ح5//3 آخر الجزء الخامس بتصنيف الشاملة ويليه الجزء السادس ان شاء الله
تعالي
أو قطعة من خشب الساج، أو جمراً ملتهباً يُطفأُ فيه، أو طيناً أرْمَنِيّاً،
أو سَويقَ حِنطة، فإنَّ كُدرته ترسبُ إلى أسفل.
مِسْكٌ: ثبت فى "صحيح مسلم"، عن أبى سعيد الخُدرىِّ رضى الله عنه، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "أطيبُ الطِّيبِ المِسْكُ". وفى "الصحيحين" عن عائشة رضى الله عنها: "كنتُ أُطيِّبُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يَحْرِمَ ويومَ النَّحْرِ قبل أن يطوفَ بالبيت بطيبٍ فيه مِسْكٌ". المِسك: مَلِكُ أنواعِ الطيب، وأشرُفهَا وأطيُبَها، وهو الذى تُضرب به الأمثال، ويُشَبَّه به غيرُه، ولا يُشبَّه بغيره، وهو كُثبان الجنَّة، وهو حارٌ يابس فى الثانية، يَسُرُّ النفس ويُقَوِّيها، ويُقَوِّى الأعضاء الباطنة جميعها شُرباً وشمّاً، والظاهرةَ إذا وُضِعَ عليها. نافع للمشايخ، والمبرودين، لا سِيَّما زمن الشتاء، جيد للغَشْى والخفقانِ، وضعف القوة بإنعاشه للحرارة الغريزية، ويجلو بياضَ العين، ويُنشِّف رطوبتها، ويَفُشُّ الرياح منها ومن جميع الأعضاء، ويُبطل عملَ السموم، وينفعُ مِن نَهْش الأفاعى، ومنافِعُه كثيرة جداً، وهو أقوى المفرِّحات. مَرْزَنْجُوش: ورد فيه حديث لا نعلم صحته: "عليكم بالْمَرْزَنْجُوش، فإنه جيدٌ لِلخُشامِ". و"الخُشام": الزُّكام. وهو حارٌ فى الثالثة يابس فى الثانية، ينفع شمُّه من الصُّداع البارد، |
والكائن عن البلغم، والسوداء، والزُّكام، والرياح الغليظة، ويفتح السُّدد
الحادثة فى الرأس والمنخرين، ويُحلِّل أكثرَ الأورام الباردة، فينفعُ مِن أكثر
الأورام والأوجاع الباردة الرَّطبة، وإذا احتُمِل، أدرَّ الطَّمث، وأعان على
الحَبَل، وإذا دُقَّ ورقُه اليابس، وكُمِدَ به، أذهب آثارَ الدَّم العارض تحت
العَيْن، وإذا ضُمِّد به مع الخل، نفع لسعة العقرب. ودُهنه نافع لوجع الظهر
والرُّكبتين، ويُذهب بالإعياء، ومَن أدْمَن شمَّه لم ينزل فى عينيه الماء، وإذا
استُعِطَ بمائه مع دُهن اللَّوز المُر، فتح سُدد المنخرين، ونفع مِن الريح
العارضة فيها، وفى الرأس
مِلحٌ: روى ابن ماجه فى "سننه": من حديث أنس يرفعه: "سَيِّدُ إدامِكُم المِلحُ". وسيد الشىء: هو الذى يُصلحه، ويقومُ عليه، وغالبُ الإدام إنما يصلح بالملح. وفى "مسند البزَّار" مرفوعاً: "سَيُوشِكُ أن تكونوا فى النَّاس مِثْلَ المِلْحِ فى الطَّعَام، ولا يَصلُحُ الطَّعَامُ إلا بالمِلْحِ". وذكر البغوىُّ فى "تفسيره": عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما مرفوعاً: "إنَّ اللهَ أنزلَ أربعَ بركاتٍ من السَّمَاء إلى الأرْضِ: الحَدِيدَ، والنارَ، والماءَ، والمِلْحَ". والموقوف أشبَهُ. المِلْحُ يُصلِح أجسام الناس وأطعمتهم، ويُصلِح كُلَّ شىء يُخالطه حتى الذَّهبَ والفِضَّة، وذلك أن فيه قوةً تزيدُ الذهبَ صُفرةً، والفِضَّةَ بياضاً، وفيه جِلاءٌ وتحليل، وإذهابٌ للرطوبات الغليظة، وتنشيفٌ لها، وتقويةٌ للأبدان، ومنعٌ من عفونتها وفسادها، ونفعٌ من الجرب المتقرِّح. |
وإذا اكتُحِلَ به، قلع اللَّحم الزائد من العَيْن، ومحَقَ الظَّفَرَة.
والأندرانى أبلغُ فى ذلك، ويمنعُ القروحَ الخبيثة من الانتشار، ويُحدِرُ البراز،
وإذا دُلِكَ به بطونُ أصحابِ الاستسقاء، نفعهم، ويُنقى الأسنانَ، ويدفعُ عنها
العُفُونة، ويشُدُّ اللِّثة ويُقويها، ومنافعه كثيرة جدّاً
حرف النون نَخْلٌ: مذكور فى القرآن فى غير موضع، وفى "الصحيحين": عن ابن عمر رضى الله عنهما، قال: بيْنَا نحن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ أُتِىَ بجُمَّارِ نخلة، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ مِن الشَّجَرِ شَجَرةً مَثَلُها مَثَلُ الرَّجُلِ المسلِمِ لا يَسقُطُ وَرَقُها، أخْبِرُونى ما هِىَ ؟ فوقع الناسُ فى شجر البوادى، فوقع فى نفسى أنها النخلة، فأردتُ أن أقول: هى النخلة، ثم نظرتُ فإذا أنا أصغرُ القوم سِنّاً، فسكتُّ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هى النَّخْلَةُ "، فذكرتُ ذلك لعمرَ، فقال: لأَنْ تكونَ قُلْتَهَا أحبُّ إلىَّ من كذا وكذا.ففى هذا الحديث إلقاءُ العالِمُ المسائلَ على أصحابه، وتمرينُهم، واختبارُ ما عندهم. وفيه ضربُ الأمثال والتشبيه. وفيه ما كان عليه الصحابةُ من الحياء من أكابرهم وإجلالهم |
وإمساكهم عن الكلام بين أيديهم. وفيه فرحُ الرجل بإصابة ولده، وتوفيقه
للصوابوفيه أنه لا يُكره للولد أن يُجيبَ بما يَعْرِفُ بحضرة أبيه، وإن لم
يَعرفه الأبُ، وليس فى ذلك إساءةُ أدب عليه.وفيه ما تضمنه تشبيهُ المسلم بالنخلة
من كثرة خيرها، ودوامِ ظلها، وطيبِ ثمرها، ووجودِهِ على الدوام.
وثمرُها يؤكل رطباً ويابساً، وبلحاً ويانعاً، وهو غذاء ودواء وقوت وحَلْوى، وشرابٌ وفاكهة، وجذُوعها للبناء والآلات والأوانى، ويُتخَذ مِن خُوصها الحُصُر والمكاتِل والأوانى والمراوح، وغير ذلك، ومن ليفها الحبالُ والحشايا وغيرها، ثم آخر شىء نواها علفٌ للإبل، ويدخل فى الأدوية والأكحال، ثم جمالُ ثمرتها ونباتها وحسنُ هيئتها، وبهجةُ منظرها، وحسنُ نضد ثمرها، وصنعته وبهجته، ومسرَّةُ النفوس عند رؤيته، فرؤيتها مذكِّرة لفاطرها وخالقها، وبديع صنعته، وكمالِ قدرته، وتمامِ حكمته، ولا شىء أشبَهُ بها من الرجل المؤمن، إذ هو خيرٌ كُلُّهُ، ونفعٌ ظاهرٌ وباطن. وهى الشجرة التى حَنَّ جِذعُها إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما فارقه شوقاً إلى قُربه، وسماع كلامه، وهى التى نزلتْ تحتها مريمُ لما ولدتْ عيسى عليه السلام. وقد ورد فى حديث فى إسناده نظرٌ: "أكرِمُوا عَمَّتَكُم النخلَةَ، فإنها خُلِقَتْ من الطِّين الذى خُلق منه آدَمُ". |
وقد اختلف الناسُ فى تفضيلها على الحَبْلَةِ أو بالعكس على قولين، وقد قرن
اللهُ بينهما فى كتابه فى غير موضع، وما أقْربَ أحدَهما من صاحبه، وإن كان كُلُّ
واحد منهما فى محل سلطانه ومَنبِته، والأرض التى توافقه أفضلَ وأنفعَ.
نرجس: فيه حديث لا يصح: "عليكم بِشَمِّ النَّرجِس فإنَّ فى القَلْبِ حَبَّةَ الجنونِ والجُذام والبَرَصِ، لا يقطعُها إلا شمُّ النَّرجِسِ". وهو حارٌ يابس فى الثانية، وأصلُه يُدمل القروحَ الغائرة إلى العَصَب، وله قوة غَسَّالة جَالِيَةٌ جَابِذَةٌ، وإذا طُبِخَ وشُرِبَ ماؤه، أو أُكِلَ مسلوقاً، هَيَّج القىء، وجذبَ الرطوبة من قعر المَعِدَة، وإذا طُبِخَ مع الكِرْسِنَّة والعسل، نقَّى أوساخَ القُروح، وفجَّر الدُّبَيْلاَتِ العَسِرَةِ النضج. وزهرُه معتدل الحرارة، لطيفٌ ينفع الزُّكام البارد، وفيه تحليل قوى، ويفتحُ سُدد الدماغ والمنخرين، وينفعُ من الصُّداع الرطب والسَّوداوى، ويصدَعُ الرؤوس الحارة، والمُحْرَقْ منه إذا شُقَّ بصلُه صَلِيباً، وغُرِسَ، صار مضاعَفاً، ومَن أدْمَن شمَّه فى الشتاء أمِنَ من البِرْسام فى الصيف، وينفعُ مِن أوجاع الرأس الكائنة من البلغم والمِرَّة السوداء، وفيه من العِطرية ما يُقوِّى القلبَ والدماغ، وينفعُ من كثير من أمْراضها. وقال صاحب "التيسير": "شمُّه يُذهب بصَرْع الصبيان". نُوَرةٌ: روى ابن ماجه: من حديث أُمِّ سلمة رضى الله عنها، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا اطََّلى بدأ بعورتِه، فطَلاَها بالنُّوَرة، وسائِرَ جسدِه أهلُه، وقد ورد فيها عدةُ أحاديث هذا أمثَلُها. |
وقد قيل: إنَّ أولَ مَن دخل الحمَّام، وصُنِعَتْ له النُّوَرةُ: سليمانُ بن
داودَ.
وأصلُها: كِلْسٌ جزآن، وزِرْنيخ جزء، يُخلطان بالماء، ويُتركان فى الشمس أو الحمَّام بقدر ما تَنْضَجُ، وتشتد زُرقته. ثم يُطلى به، ويجلِس ساعة رَيْثَما يعمل، ولا يُمَس بماء، ثم يُغسل، ويُطلى مكانها بالحِنَّاء لإذهاب ناريَّتِها. نَبِقٌ: ذكر أبو نعيم فى كتابه "الطب النبوى" مرفوعاً: "إنَّ آدمَ لَمَّا أُهْبِطَ إلى الأرض كان أولَ شىء أكل مِن ثمارها النَّبِقُ". وقد ذكر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِقَ فى الحديث المتفق على صحته: أنه رأى سِدْرَة المُنتهى ليلةَ أُسْرِىَ به، وإذا نَبِقُها مِثْلُ قِلالِ هَجَرٍ. والنَبِق: ثمر شجر السدر يعقِل الطبيعة، وينفع من الإسهال، ويدبُغ المَعِدَة، ويُسَكِّن الصفراء، ويَغذو البدنَ، ويُشهِّى الطَّعام، ويُولِّد بلغماً، وينفع الذَّرَب الصفراوىَّ، وهو بطىء الهضم، وسَويقُه يُقوِّى الحشا، وهو يُصْلِحُ الأمزجة الصفراوية، وتُدفع مضرتُه بالشهد.واختُلِفَ فيه، هل هو رطب أو يابس ؟ على قولين. والصحيح: أنَّ رطبه بارد رطب، ويابسه بارد يابس. حرف الهاء هِنْدَبَا: ورد فيها ثلاثةُ أحاديث لا تصِحُّ عن رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يثبُت مثلها، بل هى موضوعة.. أحدها: "كُلُوا الهِندَبَاءَ ولا تَنْفُضُوهُ |
فإنه ليس يومٌ مِنَ الأيام إلا وقَطَراتٌ من الجَنَّةِ تَقْطُر عليه".
الثانى: "مَن أكَلَ الهِندبَاء، ثم نام عليها لم يَحِلَّ فيهِ سَمٌ ولا
سِحرٌ". الثالث: "ما مِنْ وَرَقةٍ من وَرَقِ الهِنْدبَاء إلا وعليها
قَطْرَةٌ من الجَنَّةِ".
وبعد.. فهى مستحيلة المزاج، منقلبةٌ بانقلاب فصول السنة، فهى فى الشتاء باردة رطبة، وفى الصيف حارة يابسة، وفى الرَّبيعِ والخريفِ معتدِلة، وفى غالب أحوالِها تميلُ إلى البرودة واليُبْس، وهى قابضة مبردةٌ، جيدةٌ للمَعِدَة، وإذا طُبِخَت وأُكلت بِخَلٍّ، عقَلتِ البطن وخاصةٌ البَرىَّ منها، فهى أجود للمَعِدَة، وأشد قبضاً، وتنفع مِن ضعفها. وإذا تُضمِّد بها، سلبت الالتهاب العارض فى المَعِدَة، وتنفع من النقْرس، ومن أورام العَيْن الحارة. وإذا تُضمِّد بَوَرَقِها وأُصولها، نفعت من لسع العقرب.وهى تُقَوِّى المَعِدَة، وتفتح السُّدد العارضة فى الكَبِد، وتنفع مِن أوجاعها حارِّها وباردِها، وتفتح سُدَد الطِّحال والعروق والأحشاء، وتُنَقِّى مجارى الكُلَى. وأنفعُهَا للكَبِدِ أمرُّها، وماؤها المعتَصَر ينفع من اليَرَقان السدَدى، ولا سِيَّما إذا خُلِط به ماء الرَّازَيَانَج الرطب، وإذا دُقَّ ورقُها، ووُضِع على الأورام الحارة برَّدها وحلَّلها، ويجلو ما فى المَعِدَة، ويُطفئُ حرارة الدَّم والصفراء. وأصلحُ ما أُكلت غير مغسولة ولا منفوضة، لأنها متى غُسلت أو نُفِضَت، فارقتها قُوَّتُها، وفيها مع ذلك قوة تِرياقية تنفعُ مِن جميع السموم. |
وإذا اكتُحِلَ بمائها، نفع من العَشَا، ويدخل ورقُها فى الترياق، وينفعُ من
لدغ العقرب، ويُقاوِم أكثرَ السموم، وإذا اعتُصِرَ ماؤها، وصُبَّ عليه الزيتُ،
خلَّص من الأدوية القتَّالة، وإذا اعتُصِرَ أصلُهَا، وشُرِبَ ماؤه، نفع من لسع
الأفاعى، ولسع العقرب، ولسع الزنبور، ولبن أصلها يجلو بياضَ العَيْن.
حرف الواو وَرْسٌ: ذكر الترمذى فى "جامعه": من حديث زيد بن أرْقمَ، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أنه كان ينعَتُ الزَّيْتَ والوَرْسَ من ذات الجَنْبِ"، قال قتادةُ: يُلَدُّ به، ويُلَدُّ من الجانبِ الذى يشتكِيه. وروى ابن ماجه فى "سننه" من حديث زيد بن أرقم أيضاً، قال: "نعتَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن ذَاتِ الجَنْبِ وَرْساً وقُسْطاً وزيتاً يُلَدُّ به". وصَحَّ عن أُمِّ سلمة رضى الله عنها قالت: "كانت النُّفَسَاءُ تَقْعُدُ بعدَ نِفاسِهَا أربعينَ يوماً، وكانت إحدانا تَطْلى الوَرْسَ على وَجْهِهَا من الكَلَف". |
قال أبو حنيفة اللُّغوىُّ: الوَرْسُ يُزرع زرعاً، وليس ببَرِّىٍّ، ولستُ
أعرفه بغيرِ أرضِ العربِ، ولا مِن أرض العرب بغير بلاد اليمن.وقوتُه فى الحرارة
واليُبوسة فى أوَّل الدرجة الثانية، وأجودُه الأحمرُ اللَّيِّن فى اليد، القليلُ
النُّخالة، ينفع من الكَلَفِ، والحِكَّة، والبثور الكائنة فى سطح البدن إذا
طُلِىَ به، وله قوةٌ قابضة صابغة، وإذا شُرِبَ نفع مِن الوَضَحِ، ومقدارُ الشربة
منه وزنُ درهم.وهو فى مزاجه ومنافعه قريبٌ من منافع القُسْط البحرىِّ، وإذا لُطخ
به على البَهَق والحِكَّة والبثورِ والسُّفعة نفع منها، والثوبُ المصبوغ
بالوَرْس يُقوِّى على الباه.
وسْمَةً: هى: ورق النيل، وهى تُسوِّد الشعر، وقد تقدَّم قريباً ذكرُ الخلاف فى جواز الصبغ بالسواد ومَن فعله. حرف الياء يَقْطِينٌ: وهو الدُّبَّاء والقرع، وإن كان اليقطينُ أعمَّ، فإنه فى اللُّغة: كل شجر لا تقومُ على ساق، كالبِّطيخ والقِثاء والخيار. قال الله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ}[الصافات:146] فإن قيل: ما لا يقومُ على ساق يُسمى نَجْماً لا شجراً، والشجر: ما له ساق قاله أهل اللُّغة فكيف قال: {شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ}[الصافات:146] ؟ .فالجواب: أنَّ الشجر إذا أُطلِقَ، كان ما له ساق يقوم عليه، وإذا قُيِّدَ بشىءٍ تقيَّد به، فالفرقُ بين المطلقَ والمقيَّد فى الأسماء باب مهمٌ عظيم النفع فى الفهم، ومراتب اللُّغة. |
واليقطين المذكور فى القرآن: هو نبات الدُّبَّاء، وثمره يُسمى الدُّبَّاء
والقرْعَ، وشجرة اليقطين.وقد ثبت فى "الصحيحين": من حديث أنس بن مالك،
أنَّ خياطاً دعا رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لطعام صنَعه،
قال أنسٌ رضى الله عنه: فذهبتُ مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فقرَّب إليه خُبزاً من شعير، ومرَقاً فيه دُبَّاءٌ وقَدِيدٌ، قال
أنس: فرأيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتتبَّعُ
الدُّبَّاء من حَوالى الصَّحْفَةِ، فلم أزل أُحِبُّ الدُّبَّاءَ من ذلك
اليوم.وقال أبو طالُوتَ: دخلتُ على أنس بن مالك رضى الله عنه، وهو يأكل القَرْع،
ويقول: يا لكِ من شجرةٍ ما أحبَّك إلىَّ لحُبِّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاكِ.
وفى "الغَيْلانيَّات": من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشةَ رضى الله عنها قالت: قال لى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا عائشةُ؛ إذا طبَخْتُم قِدْراً، فأكثِروا فيها من الدُّبَّاء، فإنَّهَا تَشُدُّ قَلْبَ الحَزِين". اليقطين: بارد رطب، يغذو غِذاءً يسيراً، وهو سريعُ الانحدارِ، وإن لم يفسُد قبل الهضم، تولَّد منه خِلْطٌ محمود، ومِن خاصيته أنه يتولَّد منه خِلط محمود مجانس لما يصحبُه، فإن أُكِلَ بالخَرْدل، تولَّد منه خِلطٌ حِرِّيف، وبالملح خِلطٌ مالح، ومع القابض قابضٌ، وإن طُبخَ بالسفرجل غَذَا البدن غِذاءً جيداً. وهو لطيفٌ مائىٌ يغذو غذاءً رطباً بلغمياً، وينفع المَحْرورين، ولا يُلائم المَبْرودين، ومَن الغالبُ عليهم البلغمُ، وماؤه يقطعُ العطش، ويُذهبُ الصُّداع الحار إذا شُرِبَ أو غُسِلَ به الرأسُ، وهو مُليِّن للبطن |
كيف استُعْمِل، ولا يتداوَى المحرورون بمثله، ولا أعجلَ منه نفعاً.ومن
منافعه: أنه إذا لُطِخَ بعجين، وشُوِىَ فى الفرن أو التَّنُّور، واستُخْرِج ماؤه
وشُرِبَ ببعض الأشربة اللَّطيفة، سَكَّن حرارة الحُمَّى الملتهبة، وقطع العطش،
وغذَّى غِذاءً حسناً، وإذا شُرِبَ بترنْجبين وسَفَرْجَل مربَّى أسهل صفراءَ
محضةً.
وإذا طُبِخَ القرعُ، وشُرِبَ ماؤه بشىءٍ من عسل، وشىءٍ من نَطْرون، أحدَرَ بلغماً ومِرَّة معاً، وإذا دُقَّ وعُمِلَ منه ضِمادٌ على اليافوخ، نفع من الأورام الحارة فى الدماغ. وإذا عُصِرَت جُرَادتُه، وخُلِطَ ماؤها بدُهن الورد، وقُطِر منها فى الأُذن، نفعتْ مِن الأورام الحارة، وجُرادتُه نافعة من أورامِ العَيْن الحارة، ومن النِّقْرِس الحار.وهو شديدُ النفع لأصحاب الأمزجة الحارة والمحمومين، ومتى صادف فى المَعِدَة خِلطاً رديئاً، استحال إلى طبيعته، وفسد، وولَّد فى البدن خِلْطاً رديئاً، ودفعُ مضرته بالخلِّ والمُرِّى.وبالجملةِ.. فهو من ألطفِ الأغذيةِ، وأسرعِهَا انفعالاً، ويُذكر عن أنس رضى الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُكثرُ مِن أكلِه. |
[فصول متفرقة من الوصايا النافعة فى العِلاج
والتدبير ]
فصل وقد رأيتُ أن أختِمَ الكلامَ فى هذا البابِ بفصلٍ مختصر عظيمِ النفع |
فى المحاذِرِ، والوصايا الكلية النافعةِ لِتتمَّ منفعةُ الكتاب
ورأيتُ لابن ماسَوَيْه فصلاً فى كتاب "المحاذير" نقلتُه بلفظه، قال:"مَن أكل البصلَ أربعين يوماً وكَلِفَ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه.ومَن افتَصد، فأكل مالِحاً فأصابه بَهَقٌ أو جَرَبٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه. ومَن جمع فى مَعِدَته البيض والسمكَ، فأصابه فالِج أو لَقْوةٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه. ومَن دخلَ الحمَّامَ وهو ممتلئ، فأصابه فالجٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسه. ومَن جمع فى مَعِدته اللَّبنَ والسَّمكَ، فأصابه جُذام، أو بَرَصٌ أو نِقْرِسٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه. ومَن جمع فى مَعِدَتِهِ اللَّبنَ والنِّبيذَ، فأصابه بَرَصٌ أو نِقْرِسٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه. ومَن احتَلَم، فلم يغتسلْ حتى وَطِىءَ أهلَه، فولدتْ مجنوناً أو مَخَبَّلاً، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه. ومَن أكل بَيْضاً مسلوقاً بارداً، وامتلأ منه، فأصابه رَبوٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه.ومَن جامَعَ، فلم يَصْبِر حتى يُفْرِغَ، فأصابه حصاة، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه. ومَن نظر فى المرآة ليلاً، فأصابه لَقْوة، أو أصابه داء، فلا يلومَنَّ إلاَّ نفسَه". |
فصل [فى التحذير من الجمع بين البَيْض والسَّمَك]
وقال ابن بَخْتَيَشُوع: "احذرْ أن تجمعَ البَيْضَ والسَّمكَ، فإنهما يُورثان القُولنْج والبواسير، ووجعَ الأضراس" وإدامةُ أكل البَيْض يُوَلِّد الكَلَف فى الوجه، وأكلُ الملوحة والسَّمَك المالح والافتصاد بعد الحمَّام يُولِّد البَهَق والجَرَب. إدامةُ أكل كُلَى الغنم يَعقِرُ المثانة. الاغتسالُ بالماء البارد بعد أكل السَّمَكِ الطرىِّ يُولِّدُ الفالج. وطءُ المرأة الحائض يُولِّدُ الجُذام. الجماعُ من غير أن يُهَرِيقَ الماء عقيبَه يُولِّد الحصاة. "طولُ المُكث فى المَخْرج يُولِّد الداءَ الدَّوِىَّ". وقال أبقراط: "الإقلال مِن الضار، خيرٌ مِن الإكثار من النافع"، وقال: "استديموا الصحة بتركِ التكاسل عن التعب، وبتركِ الامتلاء من الطعام والشراب". وقال بعضُ الحكماء: "مَن أراد الصِّحة، فليجوِّد الغِذاء، وليأكل على نقاء، وليشرب على ظمإٍ، وليُقلِّلْ مِن شُرب الماء، ويتمدَّدْ بعد الغداء، ويَتَمشَّ بعدَ العَشاء، ولا ينم حتى يَعْرِضَ نفسَه على الخَلاء، وليحذر دخول الحمَّام عقيبَ الامتلاء، ومرةٌ فى الصيف خيرٌ من عشرٍ فى الشتاء، وأكلُ القديد اليابس بالليل مُعِينٌ على الفناء، ومجامعةُ العجائز تُهْرِمُ أعمارَ الأحياءِ، وتُسقِم أبدان الأصحاء". ويُروى هذا عن علىٍّ رضى الله عنه، ولا يَصِحُّ عنه، وإنما بعضُه مِن كلام الحارث بن كلَدَةَ طبيبِ العرب، وكلامِ غيره. |
وقال الحارث: "مَن سَرَّه البقاء ولا بقاء فليُباكِرِ الغَداء،
وليُعَجِّل العَشَاء، وليُخفِّف الرِّداء، وليُقِلَّ غِشيان النساء".
وقال الحارث: "أربعةُ أشياءَ تهدِمُ البدن: الجِماعُ على البِطْنة، ودخولُ الحمَّام على الامتلاء، وأكلُ القديد، وجِماعُ العجوز".ولما احتُضِرَ الحارث اجتمع إليه الناسُ، فقالوا: مُرْنا بأمر ننتهى إليه مِن بعدك. فقال: "لا تتزوجوا من النساء إلا شابةً، ولا تأكلوا من الفاكهة إلا فى أوان نُضجها، ولا يتعالجَنَّ أحدُكم ما احتمل بدنه الداء، وعليكم بتنظيف المَعِدَة فى كل شهر، فإنها مُذيبة للبلغم، مُهلكة للمِرَّة، مُنبتة للحم، وإذا تَغدَّى أحدكم، فلينم على إثر غدائه ساعة، وإذا تعشَّى فليمشِ أربعين خطوةً". وقال بعض الملوك لطبيبه: لعلَّك لا تبقَى لى، فصِفْ لى صِفة آخذُها عنك، فقال: "لا تنكِحْ إلا شابةً، ولا تأكُلْ مِن اللَّحم إلا فَتِّياً، ولا تشربِ الدواء إلا من عِلَّة، ولا تأكُلِ الفاكهةَ إلا فى نُضجها، وأجِدْ مضغَ الطعام، وإذا أكلتَ نهاراً فلا بأس أن تنامَ، وإذا أكلتَ ليلاً فلا تنم حتى تمشىَ ولو خمسين خطوة، ولا تأكلنَّ حتى تجوع، ولا تتكارَهَنَّ على الجِمَاع، ولا تحبِس البَوْل، وخُذ مِن الحَمَّام قبلَ أن يأخُذَ منك، ولا تأكلَنَّ طعاماً وفى مَعِدَتِك طعامٌ، وإياكَ أن تأكل ما تعجز أسنانُك عن مضغِه، فتعجِزَ مَعِدَتُك عن هضمه، وعليك فى كل أسبوعٍ بقيئة تُنقِّى جسمَك، ونِعْمَ الكنزُ الدمُ فى جسدك، فلا تُخْرِجْه إلا عند الحاجة إليه، وعليك بدخول الحمَّام، فإنه يُخرج مِن الأطباق ما لا تَصِلُ الأدوية إلى إخراجه". وقال الشافعى: "أربعةٌ تُقوِّى البدن: أكلُ اللَّحم، وشمُّ الطِّيب، وكثرةُ الغسلِ |
مِن غير جِماع، ولُبْسُ الكَتَّان"
وأربعةُ تُوهِن البدن: كثرةُ الجِماع، وكثرةُ الهم، وكثرةُ شرب الماء على الرِّيق، وكثرةُ أكل الحامِض. وأربعةُ تُقوِّى البصر: الجلوسُ حِيالَ الكعبة، والكحلُ عند النوم، والنظرُ إلى الخُضرة، وتنظيف المجلس. وأربعةُ توهِنُ البصر: النظرُ إلى القذَرِ، وإلى المصلوبِ، وإلى فَرْجِ المرأة، والقعودُ مستدبِرَ القِبْلَة. وأربعةُ تزيدُ فى الجِمَاع: أكلُ العصافير، والإطْرِيفل، والفُسْتُق، والخرُّوب. وأربعةُ تزيد فى العقل: تَرْكُ الفُضول مِن الكلام، والسِّواكُ، ومجالسةُ الصَّالحين، ومجالسةُ العلماء". وقال أفلاطون: "خمسٌ يُذبنَ البدنَ وربما قتلن: قِصَرُ ذاتِ اليد، وِفراقُ الأحِبَّة، وتجرُّع المغايظ، وردُّ النصح، وضحكُ ذوى الجهل بالعُقلاء". وقال طبيبُ المأمون: "عليك بخصالٍ مَنْ حَفِظَها فهو جديرٌ أن لا يعتلَّ إلا عِلَّة الموت: لا تأكُلْ طعاماً وفى مَعِدَتِك طعام، وإيَّاكَ أن تأكل طعاماً يُتْعِبُ أضراسكَ فى مضغه، فتعجزُ مَعِدَتُك عن هضمه، وإياكَ وكثرةَ الجِماع، فإنه يُطفىء نور الحياة، وإياك ومجامعة العجوز، فإنه يُورث موت الفَجْأة، وإياكَ والفصدَ إلا عند الحاجة إليه، وعليك بالقىء فى الصَّيف". |
ومن جوامع كلمات أبقراط قوله: "كُلُّ كثيرٍ فهو مُعادٍ للطبيعة".
وقيل لجالينوسَ: ما لَكَ لا تمرَضُ ؟ فقال: "لأنى لم أجمع بين طعامَين رديئين، ولم أُدْخِلْ طعاماً على طعام، ولم أَحْبِسُ فى المَعِدَة طعاماً تأذَّيتُ به". فصل وأربعةُ أشياء تُمرض الجسم: الكلامُ الكثير، والنومُ الكثير، والأكلُ الكثير، والجِماعُ الكثير. فالكلامُ الكثير: يُقلِّل مخَّ الدِّماغ ويُضعفه، ويُعجِّل الشيب. والنومُ الكثير: يُصفِّرُ الوجه، ويُعمى القلب، ويُهيِّجُ العَيْن، ويُكسِلُ عن العمل، ويُولِّد الرطوباتِ فى البدن. والأكلُ الكثيرُ: يُفسِدُ فمَ المَعِدَة، ويُضْعِفُ الجسم، ويُولِّدُ الرياح الغليظة، والأدواء العَسِرة. والجِماعُ الكثير: يَهُدُّ البدن، ويُضعفُ القُوَى، ويُجفِّف رطوباتِ البدن، ويُرخى العصبَ، ويُورث السُّدد، ويَعُمُّ ضررُه جميعَ البدن، ويخصُّ الدماغ لكثرة ما يتحلَّل به من الروح النفسانىِّ، وإضعافُه أكثر من إضعاف جميع المستفرِغات، ويَستفرغ مِن جوهر الروح شيئاً كثيراً. وأنفعُ ما يكون إذا صادف شهوةً صادقة مِن صورة جميلة حديثةِ السِّنِ حلالاً مع سِنِّ الشُّبوبية، وحرارةِ المزاج ورطوبته، وبُعدِ العهد به وخَلاءِ القلب من الشواغل النفسانية، ولم يُفْرطْ فيه، ولم يُقارنه ما ينبغى تركُه معه مِن امتلاء مفرط، أو خَوَاء، أو استفراغ، أو رياضة تامة، |
أو حَرٍّ مفرِط، أو بردٍ مفرِط، فإذا راعى فيه هذه الأُمور العشرة، انتفعَ
به جداً، وأيُّها فُقِدَ فقد حصلَ له من الضرر بحسبه، وإن فُقِدَتْ كلُّها أو
أكثرها، فهو الهلاك المعجَّل.
فصل والحِمْيَةُ المفرطة فى الصحة، كالتخليط فى المرض. والحِمْيَةُ المعتدلة نافعة.وقال جالينوسُ لأصحابه: "اجتنِبوا ثلاثاً، وعليكم بأربع، ولا حاجةَ بكم إلى طبيب: اجتنبوا الغُبار، والدخان، والنَّتن، وعليكم بالدَّسم، والطِّيب، والحَلْوى، والحمَّام، ولا تأكلوا فوقَ شِبعكم، ولا تتخلَّلوا بالباذَرُوج والرَّيحان، ولا تأكلوا الجَوزَ عند المساء، ولا ينمْ مَن به زُكمةٌ على قفاه، ولا يأكل مَن به غَمٌ حامِضاً، ولا يُسرعِ المشىَ مَن افتَصد، فإنه مخاطرةُ الموت، ولا يتقيَّأ مَن تؤلمه عينُه، ولا تأكلُوا فى الصيف لحماً كثيراً، ولا ينمْ صاحبُ الحُمَّى الباردة فى الشمسِ، ولا تقرَبُوا الباذَنجان العتيق المبزر، ومَن شرب كُلَّ يوم فى الشتاء قدحاً من ماء حار، أمِنَ من الأعلال، ومَن دَلَكَ جسمه فى الحمَّام بقشُور الرُّمَّان أمِنَ مِنَ الجرَب والحِكَّة، ومَن أكل خمسَ سَوْسنات مع قليل من مُصْطَكى رومى، وعودٍ خام، ومسك، بقى طولَ عمره لا تضعُفَ مَعِدَتُه ولا تفسُد، ومَن أكل بِزر البطِّيخ مع السكر، نظَّف الحَصَى مِن مَعِدَته، وزالت عنه حُرْقة البَوْل". |
فصل
أربعةٌ تَهدِم البدن: الهمُّ، والحزنُ، والجوعُ، والسهرُ. وأربعةٌ تُفرح: النظرُ إلى الخُضرةِ، وإلى الماءِ الجارى، والمحبوب، والثمار. وأربعةٌ تُظلم البصر: المشىُ حافياً، والتصبُّحُ والتمسى بوجه البغيض والثقيل والعدو، وكثرةُ البكاء، وكثرةُ النظر فى الخط الدقيق. وأربعةٌ تُقوِّى الجسم: لُبْسُ الثوب الناعم، ودخولُ الحمَّام المعتدل، وأكلُ الطعام الحلو والدَّسم، وشَمُّ الروائح الطيبة. وأربعةٌ تُيبس الوجه، وتُذهب ماءه وبهجته وطلاوته: الكَذِبُ، والوقاحةُ، وكثرةُ السؤال عن غير علم، وكثرةُ الفجور وأربعةٌ تَزيد فى ماء الوجه وبهجتِهِ: المروءةُ، والوفاءُ، والكرمُ، والتقوى.وأربعةٌ تَجلِبُ البغضاء والمقت: الكِبرُ، والحَسَدُ، والكَذِبُ، والنَّميمةُ. وأربعةٌ تَجلِبُ الرِّزق: قيامُ اللَّيل، وكثرةُ الاستغفار بالأسحار، وتعاهُدُ الصَدَقة، والذِكْرُ أولَ النهارِ وآخرَه. وأربعةٌ تمنع الرِّزق: نومُ الصُّبْحة، وقِلَّةُ الصلاة، والكَسَلُ، والخيانةُ.وأربعةٌ تَضُرُّ بالفهم والذهن: إدمانُ أكل الحامض والفواكه، والنومُ على القفا، والهمُّ، والغمُّ. |
وأربعةٌ تَزيد فى الفهم: فراغُ القلب، وقِلَّةُ التملِّى من الطعام والشراب،
وحُسنُ تدبير الغذاء بالأشياء الحُلوة والدَّسِمة، وإخراجُ الفَضلات
المُثْقِلَةِ للبدن.
وممَّا يضرُّ بالعقل: إدمانُ أكل البصل، والباقِلا، والزَّيتون، والباذِنجان، وكَثرةُ الجِماع، والوحدةُ، والأفكارُ، والسُّكْرُ، وكَثْرةُ الضَّحِك، والغم. قال بعضُ أهل النظر: "قُطِعتُ فى ثلاث مجالسَ، فلم أجِد لذلك عِلَّةً إلاَّ أنى أكثرتُ من أكل الباذنجان فى أحد تلك الأيام، ومن الزيتون فى الآخر، ومن الباقِلا فى الثالث". فصل قد أتَيْنا على جُملة نافعة من أجزاء الطبِّ العلمىِّ والعملىّ، لعلَّ الناظرَ لا يظفرُ بكثير منها إلا فى هذا الكتاب، وأرَيْناك قُربَ ما بينها وبينَ الشريعة، وأنَّ الطبَّ النبوى نسبةُ طِبِّ الطبائعيين إليه أقلُّ مِن نسبة طب العجائز إلى طبهم. والأمر فوق ما ذكرناه، وأعظمُ مما وصفناه بكثير، ولكن فيما ذكرناه تنبيهٌ باليسير على ما وراءه، ومَن لم يرزُقه اللهُ بصيرة على التفصيل، فليعلمْ ما بيْنَ القوَّةِ المؤيَّدةِ بالوحى من عند اللهِ، والعلومِ التى رزقها اللهُ الأنبياءَ، والعقولِ والبصائر التى منحهم الله إياها، وبين ما عند غيرهم. |
ولعل قائلاً يقولُ: ما لهَدْىِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وما لِهذا الباب، وذكْرِ قُوى الأدوية، وقوانين العِلاج، وتدبيرِ أمر الصحة
؟وهذا مِن تقصير هذا القائل فى فهم ما جاء به الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فإنَّ هذا وأضعافَه وأضعافَ أضعافه مِن فهم بعض ما جاء به، وإرشادِه
إليه، ودلالته عليه، وحُسنُ الفهم عن الله ورسوله مَنٌ يَمُنُّ اللهُ به على
مَنْ يشاءُ من عباده.
فقد أوجدناك أُصولَ الطِّب الثلاثة فى القرآن، وكيف تُنكر أن تكونَ شريعةُ المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة مشتملةً على صلاح الأبدان، كاشتمالها على صلاح القلوب، وأنها مُرشدة إلى حِفظ صحتها، ودفع آفاتها بطُرق كُليَّة قد وُكِلَ تفصيلُها إلى العقل الصحيح، والفِطرة السليمة بطريق القياس والتنبيه والإيماء، كما هو فى كثير من مسائل فروع الفقه، ولا تكن ممن إذا جهل شيئاً عاداه.ولو رُزِقَ العبدُ تضلُّعاً مِن كتاب الله وسُنَّة رسوله، وفهماً تاماً فى النصوص ولوازمها، لاستغنَى بذلك عن كُلِّ كَلامٍ سواه، ولاستنبَطَ جميعَ العلومِ الصحيحة منه. فمدارُ العلوم كلها على معرفة الله وأمره وخَلْقِه، وذلك مُسْلَّم إلى الرُّسُل صلوات الله عليهم وسلامه، فهم أعلمُ الخلق بالله وأمرِه وخَلْقِه وحِكمته فى خلقه وأمره. وطبُّ أتباعهم: أصحُّ وأنفعُ مِن طبِّ غيرهم، وطِبُّ أتباع خاتمهم وسيدهم وإمامهم محمَّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم: أكملُ الطِّب وأصحُّه وأنفعُه. ولا يَعْرِفُ هذا إلا مَن عرف طبَّ الناسِ سواهم وطِبَّهم، ثم وازن بينهما، فحينئذٍ يظهُر له التفاوتُ، وهم |
أصَحُّ الأُمم عقولاً وفِطَراً، وأعظمُهم علماً، وأقربُهم فى كل شىء إلى
الحَقِّ لأنهم خِيرة الله من الأُمم، كما أنَّ رسولهم خيرتُه مِن الرُّسُل،
والعلمُ الذى وهبهم إيَّاه، والحلمُ والحكمةُ أمرٌ لا يدانيهم فيه غيرُهم.
وقد روى الإمامُ أحمد فى "مسنده": من حديث بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنتُمْ تُوَفُّون سبعين أُمَّةً أنتُم خَيرُها وأكْرَمُها على اللهِ". فظَهَر أثرُ كرامتها على الله سبحانه فى علومهم وعقولهم، وأحلامهم وفِطَرهم، وهم الذين عُرِضَتْ عليهم علومُ الأُمم قبلَهم وعقولهم، وأعمالُهم ودرجاتُهم، فازدادوا بذلك عِلماً وحلماً وعقولاً إلى ما أفاض اللهُ سبحانه وتعالى عليهم مِن علمه وحلمه ولذلك كانت الطبيعة الدمويَّةُ لهم، والصفراويَّةُ لليهود، والبلغميَّةُ للنصارى، ولذلك غَلَبَ على النصارى البلادةُ، وقِلَّةُ الفهم والفِطنةِ، وغَلَبَ على اليهود الحزنُ والهمُّ والغمُّ والصَّغار، وغَلَبَ على المسلمين العقلُ والشجاعةُ والفهمُ والنجدةُ، والفرحُ والسرور. وهذه أسرارٌ وحقائق إنما يَعرِفُ مقدارَها مَنْ حَسُنَ فهمُه، ولَطُفَ ذِهنُه، وغَزُرَ عِلمُه، وعرف ما عند الناس.. وبالله التوفيق. وبعونه تعالى تم الجزء الرابع من زاد المعاد في هدي خير العباد ويليه الجزء الخامس وأوله فصل في هدية صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أقضيته وأحكامه |
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأقضِيَة والأنكِحَة
والبُيُوع
وليس الغرضُ من ذلك ذكر التشريع العام وإن كانت أقضيتهُ الخاصةُ تشريعاً عاماً، وإنما الغرضُ ذكرُ هديه فى الحكومات الجزئية التى فصل بها بينَ الخصوم، وكيف كان هديهُ فى الحكم بين الناس، ونذكرُ مع ذلك قضايا مِن أحكامه الكلية. فصل ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث بهزِ بن حكيم، عن أبيه، عن جده، " أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رجلاً فى تُهْمةٍ". قال أحمد وعلى بن المدينى: هذا إسناد صحيح. وذكر ابنُ زياد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى "أحكامه": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجن رجلاً أعتق شِرْكاً له فى عبد، فوجب عليه استتمام عتقه حتى باع غُنَيْمَةً له. |
فصل: فى حكمه فيمن قَتَلَ عبده
روى الأوزاعى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدَّه، أن رجلاً قتل عبدَه متعِّمداً، فجلده النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مائة جلدةً، ونفاه سنةً، وأمره أن يعتِقَ رقبةً ولم يُقِدْهُ به. وروى الإمام أحمد: من حديث الحسن، عن سَمُرَةَ رضىَ اللهُ عنه، عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاه " فإن كان هذا محفوظاً، وقد سمعه منه الحسن، كان قتلُه تعزيزاً إلى الإمام بحسب ما يراه من المصلحة. وأمرَ رجلاً بملازمة غريمه، كما ذكر أبو داود، عن النَّضر بن شُميل، عن الهِرماس بن حبيب، عن أبيه، عن جدِّه رضى الله عنه قال: أتيتُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغريم لى، فقال لى: "الْزَمْهُ" ثم قال لى: "يا أخا بنى سَهْم ما تُريدُ أنْ تَفْعَلَ بِأسِيرك"؟ وروى أبو عبيدٍ، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بقتل القاتل، وصبْرِ الصابر. قال أبو عبيد: أى: بحبسه للموتِ |
حتى يموت.
وذكر عبدُ الرزاق فى "مصنفه" عن على: يُحبس المُمْسِكُ فى السِّجْنِ حتى يَموتَ. فصل: فى حكمه فى المحاربين حَكم بقطع أيدِيهم، وأرجُلهِم، وسَمْلِ أعينهم، كما سملُوا عينَ الرِّعاء، وتركهم حتى ماتُوا جوعاً وعطشاً كما فعلوا بالرِّعاء. فصل: فى حكمه بين القاتل وولى المقتول ثبت فى "صحيح مسلم": عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رجلاً ادَّعى على آخر أنه قتلَ أخاهُ، فاعترف، فقالَ: "دُونَكَ صَاحِبَكَ"، فلما ولَّى، قال: "إنْ |
قَتَلَهُ، فهو مِثْلُه" ، فرجعَ فقال: إنما أخذتُه بأمرك، فقال صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمَا تُريدُ أَن يَبوءَ بإثْمِكَ وإِثْم
صَاحِبَكَ"؟ فقال: بلى فخلّى سبيلَه.
وفى قوله: "فهو مثلُه"، قولان، أحدهما: أن القاتل إذا قِيد منه، سقط ما عليه، فصار هو والمستفيدُ بمنزلةٍ واحدة، وهو لم يقل: إنه بمنزلته قبل القتل، وإنما قال: "إن قتله فهو مثلُه"، وهذا يقتضى المماثلةَ بعد قتله، فلا إشكالَ فى الحديث، وإنما فيه التعريضُ لصاحب الحقّ بترك القود والعفو. والثانى: أنه إن كان لم يُرد قتلَ أخيه قتلَه به، فهو متعدٍّ مثله إذ كان القاتل متعدياً بالجناية، والمقتصُّ متعدٍ بقتل من لم يتعمدِ القتلَ، ويدلُّ على التأويل ما روى الإمام أحمد فى "مسنده": من حديث أبى هُريرة رضى الله عنه قال: قُتِلَ رجل على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرُفِعَ إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدفَعه إلى ولىَّ المقتول، فقال القاتِلُ: يا رسولَ الله، ما أردتُ قتلَه، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للولى: "أمَا إنَّهُ إذَا كَانَ صَادِقاً، ثم قَتَلْتَه دَخَلْتَ النَّار" ، فخلَّى سبيله. وفى كتاب ابن حبيب فى هذا الحديث زيادةُ، وهى: قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَمْدُ يَدٍ، وخَطَأُ قَلْبٍ". |
فصل: فى حكمه بالقَوَدِ على من قتل جاريةً، وأنه يُفعَلُ به كما فَعَلَ
ثبت فى "الصحيحين": "أن يهودياً رضَّ رأسَ جاريةٍ بينَ حجريْنِ على أوضاحٍ لها، أى: حُلِىٍّ، فأُخِذَ، فاعْتَرَفَ، فأمر رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُرَضَّ رأسُه بين حَجَرَيْنِ". وفى هذا الحديثِ دليلٌ على قتلِ الرجل بالمرأة، وعلى أن الجانىَ يُفعل به كمَا فَعَلَ، وأن القتل غيلة لا يُشترط فيه إذنُ الولى، فإنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يدفعه إلى أوليائها، ولم يقل: إن شِئتُم فاقتلُوه، وإن شئتم فاعفوا عنه، بل قتله حتماً، وهذا مذهبُ مالك، واختيارُ شيخِ الإسلام ابن تيمية، ومن قال: إنه فعل ذلك لِنقض العهد، لم يَصِحَّ، فإن ناقض العهد لا تُرضخُ رأسهُ بالحجارة، بل يُقتل بالسيف. فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن ضرب امرأةً حامِلاً فَطرحهَا فى "الصحيحين": "أن امرأتينِ من هُذيل رمت إحداهُما الأُخرى بحجَرٍ فقتلتها وما فى بطنها، فقضى فيها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغُرَّةً: عَبْدٍ أَو ولِيدَةٍ فى الجنين، وجعل دِيةَ المقتولةِ على عَصَبة القاتِلةِ"، هكذا |
فى "الصحيحين". وفى النسائى: "فقضى فى حملها بغُرَّة، وأن
تُقتل بها"، وكذلك قال غيرُه أيضاً: إنه قتلها مكانها، والصحيح: أنه لم
يقتلها لما تقدم. وقد روى البخارىُّ فى "صحيحه" عن أبى هريرة رضى الله
عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قضى فى جنينِ امرأةٍ
من بنى لَحيان بغُرَّةٍ: عبدٍ أو وليدةٍ، ثم إن المرأة التى قضى عليها بالغُرة
تُوفيت، فقضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ميراثها لبنيها
وزوجها، وأن العقلَ على عصبتها".
وفى هذا الحكم أن شِبهَ العمدِ لا يُوجب القود، وأن العاقِلَة تحمل الغُرَّةَ تبعاً للدية، وأن العاقلة هم العصبةُ، وأن زوجَ القاتلة لا يدخُلُ معهم، وأن أولادهَا أيضاً ليسوا مِن العاقِلة. فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقَسامة فيمن لم يُعرف قاتِلُه ثبت فى "الصحيحين": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بها بين الأنصار واليهود، |
وقال لِحُوَيِّصَةَ ومُحَيِّصَةَ وعَبْدِ الرحمن: "أتَحْلِفُونَ
وتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبكُم"؟ وقال البخارى: "وتستحقون قَاتِلَكُم
أو صاحِبَكُم"، فقالوا: أمرُ لم نشهده ولم نره، فقال: "فَتُبْرئكُم
يَهُودُ بأَيْمَانِ خَمْسِينَ "، فَقَالُوا: كيف نقبلُ أيمان قَوْمٍ كفار؟
فوداه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عنده.
وفى لفظ: ويُقْسِمُ خمسون منكم على رجل منهم، فيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ إليه". واختلف لفظُ الأحاديث الصحيحة فى محل الدِّية، ففى بعضها أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وداه مِن عنده، وفى بعضها وداه من إبل الصدقة. وفى "سنن أبى داود": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ألقى ديتَه على اليهود، لأنه وُجِدَ بينهم". وفى "مصنف عبد الرزاق": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بدأ بيهود، فأبَوْا أن يحلِفُوا، فردَّ القسامةَ على الأنصار، فأبوا أن يحلِفُوا فجعل عَقلَه على يهود". وفى "سنن النسائى": "فجعل عقله على اليهود، وأعانهم ببعضِها". وقد تضمنت هذه الحكومة أموراً: |
منها: الحكمُ بالقَسامة، وأنها مِن دين الله وشرعه.
ومنها: القتلُ بها لِقوله: "فيدفع بُرمَّتِهِ إليه"، وقوله فى لفظ آخر: "وتستحِقُّونَ دمَ صاحبكم"، فظاهرُ القرآن والسنة القتلُ بأيمان الزوج الملاعن وأيمانِ الأولياء فى القسامة، وهو مذهبُ أهل المدنية، وأما أهلُ العراق، فلا يقتلُونَ فى واحد منهما، وأحمدُ يقتل فى القسامةِ دون اللعان، والشافعى عكسه. ومنها: أنه يبدأ بأيمان المُدَّعِينَ فى القَسامة بخلاف غيرِها من الدَّعاوى. ومنها: أن أهلَ الذِّمة إذا منعوا حقاً عليهم، انتقضَ عهدُهم لِقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إما أن تدوه، وإما أن تأذنُوا بحرب". ومنها: أن المدَّعىَ عليه إذا بَعُدَ عن مجلس الحكم، كَتَبَ إليه، ولم يُشْخِصْهُ. ومنها: جوازُ العملِ والحُكم بِكتابِ القاضى وإن لم يُشهد عليه. ومنها: القضاء على الغائب. ومنها: أنه لا يُكتفى فى القَسامة بأقلَّ من خمسين إذا وُجدوا. ومنها: الحكمُ على أهل الذمة بحكم الإسلام، وإن لم يتحاكموا إلينا إذا كان الحكمُ بينهم وبينَ المسلمين. ومنها: وهو الذى أشكل على كثيرٍ من الناس إعطاؤه الدية مِن إبل الصدقةِ، وقد ظنَّ بعضُ الناس أن ذلك مِن سهم الغارمين، وهذا لا يصِح، فإن غارِمَ أهلِ الذمة لا يُعطى من الزكاة، وظن بعضُهم أن ذلك مما فَضَل مِن الصدقة عن أهلها، فللإمام أن يصرِفه فى المصالح، وهذا أقربُ مِن الأول، وأقربُ منه: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وداه مِن عنده، واقترضَ الدية |
من إبل الصدقة، ويدل عليه:
"فواده من عنده" وأقربُ من هذا كُلِّه أن يُقال: لما تحمَّلَها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإصلاح ذات البين بين الطائفتين، كان حكمُها حكمَ القضاء على الغرم لما غرمه لإصلاح ذاتِ البين، ولعل هذا مرادُ من قَال: إن قضاها مِن سهم الغارمين، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأخذ منها لنفسه شيئاً، فإن الصدقةَ لا تحِلُّ له، ولكن جرى إعطاءُ الدية منها مجرى إعطاء الغارم منها لإصلاح ذات البين. والله أعلم. فإن قيل: فكيف تصنعون بقوله "فجعل عقلَه على اليهود"؟ فيقال: هذا مجمل لم يحفظ راويه كيفيةَ جعله عليهم، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كتب إليهم أن يدوا القتيلَ، أو يأذنوا بحربٍ، كان هذا كالإلزام لهم بالدِّية، ولكن الذى حفظوا أنهم أنكروا أن يكونوا قتلوا، وحلفوا على ذلك، وأن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وداه من عنده، حفِظُوا زيادة على ذلك، فهم أولى بالتقديم. فإن قيل: فكيف تصنعون برواية النسائى: "أنه قسمها على اليهود، وأعانهم ببعضها"؟ قيل: هذا ليس بمحفوظ قطعاً، فإن الدية لا تلزم المدّى عليهم بمجرد دعوى أولياءِ القتيل، بل لا بُد من إقرار أو بينة، أو أيمان المدعين، ولم يُوجد هنا شىء من ذلك، وقد عرضَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيمانَ القسامة على المدعين، فأَبَوْا أن يحلِفُوا، فكيف يلزم اليهود بالدية بمجرد الدعوى. فصل: فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أربعةً سقطُوا فى بئر، فتعلَّق بعضُهم ببعض، فهلكُوا ذكر الإمام أحمد، والبزار، وغيرُهما، أن قوماً احتفروا بئراً باليمن، |
فسقط فيها رجلٌ، فتعلَّق بآخر، الثانى بالثالث، والثالث بالرابع، فسقطُوا
جميعاً، فماتُوا، فارتفع أولياؤُهم إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال:
اجمعُوا مَنْ حفر البئرَ مِن النَّاسِ، وقضى للأول بُربع الدية، لأنه هلك فوقَه
ثلاثة، وللثانى بُثلثها لأنه هلك فوقه اثنان، وللثالث بنصفهما لأنه هلك فوقَه
واحد، وللرابع بالدية تامة، فأَتوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ العامَ المقبلَ، فقصُّوا عليه القِصَّة، فقال : "هُوَ مَا قضَى
بَيْنكُمْ "، هكذا سياقُ البزار.
وسياق أحمد نحوه، وقال: "إنهم أَبَوْا أَن يرضوا بقضاء على، فَأَتْوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عند مقام إبراهيم عليه السلام، فقصُّوا عليه القِصة، فأجازه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعل الدية على قبائل الذين ازدحموا". فصل: فيمن تزوج إمرأة أبيه روى الإمام أحمد، والنسائى وغيرُهما: عن البراء رضى الله عنه، قال: لقيتُ خالى أبا بُردة ومعه الراية، فقال: "أرسلنى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رجلٍ تزوَّج امرأة أبيه أن أقتُله وآخذ ماله". |
وذكر ابن أبى خيثمة فى "تاريخه"، من حديث معاوية بن قُرة، عن
أبيه، عن جده، رضى الله عنه، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بعثه إلى رجل أعْرسَ بامرأةِ أبيه، فضرب عنقَه، وخمَّسَ ماله. قال يحيى بن معين:
هذا حديث صحيح.
وفى "سنن ابن ماجه" من حديث ابن عباس قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَنْ وَقَعَ عَلى ذَاتِ مَحْرمٍ فَاقْتُلُوهُ". وذكر الجوزجانى، أنه رُفِعَ إلى الحجاجِ رجلٌ اغتصبَ أختَه على نفسها، فقال: احبِسُوهُ، وسلوا مَنْ هاهنا من أصحابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألوا عبد الله بن أبى مطرِّف رضى الله عنه، فقال: سمعتُ رسول الله يقول: "مَنْ تَخَطَّى حُرَمَ المُؤْمِنِينَ، فَخُطُّوا وَسَطَه بالسَّيفِ". وقد نص أحمد فى رواية إسماعيل بن سعيد، فى رجل تزوَّج امرأة أبيه أو بذاتِ محرم، فقال: يُقتل، ويُدخل مالُه فى بيت المال. وهذا القولُ هو الصحيح، وهو مقتضى حكمِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الشافعى ومالك وأبو حنيفة: حدُّه حدُّ الزانى، ثم قال أبو |
حنيفة: إن وطئها بعد، عُزِّرَ، ولا حد عليه، وحكمُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقضاؤه أحق وأولى.
فصل: فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل من اتُّهِمَ بأم ولده فلما ظهرت براءتُه، أمسك عنه روى ابن أبى خيثمة وابن السكن وغيرُهما من حديث ثابت، عن أنس رضى الله عنه، أن ابنَ عمِّ ماريةَ كان يُتَّهم بها، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه: "اذْهَبْ فَإنْ وَجَدْتَهُ عِنْدَ مَارِيَةَ، فاضْرِبْ عُنُقَهُ"، فأتاهُ علىٌّ فإذا هو فى رَكِىٍّ يتبَرَّدُ فيها، فقال له على: اخرج، فناوله يده، فأخرجه، فإذا هو مجبوبٌ ليس له ذكر، فكفَّ عنه على، ثم أتى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله: إنه مجبوب، ماله ذكر. وفى لفظ آخر: أنه وجده فى نخلة يجمع تمراً، وهو ملفوفٌ بخرقة، فلما رأى السيفَ، ارتعد وسقطت الخِرقة، فإذا هو مجبوبٌ لا ذكر له. وقد أشكلَ هذا القضاءُ على كثيرٍ من الناس، فطعن بعضُهم فى الحديث، ولكن ليس فى إسناده من يتعلَّق عليه، وتأوَّله بعضُهم على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُردْ حقيقةَ القتل، إنما أرادَ تخويفَه ليزدجِرَ عن مجيئه إليها. قال: وهذا كما قال سليمان للمرأتين اللتين اختصمتا إليه فى الولد: "على بالسِّكين حتى أشُقَّ الولد بينهما"، ولم يرد أن يفعل ذلك، بل قصد استعلامَ الأمر من هذا القول، ولذلك كان مِن تراجم الأئمة على هذا الحديث: |
باب الحاكم يُوهم خلاف الحق لِيتوصل به إلى معرفة الحق، فأحبَّ رسولُ الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يَعرِفَ الصحابة براءته، وبراءة مارية،
وعلم أنه إذا عاين السيفَ، كشف عن حقيقة حاله، فجاء الأمرُ كما قدَّره رسولُ
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأحسنُ من هذا أن يقال: إن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر علياً رضى الله عنه بقتله تعزيراً لإقدامه وجرأته على خلوته بأم ولده، فلما تبيَّن لعلى حقيقة الحال، وأنه برىء من الريبة، كفَّ عن قتله، واستغنى عن القتل بتبيين الحال، والتعزيرُ بالقتل ليس بلازم كالحدِّ، بل هو تابعٌ للمصلحة دائرٌ معها وجوداً وعدماً. فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى القتيل يُوجد بينَ قريتين روى الإمام أحمد، وابن أبى شيبة، من حديث أبى سعيد الخدرى رضىَ الله عنه قال: "وُجدَ قتيلٌ بَينَ قريتينِ، فأمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَرَعَ ما بينهما، فوُجِدَ إلى أحدهما أقرب، فكأنى أنظر إلى شِبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فألقاهُ عَلَى أقربِهِمَا".وفى "مصنف عبد الرزاق" قال عمرُ بن عبد العزيز: "قضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما بلغنا فى القتيل يُوجد بين ظهرانى دِيارِ قومٍ: أنَّ الأيمانَ على المدَّعى عليهم، فإن نَكَلُوا، حُلِّفَ المدعون، واستحقُّوا، فإن نكل الفريقانِ، |
كانت الديةُ نِصفُها على المدَّعى عليهم، وبطل النصفُ إذا لم
يحلِفُوا".
وقد نص الإمام أحمد فى رواية المروَزى على القول بمثل رواية أبى سعيد، فقال: قلت لأبى عبد الله: القومُ إذا أعطوا الشىء، فتبينوا أنه ظُلِمَ فيه قوم؟ فقال: يُرد عليهم إن عُرِفَ القوم. قلت: فإن لم يُعرفوا؟ قال: يُفرَّق على مساكين ذلك الموضع، فقلت: فما الحُجة فى أن يُفرَّق على مساكين ذلك الموضع؟ فقال: عمر بنُ الخطاب رضى الله عنه جعل الديةَ على أهل المكانِ يعنى القرية التى وُجِدَ فيها القتيل، فأراه قال: كما أن عليهم الدية هكذا يُفرَّقُ فيهم، يعنى: إذا ظُلِمَ قوم منهم ولم يُعرفوا، فهذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه قد قضى بموجب هذا الحديث، وجعل الديةَ على أهل المكان الذى وُجِدَ فيه القتيلِ، واحتج به أحمد، وجعل هذا أصلاً فى تفريق المال الذى ظُلم فيه أهلُ ذلك المكان عليهم إذا لم يُعرفوا بأعيانهم. وأما الأثر الآخر، فمرسل لا تقومُ بمثله حجة، ولو صحَّ تعيَّن القولُ بمثله، ولم تَجُز مخالفته، ولا يُخالف باب الدعاوى، ولا باب القسامة، فإنه ليس فيهم لَوْثٌ ظاهر يُوجب تقديم المدعين، فيقدم المدَّعى عليهم فى اليمين، فإذا نَكَلُوا، قوىَ جانبُ المدَّعين من وجهين: أحدهما: وجودُ القتيل بين ظهرانيهم. والثانى: نكولُهم عن براءة ساحتهم باليمن، وهذا يقومُ مقامَ اللوثِ الظاهر، فَيَحْلِفُ المدَّعون، ويستحقون، فإذا نكل الفريقانِ كلاهما، أورث ذلك شبهةً مركبة من |
نكول كُلِّ واحد منهما، فلم ينهض ذلك سبباً لإيجاب كمال الدية عليهم إذا لم
يحلِف غرماؤهم، ولا إسقاطُها عنهم بالكلية حيث لم يحلِفُوا، فجعلت الدية نصفين،
ووجب نصفُها على المدَّعى عليهم لثبوت الشبهة فى حقهم بترك اليمين، ولم تَجِب
عليهم بكمالها، لأن خُصومَهم لم يحلِفُوا، فلما كان اللوثُ متركباً من يمين
المدعين، ونكول المدَّعى عليهم، ولم يتمَّ، سقط ما يقابل أيمان المدعين وهو
النصفُ، ووجب ما يُقابل نكول المدَّعى عليهم وهو النصف، وهذا مِن أحسن الأحكام
وأعدِلها، وبالله التوفيق.
فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتأخير القِصاصِ من الجُرح حتى يَنْدَمِلَ ذكر عبد الرزاق فى "مصنفه" وغيرُه: من حديث ابن جريج، عن عمرو بن شعيب قال: "قضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رجل طعن آخر بقرن فى رجله، فقال: يا رسول الله: أقِدْنى، فقال: "حَتَّى تَبْرَأَ جِرَاحُكَ"، فأبى الرجل إلاَّ أن يستقيده، فأقاده النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصحَّ المستقادُ منه، وعرج المستقيد، فقال: عرجتُ وبرأ صاحبى، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَمْ آمُرْكَ أَن لا تَستَقيدَ حَتَّى تَبْرأَ جِراحُكَ فَعَصَيْتَنى، فَأَبعدَكَ اللهُ وبطل عَرجك "، ثم أمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كان به جُرح بعد الرجل الذى عَرَجَ أن لا يُستقاد منه حتى يبرأ جرح صاحبه. فالجراح على ما بلغ حتى يبرأ، فما كان مِن عَرَج أو شللَ، فلا قود فيه، وهو عقل، ومن استقاد جرحاً، فأصيب المستقادُ منه، فعقل ما فضل من دِيته على جُرح صاحبه له. |
قلت: الحديثُ فى "مسند الإمام أحمد". من حديث عمرو بن شعيب، عن
أبيه، عن جدِّه متصل،"أن رجلاً طعن بِقَرْن فى رُكْبَتِهِ فجاء إلى النبىِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أقدنى. فقال : حَتَّى تَبْرَأَ"،
جاء إليه فقال: أَقِدْنى. فأقاده، ثم جاء إليه، فقال: يا رسولَ الله، عرجتُ،
فقال: " قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنى، فَأَبْعَدَكَ الله وبَطَّلَ
عَرْجَتَكَ" ، ثم نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن
يُقتصَّ مِن جُرح حتى يبَرأ صاحبه".
وفى سنن الدارقطنى: عن جابر رضى الله عنه، "أن رجلاً جُرِحَ، فأرادَ أَن يستقيدَ، فنهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُستقاد مِن الجارح حتى يبرَأ المجروحُ".وقد تضمنتَ هذه الحكومةُ، أنه لا يجوز الاقتصاصُ مِن الجُرح حتى يسِتقرَّ أمرُه، إما باندمالٍ، أو بسِراية مستقرة، وأنَّ سراية الجناية مضمونة بالقود، وجوازِ القِصاص فى الضربة بالعصا والقَرن ونحوهما، ولا ناسخ لهذه الحكومة، ولا مُعارِضَ لها، والذى نسخ بها تعجيلُ القصاص قبل الاندمال لا نفسُ القصاص فتأمله، وأن المجنى عليه إذا بادر واقتصَّ من الجانى، ثم سرتِ الجناية إلى عُضو من أعضائه، أو إلى نفسه بعد القصاص، فالسرايةُ هدر. |
وأنه يُكتفى بالقصاص وحدَه دون تعزير الجانى وحبسِه، قال عطاء: الجروحُ
قِصاص، وليس للإمام أن يضرِبَه ولا يسجِنه، إنما هو القصاص، وما كان ربك نسياً،
ولو شاء، لأمر بالضرب والسجن. وقال مالك: يُقتص منه بحقِّ الآدمى، ويُعاقب
لجرأته.
والجمهور يقولون: القصاصُ يُغنى عن العقوبة الزائدة، فهو كالحدِّ إذا أُقيم على المحدود، لم يحتج معه إلى عقوبة أخرى. والمعاصى ثلاثة أنواع: نوعٌ عليه حدٌّ مقدَّر، فلا يُجمع بينه وبين التعزير. ونوعٌ لا حدَّ فيه، ولا كفارة، فهذا يُردع فيه بالتعزير، ونوع فيه كفارة، ولا حد فيه، كالوطء فى الإحرام والصيام، فهل يُجمع فيه بين الكفارة والتعزير؟ على قولين للعلماء، وهما وجهان لأصحاب أحمد، والقِصاص يجرى مجرى الحدِّ، فلا يُجمع بينه وبين التعزير. فصل: فى قضائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقِصاصِ فى كسرِ السن فى "الصحيحين": من حديث أنس، أن ابنة النضر أختَ الرُّبَيِّعِ لطمَتْ جَارِية، فكسرت سِنَّها، فاختصمُوا إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر بالقِصاصِ، فقالت أُمُّ الرُّبَيِّعِ: يا رسول الله، أَيقتص مِن فُلانة، لا والله لا يُقْتَصُّ منها، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبحان الله يا أم الربيع كتاب الله القصاص فقالت لا والله لا يقتص منها أبدا فعفا القوم وقبلوا الدية فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ". |
فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن عضَّ يدَ رَجُلٍ،
فانتزع يده من فيه، فسقطت ثنية العاض بإهدارها
ثبت فى "الصحيحين": أن رجلاً عضَّ يدَ رجل، فنزع يدَه من فيه، فوقعت ثناياه، فاختصمُوا إلى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "يَعَضُّ أحَدُكُم أَخَاهُ كما يَعَضُّ الفَحْلُ، لا دِيةَ لَكَ". وقد تضمَّنتْ هذه الحكومةُ أن مَنْ خلَّص نَفَسَه مِن يدِ ظالمٍ له، فَتَلِفَتْ نَفْسُ الظالم، أو شىءٌ مِنْ أطرافه أو مَالِهِ بذلك، فهو هَدْرٌ غَيْرُ مضمون. فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن أطلع فى بيت رجُلٍ بغير إذنه، فَحذَفَهُ بحَصَاةٍ أَو عُود، ففقأ عينه، فلا شىء عليه ثبت فى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَوْ أَنَّ امرءاً اطَّلعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْن، فَحذَفْتَهُ، بِحَصَاةٍ، فَفَقَأَتْ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ". |
وفى لفظ فيهما: "مَنِ اطَّلعَ فى بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ،
فَفَقَؤُوا عَيْنَهُ، فَلاَ دِيةَ لَهُ ولا قِصَاصِ".
وفيهما: "أن رجلاً اطلعَ من جُحْرٍ فى بعضِ حُجَرِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام إليهِ بمِشْقَصٍ، وجعلَ يختِلهُ لِيطعَنه"، فذهب إلى القول بهذه الحكومة، إلى التى قبلها فقهاءُ الحديث، منهم: الإمامُ أحمد، والشافعى ولم يقل بها أبو حنيفة ومالك. فصل وقضَى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أن الحامِلَ إذا قَتَلَت عمداً لا تُقتل حتى تضَعَ ما فى بطنها وحتَّى تُكَفِّلَ وَلَدَهَا". ذكره ابن ماجه فى "سننه". وقضى "أن لا يُقتل الوالدُ بالولَدِ". ذكره النسائى وأحمد. |
وقضى "أن المؤمنين تتكافأ دماؤهم، ولا يُقْتَل مؤمِنٌ بكافر".
وقضى أن من قُتِلَ له قتيل، فأهله بَيْنَ خِيرَتَيْنِ، إما أن يقتلُوا أو يأخذوا العقل.وقضى أن فى دية الأصابع من اليدين والرِّجلين فى كل واحدة عشراً مِن الإبل. وقضى فى الأسنان فى كل سِن بخمسٍ من الإبل، وأنها كلها سواء، وقضى فى المواضح بخمسٍ خمسٍ. |
وقضى فى العين السَّادة لمكانها إذا طُمِسَتْ بثلث ديتها، وفى اليد الشلاء
إذا قُطِعَتْ بثلث ديتها، وفى السِّنِّ السوداء إذا نُزعَتْ بثلث ديتها.
وقضى فى الأنف إذا جُدِعَ كُلُّه بالدية كاملة، وإذا جُدِعَتْ أرنبتُه بنصف الدية. وقضى فى المأمومة بثُلُث الدية، وفى الجائفة بثلثها، وفى المُنَقِّلَةِ بخمسةَ عشرَ من الإبل. وقضى فى اللسان بالدية، وفى الشفتين بالدية، وفى البَيْضَتَيْنِ بالدية، وفى الذَّكَرِ بالدية، وفى الصُّلْب بالدية، وفى العينين بالدية، وفى إحداهما بنصفها، وفى الرجل الواحدة بنصف الدية، وفى اليد بنصف الدية، وقضى أن الرجل يُقتل بالمرأة. وقضى أن دية الخطأ على العاقلة مائة من الإبل، واختلفت الرواية |
عنه فى أسنانها، ففى السنن الأربعة عنه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن
جده: "ثَلاَثُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وثَلاَثُونَ بِنْتَ لَبُون، وثَلاَثُونَ
حِقَّةً، وعَشَرةُ بنى لَبُونٍ ذَكَرٍ".
قال الخطابى: ولا أعلم أحداً مِن الفقهاء قال بهذا. وفيها أيضا من حديث ابن مسعود: أنها أخماسٌ:"عِشرون بنتَ مَخَاضٍ، وعشرون بنت لَبون، وعشرون ابن مخاض، وعشرون حِقَّة، وعِشرونَ جَذَعَة". وقضى فى العمد إذا رضُوا بالدَّية ثلاثين حِقَّة، وثلاثين جَذَعة، |
وأربعين خَلِفَة، وما صُولحوا عليه، فهو لهم.
فذهب أحمد وأبو حنيفة إلى القول بحديث ابن مسعودٍ رضى الله عنهما، وجعل الشافعى ومالك بدل ابن مخاض ابن لبون، وليس فى واحد من الحديثين. وفرضها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتى بقرة، وعلى أهلِ الشاءِ ألفى شاة، وعلى أهل الحُلَلِ مائتى حُلة. وقال عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضى الله عنه أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "جعلها ثمانمائة دينار، أو ثمانمائة آلاف درهم". وذكر أهل السنن الأربعة من حديث عكرمة، عن ابن عباس رضى الله عنهما،"أن رجلاً قُتِلَ، فجعلَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ديتَه اثنى عشَرَ أَلفاً". وثبت عن عمر أنه خطب فقال: إن الإبلَ قد غلت، ففرضها على أهلِ الذهب ألفَ دينار، وعلى أهل الوَرِقِ عشر ألفاً، وعلى أهلِ البقر مائتى بقرة، وعلى أهل الشاءِ ألفى شاة، وعلى أهل الحُلل مائتى حلة، وترك دِية أهل الذمة، فلم يرفعها فيما رَفَعَ مِن الدية. |
وقد روى أهلُ السنن الأربعة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"دِيَةُ المعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الحُرِّ. ولفظ ابن ماجه: قضى أن عقلَ أَهْلِ الكِتَابينِ نِصْفُ عَقْلِ المسلمين، وهم اليهود والنصارى". واختلف الفقهاء فى ذلك، فقال مالك: ديتهم نصفُ دية المسلمين فى الخطأ والعمد، وقال الشافعى: ثلثُها فى الخطأ والعمد. وقال أبو حنيفة: بل كِدَية المسلم فى الخطأ والعمد. وقال الإمام أحمد: مثلُ دية المسلم فى العمد. وعنه فى الخطأ روايتان، إحداهما: نصفُ الدية، وهى ظاهر مذهبه. والثانية: ثلثها، فأخذ مالك بظاهر حديث عمرو بن شعيب، وأخذ الشافعىُّ بأن عُمَرَ جعل ديته أربعة آلاف، وهى ثلثُ دية المسلم، وأخذ أحمدُ بحديث عمرو إلا أنه فى العمدِ ضَعَّفَ الدية عقوبة لأجل سقوط القصاص، وهكذا عنده مَنْ سقط عنه القصاص، ضُعِّفت عليه الدية عقوبة، نص عليه توفيقاً، وأخذ أبو حنيفة بما هو أصلُه من جريان القصاص بينهما، فتتساوى ديتُهما. وقضى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أن عقلَ المرأة مِثْلُ عقل الرجل إلى الثلث من ديتها" ذكره النسائى. فتصير على النصف من ديته، وقَضى بالدية على العاقلة، وبرأ منها الزوج، وولد المرأة القاتلة. |
وقضى فى المكاتب أنه إذا قُتِلَ يُودى بقدر ما أَدَّى من كتابته دية الحر،
وما بقى فدية المملوك، قلت: يعنى قيمته، وقضى بهذا القضاء علىُّ بن أبى طالب،
وإبراهيم النَّخعى، ويُذكر رواية عن أحمد، وقال عمر: إذا أَدَّى شطرَ كتابته كان
غريماً، ولا يرجع رقيقاً، وبه قضى عبدُ الملك بن مروان. وقال ابن مسعود: إذا
أدَّى الثلث، وقال عطاء: إذا أدَّى ثلاثة أرباع الكتابة، فهو غريم، والمقصود: أن
هذا القضاء النبوىَّ لم تُجمع الأمةُ على تركه، ولم يُعلم نسخه.
وأما حديث "المكَاتبُ عَبْدٌ مَا بَقِىَ عَلَيْهِ دِرْهَم" فلا معارضة بينه وبين هذا القضاء، فإنه فى الرق بعد، ولا تحصل حريته التامة إلا بالأداء. فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من أقر بالزنى ثبت فى صحيح البخارى ومسلم أن رجلاً من أسلم جاء إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاعترف بالزنى، فأعرض عنه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى شَهِدَ على نفسه أربعَ مرَّاتٍ، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبِكَ جُنونٌ"؟ قال: لا. قال: "أَحْصَنْتَ"؟ قَالَ: نعم، فأمَرَ بهِ، فَرُجمَ فى المصلَّى، فلمَّا أذلَقَتْهُ الحجارةُ، فرَّ فأَدْرِكَ، فُرجِم حتى مات، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيراً، وصلىَّ عليه. وفى لفظ لهما: أنه قال: له "أَحَقُّ مَاَ بَلَغَنى عَنْكَ"، قال: وما بلغك |
عنى، قال: بَلَغَنى أنَّكَ وَقَعْتَ بجَارِيَةِ بنى فُلاَنٍ" فقال:
نعم، قال: فَشَهِدَ على نفسه أربعَ شهاداتٍ، ثم دعاه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "أبِكَ جُنُونٌ"، قال: لا، قَالَ:
"أحْصَنْتَ" ؛ قال: نعم، ثم أمَرَ بِهِ فَرُجِمَ.
وفى لفظ لهما: فلما شهد على نفسه أربَعَ شهادات، دعاه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "أبِكَ جنُونٌ" ؛ قال: لا. قال: "أَحْصَنْتَ"؟ قال: نعم. قالَ: اذْهَبُوا بهِ، فَارجُمُوه".وفى لفظ للبخارى: أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أو غَمَزْتَ، أو نَظَرْتَ"، قال: لا يا رسول الله. قال: "أَنِكْتَهَا" لا يَكْنى، قال: نعم، فَعِنْدَ ذلك أمر برجمه. وفى لفظ لأبى داود: أنه شَهد على نفسه أربعَ مرات، كُلُّ ذلك يُعْرِضُ عنه، فَأَقبِل فى الخامسة، قال: "أَنِكْتَهَا"؟ قال: نعم. قال: "حَتَّى غَاب ذلِكَ مِنْكَ فى ذلِكَ مِنْهَا"؟ قال: نعم. قال: "كَمَا يغِيبُ المِيلُ فى المُكْحُلَةِ والرِّشاء فى البئرِ"؟ قال: نعم. قال: "فَهَلْ تَدْرى مَا الزِّنَى"؟ قال: نعم أتيتُ منها حراماً ما يأتى الرجلُ من امرأته حلالاً. قال: "فَمَا تُريدُ بِهذا القَوْلِ"؟ قال: أريدُ أن تطهِّرنى قال: فأَمَرَ به فَرُجِمَ. |
وفى "السنن": أنه لما وجدَ مسَّ الحِجارة، قال: يا قومُ رُدُّونى
إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن قومى قتلونى، وغرُّونى من
نفسى، وأخبرونى أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيرُ قاتلى.
وفى "صحيح مسلم": "فجاءت الغامدية فقالت: يا رسولَ اللِّه إنى قد زنيتُ فطهِّرنى، وأنه ردَّها، فلما كان مِن الغد، قالت: يا رسول اللِّهِ ثم تَرُدُّنى، لعلك أن تَرُدَّنى كما رددتَ ماعزاً؟ فوالله إنى لحبلى، قال: إمَّا لاَ، فاذْهبى حَتَّى تَلِدى"، فلما ولدت، أتته بالصبىِّ فى خِرقة، قالت: هذا قد ولدتُه، قال: "اذْهبى فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ"، فلما فطمته، أتته بالصبىِّ فى يده كِسرة خبز، فقالت: هذا يا نبىَّ الله قد فطمتُه، وقد أكل الطعامَ، فدفع الصبىَّ إلى رجل من المسلمين، ثم أَمَرَ بها، فَحُفِرَ لها إلى صدرها، وأمر الناسِ فرجموها، فأقبل خالدُ بن الوليدِ بحجرٍ، فرمى رأسها، فانتضحَ الدمُ على وجهِ، فسبَّها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَهْلاً يا خَالِدُ فَوَالَّذى نَفْسى بيَده، لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا، صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ" ثم أمر بها، فصلى عليها، ودُفنت. وفى "صحيح البخارى": أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى فيمن زنى، ولم يُحْصِنْ بنفى عامٍ، وإقامةِ الحدِّ عليه.وفى "الصحيحين": أن رجلاً قال له: أنشُدُكَ باللِّهِ إلا قضيتَ بيننا |
بكتابِ الله، فقام خصمه، وكان أفقَه مِنه، فقال: صَدَقَ اقْضِ بيننا بكتابِ
اللهِ، وائذن لى، فقال:"قل" قال: إن ابنى كانَ عسيفاً على هذا، فزنى
بامرأته، فافتديتُ منه بمائة شاةٍ وخادِم، وإنى سألتُ أهلَ بالعلم، فأخبرونى أن
على ابنى جَلْدَ مائةٍ وتغريبَ عام، وأن على امرأةِ هذا الرجم، فقال:
"والَّذِى نَفْسِى بَيَدِهِ لأَقْضِيْنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ،
المائَةُ والخَادِمُ رَدُّ عَلَيْكَ، وعلى ابْنِكَ جَلْدُ مائَةٍ وتَغٌرِيبُ
عَامٍ، واغْدُ يا أُنيسُ عَلَى امْرَأَةِ هذَا، فاسْأَلْهَا، فإن اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْها"،
فاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَها.
وفى "صحيح مسلم" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الثِّيبُ بالثَّيب جلدُ مائةٍ والرجْمُ، والبِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مائَةٍ وتغريب عام ". فتضمنت هذه الأقضية رجمَ الثيب، وأنه لا يُرجم حتى يُقِرَّ أربع مراتٍ، وأنه إذا أقر دون الأربع، لم يلزم بتكميل نصاب الإقرار، بل للإمام أن يُعْرِضَ عنه، ويعرض له بعدم تكميل الإقرار. |
وأن إقرارَ زائل العقل بجنون، أو سكر ملغى لا عِبرة به، وكذلك طلاقهُ
وعِتقُه، وأيمانُه ووصيتُه.
وجواز إقامة الحد في المصلى وهذا لا يناقض نهيه أن تقام الحدود في المساجد وأن الحر المحصَن إذا زنى بجارية، فحده الرجم، كما لو زنى بحرة. وأن الإمام يُستحب له أن يُعرِّض للمقر بأن لا يُقِرّ، وأنه يجب استفسارُ المقرِّ فى محل الإجمال، لأن اليدَ والفمَ والعين لما كان استمتاعُها زنى استفسر عنه دفعاً لاحتماله. وأن الإمام له أن يصرح باسم الوطء الخاص به عند الحاجة إليه كالسؤال عن الفعل. وأن الحد لا يجبَ على جاهل بالتحريم، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأله عن حكم الزنى، فقال: أأتيتُ منها حراماً ما يأتى الرجل مِن أهله حلالاً. وأن الحد لا يُقام على الحامل، وأنها إذا ولدت الصبىَّ، أمهلَتْ حتى تُرضِعَه وتَفطِمَه، وأن المرأةَ يُحفَر لها دون الرجل، وأن الإمام لا يجِبُ عليه أن يبدأ بالرجم. وأنه لا يجوز سبُّ أهلِ المعاصى إذا تابوا، وأنه يُصلَّى على من قُتِلَ فى حدِّ الزنى، وأن المُقِرَّ إذا استقال فى أثناء الحد، وفَّر، ترك ولم يتمم عليه الحد، فقيل: لأنه رجوع. وقيل: لأنه توبة قبل تكميل الحد، فلا يقام عليه كما لو تاب قبل الشروع فيه، وهذا اختيار شيخنا. وأن الرجل إذا أقرَّ أنه زنى بفلانة، لم يُقم عليه حَدُّ مع حد الزنى. وأن ما قُبِضَ من المال بالصلح الباطلِ باطل يجبُ ردُّه. |
وأن الإمام له أن يُوكِّل فى استيفاء الحد.
وأن الثيب لا يُجمع عليه بين الجلدِ والرجم، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يجلد ماعزاً ولا الغامدية، ولم يأمر أنيسَاً أن يَجْلِدَ المرأة التى أرسله إليها، وهذا قول الجمهور، وحديث عبادة: "خذُوا عنى قَدْ جَعَلَ اللُّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً: الثَّيِّبُ بالثَّيبِ جَلْدُ مِائَةٍ والرجم منسوخ". فإن هذا كان فى أول الأمر عند نزول حد الزانى، ثم رجم ماعزاً والغامدية، ولم يجلدهما، وهذا كان بعد حديث عبادة بلا شك، وأما حديث جابر فى "السنن": أن رجلاً زنى، فأمرَ به النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ الحَدَّ، ثم أقرَّ أنه محصَن، فأمر به فرجم. فقد قال جابر فى الحديث نفسه: إنه لم يعلم بإحصانه، فجلد، ثم علم بإحصانه فرجم. رواه أبو داود. وفيه: أن الجهل بالعقوبة لا يسقط الحد إذا كان عالماً بالتحريم، فإن ماعزاً لم يعلم أن عقوبتَه بالقتل، ولم يُسقط هذا الجهلُ الحدَّ عنه. وفيه: أنه يجوز للحاكم أن يحكم بالإقرار فى مجلسه، وإن لم يسمعه معه شاهدان، نص عليه أحمد، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل لأنيس: فإن اعْتَرَفَتْ بحضرة شاهدين فارجمها. وأن الحكم إذا كان حقاً محضاً لله لم يشترط الدعوى به عند الحاكم. وأن الحدَّ إذا وجب على امرأة، جاز للإمام أن يبعث إليها من يُقيمه عليها، ولا يحضرها، وترجم النسائى على ذلك: صوناً للنساء عن مجلس الحكم. وأن الإمام والحاكم والمفتىَ يجوزُ الحَلِفُ على أن هذا حكمُ الله عز وجل إذا تحقق ذلك، وتيقنه بلا ريب، وأنه يجوز التوكيلُ فى إقامة الحدود، وفيه نظر، فإن هذا استنابةُ من النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتضمن تغريب |
المرأة كما يغرب الرجل، لكن يغرب معها محرمُها إن أمكن، وإلا فلا، وقال
مالك: ولا تغريب على النساء، لأنهن عورة.
فصل: فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أهلِ الكتاب فى الحدود بحُكم الإسلام ثبت فى "الصحيحين" و"المسانيد": "أن اليهودَ جاؤوا إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكروا له أن رجلاً مِنهم وامرأةً زنيا، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا تَجِدُونَ فى التَّوْرَاةِ فى شَأْن الرَّجْمِ"؟ "قالوا: نفضحُهم ويُجْلَدُون، فقال عبدُ الله بن سلام: كذبتُم إن فيها الرَّجمَ، فَأَتَوْا بالتوارة، فنشرُوها، فوضَعَ أحدُهم يدَه على آيةِ الرجم، فقرأ ما قبلَها وما بعدَها، فقال له عبدُ الله بنُ سلام: ارفَعْ يدَك، فرفع يدَه، فإذا فيها آيةُ الرجم، فقالوا: صَدَقَ يا محمد، إن فيها الرجم، فأَمَرَ بهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا". فتضمنت هذه الحكومةُ أن الإسلام ليس بشرط فى الإحصان، وأن الذِّمى يُحصِّن الذميةَ، وإلى هذا ذهب أحمدُ والشافعىُّ، ومن لم يَقُلْ بذلك اختلفوا فى وجه هذا الحديث، فقال مالك فى غير "الموطأ": لم يكن اليهودُ بأهل ذمة. والذى فى "صحيح البخارى": أنهم أهلُ ذمة، ولا شكَّ أن هذا كان بعدَ العهد الذى وقع بين النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبينهم، ولم يكونوا إذ ذاك حرباً، كيف وقد تحاكمُوا إليه، ورضُوا بحكمه؟ وفى بعضِ طُرق |
الحديث: أنهم قالوا: اذهبوا بنا إلى هذا النبىِّ، فإنه بعث بالتخفيف، وفى
بعض طرقه: أنهم دعوه إلى بيت مِدْرَاسِهِم، فأتاهم وحكم بينهم، فهم كانوا أهلَ
عهد وصُلح بلا شك.
وقالت طائفة أخرى: إنما رجمهم بحُكم التوراة. قالوا: وسياقُ القًصة صريحٌ فى ذلك، وهذا مما لا يُجدى عليهم شيئاً ألبتة، فإنه حكم بينهم بالحقِّ المحضِ، فيجبُ اتباعُه بكلِّ حال، فماذا بعد الحقِّ إلا الضلال. وقالت طائفة: رجمهما سياسةً، وهذا مِن أقبح الأقوال، بل رجمهما بحُكم الله الذى لا حُكم سِواه. وتضمنت هذه الحكومةُ أن أهل الذَّمة إذا تحاكَموا إلينا لا نحكُم بينهم إلا بحُكم الإسلام. وتضمنت قبولَ شهادة أهلِ الذمة بعضهم على بعض لأن الزانيينِ لم يُقِرَّا، ولم يشهد عليهما المسلمون، فإنهم لم يحضُروا زِناهما، كيف وفى "السنن" فى هذه القصة، فدعا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشُّهودِ، فجاؤوا أربعة، فشهدوا أنهم رأوا ذكره فى فرجها مِثل المِيل فى المُكحلة. وفى بعض طرق هذا الحديث: فجاء أربعةٌ منهم، وفى بعضها: فقال لليهود: "ائْتُونى بِأَرْبَعَةٍ مِنْكُم". |
وتضمنت الاكتفاءَ بالرجم، وأن لا يجمع بينَه وبين الجلد، قال ابنُ عباس:
الرجمُ فى كتاب الله لا يغوصُ عليه إلا غوَّاصٌ، وهو قوله تعالى: {يَأَهْلَ
الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُم
تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ} [المائدة: 15] واستنبطه غيرهُ مِن قوله: {إنَّا
أَنْزَلْنا التَّوْراةَ فيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُم بِهَا النَّبِيُّونَ
الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] قال الزهرى في حديثه:
فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً
ونُورٌ يحْكُم بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] كان
النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم.
[الحكم في الزنى واللواطة وشرب الخمر] فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الرجل يزنى بجارية امرأته فى "المسند" و"السنن" الأربعة: من حديث قتادة، عن حبيب بن سالم، أن رجلاً يقال له: عبد الرحمن بن جُنين، وقع على جارية امرأته، فَرُفِعَ إلى النعمان بن بشير، وهو أمير على الكوفة، فقال: لأقضينَّ فيكَ بقضيةِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إن كانت أحلَّتها لك، جلدتُك مائة جلدة، وإن لم تكن أحلتها، رجمتُك بالحجارة، فوجدوه أحلتها له، فجلده مائة. قال الترمذى: فى إسنادِ هذا الحديثِ اضطرابٌ، سمعتُ محمداً يعنى البخارىَّ يقول: لم يسمع قتادةُ مِن حبيب بنِ سالم هذا الحديثَ، إنما رواه |
عن خالد بن عُرفُطة، وأبو بشر لم يسمعه أيضاً من حبيب بن سالم، إنما رواه عن
خالد بن عرفطة، وسألت محمداً عنه؟ فقال: أنا أنفى هذا الحديثَ. وقال النسائى: هو
مضطرب، وقال أبو حاتم الرازى: خالد ابن عرفطة مجهول.
وفى "المسند" و"السنن": عن قَبِصَة بن حُريثٍ، عن سَلَمَةَ بن المُحَبِّقِ، أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى فى رجل وقَع على جارية امرأته، إن كان استكرهها، فهى حرَّة، وعليه لسيدتها مثلُها، وإن كانت طاوعته، فهى له، وعليه لسيدتِها مثلُها. فاختلف الناسُ فى القول بهذا الحكم، فأخذ به أحمد فى ظاهر مذهبه، فإن الحديثَ حسن، وخالد بن عُرفطة قد روى عنه ثقتان: قتادة، وأبو بشر، ولم يُعرف فيه قدح، والجهالة ترتفِعُ عنه برواية ثقتين، القياسُ وقواعدُ الشريعة يقتضى القولَ بموجب هذه الحكومة، فإن إحلال الزوجة شبهةْ تُوجب سقوطَ الحد، ولا تُسقِط التعزيزَ، فكانت المائةُ تعزيزاً، فإذا لم تكن أحلتها، كان زنىً لا شبهة فيه، ففيه الرجمُ، فأى شىء فى هذه |
الحكومة مما يُخالف القياس.
وأما حديث سَلَمة بن المحبِّق: فإن صحَّ، تعيَّن القولُ به ولم يُعدَل عنه، ولكن قال النسائى: لا يَصِحُّ هذا الحديثُ.قال أبو داود: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: الذى رواه عن سلمة بن المحبق شيخٌ لا يُعرف، ولا يُحدث عنه غيرُ الحسن يعنى قَبيصة بن حريث. وقال البخارى فى "التاريخ": قَبيصة بن حُريث سمع سلمة بن المحبق، فى حديثه نظر، وقال ابن المنذر: لا يثُبتُ خبرُ سلمة بن المحبق، وقال البيهقى: وقبيصة ابن حُريث غير معروف، وقال الخطابى: هذا حديث منكر، وقبيصة غير معروف، والحجة لا تقوم بمثله، وكان الحسن لا يُبالى أن يروىَ الحديثَ ممن سمع. وطائفة أخرى قبلت الحديثَ، ثم اختلفوا فيه، فقالت طائفة: منسوخ، وكان هذا قبلَ نزول الحدود. وقالت طائفة: بل وجهه أنه إذا استكرهها، فقد أفسدها على سيدتها، ولم تبق ممن تصلُح لها، ولَحِقَ بها العارُ، وهذا مُثْلَةٌ معنوية، فهى كالمُثْلَةِ الحِسية، أو أبلغُ منها، وهو قد تضمن أمرين: إتلافها على سيدتها، والمثلة المعنوية بها، فيلزمه غرامتُها لسيدتها، وتُعتق عليه، وأما إن طاوعته، فقد أفسدها على سيدتها، فتلزمه قيمتُها لها، ويملِكُها لأن القيمة قد استحقت عليه، وبمطاوعتِها وإرادتِها خرجت عن شُبهة المثلة. قالوا: ولا بُعْد فى تنزيل الإتلاف المعنوى منزلة الإتلافِ الحِسى، إذ كلاهما يحولُ بينَ المالك وبين الانتفاع بمُلكه، ولا ريبَ أن جاريةَ الزوجة إذا صارت موطوءة لزوجها، فإنها لا تبقى لسيدتها كما كانت قبلَ الوطء، فهذا الحكمُ مِن أحسن الأحكام، وهو موافق للقياس الأصولى. |
وبالجملة: فالقول به مبنى على قبولِ الحديث، ولا تضُرُّ كثرةُ المخالفين له،
ولو كانوا أضعافَ أضعافهم.
فصل ولم يثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قضى فى اللواط بشىء، لأن هذا لم تكن تعرِفُه العربُ، ولم يُرفع إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن ثبتَ عنه أنه قال: "اقْتُلُوا الفَاعِلَ والمَفْعُولَ بِهِ". رواه أهل السنن الأربعة، وإسناده صحيح، وقال الترمذى: حديث حسن. وحكم به أبو بكر الصِّديق، وكتب به إلى خالد بعد مشاورةِ الصحابة، وكان علىٌّ أشدَّهم فى ذلك. وقال ابنُ القصار: وشيخنا: أجمعتِ الصحابةُ على قتله، وإنما اختلفُوا فى كيفية قتله، فقال أبو بكر الصديق: يُرمى من شاهق، وقال علىٌّ رضى الله عنه: يُهدم عليه حائط. وقال ابنُ عباس: يُقتلان بالحجارة. فهذا اتفاقٌ منهم على قتله، وإن اختلفوا فى كيفيته، وهذا وافق لحُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن وطىء ذات محرم، لأن الوطء فى الموضعين لا يُباح للواطىء بحال، ولهذا جمع بينهما فى حديث ابن عباس رضى الله عنهما، فإنه روى |
عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "مَنْ وَجَدْتُّموه
يَعْمَلُ عَمَلَ قوم لُوطِ فَاقْتُلُوهُ "، وروى أيضاً عنه: "مَنْ
وَقَعَ عَلى ذَاتِ مَحْرَمٍ، فاقْتُلُوه"، وفى حديثه أيضاً بالإسناد:
"مَنْ أَتى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ واقْتُلُوها مَعَهُ".
وهذا الحكم على وفق حكم الشارع، فإن المحرماتِ كلَّما تغلَّظت، تغلَّظت عقوباتُها، ووطءُ من لا يُباح بحال أعظمُ جرماً مِن وطء من يُباح فى بعض الأحوال، فيكون حدُّه أغلظَ، وقد نصَّ أحمدُ فى إحدى الروايتين عنه، أن حُكم من أتى بهيمةً حكْمُ اللواط سواء، فيُقتل بكل حال، أو يكون حدُّه حدَّ الزانى. واختلف السلفُ فى ذلك، فقال الحسن: حدُّه حدُّ الزانى. وقال أبو سلمة عنه: يقتل بكل حال، وقال الشعبى والنخعى: يُعزَّر، وبه أخذ الشافعى ومالك وأبو حنيفة وأحمد فى رواية، فإن ابن عباس رضى الله عنه أفتى بذلك، وهو راوى الحديث. فصل وحكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من أقرَّ بالزِّنى بامرأة معينة بحدِّ الزنى دون القذف، ففى "السنن": من حديث سهلِ بنِ سعد، أن رجلاً أتى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، |
" فأقرَّ عنده أنه زنى بامرأةٍ سمَّاها، فبعثَ رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المرأة فسألها عن ذلك، فأنكرَتْ أَنْ تكونَ زنت،
فجلده الحدَّ وتركها".
فتضمنت هذه الحكومةُ أمرين: أحدهما: وجوبُ الحدِّ على الرجل، وإن كذَّبته المرأة خلافاً لأبى حنيفة وأبى يوسف أنه لا يُحَّد. الثانى : أنه لا يجب عليه حدُّ القذف للمرأة. وأما ما رواه أبو داود فى "سننه": من حديث ابن عباس رضى الله عنه، أن رجلاً أتى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،"فأقر أن زنى بامرأةٍ أربعَ مرات، فجلده مائةَ جلدة وكان بكرا، ثم سأله البينةَ على المرأة فقالت: كذب والله يا رسول الله، فجلد حد الفرية ثمانين" ؛ فقال النسائىُّ: هذا حديث منكر. انتهى. وفى إسناده القاسم بن فياض الأنبارى الصنعانى، تكلم فيه غير واحد، وقال ابن حبان: بطل الاحتجاجُ به. فصل وحَكَم فى الأمة إذا زنت ولم تُحصنْ بالجلد. وأما قوله تعالى فى |
الإماء :{فَإذَا أُحْصِنَّ فَإنْ أتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلْيهِنَّ نِصْفُ
مَا عَلى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ} [النساء: 25]، فهو نص فى أن حدَّها بعد
التزويج نصفُ حدَّ الحرة من الجد، وأما قبل التزويج، فأمرَ بجلدها.
وفى هذا الحد قولان: أحدهما: أنه الحد، ولكن يختلِفُ الحال قبل التزويج وبعده، فإن للسيد إقامتَه قبله، وأما بعده، فلا يُقيمه إلا الإمام. والقول الثانى: أن جلدهما قبل الإحصان تعزير لا حد، ولا يُبطل هذا ما رواه مسلم فى "صحيحه": من حديث أبى هريرة رضى الله عنه يرفعُه: "إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَلْيَجْلِدْهَا وَلاَ يُعَيِّرْها ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فإِنْ عَادَتْ فى الرَّابِعَةِ فَلْيَجْلِدْهَا وَلْيَبِعْها وَلَوْ بِضَفِير"، وفى لفظ "فَلْيَضْرِبْها كتاب الله". وفى "صحيحه" أيضاً: من حديث على رضى الله عنه أنه قال: أَيُّها الناسُ أقيمُوا على أرقائكم الحدَّ، مَنْ أحصنَ مِنهن، ومن لم يُحصنْ، فإن أمةً لِرَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَنَتْ، فأمرنى أن أجلِدَهَا، فإذا هى حديثةُ عهدٍ بِنِفاس، فخشيتُ إن أنا جلدتُها أن أقتُلَها، فذكرت ذلك للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "أحسنتَ". فإن التعزير يدخلُ لفظُ الحد فى لسان الشارع، كما فى قوله |
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُضرَبُ فوقَ عشرةِ أسواطٍ إلا
فى حدٍّ مِن حدُود الله تعالى ".
وقد ثبت التعزيرُ بالزيادة على العشرة جنساً وقدراً فى مواضِع عديدة لم يَثْبُتْ نسخُها، ولم تُجْمِع الأمةُ على خِلافها. وعلى كل حال، فلا بد أن يُخالِفَ حالُها بعد الإحصان حالها قبله، وإلا لم يكن للتقييد فائدة، فإما أن يُقال قبل الإحصان: لا حدَّ عليها، والسنة الصحيحةُ تبطِلُ ذلك، وإما أن يقال: حدُّها قبل الإحصان حدُّ الحرة، وبعده نصفه، وهذا باطل قطعاً مخالف لقواعد الشرع وأصوله، وإما أن يُقال: جلدُها قبل الإحصان تعزير، وبعده حد، وهذا أقوى، وإما أن يُقال: الافتراقُ بين الحالتين فى إقامة الحدِّ لا فى قدرِه، وأنه فى إحدى الحالتين للسيد، وفى الأخرى للإمام، وهذا أقربُ ما يُقال. وقد يقال: إن تنصيصه على التنصيفِ بعد الإحصان لئلا يتوهَّم متوهم أن بالإحصان يزولُ التنصيفٌ، ويصيرُ حدها حدَّ الحرة، كما أن الحدَ زال عن البِكر بالإحصان، وانتقل إلى الرجم، فبقى على التنصيف فى أكمل حالتيها، وهى الإحصان تنبيهاً على أنه إذا اكتُفِىَ به فيها، ففيما قبل الإحصان أولى وأحرى، والله أعلم. وقضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى "مريض زنى ولم يَحتَمِلْ إقامةَ الحد، بأن يُؤخذ له [عِثْكَالٌ] فيه مائة شِمْرَاخٍ، فيُضربَ بها ضربةً واحدة". |
فصل
وحكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحدِّ القذفِ، لما أنزل اللهُ سبحانه براءةَ زوجتهِ مِن السماء، فجلد رجلين وامرأةً. وهما: حسانُ بن ثابت، ومِسطَحُ بنُ أُثَانَة. قال أبو جعفر النُّفيلى: ويقولون: المرأة حَمنة بنتُ جحش. وحكم فيمن بدل دينه بالقتل، ولم يخص رجلاً من امرأة، وقتل الصديقُ امرأةً ارتدت بعد إسلامها يقال لها: أم قِرفة. وحكم فى شارب الخمر بضربه بالجريدِ والنِّعال، وضربه أربعينَ، |
وتبعه أبو بكر رضى الله عنه على الأربعين.
وفى "مصنف عبد الرزاق": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "جلد فى الخمر ثمانين". وقال ابنُ عباس رضى الله عنه: "لم يُوقِّتْ فيها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً". وقال على رضى الله عنه: "جلد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الخمر أربعين، وأبو بكر أربعينَ، وكمَّلها عمرُ ثمانيَ، وكُلٌّ سنة". وصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أمر بقتله فى الرابعة أو الخامسة. واختلف الناسُ فى ذلك، فقيل: هو منسوخ، وناسخه "لا يَحِلُّ دمُ امرىء مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث". وقل: هو محكم، ولا تعارضَ بين الخاص والعام، ولا سيما إذا لم يُعلم تأخُّر العام. وقيل: ناسخُه حديث عبد الله حِمارٍ، فإنه أُتِىَ به مراراً إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجلده ولم يقتُله. |
وقيل: قتله تعزيزٌ بحسب المصلحة، فإذا كثر منه ولم ينهه الحدُّ، واستهان به،
فللإمام قتلُه تعزيزاً لا حداً، وقد صحَّ عن عبد الله بن عمر رضى الله. عنهما
أنه قال: أئتونى به فى الرابعة فعلىَّ أن أقتُلَه لكم، وهو أحدُ رواة الأمر
بالقتل عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم: معاويةُ، وأبو هريرة،
وعبدُ الله ابن عمر، وعبدُ الله بن عمرو، وقَبيصة بن ذؤيب رضى الله عنهم.
وحديث قبيصة: فيه دلالة على أن القتلَ ليس بحد، أو أنه منسوخ، فإنه قال فيه: فأُتيِ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برجل قد شرب، فجلده، ثم أتى به، فجلده، ثم أتى به فجلده، ورفع القتل، وكانت رخصة. رواه أبو داود. فإن قيل: فما تصنعون بالحديث المتفق عليه، عن على رضى الله أنه قال: ما كنت لأدرى من أقمتُ عليه الحدَّ إلا شاربَ الخمر، فإنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَسُنَّ فيه شيئاً، إنما هو شىءُ قلناه نحن. لفظ أبى داود. ولفظهما: |
فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات ولم يَسُنَّه.
قيل: المرادُ بذلك أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُقَدِّرْ فيه بقوله تقديراً لا يُزاد عليه ولا يُنقص كسائر الحدود، وإلا فعلى رضى الله عنه قد شَهِدَ أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ضرب فيها أربعين. وقوله: إنما هو شىء قلناه نحن، يعنى التقديرَ بثمانين، فإن عمرَ رضى الله عنه جمع الصحابة رضي الله عنهم واستشارهم، فأشاروا بثمانين، فأمضاها، ثم جلد على فى خلافته أربعين، وقال: هذا أحبُّ إلىَّ. ومن تأمَّل الأحاديثَ، رآها تدل على أن الأربعينَ حد، والأربعون الزائدة عليها تعزيزٌ اتفق عليه الصحابةُ رضى الله عنهم، والقتلُ إما منسوخ، وإما أنه إلى رأى الإمام بحسب تهالكِ الناسِ فيها واستهانتهم بحدها، فإذا رأى قتلَ واحد لينزجر الباقون، فله ذلك، وقد حلق فيها عمرُ رضى الله عنه وغرَّب، وهذا من الأحكام المتعلقة بالأئمة، وبالله التوفيق. |
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى السارق
قطع سارقاً فى مِجَنٍّ قيمته ثلاثةُ دراهم. وقضى أنه لا تُقطع فى أقلَّ من رُبُع دينار. وصح عنه أنه قال : "اقْطَعُوا فى رُبْعِ دينَارٍ، ولا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذلِك" ذكره الإمام أحمد رحمه الله. وقالت عائشة رضىَ اللهُ عنها: لم تكن تقطع يدُ السارق فى عهد رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أدنى من ثمن المِجَنِّ، تُرْسٍ أو جَحَفَةٍ، وكان كلٌ منهما ذا ثمن. وصح عنه أنه قال: "لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقَ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ ويَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَع يَدُهُ". فقيل: هذا حبلُ السفينة، وبَيْضَة الحديد، وقيل: بل كل حَبْل وبَيْضَةٍ، وقيل: هو إخبار بالواقع، أى: إنه يسرق هذا، فيكون سبباً لقطع يده بتدرُّجه منه إلى ما هو أكبرُ منه. قال الأعمش: كانوا يرونَ بأنه بَيْضُ الحديد، والحَبْلُ كانوا يرون أن منه ما يُساوى دراهم. |
وحكم فى امرأة كانت تستعيرُ المتاع وتَجْحَدُه بقطع يدها.
وقال أحمد رحمه الله: بهذه الحكومة ولا معارض لها. وحكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسقاط القطع عن المنْتَهب، والمُخْتَلِس، والخائن. والمراد بالخائن: خائن الوديعة. وأما جاحدُ العارَّية، فيدخلُ فى اسم السارق شرعاً، لأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كلَّموه فى شأن المستعيرة الجاحدة، قطعها، وقال: "والَّذِى نَفْسِى بيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا". فإدخاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاحِد العارَّية فى اسم السارق، كإدخاله سائر أنواع المسكر فى اسم الخمر، فتأمله، وذلك تعريف للأمة بمراد الله من كلامه. وأسقط صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القطعَ عن سارق الثَّمَرِ والكَثَرِ، وحكم أن من أصاب منه شيئاً بفمه وهو محتاج، فلا شىء عليه، ومن خرج منه بشىء، فعليه غرامة مثليه والعقوبَة، ومن سَرق منه شيئاً فى جَرينه وهو بيدره، فعليه |
القطع إذا بلغ ثَمَنَ المجنِّ فهذا قضاؤه الفصلُ، وحُكمُه العدل.
وقضى فى الشاة التى تُؤخذ مِن مراتِعها بثمنها مرتين، وضرب نكال، وما أُخِذَ من عَطَنه، ففيه القطعُ إذا بلغ ثمن المجن. وقضى بقطع سارق رِداء صفوان بن أمية، وهو نائم عليه فى المسجد، فأراد صفوانُ أن يَهبَه إياه، أو ربيعَه منه، فقال: "هَلاَّ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِينى به". وقطع سارقاً سرق تُرساً من صُفة النساء فى المسجد. ودَرَأَ القطع عن عبد مِن رقيق الخُمُس سَرَقَ مِن الخمس. وقَالَ: "مَالُ اللهِ سَرَقَ بَعْضُه بَعْضاً" رواه ابن ماجه. ورُفعَ إليه سارق، فاعترف، ولم يُوجد معه متاع، فقال له: "مَا إخَالُه سَرَقَ"؟ قال: بلى فأعادَ عليه مرتين أو ثلاثاً، فأمر به فُقطِع. |
ورفع إليه آخر فقال: "مَا إخَالُهُ سَرَقَ"؟ فقال: بلى، فقال:
" اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوهُ، ثُمَّ أئتُونى
بِهِ" ، فقطع، ثم أتى به النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال
له: "تُبْ إلى الله"، فقال: تبتُ إلى الله، فقال: "تابَ اللهُ
عَلَيْكَ".
وفى الترمذى عنه أن قطع سارقاً وعلق يده فى عُنُقه. قال: حديث حسن. فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من اتَّهم رجلاً بسرقة روى أبو داود: عن أزهر بن عبد الله "أن قوماً سُرِقَ لهم متاع، فاتَّهموه ناساً مِن الحَاكَة، فأتوا النعمانَ بْن بشيرٍ صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحبسهم أياماً ثم خلَّى سبيلهم، فأَتُوْه فقالُوا: خلَّيْتَ سبيلَهم بغير ضرب ولا امتحان، فقال: ما شئتُم، إن شئتُم أن أضربَهم، فإن خرجَ متاعُكم فذاكَ، وإلا أخذتُ مِن ظُهورِكُم مثلَ الذى أخذتُ مِن ظهورهم. فقالوا: |
هذا حُكْمُكَ؟ فقال : حُكْمُ اللهِ وحُكْمُ رَسُولِه ".
فصل وقد تضمنت هذه الأقضيةُ أموراً: أحدها: أنه لا يقطع فى أقل من ثلاثةِ دراهم، أو رُبع دينار. الثانى: جوازُ لعنِ أصحابِ الكَبائِر بأنواعهم دونَ أعيانهم، كما لَعَنَ السارِقَ، ولعن آكِل الرّبا وموكلَه، ولعن شاربَ الخمر وعاصِرها، ولعن من عمل عمل قومِ لوط، ونهى عن لعن عبد الله حِمار وقد شرب الخمر، ولا تعارضُ بين الأمرين، فإن الوصف الذى علق اللعن مقتض. وأما المعين، فقد يقوم به ما يمنعُ لحوقَ اللعن به مِن حسنات ماحية، أو توبة، أو مصائب مكفرة، أو عفوٍ من الله عنه، فتُلعن الأنواعُ دون الأعيان. الثالث: الإشارة إلى سد الذرائع، فإنه أخبر أن سرقة الحبلِ والبيضة لا تدعُه حتى تقطعَ يده. الرابع: قطعُ جاحد العارية، وهو سارق شرعاً كما تقدم. |
الخامس: أن من سرق مالاً قطع فيه، ضُوعِفَ عليه الغرمُ، وقد نص عليه الإمام
أحمد رحمه الله، فقال: كل مَنْ سقط عنه القطعُ، ضُوعِفَ عليه الغرم، وقد تقدَّم
الحكمُ النبوىُّ به فى صورتين: سرقةِ الثمار المعلقة، والشاةِ من المرتع.
السادس: اجتماعُ التعزيز مع الغُرم، وفى ذلك الجمعُ بين العقوبتين: مالية وبدنية. السابع: اعتبارُ الحِرز، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسقط القطعَ عن سارق الثمار من الشجرة، وأوجبه على سارقة من الجرين، وعند أبى حنيفة أن هذا لنقصان ماليته، لإسراع الفسادِ إليه، وجعل هذا أصلاً فى كل ما نقصت ماليتُه بإسراع الفساد إليه، وقولُ الجمهور أصحُّ، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل له ثلاثة أحوال: حالةً لا شىء فيها، وهو ما إذا أكل منه بفيه، وحالةً يُعَزَّم مثليه، ويُضرب مِن غير قطع، وهو ما إذا أخذه من شجره وأخرجه، وحالةً يُقطع فيها، وهو ما إذا سرقه مِن بيدره سواء كان قد انتهى جفافُه أو لم ينته، فالعبرةُ للمكان والحرز لا لُيبسه ورطوبته، ويدل عليه أن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسقط القطعَ عن سارق الشاةِ من مرعاها، وأوجبه على سارقها مِن عطنها فإنه حرزُها. الثامن: إثبات العقوبات المالية، وفيه عدة سنن ثابتة لا مُعارِضَ لها، وقد عمل بها الخلفاءُ الراشدون وغيرُهم مِن الصحابة رضى الله عنهم، وأكثرُ من عمل بها عمر رضى الله عنه. التاسع: أن الإنسان حِرز لثيابه ولفراشه الذى هو نائم عليه أين كان، سواء كان فى المسجد أو فى غيره. العاشر: أن المسجد حِرز لما يعتاد وضعُه فيه، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطع مَن سرق منه ترساً، وعلى هذا فيُقطع من سرق مِن حصيره وقناديله وبسطه، |
وهو أحدُ القولين فى مذهب أحمد وغيره. ومن لم يقطعه، قال: له فيها حق، فإن
لم يكن فيها حق، قطع كالذمى.
الحادى عشر: أن المطالبةُ فى المسروقِ شرط فى القطعِ، فلو وهبه إياه، أو باعه قبل رفعه إلى الإمام، سقط عنه القطع، كما صرح به النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: "هَلاَّ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِينى بِهِ". الثانى عشر: أن ذلك لا يُسقط القطعَ بعد رفعه إلى الإمام، وكذلك كُلُّ حد بلغ الإمام، وثبت عنده لا يجوز إسقاطُه، وفى "السنن": عنه: " إذا بَلَغَتِ الحُدُودُ الإمَامَ، فَلَعَنَ اللهُ الشافِعَ والمُشَفِّعَ". الثالث عشر: أن من سرق من شيء له فيه حقٌّ لم يُقطع. الرابع عشر: أنه لا يقطع إلا بالإقرار مرتين، أو بشهادةِ شاهدين، لأن السارق أقرَّ عنده مرة، فقال: "ما إخالك سرقت"؟ فقال: بي، فقطعه حينئذ، ولم يقطعه حتى أعاد عليه مرتين. الخامس عشر: التعريضُ للسارق بعدم الإقرار، وبالرجوع عنه، وليس هذا حُكمَ كل سارق، بل من السُّراق من يُقرُّ بالعقوبة والتهديد، كما سيأتى إن شاء الله تعالى. السادس عشر: أنه يجب على الإمام حسمُه بعد القطع لئلا يتلَفَ. وفى |
قوله: "احسموه"، دليل على أن مؤنة الحسم ليست على السارق.
السابعُ عشر: تعليق يد السارق فى عنقه تنكيلاً له وبه ليراه غيره. الثامن عشر: ضربُ المتهم إذا ظهر منه أمارات الرِّيبة، وقد عاقَبَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تُهمة، وحبس فى تُهمة. التاسع عشر: وجوبُ تخلية المتَّهم إذا لم يظهر عنده شىء مما اتُّهم به، وأن المتَّهِمَ إذا رضي بضرب المتُهم، فإن خرج ماله عنده، وإلا ضُرِبَ هو مثل ضرب من اتهمه إن أجيب إلى ذلك، وهذا كُلُه مع أمارات الرِّيبة، كما قضى به النعمان بن بشير رضى الله عنه، وأخبر أنه قضاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. العشرون: ثبوت القصاص فى الضربة بالسوط والعصا ونحوهما. فصل وقد روى عنه أبو داود: أنه أمر بقتل سارقٍ فقالُوا: إنما سرق، فقال: "اقْطَعُوهُ"، ثم جىء به ثانياً، فأمر بقتله، فقالوا: إنما سرق، فقال "اقْطَعُوهُ"، ثم جىء به فى الثالثة، فأمر بقتله، فقالوا: إنما سرق، فقال: "اقْطَعُوهُ" ثم جىء به رابعة، فقال: "اقْتُلُوهُ"، فقالوا: إنما سرق، فقال: "اقْطَعُوهُ"، فأتى به فى الخامسة، فأمر بقتله، فقتلُوه. فاختلف الناسُ فى هذه الحكومة: فالنسائىُّ وغيرُه لا يصححون هذا الحديث. قال النسائى: هذا حديثٌ منكَر، ومُصعب بنُ ثابت ليس |
بالقوى، وغيرُه يُحسنه ويقول: هذا حكم خاص بذلك الرجل وحدَه، لما علم رسولُ
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن المصلحة فى قتله، وطائفة ثالثة
تقبلُهُ، وتقول به، وأن السارق إذا سرق خمسَ مرات قتل فى الخامسة، وممن ذهب إلى
هذا المذهب أبو مصعب من المالكية.
وفى هذه الحكومة الإتيانُ على أطراف السارق الأربعة. وقد روى عبد الرزاق فى "مصنفه": أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أتى بعبد سرق، فأُتِىَ به أربعَ مرات، فتركه، ثم أتَى به الخامسة، فقطع يده، ثم السادسة فقطع رجله، ثم السابعة فقطع يده، ثم الثامنة فقطع رجله". واختلف الصحابة ومَنْ بعدهم، هل يُوتى على أطرافِه كُلِّها، أم لا؟ على قولين. فقال الشافعىُّ ومالكٌ وأحمدُ فى إحدى روايتيه: يُؤتى عليها كُلِّها، وقال أبو حنيفة وأحمد فى رواية ثانية: لا يُقطع منه أكثرُ من يد ورجل، وعلى هذا القول، فهل المحذورُ تعطيلُ منفعة الجنس، أو ذهابُ عضوين من شق؟ فيه وجهان ظهر أثرُهما فيما لو كان أقطعَ اليد اليُمني فقط، أو أقطعَ الرجل اليسرى فقط، فإن قلنا: يُؤتى على أطرافه، لم يؤثر ذلك، وإن قلنا: لا يُؤتى عليها، قُطِعَتْ رجلُه اليسرى فى الصورة الأولى، ويدُه اليمنى فى الثانية على العِلتين، وإن كان أقطعَ اليد اليُسرى مع الرجل اليُمنى لم يُقطع على العِلتين، وإن كان أقطعَ اليد اليُسرى فقط، لم تقطع يُمناه على العلتين، وفيه نظر، فتأمل. وهل قطع رجله اليُسرى يبتنى على العلتين؟ فإن عللنا بذهاب منفعة الجنس، قُطِعَت رجلُه، وإن عللنا بذهاب عضوين مِن شق، لم تُقطع. |
وإن كان أقطعَ اليدين فقط، وعللنا بذهاب منفعة الجنس قُطِعَت رجلُه اليسرى،
وإن عللنا بذهاب عضوين مِن شق، لم تُقطع، هذا طردُ هذه القاعدة. وقال صاحب
"المحرر" فيه: تقطع يُمنى يديه على الروايتين، وفرق بينها وبين مسألة
مقطعوع اليدين، والذى يقال فى الفرق: إنه إذا كان أقطعَ الرجلين، فهو كالمُقعد،
وإذا قُطِعَت إحدى يديه، انتفع بالأخرى فى الأكل والشرب والوضوء والاستجمار
وغيره، وإذا كان أقطعَ اليدين لم ينتفع إلا برجليه، فإذا ذهبت إحداهما، لم يمكنه
الانتفاعُ بالرجل الواحدة بلا يد، ومن الفرق أن اليدَ الواحدة تنفع مع عدم منفعة
المشىء، والرجل الواحدة لا تنفعُ مع عدم منفعة البطش.
فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن سبَّه مِن مسلم أو ذِمِّى أو مُعَاهَدٍ ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قضى بإهدار دم أمِّ ولد الأعمى لما قتلَها مولاها على السبِّ. وقتل جماعة من اليهود على سبِّه وأذاه، وأمِّن الناسَ يوم الفتح إلا نفراً ممن كان يُوذيه ويهجوه، وهم أربعة رجال وامرأتان. وقال: |
"مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشرَف، فَإِنَّهُ قَدْ آذى الله ورَسُولهُ"
وأهدر دمه ودم أبى رافع.
وقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه لأبى برزة الأسلمى، وقد أراد قتل من سبَّه: ليس هذا لأحد بعدَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فهذا قضاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقضاءُ خلفائِه مِن بعده، ولا مخالف لهم من الصحابة، وقد أعاذهم الله من مخالفة هذا الحكم. وقد روى أبو داود فى "سننه": عن على رضى الله عنه أن يهوديةً كانت تشتِمُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دمَها. وذكر أصحابُ السير والمغازى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: هجتِ امرأةُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "مَنْ لى بِهَا"؟ فقال رجل مِن قومها: أنا، فنهضَ فقتلها، فأُخبِرَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "لا يَنْتَطِحُ فيها عَنزانِ". |
وفى ذلك بضعة عشر حديثاً ما بين صحاح وحِسان ومشاهير، وهو إجماع الصحابة.وقد
ذكر حرب فى "مسائله": عن مجاهد قال: أتَي عمرُ رضى الله عنه برجُلِ
سبَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقتله، ثم قال عمر رضي الله عنه:
من سبَّ الله ورسوله، أو سبَّ أحداً من الأنبياء فاقتلُوه. ثم قال مجاهد عن ابن
عباس رضى الله عنهما: أيُّما مسلم سبَّ الله ورسوله، أو سبَّ أحداً من الأنبياء،
فقد كذَّبَ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهى رِدة، يُستتاب،
فإن رجع، وإلا قُتِل، وأيُّما مُعَاهَدٍ عاند، فسبَّ اللهَ أو سبَّ أحداً من
الأنبياء، أو جهر به، فقد نقضَ العهد فاقتلوه.
وذكر أحمد، عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه مرَّ به راهب، فقيل له: هذا يسبُّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال ابنُ عمر رضى الله عنه: لو سمعتُه، لقتلته إنا لم نُعطهم الذمة على أن يسبوا نبيَّنا. والآثارُ عن الصحابة بذلك كثيرة، وحكى غيرُ واحد من الأئمة الإجماع على قتله. قال شيخُنا: وهو محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين. والمقصود: إنما هو ذكر حكم النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقضائه فيمن سبه. وأما تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل مَن قدح فى عدله بقوله: " اعْدِلْ فَإنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ "، وفى حكمه بقوله: "أن كان ابن عمَّتِك"، وفى قصده بقوله: "إن هذهِ قِسْمَةٌ ما أُرِيدَ بِها وَجْهُ الله أو فى خلوته بقوله: "يَقُولُونَ إنَّكَ تنهى عن |
الغى وتستخلى به" وغير ذلك، فذلك أن الحقَّ له، فله أن يستوفِيَه، وله
أن يترُكه، وليس لأمته تركُ استيفاء حقِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأيضاً فإن هذا كان فى أول الأمر حيث كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مأموراً بالعفوِ والصفح. وأيضاً فإنه كان يعفو عن حقِّه لمصلحة التأليف وجمعِ الكلمة، ولئلا يُنَفِّرَ الناسَ عنه، ولئلا يتحدثوا أنه يقتلُ أصحابه، وكل هذا يختصُّ بحياته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن سمَّه ثبت فى "الصحيحين": " أن يهوديةً سمته فى شاة، فأكل منها لُقمة، ثم لفظها، وأكل معه بِشر بنُ البراء، فعفا عنها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يُعاقبها" ، هكذا فى "الصحيحين". |
وعند أبى داود: أنه أمر بقتلها، فقيل: إنه عفا عنها فى حقِّه، فلما مات بشر
بنُ البراء، قتلها به.
وفيه دليل على أن من قدَّم لغيره طعاماً مسموماً، يعلم به دون آكله، فماتَ به، أُقيدَ منه. فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الساحر فى الترمذى. عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ" . والصحيح أنه موقوف على جُنْدُبِ بن عبد الله. وصح عن عمر رضى الله عنه أنه أمر بقتله، وصح عن حفصة رضى الله عنها، أنها قتلت مدبَّرةً سَحَرَتْها، فأنكر عليها عثمانُ إذ فعلته دون أمره. ورُوى عن عائشة رضى الله عنها أيضاً أنها قتلت مدبَّرة سحرتها، وروى أنها باعتها، ذكره ابنُ المنذر وغيره. وقد صح أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقتُل مَن سحره من اليهود، فأخذ بهذا الشافعى، وأبو حنيفة رحمهما الله، وأما مالك، وأحمد رحمهما الله، فإنهما يقتلانه، ولكن منصوصُ أحمد رحمه الله، أن ساحر أهل الذمة |
لا يُقتل، واحتج بأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقتل
لبيد بن الأعصم اليهودى حين سحره، ومن قال بقتل ساحرهم يُجيب عن هذا بأنه لم
يُقِرَّ، ولم يُقم عليه بينة، وبأنه خشى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن
يثير على الناس شراً بترك إخراجِ السحر مِن البئر، فكيف لو قتله.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أول غنيمة كانت فى الإسلام وأوَّل قتيل لما بعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبدَ الله بن جَحْشٍ ومن معه سريةً إلى نخلةَ تَرْصُد عِيراً لقريش، وأعطاه كِتاباً مختوماً، وأمره أن لا يقرأه إلا بعدَ يومين، فقتلوا عمرو بن الحضرمى، وأسروا عثمان بنَ عبد الله، والحكمَ بن كيسان، وكان ذلك فى الشهر الحرام، فعنَّفهم المشركون، ووقف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغنيمةَ والأسيرين حتى أنزل الله سبحانه وتعالى:{ يَسْأَلُونَكَ عَن الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرَامِ وإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ} [البقرة: 217] فأخَذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العِير والأسيرين، وبعثت إليه قريشٌ فى فدائهما، فقال: لا، حتى يَقْدَمَ صاحبانا - يعنى سعد بن أبى وقاص، وعُتبة بن غزوان -، فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما، نقتُلْ صاحِبيكم، فلما قَدِمَا، فأداهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثمان والحكم، وقسم الغنيمة. وذكر ابنُ وهب: أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردَّ الغنمية، وودَى القتيل. |
والمعروفُ فى السير خلاف هذا.
وفى هذه القصة مِن الفقه إجازةُ الشهادة على الوصية المختومة، وهو قولُ مالك، وكثير من السلف، ويدل عليه حديث ابن عمر رضى الله عنهما فى "الصحيحين ": "ما حقُّ امْرِىءً مُسْلِم لَهُ شَىء يُوصى به يبيتُ لَيْلَتَيْنِ إلا وَوَصِيَّتُه مكْتُوبَة عِنْدَهُ". وفيها: أنه لا يُشترط فى كتاب الإمام والحاكم البينة، ولا أن يقرأه الإمام والحاكم على الحامل له، وكُلُّ هذا لا أصل له فى كتاب ولا سنة، وقد كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدفع كُتبه مع رُسله، ويُسيرها إلى من يكتب إليه، ولا يقرؤها على حاملها، ولا يُقيم عليها شاهدين، وهذا معلوم بالضرورة مِن هديه وسنته. فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الجاسوس ثبت أن حاطب بن أبى بَلتعة لما جسَّ عليه، سأله عمرُ رضى الله عنه ضربَ عنقه، فلم يُمكنه، وقال: "مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُم، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ". وقد تقدم حكم المسألة مستوفى. واختلف الفقهاء فى ذلك، فقالَ سحنون: إذا كاتب المسلمُ أهلَ |
الحرب، قُتِلَ، ولم يُستتب، ومالُه لورثته، وقال غيرُه من أصحاب مالك رحمه
الله: يُجلد جلداً وجيعاً، ويُطال حبسه، ويُنفى مِن موضع يقرب من الكفار. وقال
ابن القاسم: يُقتل ولا يعرف لهذا توبة، وهو كالزنديق.
وقال الشافعى، وأبو حنيفة، وأحمد رحمهم الله: لا يُقتل، والفريقان احتجوا بقصة حاطب، وقد تقدم ذِكرُ وجه احتجاجهم، ووافق ابنُ عقيل من أصحاب أحمد مالكاً وأصحابه. فصل: فى حكمه فى الأسرى ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الأسرى أنه قَتَل بَعْضَهم، ومَنَّ على بعضهم، وفادى بعضَهم بمال، وبعضَهم بأسرى مِن المسلمين، واسترقَّ بعضَهم، ولكن المعروف، أنه لم يَسْتَرِقَّ رجلاً بالغاً. فقتل يومَ بدر من الأسرى عُقبةَ بن أبى معيط، والنضر بن الحارث. وقتل مِن يهود جماعةً كثيرين من الأسرى، وفادى أسرى بدر بالمال بأربعةِ آلاف إلى أربعمائةٍ، وفادى بعضَهم على تعليم جماعة من المسلمين الكتابة، ومنَّ على أبى عَزَّةَ الشاعر يومَ بدر، وقال فى أسارى بدر: "لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِىٍّ حَيَّاً، ثُمَّ كَلَّمَنِى فى هُؤلاَء النَّتْنى لأَطْلَقْتُهُمْ لَهُ". |
وفدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين.
وفدى رجالاً من المسلمين بامرأة من السبى، استوهبها مِن سلمة بن الأكوع. ومنَّ على ثُمامة بن أُثال، وأطَلَق يوم فتح مكة جماعةً مِن قريش، فكان يقال لهم: الطُّلقاء. وهذه أول أحكام لم يُنسخ منها شىء، بل يُخير الإمامُ فيها بحسبِ المصلحة، واسترقَّ مِن أهل الكِتاب وغيرهم، فسبايا أوطاس، وبنى المصطَلِق لم يكونوا كتابين، وإنما كانوا عبدة أوثان مِن العرب، واسترق الصحابةُ مِنْ سبى بنى حنيفة، ولم يكونوا كتابيين. قال ابن عباس رضى الله عنهما: خيَّرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الأسرى بينَ الفداء والمنِّ والقتلِ والاستعباد، يفعلُ ما شاء، وهذا هو الحق الذى لا قول سواه. فصل وحكم فى اليهود بعدة قضايا، فعاهدَهم أوَّل مقدمه المدينة، ثم حاربه بُنو قَيْنُقَاع، فظَفِرَ بهم، ومنَّ عليهم، ثم حاربه بنو النضير، فظفِرَ بهم، وأجلاهم، ثُمَّ حارَبه بنو قُريظة، فظفِرَ بهم وقتلهم، ثم حاربه أهلُ |
خيبر، فظَفِرَ بهم وأقرَّهم فى أرض خيبرَ ما شاء سِوى مَنْ قتل مِنهم.
ولما حكم سعدُ بن معاذ فى بنى قُريظة بأن تُقتَل مقاتلتُهم، وتُسبى ذراريهم وتُغنم أموالُهم، أخبره رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن هذا حُكْمُ اللهِ عزَّ وجلَّ مِن فوق سَبْعِ سَمَاوات. وتضمَّن هذا الحكم: أن ناقضى العهدِ يسرى نقضُهم إلى نسائهم وذُرِّيَّتِهم إذا كان نقضُهم بالحرب، ويعودون أهلَ حرب، وهذا عينُ حكمِ اللهِ عزَّ وجل. فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى فتح خيبر حكمَ يومئذ بإقرار يهودَ فيها على شطرِ ما يخرُج منها مِن ثمر أو زرع. وحكم بقتل ابنى أبى الحُقَيْقِ لما نقضُوا الصّلح بينَهم وبينَه: على أن لا يكتُموا ولا يُغيِّبوا شيئاً من أموالهم، فكتمُوا وغيَّبوا، وحكم بعقوبة المتَّهم بتغييبِ المال حتى أقرَّ به، وقد تقدَّم ذلك مستوفى فى غزوة خيبر. وكانت لأهل الحُديبية خاصة، ولم يَغِبْ عنها إلا جابرُ بن عبد الله، فقسم له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سهمَه. |
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى فتح مكة
حكم بأنَّ من أغلقَ بابَه، أو دخلَ دارَ أبى سفيان، أو دخلَ المسجد، أو وضع السلاح، فهو آمن، وحكم بقتل نفر ستةٍ، منهم: مِقْيس بن صبُابة، وابنُ خطل، ومغنيتان كانتا تغنيان بهجائه، وحكم بأنه لا يُجهز على جريح، ولا يُتبعُ مدبر، ولا يُقتل أسير، ذكره أبو عبيد فى "الأموال". وحكم لخُزاعة أن يبذلُوا سُيوفَهم فى بنى بكر إلى صلاة العصر، ثم قال لهم: "يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ القَتْل". فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى قسمة الغنائم حكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن للفارِس ثلاثَةَ أسهم، وللرَّاجِلِ سهم، هذا حكمُه الثابتُ عنه فى مغازيه كُلِّها، وبه أخذ جمهورُ الفقهاء. وحكم أن السَّلبَ للقاتل. وأما حُكمه بإخراج الخمس، فقال ابن إسحاق: كانت الخيلُ يومَ بنى قريظة ستةً وثلاثين فرساً، وكان أوَّلَ فىء وقعت فيه السهمان، وأخرج منه الخمس، ومضت به السنة، ووافقه على ذلك القضاء إسماعيل بن |
إسحاق، فقال إسماعيل: وأحْسِبُ أن بعضَهم قال: ترك أمرَ الخُمس بعد ذلك، ولم
يأت فى ذلك من الحديث ما فيه بيانٌ شاف، وإنما جاء ذكرُ الخمس يقيناً فى غنائم
حُنين.
وقال الواقدى: أول خُمسٍ فى غزوة بنى قَيْنُقاع بعدَ بدرٍ بشهر وثلاثة أيام، نزلُوا على حُكمه، فصالحهم على أن له أموالَهم، ولهم النساءُ والذرية، وخمَّس أموالهم. وقال عُبادة بن الصامت: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بدر، فلما هَزَمَ الله العدُوَّ، تبعتهم طائفةٌ يقتلونهم، وأحدقَتْ طائفةٌ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وطائفةٌ استولت على العسكر والغنيمة، فلما رجع الَّذِين طلبوهم، قالوا: لنا النَّفَلُ نحن طلبنا العدُوَّ، وقال الذين أحدقوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نحن أحقُّ به، لأنا أحدقنا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا ينال العدُوُّ غِرَّتَه، وقال الذين استَولَوْا على العسكر: هُوَ لنا، نحن حَوْيَنَاهُ. فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَن الأُنفالِ قُلِ الأَنْفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ} [الانفال: 1]، فقسمه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بَوَاءٍ قبل أن ينزل: {واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُم مِنْ شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]. |
وقال القاضى إسماعيل: إنما قسم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أموالَ بنى النضير بينَ المهاجرين، وثلاثةً من الأنصار: سهلِ بنِ
حُنيف، وأبى دُجانة، والحارث بن الصِّمة لأن المهاجرين حين قدموا المدينة،
شاطرهم الأنصارُ ثمارَهم، فقال لهم رسول الله: "إنْ شِئْتُم قَسَمْتُ أَمْوَالَ
بَنِى النَّضِيرِ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ، وأَقَمْتُم عَلَى مُوَاسَاتِهم فى
ثِمَارِكُم، وإنْ شِئْتُمْ أَعْطَيْنَاها لِلْمُهَاجِرينَ دُونَكُمْ، وقَطَعْتُم
عَنْهُمْ مَا كُنْتُم تُعْطُونَهُمْ مِنْ ثِمَارِكُمْ"، فقالوا: بل تُعطيهم
دوننا، ونُمْسِكُ ثمارنا، فأعطاها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
المهاجرينَ، فاستغنوا بما أخذوا، واستغنى الأنصارُ بما رجع إليهم من ثمارهم،
وهؤلاء الثلاثة من الأنصار شَكَوْا حَاجَةً.
فصل وكان طلحةُ بنُ عبيد الله، وسعيدُ بن زيد رضى الله عنهما بالشام لم |
يشهد بدراً، فقسم لهما رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سهميهما، فقالا: وأجورُنا يا رسولَ الله؟ فقال: "وأُجُوركُمَا".
وذكر ابن هشام، وابن حبيب أن أبا لبابة، والحارث بنَ حاطب، وعاصِمَ بنَ عدى خرجُوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فردَّهم، وأمَّرَ أبا لبابة على المدينة، وابن أم مكتوم على الصلاة، وأسهم لهم. والحارث بن الصِّمة كُسِرَ بالروحاء، فضرب له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسهمه. قال ابن هشام: وخّواتُ بن جُبير ضرب له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسهمه. ولم يختِلف أحدٌ أن عثمان ابن عفان رضى الله عنه تخلف على امرأته رقية بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضرب له بسهمه، فقال: وأجرى يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وأَجْرُكَ" ؛ قال ابن حبيب: وهذا خاصٌ للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأجمع المسلمون أن لا يُقسم لغائب. قلتُ: وقد قال أحمدُ ومالك، وجماعةٌ من السلف والخلف: إن الإمامَ إذا بعث أحداً فى مصالح الجيش، فله سهمُه. قال ابن حبيب: ولم يكن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْهِمُ للنساء والصبيان والعبيد، ولكن كان يحذيهم مِن الغنيمة. |
فصل
وعدل فى قسمة الإبل والغنم كُلُّ عشرة منها ببعير، فهذا فى التقويم، وقسمة المال المشترك. وأما فى الهدى، فقد قال جابر: نحرنا مَع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الحُديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة فهذا في الحديبية . وأما فى حجة الوداع، فقال جابر أيضاً: "أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نشترك فى الإبل والبقر كُلُّ سبعة منا فى بدنة" ؛ وكلاهما فى الصحيح. وفى "السنن" من حديث ابن عباس، أن رجلاً: أتى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "إن علىَّ بدنة وأنا موسِر بها ولا أجدها فأشتريها، فأمره أن يبتاعَ سبعَ شياه، فيذبحهن". فصل حكم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسَّلَبِ كله للقاتل، ولم يُخمِّسْه، ولم يجعله مِن الخُمس، بل مِن أصل الغنيمة، وهذا حكمه وقضاؤه. قال البخارى فى "صحيحه": السلبُ للقاتل إنما هو مِن غير الخُمس، |
وحكم به بشهادة واحد، وحكم به بعد القتل، فهذه أربعة أحكام تضمَّنها حكمُه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسَّلَبِ لمن قتل قتيلاً.
وقال مالك وأصحابهُ: السلبُ لا يكون إلا من الخمس، وحكمه حُكمُ النفل، قال مالك: ولم يبلُغْنَا أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك، ولا فعلَه فى غيرِ يوم حُنين، ولا فعلَه أَبُو بكر، ولا عُمر رضى الله عنهما. قال ابن الموَّاز: ولم يُعط غير البراء بن مالك سلبَ قتيله، وخمَّسه. قال أصحابه: قال الله تعالى: {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِنْ شَىءٍ فأنَّ للَّهِ خُمُسَهُ}، فجعل أربعة أخماس الغنيمة لمن غنمها، فلا يجوز أن يُؤخذ شىء مما جعله الله لهم بالاحتمال. وأيضاً فلو كانت هذه الآيةُ إنما هى فى غير الأسلاب، لم يُؤخر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكمها إلى حُنين، وقد نزلت فى قصة بدر، وأيضاً إنما قال: "مَنْ قَتَلَ قَتِلاً فلَهُ سَلَبُه"، بعد أن برد القتالُ، ولو كان أمراً متقدماً، لعلمه أبو قتادة فارسُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأحدُ أكابر أصحابه، وهو لم يطلبه حتى سَمِعَ منادىَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ ذلك. قالوا: وأيضاً فالنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطاه إياه بشهادة واحد بلا يمين، فلو كان مِن رأس الغنيمة، لم يخرج حقُّ مغنم إلا بما تخرج به الأملاكُ من البيِّنات، أو شاهد ويمين. قالوا: وأيضاً فلو وجب للقاتل ولم يجد بيِّنة لكان يُوقف، كاللقطة ولا يُقسم، وهو إذا لم تكن بينة يُقسَم، فخرج من معنى الملك، ودل على أنه إلى اجتهاد الإمام يجعلُه من الخمس الذى يجعل فى غيره، هذا مجموعُ ما احتُجَّ به لهذا القول. |
قال الآخرون: قد قال ذلك رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وفعله قبل حُنين بستة أعوام، فذكر البخارى فى "صحيحه": أن معاذَ بن
عمرو بنِ الجموح، ومُعاذَ بن عفراء الأنصاريين، ضرباً أبا جهل بن هشام يوم بدر
بسيفهما حتى قتلاه، فانصرفا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فأخبراه، فقال: "أَيُّكُمَا قَتَلَهُ"؟ فقال كُلُّ واحد منهما: أنا
قتلته، فقال: "هَلْ مَسَحْتُما سَيْفَيْكُمَا"؟ قالا: لا، فنظر إلى
السيفين، فقال: "كِلاَكُمَا قَتَلَهُ"، وسَلَبُه لمعاذ بْنِ عَمْرو
بْنِ الجَمُوح، وهذا يدل على أن كونَ السلب للقاتل أمرٌ مقرر معلومٌ مِن أول
الأمر، وإنما تجدَّد يومَ حنين الإعلامُ العام، والمناداة به لا شرعيتُه.
وأما قول ابنِ الموَّاز: إن أبا بكر وعمر لم يفعلاه، فجوابُه من وجهين ؛ أحدُهما: أن هذا شهادةٌ على النفى، فلا تُسمع، الثانى: أنه يجوز أن يكون تركُ المناداة بذلك على عهدهما اكتفاءً بما تقرر، وثبت مِن حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقضائه، وحتى لو صحَّ عنهما تركُ ذلك تركاً صحيحاً لا احتمالَ فيه، لم يُقَدَّم على حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأما قولُه: ولم يُعط غيرَ البراء بن مالك سلبَ قتيله، فد أعطى السلبَ لسلمة ابنِ الأكوع، ولمعاذ بن عمرو، ولأبى طلحة الأنصارى، قَتَلَ عِشرين يَوْمَ حنين، فأخذ أسلاَبهم، وهذه كلها وقائع صحيحة معظمُها فى الصحيح، فالشهادةُ على النفى لا تكاد تسلمُ من النقض. وأما قولُه: "وخمَّسَه"، فهذا لم يُحفظ به أثر البتة، بل المحفوظُ |
خلافه، ففى "سنن أبى داود": عن خالد، أن النبى صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يُخَمِّس السَّلَب.
وأما قولُه تعالى: {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِنْ شَىءٍ فأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، فهذا عام، والحكم بالسلب للقاتل خاص، ويجوز تخصيصُ عمومِ الكتاب بالسنة، ونظائرُه معلومة، ولا يُمكن دفعُها. وقوله: "لا يجعل شىء من الغنيمةِ لغير أهلها بالاحتمال"، جوابُه من وجهين، أحدهما: أنا لم نجعل السلب لغير الغانمين. الثانى: إنما جعلنا للقاتل بقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بالاحتمال، ولم يؤخِّر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكمَ الآية إلى يوم حُنين كما ذكرتم، بل قد حكم بذلك يومَ بدر، ولا يمنع كونه قاله بعد القتالِ مِن استحقاقه بالقتل.وأما كون أبى قتادة لم يطلبه حتى سَمِعَ منادى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوله، فلا يدُلُّ على أنه لم يكن متقرراً معلوماً، وإنما سكت عنه أبو قتادة لأنه لم يكن يأخُذه بمجرد دعواه، فلما شهد له به شاهد أعطاه. والصحيح: أن يُكتفى فى هذا بالشاهد الواحد، ولا يحتاج إلى شاهد آخر، ولا يمين، كما جاءت به السنةُ الصحيحةُ الصريحة التى لا مُعارِضَ لها، وقد تقدم هذا فى موضعه. وأما قولُه: "إنه لو كان للقاتل، لوقف، ولم يُقسم كاللقطة"، فجوابُه أنه للغانمين، وإنما للقاتل حقُّ التقديم، فإذا لم تُعلم عين القاتل اشترك فيه الغانمين، فإنه حقهم، ولم يظهر مستحق التقديم منهم، فاشتركوا فيه. |
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما حازه المشركون من
أموال المسلمين، ثم ظهر عليه المسلمون، أو أسلم عليه المشركون
فى البخارى: أن فرساً لابن عمر رضى الله عنه ذهب، وأخذه العدو، فظهرَ عليه المسلمون، فَرُدَّ عليه فى زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَبَقَ له عبد، فلحق بالروم، فظهر عليه المسلمون، فردَّه عليه خالد فى زمن أبى بكر رضى الله عنه. وفى "سنن أبى داود": أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذى رَدَّ عليه الغلام. وفى "المدونة" و"الواضحة" أن رجلاً من المسلمين وجد بعيراً له فى المغانم، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنْ وَجدْتَه لم يُقْسَمْ، فَخُذْهُ، وإنْ وجدْتَهُ قَدْ قُسِمَ فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ إن أرَدْتَهُ". وصح عنه: أن المهاجرين طلبوا منه دُورَهم يوم الفتح بمكة، فلم يرد على أحد دارَه. وقل له: أين تَنْزِلُ غداً من دارك بمكة؟، فقال: "وهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلاً"، وذلك أن الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما هاجر إلى المدينة، وثب عقل على رباع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة، فحازها كُلَّها، وحوى عليها، ثم أسلم وهى فى يده، وقضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن من أسلم على شىء فهو له، وكان عقيل ورث أبا طالب، ولم يرثه على لتقدُّم إسلامه على موت |
أبيه، ولم يكنْ لرسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميراثٌ مِن
عبد المطلب، فإن أباه عبدَ الله مات، وأبوه عبدُ المطلب حىٌّ، ثمَّ مات عبدُ
المطلب، فَورِثه أولاده، وهم أعمامُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ومات أكيرُ أولاده، ولم يعقبوا، فحاز أبو طالب رِباعه، ثم مات، فاستولى عليها
عَقيلٌ دونَ على لاختلاف الدين، ثم هاجر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فاستولى عقيل على داره، فلذلك قال رسول الله: "وهَلْ تَرَكَ
لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلاً".
وكان المشركون يَعْمِدُونَ إلى من هاجر من المسلمين ولحق بالمدينة، فيستولُون على داره وعقاره، فمضت السنةُ أن الكفارَ المحاربين إذا أسلموا، لم يضمنُوا ما أتلفُوه على المسلمين مِن نفس أو مال، ولم يَرُدُّوا عليهم أموَالهم التى غَصبُوهَا عليهم، بل من أسلم على شىء، فهو له ؛ هذا حكمه وقضاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما كان يُهدى إليه كان أصحابُه رضى الله عنهم يُهدون إليه الطعامَ وغيره، فيقبلُ منهم، ويُكافئهم أضعافَها. وكانت الملوكُ تُهدى إليه، فيقبلُ هداياهم، ويَقْسِمُها بينَ أصحابه، ويأخُذُ منها لنفسه ما يختارُه، فيكون كالصفىِّ الذى له من المغنم. وفى "صحيح البخارى": أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُهدِيَتْ إليه أَقْبِية دِيباجٍ مزرَّرَة بالذهب، فقسمها فى ناس مِن أصحابه، وعزل منها واحداً لِمخْرَمة بنِ نوفل، فجاء ومعه المِسور ابنُه، فقام على الباب، فقال: ادْعُهُ لى، فسمِع |
النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صوتَه، فتلقاه به فاستقبلَه،
وقال: "يا أَبا المِسْوَرِ خَبَأْتُ هذَا لَكَ".
وأهدى له المُقَوْقِسُ ماريةً أمَّ ولده، وسِيرين التى وهبها لحسان، وبغلةً شهباء، وحماراً. وأهدى له النجاشىُّ هديةً، فَقبِلَها منه، وبعث إليه هديةً عوضها، وأخبر أنَّه مات قبلَ أن تَصِلَ إليه، وأنها تَرْجعُ، فكان الأمر كما قال. وأهدى له فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ الجذَامِى بغلةً ببيضاء ركبها يوم حُنين، ذكره مسلم. وذكر البخارى: أن مَلِكَ أيلةَ أهدى له بغلةً بيضاء، فكساه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُردة، وكتب له بِبَحْرِهِم. وأهدى له أبو سفيان هدية فقبلها. وذكر أبو عبيد: أن عامرَ بن مالك مُلاعِبَ الأْسِنة، أهدى للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرساً فرده، وقال: "إنَّا لا نَقْبَلُ هَدِيَّةَ مُشْرِكٍ" وكذلك قال |
لعياض المجاشعى: "إنَّا لا نَقْبَلُ زَبَدَ المُشْرِكِين" يعنى:
رِفدهم.
قال أبو عبيد: وإنما قبل هدية أبى سفيان لأنها كانت فى مدةِ الهُدنة بينه وبين أهل مكة، وكذلك المقوقِسُ صاحبُ الإسكندرية إنما قبل هديته لأنه أكرمَ حاطبَ بن أبى بلتعة رسوله إليه، وأقرَّ بنبوته، ولم يُؤيسه من إسلامه، ولم يقبل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هديةَ مشركٍ محاربٍ له قطُّ. فصل وأما حكم هدايا الأئمة بعده، فقال سُحنون من أصحاب مالك: إذا أهدى أميرُ الروم هديةً إلى الإمام، فلا بأس بقبولها، وتكون له خاصة، وقال الأوزاعى: تكون للمسلمين، ويُكافئه عليها مِن بيت يالمال. وقال الإمام أحمد رحمه الله وأصحابه: ما أهداه الكفار للإمام، أو لأمير الجيش، أو قواده، فهو غنيمة، حكمها حكمُ الغنائم. فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى قسمة الأموال الأموال التى كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسِمُها ثلاثة: الزكاةُ، والغنائم، والفىء فأما الزكاة والغنائم، فقد تقدم حكمها، وبيَّنا أنه لم يكن يُستوعِبُ الأصنافَ الثمانية، وأنه كان رُبما وضعها فى واحد. |
وأما حُكمه فى الفىء، فثبت فى الصحيح، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قسم يومَ حُنين فى المؤلفة قلوبُهم من الفىء، ولم يُعطِ الأنصارَ
شيئاً، فَعَتِبُوا عليه، فقال لهم: " ألاَ تَرْضَونَ أَنْ يَذْهَبَ
النَّاسُ بالشَّاءِ والبَعِيرِ، وتَنْطَلِقُونَ بِرَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُودُونَهُ إلى رِحَالِكُمْ، فَوَاللهِ لما تنقلبونَ بِهِ
خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ" وقد تقدَّم ذكرُ القصة وفوائدها فى
موضعها.
والقصة هنا أن الله سبحانه أباح لرسولهِ من الحكم فى مال الفىء ما لم يُبحه لغيره، وفى "الصحيح" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنى لأَعْطِى أَقْوَاماً، وَأَدْعُ غَيْرَهُم، والَّذِى أَدَعُ أَحَبُّ إلىَّ مِنَ الَّذِى أُعْطى" وفى (الصحيح) عنه: "إنِّى لأَعْطى أَقْوَاماً أَخَافُ ظَلَعَهُمْ وجَزَعَهُمْ، وأَكِلُ أَقْوَاماً إلى مَا جَعَلَ اللهُ فى قُلُوبِهِمْ مِنَ الغِنى والخَيْرِ، مِنْهم عَمْرُو بْن تَغٌلِب ". قال عمرو بن تغلب: فما أُحِبُّ أن لى بكلمةِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُمرَ النَّعَمِ.وفى "الصحيح": أن علياً بعث إليه بِذُهَيْبَةً من اليمن، فقَسمها أرباعاً، فأعطى الأقرعَ بنَ حابس، وأعطى زيدَ الخيل، وأعطى عَلْقَمَةَ بنَ عُلاثة وعُيَيْنَةَ بنَ حِصن، فقام إليه رجلٌ غائرُ العينين، ناتىءُ الجبهة، كثُّ اللِّحية، محلوقُ الرأس، فقال: يا رسول الله اتق الله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: |
"ويلك أو لست أحقَّ أهلِ الأرض أن يتقىَ الله" ؟، الحديث.
وفى "السنن": أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضع سهم ذى القُربى فى بنى هاشم، وفى بنى المطلب، وتَرَكَ بنى نوفل، ونبى عبدِ شمس، فانطلق جُبير بن مُطعم، وعثمانُ ابن عفان إليه، فقالا: يا رسولَ اللهِ، لا نُنْكِرُ فضلَ بنى هاشم لموضعهم منك، فما بالُ إخوانِنا بنى عبد المطلب، أعطيتَهم وتركتنا، وإنما نحنُ وهم بمنزلةً واحدة، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّا وبَنُوا المُطَّلِبِ لا نَفْتَرِقُ فى جَاهِليَّةً وَلاَ إسْلامٍ، إنَّما نَحْنُ وَهُمْ شَىءٌ واحدٌِ " وشَبَكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. وذكر بعضُ الناس بأن هذا الحكمَ خاص بالنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن سهمَ ذوى القُربى يُصرف بعدَه فى بنى عبد شمس، ونبى نوفل، كما يُصرف فى بنى هاشم، وبنى المطلب، قال: لأن عبد شمس، وهاشما، والمطلب، ونوفلاً إخوة، وهُم أولادُ عبد مناف. ويقال: إن عبدَ شمس، وهاشما توأمان. والصواب: استمرارُ هذا الحكم النبوى، وأنَّ سهمَ ذوى القربى لبنى هاشم ونبى المطلب حيث خصَّه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهم، وقولُ هذا القائل: إن هذا خاصُ بالنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باطل، فإنه بيَّن مواضِعَ الخُمس الذى جعله الله لذوى القُربى، فلا يُتعدَّى به تلك المواضع، ولا يُقصر عنها، ولكن لم يكن يقسِمُه بينهم على السواء بين أغنيائهم وفقرائهم، ولا كان |
يقسِمُه قِسمَة الميراث للذكر مثلُ حظِّ الأنثيين، بل كان يَصرفُه فيهم بحسب
المصلحة والحاجة، فيزوِّجُ منه عزبَهم، ويقضِى منه عن غارِمهم، ويُعطى منه
فقيرَهم كفايته.
وفى "سنن أبى داود": عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: "ولاَّنى رسول الله خُمْسَ الخمس، فوضعتُه مواضِعَه حياةَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحياةَ أبى بكر رضى الله عنه، وحياةَ عمر رضى الله عنه". وقد استدِلَّ به على أنه كان يُصْرَفُ فى مصارفه الخمسةِ، ولا يقوى هذا الاستدلال، إذ غايةُ ما فيه أنه صرفه فى مصارفه التى كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصرِفُه فيها، ولم يَعُدها إلي سواها، فأين تعميمُ الأصناف الخمسة به؟، والذى يدل عليه هدىُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحكامُه أنه كان يجعل مصارِفَ الخمس كمصارِفِ الزكاة، ولا يخرجُ بها عن الأصناف المذكورة لا أنه يقسِمُه بينهم كقِسمة الميراث، ومن تأمل سيرته وهديَه حقَّ التأمل لم يشك فى ذلك. وفى "الصحيحين": عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: كانَتْ أموالُ بنى النضير مما أفاء اللهُ على رسوله مما لم يُوجِفِ المسلمون عليه بخيل ولا رِكاب، فكانت لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة يُنفِقُ منها على أهله نفقةَ سنة، وفى لفظ: "يحبِسُ لأهله قوت سنتهم، ويجعلُ ما بقى فى الكراع والسلاح عُدة فى سبيل الله". وفى "السنن": عن عوف بن مالك رضى الله عنه، قال: كان رسولُ |
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أتاه الفىء، قسمه مِن يومه،
فأعطى الآهِل حَظَّيْنِ، وأعطى العَزَب حظاً.فهذا تفصيل منه للآهِلِ بحسب
المصلحة والحاجة، وإن لم تكن زوجُه من ذوى القربى.
وقد اختلف الفقهاءُ فى الفىء، هل كان مِلكاً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتصرف فيه كيف يشاء، أو لم يكن ملكاً له؟ على قولين فى مذهب أحمد وغيره. والذى تدل عليه سنتُه وهديه، أنه كان يتصرَّف فيه بالأمر، فيضعه حيثُ أمره الله، ويقسِمُه على من أُمِرَ بقسمته عليهم، فلم يكن يتصرَّف فيه تصرُّفَ المالك بشهوته وإرادته، يُعطى من أحبَّ، ويمنعُ من أحبَّ، وإنما كان يتصرَّف فيه تصرُّفَ العبدِ المأمور يُنفِّذُ ما أمره به سيده ومولاه، فيعطى من أمر بإعطائه، ويمنع من أُمِرَ بمنعه، وقد صرح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا فقال: "واللهِ إنِّى لا أُعطِى أحداً ولا أمنعهُ، إما أنا قاسِمٌ أَضَعُ حِيْثُ أُمِرْتُ"، فكان عطاؤه ومنعُه وقسمُه بمجرد الأمر، فإن الله سبحانه خيَّره بين أن يكونَ عبداً رسولاً، وبين أن يكون ملكاً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً. والفرقُ بينهما أن العبدَ الرسولَ لا يتصرَّفُ إلا بأمر سيِّده ومُرْسِله، والمَلِكُ الرسولُ له أن يُعطِىَ مَن يشاء، ويمنعُ من يشاء كما قال تعالى للملك الرسول سليمان: {هذا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39] أى: أعطِ مَن شئتَ، وامنع من شئت، لا نحاسِبُك ؛ وهذه المرتبة هى التى عُرَضَتْ على نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرغِبَ عنها إلى ما هو أعلى منها، وهى مرتبةُ |
العبودية المحضة التى تَصرُّفُ صاحبها فيها مقصورٌ على أمرِ السيد فى كُلِّ
دقيق وجليل.
والمقصود: أن تصرفه فى الفىء بهذه المثابة، فهو ملك يُخالف حكم غيره من المالكين، ولهذا كان ينفق مما أفاء الله عليه مما لم يُوجِفِ المسلمون عليه بخيل ولا ركاب على نفسه وأهله نفقةَ سنتهم، ويجعل الباقى فى الكُراع والسِّلاح عدة فى سبيل الله عز وجل، وهذا النوعُ مِن الأموال هو السهمُ الذى وقع بعده فيه مِن النزاع ما وقع إلى اليوم. فأما الزكاوات والغنائم، وقسمة المواريث، فإنها معينة لأهلها لا يَشُركُهم غيرُهم فيها، فلم يُشكل على ولاة الأمر بعدَه مِن أمرها ما أشكل عليهم مِن الفىء، ولم يقع فيها مِن النزاع ما وقع فيه، ولولا إشكالُ أمره عليهم، لما طلبت فاطمةُ بنتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميراثها مِن تركته، وظنت أنه يُورث عنه ما كان ملكاً له كسائر المالكين، وخفى عليها رضى الله عنها حقيقةُ الملك الذى ليس مما يُورث عنه، بل هو صدقة بعده، ولما علِمَ ذلك خليفتهُ الراشدُ البار الصِّدِّيق، ومَن بعده من الخلفاء الراشدين لم يجعلوه ما خلفه من الفىء ميراثاً يُقسم بين ورثته، بل دفعوه إلى على والعباس يعملان فيه عملَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى تنازعا فيه، وترافعا إلى أبى بكر الصديق، وعمر، ولم يَقسم أحد منهما ذلك ميراثاً، ولا مكَّنا منه عباساً وعليَّا، وقد قال الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَللّهِ ولِلرّسُولِ وَلذِى القُرْبى وَاليَتَامَى والمَسَاكِين وابْنِ السَّبِيلِ كَيْلاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغَنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخَذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا واتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ ورِضْوَاناً ويَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ |
والَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ والإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إلَيْهِمْ} [الحشر: 7-9] إلى قوله: {والَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ
بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]، إلى آخر الآية. فأخبر سبحانه أن ما أفاء على رسوله
بجملته لِمَن ذُكِرَ فى هذِهِ الآيات، ولم يَخُصَّ منه خمسة بالمذكورين، بل
عمَّمَ وأطلق واستوعب.
ويُصرف على المصارف الخاصة، وهم أهلُ الخمس، ثم على المصارف العامة، وهم المهاجرون والأنصار وأتباعهم إلى يوم الدين. فالذى عمل به هو وخلفاؤه الراشدون، هو المرادُ من هذه الآيات، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه فيما رواه أحمد رحمه الله وغيره عنه: ما أحدٌ أحقَّ بهذا المالِ مِن أحد، وما أنا أحقَّ به من أحد، والله ما مِن المسلمين أحد إلا وله فى هذا المال نصيب إلا عبد مملوك، ولكنا على منَازِلنا مِن كتاب الله، وقسمنا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالرجلُ وبلاؤُه فى الإسلام، والرجل وقِدَمُه فى الإسلام، والرجل وغَناؤه فى الإسلام، والرجل وحاجتُه، والله لئن بقيت لهم ليأتين الراعى بجبل صنعاء حظُّه مِن هذا المال، وهو يَرعى مكانه. فهؤلاء المسمَّوْن فى آية الفىء هم المسمَّون فى آية الخمس، ولم يدخُل المهاجرون والأنصارُ وأتباعُهم فى آية الخمسِ، لأنهم المستحقون لجملة الفىء، وأهلُ الخمس لهم استحقاقان: استحقاقٌ خاص مِن الخمس، واستحقاقٌ عام من جملة الفىء، فإنهم داخلون فى النَّصِيبَيْنِ. وكما أن قِسمته من جملة الفىء بين مَن جعل له ليس قسمة الأملاك التى يشترك فيها المالكون ؛ كقِسمةِ المواريث والوصايا والأملاك المطلقة، بل بحسب الحاجة والنفع والغَناء فى الإسلام والبلاء فيه، فكذلك قِسمة الخمسِ فى أهله، فإن مخرجَهما واحد فى كتاب الله، والتنصيصُ على الأصناف |
الخمسة يُفيد تحقيق إدخالهم. وأنهم لا يُخرجون من أهل الفىء بحال، وأن الخمس
لا يعدوهم إلى غيرهم، كأصناف الزكاة لا تعدوهم إلى غيرهم، كما أن الفىء العام فى
آية الحشر للمذكورين فيها لا يتعداهم إلى غيرهم، ولهذا أفتى أئمة الإسلام،
كمالك، والإمام أحمد وغيرهما، أن الرافضة لا حقَّ لهم فى الفىء لأنهم ليسوا من
المهاجرين، ولا من الأنصار، ولا من الذين جاؤوا من بعدهم يقولون :{رَبّنَا
اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]،
وهذا مذهبُ أهل المدينة، واختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية، وعليه يدل القرآن،
وفعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفائه الراشدين.
وقد اختلف الناسُ فى آية الزكاةِ وآيةِ الخمس، فقال الشافعى: تجب قسمةُ الزكاة والخمس على الأصناف كلِّها، ويُعطى مِن كل صنف مَن يطلق عليه اسم الجمع. وقال مالك رحمه الله وأهلُ المدينة: بل يُعطى فى الأصناف المذكورة فيهما، ولا يعدوهم إلى غيرهم، ولا تجب قسمةُ الزكاة ولا الفىء فى جميعهم. وقال الإمام أحمد وأبو حنيفة: بقول مالك رحمهم الله فى آية الزكاة، وبقول الشافعى رحمه الله فى آية الخمس. ومن تأمل النصوصَ، وعَمَلَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفائه، وجده يدل على قول أهل المدينة، فإن الله سبحانه جعل أهل الخمس هم أهل الفىء، وعيَّنهم اهتماماً بشأنهم، وتقديماً لهم، ولما كانت الغنائمُ خاصة بأهلها لا يشركهم فيها سواهم، نصَّ على خمسها لأهل الخمس، ولما كان الفىء لا يختصُ بأحد دون أحد، جعل جملته لهم، وللمهاجرين والأنصار وتابعيهم، فسوَّى بينَ الخمسِ وبين الفىء فى المصرِف، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصِرفُ سهم الله وسهمَه فى مصالح الإسلام، وأربعةَ أخماس الخمس |
فى أهلها مقدماً لِلأهم فالأهم، والأحوج فالأحوج، فيزوج منه عزابَهم، ويقضى
منه ديونهم، ويُعين ذا الحاجة منهم، ويُعطى عزبهم حظاً، ومتزوجَهم حظَّين، ولم
يكن هو ولا أحدٌ من خلفائه يجمعون اليتامى والمساكين وأبناء السبيل وذوى القربى،
ويقسمون أربعة أخماس الفىء بينهم على السوية، ولا على التفضيل، كما لم يكونوا
يفعلون ذلك فى الزكاة، فهذا هديُه وسيرتُه، وهو فصلُ الخطاب، ومحضُ الصواب.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الوفاء بالعهد لعدوِّه وفى رسلهم، أن لا يُقتلوا ولا يُحبسوا، وفى النبذ إلى من عاهده على سواء إذا خافَ منه نقضَ العهد ثبت عنه أنه قال لرسولى مسلمَة الكذاب لما قالا: نقول: إنه رسولُ اللهِ: "لَوْلاَ أَنَّ الرُّسُلَ لاَ تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمَا". وثبت عنه أنه قال لأبى رافع وقد أرسلته إليه قريش، فأراد المقامَ عنده، وأنه لا يرجع إليهم، فقال: "إنى لاَ أَخِيسُ بِالعَهْدِ، ولا أَحْبِسُ البُرُدَ، وَلكِنِ ارْجِعْ إلى قَوْمِكَ، فَإنْ كَانَ فى نَفْسِكَ الَّذِى فيها الآن فارْجِعْ". |
وثبت عنه أنه ردَّ إليهم أبا جندل للعهد الذى كان بينه وبينهم أن يَرُدَّ
إليهم من جاءه منهم مسلماً، ولم يرد النساء، وجَادت سُبَيْعَةُ الأسلميةُ
مسلمةً، فخرج زوجُها فى طلبها، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إذَا جَاءَكُم المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ، فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ
أَعْلَمُ بِإيمَانِهِنَّ فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ
تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] فاستحلفها رسولُ الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لم يُخرجها إلا الرغبة فى الإسلامِ، وأنها لم
تخرج لحدث أحدثته فى قومها، ولا بغضاً لزوجها، فحلفت، فأعطى رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوجَها مهرَها، ولم يردها عليه. فهذا حكمه الموافق
لحكم الله، ولم يجىء شىء ينسخه البتة، ومن زعم أنه منسوخ، فليس بيده إلا الدعوى
المجردة، وقد تقدم بيان ذلك فى قصة الحُديبية.
وقال تعالى:{ وإمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَومٍ خِيَانةً فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ إنَّ اللهَ لا يُحبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَحُلَّنَّ عَقْداً، ولاَ يُشُدَّنَّهُ حَتَّى يَمْضِىَ أَمَدُهُ، أَوْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاء". قال الترمذى: حديث حسن صحيح. ولما أسرت قريشٌ حذيفة بن اليمان وأباه أطلقوهما، وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم معَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا خارجَيْن إلى بدر، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انْصَرِفا، نَفَىِ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، ونَستَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ". |
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الأمان الصادر من الرجال
والنساء
ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُم وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ". وثبت عنه أن أجارَ رجلينَ أجارتْهُما أم هانىء ابنة عمه ؛ وثبت عنه أنه أجار أبا العاص بن الربيع لما أجارته ابنتُه زينب، ثم قال: "يُجيرُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ". وفى حديث آخر: "يُجِيرُ على المُسْلِمِينَ أَدْنَاهُم وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقصَاهُمْ". فهذه أربع قضايا كلية ؛ أحَدها: تكافؤ دمائهم، وهو يمنع قتل مسلمهم بكافرهم. |
والثانية: أنه يَسعى بذمتهم أدناهم، وهو يُوجب قبول أمان المرأة والعبد.
وقال ابن الماجشون. لا يجوز الأمان إلا لوالى الجيش، أو والى السرية. قال ابنُ شعبان: وهذا خلافُ النَّاس كُلِّهم. والثالثة: أن المسلمين يد على من سواهم، وهذا يمنعُ مثن تولية الكفار شيئاً من الولايات، فإن للوالى يداً على المولَّى عليه. والرابعة: أنه يرد عليهم أقصاهم، وهذا يُوجب أن السَّرِيَّة إذا غنمت غنيمة بقوة جيش الإسلام كانت لهم، وللقاصى من الجيش إذ بقوته غنموها، وأن ما صار فى بيت المال من الفىء كان لقاصيهم ودانيهم، وإن كان سبب أخذه دانيهم، فهذه الأحكام وغيرها مستفادة من كلماته الأربعة صلوات الله وسلامه عليه. فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الجزية ومقدارها وممن تقبل قد تقدم أنَّ أول ما بعث الله عز وجل به نبيَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدعوة إليه بغير قتال ولا جزية، فأقام على ذلك بِضْعَ عشرة سنة بمكة. ثم أذِنَ له فى القتال لما هاجر من غير فرض له، ثم أمره بقتال من قاتله، والكفِّ عمن لم يقاتله، ثم لما نزلت "براءة" سنة ثمان أمره بقتال جميع من لم يُسلم من العرب: مَن قالته، أو كفَّ عن قتاله إلا من عاهده، ولم يَنْقُصْهُ من عهده شيئاً، فأمره أن يفىَ له بعهده، ولم يأمره بأخذ الجزية من المشركين، وحارب اليهود مراراً، ولم يُؤمر بأخذ الجزية منهم. |
ثمَّ أمره بقتال أهل الكتاب كلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، فامتثل أمر ربه،
فقاتلهم، فأسلم بعضهم، وأعطى بعضُهم الجزية، واستمرَّ بعضُهم على محاربته،
فأخذها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن أهل نجران وأيلة، وهم من نصارى
العرب، ومن أهل دُومَة الجندل وأكثرُهم عرب، وأخذها مِن المجوس ومن أهل الكتاب
باليمن، وكانوا يهوداً.
ولم يأخذها من مشركى العرب، فقال أحمد، والشافعى: لا تؤخذ إلا من الطوائف الثلاث التى أخذها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم، وهم: اليهود، والنصارى، والمجوس. ومن عداهم فلا يُقبل منهم إلا الإسلامُ أو القتل. وقالت طائفة: فى الأمم كلها إذا بذلوا الجزية، قُبِلَتْ منهم: أهل الكتابين بالقرآن، والمجوس بالسنة، ومن عداهم ملحَقٌ بهم لأن المجوس أهل شرك لا كتاب لهم، فأخذُها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين، وإنما لم يأخذها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عبدة الأوثان من العرب لأنهم أسلموا كلهم قبل نزول آية الجزية، فإنها نزلت بعدَ تبوك، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد فرغ من قتال العرب، واستوثقت كُلُّها له بالإسلام، ولهذا يأخذها مِن اليهود الذين حاربوه، لأنها لم تكن نزلت بعد، فلما نزلت، أخذها من نصارى العرب، ومن المجوس، ولو بقى حينئذ أحدٌ من عبدة الأوثان بذلها لقبلها منه، كما قبلها من عبدة الصلبان والنيران، ولا فرق ولا تأثير لتغليظِ كفر بعض الطوائف على بعض، ثم إن كفر عبدةِ الأوثان ليس أغلظ مِن كفر المجوس، وأىُّ فرق بين عبدة الأوثان والنيران، بل كفرُ المجوس أغلظ، وعبادُ الأوثان كانوا يُقرون بتوحيد الربوبية، وأنه لا خالق إلا الله، وأنهم إنما يعبدون آلهتهم لِتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يكونوا يُقِرُّون بصانعَيْنِ للعالم، أحدهما: خالق للخير، والآخر للشر، كما تقوله المجوس، ولم يكونوا يستحلون نكاح الأمهات والبنات والأخوات، |
وكانوا على بقايا من دين إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه.
وأما المجوس، فلم يكونوا على كتاب أصلاً، ولا دانوا بدين أحد من الأنبياء لا فى عقائدهم ولا فى شرائِعهم، والأثر الذى فيه أنه كان لهم كتاب فَرُفعَ، ورُفِعَت شريعتُهم لما وقع مَلِكُهم على ابنته لا يَصِحُّ البتة، ولو صحَّ لم يكونوا بذلك من أهل الكتاب، فإن كتابَهم رُفِعَ، وشريعتهم بطلت، فلم يبقوا على شىء منها. ومعلوم أن العربَ كانوا على دين إبراهيم عليه السلام، وكان له صحف وشريعة، وليس تغييرُ عبدة الأوثان لدينِ إبراهيم عليه السلام وشريعته بأعظم من تغيير المجوس لدين نبيهم وكتابهم لو صحَّ، فإنه لا يُعرف عنهم التمسك بشىء من شرائع الأنبياء عليهم الصلوات والسلام، بخلاف العرب، فكيف يجعل المجوس الذين دينُهم أقبحُ الأديان أحسنَ حالاً من مشركى العرب، وهذا القول أصحُّ فى الدليل كما ترى. وفرقت طائفة ثالثة بين العرب وغيرهم، فقالوا: تُؤخذ مِن كل كافر إلا مشركى العرب.ورابعة: فرقت بين قريش وغيرهم، وهذا لا معنى له، فإن قريشاً لم يبق فيهم كافر يحتاج إلى قتاله وأخذ الجزية منه البتة، وقد كتب النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهل هَجَر، إلى المنذر بن ساوى، وإلى ملوك الطوائف يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، ولم يفرق بين عربى وغيره. أما حُكمُه فى قدرها، فإنه بعث معاذاً إلى اليمن، وأمره أن يأخذ مِن كُلِّ حالم ديناراً أو قِيمته مَعَافِر، وهى ثياب معروفة باليمن. ثم |
زاد فيها عمر رضى الله عنه، فجعلها أربعةً دنانير على أهل الذهب، وأربعينَ
درهماً على أهل الوَرِقِ فى كل سنة، فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ علم ضعفَ أهل اليمن، وعمرُ رضى الله عنه علم غِنى أهل الشام وقوتهم.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الهدنة وما ينقضها ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه صالح أهلَ مكة على وضع الحرب بينه وبينهم عشرَ سنين، ودخل حلفاؤهم من بنى بكر معهم، وحلفاؤه من خزاعة معه، فَعَدَتْ حلفاءُ قريش على حلفائه. فغدروا بهم، فرضيت قريش ولم تُنكره، فجعلهم بذلك ناقضين للعهد، واستباح غزوهم مِن غير نبذ عهدهم إليهم، لأنهم صاروا محاربين له، ناقضين لعهده برضاهم وإقرارهم لحلفائهم على الغدر بحلفائه، وألحق رِدأهم فى ذلك بمباشرهم. وثبت عنه أنه صالح اليهود، وعاهدهم لما قَدِمَ المدينة، فغدروا به، ونقضوا عهده مراراً، وكل ذلك يُحاربهم ويظفر بهم، وآخرُ ما صالح يهود خيبر على أن الأرض له، ويُقرهم فيها عمالاً له ما شاء، وكان هذا الحكمُ منه فيهم حجةً على جواز صلح الإمام لعدوه ما شاء مِن المدة، فيكون |
العقدُ جائزاً، له فسخه متى شاب، وهذا هو الصواب، وهو موجب حكم رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذى لا ناسخَ له.
فصل وكان فى صلحه لأهل مكة أن من أحبَّ أن يدخل فى عهد محمد وعقده دخل، ومن أحب أن يدخل فى عهد قريش وعقدهم دخل، وأن من جاءهم من عنده لا يردُّونه إليه، ومن جاءه منهم رده إليهم، وأنه يدخل العام القابل إلى مكة، فيخلونها له ثلاثاً، ولا يدخلها إلا بِجُلُبَّانِ السلاح، وقد تقدم ذِكرُ هذه القصة وفقهها فى موضعه. |
ذكر أقضيته وأحكامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى النكاح وتوابِعه
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الثَّيِّبِ والبِكر يُزوِّجُهما أبوهما ثبت عنه فى "الصحيحين": أن خنساء بنت خِدَام زوَّجَها أبوها وهى كارِهةٌ، وكانت ثيباً، فأَتَتْ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فردّ نِكاحَهَا.وفى السنن: من حديث ابن عباس: أن جاريةً بكراً أتت النَّبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكرت لَهُ أنَّ أباها زوّجها وَهِىَ كَارِهَةٌ، فخيرها النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذه غير خنساء، فهما قضيتان قضى فى إحداهما بتخيير الثِّيب، وقضى فى الأخرى بتخيير البكر. وثبت عنه فى "الصحيح" أنه قال: " لا تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، |
قالوا: يا رسولَ الله: وكيف إذنُها؟ قال: "أَنْ تَسْكُتَ".
وفى صحيح مسلم: "البِكْرُ تُستأذن فى نَفْسِهَا، وإذْنُهَا صُمَاتُها". وموجب هذا الحكم أنه لا تُجبر البِكرُ البالغُ على النكاح، ولا تُزوج إلا برضاها، وهذا قولُ جمهور السلف، ومذهبُ أبى حينفة وأحمد فى إحدى الروايات عنه، وهو القولُ الذى ندين الله به، ولا نعتقِدُ سواه، وهو الموافِقُ لحكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمرِه ونهيه، وقواعد شريعته، ومصالح أمته. أما موافقتُه لِحكمه، فإنه حَكَم بتخيير البِكرِ الكارِهة، وليس روايةُ |
هذا الحديث مرسلةً بعلة فيه، فإنه قد رُوى مسنداً ومرسلاً. فإن قلنا بقول
الفقهاء: إن الاتصال زيادة، ومَنْ وصله مقدَّمٌ على من أرسله، فظاهر وهذا تصرفهم
فى غالب الأحاديث، فما بالُ هذا خرج عن حكم أمثاله، وإن حكمنا بالإرسال، كقول
كثير من المحدثين، فهذا مرسل قوى قد عضدته الآثارُ الصحيحة الصريحة، والقياسُ
وقواعِدُ الشرع كما سنذكره، فيتعين القولُ به.
وأما موافقة هذا القول لأمره، فإنه قال: "والبِكْرُ تُستأذن، وهذا أمر مؤكّد، لأنه ورد بصيغة الخبرِ الدال على تحقُّقِ المخبر به وثبوتِه ولزومِه، والأصل فى أوامره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تكون للوجوب ما لم يَقُمْ إجماع على خلافه. وأما موافقته لنهيه، فلقوله: "لاَ تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأَذَنَ" ، فأمر ونهى، وحكم بالتخيير، وهذا إثبات للحكم بأبلغ الطرق. وأما موافقته لِقواعد شرعِه، فإنَّ البِكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرَّف أبوها فى أقلِّ شىء من مالها إلا برضاها، ولا يُجبرها على إخراج اليسيرِ منه بدون رضاها، فكيف يجوز أن يُرِقَّها، ويُخرِجَ بُضعها منها بغير رضاها إلى من يُريد هو، وهى مِن أكره الناس فيه، وهو مِن أبغض شىء إليها؟ ومع هذا فيُنكِحها إياه قهراً بغير رضاها إلى من يُريده، ويجعلُها أسيرةً عنده، كما قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اتَّقُوا اللهَ فى النِّسَاءِ فَإنَّهُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ" أى: أسرى، ومعلومٌ أن إخراجَ مالها كُلِّه بغير رضاها أسهلُ عليها من تزويجها بمن لا تختارُه بغير رضاها، ولقد أبطلَ مَنْ قال: إنها عينت كُفْئاً تُحبه، وعيَّن أبوها كُفْئاً، فالعبرةُ بتعيينه، ولو كان بغيضاً إليها، |
قبيحَ الخِلقة.
وأما موافقتُه لمصالح الأمة، فلا يخفى مصلحة البنت فى تزويجها بمن تختاره وترضاه، وحصولُ مقاصد النكاح لها به، وحصولُ ضد ذلك بمن تُبغِضُه وتنفِرُ عنه، فلو لم تأت السنة الصريحة بهذا القول، لكان القياسُ الصحيح، وقواعدُ الشريعة لا تقتضى غيره، وبالله التوفيق. فإن قيل: قد حكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفرق بين البكر والثيب، وقال: "ولا تُنكَحُ الأِّيم حتى تُستأمر، ولا تُنكح البِكُر حتى تُستأذن" وقال: "الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِها مِنْ وَلِيِّها، والبِكْرُ يَسْتَأْذَنُها أَبُوها " فجعل الأَيَّمَ أحقَّ بنفسها من وليِّها، فعلم أن ولىَّ البكرِ أحقُّ بها مِن نفسها، وإلا لم يكن لتخصيصِ الأَيِّم بذلك معنى. وأيضاً فإنه فرَّق بينهما فى صفة الإذن، فجعل إذنَ الثَّيِّبِ النطقَ، وإذن البِكرِ الصَّمتَ، وهذا كُلُّه يدل على عدم اعتبار رضاها، وأنها لا حقَّ لها مع أبيها. فالجواب: أنه ليس فى ذلك ما يَدُلُّ على جواز تزويجها بغير رضاها مع بلوغها وعقلها ورُشدها، وأن يزوجها بأبغضِ الخلق إليها إذا كان كُفْئاً، والأحاديث التى احتججتُم بها صريحةٌ فى إبطال هذا القول، وليس معكم أقوى مِن قوله: "الأِّيم أحق بنفسها من وليِّها"، هذا إنما يدلُ بطريق المفهوم، ومُنازِعوكم يُنازعونكم فى كونه حجة، ولو سلم أنه حجة، فلا يجوز تقديمُه على المنطوق الصريح، وهذا أيضاً إنما يدل إذا قلت: إن للمفهوم عموماً، والصواب أنه لا عموم له، إذ دلالتُه ترجعُ |
إلى أن التخصيصَ بالمذكور لا بُدَّ له من فائدة، وهى نفىُ الحكم عما عداه،
ومعلوم أن انقسام ما عداه إلى ثابت الحكم ومنتفيه فائدة، وأن إثبات حكم آخرَ
للمسكوت عنه فائدة وإن لم يكن ضدَّ حكم المنطوق، وأن تفصيله فائدة، كيف وهذا
مفهومٌ مخالفٌ للقياس الصريح، بل قياس الأولى كما تقدم، ويُخالف النصوصَ
المذكورة.
وتأمل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والبكر يستأذنها أبوها" عقيبَ قوله: "الأِّيم أحق بنفسها من وليها"، قطعاً لتوهم هذا القول، وأن البكر تُزوج بغير رضاها ولا إذنها، فلا حق لها فى نفسها البتة، فوصل إحدى الجملتين بالأخرى دفعاً لهذا التوهم. ومن المعلوم أنه لا يلزمُ مِن كون الثيِّب أحق بنفسها من وليها أن لا يكون للِبكر فى نفسها حق البتة. وقد اختلف الفقهاء فى مناط الإجبار على ستة أقوال. أحدُها: أنه يُجبر بالبكارة، وهو قولُ الشَافعى ومالك وأحمد فى رواية. الثانى: أنه يُجبر بالصغر، وهو قولُ أبى حنيفة، وأحمد فى الرواية الثانية. الثالث: أنه يجبر بهما معاً، وهو الروايةُ الثالثة عن أحمد. الرابع: أنه يُجبر بأيِّهما وجد وهو الرواية الرابعة عنه. الخامس: أنه يُجبر بالإيلاد، فُتجبَرُ الثيب البالغ، حكاه القاضى إسماعيل عن الحسن البصرى قال: وهو خلاف الإجماع. قال: وله وجه حسن من الفقه، فيا ليتَ شعرى ما هذا الوجه الأسودُ المظلمُ؟، السادس: أنه يُجبر من يكون فى عياله، ولا يَخفى عليك الراجحُ مِن هذه المذاهب. |
فصل
وقضى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن إذن البكر الصُّمات، وإذن الثيب الكلام، فإن نطقت البكر بالإذن بالكلام فهو آكد، وقال ابنُ حزم: لا يَصِحُّ أن تزوج إلا بالصمات، وهذا هو اللائق بظاهريته. فصل وقضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن اليتيمةَ تُستأمر فى نفسها، ولا يُتمَ بَعْدَ احْتِلامٍ، فدلَّ ذلك على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ، وهذا مذهبُ عائشة رضى الله عنها، وعليه يَدُلُّ القرآن والسنة، وبه قال أحمد وأبو حنيفة وغيرُهما. قال تعالى :{ويَسْتَفتُونَكَ فى النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُم فيهنَّ وَمَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فى الكِتَابِ فى يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتى لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127]. قالت عائشةُ رضى الله عنها: هى اليتيمةُ تكون فى حجر وليها، فيرغبُ فى نكاحها، ولا يُقْسِطُ لها سُنَّةَ صَدَاقِها، فَنُهوا عن نكاحهن إلا أن يُقْسِطُوا لهن سُنَّةَ صداقِهن. وفى السنن الأربعة: عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اليَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ فى نَفْسِهَا فَإنْ صَمَتَتْ |
فَهُوَ إذْنُها وإنْ أَبتْ، فَلاَ جَوَازَ عَلَيْهَا".
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى النكاح بلا ولى فى "السنن" عنه من حديث عائشة رضى الله عنها: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَها بِغَيْر إذْن وَلِّيها فَنِكَاحُها بَاطِلٌ، فَنِكَاحُها باطِلٌ، فَنِكَاحُها بَاطِلُ، فَإن أَصَابَها فَلَها مَهْرُهَا بمَا أَصَابَ مِنْها، فَإنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلى مَنْ لاَ وَلِىَّ لَهُ " قال الترمذى حديث حسن. وفى السنن الأربعة: عنه: " لاَ نِكَاحَ إِلاَّبِوَلى". |
وفيها عنه: "لاَ تُزوِّجُ المَرْأَةُ المرأةَ، ولا تُزَوِّجُ
المَرْأَةُ نَفْسَها، فَإن الزَّانِيَةَ هِىَ الَّتى تَزُوِّجُ نَفْسَهَا
".
فصل وحكم أن المرأة إذا زوجها الوليان، فهى للأول منهما، وأن الرجل إذا باع للرجلين، فالبيعُ للأول منهما. فصل: فى قضائه فى نكاح التفويض ثبت عنه أنه قضى فى رجل تزوَّج امرأة، ولم يَفْرِضْ لها صداقاً، ولم يدخل بها حتَّى ماتَ أن لها مَهْرَ مِثْلِهَا، لا وَكْسَ ولا شَطَطَ، ولها الميراثُ، وعليها العِدةُّ أربعة أشهر وعشراً. |
وفى سنن أبى داود عنه: أنه قال لرجل: "أَتَرْضى أَنْ أُزَوِّجَكَ
فلانَة"؟ قال: نعم، وقال للمرأة: "أَتَرْضَيْنَ أَنْ أَزَوَّجَكِ
فُلاَناً"؟ قالت: نعم، فزوَّج أحدهما صاحبه، فدخل بها الرجلُ، ولم يَفْرِضْ
لها صَداقاً، ولم يُعطِها شيئاً، فلما كان عند موته عوَّضَها مِن صداقها سهماً
له بخيبر.
وقد تضمَّنت هذه الأحكام جوازَ النكاح مِن غير تسمية صداق، وجوازَ الدخول قبل التسمية، واستقرارَ مهر المثل بالموت، وإن لم يدخُلْ بها، ووجوبَ عِدة الوفاةِ بالموت، وإن لم يدخُلْ بها الزوج، وبهذا أخذ ابنُ مسعود وفقهاءُ العِراق. وعلماءُ الحديث، منهم: أحمد، والشافعى فى أحد قوليه.وقال على بن أبى طالب، وزيد بن ثابت رضى الله عنهما: لا صداقَ لها، وبه أخذَ أهلُ المدينة، ومالك، والشافعى فى قوله الآخر. |
وتضمَّنت جواز تولِّى الرجل طَرَفى العقد، كوكيل مِن الطرفين، أو ولى فيهما،
أول ولى وكَّلَه الزوجُ، أو زوجٍ وكَّلَه الولى، ويكفى أن يقول: زوجتُ فلاناً
فلانة مقتصراً على ذلك، أو تزوجت فلانة إذا كان هو الزوج، وهذا ظاهر مذهب أحمد،
وعنه رواية ثانية: لا يجوز ذلك إلا للولى المجبر، كمن زوَّج أمته أو ابنته
المجبرة بعبده المجبر، ووجه هذه الرواية أنه لا يُعتبر رضى واحد من الطرفين.
وفى مذهبه قول ثالث: أنه يجوز ذلك إلا للزوج خاصة، فإنه لا يصِحُّ منه تولى الطرفين لتضاد أحكامِ الطرفين فيه. فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن تزوج امرأةً فوجدها فى الحَبَلِ فى "السنن" "والمصنَّف": عن سعيد بن المسيب، عن بصرة بن أكثم، قال: تزوجت امرأة بكراً فى سترها، فدخلتُ عليها، فإذا هى حُبلى، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "لَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَالوَلَدُ عَبْدُ لَكَ، وإذا وَلَدَتْ فَاجْلِدوُهَا" ، وفرَّق بينَهما. |
وقد تضمَّن هذا الحكم بطلانَ نِكاح الحامل مِن زنى، وهو قولُ أهل المدينة،
والامام أحمد، وجمهور الفقهاء، ووجوبُ المهر المسمى فى النكاح الفاسد، وهذا هو
الصحيح من الأقوال الثلاثة. والثانى: يجب مهر المثل، وهو قول الشافعى رحمه الله.
والثالث: يجبُ أقلُّ الأمرين.
وتضمنت وجوبَ الحد بالحَبَل وإن لم تقُمْ بينة ولا اعتراف، والحبل من أقوى البينات، وهذا مذهبُ عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وأهل المدينة، وأحمد فى إحدى الروايتين عنه. وأما حكمه بكون الولد عبداً للزوج، فقد قيل: إنه لما كان ولد زنى لا أب له، وقد غرَّته من نفسها، وغَرِمَ صداقها أخدمه ولدها، وجعله له بمنزلة العبد لا أنه أرقَّه، فإنه انعقد حراً تبعاً لحرية أمه، وهذا محتمل، ويحتمِلُ أن يكون أرقَّه عقوبة لأمه على زناها وتغريرها للزوج، ويكون هذا خاصاً بالنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبذلك الولد لا يتعدَّى الحكم إلى غيره، ويحتمِلُ أن يكون هذا منسوخاً. وقد قيل: إنه كان فى أول الإسلام يُسترق الحر فى الدَّين، وعليه حمل بيعُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسُرَّقٍ فى دَينه. والله أعلم. |
فصل: فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الشُّروط فى النِّكاح
فى "الصحيحين": عنه: "إنَّ أحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا ما اسْتَحْلَلْتُم بِهِ الفُرُوجَ". وفيهما عنه: "لا تَسْأَلِ المَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتها لِتَسْتَفْرغَ صَحْفَتَها ولِتَنْكِحَ، فإنَّما لَهَا ما قُدِّرَ لها".وفيهما: أنه نهى أن تَشْترِطَ المرأةُ طلاقَ أختها. وفى مسند أحمد: عنه: "لا يَحِلُّ أَنْ تُنْكَحَ امْرَأَةُ بِطَلاقِ أُخْرى". فتضمن هذا الحكمُ وجوبَ الوفاء بالشروط التى شُرِطَتْ فى العقد إذا لم تتضمَّن تَغييراً لحكم الله ورسوله. وقد اتُّفق على وجوب الوفاء بتعجيل المهر أو تأجيله والضمين والرهن به، ونحو ذلك، وعلى عدم الوفاء باشتراط ترك الوطء، والإنفاق، الخلو عن المهر، ونحو ذلك. واختُلِفَ فى شرط الإقامة فى بلد الزوجة، وشرط دار الزوجة،ر |
وأن لا يتسَّرى عليها، ولا يتزوجَ عليها، فأوجب أحمدُ وغيرُه الوفاء به،
ومتى لم يَفِ به فلها الفسخ عند أحمد.
واختُلِف فى اشتراط البكارة والنسب، والجمال والسَّلامة من العيوب التى لا يُفسخ بها النكاحُ، وهل يؤثِّرُ عدمها فى فسخه؟ على ثلاثة أقوال. ثالثها: الفسخ عند عدم النسب خاصة. وتضمن حكمُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطلانَ اشتراط المرأة طلاقَ أختها، وأنه لا يجب الوفاءُ به. فإن قيل: فما الفرق بين هذا وبين اشتراطها أن لا يتزوج عليها حتى صححتم هذا وأبطلتم شرط الضرة؟ قيل: الفرقُ بينهما أن فى اشتراط طلاقِ الزوجة من الإضرار بِها، وكسرِ قلبها، وخرابِ بيتها، وشماتةِ أعدائها ما ليس فى اشتراط عدمِ نكاحها، ونكاحِ غيرها، وقد فرق النصُّ بينهما، فقياس أحدهما على الآخر فاسد. فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى نِكاح الشّغارِ والمُحلِّل، والمُتعَةِ ونِكاحِ المُحرِم، ونِكاح الزانيةِ أما الشِّغار: فصحَّ النهى عنه مِن حديث ابن عمر، وأبى هُريرة، ومعاوية. وفى صحيح مسلم: عن ابن عمر مرفوعاً "لا شِغَارَ فى الإسْلاَمِ". وفى حديث ابن عمر: والشِّغار: أن يُزوِّجَ الرجلُ ابنتَه على أنَ يُزوِّجَه |
الآخرُ ابنتَه وليس بينهما صداق.
وفى حديث أبى هُريرة: والشِّغارُ: أن يقولَ الرجُلُ للِرجل: زوجنى ابنتَك وأُزوِّجك ابنتى، أو زوَّجنى أختك وأزوجُك أختى. وفى حديث معاوية: أنَّ العباسَ بنَ عبد الله بن عباس أنكحَ عبدَ الرحمن ابنَ الحكم ابنَته، وأنكحه عبدُ الرحمن ابنتَه، وكانا جعلا صَدَاقاً، فكتب معاويةُ رضى الله عنه إلى مروان يأمُره بالتفريقِ بينهما، وقال: هذا الشِّغَارُ الذى نهى عنه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فاختلف الفقهاء فى ذلك، فقال الإمام أحمد: الشِّغار الباطل أن يزوِّجه وليته على أن يزوِّجه الآخر وليته، ولا مهر بينهما على حديثِ ابن عمر، فَإن سمَّوا مع ذلك مهراً، صحَّ العقدُ بالمسمَّى عنده، وقَال الخرقى: لا يَصِحُّ ولو سمَّوا مهراً على حديث معاوية. وقال أبو البركات ابن تيمية وغيرُه مِن أصحاب أحمد: إن سمَّوْا مهراً وقالوا: مع ذلك: بُضع كل واحدة مهر الأخرة لم يَصِحَّ، وإن لم يقولوا ذلك، صح. واختُلِفَ فى علة النهى، فقيل: هى جعلُ كل واحدٍ من العقدين شرطاً فى الآخر وقيل: العلة التشريكُ فى البُضع، وجعلُ بُضع كلِّ واحدة مهراً للأخرى، وهى لا تنتفِعُ به، فلم يرجع إليها المهر، بل عاد المهرُ إلى الولى، وهو مُلكه لبُضع زوجته بتمليكه لبُضع مُولِّيته، وهذا |
ظلم لكل واحدة مِنَ المرأتين، وإخلاءٌ لنكاحهما عن مهر تنتفع به، وهذا هو
الموافق للغة العرب، فإنهم يقوْلون: بلد شاغر مِن أمير، ودار شاغرة مِن أهلها:
إذا خلت، وشغر الكلبُ: إذا رفع رجله، وأخلى مكانَها. فإذا سمَّوا مهراً مع ذلك
زال المحذور، ولم يبق إلا اشتراطُ كلِّ واحد على الآخر شرطاً لا يُؤثر فى فساد
العقد، فهذا منصوص أحمد.
وأما من فرق، فقال: إن قالوا مع التسمية: إن بُضع كُل واحدة مهرٌ للأخرى، فسد، لأنها لم يرجعْ إليها مهرُها، وصار بُضعها لغير المستحق، وإن لم يقولوا ذلك، صحَّ، والذى يجىء على أصله أنهم متى عقدُوا على ذلك وإن لم يقولوه بألسنتهم أنه لا يصح، لأن القصود فى العقود معتبرة، والمشروط عرفاً كالمشروط لفظاً، فيبطل العقدُ بشرط ذلك، والتواطؤ عليه ونيته، فإن سمَّى لِكل واحدة مهرَ مثلها، صح، وبهذا تظهر حكمةُ النهى واتفاقُ الأحاديث فى هذا الباب. فصل وأما نكاح المُحَلِّل، ففى "المسند" والترمذى من حديث ابن مسعود رضىَ الله عنه قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُحَلِّلَ وَالمُحَلَّلَ له". قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح. وفى "المسند": من حديث أبى هريرة رضى الله عنه مرفوعاً "لَعَنَ |
الله المُحَلَّلَ لَهُ". وإسناده حسن.
وفيه: عن على رضى الله عنه، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله. وفى سنن ابن ماجه: مِن حديث عُقبة بن عامر رضى الله عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلاَ أُخْبِرُكُم بالتَّيْسِ المُسْتَعَارِ"؟ قالُوا: بلى يا رَسُولَ اللهِ. قال: "هُوَ المتُحَللُ لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ والمَحَلَّلَ لَهُ". فهؤلاء الأربعةُ مِن سادات الصحابة رضى الله عنهم، وقد شهِدُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلعنه أصحابَ التحليل، وهم: المُحَلِّلُ والمُحَلَّلُ لَه وهذا خبرٌ عن الله فهو خبرُ صِدق، وإما دُعاء فهو دُعاء مستجاب قطعاً، وهذا يُفيد أنه مِن الكبائر الملعون فاعِلُها، ولا فرقَ عند أهل المدينة وأهلِ الحديث وفُقهائهم بين اشتراط ذلك بالقول أو بالتواطؤ، والقصدِ، فإن القُصود فى العُقود عندهم معتبرة، والأعمالُ بالنيَّات، والشرطُ المتواطَأُ عليه دخل عليه المتعاقدان كالملفوظِ عندهم، والألفاظُ لا تُراد لعينها، بل لِلدلالَة على المعانى، فإذا ظهرت المعانى والمقاصدُ، فلا عِبْرَة بالألفاظ، لأنها وسائل، وقد تحقَّقت غاياتُها، فترتَّبَتْ عليها أحكامُها. |
فصل
وأما نِكاحُ المُتعة، فثبت عنه أنه أحلَّها عامَ الفتح، وثبت عنه أنَّه نهى عنها عَامَ الفتح واختُلِفَ هل نهى عنها يومَ خيبر؟ على قولين، والصحيح: أن النهى إنما كان عامَ الفتح، وأن النهى يومَ خيبر إنما كان عن الحُمُرِ الأهلية، وإنما قال على لابن عباس: إنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى يومَ خيبرَ عن مُتعة النساء، ونهى عن الحمر الأهلية محتجاً عليه فى المسألتين، فظنَّ بعضُ الرواة أن التقييدَ بيوم خيبر راجع إلى الفَصْلَين، فرواه بالمعنى، ثم أفرد بعضُهم أحدَ الفصلين وقيَّده بيومِ خيبر، وقد تقدَّم بيانُ المسألة فى غزاة الفتح. وظاهِرُ كلامِ ابن مسعود إباحتُها، فإن فى "الصحيحين": عنه: كنا نغزو مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس معنا نِساء، فقلنا: يا رسول الله، ألا نَسْتَخْصِى؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخَّصَ لنا بعدُ أن نَنْكِحَ المرأة بالثَّوْب إلى أجَل، ثم قرأ عبدُ الله: {يَا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أحَلَّ اللهُ لَكُم وَلاَ تَعْتَدُوا إنَّ الله لاَ يُحبُّ المُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] ولكن فى "الصحيحين": عن على رضى الله عنه، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرَّم مُتْعَةَ النِّسَاءِ. |
وهذا التحريمُ: إنما كان بعد الإباحة، وإلا لزم منه النسخُ مرتين ولم يحتج
به على علي بن عباس رضى الله عنهم، ولكن النظر: هل هو تحريمُ بَتَاتٍ، أو تحريمُ
مِثْلُ تحريمِ الميتة والدم وتحريم نكاح الأمة فيُباح عند الضرورة وخوفِ العنت؟
هذا هو الذى لحظه بنُ عباس، وأفتى بِحِلِّها للضرورة، فلما توسَّع الناسُ فيها، ولم
يقتصِرُوا على موضع الضرورة، أمسك عن فُتياه، ورجع عنها.
فصل وأما نكاحُ المُحْرِمِ، فثبت عنه فى "صحيح مسلم" من رواية عثمان بن عفان رضى الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يَنْكِحُ المُحْرِمُ وَلاَ يُنْكَحُ". واختُلِفَ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هل تزوَّج ميمونةَ حلالاً أو حراماً؟ فقال ابنُ عباس: تزوَّجها مُحْرِمَاً، وقال أبو رافع: تزوَّجها حلالاً، وكنتُ الرسولَ بينهما. وقولُ أبى رافع أرجح لعدة أوجه. أحدها: أنه إذ ذاك كان رجلاً بالغاً، وابنُ عباس لم يكن حينئذ ممن بلغ الحُلم، بل كان له نحو العشر سنين، فأبو رافع إذ ذاك كان أحفظَ منه. |
الثانى: أنه كان الرسولَ بين رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وبينها، وعلى يده دارَ الحديثُ، فهو أعلم به مِنه بلا شك، وقد أشار بنفسه إلى
هذا إشارةَ متحقِّق له، ومتيقِّن، لم ينقله عن غيره، بل باشره بنفسه.
الثالث: أن ابن عباس لم يكن معه فى تلك العُمرة، فإنها كانت عُمرةَ القضية، وكان ابنُ عباس إذ ذاك من المستضعفين الذين عَذَرَهُمُ اللهُ مِن الوِلدان، وإنما سمع القِصَّة مِن غير حضور منه لها. الرابع: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دخل مكة، بدأ بالطواف بالبيت، ثم سعى بينَ الصفا والمروة، وحلق، ثم حَلَّ. ومن المعلوم: أنه لم يتزوج بها فى طريقه، ولا بدأ بالتزويج بها قبلَ الطواف بالبيت، ولا تزوَّج فى حال طوافه، هذا من المعلوم أنه لم يقع، فصحَّ قولُ أبى رافع يقيناً. الخامس: أن الصحابة رضى عنهم غَلَّطُوا ابنَ عباس، ولم يُغلِّطُوا أبا رافع. السادس: أن قولَ أبى رافع موافِقٌ لنهى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نِكاح المُحْرِمِ، وقول ابن عباس يُخالفه، وهو مستلزِم لأحد أمرين، إما لنسخه، وإما لتخصيص النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجواز النِّكاحِ محرماً، وكلا الأمرين مخالِف للأصل ليس عليه دليل، فلا يُقبل. السابع: أن ابنَ أختها يزيد بن الأصم شهد أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوَّجها حلالاً قال وكانت خالتى وخالة ابنِ عباس. ذكره مسلم. |
فصل
وأما نكاحُ الزانية، فقد صرَّح الله سبحانه وتعالى بتحريمه فى سُورة النور، وأخبر أن مَنْ نكحها، فهو إما زانٍ أو مشرك، فإنه إما أن يلتزِمَ حُكمَه سبحانه ويعتقد وجوبه عليه، أولا، فإن لم يلتزِمْه ولم يعتقده، فهو مشرك. وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه، فهو زانٍ، ثم صرَّح بتحريمه فقال: {وحُرِّمَ ذَلِكَ عَلىَ المؤْمِنينَ} [النور: 3]. ولا يخفى أن دعوى نسخ الآية بقوله :{وَأَنْكِحُوا الأَيَامى مِنْكُم} [النور:32] ، مِن أضعفِ ما يُقال، وأضعف منه حملُ النكاح على الزنى إذ يصير معنى الآية: الزانى لا يزنى إلا بزانية أو مشركة، والزانية لا يزنى بها إلا زانٍ أو مشرك، وكلام الله ينبغى أن يُصان عن مثل هذا. وكذلك حملُ الآية على امرأة بغى مشركة فى غاية البعد عن لفظها وسياقها، كيف وهو سبحانه إنما أباح نكاحَ الحرائر والإماءِ بشرط الإحصان، وهو العِفَّة، فقال: {فانْكِحُوهُنَّ بإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدانٍ} [النساء: 25]، فإنما أبح نكاحَها فى هذه الحالة دُون غيرها، وليس هذا من باب دلالة المفهوم، فإن الأبضاع فى الأصل على التحريم، فيُقتصرُ فى إباحتها على ما ورد به الشرعُ، وما عداه، فعلى أصل التحريم. وأيضاً، فإنه سبحانه قال: { الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثينَ والخَبِيثُونَ للْخَبِيثَاتِ} [النور: 26] والخَبِيثَاتُ: الزوانى. وهذا يقتضى أن من تزوَّج بهن، فهو خبيثٌ مثلهن. وأيضاً. فمن أقبح القبائح أن يكون الرجلُ زوجَ بغى، وقُبْحُ هذا |
مستقر فى فطر الخلق، وهو عندهم غاية المسبَّة.
وأيضاً: فإن البَغِىَّ لا يُؤمَن أن تُفْسِدَ على الرجل فِرَاشه، وتعلِّق عليه أولاداً مِن غيره، والتحريم يثبت بدونْ هذا. وأيضاً: فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرق بين الرجل وبين المرأة التى وجدها حُبلى من الزنى. وأيضاً فإن مرثد بن أبى مرثد الغنوى استأذن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتزوج عَنَاق وكانت بغيَّاً، فقرأ عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آية النور وقال: " لا تَنْكِحْهَا". فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن أسلم على أكثر مِن أربع نِسوة أو على أختين فى الترمذى عن ابن عمر رضى الله عنهما: أن غَيلان أسلم وتحتَه عَشْرُ نِسوةٍ، فقال له النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اختر مِنْهُنَّ أَرْبَعاً". وفى طريق أخرى: "وفَارِقْ سَائِرهُنَّ" |
وأسلم فيروز الدَّيلمى وتحته أختان، فقال له النبىُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اخْتَرْ أَيَّتَهُما شِئتَ". فتضمن هذا الحكم
صِحةَ نكاح الكفار، وأنه له أن يختار مَنْ شاء مِن السوابق واللواحق لأنه جعل
الخِيرة إليه، وهذا قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: إن تزوجهن فى عقد واحد، فسد
نكاحُ الجميع، وإن تزوجهن مترتباتٍ، ثبت نكاح الأربع، وفسد نكاح من بعدهن ولا
تخيير.
|
فصل
وحكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن العبد "إذا تزوَّج بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيه، فهو عَاهِرٌ". قال الترمذى: حديث حسن. فصل واستأذنه بنو هشام بن المُغيرة أن يُزوِّجوا علىَ بنَ أبى طالب رضى الله عنه ابنةَ أبى جهل، فلم يأذن فى ذلك، وقال: "إلاَّ أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أبى طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتى ويَنْكِحَ ابْنَتَهُم، فإنَّمَا فَاطِمَة بَضْعَةٌ مِنِّى يَرِيبُنى ما رَابَها، ويُؤْذِينى ما آذاهَا، إنِّى أَخَافُ أَنْ تُفْتَنَ فَاطِمَةُ فى دِينِها، وإنى لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلاَلاً، ولاَ أُحِلُّ حَراماً، ولكِنْ واللهِ لا تَجْتَمِع بِنْتُ رَسُولِ الله وبِنْتُ عدوِّ الله فى مَكانٍ وَاحِدٍ أَبداً" وفى لفظ فذكر صِهراً له فأثنى عليه، وقال: حَدَّثَنى فَصَدَقَنى، وَوَعَدَنى فوفى لى. فتضمَّن هذا الحكمُ أموراً. أحدُها: أن الرجل إذا شرط لزوجته أن لا يتزوج عليها، لزمه الوفاءُ بالشرط، ومتى تزوَّج عليها، فلها الفسخ، ووجه تضمن الحديث لذلك أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أن ذلك يُؤذى فاطمة ويَريبها، وأنه يؤذيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويريبه، |
ومعلوم قطعاً أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما زوجه فاطمة رضى
الله عنها على أن لا يُؤذيها ولا يَريبها، ولا يؤذى أباها صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يَريبه، وإن لم يكن هذا مشترطاً فى صُلب العقد، فإنه مِن
المعلوم بالضرورة أنه إنما دخل عليه، وفى ذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صِهره الآخر، وثناءَه عليه بأنه حدَّثه فصدقه، ووعده فوفى له تعريضٌ
بعلى رضى الله عنه، وتهييجٌ له على الاقتداء به، وهذا يُشعر بأنه جرى منه وعد له
بأنه يَريبها ولا يُؤذيها، فهيَّجه على الوفاء له، كما وفى له صهرُه الآخر.
فيُؤخذ مِن هذا أن المشروطَ عُرفاً كالمشروطِ لفظاً، وأن عدمَه يُملِّك الفسخ لمشترطه، فلو فُرِضَ من عادة قوم أنهم لا يُخرجون نساءهم من ديارهم ولا يُمكنو أزواجَهم من ذلك البتة، واستمرت عادتُهم بذلك كان كالمشروط لفظاً، وهو مطَّرد على قواعد أهل المدينة، وقواعِد أحمد رحمه الله: أن الشرط العرفى كاللفظى سواء، ولهذا أوجبوا الأجرةَ على من دفع ثوبه إلى غسَّال أو قصار، أو عجينَه إلى خباز، أو طعامَه إلى طباخ يعملُون بالأجرة، أو دخل الحمامَ، أو استخدم من يغسله ممن عادته يغسِل بالأجرة ونحو ذلك، ولم يشرط لهم أجرة أنه يلزمه أجرة المثل. وعلى هذا، فلو فُرِضَ أن المرأة من بيت لا يتزوجُ الرجلُ على نسائهم ضرةً، ولا يُمكنونه مِن ذلك، وعادتهم مستمرة بذلك، كان كالمشروط لفظاً. وكذلك لو كانت ممن يعلم أنها لا تُمكِّن إدخالَ الضرةِ عليها عادةً لشرفها وحسبها وجَلالتها كان تركُ التزوُّج عليها كالمشروط لفظاً سواء. وعلى هذا فسيِّدةُ نساء العالمين، وابنةُ سيد ولد آدمَ أجمعين أحقُّ النساء بهذا، فلو شرطه على فى صُلب العقد كان تأكيدا لا تأسيساً. |
فى منع على من الجمع بين فاطمة رضى الله عنها، وبين بنتِ أبى جهل حِكمةٌ
بديعة، وهى أن المرأةَ مع زوجها فى درجته تبعٌ له، فإن كانت فى نفسها ذاتَ درجة
عالية، وزوجُها كذلك، كانت فى درجة عالية بنفسها وبزوجها، وهذا شأنُ فاطمة وعلى
رضى الله عنهما، ولم يكن اللهُ عز وجل لِيجعل ابنةَ أبى جهل مع فاطمة رضى الله
عنها فى درجة واحدة لا بنفسها ولا تبعاً وبينَهما من الفرق ما بينهما، فلم يكن
نكاحُها على سيدة نساء العالمين مستحسناً لا شرعاً ولا قدراً، وقد أشار صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هذا بقوله: "والله لا تَجْتَمِعُ بِنتُ
رَسُولِ اللهِ وبنت عَدُوِّ الله فى مَكَانٍ وَاحِدٍ أَبداً"، فهذا إما أن
يتناولَ درجة الآخر بلفظه أو إشارته.
فصل: فيما حَكَم اللهُ سبحانه بتحريمه مِن النساء على لسان نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرَّم الأمهاتِ، وهن كل من بينك وبينه إيلاد مِن جهة الأمومة أو الأبوة، كأُمهاته، وأمهاتِ آبائه وأجدادِه من جهة الرجال والنساء وإن علون. وحرَّم البناتِ وهُنَّ كُلُّ من انتسب إليه بإيلاد، كبناتِ صُلبه وبناتِ بناته، وأبنائِهن وإن سَفُلْنَ. وحرَّم الأخواتِ مِن كل جهة، وحرَّم العَّماتِ وهُنَّ أخواتُ آبائه وإن عَلَوْنَ مِن كل جهة. وأما عمةُ العمِّ فإن كان العمُّ لأبٍ، فهى عمة أبيه، وإن كان لأم، فعمتُه أجنبية منه، فلا تدخُل فى العمات، وأما الأم، فهى داخلة |
فى عماته، كما دخلت عمةُ أبيه فى عماته.
وحرَّم الخالاتِ وهُنَّ أخواتُ أمهاتِه وأمهات آبائه وإن عَلَوْنَ. وأما خالةُ العمة، فإن كانت العمةُ لأب فخالتُها أجنبية، وإن كانت لأم فخالتها حرامٌ، لأنها خالة، وأما عمةُ الخالة، فإن كانت الخالةُ لأم، فعمتُها أجنبية، وإن كانت لأبٍ، فعمتها حرام، لأنها عمة الأم. وحرَّم بناتِ الأخ، وبناتِ الأخت، فيعُمُّ الأخَ والأخت مِن كل جهة وبناتهما وإن نزلت درجتُهن. وحرَّم الأمَّ مِن الرضاعة، فيدخُل فيه أمهاتُها مِن قبل الآباء والأمهاتِ وإن علون وإذا صارت المرضعةُ أمَّه، صار صاحب اللبن وهو الزوجُ أو السيد إن كانت جارية أباه، وآباؤه أجداده، فنبَّه بالمرضعة صاحبة اللبن التى هى مُودع فيها للأب، على كونه أبَاً بطريق الأولى، لأن اللبن له، وبوطئه ثابَ، ولهذا حكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحريم لبن الفحل، فثبت بالنص وإيمائه انتشارُ حرمة الرضاع إلى أم المرتضع وأبيه مِن الرضاعة، وأنه قد صار ابناً لهما، وصارا أبوينِ له، فلزم من ذلك أن يكون إخوتهما وأخواتُهما خالات له وعماتٍ، وأبناؤهما وبناتُهما إخوة له وأخوات، فنبه بقوله :{وأَخَوَاتُكُم مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] على انتشار حرمة الرضاع إلى إخوتهما وأخواتهما، كما انتشرت منهما إلى أولادهما فكما صاروا إخوةً وأخوت للمرتضع، فأخوالهُما وخالاتُهما أخوالٌ وخالاتٌ له، وأعمامٌ وعمات له: الأول بطريق النص، والآخر بتنبيهه، كما أن الانتشار إلى الأم بطريق النص، وإلى الأب بطريق تنبيهه. وهذه طريقة عجيبة مطَّردة فى القرآن لا يقعُ عليها إلا كُلُّ غائص على معانيه، ووجوهِ دلالاته، ومن هنا قضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه "يَحْرُمُ مِنَ |
الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" ولكن الدلالة دلالتان:
خفيَّةٌ وجليَّةٌ، فجمعهما للأمة، ليتم البيانُ ويزول الالتباسُ، ويقع على
الدلالة الجلية الظاهرة مَنْ قَصُرَ فهمُه عن الخفية.
وحَرَّم أمهاتِ النساء، فدخل فى ذلك أمُّ المرأة وإن علت مِن نسب أو رضاع، دخل بالمرأة أو لم يدخل بها، لصدق الاسم على هؤلاء كلِّهن. وحرَّم الربائِبَ اللاتى فى حُجور الأزواج وهُنَّ بناتُ نسائهم المدخول بهن، فتناول بذلك بناتِهن، وبناتِ بناتهن، وبنات أبنائهن، فإنهنّ داخلاتٌ فى اسم الربائب، وقيد التحريم بقيدين، أحدُهما: كونُهن فى حجور الأزواج والثانى: الدخولُ بأمهاتهن. فإذا لم يُوجد الدخول لم يثبت التحريم، وسواء حصلت الفرقةُ بموت أو طلاق، هذا مقتضى النص. وذهب زيد بن ثابت، ومَن وافقه، وأحمد فى رواية عنه: إلى أن موتَ الأم فى تحريم الربيبة كالدخول بها، لأنه يُكمل الصداق، ويُوجب العدة والتوارث، فصار كالدخول، والجمهور أبَوْا ذلك، وقالوا: الميتة غير مدخول بها، فلا تحرم ابنتها، والله تعالى قيَّد التحريم بالدخول، وصرح بنفيه عند عدم الدخول. وأما كونها فى حَجره، فلما كان الغالبُ ذلك ذكره لا تقييداً للتحريم به، بل هو بمنزلة قوله: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم خَشْيَةَ إمْلاَق} [الإسراء: 31] ولما كان مِن شأن بنت المرأة أن تكون عند أمِّها، فهى فى حجر الزوج وقوعاً وجوازاً، فكأنه قال: اللاتى من شأنهن أن يكُنَّ فى حُجوركم، |
ففى ذكر هذا فائدة شريفة، وهى جوازُ جعلها فى حَجره، وأنه لا يجب عليه
إبعادُها عنه، وتجنب مؤاكلتها، والسفر، والخلوة بها، فأفاد هذا الوصفُ عدمَ
الامتناع مِن ذلك.
ولما خفى هذا على بعض أهلِ الظاهر، شرط فى تحريم الربيبة أن تكون فى حَجر الزوج، وقيَّد تحريمها بالدخول بأمها، وأطلق تحريمَ أمِّ المرأة ولم يُقيده بالدخول، فقال جمهورُ العلماء من الصحابة ومن بعدهم: إن الأم تحرم بمجرد العقد على البنت دخل بها أو لم يدخل، ولا تحرم البنتُ إلا بالدخول بالأم، وقالوا: أبهِمُوا ما أبهمَ الله. وذهبت طائفة إلى أن قوله: {اللاَّتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وصف لنسائكم الأولى والثانية، وأنه لا تحرم الأم إلا بالدخول بالبنت، وهذا يردُّه نظمُ الكلام، وحيلولة المعطوف بين الصفة والموصوف، وامتناعُ جعل الصفة للمضاف إليه دون المضاف إلا عند البيان، فإذا قلت: مررت بغلام زيد العاقلِ، فهو صفة للغلام لا لزيد إلا عند زوال اللبس، كقولك: مررت بغلام هند الكاتِبة، ويردُّه أيضاً جعله صفة واحدة لموصوفين مختلفى الحكم والتعلُّق والعامل، وهذا لا يُعرف فى اللغة التى نزل بها القرآنُ. وأيضاً فإن الموصوف الذى يلى الصفَة أولى بها لجواره، والجارُ أحق بصَقَبه ما لم تدعُ ضرورةٌ إلى نقلها عنه، أو تخطِّيها إياه إلى الأبعد. فإن قيل: فمن أين أدخلتم ربيبَته التى هى بنتُ جاريته التى دخل بها، وليست مِن نسائه؟. قلنا: السرية قد تدخل فى جملة نسائه، كما دخلت فى قوله :{نِسَاؤُكُم حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُم أَنَّى شِئْتُم}[البقرة: 223] ، ودخلت فى قوله: |
{أُحِلَّ لَكُم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسَائِكُم} [البقرة: 187]
،ودخلت فى قوله: { وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِنَ النِّسَاءِ}
[النساء: 22].
فإن قيل: فليزمُكم على هذا إدخالها فى قوله: {وأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] فتحرم عليه أمُّ جاريته؟ قلنا: نعم وكذلك نقول: إذا وطىء أمته، حَرُمَتْ عليه أمُّها وابنتها. فإن قيل: فأنتم قد قررتم أنه لا يُشترط الدخولُ بالبنت فى تحريم أمِّها فكيف تشترطونه هاهنا؟ قلنا: لتصير من نسائه، فإن الزوجة صارت من نسائه بمجرد العقد، وأما المملوكة، فلا تصيرُ مِن نسائه حتى يطأها، فإذا وطئها، صارت من نسائه، فحرمت عليه أمُّها وابنتُها. فإن قيل: فكيف أدخلتم السُّرِّيَّةَ فى نسائه فى آية التحريم، ولم تُدخلوها فى نسائه فى آية الظهار والإيلاء؟ قيل: السياقُ والواقع يأبى ذلك، فإن الظهار كان عندهم طلاقاً، وإنما محلُّه الأزواج لا الإماء، فنقله الله سبحانه من الطلاق إلى التحريم الذى تُزيله الكفَّارة، ونقل حُكمَه وأبقى محله، وأما الإيلاء، فصريح فى أن محله الزوجات، لقوله تعالى: { لِلَّذين يُؤْلُون مِنْ نِسَائِهمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُو فَإِنَّ الله غَفُورُ رَحِيمُ * وإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226-227]. وحرَّم سبحانه حلائل الأبناء، وهن موطوآتُ الأبناء بنكاح أو ملك يمين، فإنها حليلة بمعنى محلَّلة، ويدخل فى ذلك ابنُ صلبه، وابن ابنه، وابن ابنته، ويخرج بذلك ابن التَّبَنِّى، وهذا التقييدُ قُصِدَ به إخراجُه. |
وأما حليلةُ ابنه من الرضاع، فإن الأئمة الأربعة ومَنْ قال بقولهم يدخلونها
فى قوله :{وحَلاَئِلُ أَبْنائِكُم} [النساء: 23] ولا يخرجونها بقوله: {الَّذِينَ
مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} [النساء: 23] ويحتجون بقول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاع مَا تُحَرِّمُونَ مِنَ
النَّسَبِ"، قالوا: وهذه الحليلة تحرم إذا كانت لابن النسب، فتحرم إذا كانت
لابن الرضاع. قالوا: والتقييد لإخراج ابن التبنِّى لا غير، وحرموا من الرضاع
بالصهر نظيرَ ما يَحْرُمُ بالنسب. ونازعهم فى ذلك آخرون، وقالوا: لا تحرُم
حليلةُ ابنه مِن الرضاعة، لأنه ليس مِن صُلبه، والتقييد كما يُخرج حليلة ابن
التبنِّى يُخرج حليلةَ ابن الرضاع سواء، ولا فرق بينهما. قالوا: وأما قولُه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا
يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" فهو من أكبر أدلتنا وعمدتنا فى المسألة، فإن
تحريمَ حلائلِ الآباء والأبناء إنما هو بالصِّهر لا بالنَسب، والنبىُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قصر تحريمَ الرضاع على نظيره مِن النسب لا على
شقيقه من الصهر، فيجبُ الاقتصارُ بالتحريم على مورد النص.
قالوا: والتحريمُ بالرضاع فرع على تحريم النسب، لا على تحريم المصاهرة، فتحريمُ المصاهرة أصلٌ قائم بذاته، والله سبحانه لم ينُصَّ فى كتابه على تحريم الرضاع إلا من جهة النسب، ولم ينبه على التحريم به مِن جهة الصهر ألبتة، لا بنص ولا إيماءٍ ولا إشارة، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أن يُحرم به ما يحرُم من النسب، وفى ذلك إرشاد وإشارة إلى أنه لا يحرم به ما يحرم بالصهرِ، ولولا أنه أراد الاقتصار على ذلك لقال: "حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاعِ ما يحرم من النَّسَبِ والصِّهر" |
قالوا: وأيضاً فالرَّضاع مشبَّه بالنسب، ولهذا أخذ منه بعض أحكامه وهو
الحرمةُ والمحرمية فقط دون التوارث، والإنفاق وسائر أحكام النسب، فهو نسبٌ ضعيف،
فأخذ بحسب ضعفه بعضَ أحكام النسب، ولم يقوى على سائر أحكام النسب، وهو ألصق به
من المصاهرة، فكيف يقوى على أخذ أحكام المصاهرة مع قصوره عن أحكام مشبهه
وشقيقه؟.
وأما المصاهرة والرضاع، فإنه لا نسبَ بينهما ولا شبهة نسب، ولا بعضية، ولا اتصال. قالوا: ولو كان تحريمُ الصهرية ثابتاً لبينه الله ورسوله بياناً شافياً يُقيم الحجة ويقطع العذر، فَمِنَ الله البيانُ، وعلى رسولِه البلاغُ، وعلينا التسليمُ والانقياد، فهذا منتهى النظر فى هذه المسألة، فمن ظفِر فيها بحجة، فليرشد إليها وليدل عليها، فإنا لها منقادون، وبها معتصِمون، والله الموفق للصواب. فصل وحرَّم سبحانه وتعالى نكاح من نكحهُنَّ الآباء، وهذا يتناولُ منكوحاتِهم بملك اليمين أو عقد نكاح، ويتناول آباء الآباء، وآباء الأمهات وإن عَلَوْن، والاستثناء بقوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]، من مضمون جملة النهى وهو التحريم المستلزم للتأثيم والعقوبة، فاستثنى منه ما سلف قبل إقامة الحجة بالرسول والكتاب. فصل وحرَّم سبحانه الجمعَ بين الأختينِ، وهذا يتناولُ الجمعَ بينهما فى عقدِ |
النكاح، وملكِ اليمين، كسائر محرَّمات الآية، وهذا قولُ جمهور الصحابة ومَن
بعدهم، وهو الصوابُ، وتوقفت طائفةٌ فى تحريمه بملك اليمين لمعارضة هذا العموم
بعموم قوله سبحانه :{والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على
أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}
[المؤمنون: 5-6] ولهذا قال أميرُ المؤمنين عثمان بن عفانَ رضى الله عنه:
أحلَّتهما آية، وحرَّمتهما آية.
وقال الإمام أحمد فى رواية عنه: لا أقول: هو حرام، ولكن ننهى عنه، فمن أصحابه من جعل القولَ بإباحته رواية عنه. والصحيح: أنه لم يبُحه، ولكن تأدَّب مع الصحابة أن يُطلِق لفظ الحرامِ على أمرٍ توقَّفَ فيه عثمانُ، بل قال: ننهى عنه. والذين جزموا بتحريمه، رجَّحوا آيةَ التحريم من وجوه. أحدها: أن سائرَ ما ذُكِرَ فيها من المحرَّمات عام فى النكاح وملك اليمين، فما بالُ هذا وحدَه حتى يخرُجَ منها، فإن كانت آيةُ الإباحة مقتضية لِحلِّ الجمع بالملك، فلتكن مقتضية لِحل أمِّ موطوءته بالملك، ولموطوءة أبيه وابنه بالملك، إذ لا فرق بينهما ألبتة، ولا يُعلم بهذا قائل. الثانى: أن آيةَ الإباحة بملك اليمين مخصوصةٌ قطعاً بصورٍ عديدة لا يختلِفُ فيها اثنان، كأمه وابنته، وأختِه وعمتِه وخالتِه من الرضاعة، بل كأخِته وخالته مِن النسب عند من لا يرى عتقهن بالملك، كمالك والشافعى، ولم يكن عموم قوله : {أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} [النساء: 3] ومعارضاً لعموم تحريمهن بالعقد والملك، فهذا حُكْمُ الأختين سواء. الثالث: أن حِلَّ الملك ليس فيه أكثرُ من بيان جهة الحل وسببه، ولا تعُّرض فيه لشروط الحِلِّ، ولا لموانعه، وآيةُ التحريم فيها بيانُ موانعِ |
الحِلِّ من النسب والرضاع والصهر وغيره، فلا تعارض بينهما البتة، وإلا كان
كُلُّ موضع ذكر فيه شرطُ الحل وموانعه معارضاً لمقتضى الحل، وهذا باطل قطعاً، بل
هو بيان لما سكت عنه دليلُ الحِل من الشروط والموانع.
الرابع: أنه لو جاز الجمعُ بين الأختين المملوكتين فى الوطء، جاز الجمعُ بين الأم وابنتها المملوكتين، فإن نص التحريم شامِلٌ للصورتين شمولاً واحداً، وأن إباحة المملوكات إن عمت الأختين، عمَّت الأم وابنتها. الخامس: أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، فَلاَ يجْمعْ مَاءَهُ فى رَحِمِ أُخْتَيْنِ " ولا ريب أن جمع الماء كما يكون بعقد النكاح يكون بملك اليمين، والإيمان يمنَع منه. فصل "وقضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحريم الجمعِ بينَ المرأة وعمتها، والمرأةِ وخالتها" وهذا التحريمُ مأخوذ من تحريم الجمع بينَ الأختين، لكن |
بطريق خفىِّ، وما حرَّمه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلُ
ما حرَّمه الله، ولكن هو مستنبط مِن دلالة الكتاب.
وكان الصحابةُ رضى الله عنهم أحرصَ شىء على استنباط أحاديثِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من القُرآن، ومَن ألزم نفسَه ذلك، وقرعَ بابه، ووجَّه قلبه إليه، واعتنى به بفطرةٍ سليمة، وقلب ذكى، رأى السنة كُلَّها تفصيلاً للقرآن، وتبييناً لدلالته، وبياناً لمراد اللهِ منه، وهذا أعلى مراتب العلم، فمن ظفر به، فليحمد الله، ومن فاته، فلا يلومَنَّ إلا نفسه وهِمتَّه وعَجْزَه.واستُفِيدَ من تحريم الجمع بين الأختين وبينَ المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، أن كل امرأتين بينهما قرابة لو كان أحدُهما ذَكَراً، حَرُمَ على الآخر، فإنه يحرُم الجمعُ بينهما، ولا يُستثنى من هذا صورةُ واحدة، فإن لم يكن بينهما قرابةُ، لم يحرم الجمع بينهما. وهل يكره؟ على قولين، وهذا كالجمع بين امرأةِ رجل وابنتِه من غيرها. واستُفِيدَ مِن عموم تحريمه سبحانه المحرَّماتِ المذكورة: أنَّ كل امرأة حَرُمَ نكاحُها حَرُمَ وطؤها بملك اليمين إلا إماءَ أهلِ الكتاب، فإن نكاحَهُنَّ حرام عند الأكثرين، ووطؤهن بملك اليمين جائز، وسوَّى أبو حنيفة بينهما، فأباح نكاحهن كما يُباح وطؤهن بالملك. والجمهور: احتجوا عليه بأن الله سُبْحَانه وتعالى إنما أباح نِكاح الإماء بوصف الإيمان. فقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُم طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمُ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ واللهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِكُم} [النساء: 25] وقالَ تعالى: {ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] خصَّ ذلك بحرائرِ أهل الكتاب، بقى الإماءُ على قضية التحريم، وقد فهم عمر رضى الله عنه وغيرُه من الصحابة |
إدخال الكتابيات فى هذه الآية، فقال: لا أعلم شِركاً أعظَم من أن نقول: إن
المسيح إلهها.
وأيضاً فالأصلُ فى الإبضاعِ الحرمة، وإنما أبيح نِكاحُ الإماءِ المؤمناتِ، فَمَن عداهُنَّ على أصل التحريم، وليس تحريمُهنَّ مستفاداً مِن المفهوم. واستُفِيدَ مِن سياق الآية ومدلولِها أن كُلَّ امرأةٍ حرمت، حرمت ابنتها إلا العمة والخالة، وحليلةَ الابن، وحليلَةَ الأب، وأمَّ الزوجة، وأن كُلَّ الأقارب حرام إلا الأربعة المذكوراتِ فى سورة الأحزاب، وهن بناتُ الأعمام والعمات، وبناتُ الأخوال والخالات. فصل ومما حرَّمه النص، نِكاحُ المزوَّجاتِ، وهُنَّ المحصَناتُ، واستثنى من ذلك ملكَ اليمين، فأشكل هذا الاستثناء على كثير من الناس، فإن الأمَةَ المزوَّجَةَ يحرُم وطؤُها على مالكها، فأين محلُّ الاستثناء ؟. فقالت طائفة: هو منقطع، أى لكن ما ملكت أيمانُكم، ورُدَّ هذا لفظاً، ومعنى أما اللفظُ فإن الانقطاعَ إنما يقعُ حيث يقعُ التفريغ، وبابهُ غير الإيجاب مِن النفى والنهى والاستفهام، فليس الموضعُ موضع انقطاع، وأما المعنى: فإن المنقطع لابد فيه من رابط بينه وبين المستثنى منه بحيث يخرج ما تُوهِّمَ دخولُه فيه بوجهٍ ما، فإنك إذا قلت: ما بالدار مِن أحد، دل على انتفاء من بها بدوابّهم وأمتعتهم، فإذا قلت: إلا حماراً، أو إلا الأثافىَّ ونحو ذلك، أزلت توهَّمَ دخولِ المستثنى فى حكم المستثنى منه. وأبْيَنُ من هذا قولُه تعالى :{لا يَسْمَعُونَ فِيَها لَغْواً إلا سلاماً} [مريم: 62] |
فاستثناءُ السلام أزال توهُّمَ نفى السماعِ العام، فإن عدم سماع اللغو يجوزُ
أن يكونَ لعدم سماع كلام ما، وأن يكونَ مع سماع غيره، وليس فى تحريم نكاحِ المزوَّجة
ما يُوهم تحريم وطء الإماء بملك اليمين حتى يُخرجه
وقالت طائفة: بل الاستثناء على بابه، ومتى ملك الرجلُ الأمة المزوَّجة كان ملكه طلاقاً لها، وحلَّ له وطؤها، وهى مسألةُ بيع الأمة: هل يكون طلاقاً لها، أم لا؟ فيه مذهبان للصحابة، فابنُ عباس رضي الله عنه يراه طلاقاً، ويحتج له بالآية، وغيرُه يأبى ذلك، ويقول: كما يُجامع الملك السابق للنكاح اللاحق اتفاقاً ولا يتنافيان، كذلك الملكُ اللاحق لا يُنافى النكاحَ السابقَ، قالوا: وقد خيَّرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ لما بِيعت ولو انفسخ نِكاحُها لم يُخيِّرها. قالوا: وهذا حجة على ابن عباس رضى الله عنه، فإنه هو راوى الحديث، والأخذُ برواية الصحابى لا برأيه. وقالت طائفة ثالثة: إن كان المشترى امرأة، لم ينفسخ النكاح، لأنها لم تمِلكِ الاستمتاع ببُضع الزوجة، وإن كان رجلاً انفسخ، لأنه يملك الاستمتاع َ به، وملكُ اليمين أقوى مِن مُلك النكاح، وهذا الملك يُبطل النكاح دون العكس، قالوا: وعلى هذا فلا إشكال فى حديث بريرة. وأجاب الأولون عن هذا بأن المرأةَ وإن لم تملك الاستمتاع ببُضع أمتها، فهى تمِلكُ المعاوضة عليه، وتزويجَها، وأخذَ مهرها، وذلك |
كملك الرجل، وإن لم تستمتع بالبُضع.
وقالت فرقة أخرى: الآية خاصة بالمسبيَّاتِ، فإن المسبية إذا سُبِيَتْ، حَلَّ وطؤها لِسابيها بعد الاستبراء، وإن كانت مزوجة، وهذا قولُ الشافعى وأحدُ الوجهين لأصحاب أحمد، وهو الصحيح، كما روى مسلم فى "صحيحه" عن أبى سعيد الخُدرى رضى الله عنه، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث جيشاً إلى أوطاس، فلقى عدواً، فقاتلوهم، فظهرُوا عليهم، وأصابُوا سبايا، وكأنَّ ناساً مِن أصحابِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحرَّجُوا مِن غِشيَانِهِنَّ مِنْ أَجْلِ أزواجِهِنَّ مِن المشركين، فأنزل الله عز وجل فى ذلك {وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} [النساء: 24] أى فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهنَّ. فتضمَّن هذا الحكمُ إباحة وطء المسبيَّةِ وإن كان لها زوجٌ من الكفار، وهذا يدل على انفساخِ نكاحه، وزوالِ عصمة بُضع امرأته، وهذا هو الصوابُ، لأنه قد استولى على محلِّ حقه، وعلى رقبة زوجته، وصار سابيها أحقَّ بها منه، فكيف يَحْرُمُ بُضعها عليه، فهذا القولُ لا يُعارِضُه نصٌّ ولا قياس. والذين قالوا من أصحاب أحمد وغيرهم: إن وطأها إنما يُباح إذا سُبِيَتْ وحدَها. قالوا: لأن الزوجَ يكون بقاؤه مجهولاً، والمجهول كالمعدوم، فيجوز وطؤها بعد الاستبراء، فإذا كان الزوجُ معها، لم يجز وطؤُها مع بقائه، فأُوردَ عليهم ما لو سُبِيَتْ وحدَها وتيقنَّا بقاءَ زوجها فى دار الحرب، فإنهم يُجوِّزُون وطأها فأجابُوا بما لا يُجدى شيئاً، وقالوا: الأصل إلحاقُ الفرد بالأعم الأغلب، فيُقال لهم: الأعمُّ الأغلبُ بقاءُ |
أزواج المسبيات إذا سُبين منفرداتٍ، وموتُهم كلُّهم نادر جداً، ثم يُقال:
إذا صارت رقبةُ زوجها وأملاكُه مِلكاً للسابى، وزالَت العصمةُ عن سائر أملاكه
وعن رقبته، فما الموجبُ لِثبوت العصمة فى فرج امرأته خاصة وقد صارت هى وهو
وأملاكُهما للسابى؟
ودلَّ هذا القضاءُ النبوىُّ على جواز وطء الإماء الوثنيات بملك اليمين، فإن سبايا أوطاس لم يكنَّ كتابيات، ولم يشترِطْ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى وطئهن إسلامَهن، ولم يجعل المانع منه إلا الاستبراء فقط، وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجة ممتنع مع أنهم حديثو عهدٍ بالإسلام حتَّى خفىَ عليهم حُكمُ هذه المسألة، وحصولُ الإسلام من جميع السبايا وكانوا عدةَ آلافٍ بحيثُ لم يتخلَّفْ منهم عن الإسلام جاريةٌ واحدة مِما يُعلم أنه فى غاية البُعد، فإنهن لم يُكْرَهْنَ على الإسلام، ولم يكن لهن مِن البصيرة والرغبة والمحبة فى الإسلام ما يقتضى مبادرتُهن إليه جميعاً، فمقتضى السنةِ، وعمل الصحابة فى عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعده جوازُ وطء المملوكات على أىِّ دين كُنَّ، وهذا مذهبُ طاووس وغيره، وقواه صاحبُ "المغنى" فيه، ورجح أدلته وبالله التوفيق. ومما يدلُّ على عدم اشتراط إسلامهن، ما روى الترمذى فى "جامعه" عن عِرباض بن سَارية، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ وَطْء السَّبايا حَتَّى يَضَعْنَ ما فى بُطُونِهِنَّ. فجعل للتحريم غاية واحدة وهى وضعُ الحمل، ولو كان متوقفاً على الإسلام، لكان بيانُه أهمَّ من بيان الاستبراء. وفى "السنن" و"المسند" عنه: "لاَ يَحِلُّ لامْرئ يُؤْمِنُ بِالله واليَوْمِ |
الآخر أَنْ يَقَعَ عَلى امْرَأةِ مِنَ السَّبْى حَتَّى
يَسْتَبْرِئها".ولم يقل: حتى تُسلِمَ، وَلأحمد: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ
بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِر فَلاَ يَنْكِحَنَّ شَيئاً مِنَ السَّبَايَا حَتَّى
تَحِيضَ" ولم يقل: وتسلم.
وفى "السنن" عنه: أنه قال فى سبايا أوطاس: "لا تُوطأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلا غَيْرُ حَامِلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَة وَاحِدَةً". ولم يقل: وتسلم، فلم يجئ عنه اشتراطُ إسلام المسبية فى موضع واحد البتة. فصل: فى حُكمِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الزوجين يُسِلمُ أحدُهما قبل الآخر قال ابنُ عباس رضى الله عنهما: ردَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينَب ابنَته على أبى العاص بْنِ الرَّبيعِ بالنِّكاحِ الأوَّلِ، ولم يُحْدِثْ شيئاً. رواه |
أحمد، وأبو داود، والترمذى. وفى لفظ: بعد ست سنين ولم يُحدِثْ نِكاحاً قال
الترمذى: ليس بإسناده بأس، وفى لفظ: كان إسلامُها قبل إسلامه بستِّ سنين، ولم
يُحِدثْ شهادةً ولا صَداقاً.
وقال ابنُ عباس رضى الله عنهما: "أسلمت امرأةٌ على عهدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتزوَّجت، فجاء زوجُها إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، إنى كنتُ أسلمتُ، وعلمتْ بإسلامى، فانتزعها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن زوجها الآخر، وردَّها على زوجها الأول" رواه أبو داود. وقال أيضا: "إن رجلاً جاء مسلماً على عهد رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم جاءت امرأتُه مسلمة بعدَه، فقال: يا رسولَ الله: إنها أسلمت معى، فردَّها عليه". قال الترمذى: حديث صحيح. وقال مالك إن أم حكيم بنت الحارث بن هشام أسلمت يومَ الفتح بمكة، وهرب زوجها عكرمةُ بن أبى جهل من الإسلام حتى قدمَ اليمن |
فارتحلت أمُّ حكيم حتى قَدِمَتْ عليه باليمن، فدعته إلى الإسلام، فأسلم
فَقَدِمَ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامَ الفتح، فلما
قَدِمَ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وثب إليه فرحاً وما
عليه رِداء حتى بايعه، فثبتا على نكاحهما ذلك، قال: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت
إلى الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزوجُها كافر مقيم بدار
الكفر إلا فرَّقت هجرتُها بينها وبينه إلا أن يَقْدمَ زوجُها مهاجراً قبل أن
تنقضىَ عِدَّتُها، ذكره مالك رحمه الله فى "الموطأ" فتضمَّن هذا
الحكمُ أن الزوجين إذا أسلما معاً فهما على نكاحهما، ولا يُسأل عن كيفية وقوعه
قبل الإسلام، هل وقع صحيحاً أم لا؟ ما لم يكن المبطلُ قائماً، كما إذا أسلما وقد
نكحها وهى فى عِدة مِن غيره، أو تحريماً مجمعاً عليه، أو مؤبَّداً كما إذا كانت
محرماً له بنسب أو رضاع، أو كانت مما لا يجوزُ له الجمعُ بينها وبينَ من معه
كالأختين والخمس وما فوقَهن، فهذه ثلاثُ صور أحكامُها مختلفة.
فإذا أسلما وبينها وبينَه محرميةٌ مِن نَسَبٍ أو رضاع، أو صِهر، أو كانت أختَ الزوجة أو عمَّتها أو خالَتها، أو من يَحرُمُ الجمعُ بينها وبينها، فُرِّقَ بينهما بإجماع الأمة، لكن إن كان التحريمُ لأجل الجمع، خُيِّرَ بينَ إمساك أيَّتهِما شاء، وإن كانت بنته من الزنى، فرِّق بينهما أيضاً عند الجمهور، وإن كان يعتقد ثبوتَ النسب بالزنى فرق بينهما اتفاقاً، وإن أسلم أحدهما وهى فى عدة مِن مسلم متقدِّمة على عقده، فُرِّق بينهما اتفاقاً، وإن كانت العدةُ مِن كافر، فإن اعتبرنا دوامَ المفسد أو الإجماع عليه، لم يُفرَّق بينهما لأن عدة الكافر لا تدومُ، ولا تمنعُ النكاح عند من يُبطِلُ |
أنكحةَ الكفار، ويجعل حكمها حكم الزنى.
وإن أسلم أحدُهما وهى حُبلى من زنى قبلَ العقد، فقولان مبنيان على اعتبار قيامِ المفسد أو كونه مجمعاً عليه. وإن أسلما وقد عقداه بلا ولى، أو بلا شهود، أو فى عِدة وقد انقضت، أو على أخت وقد ماتت، أو على خامسة كذلك، أُقِرَّا عليه، وكذلك إن قهر حربىٌ حربيةً، واعتقداه نكاحاً ثم أسلما، أُقِرَّا عليه. وتضمن أن أحدَ الزوجين إذا أسلَم قبل الآخر، لم ينفسِخِ النكاحُ بإسلامه، فَرَّقت الهجرة بينهما، أو لم تُفرِّق، فإنه لا يُعرف أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جدَّدَ نكاح زوجين سبق أحدهما الآخر بإسلامه قطُّ، ولم يزل الصحابةُ يُسْلِمُ الرجلُ قبل امرأته، وامرأتُه قبله، ولم يُعرف عن أحد منهم البتة أنه تلفَّظ بإسلامه هو وامرأتُه، وتساويا فيه حرفاً بحرف، هذا مما يُعلم أنه لم يقع البتة، وقد ردَّ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنَته زينَب على أبى العاص بن الربيع، وهو إنما أسلم زمنَ الحُديبية، وهى أسلمت من أول البعثة، فبين إسلامهما أكثرُ مِن ثمانى عشرة سنة. وأما قوله فى الحديث: كان بين إسلامها وإسلامِهِ ستُّ سنين، فوهم إنما أراد: بينَ هجرتها وإسلامه. فإن قيل: وعلى ذلك فالعِدةُ تنقضى فى هذه المدة، فكيف لم يُجدِّد نكاحها؟ قيل: تحريمُ المسلمات على المشركين إنما نزل بعد صُلْحِ الحُديبية لا قبلَ ذلك، فلم ينفسِخِ النكاح فى تلك المدة لعدم شرعية هذا الحكم فيها، ولما نزل تحريمهُن على المشركين، أسلم أبو العاص، فَرُدَّت عليه. وأما مراعاة زمن العِدة، فلا دليلَ عليه مِن نص ولا إجماع. وقد ذكر حمادُ بن سلمة، عن قتادة، عن سعيدِ بن المسيِّب، أن على بن أبى طالب |
رضى الله عنه قال فى الزوجين الكافرين يسلِمُ أحدُهما: هو أملكُ ببُضعها ما
دامت فى دار هجرتها.
وذكر سفيانُ بن عيينة، عن مُطرِّف بن طريف، عن الشعبى، عن على: هو أحقُّ بها ما لم يخرج مِن مِصرها. وذكر ابنُ أبى شيبة، عن معتمِر بن سليمان، عن معمر، عن الزُّهرى، إن أسلمت ولم يُسلم زوجُها، فهُمَا على نكاحهما إلا أن يُفرِّقَ بينهما سلطان. ولا يُعرف اعتبارُ العِدة فى شىء من الأحاديث، ولا كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل المرأة هل انقضت عدتُها أم لا، ولا ريبَ أن الإسلام لو كان بمجردهِ فرقة، لم تكن فرقةً رجعية بل بائنة، فلا أثر لِلعدة فى بقاء النكاح، وإنما أثرُها فى منع نكاحها للغير فلو كان الإسلامُ قد نجز الفُرقة بينهما، لم يكن أحقَّ بها فى العِدة، ولكن الذى دلَّ عليه حُكمُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن النكاح موقوف، فإن أسلم قبلَ انقضاء عِدتها، فهى زوجتُه وإن انقضت عدتها، فلها أن تنكِحَ من شاءت، وإن أحبَّت، انتظرته، فإن أسلم، كانَتْ زوجته مِن غير حاجة إلى تجديد نكاح. ولا نعلم أحداً جدَّد للإسلام نكاحَه ألبتة، بل كان الواقعُ أحد أمرين: إما افتراقُهما ونكاحها غيره، وإما بقاؤُها عليه وإن تأخر إسلامُها أو إسلامُه، وإما تنجيزُ الفُرقة أو مراعاة العِدة، فلا نعلم أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بواحدة منهما مع كثرة من أسلم فى عهده من الرجال وأزواجهن، وقرب إسلام أحد الزوجين من الآخر وبعده منه، ولولا إقرارُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزوجين على نكاحهما وإن تأخر إسلامُ أحدهما عن الآخر بعدَ صلح الحديبية وزمن الفتح، لقلنا بتعجيل الفُرقة بالإسلام مِن غير اعتبار عدة، لقوله تعالى: |
{لاَ هُنَّ حِلُّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]
وقوله: {ولاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وأن الإسلام
سَبَبُ الفُرقة، وكل ما كان سبباً للفرقة تعقبه الفرقة، كالرضاع والخلع والطلاق،
وهذا اختيار الخلال، وأبى بكر صاحِبه، وابنِ المنذر، وابنِ حزم، وهو مذهب الحسن،
وطاووس، وعكرمة، وقتادة، والحكم. قال ابن حزم: وهو قولُ عمرَ بن الخطاب رضى الله
عنه، وجابِر ابن عبد الله، وابنِ عباس، وبه قال حمادُ بن زيد، والحكمُ بن
عُتيبة، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز، وعدى بن عدى الكندى، والشعبى،
وغيرهم. قلت: وهو أحدُ الروايتين عن أحمد، ولكن الذى أُنزِلَ عليه قولُه تعالى:
{وَلاَ تُمْسِكُوا بِعصَمِ الكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وقوله: {لاَ هُنَّ حِلٌّ
لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] لم يحكم بتعجيل الفرقة، فروى
مالك فى "موطئه" عن ابن شهاب، قال: كان بين إسلام صفوان بن أمية، وبين
إسلام امرأته بنت الوليد بن المغيرة نحوٌ من شهر، أسلمت يومَ الفتح، وبقى صفوانُ
حتى شهد حُنيناً والطائف وهو كافر، ثم أسلم، ولم يفرِّق النبى صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما، واستقرَّت عنده امرأته بذلك النكاح. وقال ابنُ عبد
البر: وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده.
وقال ابنُ شهاب: أسلمت أُمُّ حكيم يومَ الفتح، وهرب زوجُها عكرمة حتى أتى اليمن، فدعته إلى الإسلام، فأسلم وقدم، فبايعَ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبقيا على نكاحهما. ومن المعلوم يقيناً، أن أبا سفيان بن حرب خرج، فأسلم عام الفتح |
قبل دخولِ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة، ولم تُسلم هند
امرأته حتى فتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة، فبقيا على
نكاحهما، وأسلم حكيمُ بنُ حِزام قبل امرأته، وخرج أبو سفيان بن الحارث، وعبد
الله بن أبى أمية عامَ الفتح، فلقيا النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بالأبواء، فأسلما قبل منكوحتيهما، فبقيا على نكاحهما، ولم يعلم أن رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرَّق بين أحد ممن أسلم وبين امرأته.
وجواب من أجاب بتجديد نكاح من أسلم فى غاية البطلان، ومن القول على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا علم، واتفاقُ الزوجين فى التلفظ بكلمة الإسلام معاً فى لحظة واحدة معلومُ الانتفاء. ويلى هذا القول مذهبُ من يقف الفُرقة على انقضاء العدة مع ما فيه، إذ فيه آثار وإن كانت منقطعة، ولو صحت لم يجزِ القول بغيرها. قال ابن شُبْرُمَةَ: كان الناسُ على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسلم الرجلُ قبل المرأة، والمرأة قبل الرجل، فأيُّهما أسلم قبل انقضاء عِدة المرأة، فهى امرأتُه وإن أسلم بعد العدة، فلا نِكاح بينهما، وقد تقدَّم قولُ الترمذى فى أول الفصل، وما حكاه ابنُ حزم عن عمر رضى الله عنه فما أدرى مِن أين حكاه؟ والمعروف عنه خلافُه، فإنه ثبت عنه من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب وقتادة كلاهما عن ابن سيرين، عن عبد الله بن يزيد الخطمى، أن نصرانياً أسلمت امرأته، فَخيَّرها عمرُ بن الخطاب رضى الله عنه إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت عليه. ومعلوم بالضرورة، أنه إنما خيرها بين انتظاره إلى أن يسلم، فتكون زوجته كما هى أو تُفارقه، وكذلك صحَّ عنه: أن نصرانياً أسلمت امرأته، فقال عمرُ رضي الله عنه: إن أسلم فهىَ امرأتُه، وإن لم يُسلم، فرقَ بينهما، فلم يُسلم، ففرق بينهما. |
وكذلك قال لعُبادة بن النعمان التغلبى وقد أسلمت امرأتُه: إما أن تسلم، وإلا
نزعتها منكَ، فأبى، فنزعها منه.
فهذه الآثار صريحة فى خلاف ما حكاه أبو محمد ابن حزم عنه، وهو حكاها، وجعلها روايات أخر، وإنما تمسَّك أبو محمد بآثار فيها، أن عمر، وابن عباس، وجابراً، فرَّقوا بين الرجلِ وبينَ امرأته بالإسلام، وهى آثار مجملة ليست بصريحة فى تعجيل التفرقة، ولو صحت، فقد صحَّ عن عمر ما حكيناه، وعن على ما تقدم وبالله التوفيق. فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العَزْلِ ثبت فى "الصحيحين": عن أبى سعيد قال: أصبنا سبياً، فكُنَّا نَعْزِلُ، فسألنا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "وإنَّكُمْ لَتَفْعَلُون؟" قالها ثلاثاً. "مَا مِنْ نَسَمة كَائِنَةٍ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ إلا وَهِى كَاَئِنَةٌ". وفى السنن: عنه، أن رجلاً قال: يا رسولَ الله إن لى جاريةً وأنا أَعْزِلُ عنها، وأنا أكره أن تحمِلَ، وأنا أريدُ ما يُريدُ الرجال، وإنَّ اليهودَ تُحدِّثُ أن العزلَ الموؤدةُ الصُّغرى، قال: "كَذَبَتْ يهودُ لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرفَهُ". |
وفى "الصحيحين": عن جابر قال: كنا نَعزِلُ على عهدِ رسولِ الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقُرآنُ يَنْزِلُ.
وفى "صحيح مسلم" عنه: كناَ نَعزِلُ على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبلغ ذلك رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَنْهَنَا. وفى "صحيح مسلم" أيضاً: عنه قال: سألَ رجلٌ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إنَّ عِندى جاريةً، وأنا أعزِلُ عنها، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إنَّ ذلِكَ لاَ يَمْنَعُ شَيْئاً أرَادَهُ اللهُ" ، قال: فجاء الرجلُ فقال: يا رسولَ الله إن الجاريَة التى كُنْتُ ذكرتُها لك حَمَلَتْ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُه". وفى "صحيح مسلم" أيضاً: عن أسامة بن زيد، أن رجلاً جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسولَ الله، إنى أعزِلُ عَنِ امرأتى، فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِمَ تَفْعَلُ ذلِكَ؟ فقال الرجُلُ: أُشْفِقُ عَلَى ولدها، أو قال: على أولادِها، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "لَوْ كَانَ ضَارّاً ضَرَّ فَارِسَ وَالرُّومَ". وفى مسند أحمد، وسنن ابن ماجه، من حديث عُمَرَ بنِ الخطاب رضى الله عنه قال : نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُعزَلَ عَنِ الحُرَّةِ إلا بإذْنِهَا. |
وقال أبو داود: سمعتُ أبا عبد الله ذكر حديث ابن لَهِيعة، عن جعفر ابن ربيعة
عن الزهرى، عن المُحَرَّر بن أبى هريرة، عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُعْزَلُ عَنِ الحُرَّةِ
إلاَّ بإذْنها"، فقال: ما أنكَرَهُ.
فهذه الأحاديثُ صريحةٌ فى جواز العزلِ، وقد رُوِيتِ الرخصةٌ فيه عن عشرة من الصحابة: على، وسعدِ بن أبى وقاص، وأبى أيوب، وزيدِ بن ثابت، وجابرٍ، وابنِ عباس، والحسنِ بن على، وخبَّابِ بن الأرتِّ، وأبى سعيد الخدرى، وابنِ مسعود، رضى الله عنهم. قال ابن حزم: وجاءت الإباحة للعزل صحيحة عن جابر، وابن عباس، وسعدِ بن أبى وقاص، وزيدِ بن ثابت، وابنِ مسعود، رضى الله عنهم، وهذا هو الصحيحُ. وحرَّمه جماعة، منهم أبو محمد ابن حزم وغيرُه. وفرَّقت طائفة بين أن تأذن له الحرَّةُ، فيبُاح، أولا تأذن فيحرُم، وإن كانت زوجته أمةً، أبيحَ بإذن سيدها، ولم يبح بدون إذنه، وهذا منصوصُ أحمد، ومن أصحابه من قال: لايُباح بحال، ومنهم من قال: يُباح بكُلِّ حال. ومنهم من قال: يباح بإذن الزوجة حرةً كانت أو أمة، ولا يُباح بدون إذنها حرة كانت أو أمة. فمن أباحه مطلقاً، احتج بما ذكرنا من الأحاديث، وبأن حقَّ المرأة فى ذوق العسيلة لا فى الإنزال، ومن حرَّمه مطلقاً احتج بما رواه مسلم فى "صحيحه" من حديث عائشة رضى الله عنها، عن جُدَامة بنتِ وهبٍ أختِ عُكَّاشة، قالت: حضرتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أناسٍ، فسألُوه عن العَزْلِ، |
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "ذلِكَ الوَأدُ
الخَفِىُّ "، وهى :{وإِذَا المَوْءُدَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8].
قالوا: وهذا ناسخٌ لأخبار الإباحة، فإنه ناقل عن الأصل، وأحاديثُ الإباحة على وفق البراءة الأصلية، وأحكامُ الشرع ناقلة عن البراءة الأصلية. قالوا: وقولٌ جابر رضي الله عنه: كنا نعِزلُ والقرآنُ ينزِلُ، فلو كان شيئاً ينهى عنه، لنهى عنه القرآن. فيقال: قد نهى عنه مَنْ أُنْزِلَ عليه القرآنُ بقوله: "إنَّه المَوءُدةُ الصُّغرى" والوأد كله حرام. قالوا: وقد فهِم الحسنُ البصرى، النهىَ مِن حديث أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه لما ذُكِرَ العزلُ عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا عَلَيْكُم ألاَّ تَفْعَلُوا ذَاكُمْ، فإما هُوَ القَدَرُ" قال ابنُ عون: فحدَّثتُ به الحسنَ، فقال: والله لكأنَّ هذا زجرٌ. قالوا: ولأن فيه قطعَ النسلِ المطلوبِ مِن النكاح، وسوء العشرة، وقطعَ اللذة عندَ استدعاء الطبيعة لها. قالوا: ولهذا كان ابنُ عمر رضي الله عنه لا يعزِلُ، وقال: لو علمتُ أن أحداً من ولدى يَعْزِلُ، لنكَّلْتُه، وكان علىُّ يكره العزل، ذكره شعبة عن عاصم عن زرٍّ عنه وصح عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال فى العزل: هو الموؤودةُ الصغرى. وصح عن أبى أُمامة أنه سئل عنه فقال: ما كُنْتُ أرى مسلماً يفعلُه. وقال نافع عن ابن عمر: ضرب عمر على العزل بَعْضَ بنيه. وقال يحيى بن سعيد الأنصارى، عن سعيد بن المسيِّب، قال: كان عمرُ وعثمانُ ينهيان عن العزل. |
وليس فى هذا ما يُعارضُ أحاديث الإباحة مع صراحتها وصحتها أما حديثَ جُدَامة
بنت وهب، فإنه وإن كان رواه مسلم، فإن الأحاديث الكثيرةَ على خلافه، وقد قال أبو
داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، أن محمد بن عبد الرحمن بن
ثوبان حدثه، أنَّ رِفاعة حدثه عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه، أن رجلاً قال:
يا رسولَ الله، إن لى جاريةً، وأنا أعزِلُ عنها، وأنا أكره أن تحمِلَ، وأنا
أُريدَ ما يُريد الرجال، وإن اليهودَ تُحدِّث أن العزل الموؤودة الصغرى، قال:
"كَذَبَتْ يهودُ، لَوْ أَرَادَ اللهُ أنْ يَخْلُقَه مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ
تَصْرِفَه" وحسبك بهذا الإسناد صحة، فكُلُّهم ثقات حفاظ، وقد أعلَّه بعضُهم
بأنه مضطرب فإنه اختلف فيه على يحيى بن أبى كثير، فقيل: عنه، عن محمد ابن عبد
الرحمن ابن ثوبان، عن جابر بن عبد الله، ومن هذه الطريق: أخرجه الترمذى
والنسائى. وقيل: فيه عن أبى مُطيع بن رِفاعة، وقيل: عن أبى رفاعة، وقيل: عن أبى
سلمة عن أبى هُريرة، وهذا لا يقدحُ فى الحديث، فإنه قد يكونُ عند يحيى، عن محمد
بن عبد الرحمن، عن جابر، وعنده عن ابن ثوبان عن أبى سلمة عن أبى هريرة، وعنده عن
ابن ثوبان عن رفاعة عن أبى سعيد. ويبقى الاختلافُ فى اسم أبى رفاعة، هل أبو
رافع، أو ابنُ رِفاعة، أو أبُو مطيع؟ وهذا لا يَضُرُّ مع العلم بحال رفاعة.
ولا ريبَ أن أحاديثَ جابر صريحةٌ صحيحة فى جواز العزل، وقد قال الشافعىُّ رحمه الله: ونحن نروى عن عدد من أصحابِ النبى |
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم رخَّصوا فى ذلك، ولم يَرَوْا به
بأساً. قال البيهقى: وقد روينا الرخصةَ فيه، عن سعد بن أبى قاص، وأبى أيوب الأنصارى،
وزيد ابن ثابت، وابن عباس وغيرهم، وهو مذهب مالك، والشافعى، وأهلِ الكوفة،
وجمهورِ أهلِ العلم.
وقد أُجيب عن حديث جُدَامة، بأنه على طريق التنزيه، وضعفته طائفةٌ، وقالوا: كيفَ يَصِحُّ أن يكونَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذَّبَ اليهودَ فى ذلك، ثم يُخبر به كخبرهم؟، هذا من المحال البيِّن، وردَّت عليه طائفةٌ أخرى، وقالوا: حديثُ تكذيبهم فيه اضطراب وحديثُ جُدَامة فى "الصحيح". وجمعت طائفةٌ أخرى بين الحديثين، وقالت: إن اليهودَ كانت تقولُ: إن العزلَ لا يكون معه حمل أصلاً، فكذَّبهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ذلك، ويَدُلُّ عليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَه لَمَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَه"، وقوله: "إنَّهُ الوَأْدُ الخَفِىُّ" ، فإنه وإن لم يمنع الحملَ بالكلية، كتركِ الوطء، فهو مؤثر فى تقليله. وقالت طائفة أخرى: الحديثان صحيحان، ولكن حديث التحريم ناسخ، وهذه طريقة أبى محمد ابن حزم وغيره. قالوا: لأنه ناقل عن الأصل والأحكام كانت قبل التحريم على الإباحة، ودعوى هؤلاء تحتاج إلى تاريخ محقَّق يبيِّن تأخُّر أحدِ الحديثين عن الآخر وأنَّى لهم به، وقد اتفق عُمَرُ وَعلى رضي الله عنهما على أنها لا تكونُ موؤودةً حتى تَمُرَّ عليها التاراتُ السبع، فروى القاضى أبو يعلى وغيرهُ بإسناده، عن عُبيد بن رفاعة، عن أبيه، قال جلس إلى عمر علىٌّ والزبيرُ وسعدٌ رضى الله عنهم فى نفر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتذاكروا العزلَ، فقالوا: لا بأس به، |
فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموؤدةُ الصغرى، فقال على رضى الله عنه: لا
تكون موؤدةً حتى تمرَّ عليها التاراتُ السبع: حتى تكون مِنْ سُلالة من طين، ثم
تكونَ نُطفةً، ثم تكون عَلقةً، ثم تكونَ مضغةً، ثم تكون عظاماً، ثم تكون لحماً،
ثم تكون خلقاً آخر، فقال عمر رضى الله عنه: صدقتَ أطال الله بقاءك. وبهذا احتجَّ
من احتج على جواز الدعاء للرجل بطول البقاء.
وأما من جوَّزه بإذن الحُرَّةِ، فقال: للمرأة حقٌّ فى الولد، كما للرجل حقٌّ فيه، ولهذا كانت أحقَّ بحضانته، قالُوا: ولو يُعتَبَرْ إذنُ السُّرِّيَّةِ فيه لأنها لا حقَّ لها فى القسم، ولهذا لا تُطالبه بالفيئة، ولو كان لها حقٌّ فى الوطء لطُولِب المؤلى منها بالفيئة. قالوا: وأما زوجتُه الرقيقة، فله أن يَعْزِلَ عنها بغير إذنها صيانةً لولده عن الرِّقِّ ولكن يُعتبر إذنُ سيدها، لأن له حقاً فى الولد، فاعتُبِرَ إذنُه فى العزل كالحرة، ولأن بدلَ البُضع يحصل للسيدِ كما يحصل للحرة، فكان إذنه فى العزل كإذن الحرة. قال أحمد رحمه الله فى رواية أبى طالب فى الأمة إذا نكحها: يستأذِنُ أهَلها، يعنى فى العزل، لأنهم يُريدون الولد، والمرأةُ لها حق، تُريد الولد، وملكُ يمينه لا يستأذنها. وقال فى رواية صالح، وابن منصور، وحنبل، وأبى الحارث، والفضل ابن زياد والمروذى: يَعزِلُ عن الحرة بإذنها، والأمةِ بغير إذنها، يعنى أمَته، وقال فى رواية ابن هانىء: إذا عزل عنها، لزمه الولد، قد يكُونُ الولدُ مع العزل. وقد قال بعضُ من قال: ما لى ولد إلا من العزل. وقال فى رواية المروذى: فى العزل عن أم الولد: إن شاء، فإن قالت: لا يَحِلُّ لك؟ ليس لها ذلك. |
فصل: فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الغَيل، وهو وطءُ
المرضِعَة
ثبت عنه فى "صحيح مسلم": أنه قال: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهى عَنِ الغِيْلَةِ حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذلكَ فَلاَ يَضُرُّ أَوْلاَدَهُم" وفى سنن أبى داود عنه، من حديث أسماء بنت يزيد: "لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم سِرّاً فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إنَّه لَيُدْرِك الفَارِسَ فَيُدَعْثِرُهُ". قال: قلت: ما يعنى؟ قلت: الغيلة: يأتى الرجلُ امرأتَه وهى ترضع. قلت: أما الحديثُ الأول، فهو حديثُ جُدَامة بنت وهب، وقد تضمَّن أمرين لِكلٍّ منهما معارض: فصدرُه هو الذى تقدَّم: "لقد هممتُ أن أنهى عن الغِيلة"، وقد عارضه حديث أسماء، وعجزه: ثم سألوه عن العزل، فقال: "ذلك الوأد الخفى" وقد عارضه حديث أبى سعيد: "كذبت يهود"، وقد يُقال: إن قوله: "لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ سِرّاً" نهى أن يتسبب إلى ذلك، فإنه شبَّه الغَيل بقتل الولد، وليس بقتلٍ حقيقة، وإلا كان من الكبائر، وكان قرينَ الإشراك بالله، ولا ريبَ أن وطء المراضع |
مما تَعُمُّ به البلوى، ويتعذَّر على الرجل الصبر عن امرأته مدة الرضاع ولو
كان وطؤُهن حراماً لكان معلوماً من الدين، وكان بيانُه مِن أهمِّ الأمور، ولم
تُهمِلْه الأُمَّةُ، وخيرُ القرون، ولا يُصرِّحُ أحدٌ منهم بتحريمه، فَعُلِمَ أن
حديث أسماء على وجه الإرشاد والاحتياط للولد، وأن لا يُعَرِّضَه لفساد اللبن
بالحمل الطارىء عليه، ولهذا كان عادةُ العرب أن يسترضِعُوا لأولادهم غيرَ
أمهاتهم، والمنع غايُته أن يكون من باب سد الذرائع التى قد تُفضى إلى الإضرار
بالولد، وقاعدةُ باب سد الذرائع إذا عارضه مصلحة راجحة، قُدِّمَتْ عليه، كما
تقدَّم بيانُه مراراً والله أعلم.
فصل فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى قسم الابتداء والدوام بين الزوجات ثبت فى "الصحيحين": عن أنس رضى الله عنه أنه قال: مِنَ السُّنةِ إذا تزوَّج الرَّجُلُ البِكْرَ على الثَّيِّبِ، أَقام عِنْدَهَا سَبْعاً وقَسَمَ، وإذا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثلاثاً، ثم قَسَمَ. قال أبو قلابة: ولو شئتُ، لقُلْتُ: إن أنساً رفعه إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذا الذى قاله أبو قِلابة، قد جاء مصرَّحاً به عن أنس، كما رواه البزار فى "مسنده"، من طريق أيوب السَّختيانى، عن أبى قِلابة، عن أنس رضى الله عنه أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلبِكرِ سبعاً، وللثَّيِّب ثلاثاً. |
وروى الثورى، عن أيوب، وخالد الحذَّاء، كِلاهما عن أبى قِلابة، عن أنس، أن
النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا تَزَوَّجَ
البِكْرَ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعاً، وإِذا تَزَوَّجَ الثَّيِّيبَ، أقَامَ
عِنْدَها ثلاثاً".
وفى صحيح مسلم: عن أمِّ سلمة رضى الله عنها، لما تزوَّجها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدخل عليها، أقامَ عندها ثلاثاً، ثم قال: "إنَّهُ لَيْسَ بِكِ عَلى أَهْلِكِ هَوانٌ، إنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وإنْ سَبَّعْتُ لَكِ، سَبَّعْتُ لِنِسَائى ". وله فى لفظ: "لما أراد أن يخرج، أخَذَتْ بثوبه فقال: "إنْ شِئْتِ زِدْتُكِ وَحَاسَبْتكِ بِهِ، لِلْبِكْرِ سَبْعٌ، وللثَّيُب ثَلاَثٌ". وفى السنن: عن عائشة رضى الله عنها، كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ، ويقول: "اللهُمَّ إِنَّ هذا قَسْمى فِيما أَمِلكُ، فَلاَ تَلُمْنى فيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ "، يعنى القلبَ. وفى "الصحيحين": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أرادَ سفراً، أقرعَ بين نسائه، فأيَّتُهن خرج سهمُها، خَرَجَ بها معه. وفى "الصحيحين": أن سودةَ وهبت يومها لِعائشة رضى الله عنها، وكان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لعائشة يَوْمَها ويَوْمَ سودة. |
وفى السنن: عن عائشة رضى الله عنها، كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا على بَعْضٍ فى القَسْمِ مِن مُكثِه عندنا،
وكان قَلَّ يَوْمٌ إلا وهُوَ يَطُوفُ علينا جميعاً، فيدنو مِنْ كُلِّ امرأة مِنْ
غير مسيس حتى يَبْلُغَ إلى التى هُوَ يَومُها، فَيبِيتُ عِنْدَهَا.
وفى "صحيح مسلم": إنهنَّ كُنَّ يجتمِعْنَ كل ليلة فى بيت التى يأتيها. وفى "الصحيحين": عن عائشة رضىَ الله عنها، فى قوله: {وإنِ امْرَأةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أو إعْراضاً} [النساء:128] أُنْزِلَت في المرأة تكونُ عند الرجل فتطولُ صحبتُها، فُيريد طلاقَها، فتقول: لا تُطلِّقنى وأمسِكنى، وأَنت فى حثلٍّ من النفقة علىَّ والقَسْمِ لى، فذلك قولُه :{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً والصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]. وقضى خليفتُه الراشدُ، وابنُ عمه علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه، أنه إذا تزوَّج الحرَّة على الأمة قسمَ للأمة ليلة، وللحُرَّة ليلتين. وقضاءُ خلفائه وإن لم يكن مساوياً لقضائه، فهو كقضائه فى وجوبه على الأمة، وقد احتجَّ الإمام أحمدُ بهذا القضاءِ عن على رضي الله عنه، وقد ضعَّفه أبو محمد بن حزم بالمنهال بن عمرو، وبابنِ أبى ليلى، ولم يصنع شيئاً، فإنهما ثِقتان حافِظانِ جليلان، ولم يزلِ الناسُ يحتجُّونَ بابن أبى ليلى على شىء ما فى حفظه يُتَّقى منه ما خالف فيه الأثبات، وما تفرَّد به عن الناس، وإلا فهو غيرُ مدفوع عن الأمانة والصدق. |
فتضمَّن هذا القضاءُ أموراً.
منها وجوبُ قسم الابتداء، وهو أنه إذا تزوَّج بكراً على ثيب، أقام عندها سبعاً ثم سوَّى بينهما، وإن كانت ثيِّباً، خيَّرها بين أن يُقيم عندها سبعاً، ثم يقضِيها للبواقى، وبين أن يُقيم عندها ثلاثاً ولا يُحاسبها، هذا قول الجمهور، وخالف فيه إمامُ أهل الرأى، وإمامُ أهل الظاهر، وقالوا: لا حقَّ للجديدة غيرَ ما تستحقه التى عنده، فيجب عليه التسوية بينهما. ومنها. أن الثيِّبَ إذا اختارت السبعَ، قضاهُن للبواقى، واحتسبَ عليها بالثلاث، ولو اختارتِ الثلاثَ، لم يحتسِبْ عليها بها، وعلى هذا من سُومح بثلاث دون ما فوقَها، ففعل أكثرَ منها، دخلت الثلاث فى الذى لم يُسامح به بحيث لو ترتب عليه إثم، أثِمَ على الجميع، وهذا كما رخَّص النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمُهاجِرِ أن يُقيم بعد قضاء نسكه ثلاثاً. فلو أقام أبداً، ذُمَّ على الإقامة كُلِّها. ومنها: أنه لا تجب التسويةُ بينَ النساء فى المحبة، فإنها لا تُمْلَكُ، وكانت عائشةُ رضى الله عنها أحبَّ نسائه إليه. وأُخِذَ من هذا أنه لا تجبُ التسوية بينهن فى الوطء، لأنه موقوف على المحبةِ والميل، وهى بيد مقلِّب القلوب. وفى هذا تفصيل، وهو أنه إن تركه لعدم الداعى إليه، وعدم الانتشار، فهو معذور، وإن تركه مع الداعى إليه، ولكن داعيه إلى الضرة أقوى، فهذا مما يدخُلُ تحت قُدرته وملكه، فإن أدى الواجبَ عليه منه، لم يَبْقَ لها حق، ولم يلزمه التسويةُ، وإن ترك الواجبَ منه، فلها المطالبةُ به. ومنها: إذا أراد السفرَ، لم يجز له أن يُسافِر بإحداهن إلا بقُرعة. ومنها: أنه لا يقضى للبواقى إذا قَدِمَ، فإن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن |
يقضى للبواقى.
وفى هذا ثلاثة مذاهب. أحدها: أنه لا يقضى، سواء أقرَعَ أو لم يُقرع، وبه قال أبو حنيفة، ومالك. والثانى: أنه يقضى للبواقى أقرع أو لم يُقرع، وهذا مذهب أهل الظاهر. والثالث: أنه إن أقرع لم يقض، وإن لم يُقرع قضى، وهذا قولُ أحمد والشافعى. ومنها: أن للمرأةِ أن تَهَبَ ليلتها لِضرتها، فلا يجوزُ له جعلُها لغير الموهبة، وإن وهبتها للزوج، فله جعلُها لمن شاء منهن، والفرقُ بينهما أن الليلةَ حقٌّ للمرأة فإذا أسقطتها، وجعلتها لضرتها، تعينت لها، وإذا جعلتها للزوج، جعلها لمن شاء مِن نسائه، فإذا اتفق أن تكون ليلةُ الواهبة تلى ليلة الموهوبة، قسم لها ليلتين متواليتين، وإن كانت لا تليها فهل له نقلُها إلى مجاورتها، فيجعل الليلتين متجاورتين؟ على قولين للفقهاء، وهما فى مذهب أحمد والشافعى. ومنها: أن الرجلَ له أن يَدْخُلَ على نسائه كُلَّهِنَّ فى يوم إحداهن ولكن لا يطؤها في غير نوبتها. ومنها: أن لِنسائه كُلِّهِنَّ أن يجتمِعن فى بيت صاحبة النوبة يتحدَّثن إلى أن يجىء وقتُ النوم، فتؤوب كُلُّ واحدة إلى منزلها. ومنها: أن الرجل إذا قضَى وطراً من امرأته، وكرهتْها نفسُه، أو عَجَزَ عن حقوقها، فله أن يُطلِّقها، وله أن يُخَيِّرها، إن شاءت أقامت عنده ولا حقَّ لها في القسم والوطء والنفقة، أو فى بعضِ ذلك بحسب ما |
يصطلحان عليه، فإذا رضيت بذلك، لزم، وليس لها المطالبةُ به بعد الرضى.
هذا موجب السنة ومقتضاها، وهو الصوابُ الذى لا يسوغُ غيره، وقولُ من قال: إن حقها يتجدد، فلها الرجوع فى ذلك متى شاءت، فاسد، فإن هذا خرج مخرجَ المعاوضة، وقد سماه الله تعالى صالحاً، فيلزم كما يلزم ما صالح عليه من الحقوق والأموال، ولو مُكِّنَتْ مِن طلب حقِّها بعد ذلك، لكان فيه تأخيرُ الضرر إلى أكمل حالتيه، ولم يكن صلحاً، بل كان مِن أقرب أسباب المعاداة، والشريعةُ منزَّهة عن ذلك، ومن علامات المنافق أنه إذا وعد، أخلف، وإذا عاهد، غدر، القضاء النبوي يردُّ هذا. ومنها: أن الأمة المزوَّجة على النصف من الحرة، كما قضى به أمير المؤمنين على رضى الله عنه، ولا يُعرف له فى الصحابة مخالف، وهو قولُ جمهور الفقهاء إلا رواية عن مالك: أنهما سواء، وبها قال أهل الظاهر، وقولُ الجمهور هو الذى يقتضيه العدلُ، فإن الله سبحانه لم يسو بين الحرة والأمة، لا فى الطلاق، ولا فى العدة، ولا فى الحدِّ، ولا فى الملك، ولا فى الميراث، ولا فى مدة الكونِ عند الزوج ليلاً ونهاراً، ولا فى أصلِ النكاح، بل جعل نكاحها بمنزلة الضرورة، ولا فى عددِ المنكوحات، فإن العبد لا يتزوج أكثر من اثنتين، هذا قولُ الجمهور، وروى الإمام أحمد بإسناده: عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: يتزوَّجُ العبد ثنتين، ويطلق ثنتين، وتعتدُّ امرأتُه حيضتين، واحتج به أحمد. ورواه أبو بكر عبد العزيز، عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: لا يَحِلُّ للعبد من النساء إلا ثنتان. وروى الإمام أحمد بإسناده، عن محمد بن سيرين قال: سأل عمر رضى |
الله عنه الناس: كم يتزوجُ العبد؟ فقال عبد الرحمن: ثنتين وطلاقه ثنتين فهذا
عمر، وعلى، وعبد الرحمن، رضى الله عنهم، ولا يعرف لهم مخالف فى الصحابة مع
انتشار هذا القول وظهوره، وموافقته للقياس.
فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تحريم وطء المرأة الحبلى من غير الوَاطىء ثبت فى "صحيح مسلم": من حديث أبى الدرداء رضىَ الله عنه، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى بامرأةٍ مُجِحِّ على بَابِ فُسْطَاطٍ، فقال: "لَعَلَّهُ يُريدُ أَنْ يُلِمَّ بها". فقالُوا: نَعَمْ، فقالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنًا يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ، كَيْفَ يُوَرِّثُه وهُوَ لا يَحِلُّ لهُ، كَيْفَ يَسْتَخْدِمُه وهُوَ لاَ يَحِلُّ لهُ". قال أبو محمد ابن حزم: لا يَصِحُّ فى تحريم وطءِ الحامِلِ خبرٌ غيرُ هذا. انتهى. وقد روى أهل "السنن" من حديث أبى سعيد رضى الله عنه، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فى سبايا أوطاس: "لا تُوَطأْ حَامِلُ حَتَّى تَضَعَ، ولا غَيْرُ حَامِلٍ حَتَّى تَحيضَ حَيْضَةً". وفى الترمذى وغيره: من حديث رُويفع بن ثابت رضى الله عنه، |
عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "مَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلا يَسْقِ مَاءَه وَلَدَ غَيْرِهِ "
قال الترمذى حديث حسن.
وفيه عن العِرباضِ بن سَارِيَةَ رضى الله عنه، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرَّم وطءَ السبايا حتى يَضَعْنَ ما فى بُطونهن. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كيف يُورِّثه وهو لا يَحلُّ له، كيف يستخدِمُه وهو لا يَحِلُّ له"، كان شيخُنا يقولُ فى معناه: كيف يجعلُه عبداً مَوروثاً عنه، ويستخدِمُه استخدامَ العبيدِ وهو ولدُه، لأن وطأه زاد فى خَلْقِه؟ قال الإمام أحمد: الوطء يزيد فى سمعه وبصره. قال فيمن اشترى جاريةً حاملاً من غيره، فوطئها قبل وضعها، فإن الولد لا يلحَقُ بالمشترى، ولا يتبعُه، لكن يعتِقُه لأنه قد شرك فيه، لأن الماءَ يزيدُ فى الولد، وقد روى عن أبى الدرداء رضى الله عنه، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مرَّ بامرأة مُجِحٍّ على باب فسطاط، فقال: "لعله يُريد أن يُلِمَّ بها" وذكر الحديثَ. يعنى: أنه إن استلحقه وشرِكه فى ميراثه، لم يحل له، لأنه ليس بولده، وإن أخذه مملوكاً يستخدِمُه لم يَحلَّ له لأنه قد شرك فيه لكون الماء يزيدُ فى الولد. وفى هذا دلالة ظاهرةٌ على تحريم نكاح الحامِل، سواء كان حملُها مِن زوج أو سيِّدٍ أو شُبهة أو زنى، وهذا لا خلاف فيه إلا فيما إذا كان الحملُ مِن زنى، ففى صحة العقد قولان، أحدهما: بطلانُه وهو مذهبُ أحمد ومالك، والثانى: صحتُه وهو مذهب أبى حنيفة والشافعى ثم اختلفا، فمنع أبو حنيفة مِن الوطء حتى تنقضىَ العِدَّةُ، وكرهه الشافعى، وقال أصحابُه: لا يحرم. |
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الرجل يعتِقُ أمتَه
ويجعل عِتقها صداقَها
ثبت عنه فى "الصحيح": " أنه أعتق صفيَّةَ وجعل عِتْقَها صَدَاقَها". قيل لأنس: ما أَصْدَقَها؟ قال: أَصْدَقَها نَفْسَها وذهبَ إلى جواز ذلك علىُّ ابن أبى طالب، وفعله أنس بن مالك، وهو مذهبُ أعلم التابعين، وسيِّدهم سعيدِ بن المسيِّب، وأبى سلمة بن عبد الرحمن، والحسنِ البَصرى، والزهري، وأحمد، وإسحاق. وعن أحمد رواية أخرى، أنه لا يَصِحُّ حتى يستأنِفَ نكاحها بإذنها، فإن أبت ذلك، فعليها قيمتُها. وعنه رواية ثالثة: أنه يُوَكِّلُ رجلاً يزوِّجه إياها. والصحيح: هو القول الأول الموافق للسنة، وأقوالِ الصحابة والقياس، فإنه كان يمِلك رقبتها، فأزال ملكه عن رقبتها، وأبقى ملكَ المنفعة بعقد النكاح، فهو أولى بالجواز مما لو أعتقها، واستثنى خِدمتها، وقدم تقدَّم تقريرُ ذلك فى غزاة خيبر. فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى صحة النكاح الموقوفِ على الإجازة فى "السنن": عن ابن عباس رضى الله عنهما، "أن جاريةً بكراً أتت |
النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت أنَّ أباها زوَّجَها وهى
كَارِهَة، فخيَّرها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
وقد نصَّ الإمامُ أحمد على القول بمقتضى هذا، فقال فى رواية صالح فى صغير زوَّجه عمه، قال: إن رضى به فى وقت من الأوقات، جاز، وإن لم يرض فسخ. ونقل عنه ابنه عبد الله، إذا زوجت اليتيمةُ، فإذا بلغت فلها الخيارُ، وكذلك نقل ابنُ منصور عنه حُكى له قولُ سفيانَ فى يتيمة زُوِّجَت ودَخَلَ بها الزوجُ، ثم حاضت عند الزوج بعدُ، قال: تُخيَّرُ، فإن اختارت نفسَها لم يقع التزويجُ، وهى أحقُّ بنفسها، وإن قالت: اخترتُ زوجى؟ فليشهدوا على نكاحهما. قال أحمد: جيد. وقال فى رواية حنبل فى العبد إذا تزوَّج بغير إذن سيده، ثم علم السيدُ بذلك: فإن شاء يُطلِّق عليه، فالطلاقُ بيد السيد، وإذا أذن له فى التزويج، فالطلاقُ بيد العبد، ومعنى قوله: يطلق، أى: يُبْطِلُ العقد، ويمنع تنفيذَه وإجازته، هكذا أوَّله القاضى، وهو خلاف ظاهر النص، وهذا مذهبُ أبى حنيفة ومالك على تفصيل فى مذهبه، والقياسُ يقتضى صحةَ هذا القول، فإن الإذن إذا جاز أن يتقدَّم القبولَ والإيجابَ جاز أن يتراخى عنه. وأيضاً فإنه كما يجوز وقفُه على الفسخ يجوزُ وقفُه على الإجازة كالوصية، ولأن المعتبرَ هو التراضى، وحصولُه فى ثانى الحال كحصولِه فى الأول، ولأن إثباتَ الخيار فى عقد البيع هو وقفٌ للعقد فى الحقيقة على إجازة من له الخيار وردّه، وبالله التوفيق. |
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الكفاءة فى النكاح
قال الله تعالى: { يَأَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم} [الحجرات: 13] وقال تعالى: {إِنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وقال: {والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُم أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وقال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَو أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا فَضْلَ لِعَرَبىٍّ عَلى عَجَمِى، وَلاَ لِعَجَمِىٍّ عَلى عَرَبى، ولا لأَبْيَضَ عَلى أَسْوَدَ ولا لأسود عَلى أبْيَضَ، إِلاَّ بِالتَّقْوَى، النّاسُ مِنْ آدَمَ، وآدَمُ منْ تُرابٍ". وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ آلَ بنِى فُلاَنٍ لَيْسُوا لى بِأَوْليَاءَ، إِنَّ أَوْلِيائى المتَّقُونَ حَيْثُ كَانُوا وأَيْنَ كَانُوا". |
وفى الترمذى: عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا جَاءَكُمْ
مَنْ تَرْضُوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إلاَّ تَفْعَلوه، تَكُنْ
فِتْنَةٌ فى الأَرْضِ وفَسَادٌ كَبِيرٌ". قالوا: يارسولَ الله، وإن كان
فيه؟ فقال: "إذَا جَاءَكُم مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوه
"، ثلاث مرات.
وقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبنى بَيَاضَة : "أَنْكِحُوا أَبا هِنْدٍ، وأَنْكِحُوا إلَيْهِ". وكان حجَّاماً. وزوَّج النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينبَ بنتَ جَحْشٍ القُرشية مِن زيد بن حارثة مولاه، وزوَّج فاطمة بنت قيس الفِهرية القرشية. من أسامة ابنه، وتزوَّج بلالُ ابن رباح بأخت عبد الرحمن بن عوف، وقد قال الله تعالى:{ والطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِين والطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] وقد قال تعالى :{فانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3]. فالذى يقتضيه حُكمُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتبارُ الدِّين فى الكفاءة أصلاً. وكمالاً، فلا تُزوَّجُ مسلمةٌ بكافر، ولا عفيفةٌ بفاجر، ولم يعتبرِ القرآنُ والسنةُ فى الكفاءة أمراً وراءَ ذلك، فإنه حرَّم على المسلمة نكاحَ الزانى الخبيثِ، ولم يعتبر نسباً ولا صِناعة، ولا غِنىً ولا حريَّةً، فجوَّز للعبد القِنَّ نكاحَ الحرَّةِ النسيبة الغنيةِ إذا كان عفيفاً مسلماً، وجوز لغير القرشيين نكاحَ القرشيات، |
ولغير الهاشميين نكاحَ الهاشميات وللفقراءِ نكاحَ الموسرات.
وقد تنازع الفقهاءُ فى أوصاف الكفاءة: فقال مالك فى ظاهر مذهبه: إنها الدِّينُ، وفى رواية عنه: إنها ثلاثة: الدِّين، والحريَّة، والسلامةُ من العيوب. وقال أبو حنيفة: هى النسبُ والدين. وقال أحمد فى رواية عنه: هى الدِّين والنسب خاصة. وفى رواية أخرى: هى خمسة: الدِّين، والنسب، والحرية، والصناعة، والمال. وإذا اعتبر فيها النسب، فعنه فيه روايتان. إحداهما: أن العرب بعضُهم لبعض أكفاء. الثانية: أن قريشاً لا يكافئهم إلا قرشى، وبنو هاشم لا يُكافئهم إلا هاشمى. وقال أصحابُ الشافعى: يُعتبر فيها الدِّينُ، والنسبُ، والحُرية، والصِّناعة، والسلامةُ من العيوب المُنَفِّرَةِ. ولهم فى اليسار ثلاثة أوجه: اعتبارُه فيها، وإلغاؤُه، واعتبارُه فى أهل المدن دون أهلِ البوادى، فالعجمىُّ ليس عندهم كُفْئَاً للعربى، ولا غيرُ القرشى للقرشية، ولا غيرُ الهاشمى للهاشمية، ولا غيرُ المنتسبة إلى العلماء والصلحاء المشهورين كفئاً لمن ليس منتسباً إليهما، ولا العبدُ كُفْئَاً للحرة، ولا العتيق كفئاً لحرة الأصل، ولا من مَسَّ الرِّقُّ أحدَ آبائه كفئاً لمن لم يمسَّها رِق، ولا أحداً من آبائها، وفى تأثير رِق الأمهات وجهان، ولا مَن به عيب مثبت للفسخ كُفْئَاً للسليمة منه، فإن لم يثبت الفسخ وكان منفِّراً كالعمى والقطع، وتشويهِ الخِلقة، فوجهان. واختار الرُّويانى أن صاحبه ليس بكفءٍ، ولا الحجام والحائك والحارس كُفْئَاً لبنت التاجر والخياط ونحوهما، ولا المحترف لبنت العالم، ولا الفاسق كفئاً |
للعفيفة، ولا المبتدعُ للسنية ولكن الكفاءة عند الجمهور هي حق المرأة
والأولياء.
ثم اختلفوا، فقال أصحاب الشافعى: هى لمن له ولاية فى الحال. وقال أحمد فى رواية: حق لجميع الأولياء، قريبهم وبعيدِهم، فمن لم يرض منهم، فله الفسخ وقال أحمد فى رواية ثالثة: إنها حقُّ اللهِ، فلا يَصِحُّ رضاهم بإسقاطه، ولكن على هذه الرواية لا تُعتبر الحريةُ ولا اليسار، ولا الصناعة ولا النسبُ، إنما يُعتبر الدِّينُ فقط، فإنه لم يقل أحمد، ولا أحدٌ من العلماء: إن نكاح الفقير للموسرة باطل وإن رضيت، ولا يقولُ هو ولا أحدٌ: إن نكاح الهاشمية لغير الهاشمى، والقرشية لغير القرشى باطل، وإنما نبهنا على هذا لأن كثيراً من أصحابنا يحكُون الخلاف فى الكفاءة، هل هى حق لله أو للآدمى؟ ويطلقون مع قولهم: إن الكفاءة هى الخصالُ المذكورة، وفى هذا من التساهلِ وعدمِ التحقيق ما فيه. فصل: فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ثُبوتِ الخيارِ للمعتَقة تحتَ العبدِ ثبت فى "الصحيحين"، والسنن: أن بَرِيرَةَ كاتبت أهلَها، وجاءت تسألُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى كتِابتها، فقالت عائشةُ رضى الله عنها: إن أحَبَّ أهلُك أن أعُدَّها لهم، ويكونُ ولاؤك لى فعلتُ، فذكرت ذلك لأهلها، فأبَوْا إلا أن يكونَ الولاءُ لهم فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة رضى الله عنها: "اشْتَرِيها واشْتَرِطى لَهُمُ الوَلاءُ لِمنْ أعْتَقَ "، ثم خطبَ الناسَ فقال: " مَا بَالُ أقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شروطاً لَيْسَتْ فى كِتَابِ اللهِ، مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطاً |
ليْسَ فى كِتَابِ اللهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وإِنْ كَانَ مِائَة شَرْطٍ،
قَضَاءُ الله أحَقُّ، وشَرْطُ اللهِ أوْثَقُ، وإِنَّمَا الولاء لِمَنْ أْعْتَقَ
"، ثم خيَّرها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أن
تَبْقَى على نكاح زوجها، وبين أن تَفْسَخَهُ، فاختارت نفسَها، فقال لها:
"إنَّهُ زَوْجُكِ وأبُو وَلَدِكِ" ، فقالت: يا رسولَ الله، تأمُرُنى
بذلك؟ قال: " لاَ، إِنمَا أَنَا شَافِعٌ "، قالت: فلا حاجة لى فيه،
وقال لها إذْ خيَّرها: "إن قَرُبَكِ، فلا خِيارَ لك"، وأمرها أن تعتد،
وتُصُدِّقَ عليها بلحم، فأكل منه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وقال: "هُوَ عَلَيْها صَدَقَةٌ، ولَنَا هَدِيَّةٌ".
وكان فى قِصةِ بريرة من الفقه جوازُ مكاتبة المرأة، وجوازُ بيعِ المكاتبِ وإن لم يُعجِّزْه سِّيدُه، وهذا مذهبُ أحمد المشهورُ عنه، وعليه أكثرُ نصوصه، وقال فى رواية أبى طالب: لا يطأ مكاتبته، ألا ترى أنه لا يقدر أن يبيعَها. وبهذا قال أبو حنيفة، ومالكٌ، والشافعى. والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقرَّ عائشة رضى الله عنها على شرائها، وأهلَها على بيعها، ولم يسأل: أعجزت أم لا، ومجيئُها تستعينُ فى كتابتها لا يستلزِمُ عجزَها، وليس فى بيع المكاتب محذور، فإن بيعه لا يُبطل كِتابته، فإنه يبقى عند المشترى كما كان عند البائع، إن أدى إليه، عَتَقَ، وإن عجز عن الأداء، فله أن يُعِيدَه إلى الرِّق كما كان عند بائعه، فلو لم تأت السنةُ بجواز بيعه، لكان القياسُ يقتضيه. |
وقد ادعى غيرُ واحد الإجماعَ القديمَ على جواز بيعِ المكاتَب. قالوا: لأن
قصة بريرة وردت بنقل الكافَّة، ولم يبق بالمدينة منْ لم يَعْرِفْ ذلك، لأنها
صفقةٌ جرت بين أْمِّ المؤمنين، وبينَ بعضِ الصحابة رضي الله عنهم، وهم موالى
بريرة، ثم خطبَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناسَ فى أمر
بيعها خُطبةُ فى غير وقت الخطبة، ولا يكون شىء أشهر مِن هذا، ثم كان مِن مشى
زوجِها خلفَها باكياً فى أزِقَّة المدينةِ ما زاد الأمرَ شهرةً عند النساء
والصبيان، قالوا: فظهر يقيناً أنه إجماعٌ من الصحابة، إذ لا يُظن بصاحبٍ أنه
يُخالف مِن سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلَ هذا الأمر
الظاهر المستفيضِ قالوا: ولا يُمكن أن تُوجِدُونا عن أحدٍ من الصحابة رضى الله
عنهم المنعَ من بيع المكاتب إلا روايةً شاذة عن ابن عباس لا يُعرف لها إسناد.
واعتذر مَنْ منع بيعَه بعُذرين. أحدهما: أن بريرَةَ كانت قد عجزَت، وهذا عذرُ أصحاب الشافعى، والثانى: أن البيعَ ورد على مال الكِتابة لا علي رقبتها، وهذا عذرُ أصحابِ مالك. وهذان العُذران أحوجُ إلى أن يُعتذر عنهما مِن الحديث، ولا يَصِحُّ واحد منهما، أما الأول: فلا ريبَ أن هذه القصة كانت بالمدينة، وقد شهدها العباسُ وابنُه عبد الله، وكانت الكِتابة تسع سنين فى كل سنة أوقية، ولم تكن بعدُ أدَّت شيئاً، ولا خلاف أن العباس وابنَه إنما سكنا المدينة بعد فتح مكة، ولم يعشِ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك إلا عامينِ، وبعضَ الثالث، فأين العجزُ وحلولُ النجوم؟، وأيضاً، فإن بريرة لم تَقُلْ: عجزتُ، ولا قالت لها عائشةُ: أعجزتِ؟ ولا اعترف أهلُها بعجزها، ولا حكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعجزها، ولا وَصَفَها به، ولا أخْبَرَ عنها البتة، فمن أين لكم هذا العجزُ الذى تعجِزُونَ |
عن إثباته؟.
وأيضاً، فإنها إنما قالت لعائشة: كاتبت أهلى على تسع أواق فى كل سنة أوقية، وإنى أُحِبُّ أن تُعينينى، ولم تقل: لم أؤدِّ لهم شيئاً، ولا مضت علىَّ نجوم عِدَّةٌ عجزت عن الأداء فيها، ولا قالت: عجَّزنى أهلى. وأيضاً فإنهم لو عجَّزوها، لعادت فى الرّق، ولم تكن حينئذ لِتسعى فى كتابتها، وتستعِينَ بعائشة على أمر قد بَطَلَ. فإن قيل: الذى يدل على عَجْزِهَا قولُ عائشة: إن أحب أهلك أن اشتريَك وأعِتقَك، ويكون ولأؤكِ لى فعلتُ. وقول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة رضى الله عنها: "اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقيها" ، وهذا يدلُّ على إنشاء عتق من عائشة رضى الله عنها، وعتقُ المكاتب بالأداء لا بإنشاء مِن السيد. قيل: هذا هو الذى أوجبَ لهم القولَ ببطلانِ الكِتابة. قالوا: ومِنَ المعلوم أنها لا تبطلُ إلا بعجز المكاتب أو تعجِيزِه نفسه، وحينئذ فيعود فى الرِّق، فإنما ورد البيعُ على رقيق، لا على مكاتَب. وجوابُ هذا: أن ترتيب العِتق على الشراء لا يدُلُّ على إنشائه، فإنه ترتيبٌ للمسبب على سببه، ولا سيما فإن عائشة لما أرادت أن تُعجِّل كتابتها جملة واحدة كان هذا سبباً فى إعتاقها، وقد قلُتم أنتم: إن قولَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ يَجْزى وَلَدٌ وَالِدَهُ إلاَّ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ". إن هذا من ترتيب المسبب على سببه، وأنه بنفس الشراء يُعتق عليه لا يحتاج إلى إنشاء عتق. وأما العذرُ الثانى: فأمرُه أظهرُ، وسياقُ القصة يُبطِلُه، فإن أمَّ المؤمنين اشترتْها، فأعتقتها، وكان ولاؤُها لها، وهذا مما لا ريبَ فيه، ولم تشترِ |
المالَ، والمال كان تسعَ أوراق منجَّمة، فعدَّتها لهم جملةً واحدة، ولم
تتعرَّض للمال الذى فى ذمتها، ولا كان غرضها بوجهِ ما، ولا كان لعائشة غرض في
شراء الدراهم المؤجَّلة بعددها حالَّة.
وفى القصة جوازُ المعاملة بالنقود عدداً إذا لم يختلِفْ مقدارها، وفيها أنه لا يجوزُ لأحدٍ من المتعاقدَين أن يشترِطَ على الآخر شرطاً يُخالف حكم الله ورسوله، وهذا معنى قوله: "ليس فى كتاب الله"، أى: ليس فى حكم الله جوازُه، وليس المرادُ أنه ليس فى القرآن ذِكرُه وإباحته، ويدل عليه قولُه: "كتابُ الله أحق وشرطُ الله أوثق". وقد استدل به من صحيح العقد الذى شرط فيه شرط فاسد، ولم يبطل العقدُ به وهذا فيه نزاع وتفصيلٌ يظهر الصواب منه فى تبيين معنى الحديث، فإنه قد أشكل على الناس قوله: "اشترطى لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق"، فأذن لها فى هذا الاشتراط، وأخبر لا يفيد. والشافعى طعن فى هذه اللفظة وقال: إن هشام ابن عروة انفردَ بها، وخالفه غيرُه، فردها الشافعى، ولم يثبتْها، ولكن أصحاب "الصحيحين" وغيرَهم أخرجوها، ولم يطعنوا فيها، ولم يُعللها أحد سوى الشافعى فيما نعلم. ثم اختلفوا فى معناها، فقالت طائفة: اللام ليست على بابها، بل هى بمعنى "على"، كقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أى: فعليها، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ ومَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46]. ورَدَّتْ طائفة هذا الاعتذار بخلافه لسياق القصة، ولموضوع الحرف، وليس نظير الآية، فإنها قد فرَّقت بين ما للنفس وبين ما عليها، بخلاف قوله: "اشترطى لهم". |
وقالت طائفة: بل اللام على بابها، ولكن فى الكلام محذوف تقديره: اشترطى لهم،
أو لا تشترطى، فإن الاشتراط لا يُفيد شيئاً لمخالفته لكتاب الله.
وردَّ غيرُهم هذا الاعتذارَ لاستلزامه إضمارَ ما لا دليل عليه، والعلمُ به مِن نوع علم الغيب. وقالت طائفة أخرى: بل هذا أمرُ تهديد لا إباحة، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} [فصلت: 40] وهذا فى البطلان من جنس ما قبله وأظهرُ فساداً، فما لعائشة، وما للتهديد هنا؟، وأين فى السياق ما ينقضى التهديد لها؟ نعم هُمْ أحقُّ بالتهديد، لا أمُّ المؤمنين. وقالت طائفة: بل هو أمر إباحة وإذن، وأنه يجوزُ اشتراط مثلِ هذا، ويكونُ ولاءُ المكاتب للبائع، قاله بعضُ الشافعية، وهذا أفسدُ مِن جميع ما تقدم، وصريحُ الحديث يقتضى بطلانَه وردَّه. وقالت طائفة: إنما أذِنَ لها فى الاشتراط، ليكون وسيلة إلى ظهور بطلانِ هذا الشرط، وعلم الخاص والعام به، وتقررَّ حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان القومُ قد علِمُوا حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ذلك، فلم يقنعوا دون أن يكون الولاءُ لهم، فعاقبهم بأن أذِنَ لعائشة فى الاشتراط، ثم خطبَ الناس فأذَّن فيهم ببطلان هذا الشرط، وتضمَّن حكماً من أحكام الشريعة، وهو أن الشرطَ الباطل إذا شُرِطَ فى العقد، لم يجز الوفاء به، ولولا الإذن فى الاشتراط لما عُلِمَ ذلك، فإن الحديثَ تضمَّن فسادَ هذا الحكم، وهو كَونُ الولاءِ لغير المعتقِ. وأما بطلانُه إذا شرط، فإنما استُفِيدَ مِن تصريح النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببطلانه بعد اشتراطه ولعلَّ القومَ اعتقدوا أن اشتراطه يُفيد الوفاءَ به، وإن كان خلافَ مقتضى العقد المطلق، فأبطله النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن شرط كما أبطله |
بدون الشرط.
فإن قيل: فإذا فات مقصودُ المشترط ببطلان الشرط، فإنه إما أن يُسلَّط على الفسخ، أو يُعطى من الأرش بقدر ما فات من غرضه، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَقْضِ بواحدٍ من الأمرين. قيل: هذا إنما يثبت إذا كان المشترط جاهلاً بفساد الشرط. فأما إذا علم بطلانَه ومخالفتَه لحكم الله، كان عاصياً آثماً بإقدامه على اشتراطه، فلا فسخ له ولا أرش، وهذا أظهرُ الأمرين فى موالى بريرة، والله أعلم. فصل وفى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إنما الولاء لمن أعتق " مِن العموم ما يقتضى ثبوتَه لمن أعتق سائبةً، أو فى زكاة، أو كفارة، أو عتقٍ واجب، وهذا قولُ الشافعى وأبى حنيفة، وأحمد فى إحدى الروايات، وقال فى الرواية الأخرى: لا ولاء عليه، وقال فى الثالثة: يُرد ولاؤه فى عتق مثله، ويحتجُّ بعمومه أحمد ومن وافقه فى أن المسلم إذا أعتق عبداً ذميِّاً، ثم مات العتيق، ورثه بالولاء، وهذا العمومُ أخصُّ من قوله: "لا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ" فيخصصه أو يقيده، وقال الشافعى ومالك وأبو حنيفة: لا يَرِثُه بالولاء إلا أن يموتَ العبدُ مسلماً، ولهم أن يقولوا: إن عموم قوله: "الولاء لمن أعتق"، مخصوص بقوله: "لا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ". |
فصل
وفى القصة مِن الفقه تخييرُ الأمة المزوَّجة إذا أُعتقت وزوجُها عبدٌ، وقد اختلفت الروايةُ فى زوج بَريرة، هل كان عبداً أو حراً؟ فقال القاسم، عن عائشة رضى الله عنها: كان عبداً ولو كان حراً لم يُخيَّرها. وقال عروة عنها: كان حراً. وقال ابنُ عباس: كان عبداً أسودَ يقال له: مغيث، عبداً لبنى فلان، كأنى أنظر إليه يطوف وراءها فى سكك المدينة، وكل هذا فى الصحيح. وفى سنن أبى داود عن عروة عن عائشة: كان عبداً لآل أبى أحمد، فخيَّرها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال لها: "إنْ قَرُبَكِ، فَلاَ خيارَ لَكِ". وفى مسند أحمد، عن عائشة رضى الله عنها، أن بَريرة كانت تحتَ عبد، فلما أعتقها، قال لها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اخْتارِى فَإنْ شِئْتِ أَنْ تَمْكُثِى تَحْتَ هذا العَبْدِ، وإن شِئْتِ أنْ تُفَارِقِيهِ ". وقد روى فى "الصحيح": أنه كان حراً. وأصحُّ الروايات، وأكثرُها: أنه كانَ عبداً، وهذا الخبرُ رواه عن عائشة رضى الله عنها ثلاثة: الأسود، وعروةُ، والقاسمُ، أما الأسود، فلم يختلفْ عنه عن عائشة أنه كان حراً، وأما عروة، فعنه روايتان صحيحتان متعارضتان، إحداها: أنه كان حراً ؛ والثانية: أنه كان عبداً، وأما عبد الرحمن بن القاسم، فعنه روايتان صحيحتان، إحداها: أنه كان حراً، والثانية: الشك. قال داود بن مقاتل: ولم تختلِفِ الروايةُ عن ابن عباس أنه كان عبداً. |
واتفق الفقهاءُ على تخيير الأمةِ إذا أُعتِقَت وزوجُها عبد، واختلفوا إذا
كان حراً ؛ فقال الشافعىُّ ومالك وأحمد فى إحدى الروايتين عنه: لا يخيرَ، وقال
أبو حنيفة وأحمد فى الرواية الثانية: تُخيَّر.
وليست الروايتان مبنيتين على كون زوجها عبداً أو حراً، بل على تحقيق المناط فى إثبات الخيار لها، وفيه ثلاثةُ مآخذ للفقهاء ؛ أحدها: زوالُ الكفاءة، وهو المعبَّرُ عنه بقولهم: كملت تحتَ ناقص، الثانى: أن عتقها أوجبَ للزوج ملكَ طلقة ثالثة عليها لم تكن مملوكة له بالعقد، وهذا مأخذُ أصحابِ أبى حنيفة، وبنوا على أصلهم أن الطلاقَ معتبرٌ بالنساء لا بالرجال، الثالث: ملكُها نفسها، ونحن نبين ما فى هذه. المأخذ الأول: وهو كمالُها تحت ناقص، فهذا يرجع إلى أن الكفاءَة معتبرةٌ فى الدوام، كما هى معتبرة فى الابتداء، فإذا زالت، خُيِّرتِ المرأةُ، كما تخيَّر إذا بان الزوجُ غيرَ كفءٍ لها، وهذا ضعيف من وجهين. أحدهما: أن شروطَ النكاح لا يُعتبر دوامُها واستمرارها، وكذلك توابعه المقارِنَةُ لعقدة لا يُشترط أن تكون توابعَ فى الدوام، فإن رضى الزوجة غير المجبَرة شرط فى الابتداء دونَ الدوامِ، وكذلك الولىُّ والشاهدانِ، وكذلك مانعُ الإحرام والعدة والزنى عند من يمنع نكاحَ الزانية، إنما يمنع ابتداء العقد دون استدامته، فلا يلزم مِن اشتراط الكفاءة ابتداءُ اشتراط استمرارها ودوامها.. الثانى: أنه لو زالت الكفاءة فى أثناء النكاح بفسقِ الزوج، أو حدوثِ عيب موجبٍ للفسخ، لم يَثْبُت الخيارُ على ظاهر المذهب، وهو اختيارُ قدماء الأصحاب، ومذهب مالك. وأثبت القاضى الخيارَ بالعيب الحادِثَ، ويلزم إثباتُه بحدوث فسق الزوج، وقال الشافعى: إن حدث بالزوج، |
ثبت الخيار، وإن حدث بالزوجة، فعلى قولين.
وأما المأخذُ الثانى وهو أن عتقها أوجب للزوج عليها مِلكَ طلقة ثالثة، فمأخذٌ ضعيف جداً، فأىُّ مناسبة بين ثبوت طلقة ثالثة، وبينَ ثبوت الخيارِ لها؟ وهل نصبَ الشارعُ مِلك الطلقة الثالثة سبباً لملك الفسخ، وما يُتوهم من أنها كانت تَبينُ منه باثنتين فصارت لا تَبينُ إلا بثلاث، وهو زيادةُ إمساك وحبس لم يقتضِهِ العقدُ فَاسِدٌ، فإنه يَمْلِكُ ألاَّ يُفارِقَها ألبتة، ويُمسكها حتى يُفرِّق الموتُ بينهما، والنكاحُ عقد على مدة العمر، فهو يَمْلِكُ استدامة إمساكِها، وعتقها لا يسلُبُه هذا الملك، فكيف يسلبه إياه ملكه عليها طلقةً ثالثة، وهذا لو كان الطلاق معتبراً بالنساء، فكيف والصحيحُ أنه معتبر بمن هو بيده وإليه، ومشروع فى جانبه. وأما المأخذُ الثالث: وهو ملكُها نفسهَا، فهو أرجح المآخذِ وأقربُها إلى أصول الشرع، وأبعدُها من التناقض، وسر هذا المأخذ أن السيد عقدَ عليها بحكم الملك حيث كان مالكاً لرقبتها ومنافعها، والعتق يقتضى تمليكَ الرقبة والمنافع للمعتق، وهذا مقصوده وحكمته، فإذا ملكت رقبتها، ملكت بُضعها ومنافعها، ومن جملتها منافِع البُضع، فلا يملك عليها إلا باختيارها، فخيَّرها الشارعُ بين أن تُقيم مع زوجها، وبين أن تفسخَ نكاحه، إذ قد ملكت منافع بُضعها، وقد جاء فى بعض طرق حديث بريرة، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: "مَلَكْتِ نَفْسَكِ فَاخْتَارى". فإن قيل: هذا ينتقِضُ بما لو زوّجها ثم باعها، فإن المشترى قد ملك رقبتها وبُضعها ومنافِعَه، ولا تسلِّطُونه على فسخ النكاح. قلنا لا يَرِدُ هذا نقضاً، فإن البائع نقل إلى المشترى ما كان مملوكاً له، فصار المشترى خليفته، هو لما زوَّجها، أخرج منفعة البُضع عن ملكه إلى الزوج، ثم نقلها إلى |
المشترى مسلوبةً منفعة البُضع، فصار كما لو آجر عبده مدة، ثم باعه. فإن قيل:
فهب أن هذا يستقيم لكم فيما إذا باعها، فهلا قلتم ذلك إذا أعتقها، وأنها ملكت
نفسَها مسلوبة البُضع، كما لو آجرها، ثم أعتقها، ولهذا ينتقِضُ عليكم هذا
المأخذ؟
قيل: الفرقُ بينهما: أن العتق فى تمليك العتيق رقبتَه ومنافعه أقوى من البيع، ولهذا ينفذ فيما لم يعتقه ويسرى فى حصة الشريك، بخلاف البيع، فالعتق إسقاطُ ما كان السيد يملِكهُ من عتيقه، وجعله له محرراً، وذلك يقتضى إسقاط مُلكِ نفسه ومنافِعها كُلِّها. وإذا كان العتق يسرى في ملك الغير المحض الذي لا حق له فيه البتة، فكيف لا يسري إلى مُلكه الذى تعلَّق به حقُّ الزوج، فإذا سرى إلى نصيب الشريكِ الذي لا حقَّ للمعتق فيه، فسريانُه إلى مُلك الذى يتعلق به حقُّ الزوج أولى وأحرى، فهذا محضُ العدل والقياس الصحيح. فإن قيل: فهذا فيه إبطال حقِّ الزوج من هذه المنفعة بخلاف الشريك، فإنه يرجِعُ إلى القيمة. قيل: الزوج قد استوفى المنفعة بالوطء، فطريانُ ما يُزيل دوامَها لا يُسقط له حقاً، كما لو طرأ ما يُفسِدُ أو يفسخُه برضاع أو حدوث عيب، أو زوالِ كفاءة عند من يفسخُ به. فإن قيل: فما تقولون فيما رواه النسائى، من حديث ابن مَوْهَب، عن القاسم بن محمد، قال: كان لعائشة رضى الله عنها غلام وجارية، قالت: فأردت أن أعتِقَهما، فذكرتُ ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال "ابدَئى بالغُلاَم قَبْلَ الجَارِيَةَ" . ولولا أن التخيير يمنع إذا كان الزوج |
حراً لم يكن للبداءة بعتق الغلام فائدة، فإذا بدات به، عتقت تحت حر، فلا
يكون لها اختيار.
وفى سنن النسائى أيضاً: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أيُّمَا أَمَةٍ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَعُتِقَتْ، فَهِىَ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَطَأْهَا زَوْجُها". قيل: أما الحديث الأول: فقال أبو جعفر العقيلى وقد رواه: هذا خبرٌ لا يعرف إلا بعبيد الله بن عبد الرحمن بن مَوْهَب وهوضعيف. وقال ابن حزم: هو خبر لا يصح. ثم لو صحَّ لم يكن فيه حجة، لأنه ليس فيه أنهما كانا زوجين، بل قال: كان لها عبدٌ وجارية. ثم لو كانا زوجين لم يكن فى أمره لها بعتق العبد أولاً ما يُسقط خيارَ المعتقة تحتَ الحر، وليس فى الخبر أنه أمرها بالابتداء بالزوج لهذا المعنى، بل الظاهر أنه أمرها بأن تبتدىء بالذَّكَرِ لفضل عتقه على الأنثى، وأن عتق أنثيين يقومُ مقامَ عتق ذَكَرٍ، كما فى الحديث الصحيح مبيناً. وأما الحديث الثانى: فضُعِّف، لأنه من رواية الفضل بن حسن بن عمرو بن أمية الضمرى وهو مجهول. فإذا تقرر هذا، وظهر حكمُ الشرع فى إثبات الخيار لها، فقد روى الإمام أحمد بإسناده، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِذَا أُعْتِقَتِ الأَمَةُ فهى بِالخِيارِ مَا لَمْ يَطَأْهَا، إن شَاءتْ فَارَقَتْهُ، وإِنْ وَطِئَها فَلاَ خَيارَ لَها وَلاَ تَسْتَطِيعُ فِرَاقَهُ". |
ويُستفاد من هذا قضيتان:
إحداهما: أن خيارَها على التراخى ما لم تُمَكِّنْهُ مِن وَطئها، وهذا مذهب مالك وأبى حنيفة. وللشافعى ثلاثةُ أقوال. هذا أحدُها. والثانى: أنه على الفور ؛ والثالث: أنه إلى ثلاثة أيام. الثانية: أنها إذا مكَّنته من نفسها، فوطئها، سقط خيارُها، وهذا إذا علمت بالعتق وثبوتِ الخيار به، فلو جهلتهما، لم يسقط خيارُها بالتمكين من الوطء. وعن أحمد رواية ثانية: أنها لا تُعذر بجهلها بملك الفسخ، بل إذا علمت بالعتق، ومكَّنته مِن وطئها، سقط خيارها ولو لم تعلم أن لها الفسخ، والرواية الأولى أصح فإن عتق الزوج قبل أن تختار وقلنا: إنه لا خيار للمعتقة تحت حر بطلَ خيارُها لمساواة الزوج لها، وحصول الكفاءة قبل الفسخ. قال الشافعى فى أحد قوليه وليس هو المنصور عند أصحابه: لها الفسخ لتقدُّم ملك الخيار على العتق فلا يبطله، والأوّل أقيسُ لزوال سبب الفسخ بالعتق، وكما لو زال العيبُ فى البيع والنكاح قبل الفسخ به، وكما لو زال الإعسار فى زمن ملك الزوجة الفسخَ به. وإذا قلنا: العلة ملكها نفسها، فلا أثر لذلك، فإن طلقها طلاقاً رجعياً، فعتقت فى عدتها، فاختارت الفسخَ، بطلت الرجعةُ، وإن اختارت المقام معه، صح، وسقط اختيارُها للفسخ، لأن الرجعية كالزوجة. وقال الشافعى وبعضُ أصحاب أحمد: لا يسقُط خيارُها إذا رضيت بالمقام دون الرجعة، ولها أن تختار نفسها بعد الارتجاع، ولا يَصِحُّ اختيارُها فى زمن الطلاق فإن الاختيارَ فى زمن هى فيه صائرة إلى بينوتة، ممتنع فإذا راجعها، صحَّ حينئذ أن تختارَه وتُقيم معه، لأنها صارت زوجة، وعمل الاختيار عمله، وترتَّبَ أثرُه عليه. ونظيرُ هذا إذا ارتدَّ زوجُ الأمة |
بعد الدخول، ثم عتقت فى زمن الرِّدَّة، فعلى القول الأول لها الخيار قبل
إسلامه، فإن اختارته، ثم أسلم، سقط ملكُها للفسخ، وعلى قول الشافعى: لا يَصِحُّ
لها خيار قبل إسلامه، لأن العقد صائر إلى البطلان فإذا أسلم، صحَّ خِيارُها.
فإن قيل: فما تقولون إذا طلقها قبل أن تفسخ، هل يقع الطلاق أم لا؟ قيل: نعم يقع، لأنها زوجة ؛ وقال بعضُ أصحاب أحمد وغيرهم: يُوقف الطلاق، فإن فسخت، تبينّا أنه لم يقع، وإن اختارت زوجها تبينّا وقوعه. فإن قيل: فما حكم المهر إذا اختارت الفسخ؟ قيل: إما أن تفسخ قبل الدخول أو بعده. فإن فسخت بعدَه، لم يسقط المهر، وهو لِسيدها سواء فسخت أو أقامت، وإن فسخت قبله ففيه قولان، هما روايتان عن أحمد إحداهما: لا مهر، لأن الفرقة من جهتها، والثانية، يجب نصفُه، ويكون لسيدها لا لها. فإن قيل: فما تقولون فى المعتَق نِصفُها، هل لها خيار؟ قيل: فيه قولان، وهما روايتان عن أحمد، فإن قلنا: لا خيارَ لها كزوج مدبَّرة له لا يمِلك غيرها وقيمُتها مائة، فعقد على مائتين مهراً، ثم مات، عتقت، وَلم تمِلك الفسخَ قبل الدخول، لأنها لو ملكت، سقطَ المهرُ، أو انتصف، فلم تخرُجْ مِن الثلث، فيرق بعضُها، فيمتنِعُ الفسخُ قبل الدخول، بخلاف ما إذا لم تملكه، فإنها تخرُج من الثلث، فيعتق جميعُها. |
فصل
فى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو راجَعْتِهِ" فقالت: أتأمُرنى؟ فقال: "لا، إنَّما أَنَا شافع"، فقالت: لا حاجة لى فيه، فيه ثلاث قضايا. إحداها: أن أمره على الوجوب، لهذا فرَّق بين أمره وشفاعته، ولا ريبَ أن امتثال شفاعته من أعظم المستحبات. الثانية: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَغْضَبْ على بريرة، ولم يُنكر عليها إذ لم تقبل شفاعته، لأن الشفاعة فى إسقاط المشفوع عنده حقه، وذلك إليه، إن شاء أسقطه، وإن أبقاه فلذلك لا يحرُم عصيانُ شفاعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحرم عصيانُ أمره. الثالثة: أن اسم المراجعة فى لسان الشارع قد يكونُ مع زوال عقد النكاح بالكلية، فيكون ابتداءَ عقد، وقد يكون مع تشعثه، فيكون إمساكاً، وقد سمَّى سبحانه ابتداء النكاح للمطلق ثلاثاً بعد الزوج الثانى مُراجعتةً، فقال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230] أى: إن طلقها الثانى، فلا جناح عليها، وعلى الأول أن يتراجعا نكاحاً مستأنفاً. فصل وفى أكله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن اللحم الذى تُصدِّقَ به على برَيرة، وقال: "هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ ولَنا هَدِيَّةٌ"، دليلٌ على جواز أكل الغنى، وبنى هاشم، وكل من تحرم عليه الصدقة مما يُهديه إليه الفقير من الصدقة لاختلاف جهة المأكول، ولأنه قد بلغ محلَّه وكذلك يجوزُ له أن يشتريَه منه بماله. هذا إذا لم تكن |
الاثنين، 14 مايو 2018
زاد المعاد ج5//3 وهو آخر الجزء الخامس بتصنيف الشاملة ويليه الجزء السادس ان شاء الله تعالي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق