالٌ وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنْتَ الْحَقّ بِالْأَلِفِ وَاللّامّ أَيْ الْمُسْتَحِقّ لِهَذَا الِاسْمِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَقَوْلُك الْحَقّ ؛ لِأَنّ قَوْلَهُ قَدِيمٌ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَيَبِيدُ وَوَعْدُك الْحَقّ كَذَلِكَ لِأَنّ وَعْدَهُ كَلَامُهُ هَذَا مُقْتَضَى الْأَلِفِ وَاللّامّ ثُمّ قَالَ وَالْجَنّةُ حَقّ ، وَالنّارُ حَقّ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ وَلِقَاؤُك حَقّ كَذَلِكَ لِأَنّ هَذِهِ أُمُورٌ مُحْدَثَاتٌ وَالْمُحْدَثُ لَا يَجِبُ لَهُ الْبَقَاءُ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ وَإِنّمَا عَلِمْنَا بَقَاءَهَا مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ الصّادِقِ الّذِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخُلْفُ لَا مِنْ جِهَةِ اسْتِحَالَةِ الْبَقَاءِ عَلَيْهَا ، كَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَى الْقَدِيمِ - سُبْحَانَهُ - الّذِي هُوَ الْحَقّ ، وَمَا خَلَاه بَاطِلٌ فَإِمّا جَوْهَرٌ وَإِمّا عَرَضٌ وَلَيْسَ فِي الْأَعْرَاضِ إلّا مَا يَجِبُ لَهُ الْفَنَاءُ وَلَا فِي الْجَوْهَرِ إلّا مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ وَالْبُطُولُ وَإِنْ بَقِيَ وَلَمْ يَبْطُلْ فَجَائِزٌ أَنْ يَبْطُلَ . وَأَمّا الْحَقّ - سُبْحَانَهُ - فَلَيْسَ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ فَاسْتَحَالَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ لَهُمَا ، أَوْ يَجُوزُ عَلَيْهِمَا
أَبُو سَلَمَة فِي جِوَارِ أَبِي طَالِبٍ
[ ص 158 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ ، فَحَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنّهُ حَدّثَهُ أَنّ أَبَا سَلَمَةَ لَمّا اسْتَجَارَ بِأَبِي طَالِبٍ مَشَى إلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ ، فَقَالُوا : يَا أَبَا طَالِبٍ لَقَدْ مَنَعْت مِنّا ابْنَ أَخِيك مُحَمّدًا ، فَمَا لَك وَلِصَاحِبِنَا تَمْنَعُهُ مِنّا ؟ قَالَ إنّهُ اسْتَجَارَ بِي ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِي ، وَإِنْ أَنَا لَمْ أَمْنَعْ ابْنَ أُخْتِي لَمْ أَمْنَعْ ابْنَ أَخِي ، فَقَامَ أَبُو لَهَبٍ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، وَاَللّهِ لَقَدْ أَكَثُرْتُمْ عَلَى هَذَا الشّيْخِ مَا تَزَالُونَ تَتَوَاثَبُونَ عَلَيْهِ فِي جِوَارِهِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ وَاَللّهِ لَتَنْتَهُنّ عَنْهُ أَوْ لَنَقُومَنّ مَعَهُ فِي كُلّ مَا قَامَ فِيهِ حَتّى يَبْلُغَ مَا أَرَادَ . قَالَ فَقَالُوا : بَلْ نَنْصَرِفُ عَمّا تَكْرَهُ يَا أَبَا عُتْبَةَ وَكَانَ لَهُمْ وَلِيّا وَنَاصِرًا عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَبْقَوْا عَلَى ذَلِكَ فَطَمِعَ فِيهِ أَبُو طَالِبٍ حِينَ سَمِعَهُ يَقُولُ مَا يَقُولُ وَرَجَا أَنْ يَقُومَ مَعَهُ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ يُحَرّضُ أَبَا لَهَبٍ عَلَى نُصْرَتِهِ وَنُصْرَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَإِنّ امْرِئِ أَبُو عُتَيْبَةَ عَمّهُ ... لَفِي رَوْضَةٍ مَا إنْ يُسَامَ الْمَظَالِمَا
أَقُولُ لَهُ - وَأَيْنَ مِنْهُ نَصِيحَتِي ... أَبَا مُعَتّبٍ ثَبّتْ سَوَادَك قَائِمَا
فَلَا تَقْبَلَنّ الدّهْرَ مَا عِشْت خُطّةً ... تَسُبّ بِهَا ، إمّا هَبَطْت الْمُوَاسِمَا
وَوَلّ سَبِيلَ الْعَجْزِ غَيْرَك مِنْهُمْ ... فَإِنّك لَمْ تُخْلَقْ عَلَى الْعَجْزِ لَازِمَا
وَحَارِبِ فَإِنّ الْحَرْبَ نِصْفُ وَمَا تَرَى ... أَخَا الْحَرْبِ يُعْطَى الْخَسْفَ حَتّى يُسَالِمَا
وَكَيْفَ وَلَمْ يَجْنُوا عَلَيْك عَظِيمَةً ... وَلَمْ يَخْذُلُوك غَانِمًا ، أَوْ مُغَارِمَا
جَزَى اللّهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا ... وَتَيْمًا وَمَخْزُومًا عُقُوقًا وَمَأْثَمَا
بِتَفْرِيقِهِمْ مِنْ بَعْدِ وُدّ وَأُلْفَةٍ ... جَمَاعَتَنَا ، كَيْمَا يَنَالُوا الْمَحَارِمَا
كَذَبْتُمْ وَبَيْتُ اللّهِ نُبْزَى مُحَمّدًا ... وَلَمّا تَرَوْا يَوْمًا لَدَى الشّعْبِ قَائِمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : نُبْزَى : نُسْلَبُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَقِيَ مِنْهَا بَيْتٌ تَرَكْنَاهُ .
أَبُو بَكْرٍ يَرُدّ جِوَارَ ابْنِ الدّغُنّةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - كَمَا حَدّثَنِي : [ ص 159 ] الزّهْرِيّ ، عَنْ عُرْوَة ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَكّةُ ، وَأَصَابَهُ فِيهَا الْأَذَى ، وَرَأَى مِنْ تَظَاهُرِ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَصْحَابِهِ مَا رَأَى ، اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي الْهِجْرَةِ فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا ، حَتّى إذَا سَارَ مِنْ مَكّةَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَقِيَهُ ابْنُ الدّغُنّةِ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ وَهُوَ يَوْمئِذٍ سَيّدُ الْأَحَابِيشِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَالْأَحَابِيشُ : بَنُو الْحَارِثِ بْنُ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ وَالْهُونُ بْنُ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ وَبَنُو الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَحَالَفُوا جَمِيعًا ، فَسُمّوا الْأَحَابِيشَ لِلْحِلْفِ . وَيُقَالُ ابْنُ الدغينة . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي الزّهْرِيّ ، عَنْ عُرْوَةَ عَن عَائِشَة َ قَالَتْ فَقَالَ ابْنُ الدّغُنّةِ أَيْنَ يَا أَبَا بَكْرٍ ؟ قَالَ أَخْرَجَنِي قَوْمِي وَآذَوْنِي ، وَضَيّقُوا عَلَيّ قَالَ وَلِمَ ؟ فَوَاَللّهِ إنّك لَتُزَيّنَ الْعَشِيرَةَ وَتُعِينُ عَلَى النّوَائِبِ وَتَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ارْجِعْ وَأَنْتَ فِي جِوَارِي ، فَرَجَعَ مَعَهُ حَتّى إذَا دَخَلَ مَكّةَ ، قَامَ ابْنُ الدّغُنّةِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّي قَدْ أَجَرْت ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَلَا يَعْرِضَنّ لَهُ أَحَدٌ إلّا بِخَيْرِ . قَالَتْ فَكُفّوا عَنْهُ . قَالَتْ وَكَانَ لِأَبِي بَكْرٍ مَسْجِدٌ عِنْدَ بَابِ دَارِهِ فِي بَنِي جُمَحٍ فَكَانَ يُصَلّي فِيهِ وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا ، إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ اسْتَبْكَى . قَالَتْ فَيَقِفُ عَلَيْهِ الصّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ وَالنّسَاءُ يَعْجَبُونَ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ هَيْئَتِهِ . قَالَتْ فَمَشَى رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى ابْنِ الدّغُنّةِ فَقَالُوا لَهُ يَا بْنَ الدّغُنّةِ إنّك لَمْ تُجِرْ هَذَا الرّجُلَ لَيُؤْذِينَا إنّهُ رَجُلٌ إذَا صَلّى ، وَقَرَأَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ يَرِقّ وَيَبْكِي ، وَكَانَتْ لَهُ هَيْئَةٌ وَنَحْوٌ فَنَحْنُ نَتَخَوّفُ عَلَى صِبْيَانِنَا وَنِسَائِنَا وَضَعَفَتَنَا أَنْ يَفْتِنّهُمْ فَأْتِهِ فَمُرْهُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَلْيَصْنَعْ فِيهِ مَا شَاءَ . قَالَتْ فَمَشَى ابْنُ الدّغُنّةِ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ إنّي لَمْ أُجِرْك لِتُؤْذِي قَوْمَك ، إنّهُمْ قَدْ كَرِهُوا مَكَانك الّذِي أَنْتَ فِيهِ وَتَأَذّوْا بِذَلِكَ مِنْك ، فَادْخُلْ بَيْتَك ، فَاصْنَعْ فِيهِ مَا أَحْبَبْت ، قَالَ أَوْ أَرُدّ عَلَيْك جِوَارَك وَأَرْضَى بِجِوَارِ [ ص 160 ] قَالَ فَارْدُدْ عَلَيّ جِوَارِي ، قَالَ قَدْ رَدَدْته عَلَيْك . قَالَتْ فَقَامَ ابْنُ الدّغُنّةِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ قَدْ رَدّ عَلَيّ جِوَارِي ، فَشَأْنُكُمْ بِصَاحِبِكُمْ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ قَالَ لَقِيَهُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ ، وَهُوَ عَامِدٌ إلَى الْكَعْبَةَ ، فَحَثَا عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا . قَالَ فَمَرّ بِأَبِي بَكْرٍ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، أَوْ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ . قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَلّا تَرَى إلَى مَا يَصْنَعُ هَذَا السّفِيهُ ؟ قَالَ أَنْتَ فَعَلْت ذَلِكَ بِنَفْسِك . قَالَ وَهُوَ يَقُولُ أَيْ رَبّ مَا أَحْلَمَك أَيْ رَبّ مَا أَحْلَمَك أَيْ رَبّ مَا أَحْلَمَك .Sذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي بَكْرٍ مَعَ ابْنِ الدّغُنّةِ
[ ص 158 ] الْأَحَابِيشِ ، وَقَدْ سَمّاهُمْ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَهُمْ بَنُو الْحَارِثِ وَبَنُو الْهُونِ مِنْ كِنَانَةَ وَبَنُو الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ [ ص 159 ] تَحَبّشُوا ، أَيْ تَجَمّوْا ، فَسُمّوا الْأَحَابِيشَ . قِيلَ إنّهُمْ تَحَالَفُوا عِنْدَ جُبَيْلٍ يُقَالُ لَهُ حُبْشِيّ ، فَاشْتُقّ لَهُمْ مِنْهُ هَذَا الِاسْمُ . وَقَوْلُهُ لِأَبِي بَكْرٍ إنّك لِتَكْسِبَ الْمَعْدُومَ يُقَالُ كَسَبْتِ الرّجُلَ مَالًا ، فَتَعُدّيهِ إلَى مَفْعُولَيْنِ . هَذَا قَوْلُ الْأَصْمَعِيّ ، وَحَكَى غَيْرُهُ أَكَسَبْته مَالًا ، فَمَعْنَى تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ أَيْ يَكْسِبُ غَيْرَك مَا هُوَ مَعْدُومٌ عِنْدَهُ وَالدّغُنّةُ اسْمُ امْرَأَةٍ عُرِفَ بِهَا الرّجُلُ وَالدّغْنُ الْغَيْمُ يَبْقَى بَعْدَ الْمَطَرِ
حَدِيثُ نَقْضِ الصّحِيفَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَنُو هَاشِمٍ ، وَبَنُو الْمُطّلِبِ فِي مَنْزِلِهِمْ الّذِي تَعَاقَدَتْ فِيهِ قُرَيْشٌ عَلَيْهِمْ فِي الصّحِيفَةِ الّتِي كَتَبُوهَا ، ثُمّ إنّهُ قَامَ فِي نَقْضِ تِلْكَ الصّحِيفَةِ الّتِي تَكَاتَبَتْ فِيهَا قُرَيْشٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَلَمْ يَبْلُ فِيهَا أَحَدٌ أَحْسَنَ مِنْ بَلَاءِ هِشَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ ابْنَ أَخِي نَضْلَةَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ لِأُمّهِ فَكَانَ هِشَامٌ لِبَنِي هَاشِمٍ وَاصِلًا ، وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِي قَوْمِهِ فَكَانَ - فِيمَا بَلَغَنِي - يَأْتِي بِالْبَعِيرِ وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطّلِبِ [ ص 161 ] الشّعْبِ لَيْلًا ، قَدْ أَوْقَرَهُ طَعَامًا ، حَتّى إذَا أَقْبَلَ بِهِ فَمَ الشّعْبِ ، خَلَعَ خِطَامَهُ مِنْ رَأْسِهِ ثُمّ ضَرَبَ عَلَى جَنْبِهِ فَيَدْخُلُ الشّعْبَ عَلَيْهِمْ ثُمّ يَأْتِي بِهِ قَدْ أَوْقَرَهُ بَزّا ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّهُ مَشَى إلَى زُهَيْرِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرِ بْنِ مَخْزُومٍ - وَكَانَتْ أُمّهُ عَاتِكَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ - فَقَالَ يَا زُهَيْرُ أَقَدْ رَضِيت أَنْ تَأْكُلَ الطّعَامَ وَتَلْبَسَ الثّيَابَ وَتَنْكِحَ النّسَاءَ وَأَخْوَالُك حَيْثُ قَدْ عَلِمْت ، لَا يُبَاعُونَ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ وَلَا يَنْكِحُونَ وَلَا يُنْكَحُ إلَيْهِمْ ؟ أَمَا إنّي أَحْلِفُ بِاَللّهِ أَنْ لَوْ كَانُوا أَخْوَالَ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ ثُمّ دَعَوْته إلَى مَا دَعَاك إلَيْهِ مِنْهُمْ مَا أَجَابَك إلَيْهِ أَبَدًا ، قَالَ وَيْحَك يَا هِشَامُ فَمَاذَا أَصْنَعُ ؟ إنّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَاَللّهِ لَوْ كَانَ مَعِي رَجُلٌ آخَرُ لَقُمْت فِي نَقْضِهَا حَتّى أَنْقُضَهَا ، قَالَ قَدْ وَجَدْت رَجُلًا قَالَ فَمَنْ هُوَ ؟ قَالَ أَنَا ، قَالَ لَهُ زُهَيْرٌ أَبْغِنَا رَجُلًا ثَالِثًا . فَذَهَبَ إلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ ، فَقَالَ لَهُ يَا مُطْعِمُ أَقَدْ رَضِيت أَنْ يَهْلِكَ بَطْنَانِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ، وَأَنْتَ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِقُرَيْشِ فِيهِ أَمَا وَاَللّهِ لَئِنْ أَمْكَنْتُمُوهُمْ مِنْ هَذِهِ لَتَجِدَنّهُمْ إلَيْهَا مِنْكُمْ سِرَاعًا ، قَالَ وَيْحَك فَمَاذَا أَصْنَعُ ؟ إنّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ قَالَ قَدْ وَجَدْت ثَانِيًا ، قَالَ مَنْ هُوَ ؟ قَالَ أَنَا ، قَالَ أَبْغِنَا ثَالِثًا ، قَالَ قَدْ فَعَلْت ، قَالَ مَنْ هُوَ ؟ قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ ، قَالَ أَبْغِنَا رَابِعًا [ ص 162 ] فَذَهَبَ إلَى أَبِي الْبَخْتَرِيّ بْنِ هِشَامٍ فَقَالَ لَهُ نَحْوًا مِمّا قَالَ لِمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ فَقَالَ وَهَلْ مِنْ أَحَدٍ يُعِينُ عَلَى هَذَا ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ مَنْ هُوَ ؟ قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ ، وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ ، وَأَنَا مَعَك ، قَالَ أَبْغِنَا خَامِسًا . فَذَهَبَ إلَى زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ ، فَكَلّمَهُ وَذَكَرَ لَهُ قَرَابَتَهُمْ وَحَقّهُمْ فَقَالَ لَهُ وَهَلْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الّذِي تَدْعُونِي إلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالَ نَعَمْ ثُمّ سَمّى لَهُ الْقَوْمَ . فَاتّعَدُوا خَطْمَ الْحَجُونِ لَيْلًا بِأَعْلَى مَكّةَ ، فَاجْتَمَعُوا هُنَالِكَ فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَتَعَاقَدُوا عَلَى الْقِيَامِ فِي الصّحِيفَةِ حَتّى يَنْقُضُوهَا ، وَقَالَ زُهَيْرٌ أَنَا أَبْدَؤُكُمْ فَأَكُونُ أَوّلَ مَنْ يَتَكَلّمَ . فَلَمّا أَصْبَحُوا غَدَوْا إلَى أَنْدِيَتِهِمْ وَغَدَا زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ عَلَيْهِ حُلّةٌ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ، ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ فَقَالَ يَأْهَلَ مَكّةَ ، أَنَأْكُلُ الطّعَامَ وَنَلْبَسُ الثّيَابَ وَبَنُو هَاشِمٍ هَلْكَى لَا يُبَاعُ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ وَاَللّهِ لَا أَقْعُدُ حَتّى تُشَقّ هَذِهِ الصّحِيفَةُ الْقَاطِعَةُ الظّالِمَةُ . قَالَ أَبُو جَهْلٍ - وَكَانَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ : كَذَبْت وَاَللّهِ لَا تُشَقّ ، قَالَ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ : أَنْتَ وَاَللّهِ أَكْذَبَ مَا رَضِينَا كِتَابَهَا حَيْثُ كَتَبْت ، قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيّ صَدَقَ زَمْعَةُ لَا نَرْضَى مَا كُتِبَ فِيهَا ، وَلَا نُقِرّ بِهِ قَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ : صَدَقْتُمَا ، وَكَذَبَ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ نَبْرَأُ إلَى اللّهِ مِنْهَا ، وَمِمّا كُتِبَ فِيهَا ، قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ . فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلِ تُشُووِرَ فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ وَأَبُو طَالِبٍ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ ، فَقَامَ الْمُطْعِمُ إلَى الصّحِيفَةِ لِيَشُقّهَا ، فَوَجَدَ الْأَرَضَةَ قَدْ أَكَلَتْهَا ، إلّا : " بِاسْمِك اللّهُمّ " . وَكَانَ كَاتِبُ الصّحِيفَةِ مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ . فَشَلَتْ يَدُهُ فِيمَا يَزْعُمُونَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِأَبِي طَالِبٍ يَا عَمّ إنّ رَبّي اللّهُ قَدْ سَلّطَ الْأَرَضَةَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ ، فَلَمْ تَدَعْ فِيهَا اسْمًا هُوَ لِلّهِ إلّا أَثْبَتَتْهُ فِيهَا ، وَنَفَتْ مِنْهُ الظّلْمَ وَالْقَطِيعَةَ وَالْبُهْتَانَ " ، فَقَالَ أَرَبّك أَخْبَرَك بِهَذَا ؟ قَالَ " نَعَمْ " ، قَالَ [ ص 163 ] أَحَدٌ ، ثُمّ خَرَجَ إلَى قُرَيْشٍ ، فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّ ابْنَ أَخِي أَخْبَرَنِي بِكَذَا وَكَذَا ، فَهَلُمّ صَحِيفَتَكُمْ فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ ابْنُ أَخِي ، فَانْتَهُوا عَنْ قَطِيعَتِنَا ، وَانْزِلُوا عَمّا فِيهَا ، وَإِنْ يَكُنْ كَاذِبًا دَفَعْت إلَيْكُمْ ابْنَ أَخِي ، فَقَالَ الْقَوْمُ رَضِينَا ، فَتَعَاقَدُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمّ نَظَرُوا ، فَإِذَا هِيَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَزَادَهُمْ ذَلِكَ شَرّا فَعِنْدَ ذَلِكَ صَنَعَ الرّهْطَ مِنْ قُرَيْشٍ فِي نَقْضِ الصّحِيفَةِ مَا صَنَعُوا .Sعَنْ الشّعْبِ وَنَقْضِ الصّحِيفَةِ
فَصْلٌ
[ ص 160 ] وَذَكَرَ نَقْضَ الصّحِيفَةِ وَقِيَامَ هِشَامٍ فِيهَا وَنَسَبَهُ فَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ حَبِيبٍ وَفِي الْحَاشِيَةِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ إنّمَا هُوَ هِشَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ ، وَهَكَذَا وَقَعَ نَسَبُهُ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَكَانَ أَبُوهُ عَمْرٌو أَخَا نَضْلَةَ بْنِ هَاشِمٍ لِأُمّهِ . وَذَكَرَ أَنّهُ كَانَ يَأْتِي بِالْبَعِيرِ قَدْ أَوْقَرَهُ بَزّا بِالزّايِ الْمُعْجَمَةِ وَفِي غَيْرِ نُسْخَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ بُرّا ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بُرّا أَوْ بُرّا عَلَى الشّكّ مِنْ الرّاوِي . وَذَكَرَ أَنّ مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ كَانَ كَاتِبَ الصّحِيفَةِ فَشُلّتْ يَدُهُ وَلِلْنّسَابِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي كَاتِبِ الصّحِيفَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّ كَاتِبَ الصّحِيفَةِ هُوَ بَغِيضُ بْنُ عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ ، وَالْقَوْلُ الثّانِي : أَنّهُ مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ بْنِ هَاشِمٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ أَيْضًا ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الزّبَيْرُ فِي كَاتِبِ الصّحِيفَةِ غَيْرَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَالزّبَيْرِيّون أَعْلَمُ بِأَنْسَابِ قَوْمِهِمْ [ ص 161 ] وَذَكَرَ مَا أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي الشّعْبِ مِنْ ضِيقِ الْحِصَارِ لَا يُبَايَعُونَ وَلَا يُنَاكَحُونَ وَفِي الصّحِيحِ أَنّهُمْ جَهِدُوا حَتّى كَانُوا يَأْكُلُونَ الْخَبَطَ وَوَرَقَ السّمَرِ حَتّى إنّ أَحَدَهُمْ لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشّاةُ وَكَانَ فِيهِمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ . رُوِيَ أَنّهُ قَالَ لَقَدْ جُعْت ، حَتّى إنّي وَطِئْت ذَاتَ لَيْلَةٍ عَلَى شَيْءٍ رَطْبٍ فَوَضَعْته فِي فَمِي وَبَلَعْته ، وَمَا أَدْرِي مَا هُوَ إلَى الْآنَ وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ أَنّ سَعْدًا قَالَ خَرَجْت ذَاتَ لَيْلَةٍ لِأَبُولَ فَسَمِعْت قَعْقَعَةً تَحْتَ الْبَوْلِ فَإِذَا قِطْعَةٌ مِنْ جِلْدِ بَعِيرٍ يَابِسَةٍ فَأَخَذْتهَا وَغَسَلْتهَا ، ثُمّ أَحْرَقْتهَا ثُمّ رَضَضْتهَا ، وَسَفِفْتهَا بِالْمَاءِ فَقَوِيت بِهَا ثَلَاثًا وَكَانُوا إذَا قَدِمَتْ الْعِيرُ مَكّةَ يَأْتِي أَحَدُهُمْ السّوقَ لِيَشْتَرِيَ شَيْئًا مِنْ الطّعَامِ لِعِيَالِهِ فَيَقُومُ أَبُو لَهَبٍ عَدُوّ اللّهِ فَيَقُولُ يَا مَعْشَرَ التّجّارِ غَالُوا عَلَى أَصْحَابِ مُحَمّدٍ حَتّى لَا يُدْرِكُوا مَعَكُمْ شَيْئًا ، فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لِي وَوَفَاءُ ذِمّتِي ، فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا خَسَارَ عَلَيْكُمْ فَيَزِيدُونَ عَلَيْهِمْ فِي السّلْعَةِ قِيمَتُهَا أَضْعَافًا ، حَتّى يَرْجِعَ إلَى أَطْفَالِهِ وَهُمْ يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجَوْعِ وَلَيْسَ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ يُطْعِمُهُمْ بِهِ وَيَغْدُو التّجّارُ عَلَى أَبِي لَهَبٍ ، فَيُرْبِحُهُمْ فِيمَا اشْتَرَوْا مِنْ الطّعَامِ وَاللّبَاسِ حَتّى جَهِدَ الْمُؤْمِنُونَ وَمَنْ مَعَهُمْ جَوْعًا وَعُرْيًا ، وَهَذِهِ إحْدَى الشّدَائِدِ الثّلَاثِ الّتِي دَلّ عَلَيْهَا تَأْوِيلُ الْغَطّات الثّلَاثِ الّتِي غَطّهُ جِبْرِيلُ حِينَ قَالَ [ ص 162 ] اقْرَأْ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ فِي الْيَقَظَةِ وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ لَهُ فِي مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ تَأْوِيلٌ وَإِيمَاءٌ وَقَدْ تَقَدّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى هَذَا قَبْلُ وَإِلَى آخِرِ حَدِيثِ الصّحِيفَةِ لَيْسَ فِيهَا مَا يَشْكُلُ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا مُزّقَتْ الصّحِيفَةُ وَبَطَلَ مَا فِيهَا . قَالَ أَبُو طَالِبٍ ، فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أُولَئِكَ النّفَرِ الّذِينَ قَامُوا فِي نَقْضِهَا يَمْدَحُهُمْ [ ص 164 ] [ ص 165 ] [ ص 166 ]
أَلّا هَلْ أَتَى بَحْرِيّنَا صَنِعُ رَبّنَا ... عَلَى نَأْيِهِمْ وَاَللّهُ بِالنّاسِ أَرْوَدُ
فَيُخْبِرُهُمْ أَنّ الصّحِيفَةَ مُزّقَتْ ... وَأَنّ كُلّ مَا لَمْ يَرْضَهُ اللّهُ مُفْسَدُ
تَرَاوَحَهَا إفْكٌ وَسِحْرٌ مُجَمّعٌ ... وَلَمْ يُلْفَ سِحْرُ آخِرَ الدّهْرِ يَصْعَدُ
تَدَاعَى لَهَا مَنْ لَيْسَ فِيهَا بِقَرْقَرِ ... فَطَائِرُهَا فِي رَأْسِهَا يَتَرَدّدُ
وَكَانَتْ كِفَاءً رُقْعَة بِأَثِيمَةِ ... لِيُقْطَعَ مِنْهَا سَاعِدٌ وَمُقَلّدُ
وَيَظْعَنُ أَهْلُ الْمُكَتّيْنِ فَيَهْرُبُوا ... فَرَائِصُهُمْ مِنْ خَشْيَةِ الشّرّ تُرْعَدُ
وَيُتْرَكُ حَرّاثٌ يُقَلّبُ أَمْرُهُ ... أَيُتْهِمُ فِيهِمْ عِنْدَ ذَاكَ وَيُنْجِدُ
وَتَصْعَدُ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ كَتِيبَةٌ ... لَهَا حُدُجٌ سَهْمٌ وَقَوْسٌ وَمِرْهَدُ
فَمَنْ يَنْشَ مِنْ حُضّارِ مَكّةَ عِزّهُ ... فَعِزّتُنَا فِي بَطْنِ مَكّةَ أَتَلْدُ
نَشَأْنَا بِهَا ، وَالنّاسُ فِيهَا قَلَائِلُ ... فَلَمْ نَنْفَكِكْ نَزْدَادُ خَيْرًا وَنَحْمَدُ
وَنُطْعِمُ حَتّى يَتْرُكَ النّاسُ فَضْلَهُمْ ... إذَا جُعِلَتْ أَيْدِي الْمُفِيضِينَ تَرْعَدُ
جَزَى اللّهُ رَهْطًا بِالْحَجُونِ تُبَايِعُوا ... عَلَى مَلَأٍ يَهْدِي لِحَزْمِ وَيُرْشِدُ
قُعُودًا لَدَى خَطْمِ الْحَجُونِ كَأَنّهُمْ ... مَقَاوِلَةٌ بَلْ هُمْ أَعَزّ وَأَمْجَدُ
أَعَانَ عَلَيْهَا كُلّ صَقْرٍ كَأَنّهُ ... إذَا مَا مَشَى فِي رَفْرَفِ الدّرْعِ أَحْرَدُ
جَرِيّ عَلَى جُلّى الْخُطُوبِ كَأَنّهُ ... شِهَابٌ بِكَفّيْ قَابِسٍ يَتَوَقّدُ
مِنْ الْأَكْرَمِينَ مِنْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ... إذَا سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ يَتَرَبّدُ
طَوِيلُ النّجَادِ خَارِجٌ نِصْفُ سَاقِهِ ... عَلَى وَجْهِهِ يُسْقَى الْغَمَامُ وَيَسْعَدُ
عَظِيمُ الرّمَادِ سَيّدٌ وَابْنُ سَيّدٍ ... يَحُضّ عَلَى مَقْرَى الضّيُوفِ وَيَحْشِدُ
وَيُبْنَى لِأَبْنَاءِ الْعَشِيرَةِ صَالِحًا ... إذَا نَحْنُ طُفْنَا فِي الْبِلَادِ وَيَمْهَدُ
أَلَطّ بِهَذَا الصّلْحِ كُلّ مُبَرّأٍ ... عَظِيمُ اللّوَاءِ أَمْرُهُ ثَمّ يُحْمَدُ
قَضَوْا مَا قَضَوْا فِي لَيْلِهِمْ ثُمّ أَصْبَحُوا ... عَلَى مَهْلٍ وَسَائِرُ النّاسِ رُقّدُ
هُمْ رَجَعُوا سَهْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ رَاضِيًا ... وَسُرّ أَبُو بَكْرٍ بِهَا وَمُحَمّدُ
مَتَى شُرّكَ الْأَقْوَامُ فِي جُلّ أَمْرِنَا ... وَكُنّا قَدِيمًا قَبْلَهَا نُتَوَدّدُ
وَكُنّا قَدِيمًا لَا نُقِرّ ظُلَامَةً ... وَنُدْرِكُ مَا شِئْنَا ، وَلَا نَتَشَدّدُ
فَيَا لَقُصَيّ هَلْ لَكُمْ فِي نَفُوسِكُمْ ... وَهَلْ لَكُمْ فِيمَا يَجِيءُ بِهِ غَدٌ
فَإِنّي وَإِيّاكُمْ كَمَا قَالَ قَائِلٌ ... لَدَيْك الْبَيَانُ لَوْ تَكَلّمْت أَسْوَدُSشَرْحُ دَالِيَةَ أَبِي طَالِبٍ
[ ص 163 ] أَبِي طَالِبٍ : أَلَا قَدْ أَتَى بَحْرِيّنَا ، يَعْنِي الّذِينَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، نَسَبَهُمْ إلَى الْبَحْرِ لِرُكُوبِهِمْ إيّاهُ وَهَكَذَا وَجْهُ النّسَبِ إلَيْهِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ إذَا نَشَأَتْ بَحْرِيّةٌ وَزَعَمَ ابْنُ سِيدَهْ فِي كِتَابِ الْمُحْكَمِ لَهُ أَنّ الْعَرَبَ تَنْسِبُ إلَى الْبَحْرِ بَحْرَانِيّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَأَنّهُ مِنْ شَوَاذّ النّسَبِ وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ إلَى سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ ، وَلَمْ يَقُلْهُ سِيبَوَيْهِ قَطّ ، وَإِنّمَا قَالَ فِي شَوَاذّ النّسَب : تَقُولُ فِي بَهْرَاءَ : بَهْرَانِيّ وَفِي صَنْعَاءَ : صَنْعَانِيّ كَمَا تَقُولُ بَحْرَانِيّ فِي النّسَبِ إلَى الْبَحْرَيْنِ الّتِي هِيَ مَدِينَةٌ وَعَلَى هَذَا تَلَقّاهُ جَمِيعُ النّحَاةِ وَتَأَوّلُوهُ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ ، وَإِنّمَا شُبّهَ عَلَى ابْنِ سِيدَهْ لِقَوْلِ الْخَلِيلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْنِي مَسْأَلَةَ النّسَبِ إلَى الْبَحْرَيْنِ ، كَأَنّهُمْ بَنَوْا الْبَحْرَ عَلَى بَحْرَانِ ، وَإِنّمَا أَرَادَ لَفْظَ الْبَحْرَيْنِ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ تَقُولُ بَحْرَانِيّ فِي النّسَبِ إلَى الْبَحْرَيْنِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ النّسَبَ إلَى الْبَحْرِ أَصْلًا لِلْعِلْمِ بِهِ وَأَنّهُ عَلَى الْقِيَاسِ جَارٍ وَفِي الْغَرِيبِ الْمُصَنّفِ عَنْ الْيَزِيدِيّ أَنّهُ قَالَ إنّمَا قَالُوا : بَحْرَانِيّ فِي النّسَبِ إلَى الْبَحْرَيْنِ ، وَلَمْ يَقُولُوا : بَحْرِيّ لِيُفَرّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النّسَبِ إلَى الْبَحْرِ وَمَا زَالَ ابْنُ سِيدَهْ يَعْثِرُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ [ عَثَرَاتٌ ] يَدْمِي مِنْهَا الْأَظَلّ ، وَيَدْحَضُ دَحَضَاتٍ تُخْرِجُهُ إلَى سَبِيلِ مَنْ ضَلّ أَلَا تَرَاهُ قَالَ فِي هَذَا الْبَابِ وَذَكَرَ بُحَيْرَةَ طَبَرِيّةَ ، فَقَالَ هِيَ مِنْ أَعْلَامِ خُرُوجِ الدّجّالِ وَأَنّ مَاءَهَا يَيْبَسُ عِنْدَ خُرُوجِهِ وَالْحَدِيثُ إنّمَا جَاءَ فِي غَيْرِ زُغَرٍ ، وَإِنّمَا ذَكَرْت بُحَيْرَةَ طَبَرِيّةَ فِي حَدِيثِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَأَنّهُمْ يَشْرَبُونَ مَاءَهَا ، وَقَالَ فِي الْجِمَارِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ [ إنّمَا ] هِيَ الّتِي تُرْمَى بِعَرَفَةَ ، وَهَذِهِ هَفْوَةٌ لَا تُقَالُ وَعَثْرَةُ [ لَا ] لَعًا لَهَا وَكَمْ لَهُ مِنْ هَذَا إذَا تَكَلّمَ فِي النّسَبِ وَغَيْرِهِ وَمِنْ النّسَبِ إلَى الْبَحْرِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ عُمَيْسٍ [ ص 164 ] أَرْضِ الْحَبَشَةِ : الْبَحْرِيّةُ الْحَبَشِيّةُ فَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ أَبِي طَالِبٍ : أَلَا هَلْ أَتَى بَحْرِيّنَا . وَقَوْلُهُ وَاَللّهُ بِالنّاسِ أَرْوَدُ أَيْ أَرْفَقُ وَمِنْهُ رُوَيْدك ، أَيْ رِفْقًا جَاءَ بِلَفْظِ التّصْغِيرِ لِأَنّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ تَقْلِيلًا أَيْ اُرْفُقْ قَلِيلًا ، وَلَيْسَ لَهُ مُكَبّرٌ مِنْ لَفْظِهِ لِأَنّ الْمَصْدَرَ إرْوَادًا ، إلّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَصْغِيرِ التّرْخِيمِ وَهُوَ أَنْ تُصَغّرَ الِاسْمُ الّذِي فِيهِ الزّوَائِدُ فَتَحْذِفُهَا فِي التّصْغِيرِ فَتَقُولُ فِي أَسْوَدَ سُوَيْد ، وَفِي مِثْلِ إرْوَادٍ رُوَيْدٌ . وَقَوْلُهُ مَنْ لَيْسَ فِيهَا بِقَرْقَرِ أَيْ لَيْسَ بِذَلِيلِ لِأَنّ الْقَرْقَرَ : الْأَرْضُ الْمَوْطُوءَةُ الّتِي لَا تَمْنَعُ سَالِكَهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدُ بِهِ لَيْسَ بِذِي هَزْلٍ لِأَنّ الْقَرْقَرَةَ : الضّحِكُ . وَقَوْلُهُ وَطَائِرُهَا فِي رَأْسِهَا يَتَرَدّدُ . أَيْ حَظّهَا مِنْ الشّؤْمِ وَالشّرّ وَفِي التّنْزِيلِ { أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [ الْإِسْرَاءُ 13 ] ، وَقَوْلُهُ لَهَا حُدُجٌ سَهْمٌ وَقَوْسٌ وَمِرْهَدُ وَجَدْت فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ مِمّا كَتَبَهُ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الْكِنَانِيّ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ لَعَلّهُ حُدُجٌ بِضَمّ الْحَاءِ وَالدّالِ جَمْعُ حِدْجٍ عَلَى مَا حَكَى الْفَارِسِيّ ، وَأَنْشَدَ شَاهِدًا عَلَيْهِ عَنْ ثَعْلَبٍ :
قُمْنَا فَآنَسْنَا الْحُمُولَ وَالْحُدُجْ
وَنَظِيرُهُ سِتْرُ وَسُتُرٌ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ سِيدَهْ فِي مُحْكَمِهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى : إنّ الّذِي يَقُومُ لَهَا مَقَامَ الْحُدُجِ سَهْمٌ وَقَوْسٌ وَمِرْهَدُ . إلَى هُنَا انْتَهَى مَا فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَفِي الْعَيْنِ الْحَدَجُ حَسَكُ الْقُطْبِ [ مَا دَامَ رَطْبًا ] فَيَكُونُ الْحَدَجُ فِي الْبَيْتِ مُسْتَعَارًا مِنْ هَذَا ، أَيْ لَهَا حَسَكٌ ثُمّ فَسّرَهُ فَقَالَ سَهْمٌ وَقَوْسٌ وَمِرْهَدُ هَكَذَا فِي الْأَصْلِ بِالرّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَقْلُوبًا مِنْ مَرْهَدٍ مَفْعَل مِنْ رَهَدَ الثّوْبَ إذَا مَزّقَهُ وَيَعْنِي [ ص 165 ] يَكُونَ غَيْرَ مَقْلُوبٍ وَيَكُونُ مِنْ الرّهِيدِ وَهُوَ النّاعِمُ أَيْ يُنَعّمُ صَاحِبُهُ بِالظّفَرِ أَوْ يُنَعّمُ هُوَ بِالرّيّ مِنْ الدّمِ وَفِي بَعْضِ النّسَخِ مَزَهد بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالزّاي ، فَإِنْ صَحّتْ الرّوَايَةُ بِهِ فَمَعْنَاهُ مَزَهد فِي الْحَيَاةِ وَحِرْصٌ عَلَى الْمَمَاتِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ فِيهَا : إذَا جُعِلَتْ أَيْدِي الْمُفِيضِينَ تَرْعَدُ . يَعْنِي : أَيْدِي الْمُفِيضِينَ بِالْقِدَاحِ فِي الْمَيْسَرِ وَكَانَ لَا يُفِيضُ مَعَهُمْ فِي الْمَيْسَرِ إلّا سَخِيّ ، وَيُسَمّونَ مَنْ لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْبَرَمُ . وَقَالَتْ امْرَأَةٌ لِبَعْلِهَا - وَكَانَ بَرَمًا بَخِيلًا ، وَرَأَتْهُ يُقْرِنُ بَضْعَتَيْنِ فِي الْأَكْلِ أَبَرَمًا قُرُونًا وَيُسَمّونَهُ أَيْضًا : الْحَصُورَ يُرِيدُ أَبُو طَالِبٍ إنّهُمْ يُطْعِمُونَ إذَا بَخِلَ النّاسُ . وَالْمَيْسَرُ هِيَ الْجَزُورُ الّتِي تُقْسَمُ يُقَالُ يَسَرْت إذَا قَسَمْت ، هَكَذَا فَسّرَهُ الْقُتَبِيّ وَأَنْشَدَ
أَقُولُ لَهُمْ بِالشّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِي ... أَلَمْ يَيْأَسُوا أَنّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ
قَالَ يَيْسِرُونَنِي أَيْ يَقْتَسِمُونَ مَالِي ، وَيُرْوَى : يَأْسِرُونَنِي مِنْ الْأَسْرِ . وَقَوْلُهُ رَفْرَفُ الدّرْعُ أَحْرَدُ . رَفْرَفُ الدّرْعِ فُضُولُهَا ، وَقِيلَ فِي مَعْنَى : رَفْرَفٍ خُضْرٍ فُضُولُ الْفُرُشِ وَالْبُسُطِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَعَنْ عَلِيّ أَنّهَا : الْمَرَافِقُ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : الرّفَارِفُ رِيَاضُ الْجَنّةِ وَالْأَحْرَدُ الّذِي فِي مَشْيِهِ تَثَاقُلٌ وَهُوَ مِنْ الْحَرَدِ وَهُوَ عَيْبٌ فِي الرّجُلِ . [ ص 166 ]
هُمْ رَجَعُوا سَهْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ رَاضِيًا
سَهْلٌ هَذَا هُوَ ابْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ ضَبّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ ، يُعْرَفُ بِابْنِ الْبَيْضَاءِ وَهِيَ أُمّهُ وَاسْمُهَا : دَعْدُ بِنْتُ جَحْدَمِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ ضَرِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ وَصَفْوَانُ بَنُو الْبَيْضَاءِ . وَقَوْله :
وَإِنّي وَإِيّاهُمْ كَمَا قَالَ قَائِلٌ ... لَدَيْك الْبَيَانُ لَوْ تَكَلّمَتْ أَسْوَدُ
أَسْوَدُ اسْمُ جَبَلٍ كَانَ قَدْ قُتِلَ فِيهِ قَتِيلٌ فَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ فَقَالَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فَذَهَبَتْ مَثَلًا .
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَبْكِي الْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيّ حِينَ مَاتَ وَيَذْكُرُ قِيَامَهُ فِي نَقْضِ الصّحِيفَةِ [ ص 167 ]
أَيَا عَيْنُ فَابْكِي سَيّدَ الْقَوْمِ وَاسْفَحِي ... بِدَمْعِ وَإِنْ أَنْزَفْتِهِ فَاسْكُبِي الدّمَا
وَبَكّي عَظِيمَ الْمَشْعَرَيْنِ كِلَيْهِمَا ... عَلَى النّاسِ مَعْرُوفًا لَهُ مَا تَكَلّمَا
فَلَوْ كَانَ مَجْدٌ يُخْلَدُ الدّهْرَ وَاحِدًا ... مِنْ النّاسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمًا
أَجَرْت رَسُولَ اللّهِ مِنْهُمْ ... فَأَصْبَحُوا عَبِيدَك ، مَا لَبّى مُهِلّ وَأَحْرَمَا
فَلَوْ سُئِلَتْ عَنْهُ مَعَدّ بِأَسْرِهَا ... وَقَحْطَانُ أَوْ بَاقِي بَقِيّةِ جُرْهُمَا
لَقَالُوا : هُوَ الْمُوفَى بِخَفْرَةِ جَارِهِ ... وَذِمّتِهِ يَوْمًا إذَا مَا تَذَمّمَا
فَمَا تَطْلُعُ الشّمْسُ الْمُنِيرَةُ فَوْقَهُمْ ... عَلَى مِثْلِهِ فِيهِمْ أَعَزّ وَأَعْظَمَا
وَآبَى إذَا يَأْبَى وَأَلْيَنَ شِيمَةً ... وَأَنْوَمَ عَنْ جَارٍ إذَا اللّيْلُ أَظْلَمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " كِلَيْهِمَا " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَمّا قَوْلُهُ " أَجَرْت رَسُولَ اللّهِ مِنْهُمْ " ، فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَمّا انْصَرَفَ عَنْ أَهْلِ الطّائِفِ ، وَلَمْ يُجِيبُوهُ إلَى مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ مِنْ تَصْدِيقِهِ وَنُصْرَتِهِ صَارَ إلَى [ ص 168 ] حِرَاءٍ ، ثُمّ بَعَثَ إلَى الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ ، لِيُجِيرَهُ فَقَالَ أَنَا حَلِيفٌ وَالْحَلِيفُ لَا يُجِيرُ ، فَبَعَثَ إلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، فَقَالَ إنّ بَنِي عَامِرٍ لَا تُجِيرُ عَلَى بَنِي كَعْب ٍ . فَبَعَثَ إلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ ، فَأَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ ثُمّ تَسَلّحَ الْمُطْعِمُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَخَرَجُوا حَتّى أَتَوْا الْمَسْجِدَ ، ثُمّ بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ اُدْخُلْ فَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَطَافَ بِالْبَيْتِ ، وَصَلّى عِنْدَهُ ثُمّ انْصَرَفَ إلَى مَنْزِلِهِ فَذَلِكَ الّذِي يَعْنِي حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا : يَمْدَحُ هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو لِقِيَامِهِ فِي الصّحِيفَةِ
هَلْ يُوفِيَنّ بَنُو أُمَيّةَ ذِمّةً ... عَقْدًا كَمَا أَوْفَى جِوَارُ هِشَامِ
مِنْ مَعْشَرٍ لَا يَغْدِرُونَ بِجَارِهِمْ ... لِلْحَارِثِ بْنِ حُبَيّبِ بْنِ سُخَامِ
وَإِذَا بَنُو حِسْلٍ أَجَارُوا ذِمّةً ... أَوْفَوْا وَأَدّوْا جَارَهُمْ بِسِلَامِ
وَكَانَ هِشَامٌ أَخَا سُخَامٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ شُحَام .Sقَوْلُ حَسّانَ فِي مُطْعِمٍ وَهِشَامِ بْنِ عَمْرٍو
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ حَسّانَ فِي مُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ ، وَيَذْكُرُ جِوَارَهُ لِلنّبِيّ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَذَلِكَ حِينَ رَجَعَ مِنْ الطّائِفِ ، وَقِيَامُهُ فِي أَمْرِ الصّحِيفَةِ
فَلَوْ كَانَ مَجْدٌ يُخْلِدُ الدّهْرَ وَاحِدًا ... مِنْ النّاسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمًا
[ ص 167 ] أَقْبَحِ الضّرُورَةِ لِأَنّهُ قَدّمَ الْفَاعِلَ وَهُوَ مُضَافٌ إلَى ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فَصَارَ فِي الضّرُورَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ جَزَى رَبّهُ عَنّي عَدِيّ بْنَ حَاتِمٍ
غَيْرَ أَنّهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَشْبَهُ قَلِيلًا لِتَقَدّمِ ذِكْرِ مُطْعِمٍ ، فَكَأَنّهُ قَالَ أَبَقِيَ مَجْدُ هَذَا الْمَذْكُورِ الْمُتَقَدّمِ ذِكْرُهُ مُطْعِمًا . وَوَضَعَ الظّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ كَمَا لَوْ قُلْت : إنّ زَيْدًا ضَرَبْت جَارِيَتَهُ زَيْدًا ، أَيْ ضَرَبْت جَارِيَتَهُ إيّاهُ وَلَا بَأْسَ بِمِثْلِ هَذَا ، وَلَا سِيّمَا إذَا قَصَدْت قَصْدَ التّعْظِيمِ وَتَفْخِيمَ ذِكْرِ الْمَمْدُوحِ كَمَا قَالَ الشّاعِرُ
وَمَا لِي أَنْ أَكُونَ أَعِيبُ يَحْيَى ... وَيَحْيَى طَاهِرُ الْأَثْوَابِ بَرّ
وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عِنْدِي عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ وَبَكّي عَظِيمَ الْمَشْعَرَيْنِ وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ مِنْ قَوْلِهِ أَبْقَى مَجْدُهُ مَحْذُوفًا ، فَكَأَنّهُ قَالَ أَبْقَاهُ مَجْدُهُ أَبَدًا ، وَالْمَفْعُولُ لَا قُبْحَ فِي حَذْفِهِ إذَا دَلّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ كَمَا فِي هَذَا الْبَيْتِ . وَذَكَرَ قَوْلَ حَسّانَ فِي هِشَامِ بْنِ عَمْرٍو ، وَقَالَ فِيهِ لِلْحَارِثِ بْنِ حُبَيّبِ بْنِ سُخَامٍ وَقَدْ تَقَدّمَ نَسَبُهُ وَهُوَ حُبَيْبٌ بِالتّخْفِيفِ تَصْغِيرُ حِبّ وَجَعَلَهُ حَسّانُ تَصْغِيرَ حَبِيبٍ فَشَدّدَهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الضّرُورَةِ إذْ لَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ فِي فُلَيْسٍ فُلَيّسٍ وَلَا فِي كُلَيْبٍ كُلَيّبٍ فِي شِعْرٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَكِنْ لَمّا كَانَ الْحِبّ وَالْحَبِيبُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ جَعَلَ أَحَدُهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ وَهُوَ حَسَنٌ فِي الشّعْرِ وَسَائِغٌ فِي الْكَلَامِ وَهِشَامُ بْنُ عَمْرٍو هَذَا أَسْلَمُ ، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَكَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا فِيمَا ذَكَرُوا . [ ص 168 ] اسْمُ أُمّه ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ النّسَبِ يَقُولُونَ فِيهِ شُحَام بِشِينِ مُعْجَمَةٍ وَأَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ أَنّ أَبَا عُبَيْدَةَ النّسّابَة وَعَوَانَةَ يَقُولُونَ فِيهِ سُحَامٌ بِسِينِ وَحَاءٍ مُهْمَلَتَيْنِ وَاَلّذِي فِي الْأَصْلِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ هِشَامٍ : سُخَامٌ بِسِينِ مُهْمَلَةٍ وَخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَلَفْظُ شخام مِنْ شَخِمَ الطّعَامُ وَخَشَمَ إذَا تَغَيّرَتْ رَائِحَتُهُ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ
إسْلَامُ الطّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدّوْسِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى مَا يَرَى مِنْ قَوْمِهِ يَبْذُلُ لَهُمْ النّصِيحَةَ وَيَدْعُوهُمْ إلَى النّجَاةِ مِمّا هُمْ فِيهِ . وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ ، حِينَ مَنَعَهُ اللّهُ مِنْهُمْ يُحَذّرُونَهُ النّاسَ وَمَنْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعَرَبِ [ ص 169 ] وَكَان الطّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدّوْسِيّ يُحَدّثُ أَنّهُ قَدِمَ مَكّةَ - وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهَا - فَمَشَى إلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ - وَكَانَ الطّفَيْلُ رَجُلًا شَرِيفًا شَاعِرًا لَبِيبًا - فَقَالُوا لَهُ يَا طُفَيْلُ إنّك قَدِمْت بِلَادَنَا ، وَهَذَا الرّجُلُ الّذِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَدْ أَعْضَلَ بِنَا ، وَقَدْ فَرّقَ جَمَاعَتَنَا ، وَشَتّتْ أَمْرَنَا ، وَإِنّمَا قَوْلُهُ كَالسّحْرِ يُفَرّقُ بَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَبَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ أَخِيهِ وَبَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ وَإِنّا نَخْشَى عَلَيْك وَعَلَى قَوْمِك مَا قَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا ، فَلَا تُكَلّمَنّهُ وَلَا تَسْمَعَنّ مِنْهُ شَيْئًا . قَالَ فَوَاَللّهِ مَا زَالُوا بِي حَتّى أَجْمَعْت أَنْ لَا أَسْمَعَ مِنْهُ شَيْئًا ، وَلَا أُكَلّمَهُ حَتّى حَشَوْت فِي أُذُنِي حِينَ غَدَوْت إلَى الْمَسْجِدِ كُرْسُفًا فَرَقًا مِنْ أَنْ يَبْلُغَنِي شَيْءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَأَنَا لَا أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَهُ . قَالَ فَغَدَوْت إلَى الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَائِمٌ يُصَلّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ . قَالَ فَقُمْت مِنْهُ قَرِيبًا ، فَأَبَى اللّهُ إلّا أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ قَوْلِهِ . قَالَ فَسَمِعْت كَلَامًا حَسَنًا . قَالَ فَقُلْت فِي نَفْسِي : وَاثُكْلَ أُمّي وَاَللّهِ إنّي لَرَجُلٌ لَبِيبٌ شَاعِرٌ مَا يَخْفَى عَلَيّ الْحَسَنُ مِنْ الْقَبِيحِ فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَسْمَعَ مِنْ هَذَا الرّجُلِ مَا يَقُولُ فَإِنْ كَانَ الّذِي يَأْتِي بِهِ حَسَنًا قِبْلَتَهُ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا تَرَكْته . قَالَ فَمَكَثْت حَتّى انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى بَيْتِهِ فَاتّبَعْته ، حَتّى إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ دَخَلْت عَلَيْهِ فَقُلْت : يَا مُحَمّدُ إنّ قَوْمَك قَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا - لِلّذِي قَالُوا - فَوَاَللّهِ مَا بَرِحُوا يُخَوّفُونَنِي أَمْرَك حَتّى سَدّدْت أُذُنِي بِكُرْسُفِ لِئَلّا أَسْمَعَ قَوْلَك ، ثُمّ أَبَى اللّهُ إلّا أَنْ يُسْمِعَنِي قَوْلَك ، فَسَمِعْته قَوْلًا حَسَنًا ، فَاعْرُضْ عَلَيّ أَمْرَك . قَالَ فَعَرَضَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيّ الْقُرْآنَ فَلَا وَاَللّهِ مَا سَمِعْت قَوْلًا قَطّ أَحْسَنَ مِنْهُ وَلَا أَمْرًا أَعَدْلَ مِنْهُ قَالَ فَأَسْلَمْت ، وَشَهِدْت شَهَادَةَ الْحَقّ وَقُلْت : يَا نَبِيّ اللّهِ إنّي امْرِئِ مُطَاعٌ فِي قَوْمِي ، وَأَنَا رَاجِعٌ إلَيْهِمْ وَدَاعِيهمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَادْعُ اللّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي آيَةً تَكُونُ لِي عَوْنًا عَلَيْهِمْ فِيمَا أَدْعُوهُمْ إلَيْهِ فَقَالَ اللّهُمّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً . قَالَ فَخَرَجْت إلَى قَوْمِي ، حَتّى إذَا كُنْت بِثَنِيّةِ تَطْلُعُنِي عَلَى الْحَاضِرِ وَقَعَ نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيْ مِثْلَ الْمِصْبَاحِ فَقُلْت : اللّهُمّ فِي غَيْرِ وَجْهِي ، إنّي أَخْشَى ، أَنْ يَظُنّوا أَنّهَا مُثْلَةٌ وَقَعَتْ فِي وَجْهِي لِفِرَاقِ دِينِهِمْ . قَالَ فَتَحَوّلَ فَوَقَعَ فِي رَأْسِ سَوْطِي . قَالَ فَجَعَلَ الْحَاضِرُ يَتَرَاءَوْنَ ذَلِكَ النّورَ فِي سَوْطِي كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلّقِ وَأَنَا أَهْبِطُ إلَيْهِمْ مِنْ الثّنِيّةِ ، قَالَ حَتّى جِئْتهمْ فَأَصْبَحْت فِيهِمْ [ ص 170 ]
إسْلَامُ وَالِدِ الطّفَيْلِ وَزَوْجَتِهِ
قَالَ فَلَمّا نَزَلَتْ أَتَانِي أَبِي ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا ، قَالَ فَقُلْت : إلَيْك عَنّي يَا أَبَتْ فَلَسْت مَعَك ، وَلَسْت مِنّي ، قَالَ وَلِمَ يَا بُنَيّ ؟ قَالَ قُلْت : أَسْلَمْت ، وَتَابَعْت دِينَ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ أَيْ بُنَيّ فَدِينِي دِينُك ، قَالَ فَقُلْت : فَاذْهَبْ فَاغْتَسِلْ وَطَهّرْ ثِيَابَك ، ثُمّ تَعَالَ حَتّى أُعَلّمَك مَا عُلّمْت . قَالَ فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ وَطَهّرَ ثِيَابَهُ . قَالَ ثُمّ جَاءَ فَعَرَضْت عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ . قَالَ ثُمّ أَتَتْنِي صَاحِبَتِي ، فَقُلْت : إلَيْك عَنّي ، فَلَسْت مِنْك وَلَسْت مِنّي ، قَالَتْ لِمَ ؟ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي ، قَالَ قُلْت : قَدْ فَرّقَ بَيْنِي وَبَيْنَك الْإِسْلَامُ وَتَابَعْت دِينَ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَتْ فَدِينِي دِينُك ، قَالَ قُلْت : فَاذْهَبِي إلَى حِنَا ذِي الشّرَى - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ حِمَى ذِي الشّرَى - فَتَطَهّرِي مِنْهُ . ذُو الشّرَى صَنَمًا لِدَوْسِ ، وَكَانَ الْحِمَى حِمًى حَمَوْهُ لَهُ بِهِ وَشَلّ مِنْ مَاءٍ يَهْبِطُ مِنْ جَبَلٍ . قَالَ قَالَتْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي ، أَتَخْشَى عَلَى الصّبِيّةِ مِنْ ذِي الشّرَى شَيْئًا ، قَالَ قُلْت : لَا ، أَنَا ضَامِنٌ لِذَلِكَ فَذَهَبَتْ فَاغْتَسَلَتْ ثُمّ جَاءَتْ فَعَرَضْت عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَتْ . ثُمّ دَعَوْت دَوْسًا إلَى الْإِسْلَامِ فَأَبْطَئُوا عَلَيّ ثُمّ جِئْت رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَكّةَ ، فَقُلْت لَهُ يَا نَبِيّ اللّهِ أَنّهُ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى دَوْسٍ الزّنَا ، فَادْعُ اللّهَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ اللّهُمّ اهْدِ دَوْسًا ، ارْجِعْ إلَى قَوْمِك فَادْعُهُمْ وَارْفُقْ بِهِمْ قَالَ فَلَمْ أَزَلْ بِأَرْضِ دَوْسٍ أَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ حَتّى هَاجَرَ رَسُولُ اللّه ِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ ، وَمَضَى بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ ، ثُمّ قَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَنْ أَسْلَمَ مَعِي مِنْ قَوْمِي ، وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِخَيْبَرِ حَتّى نَزَلْت الْمَدِينَةَ بِسَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ بَيْتًا مِنْ دَوْسٍ ، ثُمّ لَحِقْنَا بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِخَيْبَرِ فَأَسْهَمَ لَنَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ [ ص 171 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَتّى إذَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ مَكّةَ ، قَالَ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ ابْعَثْنِي إلَى ذِي الْكَفّيْنِ صَنَمِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ حَتّى أُحَرّقْهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَخَرَجَ إلَيْهِ فَجَعَلَ طُفَيْلٌ يُوقِدُ عَلَيْهِ النّارَ وَيَقُولُ
يَا ذَا الْكَفّيْنِ لَسْت مِنْ عُبّادِكَا ... مِيلَادُنَا أَقْدَمُ مِنْ مِيلَادِكَا
إنّي حَشَوْت النّارَ فِي فُؤَادِكَا
قَالَ ثُمّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَكَانَ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ ، حَتّى قَبَضَ اللّهُ رَسُولَهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَلَمّا ارْتَدّتْ الْعَرَبُ ، خَرَجَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَسَارَ مَعَهُمْ حَتّى فَرَغُوا مِنْ طُلَيْحَةَ ، وَمِنْ أَرْضِ نَجْدٍ كُلّهَا . ثُمّ سَارَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْيَمَامَةِ - وَمَعَهُ ابْنُهُ عَمْرُو بْنُ الطّفَيْلِ - فَرَأَى رُؤْيَا وَهُوَ مُتَوَجّهٌ إلَى الْيَمَامَةِ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ إنّي قَدْ رَأَيْت رُؤْيَا ، فَاعْبُرُوهَا لِي ، رَأَيْت أَنّ رَأْسِي حُلِقَ وَأَنّهُ خَرَجَ مِنْ فَمِي طَائِرٌ وَأَنّهُ لَقِيَتْنِي امْرَأَةٌ فَأَدْخَلَتْنِي فِي فَرْجِهَا ، وَأَرَى ابْنِي يَطْلُبُنِي طَلَبًا حَثِيثًا ، ثُمّ رَأَيْته حُبِسَ عَنّي ، قَالُوا : خَيْرًا . قَالَ أَمّا أَنَا وَاَللّهِ فَقَدْ أَوّلْتهَا ، قَالُوا : مَاذَا ؟ قَالَ أَمّا حَلْقُ رَأْسِي فَوَضْعُهُ وَأَمّا الطّائِرُ الّذِي خَرَجَ مِنْ فَمِي فَرُوحِيّ وَأَمّا الْمَرْأَةُ الّتِي أَدَخَلَتْنِي فَرْجَهَا ، فَالْأَرْضُ تُحْفَرُ لِي ، فَأَغِيبُ فِيهَا ، أَمّا طَلَبُ ابْنِي إيّايَ ثُمّ حَبْسُهُ عَنّي ، فَإِنّي أَرَاهُ سَيَجْهَدُ أَنْ يُصِيبَهُ مَا أَصَابَنِي ، فَقُتِلَ رَحِمَهُ اللّهُ شَهِيدًا بِالْيَمَامَةِ ، وَجُرِحَ ابْنُهُ جِرَاحَةً شَدِيدَةً ثُمّ اسْتَبَلّ مِنْهَا ، ثُمّ قُتِلَ عَامَ الْيَرْمُوكِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ شَهِيدًاSحَوْلَ حَدِيثِ طُفَيْلٍ الدّوْسِيّ وَذِي الْكَفّيْنِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ حَدِيثَ طُفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدّوْسِيّ ، وَهُوَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرِو بْنِ طَرِيفِ بْنِ الْعَاصِي بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ جَهْمِ بْنِ دَوْسٍ إلَى آخِرِهِ وَلَيْسَ فِيهِ إشْكَالٌ إلّا قَوْلُهُ [ ص 169 ] ذِي الشّرَى ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ حُمّى ، وَهُوَ مَوْضِعُ حَمْوِهِ لِصَنَمِهِمْ ذِي الشّرَى ، فَإِنْ صَحّتْ رِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ ، فَالنّونُ قَدْ تُبَدّلُ مِنْ الْمِيمِ كَمَا قَالُوا : حُلّانُ وَحُلّامُ لِلْجَدْيِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَنَوْت الْعُودَ وَمِنْ مَحْنِيّةِ الْوَادِي ، وَهُوَ مَا انْحَنَى مِنْهُ . [ ص 170 ] يَا ذَا الْكَفَيْنِ لَسْت مِنْ عُبّادِكَا أَرَادَ الْكَفّيْنِ بِالتّشْدِيدِ فَخَفّفَ لِلضّرُورَةِ غَيْرَ أَنّ فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ أَنّ الصّنَمَ كَانَ يُسَمّى : ذَا الْكَفَيْنِ وَخَفّفَ الْفَاءَ بِخَطّهِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُشَدّدَةً فَدَلّ أَنّهُ عِنْدَهُ مُخَفّفٌ فِي غَيْرِ الشّعْرِ فَإِنْ صَحّ هَذَا فَهُوَ مَحْذُوفُ اللّامِ كَأَنّهُ تَثْنِيَةُ كَفْءٍ مِنْ كَفَأْت الْإِنَاءَ أَوْ إذَا كُفِئَ بِمَعْنَى كَفْءٍ ؟ ثُمّ سُهّلَتْ الْهَمْزَةُ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى الْفَاءِ كَمَا يُقَالُ الْخَبْءُ وَالْخَبُ وَفِي الْحَدِيثِ أَنّ أَهْلَ الْحَاضِرِ مِنْ دَوْسٍ كَانُوا يَتَرَاءَوْنَهُ فِي الثّنِيّةِ ، وَفِي سَوْطِهِ كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلّقِ وَذَكَرَهُ الْمُبَرّدُ فَقَالَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ جَعَلُوا يَنْظُرُونَ [ ص 171 ] وَرَوَى ، أَبُو الزّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمّا قَالَ طُفَيْلٌ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إنّ دَوْسًا غَلَبَ عَلَيْهَا الزّنَى وَالرّبَا ، فَادْعُ اللّهَ عَلَيْهِمْ قُلْنَا : هَلَكَتْ دَوْسٌ ، حَتّى قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - اللّهُمّ اهْدِ دَوْسًا
مِنْ قِصّةِ أَعْشَى بْنِ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي خَلّادُ بْنُ قُرّةَ بْنِ خَالِدٍ الدّوْسِيّ وَغَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ، بْنِ قَاسِطِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفَصَى بْنِ دُعْمِيّ بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ ] [ ص 172 ] خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يُرِيدُ الْإِسْلَامَ فَقَالَ يَمْدَحُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 173 ] [ ص 174 ]
أَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاك لَيْلَةَ أَرْمَدَا ... وَبِتّ كَمَا بَاتَ السّلِيمُ مُسَهّدَا
وَمَا ذَاكَ مِنْ عِشْقِ النّسَاءِ وَإِنّمَا ... تَنَاسَيْت قَبْلَ الْيَوْمِ خُلّةَ مُهَدّدَا
وَلَكِنْ أَرَى الدّهْرَ الّذِي هُوَ خَائِنٌ ... إذَا أَصْلَحَتْ كَفّايَ عَادَ ، فَأَفْسَدَا
كُهُولًا وَشُبّانًا فَقَدْت وَثَرْوَةً ... فَلِلّهِ هَذَا الدّهْرُ كَيْدَ تَرَدّدَا
وَمَا زِلْت أَبْغِي الْمَالَ مُذْ أَنَا يَافِعٌ ... وَلَيَدًا وَكَهْلًا حِينَ شِبْت وَأَمْرَدَا
وَأَبْتَذِلُ الْعِيسَ الْمَرَاقِيلَ تَعْتَلِي ... مَسَافَةَ مَا بَيْنَ النّجَيْرِ فَصَرْخَدَا
أَلَا أَيّهَذَا السّائِلِي أَيْنَ يَمّمَتْ ... فَإِنّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدًا
فَإِنْ تَسْأَلِي عَنّي ، فَيَا رُبّ سَائِلٍ ... حَفِيّ عَنْ الْأَعْشَى بِهِ حَيْثُ أَصْعَدَا
أَجَدّتْ بِرِجْلَيْهَا النّجَاءَ وَرَاجَعَتْ ... يَدَاهَا خِنَافًا لَيّنًا غَيْرَ أَحْرَدَا
وَفِيهَا - إذَا مَا هَجّرَتْ - عَجْرَفِيّةٌ ... إذَا خِلْت حِرْبَاءَ الظّهِيرَةِ أَصْيَدَا
وَآلَيْت لَا آوِي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ ... وَلَا مِنْ حَفًى حَتّى تَلَاقِي مُحَمّدًا
مَتَى مَا تُنَاخَى عِنْدَ بَابِ ابْنِ هَاشِمٍ ... تُرَاحِي ، وَتَلْقَيْ مِنْ فَوَاضِلِهِ نَدَى
نَبِيّا يَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَذِكْرُهُ ... أَغَارَ لَعَمْرِي فِي الْبِلَادِ وَأَنْجَدَا
لَهُ صَدَقَاتٌ مَا تُغِبّ وَنَائِلٌ ... وَلَيْسَ عَطَاءُ الْيَوْمِ مَانِعَهُ غَدَا
أَجَدّك لَمْ تَسْمَعْ وَصَاةَ مُحَمّدٍ ... نَبِيّ الْإِلَهِ حَيْثُ أَوْصَى ، وَأَشْهَدَا
إذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادِ مِنْ التّقَى ... وَلَاقَيْت بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوّدَا
نَدِمَتْ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ ... فَتُرْصِدُ لِلْأَمْرِ الّذِي كَانَ أَرْصَدَا
فَإِيّاكَ وَالْمَيْتَاتُ لَا تَقْرَبَنّهَا ... وَلَا تَأْخُذَنْ سَهْمًا حَدِيدًا ، لَتُفْصِدَا
وَذَا النّصُبَ الْمَنْصُوبَ لَا تَنْسُكَنّهُ ... وَلَا تَعْبُدْ الْأَوْثَانَ وَاَللّهَ فَاعْبُدَا
وَلَا تَقْرَبَنّ حُرّةً كَانَ سِرّهَا ... عَلَيْك حَرَامًا فَانْحَكَنْ أَوْ تَأَبّدَا
وَذَا الرّحِمِ الْقُرْبَى فَلَا تَقْطَعَنّهُ ... لِعَاقِبَةِ وَلَا الْأَسِيرَ الْمُقَيّدَا
وَسَبّحْ عَلَى حِينِ الْعَشِيّاتِ وَالضّحَى ... وَلَا تَحْمَدْ الشّيْطَانَ وَاَللّهَ فَاحْمَدَا
وَلَا تَسْخَرَا مِنْ بَائِسٍ ذِي ضَرَارَةٍ ... وَلَا تَحْسِبَنّ الْمَالَ لِلْمَرْءِ مُخْلِدَا
مُصِيرُ الْأَعْشَى
[ ص 176 ] كَانَ بِمَكّةَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا ، اعْتَرَضَهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ فَأَخْبَرَهُ أَنّهُ جَاءَ يُرِيدُ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِيُسْلِمَ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا بَصِيرٍ ، إنّهُ يُحَرّمُ الزّنَا ، فَقَالَ الْأَعْشَى : وَاَللّهِ إنّ ذَلِكَ لَأَمْرٌ مَا لِي فِيهِ مِنْ أَرَبٍ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا بَصِيرٍ ، فَإِنّهُ يُحَرّمُ الْخَمْرَ فَقَالَ الْأَعْشَى : أَمّا هَذِهِ فَوَاَللّهِ إنّ فِي النّفْسِ مِنْهَا لَعُلَالَاتٍ وَلَكِنّي مُنْصَرِفٌ فَأَتَرَوّى مِنْهَا عَامِي هَذَا ، ثُمّ آتِيهِ فَأُسْلِمُ . فَانْصَرَفَ فَمَاتَ فِي عَامِهِ ذَلِكَ وَلَمْ يَعُدْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .Sالْأَعْشَى وَدَالِيّتُهُ وَحَمْزَةُ وَالشّرَفُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ حَدِيثَ الْأَعْشَى وَقَصِيدَتَهُ إلَى آخِرِهَا ، فَلَمّا كَانَ قَرِيبًا مِنْ مَكّةَ لَقِيَهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ إلَى أَيْنَ يَا أَبَا بِصَيْرِ ؟ الْحَدِيثَ وَذَكَرَ تَحْرِيمَهُ الْخَمْرَ وَتَحْرِيمَهُ [ ص 172 ] وَقَوْلُ الْأَعْشَى : أَمّا الْخَمْر فَفِي النّاسِ مِنْهَا عُلَالَاتٌ وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ هِشَامٍ : كَانَ الْقَائِلُ لِلْأَعْشَى هَذِهِ الْمَقَالَةُ أَبُو جُهّلَ . قَالَهَا فِي دَارِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَكَانَ نَازِلًا عِنْدَهُ قَالَ الْمُؤَلّفُ وَهَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْ ابْنِ هِشَامٍ ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ فَإِنّ النّاسَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنّ الْخَمْرَ لَمْ يَنْزِلْ تَحْرِيمُهَا إلّا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ مَضَتْ بَدْرٌ وَأُحُدٌ ، وَحُرّمَتْ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ وَفِي الصّحِيحَيْنِ مِنْ ذَلِكَ قِصّةُ حَمْزَةَ حِينَ شَرِبَهَا وَغَنّتْهُ الْقَيْنَتَانِ أَلَا يَا حَمْزَ لِلشّرُفِ النّوَاءِ فَبَقَرَ خَوَاصِرَ الشّارِفَيْنِ وَاجْتَنَبَ أَسْنِمَتَهَا . وَقَوْلُهُ لِلنّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ هَلْ أَنْتُمْ إلّا عَبِيدٌ لِآبَائِي ، وَهُوَ ثَمِلٌ . الْحَدِيثُ بِطُولِهِ . فَإِنْ صَحّ خَبَرُ الْأَعْشَى ، وَمَا ذُكِرَ لَهُ فِي الْخَمْرِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا بِمَكّةَ ، وَإِنّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ ، وَيَكُونُ الْقَائِلُ لَهُ أَمَا عَلِمْت أَنّهُ يُحَرّمُ الْخَمْرَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ أَوْ مِنْ الْيَهُودِ ، فَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَفِي الْقَصِيدَةِ مَا يَدُلّ عَلَى هَذَا قَوْلِهِ فَإِنّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدًا ، وَقَدْ أَلْفَيْت لِلْقَالِي رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ لَقِيَ الْأَعْشَى عَامِرَ بْنَ الطّفَيْلِ فِي بِلَادِ قَيْسٍ ، وَهُوَ مُقْبِلٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَذَكَرَ لَهُ أَنّهُ يُحَرّمُ الْخَمْرَ فَرَجَعَ فَهَذَا أَوْلَى بِالصّوَابِ وَقَوْلُ الْأَعْشَى : أَتَرَوّى مِنْهَا هَذَا الْعَامَ ثُمّ أَعُودُ فَأَسْلَمَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْكُفْرِ بِإِجْمَاعِ قَالَ الْإِسْفَرَايِينِي فِي عَقِيدَتِهِ إذَا قَالَ الْمُؤْمِنُ سَأُكَفّرُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَد ، فَهُوَ كَافِرٌ لِحِينِهِ بِإِجْمَاعِ وَإِذَا قَالَ الْكَافِرُ سَأُومِنُ غَدًا ، أَوْ بَعْدُ فَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ الْكُفْرِ إلّا إيمَانَهُ إذَا آمَنَ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ . وَقَوْلُهُ أَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاك لَيْلَةَ أَرْمَدَا
لَمْ يَنْصِبْ لَيْلَةً عَلَى الظّرْفِ لِأَنّ ذَلِكَ يُفْسِدُ مَعْنَى الْبَيْتِ وَلَكِنْ أَرَادَ الْمَصْدَرَ فَحَذَفَهُ وَالْمَعْنَى : اغْتِمَاضُ لَيْلَةَ أَرْمَدَ فَحَذَفَ الْمُضَافَ إلَى اللّيْلَةِ وَأَقَامَهَا مَقَامَهُ فَصَارَ إعْرَابُهَا كَإِعْرَابِهِ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْبَيْتُ لَيْلُك بِالْكَافِ وَمَعْنَاهُ غَمْضُ أَرْمَدَ وَقِيلَ بَلْ أَرْمَدُ عَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ مِنْ صِفّةِ اللّيْلِ أَيْ حَالٌ مِنْهُ عَلَى الْمَجَازِ كَمَا تَقُولُ لَيْلُك سَاهِرٌ . وَقَوْلُهُ تَنَاسَيْت قَبْلَ الْيَوْمِ خُلّةَ مُهَدّدَا
[ ص 173 ] كَانَ أَوّلُهَا مِيمًا أَوْ هَمْزَةً فَحَمَلَهَا عَلَى الزّيَادَةِ إلّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهَا أَصْلِيّةٌ وَالدّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ ظُهُورُ التّضْعِيفِ فِي الدّالِ إذْ لَوْ كَانَتْ الْمِيمُ زَائِدَةً لَمَا ظَهَرَ التّضْعِيفُ وَلَقُلْت فِيهِ مَهَدّ كَمَا تَقُولُ مَرَدّ وَمَكَرّ وَمَفَرّ فِي كُلّ مَا وَزْنُهُ مَفْعَل مِنْ الْمُضَاعَفِ وَإِنّمَا الدّالُ فِي مُهَدّدٌ ضُوعِفَتْ لِيَلْحَقَ بِبِنَاءِ جَعْفَرٍ . وَقَوْلُهُ إذَا خِلْت حِرْبَاءُ الظّهِيرَةِ أَصْيَدَا
وَالْأَصْيَدُ الْمَائِلُ الْعُنُقِ وَلَمّا كَانَتْ الْحِرْبَاءُ تَدُورُ بِوَجْهِهَا مَعَ الشّمْسِ كَيْفَمَا دَارَتْ كَانَتْ فِي وَسَطِ السّمَاءِ فِي أَوّلِ الزّوَالِ كَالْأَصِيدِ وَذَلِكَ أَحَرّ مَا تَكُونُ الرّمْضَاءُ . يَصِفُ نَاقَتَهُ بِالنّشَاطِ وَقُوّةِ الْمَشْيِ فِي ذَلِكَ الْوَقْت . وَقَوْلُهُ خِنَافًا لَيّنًا . فِي الْعَيْن : خَنِفَتْ النّاقَةُ تَخْنِفُ بِيَدَيْهَا فِي السّيْرِ إذَا مَالَتْ بِهِمَا نَشَاطًا ، وَنَاقَةٌ خَنُوفٌ قَالَ الرّاجِزُ
إنّ الشّوَاءَ وَالنّسِيلَ وَالرّغُفْ ... وَالْقَيْنَةَ الْحَسْنَاءَ وَالْكَأْسَ الْأُنُفْ
لِلظّاعِنِينَ الْخَيْلَ وَالْخَيْلُ خُلُفٌ
وَقَوْله : لَيّنًا غَيْرَ أَحْرَدَا ، أَيْ تَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَرَدٍ فِي يَدَيْهَا ، أَيْ اعْوِجَاجٌ وَالنّجَيْرُ وَصَرْخَدُ بَلَدَانِ وَأَهْلُ النّجَيْرِ أَوّلُ مَنْ ارْتَدّ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ أَهْلِ دَبّا وَكَانَ أَهْل دُبّا قَدْ [ ص 174 ] أُسَيْدٍ وَحَاصَرَ أَهْلَ النّجَيْرِ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ بِأَمْرِ أَبِي بَكْرٍ ، حَتّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ . وَأَمّا صَرْخَدُ فَبَلَدٌ طَيّبُ الْأَعْنَابِ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْخَمْرُ الصّرْخَدِيّةُ . وَفِي الْأَمَالِي : وَلَذّ كَطَعْمِ الصّرْخَدِيّ تَرَكْته . وَقَوْلُهُ وَآلَيْت لَا آوِي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ
وَلَا مِنْ وَجَى ، أَيْ لَا أَرْقِ لَهَا ، يُقَالُ آوَيْت لِلضّعِيفِ إيّة وَمَأْوِيَة إذَا رَقّتْ لَهُ كَبِدُك . وَقَوْلُهُ أَغَارَ لَعَمْرِي فِي الْبِلَادِ وَأَنْجَدَا
الْمَعْرُوفُ فِي اللّغَةِ غَارَ وَأَنْجَدَ وَقَدْ أَنْشَدُوا هَذَا الْبَيْتَ لَعَمْرِي غَارَ فِي الْبِلَادِ وَأَنْجَدَا
. وَالْغَوْرُ : مَا انْخَفَضَ مِنْ الْأَرْضِ وَالنّجْدُ مَا ارْتَفَعَ مِنْهَا ، وَإِنّمَا تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِي الْغَوْرِ ، وَلَمْ يَأْتِ عَلَى أَفْعَلَ إلّا قَلِيلًا ، وَكَانَ قِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَنْجَدَ وَأَتْهَمَ لِأَنّهُ مِنْ أُمّ الْغَوْرِ ، فَقَدْ هَبَطَ وَنَزَلَ فَصَارَ مِنْ بَابِ غَارَ الْمَاءُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَدْت : أَشْرَفَ عَلَى الْغَوْرِ ، قُلْت : أَغَارَ وَلَا يَكُونُ خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ . وَقَوْلُهُ وَلَيْسَ عَطَاءُ الْيَوْمِ مَانِعَهُ غَدًا
مَعْنَاهُ عَلَى رَفْعِ الْعَطَاءِ وَنَصْبِ مَانِعٍ أَيْ لَيْسَ الْعَطَاءُ الّذِي يُعْطِيهِ الْيَوْمَ مَانِعًا لَهُ غَدًا مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ فَالْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى الْمَمْدُوحِ فَلَوْ كَانَتْ عَائِدَةً عَلَى الْعَطَاءِ لَقَالَ وَلَيْسَ عَطَاءُ الْيَوْمِ مَانِعَهُ هُوَ بِإِبْرَازِ الضّمِيرِ الْفَاعِلِ لِأَنّ الصّفَةَ إذَا جَرَتْ عَلَى غَيْرِ مَنْ هِيَ لَهُ بَرَزَ الضّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ بِخِلَافِ الْفِعْلِ وَذَلِكَ لِسِرّ بَيّنّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ لَمْ يَذْكُرْهُ النّاسُ وَلَوْ نُصِبَ الْعَطَاءُ لَجَازَ عَلَى إضْمَارِ الْفِعْلِ الْمَتْرُوكِ إظْهَارُهُ لِأَنّهُ مِنْ بَابِ اشْتِغَالِ الْفِعْلِ عَنْ الْمَفْعُولِ بِضَمِيرِهِ وَيَكُونُ اسْمُ لَيْسَ عَلَى هَذَا مُضْمَرًا فِيهَا عَائِدًا عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 175 ] فَانْكَحَنْ أَوْ تَأَبّدَا . يُرِيدُ أَوْ تَرَهّبَ لِأَنّ الرّاهِبَ أَبَدًا عَزَبٌ فَقِيلَ لَهُ مُتَأَبّدًا اُشْتُقّ مِنْ لَفْظِ الْأَبَدِ . وَقَوْلُهُ فَاَللّهَ فَاعْبُدَا ، وَقَفَ عَلَى النّونِ الْخَفِيفَةِ بِالْأَلِفِ وَكَذَلِكَ فَانْكَحَنْ أَوْ تَأَبّدَا ، وَلِذَلِكَ كَتَبْت فِي الْخَطّ بِأَلْفِ لِأَنّ الْوُقْفَ عَلَيْهَا بِالْأَلِفِ وَقَدْ قِيلَ فِي مِثْلِ هَذَا : إنّهُ لَمْ يَرُدّ النّونَ الْخَفِيفَةَ وَإِنّمَا خَاطَبَ الْوَاحِد بِخِطَابِ الِاثْنَيْنِ وَزَعَمُوا أَنّهُ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ
فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفّانَ أَزْدَجِرُ ... وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضًا مُمَنّعًا
وَأَنْشَدُوا أَيْضًا فِي هَذَا الْمَعْنَى :
وَقُلْت لِصَاحِبِي : لَا تَحْبِسَانَا ... بِنَزْعِ أُصُولِهَا وَاجْتَثّ شِيحَا
وَلَا يُمْكِنُ إرَادَةُ النّونِ الْخَفِيفَةِ فِي هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ لِأَنّهَا لَا تَكُونُ أَلِفًا ، إلّا فِي الْوَقْفِ وَهَذَا الْفِعْلُ قَدْ اتّصَلَ بِهِ الضّمِيرُ فَلَا يَصِحّ اعْتِقَادُ الْوُقْفِ عَلَيْهِ دُونَ الضّمِيرِ وَحُكِيَ أَنّ الْحَجّاجِ قَالَ يَا حَرَسِي اضْرِبَا عُنُقَهُ وَقَدْ يُمْكِنُ فِيهِ حَمْلُ الْوَصْلِ عَلَى الْوَقْفِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدُ اضْرِبْ أَنْتَ وَصَاحِبُك : وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { أَلْقِيَا فِي جَهَنّمَ } إنّ الْخِطَابَ لِمَالِكِ وَحْدَهُ حَمْلًا عَلَى هَذَا الْبَابِ وَقِيلَ بَلْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } وَفِي الْقَصِيدَةِ زِيَادَةٌ لَمْ تَقَعْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ وَهِيَ قَوْلُهُ فِي وَصْفِ النّاقَةِ
فَأَمّا إذَا مَا أَدْلَجَتْ فَتَرَى لَهَا ... رَقِيبَيْنِ نَجْمًا لَا يَغِيبُ وَفَرْقَدَا
[ ص 176 ] وَقَعَ هَذَا الْبَيْتُ بَعْدَ قَوْلِهِ لَيّنًا غَيْرَ أَحْرَدَا . وَقَوْلُهُ فِي صِفّةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَغَارَ لَعَمْرِي فِي الْبِلَادِ وَأَنْجَدَا
وَبَعْدَهُ
بِهِ أَنْقَذَ اللّهُ الْأَنَامَ مِنْ الْعَمَى ... وَمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَرِيعُ إلَى هُدَى
ذِلّةُ أَبِي جَهْلٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ عَدُوّ اللّهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ مَعَ عَدَاوَتِهِ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَبُغْضُهُ إيّاهُ وَشِدّتُهُ عَلَيْهِ يُذِلّهُ اللّهُ لَهُ إذَا رَآهُ .
أَبُو جَهْلٍ وَالْإِرَاشِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الثّقَفِيّ وَكَانَ وَاعِيَةً قَالَ قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ إرَاشَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ إرَاشَةُ - بِإِبِلِ لَهُ مَكّةَ ، فَابْتَاعَهَا مِنْهُ أَبُو جَهْلٍ فَمَطَلَهُ بِأَثْمَانِهَا . فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيّ حَتّى وَقَفَ عَلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ جَالِسٌ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَنْ رَجُلٌ يُؤَدّينِي عَلَى أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ فَإِنّي رَجُلٌ غَرِيبٌ ابْنُ سَبِيلٍ وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقّي ؟ : فَقَالَ لَهُ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَتَرَى ذَلِكَ الرّجُلَ الْجَالِسَ - لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُمْ يَهْزَءُونَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ مِنْ الْعَدَاوَةِ - اذْهَبْ إلَيْهِ فَإِنّهُ يُؤَدّيك عَلَيْهِ [ ص 177 ] فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيّ حَتّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ يَا عَبْدَ اللّهِ إنّ أَبَا الْحَكَمِ بْنَ هِشَامٍ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقّ لِي قِبَلَهُ وَأَنَا غَرِيبٌ ابْنُ سَبِيلٍ وَقَدْ سَأَلْت هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَنْ رَجُلٍ يُؤَدّينِي عَلَيْهِ يَأْخُذُ لِي حَقّي مِنْهُ فَأَشَارُوا لِي إلَيْك ، فَخُذْ لِي حَقّي مِنْهُ يَرْحَمْك اللّهُ ، قَالَ انْطَلِقْ إلَيْهِ وَقَامَ مَعَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَلَمّا رَأَوْهُ قَامَ مَعَهُ قَالُوا لِرَجُلِ مِمّنْ مَعَهُمْ اتّبِعْهُ فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُ . قَالَ وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَتّى جَاءَهُ فَضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ مُحَمّدٌ فَاخْرُجْ إلَيّ فَخَرَجَ إلَيْهِ وَمَا فِي وَجْهِهِ مِنْ رَائِحَةٍ قَدْ انْتَقَعَ لَوْنُهُ فَقَالَ أَعْطِ هَذَا الرّجُلَ حَقّهُ قَالَ نَعَمْ لَا تَبْرَحْ حَتّى أُعْطِيَهُ الّذِي لَهُ قَالَ فَدَخَلَ فَخَرَجَ إلَيْهِ بِحَقّهِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ . قَالَ ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقَالَ لِلْإِرَاشِيّ الْحَقْ بِشَأْنِك ، فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيّ حَتّى وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَقَالَ جَزَاهُ اللّهُ خَيْرًا ، فَقَدْ وَاَللّهِ أَخَذَ لِي حَقّي . قَالَ وَجَاءَ الرّجُلُ الّذِي بَعَثُوا مَعَهُ فَقَالُوا : وَيْحَك مَاذَا رَأَيْت ؟ قَالَ عَجَبًا مِنْ الْعَجَبِ وَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَخَرَجَ إلَيْهِ وَمَا مَعَهُ رُوحُهُ فَقَالَ لَهُ أَعْطِ هَذَا حَقّهُ فَقَالَ نَعَمْ لَا تَبْرَحْ حَتّى أُخْرِجَ إلَيْهِ حَقّهُ فَدَخَلَ فَخَرَجَ إلَيْهِ بِحَقّهِ فَأَعْطَاهُ إيّاهُ . قَالَ ثُمّ لَمْ يَلْبَثْ أَبُو جَهْلٍ أَنْ جَاءَ فَقَالُوا لَهُ وَيْلَك مَا لَك ؟ وَاَللّهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَنَعْت قَطّ قَالَ وَيْحَكُمْ وَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيّ بَابِي ، وَسَمِعْت صَوْتَهُ فَمُلِئْت رُعْبًا ، ثُمّ خَرَجْت إلَيْهِ وَإِنّ فَوْقَ رَأْسِهِ لَفَحْلًا مِنْ الْإِبِلِ مَا رَأَيْت مِثْلَ هَامَتِهِ وَلَا قَصَرَتِهِ وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلِ قَطّ ، وَاَللّهِ لَوْ أَبَيْت لَأَكَلَنِيSحَدِيثُ الْإِرَاشِيّ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ الْإِرَاشِيّ الّذِي قَدِمَ مَكّةَ ، وَاسْتَعْدَى عَلَى أَبِي جَهْلٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : هُوَ مِنْ إرَاشَ وَهُوَ ابْنُ الْغَوْثِ أَوْ ابْنُ عَمْرِو ، بْنِ الْغَوْثِ بْنِ نَبْت بْنِ [ ص 177 ] مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَهُوَ وَالِدُ أَنْمَارٍ الّذِي وَلَدَ بَحِيلَةَ وَخَثْعَمَ . وَإِرَاشَةَ الّذِي ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ : بَطْنٌ مِنْ خَثْعَمَ ، وَإِرَاشَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْعَمَالِيقِ فِي نَسَبِ فِرْعَوْنَ صَاحِبِ مِصْرَ ، وَفِي بَلِيّ أَيْضًا بَنُو إرَاشَةَ وَقَوْلُهُ مِنْ [ رَجُلٍ ] يُؤَدّينِي عَلَى أَبِي الْحَكَمِ أَيْ يُعِينُنِي عَلَى أَخْذِ حَقّي مَعَهُ وَهُوَ مِنْ الْأَدَاةِ الّتِي تُوَصّلُ الْإِنْسَانَ إلَى مَا يُرِيدُ كَأَدَاةِ الْحَرْبِ وَأَدَاةِ الصّانِعِ فَالْحَاكِمُ يُؤَدّي الْخَصْمَ أَيْ يُوَصّلُهُ إلَى مَطْلَبِهِ وَقَدْ قِيلَ إنّ الْهَمْزَةَ بَدَلٌ مِنْ عَيْنٍ وَيُؤَدّي وَبَعْدِي بِمَعْنَى وَاحِدٍ أَيْ يُزِيلُ الْعُدْوَانَ وَالْعَدَاءَ وَهُوَ الظّلْمُ كَمَا تَقُولُ هُوَ يُشْكِيك أَيْ يُزِيلُ شَكْوَاك ، وَفِي حَدِيثِ خَبّابٍ شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَرّ الرّمْضَاءِ فَلَمْ يُشْكِنَا مَعْنَاهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ يَرْفَعْ شَكَوَانَا وَلَمْ يُزِلْهَا . وَقَوْلُهُ فَخَرَجَ إلَيْهِ وَمَا فِي وَجْهِهِ رَائِحَةٌ أَيْ بَقِيّةُ رُوحٍ فَكَانَ مَعْنَاهُ رُوحٌ بَاقِيَةٌ فَلِذَلِكَ جَاءَ بِهِ عَلَى وَزْنِ فَاعِلِهِ وَالدّلِيلُ عَلَى أَنّهُ أَرَادَ مَعْنَى الرّوحِ وَإِنْ جَاءَ بِهِ عَلَى بِنَاءِ فَاعِلَة قَوْلُ الْإِرَاشِيّ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ خَرَجَ إلَيّ وَمَا عِنْدَهُ رُوحُهُ .
رُكَانَةُ وَمُصَارَعَتُهُ
[ ص 178 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ ، قَالَ كَانَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أَشَدّ قُرَيْشٍ ، فَخَلَا يَوْمًا بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي بَعْضِ شِعَابِ مَكّةَ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا رُكَانَةُ أَلَا تَتّقِي اللّهَ ، وَتَقْبَلُ مَا أَدْعُوك إلَيْهِ ؟ قَالَ إنّي لَوْ أَعْلَمُ أَنّ الّذِي تَقُولُ حَقّ لَاتّبَعْتُك ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَفَرَأَيْت إنْ صَرَعْتُك ، أَتَعْلَمُ أَنّ مَا أَقُولُ حَقّ ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَقُمْ حَتّى أُصَارِعَك . قَالَ فَقَامَ إلَيْهِ رُكَانَةُ يُصَارِعُهُ فَلَمّا بَطَشَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَضْجَعَهُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا ، ثُمّ قَالَ عُدْ يَا مُحَمّدُ فَعَادَ فَصَرَعَهُ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ وَاَللّهِ إنّ هَذَا لَلْعَجَبُ أَتَصْرَعُنِي فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ إنْ شِئْت أَنْ أُرِيكَهُ إنْ اتّقَيْت اللّهَ وَاتّبَعْت أَمْرِي ، قَالَ مَا هُوَ ؟ قَالَ أَدْعُو لَك هَذِهِ الشّجَرَةَ الّتِي تَرَى فَتَأْتِينِي ، قَالَ اُدْعُهَا ، فَدَعَاهَا ، فَأَقْبَلَتْ حَتّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ فَقَالَ لَهَا : ارْجِعِي إلَى مَكَانِك . قَالَ فَرَجَعَتْ إلَى مَكَانِهَا قَالَ فَذَهَبَ رُكَانَةُ إلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ سَاحِرُوا بِصَاحِبِكُمْ أَهْلَ الْأَرْضِ فَوَاَللّهِ مَا رَأَيْت أَسْحَرَ مِنْهُ قَطّ ، ثُمّ أَخْبَرَهُمْ بِاَلّذِي رَأَى ، وَاَلّذِي صَنَعَ [ ص 179 ]Sمُصَارَعَةُ رُكَانَةَ
[ ص 178 ] عَبْدِ الْمُطّلِبِ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ وَتُوُفّيَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ الّذِي طَلّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتّةَ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ نِيّتِهِ فَقَالَ إنّمَا أَرَدْت وَاحِدَةً فَرَدّهَا عَلَيْهِ وَمِنْ حَدِيثِهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إنّ لِكُلّ دِينٍ خُلُقًا ، وَخُلُقُ هَذَا الدّينِ الْحِيَاءُ وَلِابْنِهِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ صُحْبَةٌ أَيْضًا ، وَيُرْوَى عَنْ يَزِدْ بْنِ رُكَانَةَ ابْنِهِ عَلِيّ ، وَكَانَ عَلِيّ قَدْ أَعْطَى مِنْ الْأَيْدِ وَالْقُوّةِ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ ، نَزَعَ فِي ذَلِكَ إلَى جَدّ رُكَانَةَ وَلَهُ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ ذَكَرَهَا الْفَاكِهِيّ ، مِنْهَا : خَبَرُهُ مَعَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنْ أَشَدّ الْعَرَبِ ، فَصَارَعَهُ يَوْمًا ، فَصَرَعَهُ عَلِيّ صَرْعَةً لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا ، ثُمّ حَمَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى فَرَسٍ جَمُوحٍ لَا يَطْلِقُ فَعَلِمَ عَلِيّ مَا يُرَادُ بِهِ فَلَمّا جَمَحَ بِهِ الْفَرَسُ ضَمّ عَلَيْهِ فَخِذَيْهِ ضَمّةً نَفَقَ مِنْهَا الْفَرَسُ ، وَذُكِرَ عَنْهُ أَيْضًا أَنّهُ تَأَبّطَ رِجْلَيْنِ أَيّدَيْنِ ثُمّ جَرَى بِهِمَا ، وَهُمَا تَحْتَ إبْطَيْهِ حَتّى صَاحَا : الْمَوْتَ الْمَوْتَ فَأَطْلَقَهُمَا .
قُدُومُ وَفْدِ النّصَارَى مِنْ الْحَبَشَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ بِمَكّةَ - عِشْرُونَ رَجُلًا ، أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ النّصَارَى ، حِينَ بَلَغَهُمْ خَبَرُهُ مِنْ الْحَبَشَةِ ، فَوَجَدُوهُ فِي الْمَسْجِدِ فَجَلَسُوا إلَيْهِ وَكَلّمُوهُ وَسَأَلُوهُ وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ، فَلَمّا فَرَغُوا مِنْ مَسْأَلَةِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَمّا أَرَادُوا ، دَعَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى اللّهِ - عَزّ وَجَلّ - وَتَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ فَلَمّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنْ الدّمْعِ ثُمّ اسْتَجَابُوا لِلّهِ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدّقُوهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِهِ . فَلَمّا قَامُوا عَنْهُ اعْتَرَضَهُمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقَالُوا لَهُمْ خَيّبَكُمْ اللّهُ مِنْ رَكْبٍ بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ لِتَأْتُوهُمْ بِخَبَرِ الرّجُلِ فَلَمْ تَطْمَئِنّ مَجَالِسُكُمْ عِنْدَهُ حَتّى فَارَقْتُمْ دِينَكُمْ وَصَدّقْتُمُوهُ بِمَالِ مَا نَعْلَمُ رَكْبًا أَحْمَقَ مِنْكُمْ أَوْ كَمَا قَالُوا ، فَقَالُوا لَهُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نُجَاهِلُكُمْ لَنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ وَلَكُمْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَمْ نَأْلُ أَنْفُسَنَا خَيْرًا . وَيُقَالُ إنّ النّفَرَ مِنْ النّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ ، فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيْ ذَلِكَ كَانَ . فَيُقَالُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - فِيهِمْ نَزَلَتْ هَؤُلَاءِ الْآيَات : { الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنّا بِهِ إِنّهُ الْحَقّ مِنْ رَبّنَا إِنّا كُنّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } إلَى قَوْلِهِ { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ الْقَصَصُ 52 - 55 ] . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ سَأَلْت ابْنَ شِهَابٍ الزّهْرِيّ عَنْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِيمَنْ أُنْزِلْنَ فَقَالَ لِي : مَا سُمِعَ عَنْ عَلْمَائِنَا أَنّهُنّ أُنْزِلْنَ فِي النّجَاشِيّ وَأَصْحَابِهِ وَالْآيَةُ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ [ ص 180 ] { ذَلِكَ بِأَنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } إلَى قَوْله : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ } [ الْمَائِدَةُ 82 ، 83 ] . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إذَا جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ فَجَلَسَ إلَيْهِ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ خَبّابٌ وَعَمّارٌ وَأَبُو فُكَيْهَةُ يَسَارٌ مَوْلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ مُحَرّثٍ ، وصهيب ، وَأَشْبَاهُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ هَزِئَتْ بِهِمْ قُرَيْشٌ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ هَؤُلَاءِ أَصْحَابُهُ كَمَا تَرَوْنَ أَهَؤُلَاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا بِالْهُدَى وَالْحَقّ لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ خَيْرًا مَا سَبَقَنَا هَؤُلَاءِ إلَيْهِ وَمَا خَصّهُمْ اللّهُ بِهِ دُونَنَا . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ { وَلَا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ وَإِذَا جَاءَكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرّحْمَةَ أَنّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الْأَنْعَامُ 52 - 54 ] .Sوَفْدُ نَصَارَى الْحَبَشَةِ
[ ص 179 ] وَذَكَرَ قُدُومَ وَفْدِ النّصَارَى مِنْ الْحَبَشَةِ وَإِيمَانَهُمْ وَمَا أَنَزَلَ اللّهُ فِيهِمْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { الّذِينَ قَالُوا إِنّا نَصَارَى } وَلَمْ يَقُلْ مِنْ النّصَارَى ، وَلَا سَمّاهُمْ هُوَ سُبْحَانَهُ بِهَذَا الِاسْمِ وَإِنّمَا حَكَى قَوْلَهُمْ الّذِي قَالُوهُ حِينَ عَرَفُوا بِأَنْفُسِهِمْ ثُمّ شَهِدَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَذَكَرَ أَنّهُ أَثَابَهُمْ الْجَنّةَ وَإِذَا كَانُوا هَكَذَا فَلَيْسُوا بِنَصَارَى ، هُمْ مِنْ أُمّةِ مُحَمّدٍ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَإِنّمَا عُرِفَ النّصَارَى بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنّ مَبْدَأَ دِينِهِمْ كَانَ مِنْ نَاصِرَةَ قَرْيَةٍ بِالشّامِ فَاشْتُقّ اسْمُهُمْ مِنْهُمْ كَمَا اُشْتُقّ اسْمُ الْيَهُودِ مِنْ يَهُودَ بْنِ يَعْقُوبَ ثُمّ لَا يُقَالُ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ يَهُودِيّ اسْمُ الْإِسْلَامِ أَوْلَى بِهِمْ جَمِيعًا مِنْ ذَلِكَ النّسَبِ .
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - كَثِيرًا مَا يَجْلِسُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إلَى مَبِيعَةِ غُلَامٍ نَصْرَانِيّ يُقَالُ لَهُ جَبْرٌ عَبْدٌ لِبَنِي الْحَضْرَمِيّ فَكَانُوا يَقُولُونَ وَاَللّهِ مَا يَعْلَمُ مُحَمّدًا كَثِيرًا مِمّا يَأْتِي بِهِ إلّا جَبْرٌ النّصْرَانِيّ ، غُلَامُ بَنِي الْحَضْرَمِيّ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنّهُمْ يَقُولُونَ إِنّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيّ مُبِينٌ } [ النّحْلُ 103 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يُلْحِدُونَ إلَيْهِ يَمِيلُونَ وَالْإِلْحَادُ الْمَيْلُ عَنْ الْحَقّ [ ص 181 ] قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ :
إذَا تَبِعَ الضّحّاكَ كُلّ مُلْحِدٍ
[ وَنَحْنُ ضَرّابُونَ هَامَ الْعُنّدِ ]
ابْنُ هِشَامٍ : يَعْنِي الضّحّاكَ الْخَارِجِيّ ، وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ .Sعَنْ غُلَامِ الْمَبِيعَةِ وَصُهَيْبٍ وَأَبِي فُكَيْهَةَ
[ ص 180 ] ذَكَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ يَجْلِسُ إلَى مَبِيعَةِ غُلَامِ . الْمَبِيعَةِ مَفْعَلَة مِثْلَ الْمَعِيشَةِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُلَة بِضَمّ الْعَيْنِ - وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَأَمّا قَوْلُهُمْ سِلْعَةٌ مَبِيعَةٌ فَمَفْعُولَةٌ حُذِفَتْ الْوَاوُ مِنْهَا فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ حِينَ سَكّنُوا الْيَاءَ اسْتِثْقَالًا لِلضّمّةِ وَفِي قَوْلِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ إنّ الْيَاءَ بَدَلٌ مِنْ الْوَاوِ الزّائِدَةِ فِي مَبْيُوعَة ، وَوَزْنُهَا عِنْدَهُ مَقُولَةٌ بِحَذْفِ الْعَيْنِ وَلِلْكَلَامِ عَلَى هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا . وَذَكَرَ صُهَيْبًا وَأَبَا فُكَيْهَةَ وَسَنَذْكُرُ اسْمَ أَبِي فُكَيْهَةَ وَالتّعْرِيفُ بِهِ فِيمَا بَعْدُ لِأَنّهُ بَدْرِيّ ، وَكَذَلِكَ صُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ ، وَنَقْتَصِرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى ذِكْرِ اسْمِهِ وَهُوَ يَسَارٌ مَوْلَى عَبْدِ الدّارِ .
سَبَبُ نُزُولِ سُورَةِ الْكَوْثَرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ - فِيمَا بَلَغَنِي - إذَا ذَكَرَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ دَعُوهُ فَإِنّمَا هُوَ رَجُلٌ أَبْتَرُ لَا عَقِبَ لَهُ لَوْ مَاتَ لَانْقَطَعَ ذِكْرُهُ وَاسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ فَأَنْزَلَ اللّهُ فِي ذَلِكَ { إِنّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } مَا هُوَ خَيْرٌ لَك مِنْ الدّنْيَا وَمَا فِيهَا وَالْكَوْثَرُ : الْعَظِيمُ [ ص 182 ] [ ص 183 ]Sالْأَبْتَرُ وَالْكَوْثَرُ
[ ص 181 ] وَذَكَرَ قَوْلَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ إنّ مُحَمّدًا أَبْتَرُ إذَا مَاتَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ قَوْلَهُ مِنْ سُورَةِ الْكَوْثَرِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسّرِينَ . وَقِيلَ إنّ أَبَا جَهْلٍ هُوَ الّذِي قَالَ ذَلِكَ . وَقَدْ قِيلَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ أَنْ تَكُونَ سُورَةُ الْكَوْثَرِ مَدَنِيّةً وَقَدْ رَوَى يُونُسُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ الْجُعْفِيّ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ ، قَالَ كَانَ الْقَاسِمُ ابْنُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ بَلَغَ أَنْ يَرْكَبَ الدّابّةَ وَيَسِيرَ عَلَى النّجِيبَةِ فَلَمّا قَبَضَهُ اللّهُ قَالَ الْعَاصِي : أَصْبَحَ مُحَمّدٌ أَبْتَرُ مِنْ ابْنِهِ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَى نَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { إِنّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } عِوَضًا يَا مُحَمّدُ مِنْ مُصِيبَتِك بِالْقَاسِمِ { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ إِنّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } وَلَمْ يَقُلْ إنّ شَانِئَك أَبْتَرُ يَتَضَمّنُ اخْتِصَاصَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ لِأَنّ هُوَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تُعْطِي الِاخْتِصَاصَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ إنّ زَيْدًا فَاسِقٌ فَلَا يَكُونُ مَخْصُوصًا بِهَذَا الْوَصْفِ دُونَ غَيْرِهِ فَإِذَا قُلْت : إنّ زَيْدًا هُوَ الْفَاسِقُ فَمَعْنَاهُ هُوَ الْفَاسِقُ الّذِي زَعَمَتْ فَدَلّ عَلَى أَنّ بِالْحَضْرَةِ مَنْ يَزْعُمُ غَيْرَ ذَلِكَ وَهَكَذَا قَالَ الْجُرْجَانِيّ وَغَيْرُهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنّ هُوَ تُعْطِي الِاخْتِصَاصَ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَأَنّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } لَمّا كَانَ الْعِبَادُ يُتَوَهّمُونَ أَنّ غَيْرَ اللّهِ قَدْ يُغْنِي ، قَالَ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ، أَيْ لَا غَيْرُهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } إذْ كَانُوا قَدْ يَتَوَهّمُونَ فِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ مَا تَوَهّمَ النّمْرُودُ حِينَ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ أَيْ أَنَا أَقْتُلُ مَنْ شِئْت ، وَأَسْتَحْيِي مَنْ شِئْت ، فَقَالَ عَزّ وَجَلّ { وَأَنّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } أَيْ لَا غَيْرُهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى [ ص 182 ] { وَأَنّهُ هُوَ رَبّ الشّعْرَى } أَيْ هُوَ الرّبّ لَا غَيْرُهُ إذْ كَانُوا قَدْ اتّخَذُوا أَرْبَابًا مِنْ دُونِهِ مِنْهَا : الشّعْرَى ، فَلَمّا قَالَ وَإِنّهُ خَلَقَ الزّوْجَيْنِ وَأَنّهُ أَهْلَكَ عَادًا اسْتَغْنَى الْكَلَامُ عَنْ هُوَ الّتِي تُعْطِي مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ لِأَنّهُ فِعْلٌ لَمْ يَدَعْهُ أَحَدٌ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { إِنّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } أَيْ لَا أَنْتَ . وَالْأَبْتَرُ الّذِي لَا عَقِبَ لَهُ يَتْبَعُهُ فَعَدَمُهُ كَالْبَتْرِ الّذِي هُوَ عَدَمُ الذّنْبِ فَإِذَا مَا قُلْت هَذَا ، وَنَظَرْت إلَى الْعَاصِي ، وَكَانَ ذَا وَلَدٍ وَعَقِبٍ وَوَلَدُهُ عَمْرٌو وَهِشَامٌ ابْنَا الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ فَكَيْفَ يَثْبُتُ لَهُ الْبَتْرُ وَانْقِطَاعُ الْوَلَدِ وَهُوَ ذُو وَلَدٍ وَنَسْلٍ وَنَفْيُهُ عَنْ نَبِيّهِ وَهُوَ يَقُولُ { مَا كَانَ مُحَمّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } [ الْأَحْزَابُ : 40 ] الْآيَة . فَالْجَوَابُ أَنّ الْعَاصِيَ - وَإِنْ كَانَ ذَا وَلَدٍ - فَقَدْ انْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَلَيْسُوا بِأَتْبَاعِ لَهُ لِأَنّ الْإِسْلَامَ قَدْ حَجَزَهُمْ عَنْهُ فَلَا يَرِثُهُمْ وَلَا يَرِثُونَهُ وَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ مُحَمّدٍ عَلَيْهِ السّلَامُ ، وَأَزْوَاجُهُ أُمّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ . كَمَا قَرَأَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ : " وَأَزْوَاجُهُ أُمّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ وَالنّبِيّ أَوْلَى بِهِمْ " كَمَا قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ فَهُمْ وَجَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ أَتْبَاعُ النّبِيّ فِي الدّنْيَا ، وَأَتْبَاعُهُ فِي الْآخِرَةِ إلَى حَوْضِهِ وَهَذَا مَعْنَى الْكَوْثَرِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الدّنْيَا لِكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ فِيهَا ، لِيُغَذّيَ أَرْوَاحَهُمْ بِمَا فِيهِ حَيَاتُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ فِي الْآخِرَةِ لِيَسْقِيَهُمْ مِنْ حَوْضِهِ مَا فِيهِ الْحَيَاةُ الْبَاقِيَةُ وَعَدُوّ اللّهِ الْعَاصِي عَلَى هَذَا هُوَ الْأَبْتَرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ إذْ قَدْ انْقَطَعَ ذَنَبُهُ وَأَتْبَاعُهُ وَصَارُوا تَبَعًا لِمُحَمّدِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلِذَلِكَ قُوبِلَ تَعْيِيرُهُ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِالْبَتْرِ بِمَا هُوَ ضِدّهُ مِنْ الْكَوْثَرِ ؛ فَإِنّ الْكَثْرَةَ تُضَادّ مَعْنَى الْقِلّةِ وَلَوْ قَالَ فِي جَوَابِ اللّعِينِ إنّا أَعْطَيْنَاك الْحَوْضَ الّذِي مِنْ صِفَتِهِ كَذَا وَكَذَا لَمْ يَكُنْ رَدّا عَلَيْهِ وَلَا مُشَاكِلًا لِجَوَابِهِ وَلَكِنْ جَاءَ بِاسْمِ يَتَضَمّنُ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ وَالْعَدَدَ الْجَمّ الْغَفِيرَ الْمُضَادّ لِمَعْنَى الْبَتْرِ وَأَنّ ذَلِكَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِسَبَبِ الْحَوْضِ الْمَوْرُودِ الّذِي أَعْطَاهُ فَلَا يَخْتَصّ لَفْظُ الْكَوْثَرِ بِالْحَوْضِ بَلْ يَجْمَعُ هَذَا الْمَعْنَى كُلّهُ وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ كَانَتْ آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النّجُومِ وَيُقَال : هَذِهِ الصّفَةُ فِي الدّنْيَا : عُلَمَاءُ الْأُمّةِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَمِنْ بَعْدِهِمْ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابِي كَالنّجُومِ وَهُمْ يَرْوُونَ الْعِلْمَ عَنْهُ وَيُؤَدّونَهُ إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ كَمَا تَرْتَوِي الْآنِيّةُ فِي الْحَوْضِ وَتَسْقِي الْوَارِدَةُ عَلَيْهِ تَقُولُ رَوَيْت الْمَاءَ أَيْ اسْتَقَيْته كَمَا تَقُولُ رَوَيْت الْعِلْمَ وَكِلَاهُمَا فِيهِ حَيَاةٌ وَمِنْهُ قِيلَ لِمَنْ رَوَى عِلْمًا أَوْ شِعْرًا : رَاوِيَةً تَشْبِيهًا بِالْمَزَادَةِ أَوْ الدّابّةِ [ ص 183 ] عَلّامَةٍ وَنَسّابَةٍ وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ أَنّهَا تَنْزُو فِي أَكُفّ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي الْآنِيّةَ وَحَصْبَاءُ الْحَوْضِ اللّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتِ وَيُقَابِلُهُمَا فِي الدّنْيَا الْحِكَمُ الْمَأْثُورَةُ عَنْهُ أَلّا تَرَى أَنّ اللّؤْلُؤَ فِي عِلْمِ التّعْبِيرِ حِكَمٌ وَفَوَائِدُ عِلْمٍ وَفِي صِفَةِ الْحَوْضِ لَهُ الْمِسْكُ أَيْ حَمْأَتُهُ وَيُقَابِلُهُ فِي الدّنْيَا : طِيبُ الثّنَاءِ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَأَتْبَاعِ النّبِيّ الْأَتْقِيَاءِ كَمَا أَنّ الْمِسْكَ فِي عِلْمِ التّعْبِيرِ ثَنَاءٌ حَسَنٌ وَعِلْمٌ التّعْبِيرِ مِنْ عِلْمِ النّبُوءَةِ مُقْتَبَسٌ . وَذَكَرَ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ الطّيْرَ الّتِي تَرُدّهُ كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ وَيُقَابِلُهُ مِنْ صِفَةِ الْعِلْمِ فِي الدّنْيَا وُرُودُ الطّالِبِينَ مِنْ كُلّ صُقْعٍ وَقُطْرٍ عَلَى حَضْرَةِ الْعِلْمِ وَانْتِيَابِهِمْ إيّاهَا فِي زَمَنِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَبَعْدَهُ فَتَأَمّلْ صِفَةَ الْكَوْثَرِ مَعْقُولَةٌ فِي الدّنْيَا ، مَحْسُوسَةٌ فِي الْآخِرَةِ مُدْرَكَةٌ بِالْعِيَانِ - هُنَالِكَ يُبَيّنُ لَك إعْجَازَ التّنْزِيلِ وَمُطَابَقَةَ السّورَةِ - لِسَبَبِ - نُزُولِهَا ، وَلِذَلِكَ قَالَ فُضَيْل : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } أَيْ تَوَاضَعْ لِمَنْ أَعْطَاك الْكَوْثَرَ بِالصّلَاةِ لَهُ فَإِنّ الْكَثْرَةَ فِي الدّنْيَا تَقْتَضِي فِي أَكْثَرِ الْخَلْقِ الْكِبْرَ وَتَحْدُو إلَى الْفَخْرِ والمحيرية ، فَلِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ السّلَامُ طَأْطَأَ رَأْسَهُ عَام الْفَتْحِ حِينَ رَأَى كَثْرَةَ أَتْبَاعِهِ وَهُوَ عَلَى الرّاحِلَةِ حَتّى أَلْصَقَ عُثْنُونَهُ بِالرّحْلِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبّهِ وَكَذَلِكَ أَمَرَهُ بِالنّحْرِ شُكْرًا لَهُ وَرَفَعَ الْيَدَيْنِ إلَى النّحْرِ فِي الصّلَاةِ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ الّتِي عِنْدَهَا يَنْحَرُ وَإِلَيْهَا يَهْدِي مَعْنَاهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ . النّحْرُ الْمَأْمُورُ بِهِ يَوْمَ الْأَضْحَى ، وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي الصّلَاةِ بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ إلَى النّحْرِ كَمَا أَنّ الْقِبْلَةَ مَحْجُوجَةٌ مُصَلّى إلَيْهَا ، فَكَذَلِكَ يَنْحَرُ عِنْدَهَا ، وَيُشَارُ إلَى النّحْرِ عِنْدَ اسْتِقْبَالِهَا ، وَإِلَى هَذَا الْتَفَتَ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ قَالَ مَنْ صَلّى صَلَاتَنَا ، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا ، وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَهُوَ مُسْلِمٌ وَقَدْ قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { قُلْ إِنّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ الْأَنْعَامُ 162 ، 163 ] فَقَرَنَ بَيْنَ الصّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَالنّسُكِ إلَيْهَا ، كَمَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا حِينَ قَالَ { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } وَذَكَرَ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَأَيْلَةَ وَقَدْ جَاءَ فِيهِ أَيْضًا فِي الصّحِيحِ كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ وَبَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ وَفِي الصّحِيحِ أَيْضًا فِي صِفَتِهِ كَمَا بَيْنَ عَدَنِ أَبْيَنَ إلَى عَمّانَ وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ أَبْيَنَ وَأَنّهُ ابْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَيْمَنَ بْنِ حِمْيَرَ ، وَأَنّ عَدَنَ سُمّيَتْ بِرَجُلِ مِنْ حَمِيرَ عَدَنَ بِهَا ، أَيْ أَقَامَ وَتَقَدّمَ أَيْضًا مَا قَالَهُ الطّبَرِيّ أَنّ عَدَنَ وَأَبْيَنَ هُمَا ابْنَا عَدْنَانَ أَخَوَا مَعَدّ وَأَمّا عَمّانَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ فَهِيَ بِالشّامِ قُرْبُ دِمَشْقَ ، سُمّيَتْ بِعَمّانَ بْنِ لُوطِ بْنِ هَارَانَ كَانَ سَكَنَهَا - فِيمَا ذَكَرُوا - وَأَمّا عُمَانُ [ ص 184 ] الْكُوفَةِ وَمَكّةَ ، وَكَمَا بَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةِ ، وَهَذِهِ كُلّهَا رِوَايَاتٌ مُتَقَارِبَةُ الْمَعَانِي ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَسَافَاتُ بَعْضُهَا أَبْعَدُ مِنْ بَعْضٍ فَكَذَلِكَ الْحَوْضُ أَيْضًا لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَزَوَايَا وَأَرْكَانٌ فَيَكُونُ اخْتِلَافُ هَذِهِ الْمَسَافَاتِ الّتِي فِي الْحَدِيث عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ جَعَلَنَا اللّهُ مِنْ الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ وَلَا أَظْمَأَ أَكْبَادَنَا فِي الْآخِرَةِ إلَيْهِ . وَمِمّا جَاءَ فِي مَعْنَى الْكَوْثَرِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ - قَالَتْ الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنّةِ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ إلّا سَمِعَ خَرِيرَ ذَلِكَ النّهَرِ وَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي السّيرَةِ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ وَرَوَاهُ الدّارَقُطْنِيّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ الشّعْبِيّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إنّ اللّهَ أَعْطَانِي نَهَرًا يُقَالُ لَهُ الْكَوْثَرُ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنْ أُمّتِي أَنْ يَسْمَعَ خَرِيرَ ذَلِكَ الْكَوْثَرِ إلّا سَمِعَهُ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ أَدْخِلِي أُصْبُعَيْك فِي أُذُنَيْك وَشِدّي ، فَاَلّذِي تَسْمَعِينَ فِيهِمَا مِنْ خَرِيرِ الْكَوْثَرِ . وَرَوَى الدّارَقُطْنِيّ مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِعَلِيّ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّك لَذَائِدٌ عَنْ حَوْضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَذُودُ عَنْهُ كُفّارَ الْأُمَمِ كَمَا تُذَادُ الْإِبِلُ الضّالّةُ عَنْ الْمَاءِ بِعَصَا مِنْ عَوْسَجٍ إلّا أَنّ هَذَا الْحَدِيثَ يَرْوِيهِ حَرَامُ بْن عُثْمَانَ عَنْ ابْنَيْ جَابِرٍ وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْهُ فَقَالَ لَيْسَ بِثِقَةِ وَأَغْلَظَ فِيهِ الشّافِعِيّ الْقَوْلَ وَأَمّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي فَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ وَيُفَسّرُهُ عِنْدِي الْحَدِيثُ الْآخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ إنّي لَأَنْظُرُ إلَى حَوْضِي الْآنَ مِنْ مَقَامِي هَذَا فَتَأَمّلْهُ .
الْكَوْثَرُ فِي الشّعْرِ
[ ص 184 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ الْكِلَابِيّ وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ فُجِعْنَا بِيَوْمِهِ وَعِنْدَ الرّدَاعِ بَيْتُ آخِرِ كَوْثَرِ
[ ص 185 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ : عَوْفُ بْنُ الْأَحْوَصِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ مَاتَ بِمَلْحُوبِ . وَقَوْله : عِنْدَ الرّدَاعِ بَيْتُ آخِرِ كَوْثَرِ يَعْنِي شُرَيْح بْنَ الْأَحْوَصِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ مَاتَ بِالرّدَاعِ . وَكَوْثَرُ أَرَادَ الْكَثِيرَ وَلَفْظُهُ مُشْتَقّ مِنْ لَفْظِ الْكَثِيرِ . قَالَ الْكُمَيْت بْنُ زَيْدٍ يَمْدَحُ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ : وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا بْنَ مَرْوَانَ طَيّبٌ وَكَانَ أَبُوك ابْنُ الْعَقَائِلِ كَوْثَرَ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي عَائِذٍ الْهُذَلِيّ يَصِفُ حِمَارَ وَحْشٍ يُحَامِي الْحَقِيقَ إذَا مَا احْتَدَمْن وَحَمْحَمْنَ فِي كَوْثَرٍ كَالْجِلَالِ
يَعْنِي بِالْكَوْثَرِ الْغُبَارَ الْكَثِيرَ شَبّهَهُ لِكَثْرَتِهِ عَلَيْهِ بِالْجِلَالِ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرٍو - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ - عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُسْلِمٍ أَخِي مُحَمّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا الْكَوْثَرُ الّذِي أَعْطَاك اللّهُ ؟ قَالَ " نَهَرٌ كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إلَى أَيْلَةَ ، آنِيَتُهُ كَعَدَدِ نُجُومِ السّمَاءِ تَرِدُهُ طُيُورٌ لَهَا كَأَعْنَاقِ الْإِبِلِ . قَالَ يَقُولُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : إنّهَا يَا رَسُولَ اللّهِ لَنَاعِمَةٌ قَالَ " آكِلُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ سَمِعْت فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَوْ غَيْرِهِ أَنّهُ قَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَا يَظْمَأُ أَبَدًاSاسْتِشْهَادُ ابْنِ هِشَامٍ عَلَى مَعْنَى الْكَوْثَرِ
وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الِاسْتِشْهَادِ عَلَى مَعْنَى الْكَوْثَرِ قَوْلَ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ : وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ فُجِعْنَا بِيَوْمِهِ وَعِنْدَ الرّدَاعِ بَيْتُ آخِرِ كَوْثَرِ
وَبِالْفَوْرَةِ الْحَرّابِ ذُو الْفَضْلِ عَامِرٌ فَنِعْمَ ضِيَاءُ الطّارِقِ الْمُتَنَوّر
[ ص 185 ] لَبِيدٍ وَسَنَذْكُرُ لِمَ سُمّيَ مُلَاعِبَ الْأَسِنَةِ إذَا جَاءَ ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ : عَوْفُ بْنُ الْأَحْوَصِ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ . وَاَلّذِي عِنْدَ الرّدَاعِ : شُرَيْح بْنُ الْأَحْوَصِ فِي قَوْله ، وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ حِبّانُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ . وَالرّدَاعُ : مِنْ أَرْضِ الْيَمَامَةِ . وَمَلْحُوبٌ : مَفْعُولٌ مِنْ لَحَبْت الْعُودَ إذَا قَشّرْته ، فَكَأَنّ هَذَا الْمَوْضِعَ سُمّيَ مَلْحُوبًا ، لِأَنّهُ لَا أَكَمٌ فِيهِ وَلَا شَجَرٌ .
نُزُولُ { وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ }
[ ص 186 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَوْمَهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَكَلّمَهُمْ فَأَبْلَغَ إلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَالنّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ ، وَأُبَيّ بْنُ خَلَفٍ ، وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ لَوْ جُعِلَ مَعَك يَا مُحَمّدُ مَلَكٌ يُحَدّثُ عَنْك النّاسَ وَيَرَى مَعَك فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلُهُ { وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ } [ الْأَنْعَامُ 8 ، 9 ] .
نُزُولُ وَلَقَدْ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلِ مِنْ قَبْلِك
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - بِالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ ، وَبِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فَغَمَزُوهُ وَهَمَزُوهُ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ فَغَاظَهُ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الْأَنْبِيَاءُ 41 ]Sذَكَرَ حَدِيثَ الْمُسْتَهْزِئِينَ
[ ص 186 ] { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ } [ الْأَنْبِيَاءُ 41 ] الْآيَةَ . فَقَالَ فِيهَا : اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلِ ثُمّ قَالَ فَحَاقَ بِاَلّذِينَ سَخِرُوا مَعَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ اسْتَهْزَءُوا ، ثُمّ قَالَ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وَلَمْ يَقُلْ يَسْخَرُونَ . وَلَا بُدّ فِي حِكْمَةٍ فِي هَذَا مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَة وَتَنْزِيلِ الْكَلَامِ مَنَازِلَهُ فَقَوْلُهُ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلِ أَيْ أُسْمِعُوا مِنْ الْكَلَامِ الّذِي يُسَمّى اسْتِهْزَاءً مَا سَاءَهُمْ تَأْنِيسًا لَهُ لِيَتَأَسّى بِمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الرّسُلِ وَإِنّمَا سُمّيَ اسْتِهْزَاءً إذَا كَانَ مَسْمُوعًا ، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِينَ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { أَتَتّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [ الْبَقَرَةُ 67 ] . وَأَمّا السّخْرُ وَالسّخْرَى ، فَقَدْ يَكُونُ فِي النّفْسِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ وَلِذَلِكَ تَقُولُ سَخِرْت مِنْهُ كَمَا تَقُولُ عَجِبْت مِنْهُ إلّا أَنّ الْعُجْبَ لَا يَخْتَصّ بِالْمَعْنَى الْمَذْمُومِ كَمَا يَخْتَصّ السّخْرُ وَفِي التّنْزِيلِ خَبَرًا عَنْ نُوحٍ { إِنْ تَسْخَرُوا مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } [ هُودٌ : 28 ] وَلَمْ يَقُلْ نَسْتَهْزِئُ بِكَمْ كَمَا تَسْتَهْزِئُونَ لِأَنّ الِاسْتِهْزَاءَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْأَنْبِيَاءِ إنّمَا هُوَ مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِينَ كَمَا قَدّمْنَا مِنْ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ فَالنّبِيّ يَسْخَرُ أَيْ يَعْجَبُ مِنْ كُفْرِ مَنْ يَسْخَرُ بِهِ وَمَنْ سُخْرِ عُقُولِهِمْ فَإِنْ قُلْت : فَقَدْ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } قُلْنَا : الْعَرَبُ تُسَمّي الْجَزَاءَ عَلَى الْفِعْلِ بِاسْمِ الْفِعْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ } وَهُوَ مَجَازٌ حَسَنٌ وَأَمّا [ ص 187 ] كُنّا بِصَدَدِهِ فَهُوَ الْمُسَمّى اسْتِهْزَاءُ حَقِيقَةٍ وَلَا يَرْضَى بِهِ إلّا جَهُولٌ . ثُمّ قَالَ سُبْحَانَهُ { فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أَيْ حَاقَ بِهِمْ مِنْ الْوَعِيدِ الْمُبَلّغِ لَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرّسُلِ مَا كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَنَزَلَتْ كُلّ كَلِمَةٍ مَنْزِلَهَا ، وَلَمْ يَحْسُنْ فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ وَضْعُ وَاحِدَةٍ مَكَانَ الْأُخْرَى . وَذَكَرَ أَيْضًا قَوْله سُبْحَانَهُ { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا } أَيْ لَوْ جَعَلْنَا الرّسُولَ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَكُنْ إلّا عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ وَلَدَخَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ اللّبْسِ فِيهِ مَا دَخَلَ فِي أَمْرِ مُحَمّدٍ وَقَوْلُهُ لَبِسْنَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الْأَمْرَ كُلّهُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ يُعْمِي مَنْ شَاءَ عَنْ الْحَقّ وَيَفْتَحُ بَصِيرَةَ مَنْ شَاءَ وَقَوْلُهُ مَا يَلْبَسُونَ مَعْنَاهُ يَلْبَسُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ لِأَنّ أَكْثَرَهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنّهُ الْحَقّ ، وَلَكِنْ جَحَدُوا بِهَا ، وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ فَجَعَلُوا ، يَلْبَسُونَ أَيْ يَلْبَسُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَلْبَسُونَ عَلَى أَهْلِيهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ أَيْ يَخْلِطُونَ عَلَيْهِمْ بِالْبَاطِلِ تَقُولُ الْعَرَبُ : لَبِسْت عَلَيْهِمْ الْأَمْرَ أَلْبِسُهُ أَيْ سَتَرْته وَخَلَطْته ، وَمِنْ لُبْسِ الثّيَابِ لَبِسْت أَلْبَسُ لِأَنّهُ فِي مَعْنَى كَسِيت ، وَفِي مُقَابَلَةِ عَرِيت ، فَجَاءَ عَلَى وَزْنِهِ وَالْآخَرُ فِي مَعْنَى : خَلَطْت أَوْ سَتَرْت ، فَجَاءَ عَلَى وَزْنِهِ .
ذِكْرُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ
[ ص 187 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثْنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ ثُمّ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مِنْ إيلِيَاءَ ، وَقَدْ فَشَا الْإِسْلَامُ بِمَكّةَ فِي قُرَيْشٍ ، وَفِي الْقَبَائِلِ كُلّهَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : كَانَ مِنْ الْحَدِيثِ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ مَسْرَاهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ وَعَائِشَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ، وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصَرِيّ ، وَابْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ [ ص 188 ] وَأُمّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ ، مَا اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كُلّ يُحَدّثُ عَنْهُ بَعْضُ مَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِهِ حِين أُسْرِيَ بِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَكَانَ فِي مَسْرَاهُ وَمَا ذُكِرَ عَنْهُ بَلَاءٌ وَتَمْحِيصٌ وَأَمْرٌ مِنْ أَمْرِ اللّهِ فِي قُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ فِيهِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ وَثَبَاتٌ لِمَنْ آمَنَ وَصَدّقَ وَكَانَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى يَقِينٍ فَأُسْرِيَ بِهِ كَيْفَ شَاءَ لِيُرِيَهُ مِنْ آيَاتِهِ مَا أَرَادَ حَتّى عَايَنَ مَا عَايَنَ مِنْ أَمْرِهِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ وَقُدْرَتِهِ الّتِي يَصْنَعُ بِهَا مَا يُرِيدُ .
رَاوِيَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ
فَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - فِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُ - يَقُولُ أُتِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْبُرَاقِ - وَهِيَ الدّابّةُ الّتِي كَانَتْ تُحْمَلُ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ تَضَعُ حَافِرَهَا فِي مُنْتَهَى طَرَفِهَا - فَحُمِلَ عَلَيْهَا ، ثُمّ خَرَجَ بِهِ صَاحِبُهُ يَرَى الْآيَاتِ فِيمَا بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتّى انْتَهَى إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَوَجَدَ فِيهِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ وَمُوسَى وَعِيسَى فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ جَمَعُوا لَهُ فَصَلّى بِهِمْ . ثُمّ أُتِيَ بِثَلَاثَةِ آنِيّةٍ إنَاءٍ فِيهِ لَبَنٌ [ ص 189 ] قَالَ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فَسَمِعْت قَائِلًا يَقُولُ حِينَ عُرِضَتْ عَلَيّ إنْ أَخَذَ الْمَاءَ غَرِقَ وَغَرِقَتْ أُمّتُهُ وَإِنْ أَخَذَ الْخَمْرَ غَوَى ، وَغَوَتْ أُمّتُهُ وَإِنْ أَخَذَ اللّبَن هُدِيَ وَهُدِيَتْ أُمّتُهُ . قَالَ فَأَخَذْت إنَاءَ اللّبَنِ فَشَرِبْت مِنْهُ فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ : هُدِيت وَهُدِيَتْ أُمّتُك يَا مُحَمّدُ
حَدِيثُ الْحَسَنِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحُدّثْت عَنْ الْحَسَنِ أَنّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنًا أَنَا نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ ، إذْ جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ فَجَلَسْت فَلَمْ أَرَ شَيْئًا ، فَعُدْت إلَى مَضْجَعِي ، فَجَاءَنِي الثّانِيَةَ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ فَجَلَسْت فَلَمْ أَرَ شَيْئًا ، فَعُدْت إلَى مَضْجَعِي ، فَجَاءَنِي الثّالِثَةَ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ فَجَلَسْت ، فَأَخَذَ بِعَضُدِي ، فَقُمْت مَعَهُ فَخَرَجَ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَإِذَا دَابّةٌ أَبْيَض ، بَيْنَ الْبَغْلِ - وَالْحِمَار - فِي فَخِذَيْهِ جَنَاحَانِ يَحْفِرُ بِهِمَا رِجْلَيْهِ يَضَعُ يَدَهُ فِي مُنْتَهَى طَرَفِهِ فَحَمَلَنِي عَلَيْهِ ثُمّ خَرَجَ مَعِي لَا يَفُوتُنِي وَلَا أَفُوتُهُ
حَدِيثُ قَتَادَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَحُدّثْت عَنْ قَتَادَةَ أَنّهُ قَالَ حُدّثْت أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَمّا دَنَوْت مِنْهُ لِأَرْكَبَهُ شَمَسَ فَوَضَعَ جِبْرِيلُ يَدَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ ثُمّ قَالَ أَلَا تَسْتَحِي يَا بُرَاقُ مِمّا تَصْنَعُ فَوَاَللّهِ مَا رَكِبَك عَبْدٌ لِلّهِ قَبْلَ مُحَمّدٍ أَكْرَمُ عَلَى اللّهِ مِنْهُ . قَالَ فَاسْتَحْيَا حَتّى ارْفَضّ عَرَقًا ، ثُمّ قَرّ حَتّى رَكِبْتهSشَرْحُ مَا فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ الْمُشْكِلِ اتّفَقَتْ الرّوَاةُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ إسْرَاءً وَلَمْ يُسَمّهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ سُرًى ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُ اللّغَةِ قَدْ قَالُوا : سَرَى وَأَسْرَى بِمَعْنَى وَاحِدٍ فَدَلّ عَلَى أَنّ أَهْلَ اللّغَةِ لَمْ يُحَقّقُوا الْعَبّارَةَ وَذَلِكَ أَنّ الْقُرّاءَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي التّلَاوَةِ مِنْ قَوْلِهِ { سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } وَلَمْ يَقُلْ سَرَى ، [ ص 188 ] وَقَالَ { وَاللّيْلِ إِذَا يَسْرِ } وَلَمْ يَقُلْ يَسْرِي ، فَدَلّ عَلَى أَنّ السّرَى مِنْ سَرَيْت إذَا سِرْت لَيْلًا ، وَهِيَ مُؤَنّثَةٌ تَقُولُ طَالَتْ سُرَاك اللّيْلَةَ وَالْإِسْرَاءُ مُتَعَدّ فِي الْمَعْنَى ، وَلَكِنْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ كَثِيرًا حَتّى ظَنّ أَهْلُ اللّغَةِ أَنّهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ لَمّا رَأَوْهُمَا غَيْرَ مُتَعَدّيَيْنِ إلَى مَفْعُولٍ فِي اللّفْظِ وَإِنّمَا أَسْرَى بِعَبْدِهِ أَيْ جَعَلَ الْبُرَاق يَسْرِي ، كَمَا تَقُولُ أَمَضَيْته ، أَيْ جَعَلْته يَمْضِي ، لَكِنْ كَثُرَ حَذْفُ الْمَفْعُولِ لَقُوّةِ الدّلَالَةِ عَلَيْهِ أَوْ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذِكْرِهِ إذْ الْمَقْصُودُ بِالْخَبَرِ ذِكْرُ مُحَمّدٍ لَا ذِكْرُ الدّابّةِ الّتِي سَارَتْ بِهِ وَجَازَ فِي قِصّةِ لُوطٍ عَلَيْهِ السّلَامُ . أَنْ يُقَالَ لَهُ فَأَسْرِ بِأَهْلِك : أَيْ فَاسْرِ بِهِمْ وَأَنْ يَقْرَأَ فَأَسْرِ بِأَهْلِك بِالْقِطْعِ أَيْ فَأَسْرِ بِهِمْ مَا يَتَحَمّلُونَ عَلَيْهِ مِنْ دَابّةٍ أَوْ نَحْوِهَا ، وَلَمْ يُتَصَوّرْ ذَلِكَ فِي السّرَى بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ سَرَى بِعَبْدِهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَأْتِ التّلَاوَةُ إلّا بِوَجْهِ وَاحِدٍ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ فَتَدَبّرْهُ . وَكَذَلِكَ تَسَامَحَ النّحْوِيّونَ أَيْضًا فِي الْبَاءِ وَالْهَمْزَةِ وَجَعَلُوهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ فِي حُكْمِ التّعْدِيَةِ وَلَوْ كَانَ مَا قَالُوهُ أَصْلًا لَجَازَ فِي : أَمْرَضْته أَنْ تَقُولَ مَرِضْت بِهِ وَفِي أَسْقَمْته : أَنْ تَقُولَ سَقِمْت بِهِ وَفِي أَعْمَيْته أَنْ تَقُولَ عَمِيت بِهِ قِيَاسًا عَلَيّ أَذْهَبْته وَأَذْهَبْت بِهِ وَيَأْبَى اللّهُ ذَلِكَ وَالْعَالِمُونَ فَإِنّمَا الْبَاءُ تُعْطِي مَعَ التّعْدِيَةِ طَرَفًا مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي الْفِعْلِ وَلَا تُعْطِيهِ الْهَمْزَةَ فَإِذَا قُلْت : أَقْعَدْته ، فَمَعْنَاهُ جَعَلْته يَقْعُدُ وَلَكِنّك شَارَكْته فِي الْقُعُودِ فَجَذَبْته بِيَدِك إلَى الْأَرْضِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَلَا بُدّ مِنْ طَرَفٍ مِنْ الْمُشَارَكَةِ إذَا قَعَدْت بِهِ وَدَخَلْت بِهِ وَذَهَبْت بِهِ بِخِلَافِ أَدْخَلْته وَأَذْهَبْته . [ ص 189 ] قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } { لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } وَيَتَعَالَى - سُبْحَانَهُ - عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِالذّهَابِ وَيُضَافُ إلَيْهِ طَرَفٌ مِنْهُ وَإِنّمَا مَعْنَاهُ أَذَهَبَ نُورَهُمْ وَسَمْعَهُمْ . قُلْنَا : فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا : أَنّ النّورَ وَالسّمْعَ وَالْبَصَرَ كَانَ بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ وَقَدْ قَالَ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهَذَا مِنْ الْخَيْرِ الّذِي بِيَدِهِ وَإِذَا كَانَ بِيَدِهِ فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ ذَهَبَ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى الّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ كَائِنًا مَا كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى ، فَعَلَيْهِ يَنْبَنِي ذَلِكَ الْمَعْنَى الْآخَرُ الّذِي فِي قَوْلِهِ { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } مَجَازًا كَانَ أَوْ حَقِيقَةً أَلَا تَرَى أَنّهُ لَمّا ذَكَرَ الرّجْسَ كَيْفَ قَالَ { لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ } [ الْأَحْزَابُ : 33 ] . وَلَمْ يَقُلْ يُذْهِبُ بِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ { وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطَانِ } [ ص 190 ] حُسْنَ الْأَدَبِ مَعَهُ حَتّى لَا يُضَافُ إلَى الْقُدّوسِ سُبْحَانَهُ - لَفْظًا وَمَعْنًى شَيْءٌ مِنْ الْأَرْجَاسِ وَإِنْ كَانَتْ خَلْقًا لَهُ وَمِلْكًا فَلَا يُقَالُ هِيَ بِيَدِهِ عَلَى الْخُصُوصِ تَحْسِينًا لِلْعِبَارَةِ وَتَنْزِيهًا لَهُ وَفِي مِثْلِ النّورِ وَالسّمْعِ وَالْبَصَرِ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ هِيَ بِيَدِهِ فَحَسُنَ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَال : ذَهَبَ بِهِ وَأَمّا أَسْرَى بِعَبْدِهِ فَإِنّ دُخُولَ الْبَاءِ فِيهِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَإِنّهُ فِعْلٌ يَتَعَدّى إلَى مَفْعُولٍ وَذَلِكَ الْمَفْعُولُ الْمُسَرّى هُوَ الّذِي سَرَى بِالْعَبْدِ فَشَارَكَهُ بِالسّرَى ، كَمَا قَدّمْنَا فِي قَعَدْت بِهِ أَنّهُ يُعْطَى الْمُشَارَكَةُ فِي الْفِعْلِ أَوْ فِي طَرَفٍ مِنْهُ فَتَأَمّلْهُ .
مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ
قَالَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ فَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَضَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ مَعَهُ حَتّى انْتَهَى بِهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَوَجَدَ فِيهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ [ ص 190 ] فَأَمّهُمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَصَلّى بِهِمْ ثُمّ أُتِيَ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا : خَمْرٌ وَفِي الْآخَرِ لَبَنٌ . قَالَ فَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنَاءَ اللّبَنِ فَشَرِبَ مِنْهُ وَتَرَكَ إنَاءَ الْخَمْرِ . قَالَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ هُدِيت لِلْفِطْرَةِ وَهُدِيَتْ أُمّتُك يَا مُحَمّدُ وَحُرّمَتْ عَلَيْكُمْ الْخَمْرُ ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى مَكّةَ ، فَلَمّا أَصْبَحَ غَدًا عَلَى قُرَيْشٍ ، فَأَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ . فَقَالَ أَكْثَرُ النّاسِ هَذَا وَاَللّهِ الْأَمْرُ الْبَيّنُ وَاَللّهِ إنّ الْعِيرَ لَتُطْرَدُ شَهْرًا مِنْ مَكّةَ إلَى الشّامِ مُدْبِرَةً وَشَهْرًا مُقْبِلَةً أَفَيَذْهَبُ ذَلِكَ مُحَمّدٌ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَرْجِعُ إلَى مَكّةَ قَالَ فَارْتَدّ كَثِيرٌ مِمّنْ كَانَ أَسْلَمَ ، وَذَهَبَ النّاسُ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا لَهُ هَلْ لَك يَا أَبَا بَكْرٍ فِي صَاحِبِك ، يَزْعُمُ أَنّهُ قَدْ جَاءَ هَذِهِ اللّيْلَةَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، وَصَلّى فِيهِ وَرَجَعَ إلَى مَكّةَ . قَالَ فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ إنّكُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ فَقَالُوا : بَلَى ، هَا هُوَ ذَاكَ فِي الْمَسْجِدِ يُحَدّثُ بِهِ النّاسَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاَللّهِ لَئِنْ كَانَ قَالَهُ لَقَدْ صَدَقَ فَمَا يُعْجِبُكُمْ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَيُخْبِرُنِي أَنّ الْخَبَرَ لَيَأْتِيهِ مِنْ السّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَأُصَدّقُهُ فَهَذَا أَبْعَدُ مِمّا تَعْجَبُونَ مِنْهُ ثُمّ أَقْبَلَ حَتّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ . أَحَدّثْت هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ أَنّك أَتَيْت الْمَقْدِسَ هَذِهِ اللّيْلَةَ ؟ قَالَ " نَعَمْ " ، قَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ فَصِفْهُ لِي ، فَإِنّي قَدْ جِئْته - قَالَ الْحَسَنُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فَرُفِعَ لِي حَتّى نَظَرْت إلَيْهِ " - فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَصِفُهُ لِأَبِي بَكْرٍ وَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْت ، أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ كَلَمّا وَصَفَ لَهُ مِنْهُ شَيْئًا ، قَالَ صَدَقْت ، أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ حَتّى انْتَهَى ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ وَأَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقُ ، فَيَوْمئِذٍ سَمّاهُ الصّدّيقَ قَالَ الْحَسَنُ وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيمَنْ ارْتَدّ عَنْ إسْلَامِهِ لِذَلِكَ { وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلّا فِتْنَةً لِلنّاسِ وَالشّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلّا طُغْيَانًا كَبِيرًا } [ الْإِسْرَاءُ 60 ] . فَهَذَا حَدِيثُ الْحَسَنِ عَنْ مَسْرَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَمَا دَخَلَ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ
الْإِسْرَاءُ رُؤْيَا
[ ص 191 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ آلِ أَبِي بَكْرٍ : أَنّ عَائِشَةَ زَوْجَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَتْ تَقُولُ مَا فُقِدَ جَسَدُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلَكِنّ اللّهَ أَسْرَى بِرُوحِهِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْن الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ ، كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْرَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ كَانَتْ رُؤْيَا مِنْ اللّهِ تَعَالَى صَادِقَةً فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا ، لِقَوْلِ الْحَسَنِ إنّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللّهِ تُبَارَك وَتَعَالَى : { وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلّا فِتْنَةً لِلنّاسِ } [ الْإِسْرَاءُ 60 ] . وَلِقَوْلِ اللّهِ [ ص 192 ] الْخَبَرِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ إذْ قَالَ لَابْنِهِ { يَا بُنَيّ إِنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ } [ الصّافّاتُ 102 ] . ثُمّ مَضَى عَلَى ذَلِكَ . فَعَرَفْت أَنّ الْوَحْيَ مِنْ اللّهِ يَأْتِي الْأَنْبِيَاءَ أَيْقَاظًا وَنِيَامًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - يَقُولُ تَنَامُ عَيْنَايَ وَقَلْبِي يَقْظَانُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ قَدْ جَاءَهُ وَعَايَنَ فِيهِ مَا عَايَنَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ عَلَى أَيّ حَالَيْهِ كَانَ نَائِمًا ، أَوْ يَقْظَانَ كُلّ ذَلِكَ حَقّ وَصِدْقٌ [ ص 193 ] [ ص 194 ] [ ص 195 ] [ ص 196 ]Sأَكَانَ الْإِسْرَاءُ يَقَظَةً أَمْ مَنَامًا
[ ص 191 ] كَانَ الْإِسْرَاءُ فِي يَقَظَةٍ بِجَسَدِهِ أَوْ كَانَ فِي نُوُمِهِ بِرُوحِهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ { اللّهُ يَتَوَفّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [ الزّمَرُ 43 ] وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ أَنّهَا كَانَتْ رُؤْيَا حَقّ ، وَأَنّ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمْ تَفْقِدْ بَدَنَهُ وَإِنّمَا عُرِجَ بِرُوحِهِ تِلْكَ اللّيْلَةَ وَيَحْتَجّ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلّا فِتْنَةً لِلنّاسِ } [ الْإِسْرَاءُ 60 ] . وَلَمْ يَقُلْ الرّؤْيَةَ وَإِنّمَا يُسَمّى رُؤْيَا مَا كَانَ فِي النّوُمِ فِي عُرْفِ اللّغَةِ وَيَحْتَجّونَ أَيْضًا بِحَدِيثِ الْبُخَارِيّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ أَنّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَقَالَ أَوّلُهُمْ أَيّهُمْ هُوَ ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ هُوَ هَذَا ، وَهُوَ خَيْرُهُمْ فَقَالَ آخِرُهُمْ خُذُوا خَيْرَهُمْ فَكَانَ تِلْكَ اللّيْلَةَ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى ، فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السّلَامُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ فَلَمْ يُكَلّمُوهُ حَتّى احْتَمَلُوهُ فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ ، فَتَوَلّاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ . الْحَدِيثُ بِطُولِهِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَهَذَا نَصّ لَا إشْكَالَ فِيهِ أَنّهَا كَانَتْ رُؤْيَا صَادِقَةً وَقَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثّانِي : قَدْ تَكُونُ الرّؤْيَا بِمَعْنَى الرّؤْيَةِ فِي الْيَقَظَةِ وَأَنْشَدُوا لِلرّاعِي يَصِفُ صَائِدًا : وَكَبّرَ لِلرّؤْيَا ، وَهَشّ فُؤَادُهُ وَبَشّرَ قَلْبًا كَانَ جَمّا بَلَابِلُهُ
قَالُوا : وَفِي الْآيَةِ بَيَانُ أَنّهَا كَانَتْ فِي الْيَقَظَةِ لِأَنّهُ قَالَ { وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلّا فِتْنَةً لِلنّاسِ } وَلَوْ كَانَتْ رُؤْيَا نَوْمٍ مَا افْتَتَنَ بِهَا النّاسُ حَتّى ارْتَدّ كَثِيرٌ مِمّنْ أَسْلَمَ ، وَقَالَ [ ص 192 ] بَيْت الْمَقْدِسِ ، وَرَجَعَ إلَى مَكّةَ لَيْلَتَهُ وَالْعِيرُ تَطْرُدُ إلَيْهَا شَهْرًا مُقْبِلَةً وَشَهْرًا مُدْبِرَةً وَلَوْ كَانَتْ رُؤْيَا نَوْمٍ لَمْ يَسْتَبْعِدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَذَا ، فَمَعْلُومٌ أَنّ النّائِمَ قَدْ يَرَى نَفْسَهُ فِي السّمَاءِ وَفِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَلَا يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ ذَلِكَ وَاحْتَجّ هَؤُلَاءِ أَيْضًا بِشُرْبِهِ الْمَاءَ مِنْ الْإِنَاءِ الّذِي كَانَ مُغَطّى عِنْدَ الْقَوْمِ وَوَجَدُوهُ حِينَ أَصْبَحَ لَا مَاء فِيهِ وَبِإِرْشَادِهِ لِلّذِينَ نَدّ بَعِيرُهُمْ حِين أَنْفَرَهُمْ حِسّ الدّابّةِ وَهُوَ الْبُرَاقُ حَتّى دَلّهُمْ عَلَيْهِ فَأَخْبَرَ أَهْلَ مَكّةَ بِأَمَارَةِ ذَلِكَ حَتّى ذَلِكَ الْغِرَارَتَيْنِ السّوْدَاء وَالْبَرْقَاءِ كَمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ أَنّهُ وَعَدَ قُرَيْشًا بِقُدُومِ الْعِيرِ الّتِي أَرْشَدَهُمْ إلَى الْبَعِيرِ وَشَرِبَ إنَاءَهُمْ وَأَنّهُمْ سَيَقْدُمُونَ وَيُخْبَرُونَ بِذَلِكَ فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ مَتَى يَقْدُمُونَ ؟ فَقَالَ " يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ " ، فَلَمّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ وَلَمْ يَقْدُمُوا ، حَتّى كَرَبَتْ الشّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ فَدَعَا اللّهَ فَحَبَسَ الشّمْسَ حَتّى قَدِمُوا كَمَا وَصَفَ قَالَ وَلَمْ يَحْبِسْ الشّمْسَ إلّا لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلِيُوشَعَ بْنِ نُونٍ وَهَذَا كُلّهُ لَا يَكُونُ إلّا يَقَظَةً وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ مِنْهُمْ شَيْخُنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ [ بْنُ الْعَرَبِيّ ] رَحِمَهُ اللّهُ إلَى تَصْدِيقِ الْمَقَالَتَيْنِ وَتَصْحِيحِ الْحَدِيثَيْنِ وَأَنّ الْإِسْرَاءَ كَانَ مَرّتَيْنِ إحْدَاهُمَا : كَانَ فِي نُوُمِهِ وَتَوْطِئَةً لَهُ وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِ كَمَا كَانَ بَدْءُ نُبُوّتِهِ الرّؤْيَا الصّادِقَةُ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ أَمْرُ النّبُوّةِ فَإِنّهُ عَظِيمٌ تَضْعُفُ عَنْهُ الْقُوَى الْبَشَرِيّةُ وَكَذَلِكَ الْإِسْرَاءُ سَهّلَهُ عَلِيّه بِالرّؤْيَا ، لِأَنّ هَوْلَهُ عَظِيمٌ فَجَاءَهُ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى تَوْطِئَةٍ وَتَقْدِمَةٍ رِفْقًا مِنْ اللّهِ بِعَبْدِهِ وَتَسْهِيلًا عَلَيْهِ وَرَأَيْت الْمُهَلّبَ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ قَدْ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَأَنّهُمْ قَالُوا : كَانَ الْإِسْرَاءُ مَرّتَيْنِ مَرّةً فِي نُوُمِهِ وَمَرّةً فِي يَقَظَتِهِ بِبَدَنِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ الْمُؤَلّفُ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الّذِي يَصِحّ ، وَبِهِ تَتّفِقُ مَعَانِي الْأَخْبَارِ أَلَا تَرَى أَنّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الّذِي قَدّمْنَا ذِكْرَهُ أَتَاهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ وَمَعْلُومٌ أَنّ الْإِسْرَاءَ كَانَ بَعْدَ النّبُوّةِ وَحَيْنَ فُرِضَتْ الصّلَاةُ كَمَا قَدّمْنَا فِي الْجُزْءِ قَبْلَ هَذَا ، وَقِيلَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِعَامِ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ فَارْتَدّ كَثِيرٌ مِمّنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ ، وَرُوَاةُ الْحَدِيثَيْنِ حُفّاظٌ فَلَا يَسْتَقِيمُ [ ص 193 ] يَكُونَ الْإِسْرَاءُ مَرّتَيْنِ وَكَذَلِكَ ذُكِرَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنّهُ لَقِيَ إبْرَاهِيمَ فِي السّمَاءِ السّادِسَةِ وَمُوسَى فِي السّابِعَةِ وَفِي أَكْثَرِ الرّوَايَاتِ الصّحِيحَةِ أَنّهُ رَأَى إبْرَاهِيمَ عِنْدَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ فِي السّمَاءِ السّابِعَةِ وَلَقِيَ مُوسَى فِي السّادِسَةِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ أُتِيَ بِثَلَاثَةِ آنِيّةٍ أَحَدُهَا مَاءٌ فَقَالَ قَائِلٌ إنْ أَخَذَ الْمَاءَ غَرِقَ وَغَرِقَتْ أُمّتُهُ وَفِي إحْدَى رِوَايَاتِ الْبُخَارِيّ فِي الْجَامِعِ الصّحِيحِ أَنّهُ أُتِيَ بِإِنَاءِ فِيهِ عَسَلٌ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَاءَ وَالرّوَاةُ أَثَبَاتٌ وَلَا سَبِيلَ إلَى تَكْذِيبِ بَعْضِهِمْ وَلَا تَوْهِينِهِمْ فَدَلّ عَلَى صِحّةِ الْقَوْلِ بِأَنّهُ كَانَ مَرّتَيْنِ وَعَادَ الِاخْتِلَافُ إلَى أَنّهُ كَانَ كُلّهُ حَقّا ، وَلَكِنْ فِي حَالَتَيْنِ وَوَقْتَيْنِ مَعَ مَا يَشْهَدُ لَهُ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ { ثُمّ دَنَا فَتَدَلّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } ثُمّ قَالَ { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } [ النّجْمُ 8 - 11 ] فَهَذَا نَحْوُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا يَرَاهُ قَلْبُهُ وَعَيْنُهُ نَائِمَةٌ وَالْفُؤَادُ هُوَ الْقَلْبُ ثُمّ قَالَ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَمْ يَقُلْ مَا قَدْ رَأَى ، فَدَلّ عَلَى أَنّ ثَمّ رُؤْيَةٌ أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ ثُمّ قَالَ { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } أَيْ فِي نَزْلَةٍ نَزَلَهَا جِبْرِيلُ إلَيْهِ مَرّةً فَرَآهُ فِي صُورَتِهِ الّتِي هُوَ عَلَيْهَا { عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى } قَالَ يَغْشَاهَا فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ وَفِي رِوَايَةٍ يَنْتَثِرُ مِنْهَا الْيَاقُوتُ وَثَمَرُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ ثُمّ قَالَ { مَا زَاغَ الْبَصَرُ } وَلَمْ يَقُلْ الْفُؤَادُ كَمَا قَالَ فِي الّتِي قَبْلَ هَذِهِ فَدَلّ عَلَى أَنّهَا رُؤْيَةُ عَيْنٍ وَبَصَرٍ فِي النّزْلَةِ الْأُخْرَى ، ثُمّ قَالَ { لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى } وَإِذَا كَانَتْ رُؤْيَةَ عَيْنٍ فَهِيَ مِنْ الْآيَاتِ الْكُبْرَى ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْبَرَاهِينِ وَالْعِبَرِ ، وَصَارَتْ الرّؤْيَا الْأُولَى بِالْإِضَافَةِ إلَى الْأُخْرَى لَيْسَتْ مِنْ الْكِبْرِ لِأَنّ مَا يَرَاهُ الْعَبْدُ فِي مَنَامِهِ دُونَ مَا يَرَاهُ فِي يَقَظَتِهِ لَا مَحَالَةَ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ إنّهُ رَأَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى نَهَرَيْنِ ظَاهِرَيْنِ وَنَهَرَيْنِ بَاطِنِينَ وَأَخْبَرَهُ جِبْرِيل أَنّ الظّاهِرَيْنِ النّيلُ وَالْفُرَاتُ ، وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ أَنَس أَنّهُ رَأَى هَذَيْنِ النّهَرَيْنِ فِي السّمَاءِ الدّنْيَا ، وَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ هُمَا النّيلُ وَالْفُرَاتُ ، أَصُلْهُمَا وَعُنْصُرُهُمَا ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَأَى فِي حَالِ الْيَقَظَةِ مَنْبَعَهُمَا ، وَرَأَى فِي الْمَرّةِ الْأُولَى النّهَرَيْنِ دُونَ أَنْ يَرَى أَصْلَهُمَا وَاَللّهُ أَعْلَمُ . فَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ } [ الْمُؤْمِنُونَ 18 ] أَنّهُمَا النّيلُ وَالْفُرَاتُ أُنْزِلَا مِنْ الْجَنّة مِنْ أَسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْهَا عَلَى جُنَاح جِبْرِيل ، فَأُودَعهُمَا بُطُون الْجِبَالَ ثُمّ إنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ سَيَرْفَعُهُمَا ، وَيَذْهَبُ بِهِمَا عِنْدَ رَفْعِ الْقُرْآنِ وَذَهَابِ الْإِيمَانِ فَلَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْض خَيْر ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } [ ص 194 ] ذَكَرَهُ النّحَاسُ فِي الْمَعَانِي بِأَتَمّ مِنْ هَذَا فَاخْتَصَرَهُ وَوَقَعَ فِي كِتَابِ الْمُعَلّمِ لِلْمَازَرِيّ قَوْلٌ رَابِعٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ قَالَ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ فِي الْيَقَظَةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَكَانَتْ رُؤْيَا عَيْنٍ ثُمّ أُسْرِيَ بِرُوحِهِ إلَى فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَلِذَلِكَ شَنّعَ الْكُفّارُ قَوْلَهُ وَأَتَيْت بَيْتَ الْمَقْدِسِ فِي لَيْلَتِي هَذِهِ وَلَمْ يُشَنّعُوا قَوْلَهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ .
شِمَاسُ الْبُرَاقِ
فَصْلٌ وَمِمّا يُسْأَلُ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شِمَاسُ الْبُرَاقِ حِينَ رَكِبَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ أَمَا تَسْتَحْيِي يَا بُرَاقُ فَمَا رَكِبَك عَبْدٌ لِلّهِ قَبْلَ مُحَمّدٍ هُوَ أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ فَقَدْ قِيلَ فِي نُفْرَتِهِ مَا قَالَهُ ابْنُ بَطّالٍ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصّحِيحِ قَالَ كَانَ ذَلِكَ لِبُعْدِ عَهْدِ الْبُرَاقِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَطُولِ الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمّدٍ عَلَيْهِمَا السّلَامُ وَرَوَى غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَبَبًا آخَرَ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمّدِ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ شَمَسَ بِهِ الْبُرَاقُ لَعَلّك يَا مُحَمّدُ مَسِسْت الصّفْرَاءَ الْيَوْمَ فَأَخْبَرَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ مَا مَسّهَا إلّا أَنّهُ مَرّ بِهَا ، فَقَالَ تَبّا لِمَنْ يَعْبُدَك مِنْ دُونِ اللّهِ وَمَا مَسّهَا إلّا لِذَلِكَ وَذَكَرَ هَذِهِ الرّوَايَةَ أَبُو سَعِيدٍ النّيْسَابُورِيّ فِي شَرَفِ الْمُصْطَفَى ، فَاَللّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الصّفْرَاءِ فِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ ، وَأَنّهَا كَانَتْ صَنَمًا بَعْضُهُ مِنْ ذَهَبٍ فَكَسُرّهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ وَفِي الْحَدِيثِ الّذِي خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ مِنْ طَرِيقِ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيّ أَنّهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - حِينَ انْتَهَى إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، قَالَ جِبْرِيلُ بِإِصْبَعِهِ إلَى الصّخْرَةِ فَخَرَقَهَا فَشَدّ بِهَا الْبُرَاقَ وَصَلّى ، وَأَنّ حُذَيْفَةَ أَنْكَرَ هَذِهِ الرّوَايَةَ وَقَالَ لَمْ يَفِرّ مِنْهُ وَقَدْ سَخّرَهُ لَهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ وَفِي هَذَا مِنْ الْفِقْهِ عَلَى رِوَايَةِ بُرَيْدَةَ التّنْبِيه عَلَى الْأَخْذِ بِالْحَزْمِ مَعَ صِحّة التّوَكّل ، وَأَنّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ كَمَا - رُوِيَ عَنْ وَهْب بْن مُنَبّهٍ - لَا يَمْنَعُ الْحَازِمُ مِنْ تُوقِي الْمَهَالِك . قَالَ وَهْب : وَجَدَتْهُ فِي سَبْعِينَ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ اللّهِ الْقَدِيمَةِ [ ص 195 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَيّدْهَا وَتَوَكّلْ فَإِيمَانُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَنّهُ قَدْ سُخّرَ لَهُ كَإِيمَانِهِ بِقَدَرِ اللّهِ وَعِلْمِهِ بِأَنّهُ سَبَقَ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ مَا سَبَقَ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يَتَزَوّدُ فِي أَسْفَارِهِ وَيَعُدّ السّلَاحَ فِي حُرُوبِهِ حَتّى لَقَدْ ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ . وَرَبْطُهُ لِلْبُرَاقِ فِي حَلْقَةِ الْبَابِ مِنْ هَذَا الْفَنّ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ بُرَيْدَةَ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمَا أَعْنِي رَبْطَهُ لِلْبُرَاقِ فِي الْحَلْقَةِ الّتِي كَانَتْ تَرْبُطُهُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ غَيْرَ أَنّ الْحَدِيثَ يَرْوِيهِ دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبّرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ .
مَعْنَى قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ مَنْ مَعَك
مَعْنَى قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ مَنْ مَعَك وَمِمّا يُسْأَلُ عَنْهُ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ فِي كُلّ سَمَاءٍ لِجِبْرِيلَ مَنْ مَعَك ، فَيَقُولُ مُحَمّدٌ فَيَقُولُونَ أَوَقَدْ بُعِثَ إلَيْهِ فَيَقُولُ نَعَمْ هَكَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي الصّحَاحِ ، وَمَعْنَى سُؤَالِهِمْ عَنْ الْبَعْثِ إلَيْهِ فِيمَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَيْ قَدْ بُعِثَ إلَيْهِ إلَى السّمَاءِ كَمَا قَدْ وَجَدُوا فِي الْعِلْمِ أَنّهُ سَيُعْرَجُ بِهِ وَلَوْ أَرَادُوا بَعْثَهُ إلَى الْخَلْقِ لَقَالُوا : أَوَقَدْ بُعِثَ وَلَمْ يَقُولُوا إلَيْهِ مَعَ أَنّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَخْفَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ بَعْثُهُ إلَى الْخَلْقِ فَلَا يَعْلَمُونَ بِهِ إلَى لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ . وَفِي الْحَدِيثِ الّذِي تَقَدّمَ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَيَانٌ أَيْضًا حِينَ ذَكَرَ تَسْبِيحَ مَلَائِكَةِ السّمَاءِ السّابِعَةِ ثُمّ تَسْبِيحُ مَلَائِكَةِ كُلّ سَمَاءٍ ثُمّ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا : مِمّ سَبّحْتُمْ حَتّى يَنْتَهِي السّؤَالُ إلَى مَلَائِكَةِ السّمَاءِ السّابِعَةِ فَيَقُولُونَ قَضَى رَبّنَا فِي خَلْفِهِ كَذَا ، ثُمّ يَنْتَهِي الْخَبَرُ إلَى سَمَاءِ الدّنْيَا - الْحَدِيثُ بِطُولِهِ وَفِي هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ عَلِمَتْ بِنُبُوّةِ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ نُبّئَ وَإِنّمَا قَالَتْ أَوَقَدْ بُعِثَ إلَيْهِ أَيْ قَدْ بُعِثَ إلَيْهِ بِالْبُرَاقِ كَمَا تَقَدّمَ عَلَى أَنّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنّ مَلَائِكَةَ سَمَاءِ الدّنْيَا قَالَتْ لِجِبْرِيلَ أَوَقَدْ بُعِثَ كَمَا وَقَعَ فِي السّيرَةِ وَلَيْسَ فِي أَوّلِ الْحَدِيثِ إلَيْهِ هَذَا إنّمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الرّؤْيَا الّتِي رَآهَا بِقَلْبِهِ كَمَا قَدّمْنَا ، وَأَنّ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ وَفِي هَذَا قُوّةٌ لِمَا تَقَدّمَ مِنْ أَنّ الْإِسْرَاءَ كَانَ رُؤْيَا ، ثُمّ كَانَ رُؤْيَةً وَلِذَلِكَ لَمْ نَجِدْ فِي رِوَايَةٍ مِنْ الرّوَايَاتِ أَنّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا : أَوَقَدْ بُعِثَ إلَيْهِ إلّا فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَاَللّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْحَفَظَةِ
[ ص 196 ] وَذَكَرَ بَابَ الْحَفَظَةِ وَأَنّ عَلَيْهِ مَلَكًا يُقَالُ لَهُ إسْمَاعِيلُ وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهُ فِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ وَفِيهِ أَنّ تَحْتَ يَدِهِ سَبْعُونَ أَلْفِ مَلَكٍ تَحْتَ يَدِ كُلّ مَلَكٍ سَبْعُونَ أَلْفِ مَلَكٍ هَكَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ : اثْنَا عَشَرَ أَلْفِ مَلَكٍ هَكَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ وَفِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ أَيْضًا . وَذَكَرَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى ، فَقَالَ لَوْ غُطّيَتْ بِوَرَقَةِ مِنْ وَرَقِهَا هَذِهِ الْأُمّةُ لَغَطّتْهُمْ وَفِي صِفَتِهَا مِنْ رِوَايَةِ الْجَمِيعِ فَإِذَا ثَمَرُهَا كَقِلَالِ هَجَرَ ، وَفِي حَدِيثِ الْقِلّتَيْنِ مِنْ كِتَابِ الطّهَارَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْج : إذَا كَانَ الْمَاءُ قِلّتَيْنِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ قَالُوا : وَالْقِلّتَانِ مِنْهَا تِسْعَانِ خَمْسمِائَةِ رِطْلٍ قَالَ التّرْمِذِيّ : وَذَلِكَ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِ قِرَبٍ وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ سَلّامٍ قَالَ عَنْ بَعْضِ السّلَفِ إنّهَا سُمّيَتْ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى ، لِأَنّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ يَنْتَهِي بِهِ إلَيْهَا ، فَتُصَلّي عَلَيْهِ هُنَالِكَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرّبُونَ . قَالَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ عِلّيّينَ . آدَم فِي سَمَاءِ الدّنْيَا وَالْأَسْوِدَةُ الّتِي رَآهَا فَصْلٌ وَفِيهِ أَنّهُ رَأَى آدَم فِي سَمَاءِ الدّنْيَا ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ شِمَالِهِ أَسْوِدَةٌ وَأَنّ جِبْرِيلَ أَعْلَمَهُ أَنّ الْأَسْوِدَةَ الّتِي عَنْ يَمِينِهِ هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ : تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرّيّتِهِ فَإِذَا نَظَرَ إلَى الّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذَا ، فَقِيلَ كَيْفَ رَأَى عَنْ يَمِينِهِ أَرْوَاحَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَلَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ إلّا نَفَرٌ قَلِيلٌ وَلَعَلّهُ لَمْ يَكُنْ مَاتَ تِلْكَ اللّيْلَةَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْضِي أَنّهُمْ كَانُوا جَمَاعَةً . فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ إنْ كَانَ الْإِسْرَاءُ رُؤْيَا بِقَلْبِهِ فَتَأْوِيلُهَا أَنّ ذَلِكَ سَيَكُونُ وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَا عَيْنٍ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ وَغَيْرُهُ بِمَعْنَاهُ أَنّ ذَلِكَ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ رَآهَا هُنَالِكَ لِأَنّ اللّهَ تَعَالَى يَتَوَفّى الْخَلْقَ فِي مَنَامِهِمْ كَمَا قَالَ فِي التّنْزِيلِ { اللّهُ يَتَوَفّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } [ الزّمَرُ 43 ] فَصَعِدَ بِالْأَرْوَاحِ إلَى هُنَالِكَ فَرَآهَا ثُمّ أُعِيدَتْ إلَى أَجْسَادِهَا . وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ الّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُدّثّرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : [ ص 197 ] { إِلّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ } [ 39 : 45 ] . قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : هُمْ الْأَطْفَالُ الّذِينَ مَاتُوا صِغَارًا ، وَلِذَلِكَ سَأَلُوا الْمُجْرِمِينَ { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } لِأَنّهُمْ مَاتُوا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِكُفْرِ الْكَافِرِينَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصّحِيحِ أَنّ أَطْفَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي كِفَالَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِجِبْرِيلَ حِينَ رَآهُمْ فِي الرّوْضَةِ مَعَ إبْرَاهِيمَ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ فَقَالَ أَوْلَادُ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يَمُوتُونَ صِغَارًا ، فَقَالَ لَهُ وَأَوْلَادُ الْكَافِرِينَ قَالَ وَأَوْلَادُ الْكَافِرِين خَرّجَهُ الْبُخَارِيّ فِي الْحَدِيثِ الطّوِيلِ مِنْ كِتَابِ الْجَنَائِزِ وَخَرّجَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَقَالَ فِيهِ أَوْلَادُ النّاسِ فَهُوَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوّلِ نَصّ ، وَفِي الثّانِي عُمُومٌ وَقَدْ رُوِيَ فِي أَطْفَالِ الْكَافِرِينَ أَنّهُمْ خَدَمٌ لِأَهْلِ الْجَنّةِ فَعَلَى هَذَا لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الّذِي رَآهُ عَنْ يَمِينِ آدَم مِنْ نَسَمِ ذُرّيّتِهِ أَرْوَاحُ هَؤُلَاءِ وَفِي هَذَا مَا يَدْفَعُ تَشْعِيبَ هَذَا السّؤَالِ وَالِاعْتِرَاضِ مِنْهُ .
مِنْ حُكْمِ الْمَاءِ
فَصْلٌ وَفِيهِ شُرْبُهُ مِنْ إنَاءِ الْقَوْمِ وَهُوَ مُغَطّى ، وَالْمَاءُ وَإِنْ كَانَ لَا يُمْلَكُ وَالنّاسُ شُرَكَاءُ فِيهِ وَفِي النّارِ وَالْكَلَأِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ لَكِنْ الْمُسْتَقَى إذَا أَحْرَزَهُ فِي وِعَائِهِ فَقَدْ مَلَكَهُ فَكَيْفَ اسْتَبَاحَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شُرْبَهُ وَهُوَ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ وَأَمْلَاكُ الْكُفّارِ لَمْ تَكُنْ أُبِيحَتْ يَوْمئِذٍ وَلَا دِمَاؤُهُمْ . فَالْجَوَابُ أَنّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيّةِ كَانَ فِي عُرْفِ الْعَادَةِ عِنْدَهُمْ إبَاحَةُ الرّسُلِ لَابْنِ السّبِيلِ فَضْلًا عَنْ الْمَاءِ وَكَانُوا يَعْهَدُونَ بِذَلِكَ إلَى رِعَائِهِمْ وَيَشْتَرِطُونَهُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ عَقْدِ إجَارَتِهِمْ أَلّا يَمْنَعُوا الرّسُلَ وَهُوَ اللّبَنُ مِنْ أَحَدٍ مَرّ بِهِمْ وَلِلْحُكْمِ فِي الْعُرْفِ فِي الشّرِيعَةِ أُصُولٌ تَشْهَدُ لَهُ وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَخَرّجَ حَدِيثَ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ ، وَفِيهِ خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوف
الصّفّاتُ الّتِي وَصَفَ بِهَا النّبِيّ بَعْضَ الرّسُلِ
[ ص 197 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَزَعَمَ الزّهْرِيّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَصَفَ [ ص 198 ] وَمُوسَى وَعِيسَى حِينَ رَآهُمْ فِي تِلْكَ اللّيْلَةِ فَقَالَ أَمّا إبْرَاهِيمُ فَلَمْ أَرَ رَجُلًا أَشْبَهَ بِصَاحِبِكُمْ وَلَا صَاحِبُكُمْ أَشْبَهَ بِهِ مِنْهُ وَأَمّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَم طَوِيلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ أَفَتَى كَأَنّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ وَأَمّا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، فَرَجُلٌ أَحْمَرُ بَيْنَ الْقَصِيرِ وَالطّوِيلِ سَبْطُ الشّعْرِ كَثِيرُ خِيلَانِ الْوَجْهِ كَأَنّهُ خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ تَخَالُ رَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً وَلَيْسَ بِهِ مَاءٌ أَشَبَهُ رِجَالِكُمْ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثّقَفِيّSعَنْ دُخُولِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَصِفَةُ الْأَنْبِيَاءِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ فِيهِ أَنّهُ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، وَوَجَدَ فِيهِ نَفَرًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَصَلّى بِهِمْ وَفِي [ ص 198 ] أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ صَلّى بِهِمْ وَقَالَ مَا زَالَ مِنْ ظَهْرِ الْبُرَاقِ حَتّى رَأَى الْجَنّةَ وَالنّارَ وَمَا وَعَدَهُ اللّهُ تَعَالَى ، ثُمّ عَادَ إلَى الْأَرْضِ وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ وَرِوَايَةُ مَنْ أَثْبَتَ مُقَدّمَةٌ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ نَفَى ، وَذَكَرَ فِيهِ صِفَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَقَالَ فِي عِيسَى : كَأَنّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ مَاءً وَلَيْسَ بِهِ مَاءٌ وَكَأَنّهُ خَرَجَ مِنْ دِيمَاس وَالدّيمَاسُ الْحَمّامُ وَأَصْلُهُ دِمَاسٌ وَيُجْمَعُ عَلَى دَمَامِيسَ وَقَدْ قِيلَ فِي جَمْعِهِ دَيَامِيسُ وَمِثْلُهُ قِيرَاطٌ وَدِينَارٌ وَدِيبَاجٌ الْأَصْلُ فِيهَا كُلّهَا : التّضْعِيفُ ثُمّ قُلِبَ الْحَرْفُ الْمُدْغَمُ يَاءً فَلَمّا جَمَعُوا وَصَغّرُوا ، رَدّوهُ إلَى أَصْلِهِ فَقَالُوا : قَرَارِيطُ وَدَنَانِيرُ [ وَقُرَيْرِيطٌ وَدُنَيْنِيرٌ ] ، غَيْرَ أَنّهُمْ لَمْ يَقُولُوا : دَنَانِيرُ وَلَا قَيَارِيط ، كَمَا قَالُوا : دَيَامِيسُ وَقَالُوا : دَبَابِيجُ وَدَبَابِيجُ وَأَصْلُ الدّمْسِ التّغْطِيَةُ وَمِنْهُ لَيْلٌ دَامِسٌ وَفِي هَذِهِ الصّفّةِ مِنْ صِفَاتِ عِيسَى عَلَيْهِ السّلَامُ إشَارَةٌ إلَى الرّيّ وَالْخِصْبِ الّذِي يَكُونُ فِي أَيّامِهِ إذْ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَذَكَرَ فِي صِفَةِ مُوسَى أَنّهُ آدَم طُوَالٌ وَلِوَصْفِهِ إيّاهُ بِالْأَدْمَةِ أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى ، قَالَهُ الطّبَرِيّ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ { تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } قَالَ فِي خُرُوجِ يَدِهِ بَيْضَاءَ آيَةٌ فِي أَنْ خَرَجَتْ بَيْضَاءَ مُخَالِفًا لَوْنُهَا لِسَائِرِ لَوْنِ جَسَدِهِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ بَيْنَ عَلَى الْأَدْمَةِ الّتِي هِيَ خِلَافُ الْبَيَاضِ . وَذَكَرَ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ لَمْ أَرَ رَجُلًا أَشَبَهَ بِصَاحِبِكُمْ وَلَا صَاحِبُكُمْ أَشَبَهَ بِهِ مِنْه يَعْنِي : نَفْسَهُ وَفِي آخِرِ هَذَا الْكَلَامِ إشْكَالٌ مِنْ أَجْلِ أَنْ أَشَبَهَ مَنْصُوبٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَكِنْ إذَا فَهِمْت مَعْنَاهُ عَرَفْت إعْرَابَهُ وَمَعْنَاهُ لَمْ أَرَ رَجُلًا أَشَبَهَ بِصَاحِبِكُمْ وَلَا صَاحِبُكُمْ بِهِ مِنْهُ ثُمّ كَرّرَ أَشَبَهَ تَوْكِيدًا فَصَارَتْ لَغْوًا كَالْمُقْحَمِ وَصَاحِبُكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى الضّمِيرِ الّذِي فِي أَشَبَهَ الْأَوّلِ الّذِي هُوَ نَعْتٌ لِرَجُلِ وَحَسُنَ الْعَطْفُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُؤَكّدْ بِهُوَ كَمَا حَسُنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : [ ص 199 ] { مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا } مِنْ أَجْلِ الْفَصْلِ بِلَا النّافِيَةِ وَلَوْ أُسْقِطَ مِنْ الْكَلَامِ أَشَبَهَ الثّانِي ، لَكَانَ حَسَنًا جِدّا ، وَلَوْ أَخّرَ صَاحِبُكُمْ فَقَالَ وَلَا أَشَبَهَ بِهِ صَاحِبُكُمْ مِنْهُ لَجَازَ وَيَكُونُ فَاعِلًا بِأَشْبَهَ الثّانِيَةِ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ مَا رَأَيْت رَجُلًا أَحْسَنَ فِي عَيْنِهِ الْكُحْلُ مِنْ زَيْدٍ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَذْرَاءُ لَمْ تَفْتَرِعْهَا أَيْدِي النّحَاةِ بَعْدُ وَلَمْ يَشْفِ مِنْهَا مُتَقَدّمٌ مِنْهُمْ وَلَا مُتَأَخّرٌ مَنْ رَأَيْنَا كَلَامَهُ فِيهَا وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ فِيهَا تَحْقِيقًا شَافِيًا .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [ ص 199 ] وَكَانَتْ صِفَةُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا - ذَكَرَ عُمَرُ مَوْلَى غُفْرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ كَانَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ إذَا نَعَتَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لَمْ يَكُنْ بِالطّوِيلِ الْمُمّغِطِ ، وَلَا الْقَصِيرِ الْمُتَرَدّدِ وَكَانَ رَبْعَةً مِنْ الْقَوْمِ ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلَا السّبْطِ كَانَ جَعْدًا رَجُلًا ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْمُطَهّمِ وَلَا الْمُكَلْثَمِ وَكَانَ أَبْيَضَ مُشْرَبًا ، أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ أَهْدَبَ الْأَشْفَارِ جَلِيلَ الْمُشَاشِ الْكَتَدِ دَقِيقَ الْمَسْرُبَةِ أَجْرَدَ شَثْنَ الْكَفّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ إذَا مَشَى تَقَلّعَ ، كَأَنّمَا يَمْشِي فِي صَبَبٍ وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعًا ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النّبُوّةِ وَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَاتَمُ النّبِيّينَ أَجْوَدَ النّاسِ كَفّا ، وَأَجْرَأَ النّاسِ صَدْرًا ، وَأَصْدَقَ النّاسِ لَهْجَةً وَأَوْفَى النّاسِ ذِمّةً وَأَلْيَنَهُمْ عَرِيكَةً وَأَكْرَمَهُمْ عِشْرَةً مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ وَمَنْ خَالَطَهُ أَحَبّهُ يَقُولُ نَاعَتْهُ لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَSصِفَةُ النّبِيّ فَصْلٌ وَذَكَرَ فِي صِفَةِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِمّا نَعَتَهُ بِهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَمْ يَكُنْ بِالطّوِيلِ الْمُمّغِطِ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرّوَايَةِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَذَكَرَ الْأَوْصَافَ إلَى آخِرِهَا وَقَدْ شَرَحَهَا أَبُو عُبَيْدٍ ، فَقَالَ عَنْ الْأَصْمَعِيّ ، وَالْكِسَائِيّ وَأَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِ وَاحِدٍ قَوْلُهُ لَيْسَ بِالطّوِيلِ الْمُمّعِطِ أَيْ لَيْسَ بِالْبَائِنِ الطّوِيلِ وَلَا الْقَصِيرِ الْمُتَرَدّدِ يَعْنِي : الّذِي تَرَدّدَ خَلْقُهُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَهُوَ مُجْتَمَعٌ لَيْسَ بِسَبْطِ الْخَلْقِ يَقُولُ فَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ رَبْعَةٌ بَيْنَ الرّجُلَيْنِ وَهَكَذَا صِفَتُهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ ضَرَبَ اللّحْمُ بَيْنَ الرّجُلَيْنِ . وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِالْمُطَهّمِ قَالَ الْأَصْمَعِيّ : هُوَ التّامّ كُلّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ فَهُوَ بَارِعُ الْجَمَالِ وَقَالَ غَيْرُ الْأَصْمَعِيّ الْمُكَلْثَمُ الْمُدَوّرُ الْوَجْهُ يَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنّهُ مَسْنُونٌ وَقَوْله : مُشْرَبٌ يَعْنِي الّذِي أُشْرِبَ حُمْرَةً وَالْأَدْعَجُ الْعَيْنُ الشّدِيدُ سَوَادِ الْعَيْنِ قَالَ الْأَصْمَعِيّ : الدّعْجَةُ هِيَ السّوَادُ وَالْجَلِيلُ الْمُشَاشُ : الْعَظِيمُ الْعِظَامِ مِثْلَ الرّكْبَتَيْنِ وَالْمِرْفَقَيْنِ وَالْمَنْكِبَيْنِ وَقَوْلُهُ الْكَتَدُ هُوَ الْكَاهِلُ وَمَا يَلِيهِ مِنْ جَسَدِهِ وَقَوْلُهُ شَثْنُ الْكَفّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ يَعْنِي : أَنّهُمَا [ ص 200 ] وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِالسّبْطِ وَلَا الْجَعْدِ الْقَطَطِ فَالْقَطَطُ الشّدِيدُ الْجُعُودَةُ مِثْلُ شُعُورِ الْحَبَشَةِ ، وَوَقَعَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِأَبِي عُبَيْدٍ التّامّ كُلّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ . يَقُول : لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنّهُ بَارِعُ الْجَمَالِ فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَعْنِي : لَيْسَ كَذَلِكَ مُخِلّةً بِالشّرْحِ وَقَدْ وَجَدْته فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ بِإِسْقَاطِ يَقُولُ كَذَلِكَ وَلَكِنْ عَلَى نَصّ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا . [ ص 201 ]
رُؤْيَةُ النّبِيّ رَبّهُ
فَصْلٌ وَقَدْ تَكَلّمَ الْعُلَمَاءُ فِي رُؤْيَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِرَبّهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَرَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا أَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ رَآهُ وَقَالَتْ مَنْ زَعَمَ أَنّ مُحَمّدًا رَأَى رَبّهُ ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللّهِ الْفِرْيَةَ وَاحْتَجّتْ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } [ الْأَنْعَامَ 103 ] وَفِي مُصَنّفِ التّرْمِذِي ّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنّهُ رَآهُ قَالَ كَعْبٌ إنّ اللّهَ قَسّمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ بَيْنَ مُوسَى وَمُحَمّدٍ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرّ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ هَلْ رَأَيْت رَبّك ؟ قَالَ رَأَيْت نُورًا ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ أَنّهُ قَالَ نُورًا أَنّى أَرَاهُ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ شَافٍ أَنّهُ رَآهُ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيّ أَنّهُ قَالَ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ وَفِي تَفْسِيرِ النّقّاشِ عَنْ ابْنِ حَنْبَلٍ أَنّهُ سُئِلَ هَلْ رَأَى مُحَمّدٌ رَبّهُ فَقَالَ رَآهُ رَآهُ رَآهُ حَتّى انْقَطَعَ صَوْتُهُ وَفِي تَفْسِيرِ عَبْدِ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ وَذَكَرَ إنْكَارَ عَائِشَةَ أَنّهُ رَآهُ فَقَالَ الزّهْرِيّ : لَيْسَتْ عَائِشَةُ أَعْلَمَ عِنْدَنَا مِنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ سَلَامٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنّهُ كَانَ إذْ ذُكِرَ إنْكَارُ عَائِشَةَ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - رَأَى رَبّهُ يَشْتَدّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَقَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ رَآهُ ؟ رَوَى يُونُسُ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ سَأَلَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ هَلْ رَأَى مُحَمّدٌ رَبّهُ ؟ قَالَ نَعَمْ وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ أَنّ ابْنَ عُمَرَ أَرْسَلَ إلَى ابْنِ عَبّاسٍ يَسْأَلُهُ هَلْ رَأَى مُحَمّدٌ رَبّهُ ؟ فَقَالَ نَعَمْ رَآهُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَكَيْفَ رَآهُ فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ كَلَامًا كَرِهْت أَنْ أُورِدَهُ بِلَفْظِهِ لِمَا يُوهِمُ مِنْ التّشْبِيهِ وَلَوْ صَحّ لَكَانَ لَهُ تَأْوِيلٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَالتّحْصِيلُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أَنّهُ رَآهُ لَا عَلَى أَكْمَلِ مَا تَكُونُ الرّؤْيَةُ عَلَى نَحْوِ مَا يَرَاهُ فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ عِنْدَ الْكَرَامَةِ الْعُظْمَى وَالنّعِيمِ الْأَكْبَرِ وَلَكِنْ دُونَ ذَلِكَ وَإِلَى هَذَا يُومِي قَوْلُهُ رَأَيْت نُورًا وَنُورًا أَنّى أَرَاهُ فِي الرّؤْيَةِ الْأُخْرَى وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 202 ] وَأَمّا الدّنُوّ وَالتّدَلّي فَهُمَا خَبَرٌ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ بَعْضِ الْمُفَسّرِينَ وَقِيلَ إنّ الّذِي تَدَلّى هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ تَدَلّى إلَى مُحَمّدٍ حَتّى دَنَا مِنْهُ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ أَيْضًا ، وَفِي الْجَامِعِ الصّحِيحِ فِي إحْدَى الرّوَايَاتِ مِنْهُ فَتَدَلّى الْجَبّارُ وَهَذَا مَعَ صِحّةِ نَقْلِهِ لَا يَكَادُ أَحَدٌ مِنْ الْمُفَسّرِينَ يَذْكُرُهُ لِاسْتِحَالَةِ ظَاهِرِهِ أَوْ لِلْغَفْلَةِ عَنْ مَوْضِعِهِ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ لِأَنّ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ إنْ كَانَ رُؤْيَا رَآهَا بِقَلْبِهِ وَعَيْنُهُ نَائِمَةٌ - كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فَلَا إشْكَالَ فِيمَا يَرَاهُ فِي نَوْمِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَدْ رَآهُ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَوَضَعَ كَفّهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ حَتّى وَجَدَ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ رَوَاهُ التّرْمِذِيّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَلَمّا كَانَتْ هَذِهِ رُؤْيَا لَمْ يُنْكِرْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا اسْتَبْشَعَهَا ، وَقَدْ بَيّنّا آنِفًا أَنّ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ كَانَ رُؤْيَا ثُمّ كَانَ يَقَظَةً فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ فَتَدَلّى الْجَبّارُ فِي الْمَرّةِ الّتِي كَانَ فِيهَا غَيْرَ نَائِمٍ وَكَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ فَيُقَالُ فِيهِ مِنْ التّأْوِيلِ مَا يُقَالُ فِي قَوْلِهِ يَنْزِلُ رَبّنَا كُلّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدّنْيَا فَلَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْهُ فِي بَابِ التّأْوِيلِ فَلَا نَكَارَةَ فِيهِ كَانَ فِي نَوْمٍ أَوْ يَقَظَةٍ وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى تَمَامِ هَذَا الْمَعْنَى فِي شَرْحِ مَا تَضَمّنَهُ لَفْظُ الْقَوْسَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ قَابَ قَوْسَيْنِ فِي جُزْءٍ أَمْلَيْنَاهُ فِي شَرْحِ سُبْحَانَ اللّهِ وَبِحَمْدِهِ تَضَمّنَ لَطَائِفَ مِنْ مَعْنَى التّقْدِيسِ وَالتّسْبِيحِ فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ وَأَمْلَيْنَا أَيْضًا فِي مَعْنَى رُؤْيَةِ الرّبّ سُبْحَانَهُ فِي الْمَنَامِ وَفِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ مَسْأَلَةً لِقِنَاعِ الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ كَاشِفَةً فَمَنْ أَرَادَ فَهْمَ الرّؤْيَةِ وَالرّؤْيَا فَلْيَنْظُرْهَا هُنَالِكَ وَيُقَوّي مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَعْنَى إضَافَةِ التّدَلّي إلَى الرّبّ سُبْحَانَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيّ مَا رَوَاهُ ابْنُ سُنْجُرَ مُسْنَدًا إلَى شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ ، قَالَ لَمّا صَعِدَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى السّمَاءِ فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ، فَلَمّا أَحَسّ جِبْرِيلُ بِدُنُوّ الرّبّ خَرّ سَاجِدًا ، فَلَمْ يَزَلْ يُسَبّحُ سُبْحَانَ رَبّ الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ حَتّى قَضَى اللّهُ إلَى عَبْدِهِ مَا قَضَى ، قَالَ ثُمّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَرَأَيْته فِي خَلْقِهِ الّذِي خُلِقَ عَلَيْهِ مَنْظُومًا أَجْنِحَتُهُ بِالزّبَرْجَدِ وَاللّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ فَخُيّلَ إلَيّ أَنّ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ قَدْ سَدّ الْأُفُقَيْنِ وَكُنْت لَا أَرَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ إلّا عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ وَكُنْت أَكْثَرَ مَا أَرَاهُ عَلَى صُورَةِ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ وَكَانَ أَحْيَانًا لَا يَرَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ إلّا كَمَا يَرَى الرّجُلُ صَاحِبَهُ مِنْ وَرَاءِ الْغِرْبَالِ . [ ص 203 ]
لِقَاؤُهُ لِلنّبِيّينَ
فَصْلٌ وَمِمّا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَتَكَلّمَ فِيهِ لِقَاؤُهُ لِآدَمَ فِي السّمَاءِ الدّنْيَا ، وَلِإِبْرَاهِيمَ فِي السّمَاءِ السّابِعَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الّذِينَ لَقِيَهُمْ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ السّمَاءَيْنِ وَالْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالسّمَاءِ الّتِي رَآهُ فِيهَا ، وَسُؤَالٌ آخَرُ فِي اخْتِصَاصِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ بِاللّقَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ رَأَى الْأَنْبِيَاءَ كُلّهُمْ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ بِالذّكْرِ ؟ وَقَدْ تَكَلّمَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطّالٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ عَلَى هَذَا السّؤَالِ فَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا ، وَمَغْزَى كَلَامِهِ الّذِي أَشَارَ إلَيْهِ أَنّ الْأَنْبِيَاءَ لَمّا عَلِمُوا بِقُدُومِهِ عَلَيْهِمْ ابْتَدَرُوا إلَى لِقَائِهِ ابْتِدَارَ أَهْلِ الْغَائِبِ لِلْغَائِبِ الْقَادِمِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْرَعَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْطَأَ . إلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ وَاَلّذِي أَقُولُ فِي هَذَا : إنّ مَأْخَذَ فَهْمِهِ مِنْ عِلْمِ التّعْبِيرِ فَإِنّهُ مِنْ عِلْمِ [ ص 204 ] حَالَ ذَلِكَ النّبِيّ مِنْ شِدّةٍ أَوْ رَخَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الّتِي أُخْبِرَ بِهَا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ. وَحَدِيثُ الْإِسْرَاءِ كَانَ بِمَكّةَ وَهِيَ حَرَمُ اللّهِ وَأَمْنُهُ وَقُطّانُهَا جِيرَانُ اللّهِ لِأَنّ فِيهَا بَيْتَهُ فَأَوّلُ مَا رَأَى عَلَيْهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ آدَمُ الّذِي كَانَ فِي أَمْنِ اللّهِ وَجِوَارِهِ فَأَخْرَجَهُ عَدُوّهُ إبْلِيسُ مِنْهَا ، وَهَذِهِ الْقِصّةُ تُشْبِهُهَا الْحَالَةُ الْأُولَى مِنْ أَحْوَالِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ أَخْرَجَهُ أَعْدَاؤُهُ مِنْ حَرَمِ اللّهِ وَجِوَارِ بَيْتِهِ فَكَرَبَهُ ذَلِكَ وَغَمّهُ . وَأَشْبَهَتْ قِصّتُهُ فِي هَذَا قِصّةَ آدَمَ مَعَ أَنّ آدَمَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرّيّتِهِ الْبَرّ وَالْفَاجِرِ مِنْهُمْ فَكَانَ فِي السّمَاءِ الدّنْيَا بِحَيْثُ يَرَى الْفَرِيقَيْنِ لِأَنّ أَرْوَاحَ أَهْلِ الشّقَاءِ لَا تَلِجُ فِي السّمَاءِ وَلَا تُفَتّحُ لَهُمْ أَبْوَابُهَا كَمَا قَالَ اللّهُ تَعَالَى ، ثُمّ رَأَى فِي الثّانِيَةِ عِيسَى وَيَحْيَى وَهُمَا الْمُمْتَحَنَانِ بِالْيَهُودِ أَمَا عِيسَى فَكَذّبَتْهُ الْيَهُودُ وَآذَتْهُ وَهَمّوا بِقَتْلِهِ فَرَفَعَهُ اللّهُ وَأَمّا يَحْيَى فَقَتَلُوهُ وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَعْدَ انْتِقَالِهِ إلَى الْمَدِينَةِ صَارَ إلَى حَالَةٍ ثَانِيَةٍ مِنْ الِامْتِحَانِ وَكَانَتْ مِحْنَتُهُ فِيهَا بِالْيَهُودِ آذَوْهُ وَظَاهَرُوا عَلَيْهِ وَهَمّوا بِإِلْقَاءِ الصّخْرَةِ عَلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ فَنَجّاهُ اللّهُ تَعَالَى كَمَا نَجّى عِيسَى مِنْهُمْ ثُمّ سَمّوهُ فِي الشّاةِ فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ الْأَكْلَةُ تُعَاوِدُهُ حَتّى قَطَعَتْ أَبْهَرَهُ كَمَا قَالَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهَكَذَا فَعَلُوا بِابْنَيْ الْخَالَةِ عِيسَى وَيَحْيَى ، لِأَنّ أُمّ يَحْيَى أَشْيَاعُ بِنْتُ عِمْرَانَ أُخْتُ مَرْيَمَ ، أُمّهُمَا : حَنّةُ وَأَمّا لِقَاؤُهُ لِيُوسُفَ فِي السّمَاءِ الثّالِثَةِ فَإِنّهُ يُؤْذِنُ بِحَالَةِ ثَالِثَةٍ تُشْبِهُ حَالَ يُوسُفَ ، وَذَلِك بِأَنّ يُوسُفَ ظَفِرَ بِإِخْوَتِهِ بَعْدَمَا أَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانَيْهِمْ فَصَفَحَ عَنْهُمْ وَقَالَ { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ } الْآيَةَ وَكَذَلِك نَبِيّنَا - عَلَيْهِ السّلَامُ - أَسَرَ يَوْمَ بَدْرٍ جُمْلَةً مِنْ أَقَارِبِهِ الّذِينَ أَخْرَجُوهُ فِيهِمْ عَمّهُ الْعَبّاسُ وَابْنُ عَمّهِ عَقِيلٌ فَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ فِدَاءَهُ ثُمّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَامَ الْفَتْحِ فَجَمَعَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ أَقُولُ مَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } ثُمّ لِقَاؤُهُ لِإِدْرِيسَ فِي السّمَاءِ الرّابِعَةِ وَهُوَ الْمَكَانُ الّذِي سَمّاهُ اللّهُ مَكَانًا عَلِيّا ، وَإِدْرِيسُ أَوّلُ مَنْ آتَاهُ اللّهُ الْخَطّ بِالْقَلَمِ فَكَانَ ذَلِكَ مُؤْذِنًا بِحَالَةِ رَابِعَةٍ وَهِيَ عُلُوّ شَأْنِهِ - عَلَيْهِ السّلَامُ - حَتّى أَخَافَ الْمُلُوكَ وَكَتَبَ إلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى طَاعَتِهِ حَتّى قَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَهُوَ عِنْدَ مَلِكِ الرّومِ ، حِين جَاءَهُ كِتَابٌ لِلنّبِيّ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَرَأَى [ ص 205 ] هِرَقْلَ : لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ ، حَتّى أَصْبَحَ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ وَكُتِبَ عَنْهُ بِالْقَلَمِ إلَى جَمِيعِ مُلُوكِ الْأَرْضِ فَمِنْهُمْ مَنْ اتّبَعَهُ عَلَى دِينِهِ كَالنّجَاشِيّ وَمَلِكِ عُمَانَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ هَادَنَهُ وَأَهْدَى إلَيْهِ وَأَتْحَفَهُ كَهِرَقْلَ وَالْمُقَوْقَسِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَعَصّى عَلَيْهِ فَأَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ فَهَذَا مَقَامٌ عَلِيّ ، وَخَطّ بِالْقَلَمِ كَنَحْوِ مَا أُوتِيَ إدْرِيسُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَلِقَاؤُهُ فِي السّمَاءِ الْخَامِسَةِ لِهَارُونَ الْمُحَبّبِ فِي قَوْمِهِ يُؤْذِنُ بِحُبّ قُرَيْشٍ ، وَجَمِيعِ الْعَرَبِ لَهُ بَعْدَ بُغْضِهِمْ فِيهِ وَلِقَاؤُهُ فِي السّمَاءِ السّادِسَةِ لِمُوسَى يُؤْذِنُ بِحَالَةِ تُشْبِهُ حَالَةَ مُوسَى حِينَ أَمَرَ بِغَزْوِ الشّامِ فَظَهَرَ عَلَى الْجَبَابِرَةِ الّذِينَ كَانُوا فِيهَا ، وَأَدْخَلَ بَنِي إسْرَائِيلَ الْبَلَدَ الّذِي خَرَجُوا مِنْهُ بَعْدَ إهْلَاكِ عَدُوّهِمْ وَكَذَلِك غَزَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - تَبُوكَ مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، وَظَهَرَ عَلَى صَاحِبِ دَوْمَةَ حَتّى صَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ بَعْد أَنْ أُتِيَ بِهِ أَسِيرًا ، وَافْتَتَحَ مَكّةَ ، وَدَخَلَ أَصْحَابُهُ الْبَلَدَ الّذِي خَرَجُوا مِنْهُ ثُمّ لِقَاؤُهُ فِي السّمَاءِ السّابِعَةِ لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - لِحِكْمَتَيْنِ إحْدَاهُمَا : أَنّهُ رَآهُ عِنْدَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلَيْهِ وَالْبَيْتُ الْمَعْمُورُ حِيَالَ مَكّةَ ، وَإِلَيْهِ تَحُجّ الْمَلَائِكَةُ كَمَا أَنّ إبْرَاهِيمَ هُوَ الّذِي بَنَى الْكَعْبَةَ ، وَأَذّنَ فِي النّاسِ بِالْحَجّ إلَيْهَا وَالْحِكْمَةُ الثّانِيَةُ أَنّ آخِرَ أَحْوَالِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَجّهُ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، وَحَجّ مَعَهُ نَحْوٌ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرُؤْيَةُ إبْرَاهِيمَ عِنْدَ أَهْلِ التّأْوِيلِ تُؤْذِنُ بِالْحَجّ لِأَنّهُ الدّاعِي إلَيْهِ وَالرّافِعُ لِقَوَاعِدِ الْكَعْبَةِ الْمَحْجُوبَةِ فَقَدْ انْتَظَمَ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْجَوَابُ عَنْ السّؤَالَيْنِ الْمُتَقَدّمَيْنِ أَحَدُهُمَا : السّؤَالُ عَنْ تَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ بِالذّكْرِ وَالْآخَرُ السّؤَالُ عَنْ تَخْصِيصِهِمْ بِهَذِهِ الْأَمَاكِنِ مِنْ السّمَاءِ الدّنْيَا إلَى السّابِعَةِ وَكَانَ الْحَزْمُ تَرْكَ التّكَلّفِ لِتَأْوِيلِ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصّ عَنْ السّلَفِ وَلَكِنْ عَارَضَ هَذَا الْغَرَضُ مَا يَجِبُ مِنْ التّفْكِيرِ فِي حِكْمَةِ اللّهِ وَالتّدَبّرِ لِآيَاتِ اللّهِ وَقَوْلُ اللّهِ تَعَالَى : { إِنّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ } وَقَدْ رُوِيَ أَنّ " تَفَكّرَ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَة " مَا لَمْ يَكُنْ النّظَرُ وَالتّفْكِيرُ مُجَرّدًا مِنْ مُلَاحَظَةِ الْكِتَابِ وَالسّنّةِ وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْعَرَبِ ، فَعِنْدَ [ ص 206 ] عَصَمَنَا اللّهُ - تَعَالَى - مِنْ ذَلِكَ وَجَعَلَنَا مِنْ الْمُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } وَلْيَدّبّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ وَلَوْلَا إسْرَاعُ النّاسِ إلَى إنْكَارِ مَا جَهِلُوهُ وَغِلَظُ الطّبَاعِ عَنْ فَهْمِ كَثِيرٍ مِنْ الْحِكْمَةِ لَأَبْدَيْنَا مِنْ سِرّ هَذَا السّؤَالِ وَكَشَفْنَا عَنْ الْحِكْمَةِ فِي هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ أَكْثَرَ مِمّا كَشَفْنَا .
الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ ، وَأَنّهُ يَدْخُلُهُ كُلّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ رَوَى ابْنُ سُنْجُرَ عَنْ عَلِيّ - رَحِمَهُ اللّهُ - قَالَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ بَيْتٌ فِي السّمَاءِ السّابِعَةِ يُقَالُ لَهُ الضّرَاحُ وَاسْمُ السّمَاءِ السّابِعَةِ عَرِيبَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ إلَى وَهْبِ بْنِ مُنَبّهٍ قَالَ مَنْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَانَ لَهُ نُورٌ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ عَرِيبَاءَ وَجَرِيبَاءَ وَجَرِيبَا ، وَهِيَ الْأَرْضُ السّابِعَةُ وَذَكَرَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ قَالَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ دِحْيَةٍ عِنْدَ كُلّ دِحْيَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو التّيّاحِ [ يَزِيدُ الضّبَعِيّ ] قَالَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْت مَا الدّحْيَةُ ؟ قَالَ الرّئِيسُ وَرَوَى ابْنُ سُنْجُرَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ فِي السّمَاءِ السّابِعَةِ بَيْتٌ يُقَالُ لَهُ الْمَعْمُورُ بِحِيَالِ مَكّةَ ، وَفِي السّمَاءِ السّابِعَةِ نَهَرٌ يُقَالُ لَهُ الْحَيَوَانُ يَدْخُلُهُ جِبْرِيلُ كُلّ يَوْمٍ فَيَنْغَمِسُ فِيهِ انْغِمَاسَةً ثُمّ يَخْرُجُ فَيَنْتَفِضُ انْتِفَاضَةً يَخِرّ عَنْهُ سَبْعُونَ أَلْفَ قَطْرَةٍ يَخْلُقُ اللّهُ مِنْ كُلّ قَطْرَةٍ مَلَكًا وَيُؤْمَرُونَ أَنْ يَأْتُوا الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ وَيُصَلّوا فِيهِ فَيَفْعَلُونَ ثُمّ يَخْرُجُونَ فَلَا يَعُودُونَ إلَيْهِ أَبَدًا ، [ وَ ] يُوَلّى عَلَيْهِمْ أَحَدُهُمْ يُؤْمَرُ أَنْ يَقِفَ بِهِمْ مِنْ السّمَاءِ مَوْقِفًا يُسَبّحُونَ اللّهَ [ فِيهِ ] إلَى أَنْ تَقُومَ السّاعَةُ " .
حَدِيثُ أُمّ هَانِئٍ عَنْ الْإِسْرَاءِ
[ ص 200 ] قَالَ مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ وَكَانَ - فِيمَا بَلَغَنِي - عَنْ أُمّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - وَاسْمُهَا : هِنْدٌ - فِي مَسْرَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهَا كَانَتْ تَقُولُ مَا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلّا وَهُوَ فِي بَيْتِي ، نَائِمٌ عِنْدِي تِلْكَ اللّيْلَةَ فِي بَيْتِي ، فَصَلّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ ثُمّ نَامَ وَنِمْنَا ، فَلَمّا كَانَ قُبَيْلَ الْفَجْرِ أَهَبّنَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَلَمّا صَلّى الصّبْحَ وَصَلّيْنَا مَعَهُ قَالَ " يَا أُمّ هَانِئٍ لَقَدْ صَلّيْت مَعَكُمْ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ كَمَا رَأَيْت بِهَذَا الْوَادِي ، ثُمّ جِئْت بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلّيْت فِيهِ ثُمّ قَدْ صَلّيْت صَلَاةَ الْغَدَاةِ مَعَكُمْ الْآنَ كَمَا تَرَيْنَ " ، ثُمّ قَامَ لِيَخْرُجَ فَأَخَذْت بِطَرَفِ رِدَائِهِ فَتَكَشّفَ عَنْ بَطْنِهِ كَأَنّهُ قِبْطِيّةٌ مَطْوِيّةٌ فَقُلْت لَهُ يَا نَبِيّ اللّهِ لَا تُحَدّثُ بِهَذَا النّاسَ فَيُكَذّبُوك وَيُؤْذُوك ، قَالَ " وَاَللّهِ لَأُحدّثُنّهموه " . قَالَتْ فَقُلْت لِجَارِيَةِ لِي حَبَشِيّةٍ وَيْحَك اتّبِعِي رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَتّى تَسْمَعِي مَا يَقُولُ النّاسُ وَمَا يَقُولُونَ لَهُ . فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى النّاسِ أَخْبَرَهُمْ فَعَجِبُوا وَقَالُوا : مَا آيَةُ ذَلِكَ يَا مُحَمّدُ ؟ فَإِنّا لَمْ نَسْمَعْ بِمِثْلِ هَذَا قَطّ ، قَالَ " آيَةُ ذَلِكَ أَنّي مَرَرْت بِعِيرِ بَنِي فُلَانٍ بِوَادِي كَذَا وَكَذَا ، فَأَنْفَرَهُمْ حِسّ الدّابّةِ فَنَدّ لَهُمْ بَعِيرٌ فَدَلَلْتهمْ عَلَيْهِ وَأَنَا مُوَجّهٌ إلَى الشّامِ . ثُمّ أَقْبَلْت حَتّى إذَا كُنْت بِضَجَنَانَ مَرَرْت بِعِيرِ بَنِي فُلَانٍ فَوَجَدْت الْقَوْمَ نِيَامًا ، وَلَهُمْ إنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ قَدْ غَطّوْا عَلَيْهِ بِشَيْءِ فَكَشَفْت غِطَاءَهُ وَشَرِبْت مَا فِيهِ ثُمّ غَطّيْت عَلَيْهِ كَمَا كَانَ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنّ عِيرَهُمْ الْآنَ تَصُوبُ مِنْ الْبَيْضَاءِ ، ثَنِيّةُ التّنْعِيمِ يَقْدَمُهَا جَمْلٌ أَوْرَقُ عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ إحْدَاهُمَا سَوْدَاءُ وَالْأُخْرَى بَرْقَاءُ " . قَالَتْ فَابْتَدَرَ الْقَوْمُ الثّنِيّةَ ، فَلَمْ يَلْقَهُمْ أَوّلُ مِنْ الْجَمَلِ كَمَا وُصِفَ لَهُمْ وَسَأَلُوهُمْ عَنْ الْإِنَاءِ فَأَخْبَرُوهُمْ أَنّهُمْ وَضَعُوهُ مَمْلُوءًا مَاءً ثُمّ غَطّوْهُ وَأَنّهُمْ هَبّوا فَوَجَدُوهُ مُغَطّى كَمَا غَطّوْهُ وَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ مَاءً . وَسَأَلُوا الْآخَرِينَ وَهُمْ بِمَكّةَ فَقَالُوا : صَدَقَ وَاَللّهِ لَقَدْ أُنْفِرْنَا فِي الْوَادِي الّذِي ذَكَرَهُ وَنَدّ لَنَا بَعِيرٌ فَسَمِعْنَا صَوْتَ رَجُلٍ يَدْعُونَا إلَيْهِ حَتّى أَخَذْنَاهُ . فَقُلْت لِجِبْرِيلَ يَا جِبْرِيلُ مُرْهُ فَلْيَرُدّهَا إلَى مَكَانِهَا . قَالَ فَأَمَرَهُ فَقَالَ لَهَا : اُخْبِي ، فَرَجَعَتْ إلَى مَكَانِهَا الّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ . فَمَا شَبّهْت رُجُوعَهَا إلّا وُقُوعِ الظّلّ . حَتّى إذَا دَخَلَتْ مِنْ حَيْثُ خَرَجَتْ رَدّ عَلَيْهَا غِطَاءَهَا [ ص 201 ] قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ فِي حَدِيثِهِ إنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ " لَمّا دَخَلْت السّمَاءَ الدّنْيَا ، رَأَيْت بِهَا رَجُلًا جَالِسًا تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ فَيَقُولُ لِبَعْضِهَا ، إذَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَيُسَرّ بِهِ وَيَقُولُ رُوحٌ طَيّبَةٌ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدٍ طَيّبٍ وَيَقُولُ لِبَعْضِهَا إذَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ أُفّ وَيَعْبِسُ بِوَجْهِهِ وَيَقُولُ رُوحٌ خَبِيثَةٌ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدٍ خَبِيثٍ . قَالَ قُلْت : مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَذَا أَبُوك آدَمُ ، تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرّيّتِهِ فَإِذَا مَرّتْ بَهْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ مِنْهُمْ سُرّ بِهَا : وَقَالَ رُوحٌ طَيّبَةٌ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدٍ طَيّبٍ . وَإِذَا مَرّتْ بِهِ رُوحُ الْكَافِرِ مِنْهُمْ أَفّفَ مِنْهَا ، وَكَرِهَهَا ، وَسَاءَ ذَلِكَ وَقَالَ رُوحٌ خَبِيثَةٌ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدٍ خَبِيثٍ [ ص 202 ] قَالَ ثُمّ رَأَيْت رِجَالًا لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الْإِبِلِ فِي أَيْدِيهِمْ قِطَعٌ مِنْ نَارٍ كَالْأَفْهَارِ يَقْذِفُونَهَا فِي أَفْوَاهِهِمْ فَتَخْرُجُ مِنْ أَدْبَارِهِمْ . فَقُلْت : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى ظُلْمًا [ ص 203 ] قَالَ ثُمّ رَأَيْت رِجَالًا لَهُمْ بُطُونٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا قَطّ بِسَبِيلِ آلِ فِرْعَوْنَ ، يَمُرّونَ عَلَيْهِمْ كَالْإِبِلِ الْمَهْيُومَةِ حِينَ يُعْرَضُونَ عَلَى النّارِ يَطَئُونَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَتَحَوّلُوا مِنْ مَكَانِهِمْ ذَلِكَ . قَالَ قُلْت : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرّبَا . قَالَ ثُمّ رَأَيْت رِجَالًا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لَحْمٌ ثَمِينٌ طَيّبٌ إلَى جَنْبِهِ لَحْمٌ غَثّ مُنْتِنٌ يَأْكُلُونَ مِنْ الْغَثّ الْمُنْتِنِ وَيَتْرُكُونَ السّمِينَ الطّيّبَ . قَالَ قُلْت : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الّذِينَ يَتْرُكُونَ مَا أَحَلّ اللّهُ لَهُمْ مِنْ النّسَاءِ وَيَذْهَبُونَ إلَى مَا حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْهُنّ . قَالَ ثُمّ رَأَيْت نِسَاءً مُعَلّقَاتٍ بِثُدِيّهِنّ فَقُلْت : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ اللّاتِي أَدْخَلْنَ عَلَى الرّجَالِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرٍو ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ " اشْتَدّ غَضَبُ اللّهِ عَلَى امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَأَكَلَ حَرَائِبَهُمْ وَاطّلَعَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ " . عَوْدٌ إلَى حَدِيثِ الْخُدْرِيّ ثُمّ رَجَعَ إلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ " ثُمّ أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ الثّانِيَةِ ، فَإِذَا فِيهَا ابْنَا الْخَالَةِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، وَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيّا ، قَالَ ثُمّ أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ الثّالِثَةِ فَإِذَا فِيهَا رَجُلٌ صُورَتُهُ كَصُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَالَ قُلْت : مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَذَا أَخُوك يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ . قَالَ ثُمّ أَصْعَدَنِي [ ص 204 ] الرّابِعَةِ فَإِذَا فِيهَا رَجُلٌ فَسَأَلْته : مَنْ هُوَ ؟ قَالَ هَذَا إدْرِيسُ - قَالَ يَقُولُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيّا } - قَالَ ثُمّ أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَإِذَا فِيهَا كَهْلٌ أَبْيَضُ الرّأْسِ وَاللّحْيَةِ عَظِيمُ الْعُثْلُونِ لَمْ أَرَ كَهْلًا أَجْمَلَ مِنْهُ قَالَ قُلْت : مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَذَا الْمُحَبّبُ فِي قَوْمِهِ هَارُونُ بْنُ عِمْرَانَ ، قَالَ ثُمّ أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ السّادِسَةِ فَإِذَا فِيهَا رَجُلٌ آدَمُ طَوِيلٌ أَقْنَى كَأَنّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ فَقُلْت لَهُ مَنْ هَذَا يَا [ ص 205 ] قَالَ هَذَا أَخُوك مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ . ثُمّ أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ السّابِعَةِ فَإِذَا فِيهَا كَهْلٌ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيّ إلَى بَابِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ، يَدْخُلُهُ كُلّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَرْجِعُونَ فِيهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . لَمْ أَرَ رَجُلًا أَشْبَهَ بِصَاحِبِكُمْ وَلَا صَاحِبَكُمْ أَشْبَهَ بِهِ مِنْهُ [ ص 206 ] قَالَ قُلْت : مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَذَا أَبُوك إبْرَاهِيمُ . قَالَ ثُمّ دَخَلَ بِي الْجَنّةَ فَرَأَيْت فِيهَا جَارِيَةً لَعْسَاءَ فَسَأَلْتهَا : لِمَنْ أَنْتِ ؟ وَقَدْ أَعْجَبَتْنِي حِينَ رَأَيْتهَا ، فَقَالَتْ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَبَشّرَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ " [ ص 207 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي : أَنّ جِبْرِيلَ لَمْ يَصْعَدْ بِهِ إلَى سَمَاءٍ مِنْ السّمَوَاتِ إلّا قَالُوا لَهُ حِينَ يَسْتَأْذِنُ فِي دُخُولِهَا : مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ فَيَقُولُ مُحَمّدٌ فَيَقُولُونَ أوَ قَدْ بُعِثَ ؟ [ ص 208 ] حَيّاهُ اللّهُ مِنْ أَخ وَصَاحِبٍ حَتّى انْتَهَى بِهِ إلَى السّمَاءِ السّابِعَةِ ثُمّ انْتَهَى بِهِ إلَى رَبّهِ فَفَرَضَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلّ يَوْمٍ
قَالَ [ ص 209 ] قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 210 ] فَأَقْبَلْت رَاجِعًا ، فَلَمّا مَرَرْت بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَنِعْمَ الصّاحِبُ كَانَ لَكُمْ سَأَلَنِي كَمْ فُرِضَ عَلَيْك مِنْ الصّلَاةِ ؟ فَقُلْت خَمْسِينَ صَلَاةً كُلّ يَوْمٍ فَقَالَ إنّ الصّلَاةَ ثَقِيلَةٌ وَإِنّ أُمّتَك ضَعِيفَةٌ فَارْجِعْ إلَى رَبّك ، فَاسْأَلْهُ أَنْ يُخَفّفَ عَنْك وَعَنْ أُمّتِك . فَرَجَعْت فَسَأَلْت رَبّي أَنْ يُخَفّفَ عَنّي ، وَعَنْ أُمّتِي ، فَوَضَعَ عَنّي عَشْرًا . ثُمّ انْصَرَفْت فَمَرَرْت عَلَى مُوسَى فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ فَرَجَعْت فَسَأَلْت رَبّي ، فَوَضَعَ عَنّي عَشْرًا . ثُمّ انْصَرَفْت ، فَمَرَرْت عَلَى مُوسَى ، فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ فَرَجَعْت فَسَأَلْته فَوَضَعَ [ ص 211 ] قَالَ فَارْجِعْ فَاسْأَلْ حَتّى انْتَهَيْت إلَى أَنْ وُضِعَ ذَلِكَ عَنّي ، إلّا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ . ثُمّ رَجَعْت إلَى [ ص 212 ] مُوسَى ، فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ فَقُلْت : قَدْ رَاجَعْت رَبّي وَسَأَلْته ، حَتّى اسْتَحْيَيْت مِنْهُ فَمَا أَنَا بِفَاعِلِ " ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النّبُوّةِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ [ ص 213 ] فَمَنْ أَدّاهُنّ مِنْكُمْ إيمَانًا بِهِنّ وَاحْتِسَابًا لَهُنّ كَانَ لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً . رَوَاهُ . وَفِي الْحَدِيثِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌSفَرْضُ الصّلَاةِ
فَصْلٌ وَأَمّا فَرْضُ الصّلَاةِ عَلَيْهِ هُنَالِكَ فَفِيهِ التّنْبِيهُ عَلَى فَضْلِهَا ، حَيْثُ لَمْ تُفْرَضْ إلّا فِي الْحَضْرَةِ الْمُقَدّسَةِ وَلِذَلِكَ كَانَتْ الطّهَارَةُ مِنْ شَأْنِهَا ، وَمِنْ شَرَائِطِ أَدَائِهَا ، وَالتّنْبِيهِ عَلَى أَنّهَا مُنَاجَاةُ الرّبّ وَأَنّ الرّبّ تَعَالَى مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى الْمُصَلّي يُنَاجِيهِ يَقُولُ حَمِدَنِي عَبْدِي ، [ ص 207 ] زَمْزَمَ كَمَا يَتَطَهّرُ الْمُصَلّي لِلصّلَاةِ وَأُخْرِجَ عَنْ الدّنْيَا بِجِسْمِهِ كَمَا يَخْرُجُ الْمُصَلّي عَنْ الدّنْيَا بِقَلْبِهِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كُلّ شَيْءٍ إلّا مُنَاجَاةُ رَبّهِ وَتَوَجّهُهُ إلَى قِبْلَتِهِ فِي ذَلِكَ الْحِينِ وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ ، وَرُفِعَ إلَى السّمَاءِ كَمَا يَرْفَعُ الْمُصَلّي يَدَيْهِ إلَى جِهَةِ السّمَاءِ إشَارَةً إلَى الْقِبْلَةِ الْعُلْيَا فَهِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ ، وَإِلَى جِهَةِ عَرْشِ مَنْ يُنَاجِيهِ وَيُصَلّي لَهُ سُبْحَانَهُ .
فَرْضُ الصّلَوَاتِ خَمْسِينَ
فَصْلٌ وَأَمّا فَرْضُ الصّلَوَاتِ خَمْسِينَ ثُمّ حَطّ مِنْهَا عَشْرًا بَعْدَ عَشْرٍ إلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ . وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنّهَا حُطّتْ خَمْسًا بَعْدَ خَمْسٍ وَقَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرّوَايَتَيْنِ لِدُخُولِ الْخَمْسِ فِي الْعَشْرِ فَقَدْ تُكُلّمَ فِي هَذَا النّقْصِ مِنْ الْفَرِيضَةِ أَهُوَ نَسْخٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَالَ قَوْمٌ هُوَ مِنْ بَابِ نَسْخِ الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا ، وَأَنْكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ النّحّاسُ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْبِنَاءُ عَلَى أَصْلِهِ وَمَذْهَبِهِ فِي أَنّ الْعِبَادَةَ لَا يَجُوزُ نَسْخُهَا قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا ، لِأَنّ ذَلِكَ عِنْدَهُ مِنْ الْبَدَاءِ وَالْبَدَاءُ مُحَالٌ عَلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ . الثّانِي : أَنّ الْعِبَادَةَ إنْ جَازَ نَسْخُهَا قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ فَلَيْسَ يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ نَسْخُهَا قَبْلَ هُبُوطِهَا إلَى الْأَرْضِ وَوُصُولِهَا إلَى الْمُخَاطَبِينَ قَالَ وَإِنّمَا ادّعَى النّسْخَ فِي هَذِهِ الصّلَوَاتِ الْمَوْضُوعَةِ عَنْ مُحَمّدٍ وَأُمّتِهِ الْقَاشَانِيّ ، لِيُصَحّحَ بِذَلِكَ مَذْهَبَهُ فِي أَنّ الْبَيَانَ لَا يَتَأَخّرُ ثُمّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ إنّمَا هِيَ شَفَاعَةٌ شَفَعَهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأُمّتِهِ وَمُرَاجَعَةٌ رَاجَعَهَا رَبّهُ لِيُخَفّفَ عَنْ أُمّتِهِ وَلَا يُسَمّى مِثْلُ هَذَا نَسْخًا . قَالَ الْمُؤَلّفُ أَمّا مَذْهَبُهُ فِي أَنّ الْعِبَادَةَ لَا تُنْسَخُ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا ، وَأَنّ ذَلِكَ بَدَاءٌ فَلَيْسَ بِصَحِيحِ لِأَنّ حَقِيقَةَ الْبَدَاءِ أَنْ يَبْدُوَ لِلْآمِرِ رَأْيٌ يَتَبَيّنُ لَهُ الصّوَابُ فِيهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ تَبَيّنَهُ وَهَذَا مُحَالٌ فِي حَقّ مَنْ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ بِعِلْمِ قَدِيمٍ وَلَيْسَ النّسْخُ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ إنّمَا النّسْخُ تَبْدِيلُ حُكْمٍ بِحُكْمِ وَالْكُلّ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ وَمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ كَنَسْخِهِ الْمَرَضَ بِالصّحّةِ وَالصّحّةِ بِالْمَرَضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَيْضًا بِأَنّ الْعَبْدَ الْمَأْمُورَ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَوَجّهِ الْأَمْرِ إلَيْهِ [ ص 208 ] كَانَ وَاجِبًا فَإِنْ نُسِخَ الْحُكْمُ قَبْلَ الْفِعْلِ فَقَدْ حَصَلَتْ فَائِدَتَانِ الْعَزْمُ وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ . وَعَلِمَ اللّهُ ذَلِكَ مِنْهُ فَصَحّ امْتِحَانُهُ لَهُ وَاخْتِبَارُهُ إيّاهُ وَأَوْقَعَ الْجَزَاءَ عَلَى حَسَبِ مَا عَلِمَ مِنْ نِيّتِهِ وَإِنّمَا الّذِي لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْأَمْرِ قَبْلَ نُزُولِهِ وَقَبْلَ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِهِ وَاَلّذِي ذَكَرَ النّحّاسُ مِنْ نَسْخِ الْعِبَادَةِ بَعْدَ الْعَمَلِ بِهَا ، فَلَيْسَ هُوَ حَقِيقَةَ النّسْخِ لِأَنّ الْعِبَادَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا قَدْ مَضَتْ وَإِنّمَا جَاءَ الْخِطَابُ بِالنّهْيِ عَنْ عَمَلِهَا لَا عَنْهَا ، وَقَوْلُنَا فِي الْخَمْسِ وَالْأَرْبَعِينَ صَلَاةً الْمَوْضُوعَةِ عَنْ مُحَمّدٍ وَأُمّتِهِ أَحَدُ وَجْهَيْنِ إمّا أَنْ يَكُونَ نُسِخَ مَا وَجَبَ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أَدَائِهَا وَرُفِعَ عَنْهُ اسْتِمْرَارُ الْعَزْمِ وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ وَهَذَا قَدْ قَدّمْنَا أَنّهُ نَسْخٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَنُسِخَ عَنْهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ التّبْلِيغِ فَقَدْ كَانَ فِي كُلّ مَرّةٍ عَازِمًا عَلَى تَبْلِيغِ مَا أُمِرَ بِهِ وَقَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ إنّمَا كَانَ شَافِعًا وَمُرَاجِعًا يَنْفِي النّسْخَ فَإِنّ النّسْخَ قَدْ يَكُونُ عَنْ سَبَبٍ مَعْلُومٍ فَشَفَاعَتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأُمّتِهِ كَانَتْ سَبَبًا لِلنّسْخِ لَا مُبْطِلَةً لِحَقِيقَتِهِ وَلَكِنّ الْمَنْسُوخَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ التّبْلِيغِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ قَبْلَ النّسْخِ وَحُكْمِ الصّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي خَاصّتِهِ وَأَمّا أُمّتُهُ فَلَمْ يُنْسَخْ عَنْهُمْ حُكْمٌ إذْ لَا يُتَصَوّرُ نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ بُلُوغِهِ إلَى الْمَأْمُورِ كَمَا قَدّمْنَا ، وَهَذَا كُلّهُ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي الْحَدِيثِ . وَالْوَجْهُ الثّانِي أَنْ يَكُونَ هَذَا خَبَرًا لَا تَعَبّدًا ، وَإِذَا كَانَ خَبَرًا لَمْ يَدْخُلْهُ النّسْخُ وَمَعْنَى الْخَبَرِ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَخْبَرَهُ رَبّهُ أَنّ عَلَى أُمّتِهِ خَمْسِينَ صَلَاةً وَمَعْنَاهُ أَنّهَا خَمْسُونَ فِي اللّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَكَذَلِك قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَتَأَوّلَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى أَنّهَا خَمْسُونَ بِالْفِعْلِ فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُ رَبّهُ حَتّى بَيّنَ لَهُ أَنّهَا خَمْسُونَ فِي الثّوَابِ لَا بِالْعَمَلِ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى نَقْضِهَا عَشْرًا بَعْدَ عَشْرٍ ؟ قُلْنَا : لَيْسَ كُلّ الْخَلْقِ يَحْضُرُ قَلْبُهُ فِي الصّلَاةِ مِنْ أَوّلِهَا إلَى آخِرِهَا ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنّهُ يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا مَا حَضَرَ قَلْبُهُ فِيهَا ، وَأَنّ الْعَبْدَ يُصَلّي الصّلَاةَ فَيُكْتَبُ لَهُ نِصْفُهَا رُبُعُهَا حَتّى انْتَهَى إلَى عُشْرِهَا ، وَوَقَفَ فَهِيَ خَمْسٌ فِي حَقّ مَنْ كُتِبَ لَهُ عُشْرُهَا ، وَعَشْرٌ فِي حَقّ مَنْ كُتِبَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَخَمْسُونَ فِي حَقّ مَنْ كَمُلَتْ صَلَاتُهُ وَأَدّاهَا بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ تَمَامِ خُشُوعِهَا وَكَمَالِ سُجُودِهَا وَرُكُوعِهَا .
أَوْصَافٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَمْ يَلْقَهُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إلّا ضَاحِكًا مُسْتَبْشِرًا إلّا مَالِكًا خَازِنَ جَهَنّمَ وَذَلِكَ أَنّهُ لَمْ يَضْحَكْ لِأَحَدِ قَبْلَهُ وَلَا هُوَ ضَاحِكٌ لِأَحَدِ وَمِصْدَاقُ هَذَا فِي [ ص 209 ] قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ } [ التّحْرِيمَ 60 ] وَهُمْ مُوكَلُونَ بِغَضَبِ اللّهِ تَعَالَى فَالْغَضَبُ لَا يُزَايِلُهُمْ أَبَدًا ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعَارَضَةٌ لِلْحَدِيثِ الّذِي فِي صِفَةِ مِيكَائِيلَ أَنّهُ مَا ضَحِكَ مُنْذُ خَلَقَ اللّهُ جَهَنّمَ وَكَذَلِكَ يُعَارِضُهُ مَا خَرّجَ الدّارَقُطْنِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - تَبَسّمَ فِي الصّلَاةِ فَلَمّا انْصَرَفَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ " رَأَيْت مِيكَائِيلَ رَاجِعًا مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ عَلَى جَنَاحَيْهِ الْغُبَارُ فَضَحِكَ إلَيّ فَتَبَسّمْت إلَيْه " وَإِذَا صَحّ الْحَدِيثَانِ فَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا : أَنْ يَكُونَ لَمْ يَضْحَكْ مُنْذُ خَلَقَ اللّهُ النّارَ إلَى هَذِهِ الْمُدّةِ الّتِي ضَحِكَ فِيهَا لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَيَكُونُ الْحَدِيثُ عَامّا يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ أَوْ يَكُونُ الْحَدِيثُ الْأَوّلُ حَدّثَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَبْلَ هَذَا الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ ثُمّ حَدّثَ بَعْدُ بِمَا حَدّثَ بِهِ مِنْ ضَحِكِهِ إلَيْهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَلَمْ يَرَ مَالِكًا عَلَى الصّورَةِ الّتِي يَرَاهُ عَلَيْهَا الْمُعَذّبُونَ فِي الْآخِرَةِ وَلَوْ رَآهُ عَلَى تِلْكَ الصّورَةِ مَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ .
أَكَلَةُ الرّبَا فِي رُؤْيَا الْمِعْرَاجِ
وَذَكَرَ أَكَلَةَ الرّبَا وَأَنّهُمْ بِسَبِيلِ آلِ فِرْعَوْنَ يَمُرّونَ عَلَيْهِمْ كَالْإِبِلِ الْمَهْيُومَةِ وَهِيَ الْعِطَاشُ وَالْهُيَامُ شِدّةُ الْعَطَشِ وَكَانَ قِيَاسُ هَذَا الْوَصْفِ أَلّا يُقَالَ فِيهِ مَهْيُومَةٌ كَمَا لَا يُقَالُ مَعْطُوشَةٌ إنّمَا يُقَالُ هَائِمٌ وَهَيْمَانُ وَقَدْ يُقَالُ هَيُومٌ وَيُجْمَعُ عَلَى هِيمٍ وَوَزْنُهُ فُعْلٌ بِالضّمّ لَكِنْ كُسِرَ مِنْ أَجْلِ الْيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ } [ الْوَاقِعَةَ 55 ] وَلَكِنْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَهْيُومَةٌ كَأَنّهُ شَيْءٌ فُعِلَ بِهَا كَالْمَحْمُومَةِ وَالْمَجْنُونَةِ وَكَالْمَنْهُومِ وَهُوَ الّذِي لَا يَشْبَعُ وَكَانَ قِيَاسُ الْيَاءِ أَنْ تَعْتَلّ فَيُقَالَ مَهِيمَةٌ كَمَا يُقَالُ مَبِيعَةٌ فِي مَعْنَى مَبْيُوعَةٍ وَلَكِنْ صَحّتْ الْيَاءُ لِأَنّهَا فِي مَعْنَى الْهَيُومَةِ كَمَا صَحّتْ الْوَاوُ فِي عُورٍ لِأَنّهُ فِي مَعْنَى أَعْوَرَ كَمَا صَحّتْ فِي اجْتَوَرُوا لِأَنّهُ فِي مَعْنَى : تَجَاوَرُوا ، وَإِنّمَا رَآهُمْ مُنْتَفِخَةً بُطُونُهُمْ لِأَنّ الْعُقُوبَةَ مُشَاكِلَةٌ لِلذّنْبِ فَآكِلُ الرّبَا يَرْبُو بَطْنُهُ كَمَا أَرَادَ أَنْ يَرْبُوَ مَالُهُ بِأَكْلِ مَا حُرّمَ عَلَيْهِ فَمُحِقَتْ الْبَرَكَةُ مِنْ مَالِهِ وَجُعِلَتْ نَفْخًا فِي بَطْنِهِ حَتّى يَقُومَ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنْ الْمَسّ وَإِنّمَا جُعِلُوا بِطَرِيقِ آلِ فِرْعَوْنَ يَمُرّونَ عَلَيْهِمْ غُدُوّا وَعَشِيّا لِأَنّ آلَ فِرْعَوْنَ هُمْ أَشَدّ النّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ } [ غَافِرَ 46 ] . فَخُصّوا بِسَبِيلِهِمْ لِيُعْلَمَ أَنّ الّذِينَ هُمْ أَشَدّ النّاسِ عَذَابًا يَطَئُونَهُمْ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفّارِ وَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْقِيَامَ [ ص 210 ] فَيَكُونَ خَيْرًا لَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَعُودُوا وَيُصِرّوا ، فَيُدْخِلَهُمْ النّارَ وَهَذِهِ صِفَةُ مَنْ هُوَ فِي طَرِيقِ النّارِ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ } [ الْبَقَرَةَ 275 ] . إلَى آخِرِ الْآيَةِ وَفِي بَعْضِ الْمُسْنَدَاتِ أَنّهُ رَأَى بُطُونَهُمْ كَالْبُيُوتِ يَعْنِي : أَكَلَةَ الرّبَا ، وَفِيهَا حَيّاتٌ تُرَى خَارِجَ الْبُطُونِ . فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الّتِي وَصَفَهَا عَنْ أَكَلَةِ الرّبَا إنْ كَانَتْ عِبَارَةً عَنْ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ قَالَ فِرْعَوْنُ فِي الْآخِرَةِ قَدْ أُدْخِلُوا أَشَدّ الْعَذَابِ وَإِنّمَا يُعْرَضُونَ عَلَى النّارِ غُدُوّا وَعَشِيّا فِي الْبَرْزَخِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَالُ الّتِي رَآهُمْ عَلَيْهَا فِي الْبَرْزَخِ فَأَيّ بُطُونٍ لَهُمْ وَقَدْ صَارُوا عِظَامًا وَرُفَاتًا ، وَمُزّقُوا كُلّ مُمَزّقٍ فَالْجَوَابُ أَنّهُ إنّمَا رَآهُمْ فِي الْبَرْزَخِ لِأَنّهُ حَدِيثٌ عَمّا رَأَى ، وَهَذِهِ الْحَالُ هِيَ حَالُ أَرْوَاحِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَفِيهَا تَصْحِيحٌ لِمَنْ قَالَ الْأَرْوَاحُ أَجْسَادٌ لَطِيفَةٌ قَابِلَةٌ لِلنّعِيمِ وَالْعَذَابِ فَيَخْلُقُ اللّهُ فِي تِلْكَ الْأَرْوَاحِ مِنْ الْآلَامِ مَا يَجِدُهُ مَنْ انْتَفَخَ بَطْنُهُ حَتّى وُطِئَ بِالْأَقْدَامِ وَلَا يَسْتَطِيعُ مِنْ قِيَامٍ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُمْ أَشَدّ عَذَابًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ، وَلَكِنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُمْ يَطَؤُهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْكُفّارِ الّذِينَ لَمْ يَأْكُلُوا الرّبَا مَا دَامُوا فِي الْبَرْزَخِ إلَى أَنْ يَقُومُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنْ الْمَسّ ثُمّ يُنَادِي مُنَادِي اللّهِ { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ } [ غَافِرَ 46 ] وَكَذَلِكَ مَا رَأَى مِنْ النّسَاءِ الْمُعَلّقَاتِ بِثُدِيّهِنّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأَى أَرْوَاحَهُنّ وَقَدْ خُلِقَ فِيهَا مِنْ الْآلَامِ مَا يَجِدُهُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مُثّلَتْ لَهُ حَالُهُنّ فِي الْآخِرَةِ وَذَكَرَ الّذِينَ يَدْعُونَ مَا أَحَلّ اللّهُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَيَأْتُونَ مَا حُرّمَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا نَصّ عَلَى تَحْرِيمِ إتْيَانِ النّسَاءِ فِي أَعْجَازِهِنّ وَقَدْ قَامَ الدّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسّنّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَوَاضِعَ الّتِي يَقُومُ مِنْهَا التّحْرِيمُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ كِتَابِ اللّهِ وَمِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَذَكَرْنَا مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ هُوَ الْكُفْرُ وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ هُوَ اللّوطِيّةُ الصّغْرَى وَأَمّا الْإِجْمَاعُ فَإِنّ الْمَرْأَةَ تُرَدّ بِدَاءِ الْفَرْجِ وَلَوْ جَازَ وَطْؤُهَا فِي الْمَسْلَكِ الْآخَرِ مَا أَجْمَعُوا عَلَى رَدّهَا بِدَاءِ الْفَرْجِ وَقَدْ مَهّدْنَا الْأَدِلّةَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُفْرَدَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْإِمْلَاءِ بِمَا فِيهِ شِفَاءٌ وَالْحَمْدُ لِلّهِ . الْوَلَدُ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ وَقَوْلُهُ فَأَكَلَ حَرَائِبَهُمْ الْحَرِيبَةُ الْمَالُ وَهُوَ مِنْ الْحَرْبِ وَهُوَ السّلَبُ يُرِيدُ أَنّ الْوَلَدَ إذَا كَانَ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ نُسِبَ إلَى الّذِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَيَأْكُلُ مِنْ مَالِهِ صَغِيرًا ، وَيَنْظُرُ إلَى بَنَاتِهِ [ ص 211 ] أَخَوَاتِهِ وَلَسْنَ بِعَمّاتِ لَهُ وَإِلَى أُمّهِ وَلَيْسَتْ بِجَدّةِ لَهُ وَهَذَا فَسَادٌ كَبِيرٌ وَإِنّمَا قُدّمَ ذِكْرُ الْأَكْلِ مِنْ حَرِيبَتِهِ وَمَالِهِ قَبْلَ الِاطّلَاعِ عَلَى عَوْرَاتِهِ وَإِنْ كَانَ الِاطّلَاعُ عَلَى الْعَوْرَاتِ أَشْنَعَ لِأَنّ نَفَقَتَهُ عَلَيْهِ أَوّلُ مِنْ حَالِ صِغَرِهِ ثُمّ قَدْ يَبْلُغُ حَدّ الِاطّلَاعِ عَلَى عَوْرَاتِهِ أَوْ لَا يَبْلُغُ وَأَيْضًا فَإِنّ الْأُمّ أَرْضَعَتْهُ بِلِبَانِهَا ، وَلَمْ تَدْفَعْهُ إلَى مُرْضِعَةٍ كَانَ الزّوْجُ أَبًا لَهُ مِنْ الرّضَاعَةِ وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الِابْنِ مِنْ الرّضَاعَةِ وَفِي ذَلِكَ نُقْصَانٌ مِنْ الشّنَاعَةِ فَإِنْ بَلَغَ الصّبِيّ ، وَتَابَتْ الْأُمّ ، وَأَعْلَمَتْهُ أَنّهُ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ لِيَسْتَعِفّ عَنْ مِيرَاثِهِمْ وَيَكُفّ عَنْ الِاطّلَاعِ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ أَوْ عَلِمَ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ حَالٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ شَرّ الثّلَاثَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فِي ابْنِ الزّنَا ، وَقَدْ تُؤُوّلَ حَدِيثُ شَرّ الثّلَاثَةِ عَلَى وُجُوهٍ هَذَا أَقْرَبُهَا إلَى الصّوَابِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ أَكَلَ حَرَائِبَهُمْ وَاطّلَعَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ وَمَنْ فَعَلَ هَذَا عَنْ عَمْدٍ وَقَصْدٍ فَهُوَ شَرّ النّاسِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَأَكْلُهُ وَاطّلَاعُهُ شَرّ عَمَلٍ وَأَبَوَاهُ حِينَ زَنَيَا فَارَقَا ذَلِكَ الْعَمَلَ الْخَبِيثَ لِحِينِهِمَا وَالِابْنُ فِي عَمَلٍ خَبِيثٍ مِنْ مَنْشَئِهِ إلَى وَفَاتِهِ فَعَمَلُهُ شَرّ عَمَلٍ .
حُكْمُ الْحَاكِمِ لَا يُحِلّ الْحَرَامَ
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْفِقْهِ أَيْضًا أَنّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِلّ حَرَامًا ، وَذَلِكَ أَنّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ الشّرِيعَةِ لِلْفِرَاشِ إلّا أَنْ يُنْفَى بِاللّعَانِ فَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِهَذَا ، وَعَلِمَ الْوَلَدُ عِنْدَ بُلُوغِهِ خِلَافَ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ لَمْ يَحِلّ لَهُ بِهَذَا الْحُكْمِ مَا حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَكْلِ الْحَرَائِبِ وَالِاطّلَاعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ وَفِي هَذَا رَدّ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ قَوْلِهِ إنّ حُكْمَ الْحَاكِمِ قَدْ يُحِلّ مَا يَعْلَمُ أَنّهُ حَرَامٌ مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنّهُ طَلّقَ وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنّهُ لَمْ يُطَلّقْ فَيَقْبَلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمَا فَيُطَلّقَ الْمَرْأَةَ عَلَى الرّجُلِ فَإِذَا بَانَتْ مِنْهُ كَانَ لِأَحَدِ الشّاهِدَيْنِ أَنْ يَنْكِحَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِأَنّهُ قَدْ شَهِدَ زُورًا ، لَمْ يَقُلْ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي الْأَمْوَالِ لِقَوْلِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ " إنّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيّ وَلَعَلّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءِ مِنْ حَقّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النّارِ " فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ الّذِي تَقَدّمَ رَدّ لِمَذْهَبِهِ وَلَا حُجّةَ لَهُ فِي أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْأَمْوَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِهِ وَقِيَاسُ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَاحِدٌ الثّانِي : أَنّهُ قَالَ مِنْ حَقّ أَخِيهِ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ مَالِ أَخِيهِ وَهَذَا لَفْظٌ يَعُمّ الْحُقُوقَ كُلّهَا قَالَ الْمُؤَلّفُ وَعِنْدِي أَنّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللّهُ إنّمَا بَنَى [ ص 212 ] أَصْلِهِ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ فَإِنّهُ عِنْدَهُ لَازِمٌ فَإِذَا أُكْرِهَ الرّجُلُ عَلَى الطّلَاقِ وَقُلْنَا يَلْزَمُ الطّلَاقُ لَهُ فَقَدْ حُرّمَتْ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ وَإِذَا حُرّمَتْ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يَنْكِحَهَا مَنْ شَاءَ فَالْإِثْمُ إنّمَا تَعَلّقَ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ بِالشّهَادَةِ دُونَ النّكَاحِ وَقَدْ خَالَفَهُ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَقَوْلُهُمْ يُعَضّدُهُ الْأَثَرُ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ يُعَضّدُهُ النّظَرُ وَالْخَوْضُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَصُدّنَا عَمّا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ . مَكَانُ إدْرِيسَ فَصْلٌ وَذِكْرُهُ لِإِدْرِيسَ فِي السّمَاءِ الرّابِعَةِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيّا } [ مَرْيَمَ : 57 ] ، مَعَ أَنّهُ قَدْ رَأَى مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ فِي مَكَانٍ أَعْلَى مِنْ مَكَانِ إدْرِيسَ فَذَلِكَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ لِمَا ذُكِرَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنّ إدْرِيسَ خُصّ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ رُفِعَ قَبْلَ وَفَاتِهِ إلَى السّمَاءِ الرّابِعَةِ وَرَفَعَهُ مَلَكٌ كَانَ صَدِيقًا لَهُ وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكّلُ بِالشّمْسِ فِيمَا ذُكِرَ وَكَانَ إدْرِيسُ سَأَلَهُ أَنْ يُرِيَهُ الْجَنّةَ فَأَذِنَ لَهُ اللّهُ فِي ذَلِكَ فَلَمّا كَانَ فِي السّمَاءِ الرّابِعَةِ رَآهُ هُنَالِكَ مَلَكُ الْمَوْتِ فَعَجِبَ وَقَالَ أُمِرْت أَنْ أَقْبِضَ رُوحَ أَدَرِيسَ السّاعَةَ فِي السّمَاءِ الرّابِعَةِ فَقَبَضَهُ هُنَالِكَ فَرَفْعُهُ حَيّا إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ الْعَلِيّ خَاصّ لَهُ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ .
قَوْلُ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُلّ سَمَاءٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ مِنْ قَوْلِ الْأَنْبِيَاءِ لَهُ فِي كُلّ سَمَاءٍ مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصّالِحِ وَقَوْلِ آدَمَ لِإِبْرَاهِيمَ بِالِابْنِ الصّالِحِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوّلِ هَذَا الْكِتَابِ حُجّةً لِمَنْ قَالَ إنّ إدْرِيسَ لَيْسَ بِجَدّ لِنُوحِ وَلَا هُوَ مِنْ آبَاءِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأَنّهُ قَالَ مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصّالِحِ وَلَمْ يَقُلْ بِالِابْنِ الصّالِحِ .
خَرَافَةُ طَلَبِ مُوسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أُمّةِ أَحْمَدَ
وَأَمّا اعْتِنَاءُ مُوسَى - عَلَيْهِ السّلَامُ - بِهَذِهِ الْأُمّةِ وَإِلْحَاحُهُ عَلَى نَبِيّهَا أَنْ يَشْفَعَ لَهَا ، وَيَسْأَلَ التّخْفِيفَ عَنْهَا ، فَلِقَوْلِهِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - حِينَ قُضِيَ إلَيْهِ الْأَمْرُ بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ وَرَأَى صِفَاتِ أُمّةِ مُحَمّدٍ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي الْأَلْوَاحِ وَجَعَلَ يَقُولُ إنّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمّةً صِفَتُهُمْ كَذَا ، اللّهُمّ [ ص 213 ] أُمّتِي ، فَيُقَالُ لَهُ تِلْكَ أُمّةُ أَحْمَدَ وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ فَكَانَ إشْفَاقُهُ عَلَيْهِمْ وَاعْتِنَاؤُهُ بِأَمْرِهِمْ كَمَا يُعْتِنِي بِالْقَوْمِ مَنْ هُوَ مَعَهُمْ لِقَوْلِهِ اللّهُمّ اجْعَلْنِي مِنْهُمْ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
بَعْضُ مَا رَأَى
وَمِمّا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِمّا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ أَنّهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - نَادَاهُ مُنَادٍ وَهُوَ عَلَى ظَهْرِ الْبُرَاقِ يَا مُحَمّدُ فَلَمْ يَعْرُجْ عَلَيْهِ ثُمّ نَادَاهُ آخَرُ يَا مُحَمّدُ يَا مُحَمّدُ ثَلَاثًا ، فَلَمْ يَعْرُجْ عَلَيْهِ ثُمّ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ عَلَيْهَا مِنْ كُلّ زِينَةٍ نَاشِرَةٌ يَدَيْهَا ، تَقُولُ يَا مُحَمّدُ يَا مُحَمّدُ حَتّى تَغَشّتْهُ فَلَمْ يَعْرُجْ عَلَيْهَا ، ثُمّ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَمّا رَأَى ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ أَمَا الْمُنَادِي الْأَوّلُ فَدَاعِي الْيَهُودِ لَوْ أَجَبْته لَتَهَوّدَتْ أُمّتُك ، وَأَمّا الْآخَرُ فَدَاعِي النّصَارَى ، وَلَوْ أَجَبْته لَتَنَصّرَتْ أُمّتُك ، وَأَمّا الْمَرْأَةُ الّتِي كَانَ عَلَيْهَا مِنْ كُلّ زِينَةٍ فَإِنّهَا الدّنْيَا لَوْ أَجَبْتهَا لَآثَرْت الدّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ
كِفَايَةُ اللّهِ أَمْرَ الْمُسْتَهْزِئِينَ
[ ص 214 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى أَمْرِ اللّهِ تَعَالَى صَابِرًا مُحْتَسِبًا ، مُؤَدّيًا إلَى قَوْمِهِ النّصِيحَةَ عَلَى مَا يَلْقَى مِنْهُمْ مِنْ التّكْذِيبِ وَالْأَذَى وَالِاسْتِهْزَاءِ . وَكَانَ عُظَمَاءُ الْمُسْتَهْزِئِينَ - كَمَا حَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ خَمْسَةَ نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِمْ وَكَانُوا ذَوِي أَسْنَانٍ وَشَرَفٍ فِي قَوْمِهِمْ . مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ : الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ أَبُو زَمْعَةَ ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - قَدْ دَعَا عَلَيْهِ لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُ مِنْ أَذَاهُ وَاسْتِهْزَائِهِ بِهِ فَقَالَ اللّهُمّ أَعْمِ بَصَرَهُ وَأَثْكِلْهُ وَلَدَهُ وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ : الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ . وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ : الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ . وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ : الْعَاصِ بْنُ وَائِلِ بْنِ هِشَامٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْعَاصِ بْنُ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمٍ [ ص 215 ] بَنِي خُزَاعَةَ : الْحَارِثُ ابْنُ الطّلَاطِلَةِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ لُؤَيّ بْنِ مِلْكَانَ . فَلَمّا تَمَادَوْا مِنْ الشّرّ وَأَكْثَرُوا بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الِاسْتِهْزَاءَ أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ الْحِجْرَ : 93 - 95 ] . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ فَقَامَ وَقَامَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى جَنْبِهِ فَمَرّ بِهِ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ فَرَمَى فِي وَجْهِهِ بِوَرَقَةِ خَضْرَاءَ فَعَمِيَ وَمَرّ بِهِ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ ، فَأَشَارَ إلَى بَطْنِهِ فَاسْتَسْقَى فَمَاتَ مِنْهُ حَبَنًا . وَمَرّ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فَأَشَارَ إلَى أَثَرِ جُرْحٍ بِأَسْفَلَ كَعْبِ رِجْلِهِ كَانَ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِسِنِينَ وَهُوَ يَجُرّ سَبَلَهُ وَذَلِكَ أَنّهُ مَرّ بِرَجُلِ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَهُوَ يَرِيشُ نَبْلًا لَهُ فَتَعَلّقَ سَهْمٌ مِنْ نَبْلِهِ بِإِزَارِهِ فَخَدَشَ مِنْ رِجْلِهِ ذَلِكَ الْخَدْشَ وَلَيْسَ بِشَيْءِ ، فَانْتَقَضَ بِهِ فَقَتَلَهُ . وَمَرّ بِهِ الْعَاصِ بْنُ [ ص 216 ] وَخَرَجَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ يُرِيدُ الطّائِفَ ، فَرَبَضَ بِهِ عَلَى شُبَارِقَةٍ فَدَخَلَتْ فِي أَخْمَصِ رِجْلِهِ شَوْكَةٌ فَقَتَلَتْهُ وَمَرّ بِهِ الْحَارِثُ ابْنُ الطّلَاطِلَةِ فَأَشَارَ إلَى رَأْسِهِ فَامْتَخَضَ قَيْحًا فَقَتَلَهُ 💥عَنْ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَمِلْكَانَ
فَصْلٌ [ ص 214 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الّذِينَ أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِمْ { إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } [ ص 215 ] الْحِجْرَ : 95 ] وَذَكَرَ فِيهِمْ الْحَارِثَ ابْنَ الطّلَاطِلَةِ وَالطّلَاطِلَةُ أُمّهُ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْوَقَشِيّ ، وَالطّلَاطِلَةُ فِي اللّغَةِ الدّاهِيَةُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : كُلّ دَاءٍ عُضَالٍ فَهُوَ طُلَاطِلَةٌ وَذُكِرَ فِي نَسَبِهِ عَبْدُ عَمْرٍو بْنُ مِلْكَانَ بِالضّبْطَيْنِ جَمِيعًا ، وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ الْحَافِظِ أَبِي بَحْرٍ قَالَ قَدْ تَقَدّمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ النّحْوِيّ أَنّ النّاسَ لَيْسَ فِيهِمْ مَلَكَانُ بِفَتْحِ الْمِيمِ إلّا مَلَكَانُ بْنُ جَرْمِ بْنِ زَبّانَ بْنِ حُلْوَانِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ ، وَمَلَكَانُ بْنُ عَبّادِ بْنِ عِيَاضِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ السّكُونِ بْنِ أَشْرَسَ وَإِخْوَةُ عَدِيّ هُمْ - تُجِيبُ عُرِفُوا بِأُمّهِمْ تُجِيبَ بِنْتِ دُهْمِ بْنِ ثَوْبَانَ ، وَهُمْ مِنْ كِنْدَةَ ، وَكُلّ مَنْ فِي النّاسِ وَغَيْرِهِمَا مِلْكَانُ مَكْسُورُ الْمِيمِ سَاكِنُ اللّامِ وَقَالَ مَشَايِخُ خُزَاعَةَ : فِي خُزَاعَةَ مَلَكَانُ بِفَتْحِ الْمِيمِ قَالَ الْقَاضِي : يَعْنِي ابْنَ حَبِيبٍ مَلَكَانُ بْنُ أَفْصَى بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ حَبِيبٍ كَاَلّذِي يَخْرُجُ مِنْ عِبَارَتِهِ أَنّ الّذِي فِي خُزَاعَةَ إنّمَا هُوَ مِلْكَانُ بْنُ أَفْصَى مِثْلُ مِلْكَانَ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ مِنْ الرّبَابِ الّذِينَ مِنْهُمْ ذُو الرّمّةِ الشّاعِرُ وَمِثْلُ مِلْكَانَ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ مِنْ الرّبَابِ أَيْضًا رَهْطُ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثّوْرِيّ . وَذَكَرَ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ الْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ الزّهْرِيّ رَوَى أَنّهُ لَمّا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } [ الْحِجْرَ : 95 ] نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَحَنَا ظَهْرَ الْأَسْوَدِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِي خَالِي ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ خَلّ عَنْك ، ثُمّ حَنَاهُ حَتّى قَتَلَهُ ذَكَرَهُ الدّارَقُطْنِيّ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق