الاثنين، 14 مايو 2018

زاد المعاد ج6 // 1 يليه ج6//2



زاد المعاد في هدي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى : 751هـ
)
ج 6 //1  
استكمال لما قبله وكان: آخر جزء 5 يليه التالي:
صدقَة نفسه، فإن كانت صدقَته، لم يجز له أن يشتريَهَا، ولا يَهبَها، ولا يقبلها هديةً. كما نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر رضى الله عنه عن شِراء صدقته وقال: "لا تَشْتَرِه وإنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَم".
فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الصداق بما قلَّ وكَثُرَ وقضائه بصحة النكاح على ما مع الزوج مِن القُرآن
ثبت فى "صحيح مسلم": عن عائشة رضى الله عنها: كانَ صَدَاقُ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَزواجه ثنتى عشرة أوقية ونشَّاً، فذلك خمسمائة.
وقال عُمَرُ رضى الله عنه: ما عَلِمْتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَ شيئاً مِن نسائه، ولا أَنْكَحَ شيئاً مِن بناتِه على أكثرَ مِن ثِنتى عشرةَ أُوقية. قال الترمذى: حديث حسن صحيح. انتهى.
وفى "صحيح البخارى": من حديث سهل بن سعد، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لرجل: "تَزَوَّجْ وَلَوْ بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ".
وفى سنن أبى داود: مِن حديث جابر، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ أعْطى فى صَداقٍ مِلءَ كفيه سَويقاً أوْ تَمراً، فَقَدِ اسْتَحَلَّ".
وفى الترمذى: أن امرأةً مِن بنى فَزارة تزوَّجت على نعلينِ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ ومَالِكِ بنعلين" ؟ قالت: نعم، فأجازه. قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
وفى مسند الإمام أحمد: من حديث عائشة رضىَ الله عنها، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّ أَعْظَمَ النِّكَاحِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُ مَؤُونَة".
وفى "الصحيحين": أن امرأةً جاءت إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسولَ الله، إنى قد وهبتُ نفسى لكَ، فقامَت طويلاً، فقال رجل: يا رسول الله، زَوِّجْنِيهَا إن لم يَكُن لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، فقالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَىءٍ تُصْدِقُها إيَّاهُ"؟ قال: ما عندى إلا إزارى هذا، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّكَ إنْ أَعْطَيْتَها إزَارَكَ جَلَسْتَ وَلاَ إزَارَ لَكَ،
فَالْتَمِسْ شَيْئاً" ، قال: لا أجد شيئاً، قال: "فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ"، فالتمس فلم يَجِدْ شيئاً، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ مَعَكَ شىء مِنَ القُرْآنِ"؟ قال: نعم سورةُ كذا وسورةُ كذا لِسور سماها، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ زَوَّجْتُكَها بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآن".
وفى النسائى: أن أبا طلحة خطب أُمَّ سُلَيْمٍ، فقالت: واللهِ يا أَبَا طلحة، ما مِثْلُكَ يُرَدُّ ولكنَّك رجلٌ كافِر، وأنا امرأةٌ مسلمة، ولا يَحِلُّ لى أن أتزوَّجَك، فإن تُسْلِم، فَذاك مَهْرِى، وما أسألك غيرَه، فأسلَمَ فكان ذَلكَ مَهْرَهَا. قال ثابت: فما سمعنا بامرأةٍ قَطُّ كانت أكرمَ مهراً من أمِّ سُليم، فدخل بها، فولدت له.
فتضمن هذا الحديثُ أن الصداق لا يتقدَّر أقلُّه، وأن قبضةَ السويق وخاتمَ الحديد والنعلينِ يَصِحُّ تسميتُها مهراً، وتَحِلُّ بها الزوجة.
وتضمَّن أن المُغالاة فى المهر مكروهة فى النكاح، وأنها مِن قلة بركته وعُسره.
وتضمَّن أن المرأةً إذا رَضِيت بعلم الزوج، وحِفظه للقرآن أو بعضه مِن مهرها، جاز ذلك، وكان ما يحصُل لها من انتفاعها بالقرآن والعلم هو صَداقها، كما إذا جَعَل السيدُ عِتْقَها صداقَها وكان انتفاعُها بحريَّتها ومُلكها لرقبتها هو صداقَها، وهذا هو الذى اختَارته أمُّ سليم من انتفاعها بإسلام أبى طلحة، وبذلِها نفسها له إن أسلم، وهذا أحبُّ إليها من المال الذى يبذُلُه الزوجُ، فإن الصداقَ شُرِعَ فى الأصل حقاً للمرأة تنتفع به،
فإذا رضيت بالعلم والدِّين، وإسلام الزوج، وقراءته للقرآن، كان هذا من أفضل المهور وأنفعها وأجلِّها، فما خلا العقد عن مهر، وأين الحكم بتقدير المهر بثلاثة دراهم، أو عشرة من النص؟ والقياس إلى الحكم بصحة كون المهر ما ذكرنا نصاً وقياساً، وليس هذا مستوياً بين هذه المرأة وبين الموهبة التى وهبت نفسها للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهى خالصة له من دون المؤمنين، فإن تلك وهبت نفسها هبةً مجردة عن ولى وصداق، بخلاف ما نحن فيه، فإنه نكاح بولى وصداق، وإن كان غير مالى، فإن المرأة جعلته عوضاً عن المال لما يرجع إليها من نفعه، ولم تهب نفسها للزوج هِبةً مجرَّدَةً كهبة شىء من مالها بخلاف الموهوبة التى خصَّ الله بها رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا مقتضى هذه الأحاديث.
وقد خالف فى بعضه من قال: لا يكون الصداقُ إلا مالاً، ولا تكون منافع أخرى، ولا علمه، ولا تعليمه صداقاً، كقول أبى حنيفة وأحمد فى رواية عنه. ومن قال: لا يكون أقلَّ مِن ثلاثة دراهم كمالك، وعشرة دراهم كأبى حنيفة، وفيه أقوال أخر شاذة لا دليل عليها من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس، ولا قولِ صاحب.
ومن ادعى فى هذه الأحاديث التى ذكرناها اختصاصَها بالنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو أنها منسوخة، أو أن عملَ أهل المدينة على خلافها، فدعوى لا يقومُ عليها دليلٌ. والأصل يردُّها، وقد زوَّج سيدُ أهل المدينة من التابعين سعيدُ بن المسيب ابنتَه على درهمين، ولم يُنكر عليه أحد، بل عُدَّ ذلك فى مناقبه وفضائله، وقد تزوَّج عبد الرحمن بن عوف على صداق خمسة دراهم، وأقرَّه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا سبيل إلى إثبات المقادير إلا من جهة صاحب الشرع.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفائه فى أحد الزوجين يجد بصاحبه برصاً أو جنوناً أو جذاماً، أو يكون الزوج عِنِّيناً
فى "مسند أحمد": من حديث يزيد بن كعب بن عُجرة رضى الله عنه، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوَّجَ امرأةً من بنى غِفَار، فلما دَخَلَ عَلَيْهَا، وَوَضَعَ ثوبَه، وقَعَدَ على الفِراش، أبصَرَ بِكَشْحِهَا بياضاً ؛ فامّازَ عَنِ الفِرَاشِ، ثم قال: "خُذِى عَلَيكِ ثِيَابَكِ، " ولم يأخذ مما آتاها شيئاً.
وفى "الموطأ": عن عمر أنه قال: أَيُّما امْرَاَةٍ غرَّ بها رجُلٌ، بِها جُنُونُ أَوْ جُذامٌ أوْ بَرَصُ، فَلَهَا المَهْرُ بما أصَابَ مِنْهَا، وصَدَاقُ الرَّجُلِ عَلى مَنْ غَرَّهُ".
وفى لفظ آخر: "قضَى عمر فى البَرْصاء، والجذماء، والمجنونة، إذا دخَل بها فَرَّقَ بينَهما، والصَّداقُ لها بمَسِيسِه إياها، وهو له على وَلِيِّها"
وفى سنن أبى داود: مِن حديث عِكرمة، عن ابن عباس رضى الله عنهما: طلَّق عبدُ يزيد أبو رُكانة زوجتَه أمَّ رُكانة، ونَكَحَ امرأةً مِنْ مُزِيْنَةَ، فجاءت إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: ما يُغْنِى عَنِّى إلاَّ كَما تُغْنِى هذِهِ الشَّعْرَةُ
لِشَعْرَةٍ أَخَذَتْها مِنْ رَأْسِها، فَفَرِّق بينى وبينَه، فأخذت النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمِيَّةُ، فذكر الحديثَ. وفيه: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له "طَلِّقْها" ، ففعل، ثم قال: "رَاجِع امْرَأَتُكَ أُمَّ رُكَانَةَ" ، فقال: إنى طلقتُها ثلاثاً يا رَسُولَ اللهِ، قال: "قَدْ عَلِمْتُ، ارْجِعْهَا"، وتلا: {يَأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].
ولا عِلَّة لهذا الحديث إلا روايةُ ابن جُريج له عن بعض بنى أبى رافع، وهو مجهول، ولكن هو تابعى، وابنُ جريج من الأئمة الثقات العدولِ، وروايةُ العدل عن غيره تعديلٌ له ما لم يُعلم فيه جرحٌ، ولم يكن الكذبُ ظاهراً فى التابعين، ولا سيما التابعين مِن أهل المدينة، ولا سيما موالى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا سيما مثل هذه السنة التى تشتد حاجةُ النَّاس إليها لا يُظن بابن جريج أنه حملها عن كذَّاب، ولا عن غيرِ ثقة عنده، ولم يُبيِّنْ حاله.
وجاء التفريقُ بالعُنَّةِ عن عمر، وعثمانَ، وعبدِ الله بن مسعود، وسمرةَ بنِ جندب، ومعاويةَ بن أبى سفيان، والحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة، والمغيرة بن شعبة، لكن عمر، وابن مسعود، والمغيرة، أجَّلُوه سنة، وعثمان ومعاوية وسمرة لم يؤجِّلوه، والحارث بن عبد الله أجَّلَه عشرة أشهر.
وذكر سعيدُ بن منصور: حدثنا هُشيم، أنبأنا عبدُ الله بن عوف، عن ابن سيرين أن عمرَ بنَ الخطاب رضى الله عنه بعثَ رجلاً على بعضِ السِّعَاية، فتزوَّج امرأةً وكان عقيماً، فقال له عمرُ: أعْلَمْتَها أنَّكَ عَقِيمُ؟
قال: لا، قال: فانطلق فأعْلِمْها، ثم خيِّرها.
وأجَّلَ مجنوناً سنة، فإن أفاق وإلا فرَّق بينه وبين امرأته.
فاختلف الفقهاءُ فى ذلك، فقال داود، وابنُ حزم، ومَنْ وافقهما: لا يُفْسَخْ النكاحُ بعيب ألبتة، وقال أبو حنيفة: لا يفسخ إلا بالجَبِّ والعُنَّةِ خاصة. وقال الشافعى ومالك: يُفْسَخُ بالجنونِ والبَرَصِ، والجُذامِ والقَرَن، والجَبِّ والعُنَّةِ خاصة، وزاد الإمام أحمد عليهما: أن تكونَ المرأة فتقاءَ منخرِقة ما بينَ السبيلين، ولأصحابه فى نَتَنِ الفرج والفم، وانخراقِ مخرجى البول والمنى فى الفرج، والقروح السيالة فيه، والبواسير، والنَّاصور، والاستحاضة، واستطلاقِ البول، والنجو، والخصى وهو قطعُ البيضتينِ، والسَّل وَهو سَلُّ البيضتين، والوجء وهو رضُّهما، وكونُ أحدهما خُنثى مشكلاً، والعيبِ الذى بصاحبه مثلُه مِن العيوب السبعة، والعيبِ الحادث بعد العقد، وجهان.
وذهب بعضُ أصحابِ الشافعى إلى ردِّ المرأة بكُلِّ عيبٍ تُردُّ به الجاريةُ فى البيع وأكثرُهم لا يَعْرِفُ هذا الوجهَ ولا مظِنَّتَه، ولا مَنْ قاله. وممن حكاه: أبو عاصم العبادانى فى كتاب طبقات أصحاب الشافعى، وهذا القولُ هو القياس، أو قولُ ابن حزم ومن وافقه.
وأما الاقتصارُ على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها أو مساو لها، فلا وجه له، فالعمى والخرس والطرش، وكونُها مقطوعة اليدين أو الرجلين، أو إحداهُما، أو كونُ الرجل كذلك من أعظم المنفِّرات، والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش، وهو مُنافٍ للدين، والإطلاق
إنما ينصرف إلى السلامة، فهو كالمشروط عرفاً، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه لمن تزوج امرأة وهُو لا يولد له: أَخْبِرْهَا أنَّكَ عَقِيمٌ وخيِّرْهَا. فماذا يقول رضى الله عنه فى العيوب التى هذا عندها كمالٌ لا نقص؟
والقياس: أن كُلَّ عيب ينفِرُ الزوجُ الآخر منه، ولا يحصُل به مقصودُ النكاح مِن الرحمة والمودَّة يُوجبُ الخيارَ، وهو أولى مِن البيع، كما أن الشروطَ المشترطة فى النكاح أولى بالوفاءِ مِن شروط البيع، وما ألزم اللهُ ورسولُه مغروراً قطُّ، ولا مغبوباً بما غُرَّ به وغُبِنَ به، ومن تدبَّر مقاصد الشرع فى مصادره وموارِده وعدله وحِكمته، وما اشتمل عليه مِن المصالح لم يخفَ عليه رجحانُ هذا القول، وقربُه من قواعد الشريعة.
وقد روى يحيى بن سعيد الأنصارى، عن ابن المسيب قال: قال عمر: أيُّما امرأةٍ زُوِّجَتْ وبها جنونٌ أو جُذام أو بَرَصٌ فدخل بها ثم اطَّلع على ذلك، فلها مهرها بمسيسه إياها، وعلى الولى الصَّداقُ بما دلس كما غرَّه.
ورَدُّ هذا بأن ابن المسيِّب لم يسمع من عمر من باب الهذيان البارد المخالف لإجماع أهل الحديث قاطبة، قال الإمام أحمد: إذا لم يُقبل سعيد بن المسيب عن عمر، فمن يقبل، وأئمة الإسلام وجمهورهُم يحتجون بقول سعيد بن المسيب: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فكيف بروايته عن عُمَرَ رضى الله عنه، وكان عبد الله بن عمر يرسل إلى سعيد يسأله عن قضايا عمر، فيُفتى بها، ولم يطعن أحدٌ قطُّ من أهل عصره، ولا مَنْ بعدهم ممن له فى الإسلام قولٌ معتبر فى رواية سعيد بن المسيب عن عمر، ولا عبرة بغيرهم.
وروى الشعبى عن على: أيُّما امرأةٍ نكحت وبها بَرَصٌ أو جُنون أو جُذام أو قَرَنٌ فزوجُها بالخيار ما لم يمسها، إن شاء أمسك، وإن شاء طلق،
وإن مسَّها فلها المهرُ بما استحل من فرجها.
وقال وكيع: عن سفيان الثورى، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسِّيب، عن عُمَرَ، قال: إذا تزوَّجها برصاء، أو عميَاء، فدخل بها، فلها الصداقُ، ويرجعُ به على مَنْ غرَّه. وهذا يدل على أن عمر لم يذكر تلك العيوب المتقدِّمة على وجه الاختصاص والحصر دونَ ما عداها، وكذلك حكم قاضى الإسلام حقاً الذى يُضرب المثلُ بعلمِه ودِينه وحُكمه: شريحٍ قال عبد الرزاق: عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، خاصم رجلٌ إلى شُرَيْح، فقال: إن هؤلاء قالوا لى: إنا نُزوِّجُك بأحْسَنِ الناسِ، فجاؤونى بامرأة عمشاءَ، فقال شُريح: إن كان دلِّس لك بعيب لم يَجُز، فتأمل هذا القضاء، وقوله: إن كان دلِّس لك بعيب، كيف يقتضى أن كل عيب دلست به المرأةُ، فللزوج الردُّ به؟ وقال الزهرىُّ يُردُّ النكاح مِن كل داءٍ عُضالٍ.
ومن تأمل فتاوى الصحابة والسلف، علم أنهم لم يخصُّوا الردَّ بعيب دون عيب إلا رواية رُويت عن عمر رضى الله عنه: لا تُردُّ النساء إلا من العُيوب الأربعة: الجنون، والجذام، والبرص، والداء فى الفرج. وهذه الرواية لا نعلم لها إسناداً أكثر من أصبغ عن ابن وهب، عن عُمَرَ وعَلى. رُوى عن ابن عباسِ ذلك بإسناد متصل، ذكره سفيان، عن عمرو بن دينار عنه. هذا كُلُّه إذا أطلقَ الزوجُ، وأما إذا اشترط السلامةَ، أو شرطَ الجمَال، فبانت شوهاء، أو شرطَها شابةً حديثةَ السن، فبانت عجوزاً شمطاء، أو
شرطها بيضاءَ، فبانت سوداء، أو بِكراً فبانت ثيباً، فله الفسخُ فى ذلك كُلِّه.
فإن كان قبلَ الدخول، فلا مهرَ لها، وإن كان بعدَه، فلها المهرُ، وهو غُرْمٌ على وليها إن كان غرَّه، وإن كانت هى الغارَّة، سقط مهرُها أو رَجَعَ عليها به إن كانت قبضته، ونص على هذا أحمد فى إحدى الروايتين عنه، وهو أقيسُهما وأولاهما بأصوله فيما إذا كان الزوج هو المشترط.
وقال أصحابُه: إذا شرطت فيه صفةً، فبان بخلافها، فلا خيار لَها إلا فى شرط الحفرية إذا بان عبداً، فلها الخيارُ، وفى شرط النسب إذا بان بخلافه وجهان، والذى يقتضيه مذهبُه وقواعده، أنه لا فرق بين اشتراطه واشتراطها، بل إثباتُ الخيار لها إذا فات ما اشترطته أولى، لأنها لا تتمكَّنُ من المفارقة بالطلاق، فإذا جاز له الفسخُ مع تمكنهِ من الفراق بغيره، فلأن يجوزَ لها الفسخُ مع عدم تمكُّنها أولى، وإذا جاز لها الفسخ إذا ظهر الزوجُ ذا صناعة دنيئة لا تشينُه فى دِينه ولا فى عرضه، وإنما تمنع كمال لذتها واستمتاعها به، فإذا شرطته شاباً جميلاً صحيحاً فبان شيخاً مشوهاً أعمى أطرش أخرس أسود، فكيف تلزم به، وتمنع من الفسخ؟ هذا فى غاية الامتناع والتناقض، والبعدِ عن القياس، وقواعد الشرع، وبالله التوفيق.
وكيف يمكَّن أحدُ الزوجين من الفسخ بقدر العدسَةِ من البَرَصِ، ولا يُمكَّن منه بالجرب المستحكم المتمكِّن وهو أشدُّ إعداءَ من ذلك البرص اليسير وكذلك غيرُه مِن أنواع الداء العُضال؟
وإذا كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرَّم على البائع كِتمانَ عيب سلعته، وحرَّم على مَنْ علمه أن يكتُمَه مِن المشترى، فكيف بالعيوب فى النكاح، وقد قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفاطمة بنتِ قيس حين استشارته فى نكاح معاوية، أو أبى الجهم:
"أمَّا مُعَاوِيَةُ، فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ، وأمَّا أبُو جَهْمِ، فَلا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِه" ، فعُلِمَ أن بيانَ العيب فى النكاح أولى وأوجب، فكيف يكون كتمانُه وتدليسُه والغِشُّ الحرَامُ به سبباً للزومه، وجعل ذا العيب غُلاً لازماً فى عُنق صاحبه مع شِدة نُفرته عنه، ولا سيما مع شرط السلامة منه، وشرطِ خلافه، وهذا مما يُعلم يقيناً أن تصرفات الشريعة وقواعدَها وأحكامَها تأباه والله أعلم.
وقد ذهب أبو محمد ابن حزم إلى أن الزوجَ إذا شرط السلامةَ مِن العيوب، فوجِدَ أىّ عيبٍ كان، فالنكاح باطل من أصله غير منعقد، ولا خيار له فيه، ولا إجازة ولا نفقة، ولا ميراث. قال: لأَن التى أدخلت عليه غير التى تزوج، إذ السالمةُ غيرُ المعيبة بلا شك، فإذا لم يتزوجها، فلا زوجيةَ بينهما.
فصل: فى حُكم النبىِّ صَلَّى الله عليه وسلم فى خِدْمَةِ المرأةِ لزوجها
قال ابنُ حبيب فى "الواضحة": حكم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين على بن أبى طالب رضى الله عنه، وبين زوجته فاطمة رضى الله عنها حين اشتكيا إليه الخِدمة، فحكم على فاطمة بالخدمة الباطنة خدمة البيت، وحكم على عليٍّ بالخدمة الظاهرة، ثم قال ابنُ حبيب: والخدمة الباطنة: العجينُ، والطبخُ، والفرشُ، وكنسُ البيت، واستقاءُ الماء، وعمل البيت كلِّه.
فى "الصحيحين": أن فاطمة رضى الله عنها أتتِ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشكُو إليه ما تَلْقى فى يَدَيْهَا مِن الرَّحى، وتسألُه خادماً فلم تَجِدْه، فذكرت ذلك لِعائشة رضى الله عنها، فلما جاء رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرتْه. قال على: فجاءنا وقد أخذنا مَضَاجِعَنَا، فذهبنا نقومُ، فقال: "مَكَانكُمَا"، فجاء فقعَدَ بينَنَا حتى وجدت بَرْدَ قَدَمَيْهِ على بطْنى، فقال: " أَلاَ أدُلُّكُمَا عَلى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَا، إذا أَخَذْتُما مَضَاجِعَكُما فَسَبِّحا الله ثَلاثَاً وثَلاثِينَ، واحْمَدا ثلاثاً وثلاثينَ، وكَبِّرا أربعاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادِم. قال عَلُّى: فما تركتُها بَعْدُ، قِيلَ: ولا ليلةَ صفين؟ قال: ولا ليلة صِفِّين".
وصحَّ عن أسماء أنها قالت: كنت أخدِمُ الزُّبَيْرَ خِدْمَةَ البَيْتِ كُلِّه، وكان لَه فَرَسٌ وكُنْتُ أَسُوسُه، وكُنْتُ أَحْتشُّ لَهُ، وأَقُومُ عَلَيْهِ.
وصحَّ عنها أنها كانت تَعْلِفُ فرسَه، وتَسْقِى الماءَ، وتَخْرِزُ الدَّلْوَ وتَعْجِنُ، وتَنْقُلُ النَّوى عَلَى رَأْسِهَا مِنْ أَرضٍ لَهُ عَلَى ثُلُثَى فَرْسَخ.
فاختلف الفقهاءُ فى ذلك، فأوجب طائفةٌ مِن السَّلفِ والخَلَفِ خِدمَتها له فى مصالح البيت، وقال أبو ثور: عليها أن تَخْدِمَ زوجها فى كل شىء،
ومنعت طائفةً وجوبَ خدمته عليها فى شىء، وممن ذهب إلى ذلك مالك، والشافعى، وأبو حنيفة، وأهلُ الظاهر، قالوا: لأن عقدَ النكاح إنما اقتضى الاستمتاع، لا الاستخدام وبذل المنافع، قالوا: والأحاديث المذكورة إنما تدلُّ على التطوُّع ومكارِمِ الأخلاق، فأين الوجوبُ منها؟
واحتج من أوجب الخدمة، بأن هذا هو المعروف عند من خاطبهم الله سبحانه بكلامه، وأما ترفيهُ المرأةِ، وخدمةُ الزوج، وكنسُه، وطحنُه، وعجنُه، وغسيلُه، وفرشُه، وقيامُه بخدمة البيت، فَمِنَ المنكر، والله تعالى يقول:{ ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَليْهنَّ بِالمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] وقال :{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلى النِّسَاءِ} [النساء: 34] وإذا لم تخدِمْه المرأةُ، بل يكون هو الخادِمَ لها، فهى القَوَّامَةُ عليه.
وأيضاً: فإن المهر فى مقابلة البُضع، وكُلٌّ مِن الزوجين يقضى وطرَه مِن صاحبه فإنما أوجبَ الله سبحانه نفقتَها وكُسوتها ومسكنَها فى مقابلة استمتاعه بها وخدمتها، وما جرت به عادةُ الأزواج.
وأيضاً فإن العقود المطلقة إنما تُنَزَّلُ على العرف، والعُرفُ خدمةُ المرأة، وقيامُها بمصالح البيت الداخلة، وقولُهم: إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعاً وإحساناً يردُّه أن فاطمة كانت تشتكى ما تلقى مِن الخِدمة، فلم يَقُلْ لعلتى: لا خِدمة عليها، وإنما هى عليك، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُحابى فى الحكم أحداً، ولما رأى أسماء والعلفُ على رأسها، والزبيرُ معه، يقل له: لا خِدمةَ عليها، وأن هذا ظلمٌ لها، بل أقرَّه على استخدامها، وأقرَّ سائِرَ أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه بأن منهن الكارِهَة والراضية، هذا أمر لا ريب فيه.
ولا يَصِحُّ التفريقُ بين شريفة ودنيئة، وفقيرةٍ وغنية، فهذه أشرفُ
نساء العالمين كانت تَخْدِمُ زوجها، وجاءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشكُو إليه الخدمة، فلم يُشْكِهَا، وقد سمَّى النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الحديث الصحيح المرأة عانيَةُ، فقال: "اتَّقُوا اللهَ فى النّساءِ، فإِنَّهُنَّ عَوانٍ عِنْدَكُم". والعانى: الأسير، ومرتبة الأسير خدمةُ من هو تحت يده، ولا ريبَ أن النكاح نوعٌ من الرِّق، كما قال بعضُ السلف: النكاح رِق، فلينظر أحدُكم عند من يُرِقُّ كريمته، ولا يخفى على المنصف الراجحُ من المذهبين، والأقوى من الدليلين.
حُكْمُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الزوجين يَقَعُ الشِّقَاقُ بينهما
روى أبو داود فى "سننه": من حديث عائشة رضى الله عنها، أن حبيبةَ بنتَ سهل كانت عند ثابت بنِ قيس بن شمَّاس، فضربها، فكَسَرَ بعضَها، فأَتَتِ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدَ الصُّبْحِ، فدعا النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثابتاً، فقال: " خُذْ بَعْضَ مَالِها وفَارِقْها" ، فقال: ويصلُح ذلك يا رسولَ الله؟ قال: "نعم"، قال: فإنى أَصدقتُها حَديقتَينِ، وهُما بيدها، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُذْهُما وفَارِقْها" ، فَفَعَل.
وقد حكم الله تعالى بين الزوجين يقعُ الشِّقاقُ بينهما بقوله تعالى :{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهمَا فَابْعَثْوا حَكَماً مِنْ أهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبيراً} [النساء: 35].
وقد اختلف السلفُ والخَلَفُ فى الحَكَمين: هل هُما حاكمان، أو
وكيلان؟ على قولين.
أحدهما: أنهما وكيلان، وهو قولُ أبى حنيفة، والشافعى فى قول، وأحمد فى رواية.
والثانى: أنهما حاكمان، وهذا قولُ أهلِ المدينة، ومالك، وأحمد فى الرواية الأخرى، والشافعى فى القول الآخر، وهذا هو الصحيح.
والعجبُ كُلُّ العجب ممن يقول: هما وكيلان لا حاكمان، والله تعالى قد نصبهما حَكَمين، وجعل نصَبهما إلى غير الزوجين، ولو كانا وكيلين، لقال: فليبعث وكيلاً مِن أهله، ولتبعث وكيلاً من أهلها.
وأيضاً فلو كانا وكيلين، لم يختصا بأن يكونا مِن الأهل.
وأيضاً فإنه جعل الحُكْمَ إليهما فقال: {إن يُريدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] والوكيلان لا إرادة لهما، إنما يتصرَّفان بإرادة موَكِّليهما.
وأيضاً فإن الوكيل لا يُسمى حَكماً فى لغة القرآن، ولا فى لسان الشارع، ولا فى العُرف العام ولا الخاص.
وأيضاً فالحَكَمُ مَنْ له ولاية الحُكْمِ والإلزام، وليس للوكيل شىء من ذلك.
وأيضاً فإن الحَكَم أبلغُ مِن حاكم، لأنه صفة مشبهة باسم الفاعل دالة على الثبوت، ولا خلاف بين أهل العربية فى ذلك، فإذا كان اسمُ الحاكم لا يصدُق على الوكيل المحض، فكيف بما هو أبلغُ منه.
وأيضاً فإنه سبحانه خاطب بذلك غيرَ الزوجين، وكيف يَصِحُّ أن يُوكِّل عن الرجل والمرأة غيرَهما، وهذا يُحوِجُ إلى تقدير الآية هكذا :{وإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35] فمروهما أن يُوكِّلا وكيلين: وكيلاً من أهله ووكيلاً من أهلها،
ومعلومٌ بُعْدُ لفظِ الآية ومعناها عن هذا التقدير، وأنها لا تدلُّ عليه بوجه، بل هى دالة على خلافه، وهذا بحمد الله واضح.
وبعث عثمانُ بنُ عفان عبد الله بنَ عباس ومعاويةَ حَكَمَيْنِ بين عقيل بن أبى طالب وامرأته فاطمةَ بنت عُتبة بن ربيعة، فقيل لهما: إن رأيتُما أن تُفَرِّقا فرقتما.
وصحَّ عن على بن أبى طالب أنه قال لِلحكَمَيْنِ بين الزوجين: عَلَيْكُمَا إن رأيتُما أن تفرِّقا، فرَّقتما، وإن رأيتُمَا أن تَجْمَعَا، جمعتُما.
فهذا عثمانُ، وعلىُّ، وابنُ عباس، ومعاوية، جعلوا الحكم إلى الحكمين، ولا يُعرف لهم من الصحابة مخالف، وإنما يُعرف الخلاف بين التابعين فمن بعدهم. والله أعلم.
وإذا قلنا: إنهما وكيلان، فهل يُجبر الزوجانِ على توكيل الزوج فى الفُرقة بعوضٍ وغيره، وتوكيلِ الزوجة فى بذل العِوَضِ، أو لا يُجبران؟ على روايتين، فإن قلنا: يجبران، فلم يوكلا، جعل الحاكمُ ذلك إلى الحكمين بغير رضى الزوجين وإن قلنا: إنهما حكمان، لم يحتج إلى رضى الزوجين.
وعلى هذا النزاع ينبنى ما لو غاب الزوجان أو أحدُهما، فإن قيل: إنهما وكيلان لم ينقطع نظرُ الحكمين، وإن قيل: حكمان، انقطع نظرهُما لعدم الحكم على الغائب، وقيل: يبقى نظرهما على القولين لأنهما يتطرفان لحظهما، فهما كالناظرين. وإن جُنَّ الزوجانِ، انقطع نظرُ الحكمين،
إن قيل: إنهما وكيلان، لأنهما فرعُ الموكلين، ولم ينقطع إن قيل: إنهما حكمان، لأن الحاكم يلى على المجنون، وقيل: ينقطع أيضاً لأنهما منصوبان عنهما، فكأنهما وكيلانِ، ولا ريبَ أنهما حكمان فيهما شائبة الوكالة، ووكيلان منصوبان للحكم، فمِن العلماء من رجَّح جانب الحكم، ومنهم من رجح جانب الوكالة، ومنهم من اعتبر الأمرين.
حُكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخُلع
فى صحيح البخارى: عن ابن عباس رضى الله عنه، أن امرأة ثابت بن قيس بن شمَّاس، أَتَتِ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسولَ الله، ثابتُ بنُ قيس ما أَعِيبُ عليه فى خُلُقٍ، ولا دِين، وَلكِنِّى أكُرهُ الكُفْرَ فى الإِسْلامِ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَرُدِّين عَلَيْهِ حَدِيقَتَه؟" قالت: نعم، قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقُبَل الحَديقَةَ وطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً".
وفى سنن النسائى، عن الرُّبَيِّع بِنْتِ مُعَوِّذ، أن ثابتَ بن قيس بن شماس ضَرَبَ امرأته فَكَسَرَ يدها، وهى جميلة بنت عبد الله بن أبى، فأتى أخوها يشتكيه إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل إليه، فقال: "خُذْ الذى لَهَا عَلَيْكَ وخَلِّ سَبِيلَها"، قال : نعم، فأمرها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تتربَّصَ حيضةً وَاحِدَةً وتلحق بأهلها.
وفى سنن أبى داود: عن ابن عباس، أنَّ امرأة ثَابتِ بن قيسِ بن شمَّاس اختلعت من زوجها، فأمرها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تعتدَّ حَيْضَة.
وفى سنن الدارقطنى فى هذه القصة: فقال النبىٌّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَرُدِّين عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتى أَعْطَاكِ"؟ قالت: نَعَمْ وَزِيادَة، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا الزِّيادَةُ، فَلا ولكِنْ حَدِيقَتَهُ "، قالت: نعم، فأخذ مالَه، وخلَّى سبيلها، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال: قد قبلتُ قضاءَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الدارقطنى: إسناده صحيح.
فتضمَّن هذا الحكم النبوى عدة أحكام.
أحدُها: جوازُ الخُلْع كما دلَّ عليه القرآن، قال تعالى :{وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إلاَّ أَنْ يَخَافَا أَنْ لاَ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بهِ} [البقرة: 229].
ومنع الخلعَ طائفةٌ شَاذَّة من الناس خالفتِ النصَّ والإجماعَ.
وفى الآية دليل على جوازه مطلقاً بإذن السلطان وغيره، ومنعه طائفة بدون إذنه، والأئمة الأربعة والجمهورُ على خلافه.
وفى الآية دليل على حصول البينونة به، لأنه سبحانه سمَّاه فدية، ولو كان رجعياً كما قاله بعضُ الناسِ لم يحصل للمرأة الافتداءُ من الزوج بما بذلته له، ودلَّ قولُه سبحانه: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه} [البقرة: 229] على جوازِه بما قل وكثُر وأن له أن يأخُذَ منها أكثرَ مما أعطاها.
وقد ذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل،
أن الرُّبَيِّعَ بنْتَ مُعَوِّذِ بنِ عفراء حدثته، أنها اختلعت مِن زوجها بِكُلِّ شىء تملكه، فخُوصِمَ فى ذلك إلى عثمان بن عفان، فأجازه، وأمره أن يأخُذ عِقَاصَ رأسها فما دُونَه.
وذكر أيضاً عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع، أن ابن عمر جاءته مولاة لامرأته اختلعت مِن كل شىء لها وكلِّ ثوب لها حتى نُقبتِها.
ورفعت إلى عمر بن الخطاب امرأة نشزت عَنْ زوجها، فقال: اخلعها ولو مِن قُرطها، ذكره حماد بن سلمة، عن أيوب، عن كثير بن أبى كثير عنه.
وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن ليث، عن الحكم بن عُتيبة عن على بن أبى طالب رضى الله عنه: لا يأخُذُ منها فوقَ ما أعطاها.
وقال طاووس: لا يَحِلُّ أن يأخُذَ منها أكثَر مما أعطاها، وقال عطاء: إن أخذ زيادةً على صداقها فالزيادةُ مردودة إليها. وقال الزهرى: لا يَحلُّ له أن يأخذ منها أكثرَ مما أعطاها. وقال ميمون بن مهران: إن أخذ منها
أكثر مما أعطاها لم يُسَرِّحُ بإِحسان. وقال الأوزاعي: كانت القضاةُ لا تُجيز أن يأخُذ منها شيئاً إلا ما ساق إليها.
والذين جوَّزوه احتجوا بظاهر القرآن، وآثارِ الصحابة، والذين منعوه، احتجوا بحديث أبى الزبير، أن ثابت بن قيس بن شماس لما أراد خَلْعَ امرأته، قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ"؟ قالت: نعم وَزِيادة، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما الزيادة، فلا. قال الدارقطنى: سمعه أبو الزبير من غير واحد، وإسناده صحيح.
قالوا: والآثار من الصحابة مختلِفَة، فمنهم من رُوِىَ عنه تحريمُ الزيادة، ومنهم من رُوِىَ عنه إباحتها، ومنهم مَنْ رُوِىَ عنه كراهتُها، كما روى وكيع عن أبى حنيفة، عن عمار بن عمران الهمدانى، عن أبيه، عن على رضى الله عنه، أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، والإمامُ أحمد أخذ بهذا القولِ، ونصَّ على الكراهة، وأبو بكر من أصحابه حرَّم الزيادة، وقال: ترد عليها.
وقد ذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قال لى عطاء: أتت امرأة رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسولَ الله، إنى أُبْغِضُ زوجى وأُحِبُّ فراقه، قال: "فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ التى أَصْدَقَكِ"؟ قالت: نعم وَزِيادة مِن مالى، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا الزِّيادَةُ منْ مَالِك فَلا ولكِنِ الحَدِيقَةُ"، قالت: نعم، فقضى بذلك على الزوج وهذا وإن كان مرسلاً، فحديث أبى الزبير مُقَوٍّ له، وقد رواه جريج عنهما.
فصل
وفى تسميتة سبحانه الخلعَ فديةً، دليل على أن فيه معنى المعاوضةِ، ولهذا اعتُبر فيه رضى الزوجين، فإذا تَقَايَلا الخلعَ وردَّ عليها ما أخذ منها، وارتجعها فى العِدة، فهل لهما ذلك؟ منعه الأئمة الأربعة وغيرهم وقالوا قد بانت منه بنفس الخلع، وذكر عبد الرازق، عن معمر، عن قتادة، عن سعيد بن المسيِّب أنه قال فى المختلعة: إن شاء أن يُراجِعَها، فليردَّ عليها ما أخذ منها فى العدة، وليشهد على رجعتها. قال معمر: وكان الزهرى يقول مثل ذلك. قال قتادة: وكان الحسن يقول: لا يُراجعها إلا بخطبة.
ولقولِ سعيد بن المسيب، والزهرى وجهٌ دقيق مِن الفقه، لطيفُ المأخذ، تتلقاه قواعِدُ الفقِه وأصوله بالقبول، ولا نكارة فيه، غير أن العملَ على خلافه، فإن المرأة ما دامت فى العدة فهى فى حبسه، ويلحقُها صريحُ طلاقه المنجز عند طائفة من العلماء، فإذا تقايلا عقد الخلع، وتراجعا إلى ما كان عليه بتراضيهما، لم تمنع قواعدُ الشرع ذلك، وهذا بخلاف ما بعدَ العِدة، فإنها قد صارت منه أجنبية محضة، فهو خاطبٌ من الخطاب، ويدل على هذا أن له يتزوجها فى عدتها منه بخلاف غيره.
فصل
وفى أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المختلعة أن تعتدَّ بحيضة واحدة، دليل على حُكمين أحدهما: أنه لا يجبُ عليها ثلاثُ حيض، بل تكفيها حيضة واحدة، وهذا
كما أنه صريحُ السنة، فهو مذهبُ أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، والرُّبَيِّع بِنْت مُعَوِّذ، وعمها وهو مِن كبار الصحابة، لا يُعرف لهم مخالفٌ منهم، كما رواه الليث بن سعد، عن نافع مولى ابن عمر، أنه سمع الرُّبَيِّعَ بنتَ معوِّذِ بن عفراء وهى تُخبِرُ عبد الله بن عمر رضى الله عنه أنها اختلعت مِن زوجها على عهد عثمان بن عفان، فجاء عمُّها إلى عثمان ابن عفان، فقال له: إن ابنة مُعَوِّذٍ اختلعت من زوجها اليوم، أفتنتقل؟ فقال عثمان: لِتنتقِلْ ولا ميراثَ بينهما، ولا عِدة عليها إلا أنها لا تَنْكِحُ حتى تحيضَ حيضةُ خشيةَ أن يكون بها حبل. فقال عبد الله بن عمر: فعثمان خيرُنا وأعلمُنا ؛ وذهب إلى هذا المذهب إسحاق بن راهوية، والإمام أحمد فى رواية عنه، اختارها، شيخُ الإسلام ابن تيمية.
قال من نصر هذا القول: هو مقتضى قواعِدِ الشريعة، فإن العدة إنما جُعِلَتْ ثلاثَ حيضِ ليطولَ زمن الرجعة، فيتروَّى الزوج، ويتمكَّن من الرجعة فى مدة العِدة فإذا لم تكن عليها رجعة، فالمقصودُ مجردُ براءة رَحِمِها من الحمل، وذلك يكفى فيه حيضة، كالاستبراء. قالوا: ولا ينتقضُ هذا علينا بالمطلقةِ ثلاثاً، فإن باب الطلاق جُعِلَ حكمُ العدة فيه واحداً بائنة ورجعية.
قالوا: وهذا دليل على أن الخلع فسخ، وليس بطلاق، وهو مذهبُ ابن عباس، وعثمان، وابن عمر، والرُّبيع، وعمها، ولا يَصِحُّ عن صحابى أنه طلاق ألبتة، فروى الإمام أحمد، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن عمرو، عن طاووس، عن ابن عباس رضى الله عنهم أنه قال: الخُلْعُ
تفريقٌ، وليس بطلاق.
وذكر عبد الرزاق، عن سُفيان، عن عمرو، عن طاووس، أن إبراهيم بن سعد ابن أبى وقاص سأله عن رجل طلَّق امرأته تطليقتين، ثم اختلعت منه، أينكِحُها؟ قال ابنُ عباس: نعم ذكر الله الطلاقَ فى أوَّل الآية وآخِرها، والخلعَ بين ذلك.
فإن قيل: كيف تقولون: إنه لا مخالف لمن ذكرتُم مِن الصحابة، وقد روى حمادُ ابن سلمة، عن هشام بنِ عُروة، عن أبيه، عن جُمْهَانَ، أن أم بكرة الأسلمية كانت تحتَ عبد الله بن أُسيد واختلعت منه، فَندِما، فارتفعا إلى عُثمان بن عفان، فأجاز ذلك، وقال: هى واحدة إلا أن تكونَ سمَّت شيئاً، فهو على ما سمَّت.
وذكر ابنُ أبى شيبة: حدثنا على بن هاشم، عن ابن أبى ليلى، عن طلحة بن مصرِّف، عن إبراهيم النَّخعى، عن علقمة، عن ابن مسعود، قال: لا تكون تطليقة بائنة إلا فى فدية أو إيلاء. وروُى عن على بن أبى طالب، فهؤلاء ثلاثةُ مِن أجلاء الصحابة رضى الله عنهم.
قيل: لا يَصِحُّ هذا عن واحد منهم، أما أثر عثمان رضى الله عنه، فطعن فيه الإمام أحمد، والبيهقى، وغيرُهما، قال شيخنا: وكيف يَصِحُّ عن عثمان، وهو لا يرى فيه عِدة، وإنما يرى الاستبراء فيه بحيضة؟ فلو كان عنده طلاَقاً، لأوجب فيه العدة، وجُمْهَانُ الراوى لهذه القصة عن عثمان لا نعرفه بأكثر من أنه مولى الأسلميين.
وأما أثر على بن أبى طالب، فقال أبو محمد ابن حزم: رويناه من طريق لا يصح عن على رضى الله عنه. وأمثلها: أثر ابنِ مسعودَ على سوء حفظ ابن أبى ليلى، ثم غايتُه إن كان محفوظاً أن يدُلَّ على أن الطلقة فى الخلع تقع بائنة لا أن الخلع يكون طلاقاً بائناً، وبين الأمرين فرق ظاهر.
والذى يَدُلُّ على أنه ليس بطلاق أن الله سبحانه وتعالى رتَّبَ على الطَّلاقِ بعد الدُّخولِ الذى لم يَستوفِ عدده ثلاثة أحكام، كلُّها منتفية عن الخلع. أحدها: أن الزوجَ أحقُّ بالرجعة فيه. الثانى: أنه محسوب مِن الثلاث، فلا تَحِلُّ بعد استيفاء العدد إلا بعد زوج وإصابة. الثالث: أن العدة فيه ثلاثةُ قروء، وقد ثبت بالنصِّ والإجماع أنه لا رجعة فى الخُلع وثبت بالسنة وأقوالِ الصحابة أن العِدة فيه حيضةٌ واحدة، وثبت بالنص جوازه طلقتين، ووقوع ثالثة بعده، وهذا ظاهر جداً فى كونه ليس بطلاق، فإنه سبحانه قال :{الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكُ بِمَعرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُم أن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إلاَّ أنْ يَخَافَا أنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُم أنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ الله فلا جُناحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وهذا وإن لم يختص بالمطلقة تطليقتين، فإنه يتناولها وغيرَهما، ولا يجوزُ أن يعودَ الضميرُ إلى من لم يذكر، ويُخلى منه المذكور، بل إما أن يختصَّ بالسابق أو يتناوله وغيره، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَها فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230] وهذا يتناولُ مَنْ طلقت بعد فديةٍ وطلقتين قطعاً لأنها هى المذكورة، فلا بُدَّ من دخولها تحت اللفظ، وهكذا فَهِمَ ترجُمانُ القرآن الذى دعا له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُعلِّمَه اللهُ تأويلَ القُرآن، وهى دعوة مستجابة بلا شكٍّ.
وإذا كانت أحكامُ الفدية غيرَ أحكامِ الطَّلاقِ، دَلَّ على أنها من غيرِ جِنسه، فهذا مقتضى النصِّ، والقياسِ، وأقوالِ الصحابة، ثم من نظر
إلى حقائقِ العقود ومقاصِدها دون ألفاظها يَعُدُّ الخلع فسخاً بأى لفظٍ كان حتى بلفظ الطَّلاقِ، وهذا أحدُ الوجهين لأصحاب أحمد، وهو اختيارُ شيخنا. قال: وهذا ظاهرُ كلامِ أحمد، وكلام ابن عباس وأصحابه. قال ابنُ جريج: أخبرنى عمروُ بنُ دينار، أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول: ما أجازَه المالُ، فليسَ بطلاقٍ. قال عبدُ الله بنُ أحمد: رأيتُ أبى كان يذهبُ إلى قول ابن عباس. وقال عمرو، عن طاووس عن ابن عباس: الخلعُ تفريقٌ وليس بطلاق، وقال ابنُ جريج، عن ابن طاووس: كان أبى لا يرى الفداء طلاقاً ويُخِّيرُه.
ومن اعتبر الألفاظ ووقفَ معها، واعتبرها فى أحكام العُقودِ، جعله بلفظ الطلاق طلاقاً، وقوَاعِدُ الفقه وأصولُه تشهد أن الرْعِىَّ فى العقود حقائقُها ومعانيها لا صورُها وألفاظُها، وبالله التوفيق.ومما يَدُلُّ على هذا، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر ثابتَ بنَ قيس أن يُطلِّق امرأتَه فى الخُلعِ تطليقةً، ومع هذا أمرها أن تعتدَّ بحيضة، وهذا صريحُ فى أنه فسخ، ولو وقع بلفظ الطلاق.
وأيضاً فإنه سبحانه علَّق عليه أحكامَ الفدية بكونه فدية، ومعلومُ أنَّ الفِدية لا تختص بلفظ، ولم يُعين الله سبحانه لها لفظاً معيَّناً، وطلاقُ الفداء طلاقُ مقيَّد، ولا يدخل تحت أحكام الطلاق المطلق، كما لا يدخلُ تحتها فى ثبوت الرجعة والاعتداد بثلاثة قروء بالسنة الثابتة، وبالله التوفيق.
ذكرُ أحكام رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الطلاق
ذكر حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى طلاق الهازل، وزائل العقل، والمكرَه والتطليق فى نفسه
فى "السنن": من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، "ثَلاَثُ جِدُّهُنَّ جِدُّ، وهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، والطَّلاَقُ، والرَّجْعَةُ".
وفيها: عنه من حديث ابن عباس: " إنَّ الله وَضَعَ عَنْ أُمَّتِى الخَطَأَ والنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ".
وفيها: عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " لا طَلاَقَ ولا عتاق فى إِغْلاقٍ".
وصح عنه أنه قال للمُقِرِّ بالزنى: "أبِكَ جُنُونُ"؟
وثبت عنه أنه أمرَ بِهِ أن يُستنكه.
وذكر البخارى فى "صحيحه": عن على، أنه قال لِعُمَر: ألم تعلم أَنَّ القلم رُفِعَ عن ثلاث: عن المجنونِ حتى يُفيقَ، وعن الصَّبِىِّ حتى يُدرِكَ، وعن النائم حتى يستيقظ.
وفى "الصحيح" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّ الله تَجَاوَزَ لأُمَّتِى عَمَّا حَدَّثت بِهِ أنفُسَها مَا لَمْ تكَلَّمْ، أَو تَعْملْ بِه ".
فتضمَّنت هذه السنن، أن ما لم يَنْطِقْ به اللسان مِن طلاق أو عِتاق، أو يمين، أو نذر ونحوِ ذلك، عفوٌ غيرُ لازم بالنية والقصد، وهذا قولُ الجمهور، وفى المسألة قولان آخرانِ.
أحدهما: التوقف فيها، قال عبد الرزاق، عن معمر: سئل ابنُ سيرين عمن طلَّق فى نفسه، فقال: أليس قد عَلِمَ الله ما فى نفسك؟ قال: بلى، قال: فلا أقولُ فيها شيئاً.
والثانى: وقوعُه إذا جزَم عليه، وهذا روايةُ أشهب عن مالك، ورُوى عن الزهرى وحجةُ هذا القول قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ"، وأن من كفر فى نفسه، فهو كفر، وقوله تعالى:{ وإنْ تُبْدُوا مَا فى أَنْفُسِكُم أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} [البقرة: 284]، وأن المصرَّ على المعصية فاسق مؤاخذ وإن لم يفعلها، وبأن أعمالَ القلوب فى الثواب والعقاب كأعمالِ الجوارح، ولهذا يُثاب على الحبِّ والبُغض، والموالاة والمعاداة فى الله، وعلى التوكُّل والرِّضى، والعزمِ على الطاعة ويُعاقَبُ على الكِبر والحَسَدِ، والعُجب والشكِّ، والرِّياءِ وظنِّ السوء بالأبرياء.
ولا حُجة فى شىء من هذا على وقوعِ الطلاق والعتاق بمجرد النيةِ مِن غير تلفظ أما حديثُ "الأعمال بالنيات": فهو حجةٌ عليهم، لأنه أخبر فيه أن العملَ مع النية هو المعتبرُ، لا النية وحدَها، وأما من اعتقد الكُفْرَ بقلبه أو شكَّ، فهو كافر لِزوال الإيمان الذى هو عقدُ القلب مع الإقرار، فإذا زالَ العقدُ الجازمُ، كان نفسُ زواله كفراً، فإن الإيمانَ أمر وجودى ثابتٌ قائم بالقلب، فما لم يَقُمْ بالقلب، حَصَلَ ضده وهو كفر، وهذا كالعلم والجهل إذا فقد العلم، حصل الجهل، وكذلك كلُّ نقيضين زال أحدُهما خلفه الآخر.
أما الآية فليس فيها أن المحاسبةَ بما يُخفيه العبدُ إلزامه بأحكامه بالشرع، وإنما فيها محاسبتُه بما يُبديه أو يُخفيه، ثم هو مغفور له أو معذَّب، فأين هذا من وقوع الطلاق بالنية. وأما أن المصرَّ على المعصية فاسقٌ مؤاخذ، فهذا إنما هو فيمن عَمِلَ المعصية، ثم أصرَّ عليها، فهُنا عمل اتصل به العزمُ علي معاودته، فهذا هو المُصِرُّ، وأما مَنْ عزم على المعصية ولم يَعْمَلْها، فهو بين أمرينِ، إما أن لا تُكتب عليه، إما أن تُكتب له حسنة إذا تركها للَّه عز وجل. وأما الثوابُ والعقابُ على أعمال القلوب فحقٌّ، والقرآنُ والسنة مملوآن به، ولكن وقوعُ الطلاق والعتاق بالنية من غير تلفُّظ أمر خارج عن الثواب والعقاب، ولا تلازم بين الأمرين، فإن ما يُعاقب عليه مِن أعمال القلوب هو معاصٍ قلبية يستحقُّ العقوبة عليها، كما يستحقُّه على المعاصى البدنية إذ هى مُنافية لعبودية القلب، فإن الكِبر والعُجب والرياء وظنَّ السوء محرَّمات على القلب، وهى أمور اختيارية يمكن اجتنابُها فيستحق العقوبة على فعلها، وهى أسماءٌ لمعان مسمياتها قائمةٌ بالقلب.
وأما العِتاق والطلاق، فاسمان لمسميين قائمين باللسان، أو ما نابَ عنه من إشارة أو كتابة، ولبسا اسمين لما فى القلب مجرداً عن النطق.
وتضمنت أن المكلف إذا هَزَلَ بالطلاق، أو النِّكاح، أو الرجعة، لَزِمَهُ ما هَزَلَ به فدل ذلك على أن كلامَ الهازل معتبر وإن لم يُعتبر كلامُ النائم والناسى، وزائلِ العقل والمكرَه، والفرقُ بينهما أن الهازلَ قاصدُ للفظ غيرُ مريد لحكمه، وذلك ليس إليه، فإنما إلى المكلَّف الأسباب، وأما ترتُّبُ مسبَّباتها وأحكامها، فهو إلى الشارع قصده المكلفُ أو لمَ يقصِدْه، والعبرةُ بقصده السبب اختياراً فى حال عقله وتكليفه، فإذا قصده، رتَّبَ الشارعُ عليه حُكمه جدَّ به أو هَزَلَ، وهذا بخلاف النائم والمُبَرْسَمِ، والمجنون
والسكرانِ وزائل العقل، فإنهم ليس لهم قصد صحيح، وليسوا مكلفين، فألفاظُهم لغو بمنزلة ألفاظِ الطفل الذى لا يعقِلُ معناها، ولا يقصِدُه.
وسِرُّ المسألة الفرقُ بين من قصد اللفظ، وهو عالِم به ولم يُرد حكمه، وبين من لم يَقصِدْ اللفظ ولم يعلم معناه، فالمراتبُ التى اعتبرها الشارع أربعةُ.
إحداها: أن يَقصدَ الحكم ولا يَتَلَفَّظ به.
الثانية: أن لا يَقصِدَ اللفظ ولا حُكمَه.
الثالثة : أن يَقْصِدَ دُون حكمه.
الرابعة : أن يقصِدَ اللفظ والحكم. فالأوليان لغو، والآخرتان معتبرتان. هذا الذى أستُفِيدَ مِن مجموع نصوصه وأحكامِه، وعلى هذا فكلامُ المكرَه كُلُّه لغو لا عِبرةَ به.
وقد دلّ القرآن على أن من أُكْرِهَ على التكلم بكلمة الكفر لا يَكْفُرُ، ومن أكره على الإسلام لا يصيرُ به مسلماً، ودلَّتِ السنةُ على أن الله سبحانه تجاوز عن المكره، فلم يُؤاخِذْه بما أُكْرِهَ عليه، وهذا يُراد به كلامه قطعاً، وأما أفعالهُ، ففيها تفصيلٌ، فما أبيح منها بالإكراه فهو متجاوز عنه، كالأكل فى نهار رمضان، والعملِ فى الصلاة، ولبس المخيط فى الإحرام ونحو ذلك، وما لا يُباح بالإكراه، فهو مُؤَاخذ به، كقتل المعصوم، وإتلافِ ماله، وما اختلف به كشُرب الخمر والزنى والسرقة هل يُحَدُّ به أو لا؟ فالاختلافُ، هل يباح ذلك بالإكراه أو لا؟ فمن لم يُبِحْه حدَّه به، ومن أباحه بالإكراه لم يحُدَّه، وفيه قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد.
والفرق بين الأقوال والأفعال فى الإكراه ؛ أن الأفعالَ إذا وقعت، لم ترتفعْ مفسدتُها، بل مفسدتُها معها بخلاف الأقوال، فإنها يمكن إلغاؤها.
وجعلُها بمنزلة أقوالِ النائم والمجنون، فمفسدةُ الفعل الذى لا يُباح بالإكراه ثابتة بخلاف مفسدة القول، فإنها إنما تثبت إذا كان قائلُه عالماً به مختاراً له. وقد روى وكيع عن ابن أبى ليلى، عن الحكم بن عتيبة، عن خيثمة ابن عبد الرحمن، قال: قالت امرأةٌ لزوجها: سمنى، فسمَّاها الظبية، فقالت: ما قلت شيئاً، قال: فهاتِ ما أُسميك به، قالت: سمنى خليةً طالقاً، قال: أنت خَلِيَّةٌ طالق، فأتت عمر ابن الخطاب، فقالت: إن زوجى طلَّقنى، فجاء زوجُها، فقصَّ عليه القصة، فأوجع عمر رأسَها، وقال لزوجها: خذ بيدها، وأوجعْ رأسها.
فهذا الحكمُ من أمير المؤمنين بعدم الوقوع لما لم يقصد الزوجُ اللفظ الذى يقع به الطلاقُ، بل قصد لفظاً لا يُريد به الطلاق، فهو كما لو قال لأمتِه أو غُلامِه: إنها جرة، وأراد أنها ليست بفاجِرة، أو قال لامرأته: أنت مسرَّحة، أو سرحتُك، ومرادُه تسريح الشعر ونحو ذلك، فهذا لا يقع عتقُه ولا طلاقُه بينه وبينَ الله تعالى، وإن قامت قرينةٌ أو تصادقا فى الحكم لم يقع به.
فإن قيل: فهذا من أى الأقسام؟ فإنكم جعلتم المراتبَ أربعة، ومعلومٌ أن هذا ليس بمكرَه ولا زائل العقل، ولا هازل، ولا قاصدٍ لحكم اللفظ؟ قيل: هذا متكلم باللفظ مريد به أحدَ معنييه، فلزم حكم ما أراده بلفظه دون ما لم يرده، فلا يلزم بما لم يرده باللفظ إذا كان صالحاً لما أراده، وقد استحلف النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُكانَة لما طلَّق امرأته ألبتة، فقال: ما أردتَ؟ قال: واحدة، قال: آللَّهِ، قال: هو ما أردتَ، فقبل منه
نيَّته فى اللفظ المحتمل.
وقد قال مالك: إذا قال: أنت طالق البتة، وهو يُريد أن يحلِفَ على شىء ثم بدا له، فترك اليمين، فليست طالقاً، لأنه لم يُرد أن يطلقها، وبهذا أفتى الليث بن سعد، والإمامُ أحمد، حتى إن أحمد فى رواية عنه: يُقبل منه ذلك فى الحكم.
وهذه المسألة لها ثلاثُ صور.
إحداها : أن يرجع عن يمينه ولم يكن التنجيزُ مرادَه، فهذه لا تطلُق عليه فى الحال، ولا يكون حالفاً.
الثانية : أن يكون مقصودُه اليمينَ لا التنجيزَ، فيقول: أنت طالق، ومقصودُه: إن كلمت زيداً.
الثالثة : أن يكونَ مقصودُه اليمينَ مِن أول كلامه، ثم يرجعُ عن اليمين فى أثناء الكلام، ويجعل الطلاق منجزاً، فهذا لا يقعُ به، لأنه لا ينو به الإيقاع، وإنما نوى به التعليق، فكان قاصراً عن وقوع المنجز، فإذا نوى التنجيزَ بعد ذلك لم يكن قد أتى فى التنجيز بغير النية المجردة، وهذا قولُ أصحاب أحمد. وقد قال تعالى :{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فى أَيْمَانِكُم ولكِنْ يُؤْاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225].
واللغو: نوعان، أحدهما: بأن يحلِفَ على الشىء يظنُّه كما حلف عليه، فيتبينُ بخلافه. والثانى: أن تجرى اليمين على لِسانه من غير قصد للحلف، كَلاَ واللهِ، وبَلَى واللهِ فى أثناء كلامه، وكلاهما رفع الله المؤاخذة به، لعدم قصد الحالف إلى عقد اليمين وحقيقتها، وهذا تشريعٌ منه سبحانَه لعباده ألا يرتِّبوا الأحكامَ على الألفاظ التى لم يقصِدِ المتكلمُ بها حقائقَها ومعانيهَا، هذا غيرُ الهازل حقيقةَ وحكماً.
وقد أفتى الصحابةُ بعدم وقوع طلاق المكرَه وإقرارِه، فصحَّ عن عمر أنه قال: ليس الرجلُ بأمينٍ على نفسه إذا أوجعتَه أو ضربتَه أو أوثقتَه، وصحَّ عنه أن رجلاً تدلَّى بحبل ليَشْارَ عسلاً، فأتت امرأته فقالت: لأقطعنَّ الحبل، أو لتُطلِّقنى، فناشدها الله، فأبت، فطلَّقَها، فأتى عمر، فذكر له ذلك، فقال له: ارجع إلى امرأتك، فإن هذا ليس بطلاق. وكان علىُّ لا يُجيز طلاقَ الكره، وقال ثابت الأعرج: سألت ابنَ عمر، وابنَ الزبير عن طلاق المكره، فقالا جميعاً: ليس بشىءٍ.
فإن قيل: فما تصنعون بما رواه الغازى بن جَبَلة، عن صفوان بن عمران الأصم، عن رجلٍ من أصحاب رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن رجلاً جلست امرأتُه على صدره، وجعلت السكينَ على حلقه، وقالت له: طلقنى أو لأذبحنَّك، فناشدها، فأبت، فطلقها ثلاثاً، فذُكِرَ ذلك للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "لا قَيْلُولَة فى الطَّلاق" رواه سعيد بن منصور فى "سننه". وروى عطاءُ ابن عجلان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " كُلُّ الطَّلاقِ جَائِزٌ إلاَّ طَلاقَ المَعْتُوهِ والمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ".
وروى سعيد بن منصور: حدثنا فرج بن فضَالة، حدثنى عمرو بن شراحِيل المعافرى، أن امرأة استلَّتْ سيفاً، فوضعته على بطن زَوْجِهَا، وقالت: والله لأنفذنَّك، أو لُتطلِّقنِّى، فطلقها ثلاثاً، فرُفِعَ ذلِك إلى عمر بن الخطاب، فأمضى طلاقها. وقال على. كل الطلاقِ جائزٌ إلا طلاقَ المعتوه.
قيل: أما خبر الغازى بن جبلة، ففيه ثلاث علل. إحداها: ضعف صفوان بن عمرو، والثانية: لين الغازى بن جبلة، والثالثة. تدليس بقية
الراوى عنه، ومثل هذا لا يحتج به. قال أبو محمد ابن حزم: وهذا خبر فى غاية السقوط.
وأما حديث ابن عباس "كل الطلاق جائز" فهو من رواية عطاء بن عجلان، وضعفُه مشهور، وقد رُمى بالكذب. قال أبو محمد ابن حزم: وهذا الخبر شر من الأول.
وأما أثر عمر، فالصحيح عنه خلافه كما تقدم، ولا يُعلم معاصرة المعافرى لعمر، وفرج بن فضالة فيه ضعف.
وأما أثر على، فالذى رواه عنه الناس أنه كان لا يُجيز طلاق المكره وروى عبد الرحمن بن مهدى، عن حماد بن سلمة، عن حُميد، عن الحسن، أن على ابن أبى طالب رضى الله عنه، كان لا يُجيز طلاق المكره. فإن صح عنه ما ذكرتم، فهو عام مخصوص بهذا.
فصل
وأما طلاق السَّكرانِ، فقال تعالى :{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] ، فجعل سُبحانه قول السكران غيرَ معتبر، لأنه لا يَعْلَمُ ما يقولُ، وصحَّ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّه أمر بالمُقِرِّ بالزِّنى أن يُسَتنْكَهَ لِيعتبر قولُه الذى أقرَّ به أو يُلغى.
وفى صحيح البخارى فى قصة حمزة، لما عَقَرَ بَعْيِرَىْ عَلى، فجاء النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَقَفَ عليه يَلُومُه، فصعَّدَ فيه النَّظرَ وصوَّبه وهو سكران،
ثم قال: هلْ أَنْتُمْ إلا عَبيدٌ لأبى، فنكص النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عَقِبيْةِ. وهذا القولُ لو قاله غيرُ سكران، لكان رِدةً وكُفراً، ولم يُؤاخذ بذلك حمزة.
وصح عن عُثمانَ بنِ عفان رضى الله عنه أنه قال: ليس لِمجنون، ولا سكران طلاق. رواه ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن ابن أبى ذئب، عن الزهرى، عن أبان بن عثمان، عن أبيه.
وقال عطاء: طلاقُ السكران لا يجوزُ، وقال ابنُ طاووس عن أبيه: طلاقُ السكران لا يجوز. وقال القاسم بن محمد: لا يجوزُ طلاقه.
وصحَّ عن عمر بن عبد العزيز أنه أُتى بِسَكْرَان طلَّق، فاستحلفه باللهِ الذى لا إله إلا هو: لقد طلَّقها وهو لا يَعْقِلُ، فحلف، فرَدَّ إليه امرأته، وضربه الحد.
وهو مذهبُ يحيى بن سعيد الأنصارى، وحُميدِ بن عبد الرحمن، وربيعة، والليثِ بن سعد، وعبدِ الله بن الحسن، وإسحاق بن راهويه، وأبى ثور، والشافعى فى أحد قوليه، واختاره المزنىُّ وغيرُه من الشافعية، ومذهب أحمد فى إحدى الروايات عنه، وهى التى استقرَّ عليها مذهبُه، وصرَّح برجوعه إليها ؛ فقال فى رواية أبى طالب: الذى لايأمر بالطلاق، إنما أتى خصلةً واحدة، والذى يأمر بالطلاق، فقد أتى خصلتيْنِ حرَّمها
عليه، وأحلَّها لغيره، فهذا خيرٌ مِن هذا، وأنا أتقى جميعاً. وقال فى رواية الميمونى: قد كنتُ أقولُ: إن طلاق السكران يجوزُ تبينتُه، فغلب على: أنه لا يجوزُ طلاقه، لأنه لو أقر، لم يلزمه، ولو باع، لم يجز بيعُه، قال: وألزمه الجناية، وما كان من غير ذلك، فلا يلزمُه. قال أبو بكر عبد العزيز: وبهذا أقولُ، وهذا مذهبُ أهلِ الظاهر كُلِّهم، واختاره من الحنفية أبو جعفر الطحاوىُّ، وأبو الحسن الكرخىُّ.
والذين أوقعوه لهم سبعة مآخذ.
أحدُها: أنه مكلِّف، ولهذا يُؤاخذ بجناياته.
والثانى : أن إيقاع الطلاق عقوبةٌ له.
والثالث : أنَّ ترتب الطلاق على التطليق مِن باب ربط الأحكام بأسبابها، فلا يُؤثر فيه السُكر.
والرابع : أنَّ الصحابة أقاموه مقام الصَّاحى فى كلامه، فإنهم قالوا: إذا شرب، سَكِرَ، وإذا سَكِرَ، هذى، وإذا هَذَى، افترى، وحَدُّ المفترى ثمانون.
والخامس : حديث: "لا قيلولة فى الطلاق" وقد تقدم.
السادس : حديث "كُلُّ طلاقٍ جائِز إلا طلاقَ المعتوه"، وقد تقدم.
والسابع : أن الصحابة أوقعوا عليه الطلاق، فرواه أبو عُبيد عن عمر، معاوية، ورواه غيرُه عن ابن عباس. قال أبو عبيد: حدثنا يزيد بن هارون، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن الحارث، عن أبى لَبيد، أن رجلاً طلَّق امرأتَه وهو سكران، فَرُفِعَ إلى عمر بن الخطاب، وشهد عليه أربعُ
نِسوة ففرق عمر بينهما.قال: وحدثنا ابنُ أبى مريم، عن نافع بن يزيد، عن جعفر بن ربيعة، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيِّب، أن معاوية أجاز طلاقَ السكران. هذا جميعُ ما احتجوا به، وليس فى شىء منه حجةٌ أصلاً.
فأما المأخذُ الأوَّلُ، وهو: أنه مكلف، فباطل، إذ الإجماع منعقِدٌ على أن شرطَ التكليفِ العقلُ، ومن لا يعقِلُ ما يقول، فليس بمكلَّف.
وأيضاً فلو كان مكلفاً، لوجب أن يقع طلاقُه إذا كان مكرهاً على شُربها، أو غيرَ عالم بأنها خمر، وهم لا يقولون به.
وأما خطابُه، فيجب حملُه على الذى يعقِلُ الخطاب، أو على الصاحى، وأنه نُهى عن السكر إذا أراد الصلاة، وأما من لا يَعْقِلُ، فلا يُؤمر ولا ينهى.
وأما إلزامُه بجناياته، فمحلُّ نزاع لا محل وفاق، فقال عثمان البَتِّى: لا يلزمُه عقدٌ ولا بيع، ولا حدٌّ إلا حدَّ الخمر فقط، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد أنه كالمجنون فى كُلِّ فعل يُعتبر له العقلُ.
والذين اعتبروا أفعالَه دونَ أقواله، فرَّقوا بفرقين، أحدهما: أن إسقاطَ أفعاله ذريعةٌ إلى تعطيل القِصاص، إذ كُلُّ من أراد قتل غيره أو الزنى أو السرقة أو الحِراب، سَكِرَ وفعل ذلك، فيقام عليه الحدُّ إذا أتى جرماً واحداً، فإذا تضاعف جُرمُه بالسكر كيف يسقط عنه الحدُّ؟ هذا مما تأباه قواعدُ الشريعة وأصولها، وقال أحمد منكراً على من قال ذلك: وبعضُ من يرى طلاق السكران ليس بجائز، يزعم أن سكران لو جنى
جناية، أو أتى حداً، أو تركَ الصيام أو الصلاةَ، كان بمنزلة المْبَرسَمِ والمجنون، هذا كَلامْ سوء.
والفرق الثانى: إن إلغاء أقواله لا يتضمَّن مفسدة، لأن القول المجردَ مِن غير العاقل لا مفسدة فيه بخلاف الأفعال، فإن مفاسدها لا يُمكن إلغاؤها إذا وقعت، فإلغاءُ أفعاله ضررٌ محض، وفسادٌ منتشر بخلاف أقواله، فإن صحَّ هذان الفرقان، بطلَ الإلحاق، وإن لم يصحا، كانت التسويةُ بين أقواله وأفعاله متعينة.
وأما المأخذ الثانى وهو أن إيقاع الطلاق به عقوبةٌ له ففى غاية الضعف، فإن الحدَّ يكفيه عقوبة، وقد حصل رضى الله سُبحانه من هذه العقوبة بالحد، ولا عهد لنا فى الشريعة بالعُقوبة بالطلاق، والتفريق بين الزوجين.
وأما المأخذُ الثالث: أن إيقاعَ الطلاق به من ربط الأحكام بالأسباب، ففى غاية الفساد والسقوط، فإن هذا يُوجب إيقاعَ الطلاق ممن سكر مُكرهاً، أو جاهلاً بأنها خمر، وبالمجنون والمُبَرْسَم، بل وبالنائم، ثم يُقال: وهل ثبت لكم أن طلاقَ السكران سببٌ حتى يُربط الحكمُ به، وهل النزاعُ إلا فى ذلك؟
وأما المأخذ الرابع: وهو أن الصحابة جعلوه كالصاحى فى قولهم: إذا شرب، سَكِرَ، وإذا سَكِرَ، هذى. فهو خبر لا يصح البتة.
قال أبو محمد ابن حزم: وهو خبر مكذوب قد نزه الله علياً وعبد
الرحمن بن عوف منه، وفيه من المناقضة ما يدل على بُطلانه، فإن فيه إيجاب الحد على من هذى، والهاذى لا حدَّ عليه.
وأما المأخذْ الخامس، وهو حديث: "لا قيلولة فى الطلاق"، فخبر لا يَصِحُّ، لو صحَّ، لوجب حملُه على طلاق مكلِّف يعقِلُ دون من لا يعقِل، ولهذا لم يدخل فيه طلاقُ المجنون والمُبرْسَم والصبى.وأما المأخذ السادس، وهو خبر: "كلُّ طلاق جائز إلا طلاق المعتوه"، فمثله سواء لا يصح، ولو صح، لكان فى المكلف، وجواب ثالث: أن السكران الذى لا يَعقِلُ إما معتوه، وإما مُلحق به، وقد ادعت طائفة أنه معتوه. وقالوا: المعتوه فى اللغة: الذى لا عقل له، ولا يدرى ما يتكلم به.وأما المأخذ السابعُ: وهو أن الصحابة أوقعوا عليه الطلاقَ، فالصحابةُ مختلفون فى ذلك، فصح عن عثمان ما حكيناه عنه.
وأما أثر ابنِ عباس، فلا يَصِحُّ عنه، لأنه من طريقين، فى أحدهما الحجاج بن أرطأة، وفى الثانية إبراهيم بن أبى يحيى، وأما ابنُ عمر ومعاوية، فقد خالفهما عثمان بن عفان.
فصل
وأما طلاق الإغلاق، فقد قال الإمام أحمد فى رواية حنبل: وحديثُ عائشة رضى الله عنها: سمعت النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول : "لا طَلاقَ ولا عِتاق فى إغلاق" ، يعنى الغضبَ، هذا نصُّ أحمد حكاه عنه الخلال، وأبو بكر فى "الشافى" و"زاد المسافر". فهذا تفسير أحمد.
وقال أبو داود فى سننه: أظنه الغضب، وترجم عليه: "باب الطلاق على غلط" وفسره أبو عُبيد وغيرُه: بأنه الإكراه، وفسره غيرهما: بالجنون، وقيل: هو نهىُ عن إيقاع الطلقات الثلاث دفعةً واحدة، فُيغْلَقُ عليه الطلاقُ حتى لا يبقى منه شىء، كغَلَقِ الرهن، حكاه أبو عُبيد الهروى.
قال شيخُنا: وحقيقةُ الإغلاق: أن يُغلق على الرجل قلبُه، فلا يقصِدُ الكلام، أو لا يعلم به، كأنه انغلق عليه قصدُه وإرادتُه. قلت: قال أبو العباس المبرِّد: الغَلَق: ضيقُ الصدر، وقلةُ الصبر بحيث لا يجد مخلصاً قال شيخنا: ويدخل فى ذلك طلاقُ المكرَه والمجنون، ومن زال عقلُه بسُكر أو غضب، وكُلُّ من لا قصد له ولا معرفة له بما قال.
والغضب على ثلاثة أقسام.
أحدها : ما يُزيل العقل، فلا يشعُرُ صاحبُه بما قال، هذا لا يقعُ طلاقه بلا نزاع.
الثانى : ما يكون فى مباديه بحيث لا يمنع صاحِبَه مِن تصور ما يقولُ وقصده، فهذا يقع طلاقُه.
الثالث : أن يستحكِمَ ويشتدَّ به، فلا يُزيل عقله بالكلية، ولكن يحولُ بينه وبين نيته بحيث يندَمُ على ما فرط منه إذا زال، فهذا محلُّ نظر، وعدمُ الوقوع فى هذه الحالة قوى متجه.
حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الطلاق قبل النكاح
فى السنن: من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نَذْرَ لابْن آدَمَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، ولاَ عِتْقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، ولا طَلاَقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ". قال الترمذى: هذا حديث حسن، وهو أحسنُ شىء فى هذا الباب، وسَألت محمد بن إسماعيل. فقلت: أىُّ شىء أصحُّ فى الطلاق قبل النكاح؟ فقال: حديثُ عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وروى أبو داود: " لا بَيْعَ إلاَّ فِيمَا يَمْلِكُ، ولا وَفَاءَ نَذْرِ إلاَّ فِيما يَمْلِكُ".
وفى سنن ابن ماجه: عن المِسور بنِ مَخْرَمَة رضى الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النِّكَاحِ وَلاَ عِتْق قَبْلَ مِلْكِ".
وقال وكيع: حدثنا ابنُ أبى ذئب، عن محمد بن المنكدِر، وعطاء بن أبى رباح، كلاهما عن جابر بن عبد الله يرفعه: "لاَ طَلاَقَ قَبْلَ نكاح".
وذكر عبدُ الرزاق، عن ابن جريج، قال: سمعتُ عطاءً يقول: قال ابنُ عباس رضى الله عنه: لا طلاقَ إلا من بعدِ نكاح.
قال ابنُ جريج: بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول: إن طلَّق ما لم ينكِحْ فهو جائز، فقال ابن عباس: أخطأ فى هذا، إن الله تعالى يقول :{إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، ولم يقل: إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن
وذكر أبو عُبيد: عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه سُئِل عن رجل قال: إن تزوجتُ فلانه، فهى طالق، فقال على: ليس طلاقٌ إلا من بعد ملك.
وثبت عنه رضى الله عنه أنه قال: لا طلاق إلا من بعد نكاح وإن سماها.
وهذا قولُ عائشة، وإليه ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق وأصحابُهم، وداود وأصحابُه، وجمهورُ أهل الحديث.
ومِن حجة هذا القول: أن القائل: إن تزوجتُ فلانه، فهى طالق مُطَلِّقٌ لأجنبية، وذلك محال، فإنها حِينَ الطلاق المعلَّق أجنبية، والمتجدِّدُ هو نِكاحُها، والنكاح لا يكون طلاقاً، فعُلِمَ أنها لو طلقت، فإنما يكون ذلك استناداً إلى الطلاق المتقدِّم معلقاً، وهى إذا ذاك أجنبية، وتجدُّدُ الصفة لا يجعلُه متكلماً بالطلاق عند وجودها فإن وجودها مختار للنكاح غيرُ مريد للطلاق، فلا يَصِبحُّ، كما لو قال لأجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلَتْ وهى زوجتُه، لم تطلق بغير خلاف.
فإن قيل: فما الفرقُ بين تعليق الطلاق وتعليق العِتق؟ فإنه لو قال: إن ملكت فلاناً، فهو حر، صَحَّ التعليقُ، وعتق بالملك؟
قيل: فى تعليق العِتق قولان، وهما روايتان عن أحمد، كما عنه روايتان فى تعليق الطلاق، والصحيحُ من مذهبه الذى عليه أكثرُ نصوصه، وعليه أصحابه: صحةُ تعليق العتق دون الطلاق، والفرقُ بينهما أن العِتقَ له قوة وسراية، ولا يعتمِدُ نفوذ الملك، فإنه ينفذ فى ملك الغير، ويَصِحُّ أن يكون الملك سبباً لزواله بالعتق لزواله عقلاً وشرعاً، كما يزولُ ملكه بالعتق
عن ذى رحمه المحرَمِ بشرائه، وكما لو اشترى عبداً لِيعتقه فى كفارة أو نذر، أو اشتراه بشرط العِتق، وكُلُّ هذا يُشرع فيه جعل الملك سبباً للعتق، فإنه قُربة محبوبة للَّه تعالى، فشرع الله سبحانه التوسلَ إليه بكل وسيلة مفضية إلى محبوبه، وليس كذلك الطلاقُ، فإنه بغيضُ إلى الله، وهو أبغضُ الحلال إليه، ولم يجعل ملك البُضع بالنكاح سبباً لإزالته ألبتة، وفرقٌ ثانٍ أن تعليق العتق بالملك من باب نذر القُرَبِ والطاعات والتبرر، كقوله: لئن آتانىَ الله مِن فضله، لأتصدقن بكذا وكذا، فإذا وُجِدَ الشرطُ، لزمه ما علقه به من الطاعة المقصودة، فهذا لونٌ، وتعليقُ الطلاق على الملك لونٌ آخر.
حكْمُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تحريم طلاق الحائضِ والنفساء والموطوءةِ فى طُهرها، وتحريم إيقاع الثلاث جملة
فى "الصحيحين": أن ابن عمر رضي الله عنه طلق امرأته وهى حائض على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأل عمرُ بن الخطاب رضى الله عنه عن ذلك رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْها ثُمَّ ليمْسِكْها حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدَ ذَلِكَ، وإنْ شَاءَ يُطلِّقُ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ التى أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَها النِّسَاءُ".
ولمسلم: " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْها، ثُمَّ لِيُطَلِّقْها طاهِراً أو حامِلاً".
وفى لفظ: " إنْ شَاءَ طلَّقَها طاهِراً قَبْل أنْ يَمسَّ، فذلِكَ الطَّلاقُ لِلْعِدَّةِ كَمَا أَمَرَهُ الله تَعالى". وفى لفظ للبخارى: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْها ثُمَّ ليُطَلِّقْها فى قُبُلِ عِدَّتِها"
وفى لفظ لأحمد، وأبى داود، والنسائى، عن ابن عمر رضى الله عنهما: قال: طلق عبد الله بن عمر امرأتَه وهى حائِض، فردَّها عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يرها شيئاً، وقال: "إذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ". وقال ابن عمر رضى الله عنه: قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَأيُّها النَّبىُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلَّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] فى قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ.
فتضمَّن هذا الحكمُ أن الطلاقَ على أربعة أوجه: وجهانِ حلال، ووجهان حرام.
فالحلالان: أن يطلِّق امرأته طَاهراً مِن غير جماع، أو يُطلِّقها حاملاً مستبيناً حملها.
والحرامان: أن يُطَلِّقها وهى حائض، أو يُطلِّقها فى طهرٍ جامعها فيه هذا فى طلاق المدخول بها.
وأما من لم يدخل بها، فيجوز طلاقُها حائضاً وطاهراً، كما قال تعالى: { لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236].
وقال تعالى: {يَأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ
مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَالكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها} [الأحزاب: 49] وقد دل على هذا قولُه تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وهذه لا عِدة لها، ونبَّه عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتى أَمرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّق لَهَا النِّسَاء"، ولولا هاتان الآيتانِ اللتان فيهما إباحةُ الطلاق قبل الدخول، لمنع مِن طلاق مَنْ لا عِدة له عليها.
وفى سنن النسائى وغيره: من حديث محمود بن لبيد، قال: أُخْبِرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن رجُلِ طلَّق امرأته ثلاثَ تطليقاتٍ جمعياً، فقامَ غضبان، فقال: "أيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ وأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُم"، حتى قام رجلٌ، فقال: يا رسولَ الله، أفلا أقتُلُه.
وفى "الصحيحين": عن ابن عُمَرَ رضى الله عنه، أنه كان إذا سئل عن الطلاق قال: أَمَّا أَنْتَ إن طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَين، فإِنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنى بهذا، وإنْ كُنْتَ طلَّقتها ثلاثاً، فقد حَرُمَتْ عَلَيْكَ حتى تَنْكِحَ زوجاً غيرَكَ، وعصيتَ الله فِيمَا أمَرَك مِنْ طَلاقِ امْرَأَتِكَ.
فتضمَّنَتْ هذه النصوصُ أن المطلَّقة نوعان: مدخولٌ بها، وغيرُ مدخول بها، وكلاهما لا يجوز تطليقها ثلاثاً مجموعة، ويجوزُ تطليقُ غيرِ المدخولِ بها طاهراً وحائضاً.
وأما المدخولُ بها، فإن كانت حائضاً أو نفساء، حرم طلاقُها، وإن
كانت طاهراً فإن كانت مستبينَةَ الحمل، جاز طلاقُها بعد الوطءِ وقبله، وإن كانت حائلاً لم يَجُزْ طلاقها بعد الوطء فى طُهر الإصابة، ويجوز قبلَه هذا الذى شرعه اللهُ على لسان رسولهِ مِن الطلاق، وأجمعَ المسلمون على وقوعِ الطلاق الذى أذن الله فيه، وأباحه إذا كان مِن مكلَّفٍ مختارٍ، عالم بمدلول اللفظ، قاصدٍ له.
واختلفوا فى وقوع المحرَّم من ذلك، وفيه مسألتان.
المسألة الأولى : الطلاق فى الحيض، أو فى الطهر الذى واقعها فيه.
المسألة الثانية : فى جمع الثلاث، ونحن نذكر المسألتين تحريراً وتقريراً، كما ذكرناهما تصويراً، ونذكر حُجَجَ الفَريقينِ، ومنتهى أقدام الطائفتينِ، مع العلم بأن المقلِّد المتعصِّب لا يتركُ مَنْ قَلده ولو جاءته كُلُّ آية، وإن طالبَ الدليل لا يأتمُّ بسواه، ولا يُحَكِّمُ إلا إياه، ولِكل من الناس مَوْردُ لا يتعداه، وسبيل لا يتخطاه، ولقد عُذِرَ مَنْ حَمَلَ ما انتهت إليه قواه، وسعى إلى حيث انتهت إليه خُطاه.
فأما المسألةُ الأولى، فإن الخلافَ فى وقوع الطلاق المحرَّم لم يزل ثابتاً بين السلف والخلف، وقد وَهِمَ من ادعى الإجماعَ على وقوعه، وقال بمبلغ علمه، وخفى عليه مِن الخلاف ما اطلع عليه غيرُه، وقد قال الإمامُ أحمد: من ادعى الإجماع، فهو كاذب، وما يُدريه لعلَّ الناسَ اختلفوا.
كيف والخلافُ بين الناس فى هذه المسألة معلومُ الثبوت عن المتقدمين والمتأخرين؟ قال محمد بن عبد السلام الخُشنى: حدثنا محمد بن بشار ؛ حدثنا عبد الوهَّاب بنُ عبد المجيدِ الثقفى، حدثنا عُبيد الله بن عمر، عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر رضى الله عنه أنه قال فى رجل طلق امرأته وهى حائض. قال ابن عمر: لا يعتد بذلك، ذكره أبو محمد ابن
حزم فى "المحلى" بإسناده إليه.
وقال عبد الرزاق فى "مصنفه": عن ابن جريج، عن ابن طاووس، عن أبيه أنه قال: كان لا يرى طلاقاً ما خالفَ وجهَ الطَّلاقِ، ووجُهَ العِدة، وكان يقول: وجهُ الطلاقِ: أن يُطَلِّقَها طاهِراً مِن غير جماع وإذا استبان حملُها.
وقال الخُشنى: حدثنا محمد بنُ المثَّنى، حدثنا عبدُ الرحمن بن مهدى، حدثنا همَّام بن يحيى، عن قتادة، عن خِلاس بن عمرو أنه قال فى الرجل يُطلِّق امرأته وهى حائض: قال: لا يُعْتَدُّ بها قال أبو محمد ابن حزم: والعجبُ من جُرأة منِ ادَّعى الإجماعَ على خلاف هذا، وهو لا يجد فيما يُوافق قوله فى إمضاء الطلاق فى الحيض أو فى طهر جامعها فيه كلمة عن أحدٍ من الصحابة رضى الله عنهم غيرَ رواية عن ابن عمر قد عارضها ما هو أحسنُ منها عن ابن عمر، وروايتين عن عُثمان وزيدِ بن ثابت رضى الله عنهما. إحداهما: رويناها من طريق ابن وهب عن ابنِ سمعان، عن رجل أخبره أن عثمانَ بن عفان رضى الله عنه كان يقضى فى المرأة التى يُطلِّقُها زوجها وهى حائض أنها لا تعتدُّ بحيضتها تلك، وتعتدُّ بعدَها بثلاثة قروء. قلت: وابن سمعان هو عبد الله بن زياد بن سمعان الكذاب، وقد رواه عن مجهول لا يُعرف. قال أبو محمد: والأخرى من طريق عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن قيس بن سعد مولى أبى علقمة، عن رجل سماه، عن زيد بن ثابت أنه قال فيمن طلَّق امرأَته وهى حائض:
يلزمه الطلاقُ، وتعتد بثلاثِ حيض سوى تلك الحيضة.
قال أبو محمد: بل نحنُ أسعدُ بدعوى الإجماع هاهنا لو استجزنا ما يستجيزوُن ونعوذُ بالله من ذلك، وذلك أنه لا خلافَ بين أحدٍ من أهل العلم قاطبة، ومن جملتهم جميع المخالفين لنا فى ذلك أن الطلاق فى الحيض أو فى طهر جامعها فيه بدعة نهى عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخالفة لأمره، فإذا كان لا شك فى هذا عندهم، فكيف يستجيزون الحكم بتجويز البدعة التى يقرون أنها بدعةٌ وضلالة، أليس بحكم المشاهدة مجيزُ البدعة مخالفاً لإجماع القائلين بأنها بدعة؟ قال أبو محمد: وحتي لو لم يبلغنا الخلافُ، لكان القاطعُ على جميع أهل الإسلام بما لا يقين عنده، ولا بلغه عن جميعهم كاذباً على جميعهم.
قال المانعون من وقوع الطلاق المحرم: لا يُزَالُ النكاحُ المتيقنُ إلا بيقين مثله من كتاب، أو سنة، أو إجماع متيقَّن. فإذا أوجدتمونا واحداً من هذه الثلاثة، رفعنا حُكْمَ النِّكاح به، ولا سَبيلَ إلى رفعه بغير ذلك. قالوا: وكيف والأدلةُ المتكاثِرةٌ تدل على عدم وقوعه، فإن هذا طلاق لم يشرعه الله تعالى ألبتة، ولا أذن فيه، فليس من شرعه، فكيف يُقال بنفوذه وصحته؟
قالوا: وإنما يقع من الطلاق المحرم ما ملَّكه الله تعالى للمطلّق، ولهذا لا يقع به الرابعةُ، لأنه لم يملِّكها إياه، ومن المعلوم أنه لم يملِّكه الطلاقَ المحرم، ولا أذن له فيه، فلا يصح، ولا يقع.
قالوا: ولو وكل وكيلاً أن يُطلِّق امرأتَه طلاقاً جائزاً، فطلّق طلاقاً محرماً، لم يقع، لأنه غيرُ مأذون له فيه، فكيف كان إذن المخلوف معتبراً فى صحة إيقاع الطلاق دون إذن الشارع، ومِن المعلوم أن المكلَّفَ إنما يتصرف بالإذن، فما لم يأذن به الله ورسولُه لا يكون محلاً للتصرف البتة.
قالوا: وأيضاً فالشارِعُ قد حجر على الزوج أن يُطَلَّق فى حال الحيض
أو بعد الوطءِ فى الطهر، فلو صح طلاقُه لم يكن لحجر الشارع معنى، وكان حجرُ القاضى على من منعه التصرف أقوى من حجر الشارع حيث يُبطِلُ التصرفَ بحجره.
قالوا: وبهذا أبطلنا البيعَ وقتَ النداءِ يومَ الجمعة، لأنه بيعٌ حجر الشارعُ على بائعه هذا الوقتَ، فلا يجوز تنفيذُه وتصحيحه.
قالوا: ولأنه طلاقٌ محرم منهى عنه، فالنهىُ يقتضى فسادَ المنهى عنه، فلو صححناه، لكان لا فرق بين المنهى عنه والمأذونِ فيه من جهة الصحة والفساد.
قالوا: وأيضاً فالشارِعُ إنما نهى عنه وحرمه، لأنه يُبغِضُه، ولا يُحبُّ وقوعه، بل وقوعُه مكروه إليه، فحرَّمه لِئلا يقع ما يُبغضه ويكرهه، وفى تصحيحه وتنفيذه ضِد هذا المقصود.
قالوا: وإذا كان النكاحُ المنهى عنه لا يَصِحُّ لأجل النهى، فما الفرقُ بينه وبين الطلاق، وكيف أبطلتم ما نهى الله عنه من النكاح، وصححتم ما حرَّمه ونهى عنه من الطلاق، والنهى يقتضى البطلان فى الموضعين؟
قالوا: ويكفينا من هذا حُكمُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العام الذى لا تخصيص فيه برد ما خالف أمره وإبطاله وإلغاءه، كما فى "الصحيح" عنه، من حديث عائشة رضى الله عنها: "كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنا فَهُوَ رَدٌّ" وفى رواية: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْس عَلَيْهِ أَمْرُنا فَهُوَ رَدٌّ" . وهذا صريحُ أن هذا الطلاقَ المحرَّم الذى ليس عليه أمرُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مردود باطل، فكيف يُقال: إنه صحيح لازم نافذ؟ فأين هذا مِن الحكم برده؟
قالوا: وأيضاً فإنه طلاقٌ لم يشرعه الله أبداً، وكان مردوداً باطلاً كطلاق الأجنبية، ولا ينفعُكم الفرقُ بأن الأجنبية ليست محلاً للطلاق بخلاف الزوجة، فإن هذه الزوجة ليست محلاً لِلطلاق المحرَّم، ولا هو مما ملَّكه الشَّارِعُ إيَّاه.
قالوا: وأيضاً فإن الله سبحان إنما أمر بالتسريح بإحسان، ولا أشر مِن التسريح الذى حرَّمه اللهُ ورسُوله، وموجب عقدِ النكاح أحدُ أمرين: إما إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، والتسريح المحرَّم أمر ثالثُ غيرُهما، فلا عبرة به البتة.
قالوا: وقد قال اللهُ تعالى: {يأيَّها النَّبىُّ إذا طَلَّقُتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وصحَّ عن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المبيِّنِ عن اللهِ مرادَه مِن كلامه، أن الطلاق المشروع المأذون فيه هو الطلاقُ فى زمن الطهر الذى لم يُجامع فيه، أو بعدَ استبانة الحمل، وما عداهُما فليس بطلاق للعدة فى حق المدخول بها، فلا يكون طلاقاً، فكيف تحرم المرأة به؟
قالوا: وقد قال تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229]، ومعلوم أنه إنما أرادَ الطلاق المأذونَ فيه، وهو الطلاقُ للعدة، فدل على أن ما عداه ليس من الطلاق، فإنه حصر الطلاقَ المشروع المأذونَ فيه الذى يملك به الرجعة فى مرتين، فلا يكون ما عداه طلاقاً. قالُوا: ولهذا كان الصحابةُ رضى الله عنهم يقولون: إنهم لا طاقة لهم بالفتوى فى الطلاق المحرَّم، كما روى ابنُ وهب، عن جرير بن حازم، عن الأعمش، أن ابن مسعود رضى الله عنه قال: من طلق كما أمره الله، فقد بيَّن الله له، ومن خالف، فإنا لا نُطِيقُ خِلافه، ولو وقع طلاقُ المخالف لم يكن الإفتاءُ به غير مطاق لهم، ولم يكن للتفريق معنى إذ كان النوعانِ واقعينَ نافذين.
قال ابن مسعود رضي الله عنه أيضاً: من أتى الأمرَ على وجهه فقد بَيَّنَ الله له وإلا فواللهِ ما لنا طاقةٌ بكل ما تُحْدِثُون.
وقال بعض الصحابةِ قد سئل عن الطلاق الثلاث مجموعة: مَنْ طلَّق كما أمر، فقد بُيِّن له، ومن لبَّس، تركناه وتلبيسه.
قالوا: ويكفى من ذلك كله ما رواه أبو داود بالسند الصحيح الثابت: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج، قال: أخبرنى أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابنَ عمر قال أبو الزبير وأنا أسمع: كيف ترى في رجل طلَّق امرأته حائضاً؟ فقال: طلَّق ابنُ عمر على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأل عُمَرُ عن ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهى حائض، قال عبد الله: فردَّها علي ولم يَرَهَا شيئاً، وقال: إذا طهرت فليُطَلِّقْ أو لِيُمسِكْ، قال ابن عُمر: وقرأ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يأَيُّهَا النَّبىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] فى قبلِ عِدَّتِهِنَّ. قالوا: وهذا إسناد فى غاية الصحة، فإن أبا الزبير غيرُ مدفوع عن الحفظ والثقة، وإنما يُخشى مِن تدليسه، فإذا قال: سمعتُ، أو حدثنى، زال محذورُ التدليس، وزالت العلةُ المتوهَّمة، وأكثرُ أهلِ الحديث يحتجُّون به إذا قال: "عن" ولم يُصِّرحْ بالسماع، ومسلم يُصحِّح ذلك من حديثه، فأما إذا صرَّحَ بالسماع، فقد زال الإشكالُ، وصحَّ الحديثُ وقامت الحجة.
قالوا: ولا نعلم فى خبر أبى الزبير هذا ما يُوجب ردَّه، وإنما رَدَّه مَنْ ردَّه استبعاداً واعتقاداً أنه خلافُ الأحاديث الصحيحة، ونحن نحكى كلام من رده، ونبين أنه ليس فيه ما يُوجب الرَّد.
قال أبو داود: والأحاديثُ كُلُّها على خلاف ما قال أبو الزبير.
وقال الشافعىُّ: ونافعٌ أثبتُ عن ابن عمر مِن أبى الزبير، والأثبتُ مِن الحديثين أولى أن يُقال به إذا خالفه.
وقال الخطابىُّ: حديثُ يونس بن جبير أثبتُ مِن هذا، يعنى قوله:"مرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا"، وقوله: "أرأيتَ إن عجز واستحمق"؟ قال: فمه.
قال ابنُ عبدِ البر: وهذا لم ينقله عنه أحدُ غير أبى الزبير، وقد رواه عنه جماعةٌ أَجِلَّةٌ، فلم يقل ذلك أحدٌ منهم، وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثلُه، فكيف بخلاف مَن هو أثبتٌ منه.
وقال بعضُ أهلِ الحديث: لم يروِ أبو الزبير حديثاً أنكرَ من هذا.
فهذا جملة ما رُد به خبرُ أبى الزبير، وهو عند التأمل لا يوجب رده ولا بطلانه.
أما قولُ أبى داود: الأحاديثُ كلها على خلافه، فليس بأيديكم سوى تقليدِ أبى داود، وأنتم لا ترضَوْنَ ذلك، وتزعمون أن الحجةَ مِن جانبكم، فدعوا التقليدَ، وأخبرونا أين فى الأحاديث الصحيحة ما يُخالف حديثَ أبى الزُّبير؟ فهل فيها حديثٌ واحد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتسب عليه تلك الطلقة، وأمره أن يعتدَّ بها، فإن كان ذلك، فنعم واللهِ هذا خلاف صريح لحديثِ أبى الزبير، ولا تَجِدُون إلى ذلك سبيلاً، وغايةُ ما بأيديكم "مُرْهُ فليراجعها"، والرجعة تستلزِمُ وقوع الطلاق. وقول ابن عمر. وقد سئل: أتعتد بتلك التطليقة؟ فقال: "أرأيت إن عجز واستحمق" وقول نافع أو مَنْ دونه: "فحسبت من طلاقها" وليس وراءَ ذلك حرفٌ واحد يدُلُّ على وقوعها، والاعتداد بها، ولا ريبَ فى صحة هذه الألفاظ، ولا مطعن فيها، وإنما الشأنُ كُلُّ فى معارضتها، لقوله: "فردَّها علىَّ ولم يرها شيئاً"،
وتقديمها عليه، ومعارضتها لتلك الأدلة المتقدمة التى سقناها، وعند الموازنة يظهرُ التفاوتُ، وعدمُ المقاومة، ونحن نذكرُ ما فى كلِمةٍ كلمةٍ منها.
أما قوله: "مره فليراجعها"، فالمراجعة قد وقعت فى كلام الله ورسولهِ على ثلاث معان.
أحدُها: ابتداءُ النكاح، كقوله تعالى :{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} [البقرة: 230] ، ولا خلافَ بينَ أحدٍ من أهلِ العلم بالقرآن أن المطلِّق هاهنا: هو الزوج الثانى، وأن التراجُعَ بينها وبين الزوج الأول، وذلك نكاح مبتدأ.
وثانيهما: الرد الحسى إلى الحالة التى كان عليها أولاً، كقوله لأبى النعمان بن بشير لما نَحَلَ ابنه غلاماً خصَّه به دون ولده: "رُدَّه"، فهذا رد ما لم تصح فيه الهبةُ الجائزة التى سماها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جوراً، وأخبر أنها لا تصلُح، وأنها خلاف العدل، كما سيأتى تقريرُه إن شاء الله تعالى.
ومِن هذا قوله لمن فرَّق بين جارية وولدها فى البيع، فنهاه عن ذلك، ورد البيع وليس هذا الرد مستلزماً لصحة البيع، فإنه بيعٌ باطل، بل هو رد شيئين إلى حالة اجتماعهما كما كانا، وهكذا الأمر بمراجعة ابن عمر امرأته ارتجاع ورد إلى حالة الاجتماع كما كانا قبل الطلاق، وليس فى ذلك ما يقتضى وقوع الطلاق فى الحيض البتة.
وأما قوله: "أرأيتَ إن عجز واستحمق"، فيا سبحانَ الله أين البيان فى هذا اللفظ بأن تلك الطلقة حَسبَها عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأحكام لا تُؤخذ بمثل هذا ولو كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حسبها عليه، واعتدَّ عليه بها لم يَعْدِلْ عن الجواب بفعله وشرعه إلى: أرأيتَ، وكان ابنُ عمر أكره ما إليه "أرأيت"، فكيف يَعْدِلُ للسائل عن صريح السنة إلى لفظة "أرأيت"
الدالة على نوع من الرأى سببُه عجز وحمقُه عن إيقاع الطلاق على الوجه الذى أذن الله له فيه، والأظهر فيما هذه صفتُه أنه لا يُعتدى به، وأنه ساقط من فعل فاعله، لأنه ليس فى دين الله تعالى حكم نافذ سببُه العجزُ والحمقُ عن امتثال الأمر، إلا أن يكون فعلاً لا يمكن ردُّه بخلاف العقود المحرَّمة التى مَنْ عقدها على الوجه المحرَّم، فقد عجز واستحمق، وحينئذ، فيُقال هذا أدلُّ على الردِّ منه على الصحة واللزوم، فإنه عقدُ عاجز أحمق على خلافِ أمر الله ورسوله، فيكون مردوداً باطلاً، فهذا الرأىُ والقياس أدلُّ على بطلان طلاق مَن عجز واستحمق منه على صحته واعتباره.
وأما قولُه: فحُسِبَتْ مِن طلاقها. ففعل مبنى لما لم يسم فاعله، فإذا سُمِّىَ فاعله، ظهر، وتبين، هل فى حُسبانه حجة أو لا؟ وليس فى حُسبان الفاعلِ المجهولِ دليلٌ ألبتة. وسواء كان القائلُ: "فحسبت" ابن عمر أو نافعاً أو من دونه، وليس فيه بيان أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذى حسبها حتى تلتزمَ الحجةُ به، وتحرم مخالفته، فقد تبين أن سائرَ الأحاديث لا تُخَالِفُ حديث أبى الزبير، وأنه صريح فى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرها شيئاً، وسائر الأحاديث مجملة لا بيان فيها.
قال الموقعون: لقد ارتقيتُم أيها المانعون مرتقىً صعباً، وأبطلتُم أكثرَ طلاق المُطَلِّقين، فإن غالِبه طلاق بدعى، وجاهرتُم بخلاف الأئمة، ولم تتحاشَوْا خِلافَ الجمهور، وشذذتُم بهذا القولِ الذى أفتى جمهورُ الصحابة ومَنْ بعدهم بخلافه، والقرآنُ والسنن تدل على بطلانه. قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَها فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة:230]، وهذا يعم كُلَّ طلاق، وكذلك قوله: {والمُطَلَّقَاتُ يَتَربَّصْنَ بأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، ولم يفرِّق، وكذلك قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229 ]، وقوله: {ولِلْمُطَلَّقَاتِ
مَتَاعٌ} [البقرة:241]، وهذه مطلّقة وهى عمومات لا يجوز تَخصيصُها إلا بنص أو إجماع.
قالوا: وحديثُ ابنِ عمر دليل على وقوع الطلاق المحرَّم من وجوه.
أحدها: الأمرُ بالمراجعة، وهى لَمُّ شعثِ النكاح، وإنما شعثه وقوعُ الطلاق.
الثانى: قولُ ابن عمر، فراجعتُها، وحسبت لها التطليقة التي طلَّقها، وكيف يُظن بابن عمر أنه يخالف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيحسبها مِن طلاقها ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرها شيئاً.
الثالث: قولُ ابنِ عمر لما قيل له: أيحتسب بتلك التطليقة؟ قال: أرأيتَ إن عجز واستحمق، أى: عجزُه وحمقُه لا يكون عذراً له فى عدم احتسابه بها.
الرابع: أن ابن عمر قال: وما يمنعُنى أن أعتدَّ بها، وهذا إنكارٌ منه لعدم الاعتداد بها، وهذا يُبْطِلُ تلك اللفظة التى رواها عنه أبو الزبير، إذ كيف يقولُ ابن عمر: وما يمنعُنى أن أعتد بها؟ وهو يرى رسولَ الله قد ردَّها عليه، ولم يرها شيئاً.
الخامس: أن مذهبَ ابن عمر الاعتداد بالطلاقِ فى الحيض، وهو صاحبُ القصة وأعلمُ الناس بها، وأشدُّهم اتباعاً للسنن، وتحرُّجاً من مخالفتها. قالوا: وقد روى ابن وهب فى "جامعه"، حدثنا ابن أبى ذئب، أن نافعاً أخبرهم عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهى حائض، فسأل عُمَرُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، فقال: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْها حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شاءَ أمْسَكَ بَعْدَ ذَلِكَ وإنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةَ التى أمَرَ اللهُ أنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ" وهى واحدة هذا لفظ حديثه.
قالوا: وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج قال: أرسلنا إلى نافع وهو يترجَّلُ فى دار الندوة ذاهباً إلى المدينة، ونحنُ مع عطاء: هل حسبت تطليقة عبد الله بن عمر امرأته حائضاً علي عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم.
قالوا: وروى حمادُ بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس رضى الله عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ طَلَّقَ فى بدْعَةٍ أَلْزْمَنْاهُ بِدْعَتَهُ "، رواه عبد الباقى بن قانع، عن زكريا الساجى حدثنا إسماعيل بن أمية الذارع حدثنا حماد فذكره.
قالوا: وقد تقدَّم مذهبُ عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت فى فتواهما بالوقوع.
قالوا: وتحريمُه لا يمنع ترتب أثره، وحكمه عليه كالظِّهار، فإنه منكر من القول وزور، وهو محرّم بلا شك، وترتب أثره عليه وهو تحريمُ الزوجة إلى أن يكفِّرَ، فهكذا الطلاقُ البدعى محرّم، ويترتب عليه أثره إلى أن يُراجع، ولا فرق بينهما.
قالوا: وهذا ابنُ عمر يقولُ للمطلق ثلاثاً: حَرُمَتْ عليكَ حتي تنكِحَ زوجاً غيرَك وعصيتَ ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك. فأوقع عليه الطلاق الذى عصى به المطلق ربه عز وجل.
قالوا: وكذلك القذفُ محرّم، وترتب عليه أثرهُ من الحدِّ، وردِّ الشهادة وغيرهما.
قالوا: والفرقُ بين النكاح المحرم، والطلاق المحرّم، أن النكاحَ عقد يتضمَّن حِلَّ الزوجة ومُلك بُضعها، فلا يكون إلا على الوجهِ المأذون فيه شرعاً، فإن الأبضَاع فى الأصل على التحريم، ولا يُباح منها إلا ما أباحه الشارع، بخلاف الطلاق، فإنه إسقاطٌ لحقه، وإزالةٌ لملكه، وذلك لا يتوقَّفُ على كون السبب المزيل مأذوناً فيه شرعاً، كما يزولُ ملكه عن العين بالإتلاف المحرَّم، وبالإقرار الكاذب، وبالتبرع المحرَّم، كهبتها لمن يعلم أنه يستعين بها على المعاصى والآثام.
قالوا: والإيمانُ أصلُ العقود وأجلُّها وأشرفُها، يزول بالكلام المحرَّم إذا كان كفراً فكيف لا يزولُ عقدُ النكاح بالطلاق المحرَّم الذى وضع لإزالته.
قالوا: ولو لَم يكن معنا فى المسألة طلاقُ الهازل، فإنه يقع مع تحريمه لأنه لا يَحِلُّ له الهزل بآيات الله، وقد قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما بالُ أقوامٍ يتَّخِذُون آيات الله هزواً: طلقتُك راجعتُك، طلقتُك راجعتُك" فإذا وقع طلاقُ الهازل مع تحريمه، فطلاقُ الجادِّ أولى أن يقع مع تحريمه.
قالوا: وفرق آخر بين النكاح المحرَّم، والطلاق المحرم، أن النكاحَ نعمة، فلا تُستباح بالمحرمات، وإزالتُه وخروجُ البُضع عن ملكه نِقمة، فيجوزُ أن يكون سببها محرماً.
قالوا: وأيضاً فإن الفروجَ يُحتاط لها، والاحتياطُ يقتضى وقوعَ الطلاق، وتجديد الرجعة والعقد.
قالوا: وقد عَهِدْنا النكاحَ لا يُدخل فيه إلا بالتشديدِ والتأكيدِ من الإيجابِ
والقبول، والولى والشاهدين، ورِضى الزوجة المعتبرِ رضاها، ويُخْرَجُ منه بأيسر شىء، فلا يحتاجُ الخروج مِنه إلى شىء من ذلك، بل يُدخل فيه بالعزيمة، ويُخرج منه بالشبهة، فأين أحدُهما من الآخر حتى يُقاسَ عليه.
قالوا: ولو لم يكن بأيدينا إلا قولُ حملةِ الشرعِ كُلِّهم قديماً وحديثاً: طلق امرأتَه وهى حائض، والطلاق نوعان: طلاق سنة، وطلاق بدعة، وقول ابن عباس رضى الله عنه: الطلاقُ على أربعة أوجه: وجهانِ حلالٌ، ووجهانِ حرام، فهذا الاطلاق والتقسيمُ دليل على أنه عندهم طلاق حقيقة، وشمولُ اسمِ الطلاق له كشموله للطلاق الحلالِ، ولو كان لفظاً مجرداً لغواً لم يكن له حقيقة، ولا قيل: طلق امرأته، فإن هذا اللفظ إذا كان لغواً كان وجودُه كعدمه، ومثلُ هذا لا يقال فيه: طلق، ولا يقسم الطلاق وهو غيرُ واقع إليه وإلى الواقع، فإن الألفاظ اللاغية التى ليس لها معانٍ ثابتة لا تكونُ هى ومعانيها قسماً من الحقيقة الثابتة لفظاً، فهذا أقصى ما تمسَّك به الموقعون، وربما ادعى بعضهم الإجماع لعدم علمه بالنزاع.
قال المانعون من الوقوع: الكلامُ معكم فى ثلاث مقاماتٍ بها يستبينُ الحقُّ في المسألة.
المقام الأول: بطلانُ ما زعمتم من الإجماع، وأنه لا سبيل لكم إلى إثباته ألبتة بل العلمُ بانتفائه معلوم.
المقام الثانى، أن فتوى الجمهور بالقول لا يدلُّ على صحته، وقولُ الجمهور ليس بحجة.
المقام الثالث: أن الطلاق المحرَّم لا يدخل تحتَ نصوص الطلاق المطلقة التى رتب الشارعُ عليها أحكام الطلاق، فإن ثبتت لنا هذه المقامات الثلاث، كنا أسعدَ بالصواب منكم فى المسألة.فنقول: أما المقام الأول، فقد تقدم مِن حكاية النزاع ما يُعلم معه بطلانُ دعوى الإجماع، كيف ولو لم يعلم ذلك، لم يكن لكم سبيلٌ إلى إثبات الإجماع الذى تقومُ به الحجة، وتنقطِعُ معه المعذرة، وتحرمُ معه المخالفة، فإن الإجماع الذى يُوجب ذلك هو الإجماعُ القطعى المعلوم.
وأما المقام الثانى: وهو أن الجمهورَ على هذا القول، فأَوْجِدُونا فى الأدلة الشرعية أن قولَ الجمهور حجةٌ مضافة إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإجماع أمته.
ومن تأمَّل مذاهب العلماء قديماً وحديثاً من عهد الصحابة وإلى الآن، واستقرأ أحوالهم وجدهم مُجمعين على تسويغ خلاف الجمهور، ووجد لِكل منهم أقوالاً عديدة انفرد بها عن الجمهور، ولا يُستثنى من ذلك أحد قط، ولكن مستقِلٌّ ومستكثِر، فمن شئتم سميتموه من الأئمة تتبَّعوا ما له من الأقوال التى خالف فيها الجمهور، ولو تتبعنا ذلك وعددناه، لطال الكتابُ به جداً، ونحن نُحيلُكم على الكتب المتضمِنة لمذاهب العلماء واختلافهم، ومن له معرفة بمذاهبهم وطرائقهم يأخذُ إجماعَهم على ذلك مِن اختلافهم، ولكن هذا فى المسائل التى يسوغُ فيها الاجتهادُ ولا تدفعُها السنةُ الصحيحةُ الصريحة، وأما ما كان هذا سبيله، فإنهم كالمتفقين على إنكارِه وردِّه، وهذا هو المعلومُ مِن مذاهبهم فى الموضعين.
وأما المقامُ الثالثُ: وهو دعواكم دخول الطلاق المحرم تحت نصوص الطلاق، وشمولها للنوعين إلى آخر كلامكم، فنسألُكم: ما تقولُون فيمن
ادَّعى دخولَ أنواع البيعِ المحرّم، والنكاح المحرّم تحت نصوص البيع والنكاح، وقال: شمولُ الاسم للصحيح من ذلك والفاسد سواء، بل وكذلك سائرُ العقود المحرمة إذا ادَّعى دخلوها تحت ألفاظ العقود الشرعية، وكذلك العباداتُ المحرَّمة المنهى عنها إذا ادعى دخولَها تحت الألفاظ الشرعية، وحكم لها بالصِّحة لشمولِ الاسم لها، هل تكون دعواه صحيحة أو باطلة؟ فإن قُلتُم: صحيحة ولا سبيلَ لكم إلى ذلك، كان قولاً معلومَ الفسادِ بالضرورة من الدين، وإن قلتُم: دعواه باطلة، تركتُم قولكم ورجعتم إلى ما قلناه، وإن قلتم: تُقبلُ فى موضع، وتُردُّ فى موضع، قيل لكم: ففرُّقوا بفُرقانٍ صحيح مطَّرِد منعكِسٍ، معكم به برهانُ من الله بينَ ما يدخل من العقود المحرَّمة تحتَ ألفاظ النصوص، فيَّثبتُ له حكمُ الصحة، وبينَ ما لا يدخل تحتها، فيثبتُ له حكمُ البطلان، وإن عجزتُم عن ذلك، فاعلموا أنه ليس بأيديكم سوى الدعوى التى يُحْسِنُ كُلُّ أحدٍ مقابلتها بمثلها، أو الاعتماد على من يُحْتَجُّ لِقوله لا بقوله، وإذا كُشِفَ الغطاء عما قررتموه فى هذه الطريق وُجِدَ عين محل النزاع فقد جعلتموه مقدمة فى الدليل، وذلك عينُ المصادرة على المطلوب، فهل وقع النزاعُ إلا فى دخول الطلاق المحرَّم المنهى عنه تحتَ قوله: {ولِلْمُطَلقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241] ، وتحت قوله: {والمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] وأمثال ذلك، وهل سلَّم لكم منازعوكم قطُّ ذلك حتى تجعلوه مقدِّمةً لدليلكم؟
قالوا: وأما استدلالُكم بحديث ابن عمر، فهو إلى أن يكون حجةً عليكم أقربَ منه إلى أن يكون حجةً لكم مِن وجوه.
أحدُها: صريح قوله: فردها علىَّ ولم يرها شيئاً، وقد تقدَّم بيانُ صحته.
قالوا: فهذا الصريح ليسَ بأيديكم ما يُقاومه فى الموضعين، بل جميعُ تلك الألفاظ أما صحيحة غيرُ صريحة، وإما صريحةٌ غيرُ صحيحة كما ستقفون عليه.
الثانى: أنه قد صحَّ عن ابن عمر رضى الله عنه بإسناده كالشمس من رواية عبيد الله، عن نافع عنه، فى الرجل يُطلِّق امرأته وهى حائض، قال: لا يُعْتَدُّ بذلك وقد تقدم.
الثالث: أنه لو كان صريحاً فى الاعتداد به، لما عدل به إلى مجرَّد الرأى. وقوله للسائل: أرأيتَ؟
الرابع: أن الألفاظ قد اضطربت عن ابن عمر فى ذلك اضطراباً شديداً، وكلها صحيحة عنه، وهذا يدلُّ على أنه لم يكن عنده نصُّ صَريح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى وقوع تلك الطلقة والاعتداد بها، وإذا تعارضت تلك الألفاظُ، نظرنا إلى مذهب ابن عمر، وفتواه، فوجدناه صريحاً فى عدم الوقوع، ووجدناه أحد ألفاظ حديثه صريحاً فى ذلك، فقد اجتمع صريحُ روايته وفتواه على عدم الاعتداد، وخالف فى ذلك ألفاظُ مجملة مضطربة، كما تقدم بيانه.
وأما قولُ ابن عمر رضى الله عنه: وما لى لا أعتدُّ بها، وقوله: أرأيت إن عجزَ واستحمق، فغاية هذا أن يكونَ رواية صريحة عنه بالوقوع، ويكون عنه روايتان.
وقولكم. كيف يفتى بالوقوع وهو يعلم أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ردَّها عليه ولم يعتدَّ عليه بها؟ فليس هذا بأوَّل حديثٍ خالفه راويه، وله بغيره مِن الأحاديث التى خالفها راويها أُسْوَةٌ حسنةٌ فى تقديم رواية الصحابى ومن بعده على رأيه.
وقد روى ابن عباس حديثَ برِيرة، وأن بيعَ الأمة ليس بطلاقها، وأفتى بخلافه، فأخذ الناس بروايته، وتركوا رأيَه، وهذا هو الصوابُ، فإن الرواية معصومةُ عن معصوم، والرأى بخلافها، كيف وأصرحُ الروايتين
عنه موافقتُه لما رواه من عدم الوقوع على أن فى هذا فِقهاً دقيقاً إنما يَعرِفُه من له غور على أقوال الصحابة ومذاهبهم، وفهمِهم عن اللهِ ورسوله، واحتياطِهم للأمة، ولعلك تراه قريباً عند الكلامِ على حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى إيقاع الطلاق الثلاث جملة.
وأما قوله فى حديث ابن وهب عن ابن أبى ذئب فى آخره: وهى واحدة، فلعمرُ الله لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قدَّمنا عليها شيئاً، ولصِرنا إليها بأوَّلِ وهلة، ولكن لا ندرى أقالها ابن وهب من عنده، أم ابن أبى ذئب، أم نافع، فلا يجوزُ أن يُضَافَ إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لا يُتيقّنُ أنه من كلامه، ويشهد به عليه، وترتب عليه الأحكامُ، ويقال: هذا من عند الله بِالوهم والاحتمال، والظاهر أنها من قولِ مَنْ دون ابن عمر رضى الله عنه، ومراده بها أن ابن عمر إنما طلَّقها واحدة، ولم يكن ذلك منه ثلاثاً ؛ أى طلق ابن عمر رضى الله عنه امرأته واحدة على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكره.
وأما حديث ابن جريج عن عطاء عن نافع، أن تطليقة عبد الله حُسِبَتْ عليه، فهذا غايتُه أن يكون من كلام نافع، ولا يعرف من الذى حسبها، أهو عبد الله نفسه، أو أبوه عمر، أو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ولا يجوز أن يشهد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوهم والحسبان، وكيف يعارض صريح قوله: ولم يرها شيئاً بهذا المجمل؟ والله يشهد وكفى بالله شهيداً أنا لو تيقنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذى حسبها عليه لم نتعد ذلك، ولم نذهب إلى سواه.
وأما حديث أنس: "مَنْ طَلَّقَ فى بِدْعَةٍ أَلْزَمْنَاه بِدْعَتَهُ "، فحديث باطل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن نشهد باللهِ أنه حديث باطل عليه، ولم يروه أحدُ من الثقات من أصحاب حماد بن زيد، وإنما هو من حديث إسماعيل
ابن أمية الذارع الكذاب الذى يذرَع ويفصل، ثم الراوى له عنه عبد الباقى بن قانع، وقد ضعفه البرقانىُّ وغيرُه، وكان قد اختُلِطَ فى آخر عمره، وقال الدارقطنى: يخطىء كثيراً، ومثلُ هذا إذا تفرد بحديث لم يكن حديثُه حجةً.
وأما إفتاء عثمانَ بن عفان، وزيدِ بن ثابت رضى الله عنهما بالوقوع، فلو صحَّ ذلك ولا يصِحُّ أبداً، فإن أثر عثمان، فيه كذَّاب عن مجهول لا يعرف عينه ولا حاله، فإنه من رواية ابن سمعان، عن رجل، وأثر زيد: فيه مجهول عن مجهول: قيس بن سعد، عن رجل سماه عن زيد، فياللهِ العجب، أين هاتانِ الروايتان مِن رواية عبد الوهَّاب بن عبد المجيد الثقفى، عن عُبيد الله حافظ الأمة، عن نافع، عن ابنِ عمر أنه قال: لا يُعْتَدُّ بهَا. فلو كان هذا الأثرُ من قبلكم، لصُلتم به وجُلتم.
وأما قولكم: إن تحريمه لا يمنع ترتُّب أثره عليه، كالظهار، فيقال أولاً: هذا قياسُ يدفعه ما ذكرناه من النص، وسائر تلك الأدلة التى هى أرجح منه، ثم يقال ثانياً: هذا معارَض بمثله سواء معارضة القلب بأن يقال: تحريمُه يمنع ترتب أثره عليه كالنكاح، ويقال ثالثاً: ليس للظهار جهتانِ: جهة حل وجهة حرمة، بل كُلُّه حرام فإنه منكر من القول وزور، فلا يُمْكِنُ أن ينقسِمَ إلى حلال جائز، وحرام باطل، بل هو بمنزلة القذف مِن الأجنبى والردة، فإذا وجد لم يُوجد إلا مع مفسدته، فلا يتُصوَّر أن يقال: منه حلال صحيح، وحرام باطل، بخلاف النكاح والطلاق والبيع فالظهار نظيرُ الأفعال المحرمة التى إذا وقعت، قارنتها مفاسدُها
فترتبت عليها أحكامُها، وإلحاقُ الطلاق بالنكاح، والبيع والإجارة والعقود المنقسمة إلى حلالٍ وحرامٍ، وصحيحٍ وباطلٍ، أولى.
وأما قولكم: إن النكاح عقدٌ يُملك به البُضع، والطلاقُ عقدٌ يخرج به، فنعم. مِن أين لكم برهان من اللهِ ورسولِه بالفرق بين العقدين فى اعتبار حُكم أحدهما، والإلزام به وتنفيذه، وإلغاء الآخر وإبطاله؟
وأما زوالُ ملكه عن العين بالإتلاف المحرَّم، فذلك ملك قَد زال حساً، ولم يبق له محل. وأما زوالُه بالإقرار الكاذب، فأبعد وأبعد، فإنَّا صدقناه ظاهراً فى إقراره وألزمنا مُلْكَه بالإقرار المصدَّق فيه وإن كان كاذباً.
وأما زوال الإيمان بالكلامِ الذى هو كفر، فقد تقدم جوابُه، وأنه ليس فى الكفر حلال وحرام.
وأما طلاقُ الهازِلِ، فإنما وقع، لأنه صادف محلاً، وهو طهر لم يُجامع فيه فنفذ وكونُه هزل به إرادة منه أو لا يترتب أثرُه عليه، وذلك ليس إليه، بل إلى الشارع، فهو قد أتى بالسبب التام، وأراد ألا يكونَ سببه، فلم ينفعْه ذلك، بخلاف من طلَّق فى غير زمن الطلاق، فإنه لم يأت بالسَّببِ الَّذى نصَبه اللهُ سبحانه مفضياً إلى وقوع الطلاق، وإنما أتي بسبب مِن عنده، وجعله هو مفضياً إلى حكمه، وذلك ليس إليه.
وأما قولُكم: إن النكاح نِعمة، فلا يكون سببُه إلا طاعةً بخلاف الطلاق، فإنه من باب إزالة النعم، فيجوزُ أن يكونَ سبَبَهُ معصيةً، فيقال: قد يكون الطلاق من أكبر النعم التى يفك بها المطلق الغُل من عنقه، والقيد من رِجله، فليس كُلُّ طلاقٍ نِقمة، بل مِن تمام نعمة اللهِ على عباده أن مكَّنهم مِن المفارقة بالطلاق إذا أراد أحدُهم استبدالَ زوج مكانَ زوج، والتخلُّصَ ممن لا يُحبها ولا يُلائمها، فلم يُر للمتحابَّيْنِ مثلُ النكاح، ولا للمتباغضينِ مثلُ
الطلاق، ثم كيف يكون نِقمةُ واللهُ تعالى يقول :{لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُم إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236]، ويقول: {يَأَيُّها النَّبىُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلُّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]؟.
وأما قولُكم: إن الفروجَ يُحتاط لها، فنعم، وهكذا قلنا سواء، فإنا احتطنا، وأبقينا الزوجينِ على يقينِ النكاح حتى يأتى ما يُزيلُه بيقين فإذا أخطأنا، فخطؤُنا فى جهة واحدة، وإن أصبنا، فصوابُنا فى جهتين، جهةِ الزوج الأولِ، وجهةِ الثانى، وأنتم ترتكبُون أمرينِ: تحريمَ الفرج على من كان حلالاً له بيقين، وإحلالَه لِغيره. فإن كان خطأ، فهو خطأ مِن جهتين، فتبيَّن أنَّا أولى بالاحتياط منكم، وقد قال الإمامُ أحمد فى رواية أبى طالب: فى طلاق السكران نظير هذا الاحتياط سواء، فقال: الذى لا يأمُرُ بالطلاق: إنما أتى خصلةً واحدةً، والَّذى يأمر بالطلاق أتى خصلتينِ حرَّمها عليه، وأحلَّها لِغيره، فهذا خيرٌ مِن هذا.
وأما قولُكم: إن النِّكاحَ يدخل فيه بالعزيمة والاحتياط، ويُخرج منه بأدنى شىء قلنا: ولكن لا يُخرج منه إلا بما نصبَه الله سبباً يُخرج به منه، وأذن فيه: وأما ما ينصِبُه المؤمِنُ عنده، ويجعله هو سبباً للخروج منه، فكلاَّ. فهذا منتهى أقدام الطائفتين فى هذه المسألة الضيقةِ المعتركِ، الوعرةِ المسلك التى يتجاذب أَعِنَّةَ أدلتها الفرسانُ، وتتضاءلُ لدى صولتها شجاعةُ الشجعانِ، وإنما نبهنا على مأخذِها وأدلَّتِها ليعلم الغِرُّ الذى بِضاعتُه مِن العلم مزجاة، أن هناك شيئاً آخر وراءَ ما عنده، وأنه إذا كان ممن قَصُرَ فى العلم باعُه، فضعف خلف الدليل، وتقاصَرَ عن جنى ثماره ذِراعُه، فَلْيَعْذُرْ مَنْ شمَّرَ عن ساق عَزْمِه، وحامَ حولَ آثار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحكيمِها، والتحاكم إليها بكُلِّ همة، وإن كانَ غيرَ عاذر لمنازعه فى قصورِه ورغبته
عن هذا الشأن البعيد، فليعذِرْ مُنازِعَه فى رغبته عما ارتضاه لنفسه مِن محض التقليد، ولينظر مع نفسه أيُّهما هو المعذورُ، وأىُّ السعيين أحقُّ بأن يكون هو السعى المشكور، واللهُ المستعان وعليه التُّكلان، وهو الموفِّقُ للصواب، الفاتِحُ لمن أمَّ بابَه طالباً لمرضاته من الخير كلَّ باب.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن طلق ثلاثاً بكلمة واحدة
قد تقدم حديثُ محمود بن لبيد رضى الله عنه: أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبرَ عن رجل طلَّق امرأته ثلاثَ تطليقات جميعاً، فقام مُغضبَاً، ثم قال: " أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ وأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟!" ، وإسناده على شرط مسلم، فإن ابن وهب قد رواه عن مخرمة بن بُكير بن الأشج، عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد فذكره، ومخرمة ثقة بلا شك، وقد احتج مسلم فى "صحيحه" بحديثه عن أبيه.
والذين أعلوه قالوا: لم يسمع منه، وإنما هو كتابٌ. قال أبُو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن مخرمة بنِ بُكير؟ فقال: هو ثقة، ولم يسمع من أبيه، إنما هو كتابُ، فنظر فيه، كُلُّ شىء يقول: بلغنى عن سُليمان بن يسار، فهو مِن كتاب مخرمة. وقال أبو بكر بن أبى خيثمة: سمعتُ يحيى بنَ معين يقول: مخرمةُ بن بُكير وقع إليه كتابُ أبيه، ولم يسمعه. وقال فى رواية عباس الدُّورى: هو ضعيفٌ، وحديثُه عن أبيه كتاب، ولم يسمعه منه، وقال أبو داود: لم يسمع من أبيه إلا حديثاً واحداً، حديثَ الوتر، وقال سعيد بن أبى مريم عن خاله موسى بن سلمة: أتيتُ
مخرمة فقلت: حدثك أبُوك؟ قال: لم أُدْرِكْ أبى، ولكن هذه كتبه.
والجوابُ عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن كِتابَ أبيه كان عنده محفوظاً مضبوطاً، فلا فرقَ فى قيامِ الحجة بالحديثِ بينَ ما حدَّثه به، أو رآه فى كتابه، بل الأخذُ عن النسخة أحوطُ إذا تيقَّن الراوى أنها نسخة الشيخ بعينها، وهذه طريقةُ الصحابة والسلف، وقد كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبعث كتبه إلى الملوك، وتقوم عليهم بها الحجة، وكتب كتبه إلى عُماله فى بلاد الإسلام، فعلموا بها، واحتجوا بها، ودفع الصديق كتابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الزكاة إلى أنسِ بن مالك، فحمله، وعَمِلَتْ به الأمةُ، وكذلك كتابُه إلى عمرو بن حزم فى الصدقات الذى كان عند آل عمرو، ولم يزل السلفُ والخلفُ يحتجُّون بكتابِ بعضهم إلى بعض، ويقول المكتوبُ إليه: كتب إلى فلان أن فلاناً أخبره، ولو بطل الاحتجاجُ بالكُتُب، لم يبق بأيدى الأمة إلا أيسرُ اليسير، فإن الاعتماد إنما هو على النَّسْخِ لا على الحفظ، والحفظ خَوَّان، والنسخة لا تخون، ولا يحفظ فى زمن من الأزمان المتقدِّمة أن أحداً مِن أهل العِلْمِ رَدَّ الاحتجاج بالكتاب، وقال: لم يُشافهنى به الكاتبُ، فلا أقبلُه، بل كُلُّهم مجمعون على قبول الكتابِ والعمل به إذا صح عنده أنه كتابُه.
الجواب الثانى: أن قول من قال: لم يسمع من أبيه، مُعارَض بقول من قال: سمع منه، ومعه زيادةُ علم وإثبات، قال عبد الرحمن بن أبى حاتم: سئل أبى عن مخرمة بن بُكير؟ فقال: صالحُ الحديث. قال: وقال ابنُ أبى أويس: وجدت فى ظهر كتاب مالك: سألت مخرمة عما يُحدِّث به عن أبيه، سمعها مِن أبيه؟ فحلف لى: ورَبِّ هذه البَنِيَّةِ يعنى المسجدَ سمعتُ من أبى. وقال علىُ بنُ المدينى: سمعتُ معن بن عيسى
يقول: مخرمةُ سمع من أبيه، وعرض عليه ربيعة أشياء مِن رأى سليمان ابن يسار، وقال على: ولا أظن مخرمَة سمع مِن أبيه كتابَ سليمان، لعلَّه سمع منه الشىءَ اليسير، ولم أجد أحداً بالمدينة يخبرنى عن مخرمة بن بكير أنه كان يقول فى شىء من حديثه: سمعت أبى، ومخرمة ثقة. انتهى. ويكفى أن مالكاً أخذ كِتابه، فنظر فيه، واحتجَّ به فى "موطئه"، وكان يقول: حدثنى مخرمة، وكان رجلاً صالحاً. وقال أبو حاتم: سألت إسماعيل بن أبى أويس، قلت: هذا الذى يقول مالك بن أنس: حدثنى الثقة، من هو؟ قال: مخرمة بن بكير. وقيل لأحمد بن صالح المصرى: كان مخرمة من ثقات الرجال؟ قال: نعم، وقال ابنُ عدى عن ابن وهب ومعن ابن عيسى عن مخرمة: أحاديثُ حِسانٌ مستقيمة وأرجو أنه لا بأس به.
وفى "صحيح مسلم" قولُ ابنِ عمر للمطلِّق ثلاثاً: "حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَكَ، وعَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلاقِ امْرَأَتِكَ ". وهذا تفسيرٌ منه للطلاق المأمور به، وتفسيرُ الصحابى حُجَّةٌ، وقال الحاكم: هو عندنا مرفوع.
ومن تأمَّل القرآن حقَّ التأمل، تبيَّن له ذلك، وعرف أن الطلاقَ المشروعَ بعدَ الدخول هو الطلاقُ الذى يملكُ به الرجعة، ولم يشرعِ الله سبحانه إيقاعَ الثلاث جملةٌ واحدة البتة؛ قال تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، ولا تعقِلُ العرب فى لغتها وقوعَ المرتين إلا متعاقبتين، كما قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَبَّحَ اللهَ دُبَرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثلاثاً وَثَلاَثِينَ، وحمِده ثلاثاً وثلاثين، وكَبَّرهُ أَربْعَاً وثلاَثِينَ"، ونظائره فإنه لا يُعقل من ذلك إلا تسبيح وتكبيرٌ وتحميدُ متوالٍ يتلو بعضهُ بعضاً، فلو قال: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد للَّه ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين بهذا اللفظ، لكانَ ثلاثَ مرات فقط، وأصرحُ من هذا قوله سبحانه: { والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ولم يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَاداتٍ باللهِ} [النور: 6] فلو قال: أشهدُ باللهِ أربع شهادات إنى لمن الصادقين، كانت مرَّة، وكذلك قولُه: {وَيَدْرُؤا عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمنَ الكَاذِبِينَ} [النور: 8] فلو قالت: أشهدُ باللهِ أربَع شهادات إنه لمن الكاذبين، كانت واحدة، وأصرحُ مِن ذلك قولُه تعالى: {سَنُعَذِّبُهم مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 101] فهذا مرة بعد مرة، ولا ينتقض هذا بقوله تعالى: {نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]، وقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلاَثَةٌ يُؤْتَونَ أَجْرَهُم مَرَّتَيْنِ".
فإن المرتين هنا هما الضِّعفان، وهما المِثلان، وهما مِثلان فى القدر، كقوله تعالى : {يُضَاعَفْ لَهَا العَذَاب ضِعفَين} [الأحزاب: 30]. وقوله { فآتت أكلها ضعفين } [البقرة : 265] أي: ضعفي ما يعذب به غيرها، وضعفي ما كانت تؤتي، ومن هذا قول أنس: انشق القمر على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتين، أي: شقتين وفرقتين، كما قال في اللفظ الآخر: انشق القمر فلقتين. وهذا أمر معلوم قطعاً أنه إنما انشق القمر مرة واحدة، والفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان، وبين ما يكون مثلين وجزأين ومرتين في المضاعفة. فالثاني: يتصور فيه اجتماع المرتين في آن واحد، والأول لا يتصور فيه ذلك.
ومما يدل على أن الله لم يشرع الثلاث جملة، أنه قال تعالى: {وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] إلى أن قال: {وَبُعُولَتُهُنّ أَحَقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوَاْ إِصْلاَحاً} [البقرة: 228] ، فهذا يدل على أن كل طلاق بعد الدخول، فالمطلق أحق فيه بالرجعة سوى الثالثة المذكورة بعد هذا، وكذلك قوله تعالى: {يَأَيُّها النَّبىُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلُّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] إلى قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، فهذا هو الطلاق المشروع، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أقسام الطلاق كلها في القرآن، وذكر أحكامها، فذكر الطلاق قبل الدخول، وأنه لا عدة فيه، وذكر الطلقة الثالثة، وأنها تحرم الزوجة على المطلق حتى تنكح زوجاً غيره، وذكر طلاق الفداء الذي هو الخلع، وسماه فدية، ولم يحسبه من
الثلاث كما تقدم، وذكر الطلاق الرجعي الذي المُطلق أحق فيه بالرجعة، وهو ما عدا هذه الأقسام الثلاثة.
وبهذا احتج أحمد والشافعي وغيرهما على أنه ليس في الشرع طلقة واحدة بعد الدخول بغير عوض بائنة، وأنه إذا قال لها: أنت طالق طلقة بائنة كانت رجعية، ويلغو وصفُها بالبينونة، وأنه لا ملك إبانتها إلا بعوض. وأما أبو حنيفة، فقال: تبين بذلك، لأن الرجعة حق له، وقد أسقطها، والجمهور يقولون: وإن كانت الرجعة حقاً لكن نفقة الرجعية وكسوتها حق عليه، لا يملك إسقاطه إلا باختيارها، وبذلها العوض، أو سؤالها أن تفتدي نفسها منه بغير عوض في أحد القولين، وهو جواز الخلع بغير عوض.
وأما إسقاط حقها من الكسوة والنفقة بغير سؤالها ولا بذلها العوض، فخلاف النص والقياس.
قالوا: وأيضاً فالله سبحانه شرع الطلاق على أكمل الوجوه وأنفعها للرجل والمرأة، فإنهم كانوا يطلقون في الجاهلية بغير عدد، فيطلق أحدهم المرأة كلما شاء، ويراجعها، وهذا وإن كان فيه رفق بالرجل، ففيه إضرار بالمرأة، فنسخ سبحانه ذلك بثلاث، وقصر الزوج عليها، وجعله أحق بالرجعة ما لم تنقض عدتها، فإذا استوفى العدد الذي ملكه، حرمت عليه، فكان في هذا رفق بالرجل إذ لم تحرم عليه بأول طلقة، وبالمرأة حيث لم يجعل إليه أكثر من ثلاث، فهذا شرعه وحكمته، وحدوده التي حدها لعباده، فلو حرمت عليه بأول طلقة يطلقها كان خلاف شرعه وحكمته، وهو لم يملك إيقاع الثلاث جملة، بل إنما ملك واحدة، فالزائد عليها غير مأذون له فيه.
قالوا: وهذا كما أنه لم يملك إبانتها بطلقة واحدة، إذ هو خلاف
ما شرعه، لم يملك إبانتها بثلاث مجموعة، إذ هو خلاف شرعه.
ونكتة المسألة أن الله لم يجعل للأمة طلاقاً بائناً قط إلا في موضعين. أحدهما: طلاق غير المدخول بها. والثاني: الطلقة الثالثة، وما عداه من الطلاق، فقد جعل للزوج فيه الرجعة، هذا مقتضى الكتاب كما تقدم تقريره، وهذا قول الجمهور، منهم: الإمام أحمد، والشافعي، وأهل الظاهر، قالوا: لا يملك إبانتها بدون الثلاث إلا في الخلع.
ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال فيما إذا قال: أنت طالق طلقة لا رجعة فيها. أحدها: أنها ثلاث، قاله ابن الماجشون لأنه قطع حقه من الرجعة، وهي لا تنقطع إلا بثلاث، فجاءت الثلاث ضرورة. الثاني: أنها واحدة بائنة، كما قال، وهذا قول ابن القاسم، لأنه يملك إبانتها بطلقة بعوض، فملكها بدونه، والخلع عنده طلاق. الثالث: أنها واحدة رجعية، وهذا قول ابن وهب، وهو الذي يقتضيه الكتاب والسنة والقياس، وعليه الأكثرون.
فصل
وأما المسألة الثانية، وهي وقوع الثلاث بكلمة واحدة، فاختلف الناس فيها على أربعة مذاهب.
أحدها : أنها تقع، وهذا قول الأئمة الأربعة، وجمهور التابعين، وكثير من الصحابة رضي الله عنهم.
الثاني : أنها لا تقع، بل ترد لأنها بدعة محرمة، والبدعة مردودة لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وهذا المذهب
حكاه أبو محمد ابن حزم، وحكي للإمام أحمد فأنكره، وقال: هو قول الرافضة.
الثالث : أنه يقع به واحدة رجعية، وهذا ثابت عن ابن عباس، ذكره أبو داود عنه. قال الإمام أحمد: وهذا مذهب ابن إسحاق، يقول: خالف السنة فيرد إلى السنة، انتهى، وهو قول طاووس، وعكرمة، وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية.
الرابع : أنه يفرق بين المدخول بها وغيرها، فتقع الثلاث بالمدخول بها، ويقع بغيرها واحدة، وهذا قول جماعة من أصحاب ابن عباس، وهو مذهب إسحاق بن راهويه فيما حكاه عنه محمد بن نصر المروزي في كتاب "اختلاف العلماء".
فأما من لم يوقعها جملة، فاحتجوا بأنه طلاق بدعة محرم، والبدعة مردودة، وقد اعترف أبو محمد ابن حزم بأنها لو كانت بدعة محرمة، لوجب أن ترد وتبطل، ولكنه اختار مذهب الشافعي أن جمع الثلاث جائز غير محرم، وستأتي حجة هذا القول.
وأما من جعلها واحدة، فاحتج بالنص والقياس، فأما النص، فما رواه معمر، وابن جريج عن ابن طاووس، عن أبيه، أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبي بكر، وصدراً من إمارة عمر؟ قال نعم. رواه مسلم في "صحيحة".
وفي لفظ: ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبي بكر، وصدراً من خلافة عمر ترد إلى واحدة؟ قال: نعم.
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الرازق، أن ابن جريج قال: أخبرني بعض بني أبي رافع مولى رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طلق عبد يزيد - أبو ركانة وإخوته - أم ركانة، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة، لشعرة أخذتها من رأسها، ففرق بيني وبينه، فأخذت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمية، فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: (ألا ترون أن فلاناً يشبه
منه كذا وكذا من عبد يزيد، وفلاناً منه كذا وكذا)؟ قالوا: نعم، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد يزيد: (طلقها)، ففعل ثم قال "راجع امرأتك أم ركانة وإخوته" فقال: إني طلقتها ثلاثاً يا رسول الله، قال : "قد علمت راجعها" وتلا: {يَأَيُّها النَّبىُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلُّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].
وقال الإمام أحمد: حدثنا سعد بن إبراهيم، قال: حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس، قال: طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بن المطلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد، فحزن عليها حزناً شديداً، قال: فسأله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كيف طلقتها"، فقال: طلقتها ثلاثاً، فقال: "في مجلس واحد؟" قال: نعم، قال: "فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت" قال: فراجعها. فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طهر.
قالوا: وأما القياس، فقد تقدم أن جمع الثلاث محرم وبدعة، والبدعة مردودة، لأنها ليست على أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: وسائر ما تقدم في بيان التحريم يدل على عدم وقوعها جملة. قالوا: ولو لم يكن معنا إلا قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِالله} [النور: 6]، وقوله: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِالله} [النور: 8] ، قالوا: وكذلك كل ما يعتبر له التكرار من حلف أو إقرار أو شهادة، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تحلفون خمسين يميناً، وتستحقون دم صاحبكم"
فلو قالوا: نحلف بالله يميناً: إن فلاناً قتله، كانت يميناً واحدة. قالوا: وكذلك الإقرار بالزنى، كما في الحديث: إن بعض الصحابة قال لماعز: إن أقررت أربعاً، رجمك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا لا يعقل أن تكون الأربع فيه مجموعة بفم واحد.
وأما الذين فرقوا بين المدخول بها وغيرها، فلهم حجتان.
إحداهما: ما رواه أبو داود بإسناد صحيح، عن طاووس، أن رجلاً يقال له: أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس، قال له: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر؟ فلما رأى عمر الناس قد تتايعوا فيها: قال: أجيزوهن عليهم.
الحجة الثانية: أنها تبين بقوله: أنت طالق، فيصادقها ذكر الثلاث وهي بائن، فتلغو ورأى هؤلاء أن إلزام عمر بالثلاث هو في حق المدخول بها، وحديث أبي الصهباء في غير المدخول بها. قالوا: ففي هذا التفريق موافقة المنقول من الجانبين، وموافقة القياس، وقال بكل قول من هذه الأقوال جماعة من أهل الفتوى، كما حكاه أبو محمد ابن حزم وغيره، ولكن عدم الوقوع جملة هو مذهب الإمامية، وحكوه عن جماعة من أهل البيت.
قال الموقعون للثلاث: الكلام معكم في مقامين.
أحدهما: تحريم جمع الثلاث. والثاني: وقوعها جملة ولو كانت محرمة، ونحن نتكلم معكم في المقامين. فأما الأول:
فقد قال الشافعي، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه، وجماعة من أهل الظاهر: إن جمع الثلاث سنة، واحتجوا عليه بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلّقَهَا فَلاَ تَحِلّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّىَ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، ولم يفرق بين أن تكون الثلاثُ مجموعةً، أو مفرَّقة، ولا يجوز أن نفرِّق بينَ ما جمع الله بينه، كما لا نجمع بين ما فرَّق الله بينه. وقال تعالى: {وإِنْ طَلَّقْتُموُهُنَّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمسُّوهُنَّ} [البقرة: 237]، ولم يفرق وقال: {لا جُناَحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُم النِّساءَ مَا لَم تَمَسُّوهُنَّ} الآية، ولم يفرق وقال: {وَللْمُطَلَّقَاتِ متَاعٌ بِالمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]، وقال: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنّ} [الأحزاب: 49] ، ولم يفرق. قالوا: وفي "الصحيحين"، أن عويمرا العجلاني طلق امرأته ثلاثا بحضرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يأمره بطلاقها. قالوا: فلو كان جمع الثلاث معصية لما أقر عليه رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يخلو طلاقها أن يكون قد وقع وهي امرأته، أو حين حرمت عليه باللعان.
فإن كان الأول، فالحجة منه ظاهرة، وإن كان الثاني، فلا شك أنه طلقها، وهو يظنها امرأته، فلو كان حراماً، لبينها له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كانت قد حرمت عليه. قالوا: وفي صحيح البخاري، من حديث القاسم بن محمد، عن عائشة أم المؤمنين، أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجت، فطلقت، فسئل رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أتحل للأول؟ قال: "لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول "، فلم ينكر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، وهذا
يدل على إباحة جمع الثلاث، وعلى وقوعها، إذ لو لم تقع، لم يوقف رجوعها إلى الأول على ذوق الثاني عسيلتها.
قالوا: وفي "الصحيحين" من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن فاطمة بنت قيس أخبرته أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثاً، ثم انطلق إلى اليمن، فانطلق خالد بن الوليد في نفر، فأتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت ميمونة أم المؤمنين، فقالوا: إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثاً، فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس لها نفقة وعليها العدة".
وفي "صحيح مسلم" في هذه القصة: قالت فاطمة، فأتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "كم طلّقك"؟ قلت: ثلاثاً، فقال: "صدوق ليس لك نفقة".
وفي لفظ له: قالت: يا رسول الله، إن زوجي طلقني ثلاثاً، وإني أخاف أن يقتحم علي.
وفي لفظ له: عنها، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المطلقة ثلاثاً: "ليس لها سكنى ولا نفقة".
قالوا: وقد روى عبد الرازق في "مصنفه" عن يحيى بن العلاء، عن عبيد الله بن الوليد الوصافي، عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت، عن داود بن عبادة بن الصامت، قال: طلق جدي امرأة له
ألف تطليقة، فانطلق أبي إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر له ذلك، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما اتقى الله جدك، أما ثلاث فله، وأما تسعمائة وسبعة وتسعون فعدوان وظلم، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له".
ورواه بعضهم عن صدقة بن أبي عمران، عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جده، قال طلق بعض آبائي امرأته، فانطلق بنوه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: يا رسول الله، إن أبانا طلق أمنَا إلفاً، فهل له من مخرج؟ فقال: "إن أباكم لم يتق الله، فيجعل له مخرجاً، بانت منه بثلاث على غير السنة، وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقة".
قالوا: وروى محمد بن شاذان، عن معلي بن منصور، عن شعيب ابن زريق، أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه طلق امرأته وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بطلقتين أخريين عند القرءين الباقيين، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "يا ابن عمر، ما هكذا أمرك الله، أخطأت السنة"... وذكر الحديث، وفيه، فقلت: يا رسول الله، لو كنت طلقتها ثلاثاً، أكان لي أن أجمعها؟ قال: "لا، كانت تبين وتكون معصية".
قالوا: وقد روى أبو داود في "سننه": عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة، أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والله ما أردت إلا واحدة"؟
فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فطلقها الثانية في زمن عمر، والثالثة في زمن عثمان.
وفي جامع الترمذي: عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن أبيه، عن جده، أنه طلق امرأته ألبته، فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "ما أردت بها"؟ قال: واحدة، قال: "آلله"، قال: آلله، قال: "هو على ما أردت". قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث؟ فقال: فيه اضطراب.
ووجه الاستدلال بالحديث، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحلفه أنه أراد بالبتة واحدة، فدل على أنه لو أراد بها أكثر، لوقع ما أراده، ولو لم يفترق الحال لم يحلِّفه.
قالوا: وهذا أصح من حديث ابن جريج عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة، عن ابن عباس أنه طلقها ثلاثاً. قال أبو داود: لأنهم ولد الرجل، وأهله أعلم به أن ركانة إنما طلقها البتة.
قالوا: وابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع. فإن كان عبيد الله، فهو ثقة معروف، وإن كان غيره من إخوته، فمجهول العدالة لا تقوم به حجة.
قالوا: وأما طريق الإمام أحمد، ففيها ابن إسحاق، والكلام فيه معروف، وقد حكى الخطابي، أن الإمام أحمد كان يضعف طرق هذا الحديث كلها.
قالوا: وأصح ما معكم حديث أبي الصهباء عن ابن العباس، وقد قال البيهقي: هذا الحديث أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم، فأخرجه مسلم وتركه البخاري، وأظنه تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس،
ثم ساق الروايات عنه بوقوع الثلاث، ثم قال: فهذه رواية سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد وعكرمة، وعمرو بن دينار، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس بن البكير، قال: ورويناه عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري، كلهم عن ابن عباس، أنه أجاز الثلاث وأمضاهن.
وقال ابن المنذر فغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً ثم يفتي بخلافه.
وقال الشافعي: فإن كان معنى قول ابن عباس: إن الثلاث كانت تحسب على عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحدة، يعني أنه بأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالذي يشبه - والله أعلم - أن يكون ابن عباس قد علم أنه كان شيئاً فنسخ. قال البيهقي: ورواية عكرمة عن ابن عباس فيها تأكيد لصحة هذا التأويل - يريد البيهقي -، ما رواه أبو داود والنسائي، من حديث عكرمة في قوله تعالى: {وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] الآية وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثاً، فنسخ ذلك، فقال: {الطَلاَقُ مَرَّتَان} [البقرة: 229].
قالوا: فيحتمل أن الثلاث كانت تجعل واحدة من هذا الوقت، بمعنى أن الزوج كان يتمكن من المراجعة بعدها، كما يتمكن من المراجعة بعد الواحدة، ثم نسخ ذلك.
وقال ابن سريج: يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص
من الطلاق الثلاث، وهو أن يفرق بين الألفاظ، كأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وكان في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعهد أبي بكر رضي الله عنه الناس على صدقهم وسلامتهم لم يكن فيهم الخِب والخداع، فكانوا يصدقون أنهم أرادوا به التأكيد. ولا يُريدون به الثلاثَ، فلما رأى عمر رضى الله عنه فى زمانه أموراً ظهرت، وأحوالاً تغيّرت، منع من حمل اللفظ على التكرار، وألزمهم الثلاث.
وقالت طائفة: معنى الحديث أنَّ الناس كانت عادتُهم على عهدِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيقاعَ الواحدة، ثم يدعها حتى تنقضىَ عدتُها، ثم اعتادوا الطلاقَ الثلاثَ جملة، وتتايَعُوا فيه، ومعنى الحديث على هذا: كان الطلاقُ الذى يُوقعه المطلق الآن ثلاثاً يُوقِعهُ على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبى بكر واحدة، فهو إخبارٌ عن الواقع، لا عن المشروع.
وقالت طائفة: ليس فى الحديث بيانُ أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذى كان يجعل الثلاثَ واحدة، ولا أنه أُعلم بذلك فأَقرَّ عليه، ولا حُجة إلا فيما قاله أو فعله، أو علم به فأقرَّ عليه، ولا يُعلم صحةُ واحدةً من هذه الأمور فى حديث أبى الصهباء.
قالُوا: وإذا اختلفت علينا الأحاديثُ، نظرنا إلى ما عليه أصحابُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنَّهم أعلمُ بسنته، فنظرنا فإذا الثابتُ عن عمر بن الخطاب الذى لا يَثْبُتُ عنه غيره ما رواه عبد الرزاق، عن سفيان الثورى، عن سلمة ابن كُهيل، حدثنا زيدُ بن وهب، أنه رُفِعَ إلى عمر بن الخطاب رجل طلق امرأته ألفاً، فقال له عمر: أطلقتَ امرأتَك؟ فقال: إنما كنتُ
ألعب، فعالجه عُمَرُ بالدِّرَّةِ، وقال: إنما يكفيك من ذلك ثلاث.وروى وكيع، عن الأعمشِ، عن حبيب بن أبى ثابت، قال: جاء رجل إلى على ابن أبى طالب، فقال: إنى طلقتُ امرأتى ألفاً، فقال له علىٌّ: بانت منك بثلاث، واقسِمْ سائِرَهن بينَ نسائك.
وروى وكيع أيضاً، عن جعفر بن بُرقان، عن معاوية بن أبى يحيى، قال: جاء رجلٌ إلى عثمان بنِ عفان، فقال: طلقتُ امرأتى ألفاً، فقال بانَتْ منك بثلاث.
وروى عبدُ الرزاق، عن سفيان الثورى، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بنِ جبير، قال: قال رجلٌ لابنِ عباس: طلقتُ امرأتى ألفاً، فقال له ابنُ عباس: ثلاثٌ تُحرِّمُها عليك، وبقيتُها عليك، وِزْر، اتخذت آيات الله هزواً.
وروى عبدُ الرزاق أيضاً، عن معمر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: إنى طلقتُ امرأتى تسعاً وتسعين، فقال له ابنُ مسعود: ثلاث تُبينها منك، وسائُرهن عُدوان.
وذكر أبو داود فى "سننه"، عن محمد ابن إياس، أن ابن عباس، وأبا هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، سُئِلُوا عن البِكر يُطلِّقُها زوجُها
ثلاثاً، فَكُلُّهم قال: لا تَحِلُّ له حتى تَنكِحَ زوجاً غيرَه.
قالوا: فهؤلاء أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما تسمعون قد أوقعوا الثلاثَ جملةً، ولو لم يكن فيهم إلا عمر المحدِّث المُلْهَمُ وحدَه، لكفى، فإنه لا يُظن به تغييرُ ما شرعه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن الطلاق الرجعى، فيجعله محرَّماً، وذلك يتضمَّن تحريمَ فرج المرأه على من تَحْرُمْ عليه، وإباحته لمن لا تَحِلُّ له، ولو فعل ذلك عمر، لما أقرَّه عليه الصحابةُ، فضلاً عن أن يُوافقوه، ولو كان عندَ ابنِ عباس حجة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الثلاثَ واحدةٌ لم يُخَالِفْها. ويُفتى بغيرها موافقةً لعمر، وقد علم مخالفته له فى العَوْل، وحجب الأم بالاثنين من الإخوة والأخوات، وغير ذلك.
قالوا: ونحنُ فى هذه المسألة تبع لأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ أعلمُ بسنته وشرعه، ولو كان مستقراً مِن شريعته أن الثلاثَ واحدة وتُوفِّى والأمر على ذلك لم يَخْفَ عليهم، ويعلمه مَنْ بعدهم، ولم يُحْرَمُوا الصَّواب فيه، ويُوفَّق له مَنْ بعدهم، ويروى حبرُ الأمة وفقيهُها خبرَ كونِ الثلاث واحدة ويُخالفه.
قال المانعون من وقوع الثلاث: التحاكُم فى هذه المسألة وغيرها إلى من أقسم اللهُ سبحانه وتعالى أصدقَ قَسَمٍ، وأبره، أنا لا نُؤْمِنُ حتى نُحَكِّمَه فيما شَجَرَ بيننا، ثم نَرضى بحُكمِه، ولا يلحقُنا فيه حرجٌ، ونسلِّم له تسليماً لا إلى غيره كائناً مَنْ كان، اللهم إلا أن تُجمِعَ أمته إجماعاً متيقناً لا نشكُّ فيه على حُكم، فهو الحقُّ الذى لا يجوز خلافُه، ويأبى الله أن تجتمع الأمة على خلاف سنة ثابتة عنه أبداً، ونحن قد أوجدناكُم من الأدلة ما تثبتُ المسألة به، بل وبدُونه، ونحن نُناظركم فيما طعنتم به فى
تلك الأدلة، وفيما عارضتمونا به على أنا لا نحكِّم على أنفسنا إلا نصَّاً عن الله، أو نصاً ثابتاً عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،أو إجماعاً متيقَّناً لا شكَّ فيه، وما عدا هذا فعُرضة للنزاع، وغايتُه أن يكون سائغَ الاتِّباع لا لازمهَ، فلتكن هذه المقدمة سلفاً لنا عندكم، وقد قال تعالى: {فإنْ تَنَازَعْتُمْ فى شَىءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ، فقد تنازعنا نحن وأنتم فى هذه المسألة، فلا سبيلَ إلى ردِّها إلى غير الله ورسوله ألبتة، وسيأتى أننا أحقُّ بالصحابة، وأسعدُ بهم فيها، فنقول:
أمَّا منعُكم لتحريمِ جمعِ الثلاث، فلا ريبَ أنها مسألة نزاع، ولكن الأدلة الدالة على التحريم حجةٌ عليكم.
أما قولكم: إن القرآن دل على جواز الجمع، فدعوى غيرُ مقبولة، بل باطلة، وغايةُ ما تمسكتم به إطلاقُ القرآن للفظ الطلاق، وذلك لا يعمُّ جائزه ومحرَّمه، كما لا يدخل تحتَه طلاقُ الحائض، وطلاقُ الموطوءة فى طهرها، وما مَثَلُكُم فى ذلك إلا كَمَثَلِ مَنْ عارض السنة الصحيحةَ فى تحريم الطلاق المحرم بهذه الإطلاقات سواء، ومعلوم أن القرآن لم يدلَّ على جواز كل طلاق حتى تُحمِّلوه ما لا يُطيقه، وإنما دلَّ على أحكام الطلاق، والمُبيِّنُ عن اللهِ عز وجلَّ بَيَّنَ حَلالَه وحَرَامه، ولا ريب أنا أسعدُ بظاهر القرآن كما بينا فى صدر الاستدلال، وأنه سبحانه لم يشرع قط طلاقاً بائناً بغيرِ عوض لمدخول بها، إلا أن يكونَ آخرَ العدد، وهذا كتابُ الله بيننَا وبينَكم، وغايةُ ما تمسكتم به ألفاظ مطلقة قيَّدتْها السنة، وبينت شروطها وأحكامها.
وأما استدلالُكم بأن الملاعِنَ طلَّق امرأته ثلاثاً بحضرة رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما أصحَّه مِن حديث، وما أبعدَهُ مِن استدلالكم على جواز الطلاق الثلاث
بكلمة واحدة في نكاح يقصد بقاؤه ودوامه ، ثم المستدل بهذا إن كان ممن يقول : إن الفرقة وقعت عقيب لعان الزوج وحده ، كما يقوله الشافعي ، أو عقيب لعانهما وإن لم يفرق الحاكم ، كما يقوله أحمد في إحدى الروايات عنه ، فالإستدلال به باطل ، لأن الطلاق الثلاث حينئذ لغو لم يفد شيئاً ، وإن كان ممن يوقف الفرقة على تفريق الحاكم ، لم يصح الإستدلال به أيضاً لأن هذا النكاح لم يبق سبيل إلى بقائه ودوامه ، بل هو واجب الإزالة ، ومؤبد التحريم ، فالطلاق الثلاث مؤكد لمقصود اللعان ، ومقرر له ، فإن غايته أن يحرمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره ، وفرقة اللعان تحرمها عليه على الأبد ، ولا يلزم من نفوذ الطلاق في نكاح قد صار مستحق التحريم على التأبيد نفوذه في نكاح قائم مطلوب البقاء والدوام ، ولهذا لو طلقها في هذا الحال وهي حائض ، أو نفساء أو في طهر جامعها فيه ، لم يكن عاصياً ، لأن هذا النكاح مطلوب الإزالة مؤيد التحريم ، ومن العجب أنكم متمسكون بتقرير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذا الطلاق المذكور ، ولا تتمسكون بإنكاره وغضبه للطلاق الثلاث من غير الملاعن ، وتسميته لعباً بكتاب الله كما تقدم ، فكم بين هذا الإقرار وهذا الإنكار ؟ ونحن بحمد الله قائلون بالأمرين ، مقرون لما أقره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، منكرون لما أنكره .
وأما استدلالكم بحديث عائشة رضي الله عنها ، أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً فتزوجت ، فسئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، هل تحل للأول ؟ قال : " لا حتى تذوق العسيلة " ، فهذا لا ننازعكم فيه ، نعم هو حجة على من اكتفى بمجرد عقد الثاني ، ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد ، بل الحديث حجة لنا ، فإنه لا يقال : فعل ذلك ثلاثاً ، وقال ثلاثاً إلا من فعل ، وقال : مرة بعد مرة ، هذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم ، كما يقال : قذفه ثلاثاً ، وشتمه ثلاثاً ، وسلم عليه ثلاثاً .
قالوا: وأما استدلالُكم بحديثِ فاطمة بنت قيس، فَمِنَ العجب العُجاب، فإنكم خالفتُموه فيما هو صريحٌ فيه لا يقبلُ تأويلاً صحيحاً، وهو سقوطُ النفقة والكِسوة للبائن مع صحته وصراحته، وعدم ما يُعارِضُه مقاوماً له، وتمسكتُم به فيما هو مجمل، بل بيانُه فى نفس الحديث مما يُبطِلُ تعلُّقكم به، فإن قوله: طلَّقها ثلاثاً ليس بصريح فى جمعها، بل كما تقدم، كيف وفى "الصحيح" فى خبرها نفسِه مِن رواية الزهرى، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عُتبة، أن زوجَها أرسل إليها بتطليقةٍ كانت بَقيت لها مِن طلاقِها وفى لفظ فى "الصحيح": أنه طلقها آخِرَ ثلاثٍ تطليقاتٍ، وهو سند صحيح متصل مثلُ الشمس، فكيف ساغ لكم تركه إلى التمسك بلفظ مجملٍ، وهو أيضاً حجةٌ عليكم كما تقدم؟.
قالوا: وأما استدلالُكم بحديثِ عُبادة بنِ الصامت الذى رواه عبد الرزاق، فخبر فى غاية السقوط، لأن فى طريقه يحيى بن العلاء، عن عُبيد الله بن الوليد الوصَّافى، عن إبراهيم بن عبيد الله ضعيف، عن هالك، عن مجهول، ثم الذى يدلُّ على كذبه وبُطلانه، أنه لم يعرف فى شىء من الآثار صحيحها ولا سقيمها، ولا متصلها ولا منقطعها، أن والد عبادة بن الصامت أدرك الإسلام، فكيف بجده، فهذا محال بلا شك. وأما حديث عبد الله بن عمر، فأصلُه صحيحٌ بلا شك، لكن هذه الزيادة والوصلة التى فيه: فقلتُ: يا رسولَ الله: لو طلقتُها ثلاثاً أكانت تَحِلُّ لى؟ إنما جاءت من رواية شعيب بن زُريق، وهو الشامى، وبعضهم يقلبه فيقولُ: زُريق بن شعيب، وكيفما كان، فهو ضعيف، ولو صحَّ، لم يكن فيه
حجة، لأن قوله: لو طلقتها ثلاثاً بمنزلة قوله: لو سلمت ثلاثاً، أو أقررت ثلاثاً، أو نحوه مما لا يُعقل جمعُه.
وأما حديثُ نافِع بن عجير الذى رواه أبو داود، أن ركانة طلق امرأته ألبتة، فأحلفه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أرادَ إلا واحدة، فمن العجب تقديمُ نافع ابن عجير المجهول الذي لا يُعرف حاله ألبتة، ولا يُدرى من هو، ولا ما هو على ابن جريج، ومعمر، وعبد الله بن طاووس فى قصة أبى الصهباء، وقد شهد إمامُ أهل الحديث محمدُ بن إسماعيل البخارى بأن فيه اضطراباً، هكذا قال الترمذى فى الجامع، وذكر عنه فى موضع آخر: أنه مضطرب. فتارةً يقول: طلقها ثلاثاً، وتارةً يقول: واحدةً، وتارة يقول: البتة، وقال الإمام أحمد: وطرقه كُلُّها ضعيفة، وضعفه أيضاً البخارى، حكاه المنذرى عنه.ثم كيف يُقدَّم هذا الحديثُ المضطربُ المجهولُ رواية على حديث عبد الرزاق عن ابن جريج لِجهالة بعض بنى أبى رافع، هذا وأولادُه تابعيون، وإن كان عبيد الله أشهرَهم، وليس فيهم متهم بالكذب، وقد روى عنه ابنُ جُريج، ومَنْ يقبلُ روايةَ المجهول، أو يقولُ: روايةُ العدل عنه تعديلٌ له، فهذا حجةٌ عنده، فأمَّا أن يُضعِّفَه ويُقَدِّمَ عليه روايةَ من هو مثلُه فى الجهالة، أو أشدُّ، فكلاَّ، فغايةُ الأمر أن تتساقَط روايتا هذين المجهولين، يُعْدَل إلى غيرهما، وإذا فعلنا ذلك، نظرنا فى حديث سعد بن إبراهيم، فوجدناه صحيح الإسناد، وقد زالت علةُ تدليسِ محمد ابن إسحاق بقوله: حدثنى داود بن الحصين، وقد احتج أحمد بإسناده فى مواضع، وقد
صحح هو وغيرُه بهذا الإسناد بعينه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردَّ زينبَ على زوجِها أبى العاص بن الربيع بالنِّكاحِ الأوَّلِ، ولم يُحدث شيئاً.
وأما داودُ بن الحُصين، عن عكرمة، فلم تزل الأئمة تحتجُّ به، وقد احتجُّوا به فى حديث العَرَايا فيما شُكَّ فيه، ولم يُجْزَمْ به مِن تقديرها بخمسة أوسُق أو دونَها مع كونِها على خلاف الأحاديث التى نهى فيها عن بيع الرُّطَبِ بالتمرِ، فما ذنبه فى هذا الحديث سوى رواية ما لا يقولون به، وإن قدحتُم فى عكرمة ولعلكم فاعِلون جاءكم ما لا قِبَلَ لكُم به من التناقض فيما احتججتُم به أنتُم وأئمةُ الحديث مِن روايته، وارتضاء البخارى لإدخال حديثه فى "صحيحه".
فصل
وأما تلك المسالك الوَعْرَةُ التى سلكتموها فى حديثِ أبى الصهباء، فلا يَصِحُّ شىء منها.
أما المسلكُ الأول، وهو انفرادُ مسلم بروايته، وإعراضُ البخارى عنه، فَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْهُ عَارُهَا، وما ضرَّ ذلك الحديثَ انفرادُ مسلم به شيئاً، ثم هل تقبلون أنتم، أو أحدٌ مثل هذا فى كُلِّ حديثٍ يَنْفَرِدُ به مسلم عن البخارى، وهل قال البخارىُّ قطُّ: إن كُلِّ حديث لم أُدْخِلْه فى كتابى، فهو باطل، أو ليس بحجة، أو ضعيف، وكم قد احتج البخارىُّ بأحاديث خارجَ الصحيح ليس لها ذكر فى "صحيحه"، وكم صحَّح
مِن حديث خارجٍ عن صحيحه. فأما مخالفةُ سائرِ الروايات له عن ابن عباس، فلا ريبَ أن عن ابن عباس روايتين صحيحتين بلا شك. إحداهُهما: تُوافق هذا الحديثَ، والأُخرى: تُخالفه، فإن أسقطنا رواية برواية، سَلِمَ الحديثُ على أنه بحمد الله سالم. ولو اتفقتِ الرواياتُ عنه على مخالفته، فله أسوةُ أمثاله، وليس بأوَّلِ حديث خالفه روايه، فنسألكم: هل الأخذُ بما رواه الصحابى عندكم، أو بما رآه؟ فإن قلتم: الأخذُ بروايته، وهو قولُ جمهوركم، بل جمهورُ الأمة على هذا، كفيتُمونا مؤونة الجوابِ. إن قلتُم: الأخذُ برأيه، أَريناكُم مِن تناقضكم ما لا حِيلة لكم فى دفعه، ولا سيما عن ابن عباس نفسِه، فإنه روى حديث بَريرة وتخييرها، ولم يكن بيعُها طلاقاً، ورأى خلافَه، وأن بيعَ بالأمة طلاقُها، فأخذتُم وأصبتُم بِروايته، وتركتم رأيه، فهلا فعلتُم ذلك فيما نحن فيه، وقلتم: الرواية معصومة، وقولُ الصحابى غيرُ معصوم، ومخالفته لما رواه يحتمِلُ احتمالاتٍ عديدة من نسيان أو تأويل، أو اعتقاد مُعارِض راجحٍ فى ظنه، أو اعتقادِ أنه منسوخ أو مخصوص، أو غير ذلك من الاحتمالات، فكيف يسوغُ ترك روايته مع قيام هذه الاحتمالات؟ وهل هذا إلا تركُ معلوم لِمظنون، بل مجهول؟ قالوا: وقد روى أبو هريرة رضى الله عنه حديثَ التسبيعِ من ولُوغ الكلب، وأفتى بخلافه، فأخذتُم بروايته، وتركتُم فتواه. ولو تتبعنا ما أخذتُم فيه بروايةِ الصحابى دونَ فتواه، لطال.
قالُوا: وأما دعواكم نسخ الحديث، فموقوفة على ثبوت معارض
مُقاوم متراخ، فأين هذا؟
وأما حديثُ عكرمة، عن ابن عباس فى نسخ المراجعة بعد الطلاق الثلاث، فلو صحَّ، لم يكن فيه حجة، فإنه إنما فيه أن الرَّجل كان يُطَلِّقُ امرأته ويُراجعها بغير عدد، فنُسِخَ ذلك، وقُصِرَ على ثلاث، فيها تنقطع الرجعة، فأين فى ذلك الإلزام بالثلاث بفم واحد، ثم كيف يستمرُّ المنسوخ على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبى بكر، وصدراً من خلافة عمر، لا تعلم به الأمة، وهو من أهم الأمور المتعلقة بحل الفروج، ثم كيف يقول عمر: إن الناس قد استعجلوا فى شىء كانت لهم فيه أناة، وهل للأمة أناة فى المنسوخ بوجه ما؟، ثم كيف يُعارض الحديثُ الصحيحُ بهذا الذى فيه على بن الحسين ابن واقد، وضعفُه معلوم؟
وأما حملُكم الحديثَ على قول المطلِّق: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق، ومقصودُه التأكيد بما بعد الأول، فسياقُ الحديث مِن أوله إلى آخره يردُّه، فإنَّ هذا الذى أوَّلتم الحديثَ عليه لا يتغيرُ بوفاةِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يختِلفُ على عهده وعهدِ خُلفائه، وهَلُمَّ جراً إلى آخر الدهر، ومن ينويه فى قصد التأكيد لا يُفَرِّقُ بين بَرٍّ وفاجر، وصادق وكاذب، بل يردُّه إلى نيته، وكذلك مَن لا يقبله فى الحكم لا يقبلُه مطلقاً بَراً كان أو فاجراً.
وأيضاً فإن قوله: إن الناس قد استعجلوا وتتابعوا فى شىء كانت لهم فيه أناة، فلو أنا أمضيناه عليهم. إخبار من عمر بأن الناس قد استعجلوا ما جعلهم الله فى فُسحة منه، وشَرَعَهُ متراخياً بعضه عن بعض رحمةً بهم، ورفقاً وأناة لهم، لئلا يندم مطلِّق، فيذهب حبيبُه مِن يديه مِن أول وهلة،
فَيَعِزُّ عليه تدارُكه، فجعل له أناةً ومُهلةً يستعتِبُه فيها، ويرضيه ويَزولُ ما أحدثه العتبُ الداعى إلى الفراقُ، ويُراجع كُلٌّ منهما الذى عليه بالمعروف، فاستعجلوا فيما جعل لهم فيه أناة ومُهلة، وأوقعوه بفم واحد، فرأى عمر رضى الله عنه أنه يلزمُهم ما التزموه عقوبةً لهم، فإذا عَلِمَ المطلِّق أن زوجته وسكنه تحرُم عليه من أول مرة بجمعه الثلاثَ، كفَّ عنها، ورجع إلى الطلاق المشروع المأذون فيه، وكان هذا مِن تأديب عمر لرعيته لما أكثرُوا مِن الطلاق الثلاث، كما سيأتى مزيدُ تقريره عند الاعتذار عن عمر رضى الله عنه فى إلزامه بالثلاث، هذا وجهُ الحديث الذى لا وجه له غيرُه، فأين هذا من تأويلكم المستكرَهِ المستبعَدِ الذى لا تُوافقه ألفاظُ الحديث، بل تنبُو عنه، وتُنافره.
وأما قولُ مَنْ قال: إن معناه كان وقوعَ الطلاق الثلاث الآن على عهدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحدةً، فإن حقيقة هذا التأويل: كان الناس على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطَلِّقُونَ واحدة، وعلى عهد عمر صاروا يطلِّقون ثلاثاً، والتأويلُ إذا وصل إلى هذا الحد، كان مِن باب الالغاز والتحريف، لا من باب بيان المراد، ولا يَصِحُّ ذلك بوجه ما، فإن الناسَ ما زالوا يُطلِّقون واحدة وثلاثاً، وقد طلَّق رجالٌ نساءهم على عهد رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثاً، فمنهم من ردَّها إلى واحدة، كما فى حديث عكرمة عن ابن عباس. ومنهم من أنكر عليه، وغَضِبَ، وجعله متلاعباً بكتاب الله، ولم يُعْرَفْ ما حكم به عليهم، وفيهم من أقَّره لتأكيد التحريم الذى أوجبه اللعان، ومنهم من ألزمه بالثلاث، لكون ما أتى به من الطلاق آخر الثلاث، فلا يَصِحُّ أن يقال: إن الناس ما زالوا يطلقون واحدة إلى أثناء خلافة عمر، فطلقوا ثلاثاً، ولا يَصِحُّ أن يقال: إنهم قد استعجلوا فى شىء كانت لهم فيه أناة، فنمضيه عليهم، ولا يُلائم هذا الكلام الفرق بين عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وبين عهده بوجه ما، فإنه ماضِ منكم على عهده وبعدَ عهده.
ثم إن فى بعض ألفاظِ الحديث الصحيحة: ألم تعلم أنه من طلَّق ثلاثاً جُعِلَتْ وَاحِدَة على عهد رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفى لفظ: أما عَلِمْتَ أن الرجل كان إذا طلَّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبى بكر، وصدراً من خلافة عمر، فقال ابن عباس: بلى كان الرجلُ إذا طلَّق امرأتَه ثلاثاً قبل أن يدخُلَ بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبى بكر، وصدراً من إمارة عمر، فلما رأى الناس يعنى عمر قد تتايعوا فيها، قال: أجيزوهن عليهم، هذا لفظُ الحديث، وهو بأصح إسناد، وهو لا يحتمِلُ ما ذكرتُم من التأويل بوجه ما، ولكن هذا كله عَمَلُ من جعل الأدلة تبعاً للمذهب، فاعتقد، ثم استدل. وأما من جعل المذهب تبعاً للدليل، واستدل، ثم اعتقد، لم يمكنه هذا العمل.
وأما قول من قال: ليس فى الحديث بيانُ أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان هَوُ الذى يجعلُ ذلك، ولا أنه علم به، وأقرَّه عليه، فجوابه أن يقال: سُبْحَانَك هذا بهتان عظيم أن يستمِرَّ هذا الجعلُ الحرام المتضمِّن لتغيير شرع الله وَدِينه، وإباحة الفَرْجِ لمن هو عليه حرامٌ، وتحريمُه على من هو عليه حلالٌ على عهدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه خير الخلف، وهم يفعلونه، ولا يعلمونه، ولا يعلمه هو، والوحى يَنْزِلُ عليه، وهو يُقِرُّهم عليه، فَهَبْ أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يعلمُه، وكان الصحابةُ يعلمونه، ويُبدِّلون دينَه وشرعَه، واللهُ يعلمُ ذلك، ولا يُوحيه إلى رسوله، ولا يُعلمه به، ثم
يتوفَّى اللهُ رسولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمرُ علي ذلك، فيستمِرُّ هذا الضلالُ العظيم، والخطأُ المبين عند كم مدة خِلافةِ الصديق كُلِّها، يُعْمَلُ به ولا يُغيَّر إلى أن فارق الصديقُ الدنيا، واستمر الخطأ والضلالُ المركَّب صدراً مِن خلافة عمر، حتى رأي بعد ذلك برأيه أن يُلزِمَ الناسَ بالصَّواب، فهل فى الجهل بالصحابة، وما كانُوا عليهم فى عهد نبيهم وخلفائه أقبحُ من هذا، وتَاللِّهِ لو كان جعلُ الثَلاث واحدةً خطأً محضاً، لكان أسهلَ من هذا الخطأ الذى ارتكبتموه، والتأويلِ الذى تأولتموه، ولو تركتم المسألةَ بهيأتها، لكان أقوى لِشأنها من هذه الأدلة والأجوبة.
قالُوا: وليس التحاكُم فى هذه المسألة إلى مقلِّد متعصِّبٍ، ولا هيَّابٍ للجمهور، ولا مستوحِش مِن التفرُّد إذا كان الصوابُ فى جانبه، وإنما التحاكُم فيها إلى راسخٍ فى العلم قد طال فيه باعُه، ورحُبَ بنيله ذِرَاعُه، وفرَّق بين الشبهة والدليل، وتلقَّى الأحكامَ مِن نفس مِشكاة الرسول، وعرفَ المراتبَ، وقام فيها بالواجبِ، وباشر قلبُه أسرارَ الشريعة وحِكَمَها الباهِرَة، وما تضمَّنته مِن المصالح الباطنة والظاهرة، وخاض فى مثل هذه المضايق لُججها، واستوفى مِن الجانبين حُجَجَها، والله المستعانُ، وعليه التُّكلان.
قالوا: وأما قولُكم: إذا اختلفت علينا الأحاديثُ، نظرنا فيما عليه الصحابةُ رضى الله عنهم، فنعم واللهِ وحيَّهلا بِيَرَكِ الإسلام، وعِصابة الإيمان.
فَلاَ تَطَلَّبْ لِىَ الأَعْوَاضَ بَعْدَهُمُ ... فَإِنَّ قَلْبِىَ لاَ يَرْضَى بِغَيْرِهم
ولكن لا يليق بكم أن تدعونا إلى شىء، وتكونُوا أول نافرٍ عنه،
ومخالفٍ له، فقد تُوفى النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكثرَ مِن مائة ألف عَيْنٍ كُلُّهم قد رآه وسَمِعَ منه، فهل صَحَّ لكُم عن هؤلاء كُلِّهم، أو عُشْرِهم، أو عُشْرِ عشرهم، أو عُشرِ عُشْرِ عُشْرِهِم القولُ بلزوم الثلاثِ بفمٍ واحد؟ هذا ولو جَهِدْتُم كُلِّ الجهد لم تُطيقوا نقلَه عن عشرين نفساً منهم أبداً مع اختلافٍ عنهم فى ذلك، فقد صحَّ عن ابن عباس القولان، وصحَّ عن ابن مسعود القولُ باللزوم، وصحَّ عنه التوقف، ولو كاثرنَاكُم بالصحابة الذين كان الثلاثُ على عهدهم واحدةً، لكانوا أضعافَ من نُقِلَ عنه خلافُ ذلك، ونحن نُكاثِرُكم بكُلِّ صحابى مات إلى صدرٍ مِن خلافة عمر، ويكفينا مقدَّمُهم، وخيرُهم وأفضلُهم، ومن كان معه من الصحابة على عهده، بل لو شئنا لقلنا، ولصدقنا: إن هذا كان إجماعاً قديماً لم يَخْتَلِفْ فيه على عهد الصديق اثنانِ، ولكن لم ينقرِضْ عصرُ المجمعين حتى حدث الاختلافُ، فلم يستقرَّ الإجماعُ الأول حتى صار الصحابةُ على قولين، واستمرَّ الخلافُ بين الأمة فى ذلك إلى اليوم، ثم نقول: لم يُخالف عمر إجماعَ من تقدَّمه، بل رأى إلزامَهم بالثلاثِ عقوبةً لهم لما عَلِمُوا أنه حرام، وتتايعُوا فيه، ولا ريبَ أن هذا سائغ للأئمة أن يُلزموا الناسَ بما ضيَّقوا به على أنفسهم، ولم يقبلوا فيه رخصةَ الله عز وجل وتسهيلَه، بل اختاروا الشدة والعُسر، فكيف بأميرِ المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب رضى الله عنه، وكمال نظره للأمة، وتأديبه لهم، ولكن العقوبة تختلفُ باختلافِ الأزمنة والأشخاص، والتمكن من العلم بتحريم الفعل المعاقب عليه وخفائه، وأمير المؤمنين عمر رضى الله عنه لم يَقُلْ لهم: إن هذا عن رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما هو رأي رآه مصلحةً للأمة يكفُّهم بها عن التسارع إلى إيقاع الثلاث، ولهذا قال:
فلو أنا أمضيناهُ عليهم، وفى لفظ آخر:
"فأجيزوهن عليهم" أفلا يُرى أن هذا رأي منه رآه للمصلحة لا إخبارٌ عن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما علم رضى الله عنه أن تلك الأناة والرخصة نعمة من الله على المطلِّق، ورحمةٌ به، وإحسانٌ إليه، وأنه قابلها بضدِّها، ولم يقبل رخصةَ الله، وما جعله له من الأناة عاقبه بأن حال بينه وبينها، وألزمه ما ألزمه مِن الشدة والاستعجال، وهذا موافقٌ لقواعد الشريعة، بل هو موافق لحكمة الله فى خلقه قدراً وشرعاً، فإن الناس إذا تعدَّوا حدودَه، ولم يَقِفُوا عندها، ضيَّق عليهم ما جعله لمن اتقاه من المخرج، وقد أشار إلى هذا المعنى بعينه مَنْ قال مِن الصحابة للمطلِّق ثلاثاً: إنك لو اتقيتَ الله، لجعل لك مخرجاً، كما قاله ابن مسعود، وابنُ عباس. فهذا نظر أمير المؤمنين، ومن معه من الصحابة، لا أنه رضى الله عنه غيَّرَ أحكام الله، وجعل حلالها حراماً، فهذا غايةُ التوفيق بين النصوص، وفعل أمير المؤمنين ومن معه، وأنتم لم يُمكنكم ذلك إلا بإلغاء أحد الجانبين، فهذا نهاية أقدام الفريقين فى هذا المقام الضَّنْكِ، والمعترَكِ الصَّعبِ، وبالله التوفيق.
حُكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العبد يُطلِّقُ زوجتَه تطليقتين، ثم يُعتَقُ بعد ذلك، هل تَحِلُّ له بدون زوج وإصابة؟
روى أهلُ السنن: مِن حديث أبى الحسن مولى بنى نوفل، أنه استفتى ابنَ عباس فى مملوكٍ كانت تحته مملوكة، فطلقها تطليقتين، ثم عُتِقا بعد ذلك، هل يصلُح له أن يخطُبَها؟ قال: نعم قضى بذلك رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفى لفظ: قال ابنُ عباس: بَقِيَتْ لك واحدةٌ، قضى به رسولُ الله.
قال الإمام أحمد: عن عبد الرازق، أن ابنَ المبارك قال لمعمر: من أبو حسن هذا؟ لقد تحمَّل صخرةً عظيمة انتهى.
قال المنذرى: وأبو حسن هذا قد ذُكِرَ بخير وصلاح، وقد وثقه أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان غير أن الراوي عنه عمر بن معتب وقد قال على بن المدينى: هو منكرُ الحديث، وقال النسائى: ليس بالقوى.
وإذا عُتِقَ العبدُ والزوجة فى حِباله، ملك تمامَ الثلاث، وإن عُتِقَ وقد طلَّقها اثنتين، ففيها أربعةُ أقوال للفقهاء.
أحدها: أنها لا تحِلُّ له حتى تنكِحَ زوجاً غيره حرة كانت أو أمة، وهذا قولُ الشافعى، وأحمد فى إحدى الروايتين بناء على أن الطلاقَ بالرجال، وأن العبدَ إنما يملِكُ طلقتين ولو كانت زوجتُه حرة.
والثانى: أن له أن يعقِدَ عليها عقداً مستأنفاً مِن غير اشتراط زوج وإصابة،
كما دلَّ عليه حديثُ عُمر بن معتِّب هذا، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وهو قولُ ابن عباس، وأحدُ الوجهين للشافعية، ولهذا القول فقه دقيق، فإنها إنما حرمتها عليه التطليقتانِ لنقصه بالرق، فإذا عُتِقَ وهى فى العدة، زال النقصُ، ووُجِدَ سببُ ملك الثلاث، وآثارُ النكاح باقية، فملك عليها تمامَ الثلاث، وله رجعتُها، وإن عُتقَ بعد انقضاءِ عدتها، بانت منه، وحلَّت له بدون زوجٍ وإصابة، فليس هذا القولُ ببعيد فى القياس.
والثالث: أن له أن يَرتَجعَها فى عِدتها، وأن ينكحها بعدها بدون زوج وإصابة، ولو لم يعتق، وهذا مذهبُ أهل الظاهر جميعِهم، فإن عندهم أن العبد والحرَّ فى الطلاق سواء.
وذكر سُفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبى معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضى الله عنهما: أن عبداً له طلَّق امرأته تطليقتين، فأمره ابنُ عباس أن يُراجِعَها، فأبى، فقال ابنُ عباس: هى لك فاستحِلَّها بملك اليمين.
والقول الرابع: أن زوجتَه إن كانت حرةً، ملك عليها تمامَ الثلاث، وإن كانت أمةً، حرمت عليه حتى تنكِحَ زوجاً غيره، وهذا قولُ أبى حنيفة.
وهذا موضع اختلف فيه السلفُ والخلف على أربعة أقوال.
أحدها: أن طلاقَ العبد والحر سواء، وهذا مذهبُ أهل الظاهر جميعهم، حكاه عنهم أبو محمد بن حزم، واحتجُّوا بعُموم النصوص الواردة فى الطلاق، وإطلاقها، وعدم تفريقها بين حر وعبد، ولم تُجمِعِ الأمةُ على التفريق، فقد صحَّ عن ابن عباس أنه أفتى غلاماً له برجعة زوجته بعد طلقتين، وكانت أمة. وفى هذا النقلِ عن ابن عباس نظر، فإن عبد الرزاق روى عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، أن أبا معبد أخبره،
أن عبداً كان لابن عباس، وكانت له امرأة جارية لابن عباس، فطلقها فبتَّها، فقال له ابنُ عباس: لا طلاق لك فارجعها.
قال عبدُ الرزاق: حدثنا معمر، عن سِماك بن الفضل، أن العبد سأل ابن عمر رضى الله عنهما، فقال: لا ترجع إليها وإن ضُرِب رأسُكَ.
فمأخذ هذه الفتوى، أن طلاق العبد بيد سيده، كما أن نِكاحَه بيده، كما روى عبد الرحمن بن مهدى، عن الثورى، عن عبد الكريم الجزرى، عن عطاء، عن ابن عباس قال: ليس طلاق العبد ولا فرقته بشىء.
وذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن أبى الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول فى الأمة والعبد: سيِّدُهما يجمعُ بينهما، ويفرق، وهذا قول أبى الشعثاء، وقال الشعبى: أهلُ المدينة لا يرون للعبد طلاقاً إلا بإذن سيده، فهذا مأخذُ ابن عباس، لا أنه يرى طلاق العبد ثلاثاً إذا كانت تَحته أمة، وما علمنا أحداً من الصحابة قال بذلك.
والقول الثانى: أن أَىَّ الزوجين إن رُق كان الطلاقُ بسبب رقه اثنتين، كما روى حمادُ بن سلمة، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: الحرُّ يُطلق الأمة تطليقتين، وتعتدُّ بحيضتين، والعبدُ يطلِّق الحرة تطليقتين، وتعتد ثلاث حِيض، وإلى هذا ذهب عثمان البتِّى.
والقولُ الثالث: أن الطلاق بالرجال، فيملِكُ الحرُّ ثلاثاً. وإن كانت زوجته أمة، والعبد ثنتين وإن كانت زوجته حرة، وهذا قولُ الشافعى ومالك وأحمد فى ظاهر كلامه، وهذا قولُ زيد بن ثابت، وعائشة، وأمِّ سلمة
أمَّى المؤمنين، وعثمانَ بن عفان، وعبدِ الله بن عباس، وهذا مذهب القاسم، وسالم، وأبى سلمة، وعمر بن عبد العزيز، ويحيى بن سعيد، وربيعة، وأبى الزناد،وسليمان بن يسار، وعمرو بن شعيب، وابنِ المسيّب، وعطاء.
والقول الرابع: أن الطلاقَ بالنساء كالعِدة، كما روى شعبة عن أشعث بن سوَّار، عن الشعبى، عن مسروق، عن ابن مسعود. السنة: الطلاقُ والعِدةُ بالنساء.
وروى عبد الرزاق: عن محمد بن يحيى وغيرِ واحد، عن عيسى عن الشعبى عن اثنى عشر من صحابة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: الطلاق والعِدة بالمرأة، هذا لفظُه، وهذا قولُ الحسن، وابن سيرين، وقتادة، وإبراهيم، والشعبى، وعكرمة، ومجاهد، والثورى، والحسن بن حى، وأبى حنيفة وأصحابه.
فإن قيل: فما حُكْم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى هذه المسألة؟ قيل: قد قال أبو داود: حدثنا محمد بن مسعود، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن مظاهر بن أسلم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضى الله عنها، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "طَلاَقُ الأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ، وقُرْؤُها حَيْضَتَانِ".
وروى زكريا بن يحيى الساجى، حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسى، حدثنا عُمَرُ بن شبيب المُسْلى، حدثنا عبد الله بن عيسي، عن عطيَّة، عن ابن عمر رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله: " طَلاَقُ الأَمَةِ ثِنْتَانِ، وعِدَّتُها حَيْضَتَانِ".
وقال عبدُ الرزاق: حدثنا بن جريج، قال: كتب إلىَّ عبدُ الله بن زياد بن سمعان، أن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصارى، أخبره عن نافع، عن أمِّ سلمة أم المؤمنين، أن غلاماً لها طلَّق امرأةً له حرةً تطليقتين، فاستفتت أمُّ سلمة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيرَه "، وقد تقدَّم حديثُ عمر بن معتِّب، عن أبى حسن، عن ابن عباس رضى الله عنه، ولا يُعرف عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيرُ هذه الآثار الأربعة على عُجَرِهَا وبُجَرِهَا.
أما الأولُ: فقال أبو داود: هو حديث مجهول، وقال الترمذى: حديث غريب لا نعِرفه إلا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا يُعرف له فى العلم غيرُ هذا الحديث انتهى. وقال أبو القاسم ابن عساكر فى "أطرافه" بعد ذكر هذا الحديث: روى أسامةُ بن زيد بن أسلم، عن أبيه، أنه كان جالساً عند أبيه، فأتاه رسولُ الأمير، فأخبره أنه سأل القاسمَ بن محمد، وسالم بن عبد الله عن ذلك، فقالا هذا، وقالا له: إن هذا ليسَ فى كتاب الله، ولا سنةِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن عَمِل به المسلمون. قال الحافظ: فدّل على أن الحديث المرفوعَ غيرُ محفوظ. وقال أبو عاصم النبيل: مظاهر ابن أسلم ضعيف، وقال يحيى بن معين: ليس بشىء، مع أنه لا يُعرف، وقال أبو حاتم الرازى: منكر الحديث. وقال البيهقى: لو كان ثابتاً لقُلنا به إلا أنّا نُثبتُ حديثاً يرويه من نجهل عدالته.
وأما الأثر الثانى: ففيه عمر بن شبيب المُسْلى ضعيف، وفيه عطية وهو ضعيف أيضاً.وأما الأثر الثالث: ففيه ابن سمعان الكذاب، وعبد الله بن عبد الرحمن مجهول.
وأما الأثر الرابع: ففيه عمر بن معتِّب، وقد تقدم الكلامُ فيه.
والذى سلم فى المسألة الآثار عن الصحابة رضى الله عنهم والقياس.
أما الآثار، فهى متعارضة كما تقدم، فليس بعضُها أولى من بعض، بقى القياسُ، وتجاذَبه طرفانِ: طرف المطلِّق، وطرف المطلَّقة. فمن راعى طرف المطَلِّق، قال: هو الذى يملِكُ الطلاق، وهو بيده، فيتنصَّفُ برقه كما يتنصَّف نصابُ المنكوحات برقه، ومن راعى طرف المطلَّقة، قال: الطلاقُ يقع عليها، وتلزمُها العدة والتحريم وتوابعُها، فَتنصَّف برقها كالعدة، ومن نصف برق أىِّ الزوجين كان راعى الأمرين، وأعملَ الشبهين، ومن كملهُ وجعله ثلاثاً رأى أن الآثار لم تثبت، والمنقولُ عن الصحابة، متعارِض، والقياسُ كذلك، فلم يتعلَّق بشىء من ذلك، وتمسَّك بإطلاق النصوص الدالة على أن الطلاق الرجعى طلقتان، ولم يُفرِّقِ اللهُ بين حر وعبد، ولا بينَ حرة وأمة، {ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيَّاً} [مريم: 64] قالوا: والحكمة التى لأجلها جعل الطلاق الرجعى اثنتين فى الحر والعبد سواءٌ، قالوا: وقد قال مالك: إن له أن ينكِحَ أربعاً كالحُرِّ، لأن حاجتَه إلى ذلك كحاجة الحر، وقال الشافعىُّ وأحمدُ: أجله فى الإيلاء كأجلِ الحر، لأن ضرر الزوجة فى الصورتين سواء. وقال أبو حنيفة: إن طلاقَه وطلاقَ الحر سواء إذا كانت امرأتاهما حرتينِ إعمالاً لإطلاق نصوص الطلاق، وعمومها للحر والعبد.
وقال أحمد بن حنبل والناسُ معه: صيامُه فى الكفارات كلِّها، وصيامُ الحر سواء، وحدُّه فى السرقة والشراب، وحدُّ الحر سواء. قالوا: ولو كانت هذه الآثارُ أو بعضُها ثابتاً، لما سبقتُمونا إليه، ولا غلبتُمونا عليه، ولو اتفقت اثارُ الصحابة لم نَعْدُهَا إلى غيرها، فإن الحقَّ لا يعدُوهم، وبالله التوفيق.
حُكم رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الطلاق بيدِ الزوج لا بيدِ غيره
قال الله تعالى :{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، وقال: {وإذا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحوهُنّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] فجعل الطلاق لمن نكح، لأن له الإمساك، وهو الرجعة، وروى ابن ماجه فى "سننه": من حديث ابن عباس، قال: أتى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلٌ فقال: يا رسولَ الله، سيِّدى زوَّجنى أمتَه، وهو يُريد أن يفرِّق بينى وبينَها. قال: فَصَعِدَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنبرَ، فقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، إنَّما الطَّلاَقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ".
وقد روى عبدُ الرزاق، عن ابنِ جُريج، عن عطاء، عن ابنِ عباس رضى الله عنهما ؛ كان يقول: طلاقُ العبدِ بيدِ سيِّده، إن طلَّق، جاز، إن فرق، فهى واحدة إذا كانا له جميعاً، فإن كان العبدُ له، والأمةُ لغيره، طلَّق السيدُ أيضاً إن شاء.
وروى الثورىُّ، عن عبد الكريم الجزرى، عن عطاء، عنه: ليس طلاقُ العبد ولا فرقتُه بشىء.وذكر عبدُ الرزاق، حدثنا ابن جريج، أخبرنى أبو الزبير سمع جابراً يقول فى الأمة والعبد: سيدُهما يجمعُ بينهما ويُفرِّق.
وقضاءُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحقُّ أن يُتبع. وحديثُ ابن عباس رضى الله عنهما المتقدِّم، وإن كان فى إسناده ما فيه، فالقرآنُ يَعْضُدُه، وعليه عملُ الناس.
حُكم رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن طلَّق دونَ الثلاث، ثم راجعها بعدَ زوج أنها على بقية الطلاقِ
ذكر ابنُ المبارك، عن عثمانَ بنِ مِقْسَمٍ، أنه أخبره، أنه سمع نُبَيْهَ بنَ وهب، يُحدِّث عن رجل من قومه، عن رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى فى المرأة يُطلِّقُها زوجُها دونَ الثلاث، ثم يرتجِعُها بعد زوج أنها على ما بقى من الطلاق.
وهذا الأثر وإن كان فيه ضعيف ومجهول، فعليه أكابرُ الصحابة، كما ذكر عبد الرزاق فى "مصنفه"، عن مالك، وابن عيينة، عن الزُّهرى، عن ابن المسيِّب، وحُميد بن عبد الرحمن، وعُبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود، وسُليمان ابن يسار، كلهم يقول: سمعتُ أبا هُريرة يقول:
سمعتُ عمر بن الخطاب يقول: أيُّما امرأةٍ طلَّقها زوجُها تطليقةً أو تطليقتين، ثم تركها حتَّى تَنْكِحَ زوجاً غيره، فيموتَ عنها، أو يُطَلقَها ثم ينكحهَا زوجُها الأول، فإنها عنده على ما بقى مِن طلاقها.
وعن على بن أبى طالب، وأبى بن كعب، وعمران بن حصين رضى الله عنهم مثله.
قال الإمام أحمد: هذا قولُ الأكابر مِن أصحاب النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال ابنُ مسعود، وابنُ عمر، وابنُ عباس، رضى الله عنهم: تعودُ على الثلاث، قال ابنُ عباس رضى الله عنهما: نِكاح جديدٌ، وطلاقٌ جديد.
وذهب إلى القولِ الأوَّلِ أهلُ الحديث، فيهم أحمدُ، والشافعىُّ، ومالكُ، وذهب إلى الثانى أبو حنيفة، هذا إذا أصابها الثانى، فإن لم يُصبها فهى على ما بقى من طلاقها عند الجميع. وقال النخعى: لم أسمع فيها اختلافاً، ولو ثبت الحديثُ لكان فصلَ النزاع فى المسألة، ولو اتفقت اثارُ الصحابة، لكانت فصلاً أيضاً. وأما فقه المسألة فمتجاذب، فإن الزَّوج الثانى إذا هَدَمَتْ إصابتُه الثلاثَ، وأعادتها إلى الأول بطلاقٍ جديدٍ، فما دُونها أولى، وأصحابُ القول الأول يقولون: لما كانت إصابة الثانى شرطاً فى حِلِّ المطلقة ثلاثاً للأول لم يكن بُدٌّ مِن هدمها وإعادتها على طلاق جديدٍ، وأما مَنْ طُلِّقَت دونَ الثلاث،
فلم تُصادِف إصابة الثانى فيها تحريماً يُزيلُه، ولا هى شرطٌ فى الحِلِّ للأول، فلم تَهْدِمْ شيئاً، فوجودُها كعدمها بالنسبة إلى الأول، وإحلالها له، فعادت على ما بقى كما لو لم يُصبها، فإن إصابتَه لا أثر لها البتة، ولا نكاحه، وطلاقُه معلَّق بها بوجه ما، ولا تأثيرَ لها فيه.
حُكم رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى المطلقة ثلاثاً لا تَحِلُّ للأول حتى يطأَهَا الزوجُ الثانى
ثبت فى "الصحيحين": عن عائشة رضىَ اللهُ عنها، أن امرأةَ رِفاعة القُرظِىّ جاءت إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسولَ الله، إن رِفاعة طلَّقنى، فَبَتَّ طلاقى، وإنى نكحتُ بعدَه عبدَ الرحمن بنَ الزُّبير القُرظى، وإنَّ ما معه مثلُ الهُدْبَةِ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَلَّكِ تُريدِينَ أَنْ تَرْجِعى إلى رِفَاعَةَ. لاَ، حَتَّى تَذُوقى عُسَيْلَتَهُ ويَذُوقَ عُسَيْلَتَك".
وفى سنن النسائى: عن عائشةَ رضىَ الله عنها، قالت: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "العُسَيْلَةُ: الجِماعُ وَلَوْ لَمْ يُنْزِل".
وفيها عن ابن عمر، قال: سُئِلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امرأتَه ثلاثاً، فيتزوَّجُها الرجُل، فَيُغْلِقُ البابَ، ويُرخى السِّتر، ثم يُطلِّقها
قبل أن يدخُلَ بها؟ قال: "لاَ تَحِلُّ لِلأَوَّلِ حَتَّى يُجامِعَها الآخَرُ".
فتضمن هذا الحكم أموراً.
أحدهما: أنه لا يُقبل قولُ المرأة على الرجل أنه لا يقدِرُ على جماعها.
الثانى: أن إصابةَ الزوج الثانى شرط فى حلها للأول، خلافاً لمن اكتفى بمجرد العقد، فإن قوله مردود بالسنة التى لا مرد لها.
الثالث: أنه لا يُشترط الإنزال، بل يكفى مجردُ الجماع الذى هو ذوقُ العسيلة.
الرابع: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يجعلْ مجردَ العقد المقصود الذى هو نكاح رغبة كافياً، ولا اتصال الخلوة به، وإغلاق الأبواب، وإرخاء الستور حتى يتّصل به الوطءُ، وهذا يدل على أنه لا يكفى مجرد عقد التحليل الذى لا غرضَ للزوج والزوجة فيه سوى صورةِ العقد، وإحلالها للأول بطريق الأولى، فإنه إذا كان عقد الرغبة المقصود للدوام غيرَ كافٍ حتى يوجد فيه الوطء، فكيف يكفى عقدُ تيسٍ مستعار لِيحلَّها لا رغبة له فى إمساكها، إنما هو عارِيَّة كحمار العشريين المستعار للضِّراب؟
حُكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى المرأة تُقيم شاهداً واحداً على طلاقِ زوجها والزَّوجُ منكر
ذكر ابنُ وضَّاح عن ابن أبى مريم، عن عمرو بن أبى سلمة، عن
عمرو بن أبى سلمة، عن زهير بن محمد، عن ابن جُريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "إذَا ادَّعَتِ المَرْأَةُ طَلاَقَ زَوْجهَا، فَجَاءَتْ عَلَى ذَلكَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ عَدْلِ، استُحْلِفَ زَوْجُهَا، فإِنْ حَلَفَ بَطَلَتْ عَنْهُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ، وإنْ نَكَلَ فَنُكُولُه بِمَنْزِلَةِ شَاهِدٍ آخَرَ، وَجَازَ طَلاقُه" ، فتضمَّن هذا الحكمُ أربعةَ أمور.
أحدُها: أنه لا يُكتفى بشهادة الشاهد الواحِدِ فى الطلاق، ولا مَع يمين المرأة، قال الإمام أحمد: الشاهدُ واليمين إنما يكون فى الأموال خاصة لا يقعُ فى حدٍّ، ولا نِكاح، ولا طلاق، ولا إعتاق، ولا سرقة، ولا قتل. وقد نصَّ فى رواية أخرى عنه على أن العبدَ إذا ادَّعى أن سيدَه أعتقه، وأتى بشاهد، حلف مع شاهده، وصار حراً، واختاره الخِرقى، ونص أحمد فى شريكين فى عبد ادَّعى كُلُّ واحد منهما أن شريكَه أعتق حقَّه منه، وكانا مُعسِرَيْنِ عدلين، فللعبد أن يحلفَ مع كُلِّ واحد منهما، ويصيرَ حراً، ويحلِفَ مع أحدهما، ويصيرَ نصفُه حراً، ولكن لا يعرف عنه أن الطلاق يثبتُ بشاهدٍ ويمين.
وقد دلَّ حديثُ عمرو بن شعيب هذا على أنه يثُبت بشاهِدٍ ونكولِ الزوج، وهو الصوابُ إن شاء الله تعالى، فإن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، لا يُعرف من أئمة الإسلام إلا من احتج به، وبنى عليه وإن خالفه فى بعضِ المواضع، وزهيرُ بن محمد، الراوى عن ابن جريج، ثقة محتج به فى "الصحيحين"، وعمرو بن أبى سلمة، هو أبو حفص التنيسى، محتج به فى "الصحيحين" أيضاً، فمن احتجَّ بحديث عمرو بن
شعيب، فهذا من أصح حديثه.
الثانى: أن الزوجَ يُستحلف فى دعوى الطلاق إذا لم تَقُمْ للمرأة به بينة، لكن إنما استحلفه مع قوة جانب الدعوى بالشاهد.
الثالث: أنه يحكم فى الطلاق بشاهدٍ، ونكول المدَّعى عليه، وأحمد فى إحدى الروايتين عنه يحكُم بوقوعه بمجرَّد النكول من غير شاهد، فإذا ادَّعت المرأة على زوجها الطلاقَ، وأحلفناه لها فى إحدى الروايتين، فَنَكَلَ، قضى عليه، فإذا أقامت شاهداً واحداً ولم يَحلف الزوج على عدم دعواها، فالقضاء بالنكول عليه فى هذه الصورة أقوى.
وظاهر الحديث: أنه لا يُحكم على الزوج بالنكول إلا إذا أقامت المرأةُ شاهداً واحداً، كما هو إحدى الروايتين عن مالك، وأنه لا يُحكم عليه بمجرد دعواها مع نكوله، لكن من يقضى عليه به يقول: النكولُ إما إقرارٌ، وإما بينة، وكلاهما يُحكم به، ولكن ينتقِضُ هذا عليه بالنكولِ فى دعوى القِصاص، ويُجاب بأن النكولَ بدل استغنى به فيما يُباح بالبدل، وهو الأموالُ وحقوقها دون النكاح وتوابعه.
الرابع: أن النكولَ بمنزلة البينة، فلما أقامت شاهداً واحداً وهو شطرُ البينة كان النكولُ قائماً، مقام تمامها.
ونحن نذكرُ مذاهبَ الناس فى هذه المسألة، فقال أبو القاسم بن الجلاب فى "تفريعه": وإذا ادعت المرأةُ الطلاقَ على زوجها لم يُحَلَّف بدعواها، فإن أقامت على ذلك شاهداً واحداً، لم تُحلف مع شاهدها، ولم يثبُتِ الطلاقُ على زوجها، وهذا الذى قاله لا يُعلم فيه نزاع بين الأئمة الأربعة، قال: ولكن يحلف لها زوجُها، فإن حلف، برىءَ من دعواها.
قلتُ: هذا فيه قولان للفقهاء، وهما روايتان عن الإمام أحمد.
إحداهما: أنه يحلِفُ لدعواها، وهو مذهب الشافعى، ومالك، وأبى حنيفة. والثانية: لا يحلف. فإن قلنا: لا يحلف، فلا إشكال، وإن قلنا: يحلف، فنكل عن اليمين، فهل يقضى عليه بطلاق زوجته بالنكول؟ فيه روايتان عن مالك، إحداهما: أنها تطلُقُ عليه بالشاهد والنكول عملاً بهذا الحديث، وهذا اختيارُ أشهب، وهذا فيه غايةُ القوة، لأن الشاهد والنكول سببان مِن جهتين مختلفتين، فقوى جانبُ المدعى بهما، فحكم له، فهذا مقتضى الأثر والقياس.
والرواية الثانية عنه: أن الزوج إذا نَكَلَ عن اليمين، حُبِسَ، فإن طال حبسُه، تُرِكَ. واختلفت الرواية عن الإمام أحمد، هل يقضى بالنكول فى دعوى المرأة الطلاق؟ على روايتين. ولا أثر عنده لإقامة الشاهدِ الواحد، بل إذا ادعت عليه الطلاقَ، ففيه روايتان فى استحلافه، فإن قلنا: لا يُستحلف، لم يكن لدعواها أثر، وإن قلنا: يستحلف، فأبى فهل يُحكم عليه بالطلاق؟ فيه روايتان، وسيأتى إن شاء الله تعالى الكلامُ فى القضاء بالنكول، وهل هو إقرار أو بدل، أو قائم مقام البينة فى موضعه من هذا الكتاب؟.
حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تخيير أزواجه بين المُقام معه وبين مفارقتهن له
ثبت فى "الصحيحين" عن عائشة رضى الله عنها قالت: لما أُمِرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتخيير أزواجه، بدأ بى، فقال: " إنِّى ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً فَلاَ عَلَيْكِ أَلاَّ تَعْجَلى حَتَّى تَسْتأْمِرى أَبَوَيْكِ ". قالت: وقد علم أن أبوى لم يكونا ليأمرانى بفراقه، ثم قرأ:{ يأَيُّهَا النَّبىُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ
الحَيَاةَ الدُّنْيا وزينَتَها فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ والدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 28-29] فقلتُ: فى هذا استأمر أبوى؟ فإنى أريدُ الله ورسولَه والدارَ الآخرةَ. قالت عائشة: ثم فَعَل أزواجُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ما فعلتُ، فلم يكن ذلك طلاقاً.
قال ربيعةُ وابنُ شهاب: فاختارت واحدةٌ منهن نفسَها، فذهبت وكانت ألبتة. قال ابن شهاب: وكانت بدوية. قال عمرو بن شعيب: وهى ابنة الضحاك العامرية رجعت إلى أهلها، وقال ابنُ حبيب: قد كان دخل بها. انتهى.
وقيل: لم يدخل بها، وكانت تلتقِطُ بعد ذلك البعر، وتقول: أنا الشقيَّةُ.
واختلف الناسُ فى هذا التخيير، فى موضعين. أحدهما: فى أى شىء كان؟ والثانى: فى حكمه، فأما الأول: فالذى عليه الجمهور أنه كان بين المقام معه والفراق، وذكر عبد الرزاق فى "مصنفه"، عن الحسن، أن الله تعالى إنما خيَّرَهُنَّ بين الدنيا والآخرة، ولم يُخيِّرْهُنَّ فى الطلاق، وسياقُ القرآن، وقولُ عائشة رضى الله عنها يَرُدُّ قوله، ولا ريب أنه سبحانه خيَّرهن بينَ الله ورسوله والدار الآخرة، وبينَ الحياة الدنيا وزينتها، وجعل مَوجِبَ اختيارهن الله ورسولَه والدارَ الآخرة المقامَ مع رسوله، وموجبَ اختيارهن الدنيا وزينتها أن يُمتِّعَهنَّ ويُسرِّحَهن سَراحاً جميلاً، وهو الطلاقُ بلا شك ولا نزاع.
وأما اختلافُهم فى حكمه، ففى موضعين. أحدهما: فى حكم اختيار الزوج، والثانى: فى حكم اختيار النفس، فأما الأول: فالذى عليه معظمُ أصحاب النبى ونساؤه كُلُّهُنَّ ومعظم الأمة أن من اختارت زوجها لم تطلق، ولا يكون التخييرُ بمجرده طلاقاً، صحَّ ذلك عن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة. قالت عائشة: خيَّرنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاخترناه، فلم نعدَّه طلاقاً، وعن أمّ سلمة، وقريبة أختها، وعبد الرحمن بن أبى بكر.
وصح عن على، وزيد بن ثابت، وجماعة من الصحابة: أنها إن اختارت زوجَها، فهى طلقة رجعية، وهو قولُ الحسن، ورواية عن أحمد رواها عنه إسحاق بن منصور، قال: إن اختارت زوجَها، فواحدة يملِكُ الرجعة، وإن اختارت نفسها، فثلاثٌ، قال أبو بكر: انفرد بهذا إسحاق بن منصورِ، والعملُ على ما رواه الجماعة. قال صاحب "المغنى": ووجه هذه الرواية أن التخييرَ كناية نوى بها الطلاق، فوقع بمجرَّدها كسائر كناياته، وهذا هو الذى صرَّحت به عائشة رضى الله عنها، والحق معها بإنكاره وردِّه، فإن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما اختاره أزواجُه لم يَقُل: وقع بكن طلقة، ولم يُراجعهن، وهى أعلم الأمة بشزن التخيير، وقد صح عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: لم يكن ذلك طلاقاً، وفى لفظ: "لم نعده طلاقاً". وفى لفظ: "خيَّرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أفكان طلاقا ؟ً"
والذى لحظه من قال: إنها طلقة رجعية أن التخيير تمليك، ولا تملك المرأةُ نفسها إلا وقد طلقت، فالتمليكُ مستلزم لوقوع الطلاق، وهذا مبنى على مقدمتين. إحداهما: أن التخييرَ تمليك. والثانية: أن التمليك يستلزِمُ
وقوعَ الطلاق، وكِلا المقدمتين ممنوعة، فليس التخييرُ بتمليك، ولو كان تمليكاً لم يستلزم وقوعَ الطلاق قبل إيقاع من ملكه، فإن غاية أمره أن تملِكَه الزوجةُ كما كان الزوج يملِكُه، فلا يقع بدون إيقاع من ملكه، ولو صحَّ ما ذكروه، لكان بائناً، لأن الرجعية لا تملِكُ نفسها.
وقد اختلف الفقهاءُ فى التخيير: هل هو تمليك أو توكيلٌ، أو بعضُه تمليك، وبعضُه توكيل، أو هو تطليق منجَّز، أو لغوٌ لا أثر له ألبتة؟ على مذاهب خمسة. التفريقُ هو مذهب أحمد ومالك. قال أبو الخطاب فى "رؤوس المسائل": هو تمليكٌ يقفُ على القبول، وقال صاحب "المغنى" فيه: إذا قال: أمرُكِ بيدكِ، أو اختارى، فقالت: قبلتُ، لم يقع شىء، لأن "أمرك بيدك" توكيل، فقولُها فى جوابه: قبلتُ ينصرف إلى قبول الوكالة، فلم يقع شىء، كما لو قال لأجنبية: أمرُ امرأتى بيدكِ، فقالت: قبلت، وقوله: اختارى: فى معناه، وكذلك إن قالت: أخذت أمرى، نص عليهما أحمد فى رواية إبراهيم بن هانئ إذا قال لامرأته: أمُركِ بيدكِ، فقالت: قبلت، ليس بشىء حتى يتبيَّن، وقال: إذا قالت: أخذتُ أمرى، ليس بشىء، قال: وإذا قال لامرأته: اختارى، فقالت: قبلتُ نفسى، أو اخترت نفسى، كان أبين. انتهى. وفرق مالك بين "اختيارى"، وبين "أمرُكِ بيدكِ"، فجعل "أمرُكِ بيدكِ" تمليكاً، و"اختيارى" تخييراً لا تمليكاً. قال أصحابُه: وهو توكيلٌ.
وللشافعى قولان. أحدهما: أنه تمليك، وهو الصحيح عند أصحابه، والثانى: أنه توكيل وهو القديم، وقالت الحنفية: تمليك. وقال الحسنُ وجماعةٌ من الصحابة: هو تطليق تقع به واحدة منجَّزة، وله رجعتُها، هى رواية ابنِ منصور عن أحمد.
وقال أهلُ الظاهر وجماعةٌ من الصحابة: لا يقع به طلاق، سواءٌ اختارت نفسَها، أو اختارت زوجها، ولا أثر للتخيير فى وقوع الطلاق.
ونحن نذكر مآخذ هذه الأقوال على وجه الإشارة إليها.
قال أصحابُ التمليك: لما كان البُضع يعود إليها بعد ما كان للزوج، كان هذا حقيقةَ التمليك.
قالوا: وأيضاً فالتوكيل يستلزِمُ أهليةَ الوكيل لمباشرة ما وُكِّلَ فيه، والمرأةُ ليست بأهل لإيقاع الطلاق، ولهذا لو وكَّل امرأةً فى طلاق زوجته، لم يصحَّ فى أحد القولين، لأنها لا تُباشر الطلاق، والذين صححوه قالوا: كما يصح أن يُوكِّلَ رجلاً فى طلاق امرأته، يَصِحّ أن يوكِّل امرأة فى طلاقها.
قالُوا: وأيضاً فالتوكيل لا يُعقل معناه هاهنا، فإنَّ الوكيلَ هو الذى يتصرف لموكله لا لنفسه، والمرأة ها هنا إنما تتصرَّف لنفسها ولحظها، وهذا يُنافى تصرفَ الوكيل.
قال أصحابُ التوكيل، واللفظُ لصاحب "المغنى": وقولهم: إنه توكيل لا يَصِحُّ، فإن الطلاقَ لا يصح تمليكه، ولا ينتقِلُ عن الزواج، وإنما ينوبُ فيه غيرُه عنه، فإذا استناب غيره فيه، كان توكيلاً لا غير.
قالوا: ولو كان تمليكاً لكان مقتضاه انتقالَ الملك إليها فى بُضعها، وهو محال، فإنه لم يخرُج عنها، ولهذا لو وُطئت بشبهة كان المهر لها لا للزوج، ولو مَلَكَ البُضع، لَمَلَكَ عِوضه، كمن ملك منفعة عينٍ كان عِوَضُ تلك المنفعة له.
قالوا: وأيضاً فلو كان تمليكاً، لكانت المرأةُ مالكة للطلاق، وحينئذ يجب أن لا يبقى الزوجُ مالكاً لاستحالة كون الشىء الواحد بجميع أجزائه ملكاً لمالكين فى زمن واحد، والزوجُ مالك للطلاق بعد التخيير، فلا تكونُ
هى مالكة له، بخلاف ما إذا قلنا: هو توكيل واستتابة، كان الزوجُ مالكاً، وهى نائبة ووكيلة عنه.
قالوا: وأيضاً فلو قال لها: طلِّقى نفسَك، ثم حلف أن لا يُطلِّق، فطلقت نفسَها، حَنِثَ، فدل على أنها نائبة عنه، وأنه هو المطلِّق.
قالوا: وأيضاً فقولُكم: إنه تمليك، إما إن تُريدوا به أنه ملَّكها نفسَها، أو أنه ملَّكها أن تُّطلِّق، فإن أردتم الأول، لزمكم أن يقع الطلاقُ بمجرد قولها: قبلت، لأنه أتى بما يقتضى خروجَ بُضعها عن ملكه، واتصل به القبولُ، وإن أردتم الثانى، فهو معنى التوكيل. وإن غُيِّرتِ العبارة.
قال المفرِّقون بين بعض صوره وبعض، وهُمْ أصحابُ مالك: إذا قال لها: أمرُكِ بيدكِ، أو جعلت أمرَك إليك، أو ملَّكتُك أمرك، فذاك تمليك. وإذا قال: اختارى فهو تخيير، قالُوا: والفرقُ بينهما حقيقةً وحكماً. أما الحقيقةُ، فلأن "اختارى" لم يتضمن أكثرَ من تخييرها، لم يُملكها نفسها، وإنما خيَّرها بين أمرين، بخلاف قوله: أمرُك بيدك، فإنه لا يكون بيدها إلا وهى مالكته، وأما الحكم، فلأنه إذا قال لها: أمرُك بيدك، وقال: أردتُ به واحدة، فالقولُ قولُه مع يمينه، وإذا قال: اختارى، فطلقت نفسَها ثلاثاً، وقعت، ولو قال: أردتُ واحدة إلا أن تكونَ غيرَ مدخول بها، فالقول قوله فى إرادته الواحدة. قالوا: لأن التخيير يقتضى أن لها أن تختارَ نفسها، ولا يحصُل لها ذلك إلا بالبينونة، فإن كانت مدخولاً بها لم تَبِنْ إلا بالثلاث، وإن لم تكن مدخولاً بها، بانت بالواحدة، وهذا بخلافِ: أمرُك بيدك، فإنه لا يقتضى تخييرها بين نفسها وبين زوجها، بل تمليكها أمرها، وهو أعمُّ مِن تمليكها الإبانة بثلاث أو بواحدة تنقضى بها عدتها، فإن أراد بها أحدَ محتمليه، قُبِلَ قولُه، وهذا بعينه يَرِد عليهم
فى "اختيارى"، فإنه أعم من أن تختار البينونة بثلاث أو بواحدة تنقضى بها عدتها، بل: "أمرك بيدك" أصرحُ فى تمليك الثلاث من "اختارى"، لأنه مضاف ومضاف إليه، فيعم جميعَ أمرها. بخلاف "اختارى" فإنه مطلق لا عموم له، فمن أين يُستفاد منه الثلاث؟ وهذا منصوصُ الإمام أحمد، فإنه قال فى اختارى: إنه لا تمِلكُ به المرأة أكثرَ مِن طلقة واحدة إلا بنيةِ الزوج، ونص فى "أمرك بيدك، وطلاقك بيدك ووكلتك فى الطلاق": على أنها تملك به الثلاث. وعنه رواية أخرى: أنها لا تمِلكُها إلا بنيته.
وأما من جعله تطليقاً منجَّزاً، فقد تقدَّم وجهُ قوله وضعفه.
وأما من جعله لغواً، فلهم مأخذان:
أحدهما: أن الطلاقَ لم يجعله الله بيد النساء، إنما جعله بيد الرِّجال، ولا يتغيَّرُ شرع الله باختيار العبد، فليس له أن يختار نقلَ الطلاق إلى من لم يجعل الله إليه الطلاق البتة.
قال أبو عُبيد القاسم بن سلام: حدثنا أبو بكر بنُ عياش، حدثنا حبيبُ ابن أبى ثابت، أن رجلاً قال لامرأة له: إن أدخلتِ هذا العِدْلَ إلى هذا البيت، فأمرُ صاحبتك بيدك، فأدخلتْه، ثم قالت: هى طالق، فَرُفِعَ ذلك إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فأبانها منه، فمرُّوا بعبد الله بن مسعود، فأخبروه، فذهب بهم إلى عمر، فقال: يا أميرَ المؤمنين: إن الله تبارك وتعالى جعل الرِّجال قوامِينَ على النساء، ولم يجعل النساء قواماتٍ على الرجال، فقال له عمر: فما ترى؟ قال: أراها امرأته. قال: وأنا أرى ذلك، فجعلها واحدة.
قلت: يحتمل أنه جعلها واحدة بقول الزوج: فأمر صاحبتك بيدك، ويكون كنايةً فى الطلاق، ويحتمل أنه جعلها واحدة بقول ضرتها: هى
طالق، ولم يجعل للضرة إبانتها، لئلا تكون هى القوامة على الزوج، فليس فى هذا دليل لما ذهبت إليه هذه الفرقة، بل هو حجة عليها.
وقال أبو عبيد: حدثنا عبد الغفار بن داود، عن ابنِ لهيعة، عن يزيد ابن أبى حبيب، أن رُمَيْثَةَ الفارسية كانت تحتَ محمد بن عبد الرحمن بن أبى بكر، فملكها أمرها، فقالت: أنتَ طالق ثلاث مرات، فقال عثمان بن عفان: أخطأتَ، لا طلاق لها، لأن المرأة لا تُطَلِّقُ.
وهذا أيضاً لا يدل لهذه الفرقة، لأنه إنما لم يوقع الطلاق لأنها أضافته إلى غير محله وهو الزوج، وهو لم يقل: أنا منك طالق، وهذا نظيرُ ما رواه عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج، أخبرنى أبو الزبير، أن مجاهداً أخبره، أن رجلاً جاء إلى ابن عباس رضى الله عنهما، فقال: ملَّكتُ امرأتى أمرها، فطلَّقتْنى ثلاثاً، فقال ابنُ عباس: "خَطَّأَ اللهُ فوءها، إنما الطلاق لك عليها، وليس لها عليك".
قال الأثرم: سألتُ أبا عبد الله، عن الرجل يقول لامرأته: أمرُكِ بيدك؟ فقال: قال عثمانُ، وعلىُّ رضى الله عنهما: القضاء ما قضت، قلت: فإن قالت: قد طلقتُ نفسى ثلاثاً قال: القضاءُ ما قضت. قلت: فإن قالت: طلقتُك ثلاثاً، قال: المرأة لا تطلِّق، واحتج بحديث ابن عباس رضى الله عنهما: "خَطَّأَ الله نوءها". ورواه عن وكيع، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن عباس رضى الله عنه، فى رجل جعل أمر امرأتِه فى يدها، فقالت: قد طلقتُك ثلاثاً، قال ابنُ عباس: خَطَّأَ الله نوءها، أفلا طلقت
نفسها. قال أحمد: صحَّف أبو مطر، فقال: "خطأ الله فوها" ولكن روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: سألتُ عبد الله بن طاووس كيف كان أبوك يقول فى رجل ملَّك امرأتَه أمرَها، أتمِلكُ أن تُطلِّق نفسها، أم لا؟ قال: كان يقولُ: ليس إلى النساء طلاقٌ، فقلت له: فكيف كان أبوك يقول فى رجل ملَّك رجلاً أمرَ امرأتِه، أَيَمْلِكُ الرجلُ أن يُطلِّقَها؟ قال: لا. فهذا صريح من مذهب طاووس أنه لا يُطلق إلا الزوج، وأن تمليكَ الزوجة أمرها لغو، وكذلك توكيلُه غيره فى الطلاق. قال أبو محمد ابن حزم: وهذا قول سليمان، وجميع أصحابنا.
الحجة الثانية لهؤلاء: أن الله سبحانه إنما جعل أمرَ الطلاق إلى الزوج دونَ النساء، لأنهن ناقصاتُ عقل ودين، والغالبُ عليهن السفه، وتذهب بهن الشهوة والميل إلى الرجال كُلَّ مذهب، فلو جُعِلَ أمرُ الطلاق إليهن، لم يستقِمْ للرجال معهن أمر، وكان فى ذلك ضرر عظيم بأزواجهن، فاقتضت حِكمتُه ورحمتُه أَنه لم يجعل بأيديهن شيئاً مِن أمر الفراق، وجعله إلى الأزواج. فلو جاز للأزواج نقلُ ذلك إليهن، لناقض حكمةَ الله ورحمتَه، ونظره للأزواج. قالوا: والحديث إنما دَلَّ على التخيير فقط، فإن اخترن الله ورسولَه والدارَ الآخرَة كما وقع كُنَّ أزواجه بحالهن، وإن اخترنَ أنفُسَهُنَّ، متعهن، وطلقهن هو بنفسه، وهو السَّراحُ الجميل، لا أن اختيارَهن لأنفسهن يكونُ هو نفسَ الطلاق، وهذا فى غاية الظهور كما ترى.
قال هؤلاء: والآثارُ عن الصحابة فى ذلك مختلفة اختلافاً شديداً فصح عن عمر وابن مسعود، وزيد بن ثابت فى رجل جعل أمرَ امرأته
بيدها فطلقت نفسها ثلاثاً، أنها طلقةٌ واحدة رجعية، وصح عن عثمان رضى الله عنه. أن القضاء ما قضت، ورواه سعيد بن منصور، عن ابن عمر، وغيره عن ابن الزبير. وصح وعن على، وزيد، وجماعة من الصحابة رضى الله عنهم: أنها إن اختارت نفسها، فواحدة بائنة، وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية.
وصح عن بعض الصحابة: أنها اختارت نفسها، فثلاث بكل حال: وروى عن ابن مسعود فيمن جعل أمر امرأته بيد آخر فطلقها، فليس بشىء.
قال أبو محمد ابن حزم: وقد تقصَّينا مَن روينا عنه مِن الصحابة أنه يقع به الطلاقُ، فلم يكونوا بين من صحَّ عنه، ومن لم يَصِحَّ عنه إلا سبعة، ثم اختلفوا، وليس قولُ بعضهم أولى مِن قول بعض ولا أثر فى شىء منها، إلا ما رويناه من طريق النسائى، أخبرنا نصر بن على الجهضمى، حدثنا سليمانُ بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، قال: قلت لأيوب السختيانى: هل علمتَ أحداً قال فى "أمرك بيدك": إنها ثلاثٌ غير الحسن؟ قال: لا، اللهم غُفراً إلا ما حدثنى به قتادة، عن كثير مولى ابن سمرة، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ثلاث. قال أيوب: فلقيت كثيراً مولى ابن سمرة، فسألتُه، فلم يعرفه، فرجعتُ إلى قتادة، فأخبرتُه، فقال: ننسى. قال أبو محمد: كثير مولى ابن سمرة مجهول، ولو كان مشهوراً بالثقة والحفظ، لما خالفنا هذا الخبرَ، وقد أوقفه بعضُ رواته على أبى هريرة. انتهى.
وقال المروذى: سألت أبا عبد الله، ما تقول فى امرأة خُيِّرت،
فاختارت نفسَها؟ قال: قال فيها خمسةٌ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنها واحدة ولها الرجعة: عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وعائشة. وذكر آخر، قال غير المروذى: هو زيد ابن ثابت.
قال أبو محمد، ومن خيَّر امرأته، فاختارت نفسَها، أو اختارت الطلاقَ، أو اختارت زوجَها، أو لم تختر شيئاً، فكل ذلك لا شىء، وكُلُّ ذلك سواء، ولا تطلق بذلك، ولا تحرُم عليه، ولا لشىءٍ مِن ذلك حكم، ولو كرَّر التخييرَ، وكررت هى اختيارَ نفسها، أو اختيارَ الطلاق ألف مرة، وكذلك إن ملَّكها نفسها، أو جعل أمرها بيدها. ولا فرق.
ولا حُجة فى أحد دونَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذ لم يأتِ فى القرآن، ولا عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن قولَ الرجل لامرأته: أمرُك بيدك، أو قد مَلَّكتكِ أمركِ، أو اختارى يُوجب أن يكون طلاقاً، أو أن لها أن تطلِّق نفسها، أو تختارَ طلاقاً، فلا يجوزُ أن يُحَرَّمَ على الرجل فرجٌ أباحه اللهُ تعالى له ورسولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأقوالٍ لم يُوجبها الله، ولا رسولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا فى غاية البيان. انتهى كلامه.
قالوا: واضطرابُ أقوال الموقعين، وتناقُضها، ومعارضةُ بعضها لبعض يدل على فسادِ أصلها، ولو كان الأصل صحيحاً لاطردت فروعُه، ولم تتناقض، ولم تختلف، ونحن نُشير إلى طرف من اختلافهم.
فاختلفوا: هل يقع الطلاقُ بمجرد التخيير، أو لا يقعُ حتى تختار نفسها؟ على قولين: تقدم حكايتُهما، ثم اختلف الذين لا يُوقعونه بمجردِ قوله: أمرك بيدك: هل يختص اختيارُها بالمجلس، أو يكون فى يدها
ما لم يفسح، أو يطأ؟ على قولين.أحدهما، أنه يتقيَّد بالمجلس، وهذا قولُ أبى حنيفة، والشافعى، ومالك فى إحدى الروايتين عنه. الثانى: أنه فى يدها أبداً حتى يفسخَ أو يطأ، وهذا قولُ أحمد، وابن المنذر، وأبى ثور. والرواية الثانية عن مالك. ثم قال بعضُ أصحابه: وذلك ما لم تَطُلْ حتى يتبين أنها تركته، وذلك بأن يتعدَّى شهرين، ثم اختلفوا، هل عليها يمين: أنها تركت، أم لا؟ على قولين.
ثم اختلفوا إذا رجع الزوج فيما جعل إليها، فقال أحمد وإسحاق والأوزاعى، والشعبى، ومجاهد، وعطاء: له ذلك، ويبطلُ خيارها. وقال مالك، وأبو حنيفة والثورى، والزهرى: ليس له الرجوعُ، وللشافعية خلافٌ مبنى على أنه توكيل، فيمِلكُ الموكل الرجوع، أو تمليك، فلا يملِكُه، قال بعضُ أصحاب التمليك: ولا يمتِنعُ الرجوعُ. وإن قلنا إنه تمليك، لأنه لم يتصل به القبول، فجاز الرجوعُ فيه كالهبة والبيع.
واختلفوا: فيما يلزَم من اختيارها نفسها. فقال أحمد والشافعى واحدة رجعية وهو قولُ ابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، واختاره أبو عبيد، وإسحاق. وعن على: واحدة بائنة، وهو قول أبى حنيفة وعن زيد بن ثابت، ثلاث، وهو قول الليث، وقال مالك: إن كانت مدخولاً بها، فثلاث، وإن كانت غير مدخول بها، قُبِل منه دعوى الواحدة.
واختلفوا: هل يفتِقُر قوله: أمرك بيدك إلى نية أم لا؟ فقال أحمد والشافعى وأبو حنيفة: يفتقِرُ إلى نية، وقال مالك، لا يفتقِرُ إلى نية، واختلفوا: هل يفتقِرُ وقوعُ الطلاق إلى نية المرأة إذا قالت: اخترت نفسى، أو فسخت نِكاحَك؟ فقال أبو حنيفة: لا يفتقِرُ وقوع الطلاق إلى نيتها
إذا نوى الزوج. وقال أحمد والشافعى: لابد من نيتها إذا اختارت بالكناية، ثم قال أصحابُ مالك: إن قالت: اخترتُ نفسى، أو قبلتُ نفسى، لزم الطلاقُ، ولو قالت: لم أُرده. وإن قالت. قبلت أمرى، سئلت عما أرادت؟ فإن أرادت الطلاق كان طلاقاً، وإن لم تُرِدْهُ لم يكن طلاقاً ثم قال مالك: إذا قال لها: أمُرك بيدك، وقال: قصدتُ طلقة واحدة، فالقولُ قوله مع يمينه، وإن لم تكن له نية، فله أن يُوقع ما شاء. وإذا قال: اختارى، وقال: أردت واحدة، فاختارت نفسها، طلقت ثلاثاً، ولا يقبل قوله.
ثم هاهنا فروعٌ كثيرة مضطربة غايةَ الاضطرابِ لا دليل عليها من كتابٍ ولا سنة ولا إجماع، والزوجة زوجته حتى يقومَ دليل على زوال عصمته عنها.
قالوا: ولم يجعل اللهُ إلى النساء شيئاً من النكاحِ، ولا من الطلاق، وإنما جعل ذلك إلى الرجل، وقد جعل اللهُ سبحانه الرجال قوَّامينَ على النساء، إن شاءوا أمسكوا، وإن شاءوا طلقوا، فلا يجوز للرجل أن يجعل المرأة قوَّامة عليه، إن شاءت أمسكت، وإن شاءت طلقت. قالوا: ولو أجمع أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على شىء لم نتعد إجماعَهم، ولكن اختلفوا، فطلبنا الحُجة لأقوالهم مِن غيرها، فلم نجد الحجةَ تقومُ إلا على هذا القول. وإن كان من روى عنه قد روى عنه خلافه أيضاً، وقد أبطل من ادعى الإجماع فى ذلك، فالنزاع ثابت بين الصحابة والتابعين كما حكيناه، والحجةُ لا تقوم بالخلاف، فهذا ابنُ عباس، وعثمان ابن عفان، قد قالا: إن تمليك الرجل لامرأته أمرها ليس بشىء، وابنُ مسعود يقول فيمن جعل أمر امرأته بيد آخر فطلقها: ليس بشىء،
وطاووس يقول فيمن ملك امرأته أمرها: ليس إلى النساء طلاق، ويقول فيمن ملك رجلاً أمر امرأته، أيملك الرجل أن يطلقها؟ قال: لا.
قلت: أما المنقولُ عن طاووس، فصحيح صريح لا مطعن فيه سنداً وصراحة. وأما المنقول عن ابن مسعود، فمختلفٌ، فنقل عنه موافقة على وزيد فى الوقوع، كما رواه ابن أبى ليلى عن الشعبى: أن أمرك بيدك، واختارى سواء فى قول على وابن مسعود وزيد، ونقل عنه فيمن قال لامرأته: أمُر فلانة بيدك إن أدخلت هذا العدل البيت، ففعلت، أنها امرأته، ولم يطلقها عليه.
وأما المنقول عن ابن عباس، وعثمان، فإنما هو فيما إذا أضافت المرأةُ الطلاقَ إلى الزوج، وقالت: أنت طالق. وأحمد ومالك يقولان ذلك مع قولهما بوقوع الطلاق إذا اختارت نفسها، أو طلقت نَفسها، فلا يُعرف عن أحد من الصحابة إلغاء التخيير والتمليك ألبتة، إلا هذِهِ الرواية عن ابن مسعود، وقد رُوِىَ عنه خلافُها، والثابتُ عن الصحابة، اعتبارُ ذلك، ووقوع الطلاق به، وإن اختلفوا فيما تَمْلِكُ به المرأة كما تقدم، والقولُ بأن ذلك لا أثر له لا يُعرف عن أحد من الصحابة ألبتة، وإنما وهم أبو محمد فى المنقول عن ابن عباس وعثمان، ولكن هذا مذهب طاووس، وقد نقل عن عطاء ما يدل على ذلك، فروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قلت لعطاء: رجل قال لامرأته: أمرك بيدك بعد يوم أو يومين، قال: ليس هذا بشىء. قلت: فأرسل إليها رجلاً أن أمرها بيدها يوماً أو ساعة، قال: ما أدرى ما هذا؟ ما أظن هذا شيئاً. قلت لعطاء: أملَّكت عائشة حفصة حين ملَّكها المنذر أمرها، قال عطاء:
لا، إنما عرضت عليها أتطلقها أم لا، ولم تُملِّكها أمرها.
ولولا هيبةُ أصحابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما عَدَلْنَا عن هذا القول، ولكن أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم القدوةُ وإن اختلفوا فى حكم التخيير، ففى ضمن اختلافهم اتفاقُهم على اعتبار التخيير، وعدم إلغائه، ولا مفسدة فى ذلك، والمفسدةُ التى ذكرتمُوها فى كون الطلاق بيد المرأة إنما تكونُ لو كان ذلك بيدها استقلالاتً، فأما إذا كان الزوج هو المستقل بها، فقد تكونُ المصلحة له فى تفويضها إلى المرأة ليصير حاله معها على بينة إن أخبته، أقامت معه، وإن كرهته، فارقتُه، فهذا مصلحة له ولها، وليس فى هذا ما يقتضى تغيير شرع الله وحكمته، ولا فرقَ بين توكيل المرأة فى طلاق نفسها وتوكيل الأجنبى، ولا معنى لمنع توكيل الأجنبى فى الطلاق، كما يَصِحُّ توكليه فى النكاح والخلع.
وقد جعل اللهُ سبحانَه للحكمين النظرَ فى حال الزوجين عند الشقاق إن رأيا التفريقَ فرَّقا، وإن رأيا الجمع، جمعا، وهو طلاق أو فسخ من غير الزوج، إما برضاه إن قيل: هما وكيلانِ، أو بغير رضاه إن قيل: هما حكمان، وقد جُعلَ للحاكم أن يطلِّق على الزوج فى مواضع بطريق النيابة عنه، فإذا وكَّلَ الزوجُ من يُطلِّق عنه، أو يُخالع، لم يكن فى هذا تغيير لحكم الله مخالفةٌ لدينه، فإن الزوجَ هو الذى يُطلِّق إما بنفسه، أو بوكيله، وقد يكون أتمَّ نظراً للرجل من نفسه، وأعلم بمصلحته، فيفوض إليه ما هو أعلمُ بوجه المصلحة فيه منه، وإذا جاز التوكيلُ فى العتقِ والنكاح، والخلع والإبراء، وسائر الحقوق من المطالبة بها وإثباتها واستيفائها، والمخاصمة فيها، فما الذى حرَّم التوكيلَ فى الطلاق؟ نعم
الوكيلُ يقوم مقام الموكِّل فيما يملكه من الطلاق، ومالا يملِكُه، وما يَحلُّ له منه، وما يحرم عليه، ففى الحقيقة لم يُطلِّق إلا الزوج إما بنفسه أو بوكيله.
حُكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيَّنه عن ربه تبارك وتعالى فيمن حرَّم أمته أو زوجته أو متاعه
قال تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ واللهُ غَفُورٌ رحيمٌ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُم} [التحريم: 1-2]، ثبت فى "الصحيحين"، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ عسلاً فى بيت زينب بنت جحش، فاحتالت عليه عائشةُ وحفصةُ، حتى قال: "لَنْ أَعُودَ لَهُ". وفى لفظ: وقد حلفت.
وفى "سنن النسائى": عن أنس رضى الله عنه، أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت له أمة يطؤُها، فلم تزل به عائشةُ وحفصةُ حتى حرَّمَها، فأنزل الله عز وجل : {يَأَيُّهَا النبىُّ لِمَ تُحرِّمُ مَا أَحلَّ الله لَكَ} [التحريم:1].
وفى "صحيح مسلم": عن ابنِ عباس رضى الله عنهما، قال: إذا حَرَّمَ الرَّجُلُ امرأَته، فهي يَمينٌ يُكَفِّرُهَا، وقال: لقد كان لكُم فى رسولِ الله أسوة حسنة.
الوكيلُ يقوم مقام الموكِّل فيما يملكه من الطلاق، ومالا يملِكُه، وما يَحلُّ له منه، وما يحرم عليه، ففى الحقيقة لم يُطلِّق إلا الزوج إما بنفسه أو بوكيله.
حُكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيَّنه عن ربه تبارك وتعالى فيمن حرَّم أمته أو زوجته أو متاعه
قال تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ واللهُ غَفُورٌ رحيمٌ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُم} [التحريم: 1-2]، ثبت فى "الصحيحين"، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ عسلاً فى بيت زينب بنت جحش، فاحتالت عليه عائشةُ وحفصةُ، حتى قال: "لَنْ أَعُودَ لَهُ". وفى لفظ: وقد حلفت.
وفى "سنن النسائى": عن أنس رضى الله عنه، أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت له أمة يطؤُها، فلم تزل به عائشةُ وحفصةُ حتى حرَّمَها، فأنزل الله عز وجل : {يَأَيُّهَا النبىُّ لِمَ تُحرِّمُ مَا أَحلَّ الله لَكَ} [التحريم:1].
وفى "صحيح مسلم": عن ابنِ عباس رضى الله عنهما، قال: إذا حَرَّمَ الرَّجُلُ امرأَته، فهي يَمينٌ يُكَفِّرُهَا، وقال: لقد كان لكُم فى رسولِ الله أسوة حسنة.
وفى جامع الترمذى: عن عائشة رضى الله عنها، قالت: آلى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن نسائه وحرَّم فَجَعَلَ الحَرَامَ حَلاَلاً، وجَعَلَ فى اليمينِ كفارةً. هكذا رواه مسلمة بن علقمة، عن داود، عن الشعبى، عن مسروق، عن عائشة، ورواه على بن مُسهر، وغيره، عن الشعبى، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرسلاً وهو أصح، انتهى كلام أبى عيسى.
وقولُها: جعل الحرامَ حلالاً، أى: جعل الشىء الذى حرَّمه وهو العسلُ، أو الجاريةُ، حلالاً بعد تحريمه إياه. وقال الليثُ بن سعد: عن يزيد بن أبى حبيب، عن عبد الله بن هُبيرة عن قَبيصة بن ذُؤيب، قال: سألت زيد بن ثابت، وابن عمر رضى الله عنهم، عمن قال لامرأته: أنت علىَّ حرام، فقالا جميعاً: كفارة يمين. وقال عبد الرزاق، عن ابن عُيينة، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن ابن مسعود رضى الله عنه، قال فى التحريم: هى يمينٌ يكفِّرها.
قال ابنُ حزم: وروى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعائشة أمِّ المؤمنين. وقال الحجاج بن منهال: حدثنا جريرُ بن حازم، قال: سألت نافعاً مولى ابن عمر رضى الله عنه عن الحرام، أطلاق هو؟ قال: لا، أوليس قد حرَّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاريته فأمره الله عز وجل أن يُكفِّر عن يمينه، ولم يحرِّمها عليه.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق