الاثنين، 14 مايو 2018

ج3///3 زاد المعاد ج۳ /٣ زاد المعاد

ج۳    /٣  زاد المعاد

ج3//3 زاد المعاد
ج۳    /٣  زاد المعاد 
فصل
وجرى الصلحُ بين المسلمين وأهلِ مكة على وضعِ الحربِ عشرَ سنين، وأن يأمنَ الناسُ بعضهم من بعض، وأن يَرجعَ عنهم عامَهُ ذلك، حتى إذا كان العامُ المقبل، قَدِمهَا، وخَلّوْا بينَه وبين مكَّة، فأقام بها ثلاثاً، وأن لا يدخُلَهَا إلا بسلاح الراكب، والسيوف فى القِرَب، وأنَّ مَن أتانا مِن أصحابكَ لم نرده عليك، ومَن أتاكَ من أصحابنا رددتَه علينا، وأنَّ بيننا وبينَك عَيْبَةً مكفوفةً، وأنه لا إسْلالَ ولا إغْلالَ، فقالوا: يا رسولَ الله؛ نُعطيهم هذا ؟ فقال: "مَنْ أتاهم منا فأبعَدَهُ اللهُ، ومَن أتانا مِنهم فرددناه إليهم، جَعَلَ اللهُ له فَرَجاً ومخرجاً".
وفى قِصة الحُديبية، أنزل اللهُ عزَّ وجلَّ فِديةَ الأذى لمن حلق رأسَه بالصيام، أو الصَّدقة، أو النُّسك فى شأن كعب بن عُجرة.
وفيها دعا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمُحَلِّقِينَ بالمَغْفِرَة ثلاثاً، ولِلمُقَصِّرِينَ مَرَّةً.
وفيها نحرُوا البَدَنَةَ عن سَبْعَةٍ، والبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ.
وفيها أهدى رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى جملة هَدْيهِ جملاً كان لأبى جهل
كان فى أنفه بُرَةٌ مِنْ فِضَّةٍ لِيغيظَ بهِ المشركين.
وفيها أُنزِلَتْ سورةُ الفتح، ودخلت خُزاعة فى عَقْدِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهده، ودخلَتْ بنو بكر فى عقد قريش وعهدهم، وكان فى الشرط أن مَن شاء أن يدخل فى عقده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل، ومَن شاء أن يدخل فى عقد قريش دخل.
ولما رجع إلى المدينة جاءه نساء مؤمناتٌ، مِنهن أُمُّ كُلثُوم بنتُ عقبة ابن أبى معيط، فجاء أهلُهَا يسألونها رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشرطِ الذى كانَ بينهم، فلم يَرْجِعْها إليهم، ونهاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ عن ذلك، فقيل: هذا نسخ للشرط فى النساء. وقيل تخصيص للسُّنَّة بالقرآن، وهو عزيزٌ جداً. وقيل: لم يقع الشرطُ إلا على الرجال خاصة، وأراد المشركون أن يُعَمِّمُوهُ فى الصنفين، فأبى الله ذلك.
فصل بعض ما فى قصة الحُديبية مِن الفوائِدِ الفِقهية
فمنها: اعتمارُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أشهر الحجِّ، فإنه خرج إليها فى ذى القعدة.
ومنها: أن الإحرامَ بالعُمرة من الميقات أفضلُ، كما أن الإحرامَ بالحجِّ كذلك، فإنه أحرم بهما مِن ذى الحُليفة، وبينها وبينَ المدينة ميلٌ أو نحوُه، وأما حديث: " مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ المَقْدِسِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ومَا تَأَخَّرَ " وفى لفظ: "كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ
الذُّنُوبِ" فحديث لا يثبُت، وقد اضطرب فيه إسناداً ومتناً اضطراباً شديداً.
ومنها: أن سَوْقَ الهَدى مسنونٌ فى العُمرة المفرَدَة، كما هو مسنون فى القِران.
ومنها: أن إشْعَارَ الهَدى سُنَّة لا مُثلَةٌ منهى عنها.
ومنها: استحبابُ مُغايظة أعداءِ اللهِ، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهدى فى جُملة هَدْيه جملاً لأبى جهل فى أَنْفِهِ بُرَةٌ مِن فضةٍ يَغيظُ به المشركين، وقد قال تعالى فى صفة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه: {وَمَثَلُهُمْ فِى الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْئَهُ فآزَرَهُ فاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}[الفتح: 29] ، وقال عَزَّ وجلَّ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍ نَيْلاً إلا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ، إنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120].
ومنها: أن أميرَ الجيشِ ينبغى له أن يبعثَ العُيونَ أمامه نحوَ العدو.
ومنها: أن الاستعانَةَ بالمُشرِكِ المأمونِ فى الجهاد جائزةٌ عند الحاجة، لأن عَيْنه الخزاعىَّ كَانَ كافراً إذ ذاك، وفيه مِن المصلحة أنه أقربُ إلى اختلاطه بالعدوِّ، وأخذه أخبارهم.
ومنها: استحبابُ مشورةِ الإمام رعيَّته وجيشه، استخراجاً لوجه الرأى، واستطابةً لنفوسهم، وأمناً لِعَتْبِهِم، وتعرفاً لمصلحةٍ يختصُّ بعلمها بعضُهم دون بعض، وامتثالاً لأمر الربِّ فى قوله تعالى: { وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ}[آل عمران: 159] ، وقد مدَحَ سبحانه وتعالى عباده بقوله: {وَأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى: 138].
ومنها: جواز سبى ذرارى المشركينَ إذا انفردُوا عن رجالهم قبل مقاتلة الرجال.
ومنها: ردُّ الكَلامِ الباطِل ولو نُسِبَ إلى غير مُكَلَّفٍ، فإنهم لما قالوا: خلأتِ القَصْوَاءُ، يعنى حَرَنَتْ وألحَّتْ، فلَمْ تَسِرْ، والخِلاء فى الابل بكسر الخاء والمدِّ نظير الحِران فى الخيل، فلما نسبُوا إلى الناقة ما ليس من خُلُقِهَا وطبعها، ردَّهُ عليهم، وقال: "ما خَلأَتْ ومَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُق"، ثم أخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سبب بروكها، وأن الذى حَبَسَ الفيلَ عن مكة حبسها للحكمة العظيمة التى ظهرت بسبب حبسها، وما جرى بعده.
ومنها: أن تسميةَ ما يُلابسه الرجلُ مِن مراكبه ونحوها سُنَّة.
ومنها: جوازُ الحَلِف، بل استحبابُه على الخبر الدينى الذى يريد تأكيده، وقد حُفِظَ عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحَلِف فى أكثر من ثَمَانِينَ موضعاً، وأمره الله تعالى بالحَلِفِ على تصدِيقِ ما أخبر به فى ثلاثة مواضِعَ: فى "سورة يونس"، و"سبأ"، و"التغابن".
ومنها: أن المُشْرِكين، وأهلَ البِدَع والفجور، والبُغَاة والظَّلَمة، إذا طَلَبُوا أمراً يُعَظِّمُونَ فيه حُرمةً مِن حُرُماتِ الله تعالى، أُجيبُوا إليه وأُعطوه، وأُعينوا عليه، وإن مُنِعوا غيره، فيُعاوَنون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبَغيهم، ويُمنعون مما سوى ذلك، فكُلُّ مَن التمس المعاونةَ على محبوب للهِ تعالى مُرْضٍ له، أُجيبَ إلى ذلك كائِناً مَن كان، ما لم يترتَّب على إعانته على ذلك المحبوبِ مبغوضٌ للهِ أعظمُ منه، وهذا مِن أدقِّ المواضع وأصعبِهَا، وأشقِّهَا على النفوس، ولذلك ضاق عنه من الصحابة مَن ضاق، وقال عمر ما قال، حتَّى عَمِلَ له أعمالاً بعده، والصِّدِّيقُ تلقاه بالرضى والتسليم، حتى كان قلبُه فيه على قلبِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأجاب عُمَرَ عما سأل عنه من ذلك بعَيْن جوابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك يدل على أن الصِّدِّيق رضى الله عنه أفضلُ الصحابة وأكملُهم، وأعرفُهم باللهِ تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعلمُهم بدينه، وأقومُهم بمحابِّه، وأشدُّهم موافقةً له، ولذلك لم يسأل عمر عما عَرَضَ له إلا رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصِدِّيقَه خاصة دونَ سائر أصحابه.
ومنها: أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَلَ ذاتَ اليمين إلى الحُديبية. قال الشافعى: بعضُهَا مِن الحِل، وبعضُها مِن الحَرَم.
وروى الإمام أحمد فى هذه القصة أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصلِّى فى الحرم، وهو مضطرب فى الحِل، وفى هذا كالدّلالة على أن مضاعفةَ الصلاة بمكة تتعلق بجميع الحرم لا يخصُّ بها المسجد الذى هو مكانُ الطواف، وأن قوله: "صَلاَةٌ فى المَسْجِدِ الحَرَام أَفْضَلُ مِنْ مِائة صَلاةٍ فى مَسْجِدى"،
كقوله تعالى: {فَلا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}[التوبة: 128] ، وقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[الإسراء: 1]، وكان الإسراء مِن بيت أُم هانئ.
ومنها: أن مَن نزل قريباً مِن مكة، فإنَّهُ ينبغى له أن ينزل فى الحِلِّ، ويصلى فى الحَرم، وكذلك كان ابنُ عمر يصنعُ.
ومنها: جوازُ ابتداءِ الإمام بطلب صلح العَدُوِّ إذا رأى المصلحةَ للمسلمين فيه، ولا يَتوقَّفُ ذلكَ على أن يكون ابتداءُ الطلب منهم.
وفى قِيام المغيرة بن شعبة على رأس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيف، ولم يكن عادته أن يُقام على رأسه، وهو قاعد، سُنَّةٌ يُقتدى بها عند قدومِ رسل العدو من إظهار العزِّ والفخر، وتعظيم الإمام، وطاعته، ووقايته بالنفوس، وهذه هى العادة الجارية عند قدوم رسل المؤمنين على الكافرين، وقدوم رسل الكافرين على المؤمنين، وليس هذا من هذا النوع الذى ذمَّه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامَاً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِن النَّار"، كما أن الفخرَ والخُيلاء فى الحرب ليسا من هذا النوع المذموم فى غيره، وفى بعث البُدْنِ فى وجه الرسول الآخر دليل على استحباب إظهارِ شعائر الإسلام لرسل الكفار.
وفى قول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمغيرة: "أمَّا الإسْلاَمُ فَأَقْبلُ، وَأَمَّا المَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ فى شىء"، دليل على أن مال المشرك المعاهَد معصوم، وأنه لا يملكُ، بل يُرد عليه، فإن المغيرةَ كان قد صحبهم على الأمان، ثم غدر
بهم، وأخذ أموالهم، فلم يتعرَّض النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأموالهم، ولا ذبَّ عنها، ولا ضمنها لهم، لأن ذلك كان قبل إسلام المغيرة.
وفى قول الصِّدِّيق لعروة: امصُصْ بَظْرَ اللاَّتِ، دليلٌ على جواز التصريح باسم العَوْرة إذا كان فيه مصلحة تقتضيها تلك الحال، كما أذن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُصرَّح لمن ادَّعى دعوى الجاهلية بِهَنِ أبيه، ويقال له: اعضُضْ أيْرَ أبيك، ولا يُكْنَى له، فلكل مقام مقال.
ومنها: احتمالُ قِلَّةِ أدبِ رسولِ الكُفار، وجهلِه وجفوته، ولا يقابَل على ذلك لما فيه من المصلحة العامة، ولم يُقابل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُروةَ على أخذهِ بلحيته وقتَ خطابه، وإن كانت تلك عادَة العرب، لكن الوقارَ والتعظيمَ خلافُ ذلك.
وكذلك لم يُقابل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسولى مسيلمةَ حين قالا: نشهدُ أنه رسول الله، وقال: "لَوْلا أنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمَا".
ومنها: طهارة النُّخَامَةِ، سواء أكانت من رأسٍ أو صدر.
ومنها: طهارةُ الماءِ المستعمل.
ومنها: استحبابُ التفاؤُل، وأنَّهُ ليس مِن الطِّيَرةِ المكْرُوهَة، لقوله لما جاء سهيل: "سَهُلَ أَمْرُكُم".
ومنها: أن المشهودَ عليه إذا عُرِفَ باسمه واسمِ أبيه، أغنى ذلك عن ذِكر الجَدِّ، لأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يزد على محمد بن عبد الله، وقَنِعَ مِن
سهيل بذكر اسمه واسم أبيه خاصة، واشتراطُ ذِكر الجد لا أصل له، ولما اشترى العَدَّاءُ بْنُ خالد منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغلامَ فكتب له: "هذا مَا اشْتَرَى العَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بن هَوْذَةَ" فذكر جده، فهو زيادةُ بيان تَدُلُّ على أنه جائز لا بأس به، ولا تَدُلُّ على اشتراطه، ولما لم يكُنْ فى الشهرة بحيث يُكتفى باسمه واسم أبيه ذكر جده، فيُشترط ذِكْرُ الجد عند الاشتراك فى الاسم واسم الأب، وعند عدمِ الاشتراك، واكتُفى بذكر الاسم واسمِ الأب.. والله أعلم.
ومنها: أن مصالحةَ المشركين ببعض ما فيه ضَيْمٌ على المُسلمينَ جائزةٌ للمصلحة الراجحة، ودفع ما هو شر منه، ففيه دفعُ أعلى المفسدتينِ باحتمالِ أدناهما.
ومنها: أن مَن حَلَفَ على فِعْل شىء، أو نَذَره، أو وَعَدَ غيرَه به ولم يُعيِّن وقتاً، لا بلفظه، ولا بنيته، لم يكن على الفور، بل على التراخى.
ومنها: أن الحلاقَ نُسُكٌ، وأنه أفضلُ من التقصير، وأنه نُسُكٌ فى العُمرةِ، كما هو نُسُكٌ فى الحجِّ، وأنه نُسُكٌ فى عُمرة المحصور، كما هو نُسُك فى عُمرة غيره.
ومنها: أن المُحْصَرَ ينحرُ هَدْيَه حيث أُحْصِرَ من الحِلِّ أو الحَرَم، وأنه لا يجب عليه أن يُواعِدَ مَن ينحرُهُ فى الحرم إذا لم يَصِل إليه، وأنه
لا يتحلل حتى يصل إلى محله، بدليل قوله تعالى : {وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}[الفتح: 25].
ومنها: أن الموضِعَ الذى نحر فيه الهَدْى، كان من الحِلِّ لا من الحرم، لأن الحَرَمَ كُلَّهُ محلُّ الهَدْى.
ومنها: أن المُحْصَرَ لا يجب عليه القضاءُ، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرَهم بالحلق والنحر، ولم يأمر أحداً منهم بالقضاء، والعُمْرةُ من العام القابل لم تكن واجبةً، ولا قضاءً عن عُمرة الإحصار، فإنهم كانُوا فى عُمرة الإحصار ألفاً وأربعمائة، وكانوا فى عُمرة القضيةِ دُون ذلك، وإنما سُمِّيت عُمرةَ القضية والقضاء، لأنها العُمرة التى قاضاهم عليها، فأُضيفت العُمرة إلى مصدر فعله.
ومنها: أن الأمر المطلقَ على الفور وإلا لم يَغْضَبْ لِتأخيرهم الامتثال عن وقت الأمر، وقد اعتذر عن تأخيرهم الامتثال بأنَّهُم كانوا يَرْجُون النسخ، فأخَّروا متأوِّلين لذلك، وهذا الاعتذارُ أولى أن يُعتذر عنه، وهو باطل، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو فَهِمَ منهم ذلك، لم يشتَدَّ غضبُه لتأخير أمره، ويقول: "مَالى لا أغْضَبُ، وأَنَا آمُرُ بالأَمْر فلا أُتَّبعُ" ، وإنما كان تأخيرُهم مِن السعى المغفور لا المشكور، وقد رضىَ الله عنهم، وغفر لهم، وأوجب لهم الجنَّة.
ومنها: أن الأصل مشارَكَةُ أُمَّتِه له فى الأحكام، إلا ما خصَّه الدليلُ، ولذلك قالت أُمُّ سلمة: "اخرُجْ ولا تُكَلِّمْ أحدَاً حتى تَحْلِقَ رأسك وتنحر هَدْيك"، وعلمت أن الناس سيتابعونه.
فإن قيل: فكيف فعلوا ذلك اقتداءً بفعله، ولم يمتثِلُوه حين أمرهم به ؟ قيل: هذا هو السببُ الذى لأجله ظنَّ مَن ظنَّ أنهم أخَّروا الامتثال طمعاً فى النسخ، فلما فعلَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، عَلِمُوا حينئذ أنه حكم مُسْتَقِرٌ غيرُ
منسوخ، وقد تقدم فسادُ هذا الظن، ولكن لما تغيَّظَ عليهم، وخرج ولم يُكلمهم، وأراهُم أنه بادر إلى امتثال ما أمر به، وأنه لم يُؤخِّر كتأخيرهم، وأن اتباعهم له وطاعتَهم تُوجِبُ اقتداءهم به، بادرُوا حينئذ إلى الاقتداء به وامتثالِ أمره.
ومنها: جوازُ صُلحِ الكُفَّارِ على ردِّ مَن جاء منهم إلى المسلمين، وألا يُرد مَنْ ذهب من المسلمين إليهم، هذا فى غير النساء، وأما النساء، فلا يجوزُ اشتراطُ رَدِّهن إلى الكفار، وهذا موضعُ النسخ خاصة فى هذا العقد بنص القرآن، ولا سبيلَ إلى دعوى النسخ فى غيره بغير موجب.
ومنها: أن خُروجَ البُضع من ملك الزوج متقوَّم، ولذلك أوجبَ اللهُ سبحانه ردَّ المهر على مَن هاجرت امرأتُه، وحِيل بينَه وبينها، وعلى مَن ارتدَّت امرأتُه مِن المسلمين إذا استحق الكفارُ عليهم ردَّ مهورِ مَن هاجر إليهم مِن أزواجهم، وأخبر أن ذلك حُكمُه الذى حكم به بينهم، ثم لم ينسخه شىءٌ، وفى إيجابِه ردَّ ما أعطى الأزواجُ من ذلك دليلٌ على تقوُّمه بالمسمَّى، لا بمهر المثل.
ومنها: أن ردَّ مَن جاء من الكفار إلى الإمام لا يتناول مَن خرج منهم مسلماً إلى غيرِ بلدِ الإمام، وأنه إذا جاء إلى بلد الإمام، لا يجبُ عليه ردُّه بدون الطلب، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَرُدَّ أبا بصير حين جاءه، ولا أكرهه على الرجوع، ولكن لما جاؤوا فى طلبه، مكَّنهم من أخذه ولم يكرهْهُ على الرجوع.
ومنها: أن المعاهدين إذا تسلَّموه وتمكَّنُوا منه فقتل أحداً منهم لم يضمنه بديةٍ ولا قَوَدٍ، ولم يضمنه الإمام، بل يكون حكمه فى ذلك حُكمَ قتله لهم فى ديارهم حيث لا حكم للإمام عليهم، فإن أبا بصيرٍ قتل أحد الرجلين المعاهَدَيْنِ بذى الحُلَيْفَةِ، وهى مِن حُكم المدينة، ولكن كان قد تسلَّموه،
وفُصِلَ عن يد الإمام وحكمه.
ومنها: أن المعاهَدِينَ إذا عاهدوا الإمام، فخرجت منهم طائفة، فحاربتهم، وغَنِمَتْ أموالهم، ولم يَتَحَيَّزُوا إلى الإمام، لم يجب على الإمام دفعُهم عنهم، ومنعُهم منهم، وسواءٌ دخلوا فى عَقدِ الإمام وعهده ودينه، أو لم يدخلوا، والعهدُ الذى كان بين النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المشركين، لم يكن عهداً بين أبى بصير وأصحابه وبينهم، وعلى هذا فإذا كان بين بعضِ ملوكِ المسلمين وبعضِ أهل الذِّمةِ من النصارى وغيرِهم عهد، جاز لملك آخر مِن ملوك المسلمين أن يَغْزُوَهُم، ويغنَم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد، كما أفتى به شيخُ الإسلام فى نصارى مَلَطْيَةَ وسبيهم، مستدلاً بقصة أبى بصير مع المشركين.
فصل فى الإشارة إلى بعضِ الحِكمِ التى تضمَّنتها هذه الهدنة
وهى أكبرُ وأجَلُّ مِن أن يُحيط بها إلا اللهُ الذى أحكم أسبابهَا، فوقعت الغايةُ على الوجه الذى اقتضته حكمته وحمدُه.
فمنها: أنها كانت مُقَدِّمةً بين يدى الفتح الأعظم الذى أعزَّ اللهُ بهِ رسولَه وجندَه، ودخل الناس به فى دين الله أفواجاً، فكانت هذه الهُدنة باباً له، ومفتاحاً، ومؤذِناً بين يديه، وهذه عادةُ الله سبحانه فى الأُمور العظام التى يقضيها قدراً وشرعاً، أن يُوطِّئَ لها بين يديها مقدمات وتوطئات، تُؤذِنُ بها، وتدُلُّ عليها.
ومنها: أن هذه الهُدنة كانت من أعظم الفُتوح، فإن الناسَ أمِنَ بعضُهم بعضاً، واختلطَ المسلمون بالكفار، وبادؤوهم بالدعوة، وأسمعوهم
القُرآن، وناظرُوهم على الإسلام جهرةً آمنين، وظهر مَن كان مختفياً بالإسلام، ودخل فيه فى مُدة الهُدنة مَن شاء الله أن يدخل، ولهذا سماه الله "فَتْحاً مُّبِيناً". قال ابن قتيبة: قضينا لك قضاءً عظيماً، وقال مجاهد: هو ما قضى الله له بالحُديبية.
وحقيقة الأمر: أن الفتح فى اللُّغة فتحُ المغلق، والصلح الذى حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً مُغلقاً حتى فتحه الله، وكان مِن أسباب فتحه صدُّ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابِهِ عن البيت، وكان فى الصورة الظاهرة ضيماً وهضماً للمسلمين، وفى الباطن عزَّا وفتحاً ونصراً، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر إلى ما وراءَهُ مِن الفتح العظيم، والعزِّ، والنصرِ من وراء ستر رقيق، وكان يُعطى المشركين كلَّ ما سألوه مِن الشروط، التى لم يحتملها أكثر أصحابه ورؤوسهم، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم ما فى ضمن هذا المكروه من محبوب: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}[البقرة:216].
وَرُبَّمَا كَانَ مَكْرُوهُ النُّفُوسِ إلى ... مَحْبوبِهَا سَبَبَاً مَا مِثْلُه سَبَبُ
فكان يَدْخُلُ على تلك الشروط دخولَ واثِق بنصر الله له وتأييده، وأن العاقِبةَ له، وأن تلك الشروطَ واحتمالها هو عَيْنُ النصرة، وهو مِن أكبر الجند الذى أقامه المشترطون، ونصبُوه لحربهم، وهم لا يشعرون، فذلُّوا مِن حيث طلبوا العز، وقُهِرُوا من حيثُ أظهروا القدرة والفخر والغلبة، وعزَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعساكِرُ الإسلام من حيث انكسروا لله، واحتملُوا الضَّيْم له وفيهِ، فدار الدَّورُ، وانعكس الأمرُ، وانقلب العِّزُّ بالباطل ذُلاً بحقٍ، وانقلبت الكَسرة لله عزاً باللهِ، وظهرت حِكمة اللهِ وآياتُه، وتصديقُ وعده، ونصرةُ رسوله على أتمِّ الوجوهِ وأكملِها التى لا اقتراح للعقول وراءها.
ومنها: ما سبَّبه سبحانه للمؤمنين من زيادة الإيمان والإذعانِ، والانقيادِ على ما أحبُّوا وكرهوا، وما حصل لهم فى ذلك من الرضى بقضاء الله، وتصديقِ موعوده، وانتظارِ ما وُعِدُوا به، وشهودِ مِنَّة الله ونِعْمتهِ عليهم بالسَّكِينةِ التى أنزلها فى قُلوبهم، أحوج ما كانوا إليها فى تلك الحال التى تَزَعْزَعُ لها الجبالُ، فأنزل الله عليهم من سكينته ما اطمأنت به قلوبُهم، وقويت به نفُوسُهم، وازدادوا به إيماناً.
ومنها: أنه سبحانه جعل هذا الحكم الذى حكم به لِرسوله وللمؤمنين سبباً لما ذكره مِن المغفرة لرسوله ما تقدَّم مِن ذنبه وما تأخَّر، ولإتمام نِعمتهِ عليه،ولهدايته الصِّراطَ المستقيم، ونصره النصر العزيز، ورضاه به، ودخوله تحته، وانشراح صدره به مع ما فيهِ من الضيم، وإعطاءِ ما سألوه، كان من الأسباب التى نال بها الرسولُ وأصحابُه ذلك، ولهذا ذكره الله سبحانه جَزَاءً وغاية، وإنما يكون ذلك على فِعل قام بالرسول والمؤمنين عند حكمه تعالى، وفتحه.
وتأمل كيف وصفَ سبحانه النصرَ بأنه عزيزٌ فى هذا الموطن، ثم ذكر إنزالَ السكينة فى قلوبِ المؤمنين فى هذا الموطنِ الذى اضطربت فيهِ القلوبُ، وقَلِقَتْ أشدَّ القلق، فهى أحوجُ ما كانت إلى السكينةِ، فازدادوا بها إيماناً إلى إيمانهم، ثم ذكر سُبحانه بَيْعتَهم لِرسوله، وأكَّدها بكونها بَيْعةً له سبحانه، وأن يَده تعالى كانت فوقَ أيديهم إذ كانت يدُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذلك، وهو رسولُه ونبيُّه، فالعقدُ معه عقدٌ مع مُرْسِلِهِ، وبَيْعته بيعته، فمن بايعه، فكأنما بايع الله، ويدُ الله فوقَ يده، وإذا كان الحجرُ الأسودُ يمينَ الله فى الأرض، فمَن صافحه وقبَّله، فكأنما صافح الله، وقبَّل
يمينه، فيدُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى بهذا مِن الحَجَر الأسود، ثم أخبر أن ناكِثَ هذه البيعة إنما يعود نكثُه على نفسه، وأن للمُوَفِّى بها أجراً عظيماً فَكُلُّ مؤمن فقد بايع الله على لسان رسوله بَيْعة على الإسلام وحقوقه، فناكِث ومُوفٍ.
ثم ذكرَ حالَ مَن تخلَّفَ عنه من الأعراب، وظنهم أسوأ الظَّنِّ باللهِ: أنَّهُ يخذُل رسولَه وأولياءَه، وجندَه، ويُظْفِرُ بهم عدوَّهم، فلن ينقلبوا إلى أهليهم، وذلك مِن جهلهم بالله وأسمائِهِ وصِفاتِه، وما يليق به، وجهلهم برسوله وما هُوَ أهل أن يُعامِلَه به ربُّه ومولاه.
ثم أخبر سبحانه عن رضاه عن المؤمنين بدخولهم تحت البَيْعة لرسوله، وأنه سبحانه علم ما فى قلوبهم حينئذ مِن الصِّدق والوفاء، وكمال الانقياد، والطاعة، وإيثار الله ورسولِهِ على ما سواهُ، فأنزل الله السكينةَ والطُّمَأْنِينة، والرِّضى فى قلوبهم، وأثابهم على الرِّضى بحُكمه، والصبرِ لأمره فتحاً قريباً، ومغانِمَ كثيرة يأخذونها، وكان أوَّلُ الفتح والمغانم فتحَ خَيْبَرَ، ومغانمها، ثم استمرت الفتوحُ والمغانمُ إلى انقضاء الدهر.
ووعدهم سبحانه مغانِمَ كثيرة يأخذونها، وأخبرهم أنه عجَّل لهم هذه الغنيمة، وفيها قولان. أحدهما: أنه الصلحُ الذى جرى بينهم وبين عدوهم، والثانى: أنها فتحُ خيبر وغنائمُها، ثم قال: {وَكَفَّ أَيْدِىَ
النَّاسِ عَنكُمْ}[الفتح: 20]، فقيل: أيدى أهلِ مكة أن يقاتلوهم، وقيل: أيدى اليهود حين همُّوا بأن يغتالُوا مَنْ بالمدينة بعد خروج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن معه من الصحابة منها، وقيل: هم أهل خيبر وحلفاؤهم الذين أرادوا نصرهم من أسَد وغطفان. والصحيح تناول الآية للجميع.
وقوله: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}[الفتح: 20]. قيل: هذه الفعلة التى فعلها بكم، وهى كفُّ أيدى أعدائكم عنكم مع كثرتهم، فإنَّهُم حينئذٍ كان أهل مكة ومَن حولها، وأهلُ خيبر ومَنْ حولها، وأسَدٌ وغَطَفَان، وجمهورُ قبائل العرب أعداء لهم، وهم بينَهم كالشَّامَةِ، فلم يَصِلُوا إليهم بسوء، فمِن آياتِ الله سبحانه كفُّ أيدى أعدائهم عنهم، فلم يصلوا إليهم بسوء مع كثرتهم، وشدةِ عداوتهم، وتولى حراستهم، وحفظهم فى مشهدهم ومغيبِهم.
وقيل: هى فتح خيبر، جعلها آية لعباده المؤمنين، وعلامة على ما بعدها من الفتوح، فإن اللهَ سبحانه وعدهم مغانِم كثيرة، وفتوحاً عظيمة، فعجَّل لهم فتحَ خيبر، وجعلها آية لما بعدها، وجزاءاً لِِصبرهم ورضَاهم يومَ الحديبية وشكراناً، ولهذا خصَّ بها وبغنائمها مَنْ شهد الحديبية. ثم قال: {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيمَاً}[الفتح: 20]، فجمع لهم إلى النصرِ والظَّفَرِ والغنائم الهداية، فجعلهم مهديِّين منصُورين غانمين، ثم وعدهم مغانِمَ كثيرة وفُتوحاً أُخرى، لم يكونوا ذلك الوقت قادرين عليها، فقيل: هى مكَّةُ، وقيل: هى فارِس والروم، وقيل: الفتوحُ التى بعد خيبر من مشارق الأرض ومغاربها. ثم أخبر سبحانه أن الكفار لو قاتلوا أولياءَه، لولَّى الكفارُ الأدبارَ غيرَ منصورين، وأن هذه
سُنَّته فى عباده قبلَهم، ولا تبديلَ لسُنَّته.
فإن قيل: فقد قاتلُوهم يوم أُحُد، وانتصروا عليهم، ولم يولُّوا الأدبار ؟
قيل: هذا وعد معلَّق بشرطٍ مذكور فى غير هذا الموضع، وهو الصبر والتقوى، وفات هذا الشرط يومَ أُحُد بِفَشَلِهم المنافى للصبر، وتنازعهم، وعصيانهم المنافى للتقوى، فصرفهم عن عدوهم، ولم يحصُل الوعدُ لانتفاء شرطه.
ثم ذكر سبحانه أنه هو الذى كفَّ أيدى بعضِهم عن بعض من بعد أن أظفر المؤمنين بهم، لما لَه فى ذلك من الحِكم البالغة التى منها: أنه كان فيهم رجالٌ ونساء قد آمنوا، وهم يكتُمون إيمانَهم، لم يعلمْ بهم المسلمون، فلو سلَّطكم عليهم، لأصبتم أُولئك بمعرَّة الجيش، وكان يُصيبكم منهم معرَّةُ العُدوان والإيقاع بمن لا يستحق الإيقاع به، وذكر سبحانه حصول المعرَّةِ بهم من هؤلاء المستضعفين المستخفِّين بهم، لأنها موجبُ المعرَّة الواقعة منهم بهم، وأخبر سبحانه أنهم لو زايلوهم وتميَّزوا منهم، لعذَّب أعداءه عذاباً أليماً فى الدنيا، إما بالقتلِ والأسر، وإما بغيره، ولكن دفع عنهم هذا العذَابَ لوجود هؤلاء المؤمنين بَيْنَ أظهرهم، كما كان يدفعُ عنهم عذابَ الاستئصال، ورسولُه بين أظهرهم.
ثم أخبر سبحانه عما جعله الكفارُ فى قلوبهم مِن حَمِية الجاهليةِ التى مصدرها الجهلُ والظُّلم، التى لأجلها صدُّوا رسولَه وعِبادَه عن بيته، ولم يُقِرُّوا ببسم الله الرحمن الرحيم، ولم يُقِرُّوا لمحمد بأنه رسول الله مع تحققهم صدقه، وتيقنِهم صحةَ رسالته بالبراهين التى شاهدوها وسمعوا بها فى مدة عشرين سنة، وأضاف هذَا الجَعْلَ إليهم وإن كان بقضائه وقدره، كما يُضاف إليهم سائرُ أفعالهم التى هى بقُدرتهم وإرادتهم.
ثم أخبر سبحانه أنه أنزل فى قلبِ رسوله وأوليائه مِن السكينة ما هو مقابل
لما فى قلوب أعدائه مِن حَمِيَّة الجاهلية، فكانت السكينةُ حظَّ رسوله وحِزبه، وحَميةُ الجاهلية حظَّ المشركين وجندهم، ثم ألزم عِبادَه المؤمنين كلمة التقوى، وهى جِنس يَعُمُّ كُلَّ كلمةٍ يُتقى الله بها، وأعلى نوعِها كلمةُ الإخلاص، وقد فُسِّرَتْ ببسم الله الرحمن الرحيم، وهى الكلمةُ التى أبت قريش أن تلتزِمها، فألزمها اللهُ أولياءَهُ وحزبه، وإنما حَرَمَهَا أعداءَهُ صيانة لها عن غير كفئها، وألزمها مَن هو أحقُّ بهَا وأهلها، فوضعها فى موضعها، ولم يُضيعها بوضعها فى غير أهلها، وهو العليم بمحالِّ تخصيصه ومواضعه.
ثم أخبر سبحانه أنه صدَقَ رسُولَه رؤياه فى دخولهم المسجدَ آمنين، وأنه سيكون ولا بُدَّ، ولكن لم يكن قد آن وقت ذلك فى هذا العامِ، واللهُ سبحانه عَلِمَ مِن مصلحة تأخيره إلى وقته ما لم تعلموا أنتم، فأنتم أحببتُم استعجالَ ذلك، والربُّ تعالى يعلم من مصلحة التأخير وحكمته ما لم تعلمُوه، فقدَّم بين يدى ذلك فتحاً قريباً، توطئة له وتمهيداً.
ثم أخبرهم بأنه هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودينِ الحقِّ لِيُظهره على الدِّين كُلِّه، فقد تكفَّل الله لهذا الأمر بالتمام والإظهار على جميع أديان أهلِ الأرض، ففى هذا تقوية لقلوبهم، وبِشارة لهم وتثبيتٌ، وأن يكونوا على ثقة مِن هذا الوعد الذى لا بُدَّ أن ينجزه، فلا تظنُّوا أن ما وقع من الإغماض والقهرِ يومَ الحُديبية نُصرة لعدوه، ولا تخلياً عن رسوله ودينه، كيف وقد أرسله بدينه الحقِّ، ووعده أن يُظهِرَه على كل دِينٍ سواه.
ثم ذكر سبحانه رسولَه وحزبَه الذين اختارهم له، ومدحهم بأحسن المدح، وذكر صفاتِهم فى التوراة والإنجيل، فكان فى هذا أعظمُ البراهين على صدق مَن جاء بالتوراة والإنجيل والقرآن، وأن هؤلاء هم المذكورون
فى الكتب المتقدمة بهذه الصفات المشهورة فيهم، لا كما يقول الكفار عنهم: إنهم متغلِّبون طالبُو ملك ودنيا، ولهذا لما رآهم نصارى الشام، وشاهدوا هَدْيَهم وسيرتَهم، وعدلهم وعلمهم، ورحمَتهم وزهدَهم فى الدنيا، ورغبتهم فى الآخرة، قالوا: ما الذين صَحِبُوا المسيحَ بأفضلَ مِن هؤلاء، وكان هؤلاء النصارى أعرفَ بالصحابة وفضلهم من الرافضة أعدائهم، والرافضةُ تصفِهُم بضد ما وصفهم الله به فى هذه الآية وغيرها،{ومَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً}[الكهف: 17].
فصل: فى غزوة خيبر
قال موسى بنُ عقبة: ولما قدِمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينةَ مِن الحُديبية، مَكَثَ بها عشرين ليلةً أو قريباً منها، ثم خرج غازياً إلى خيبر، وكان اللهُ عزَّ وجلَّ وعده إياها، وهو بالحُديبية.
وقال مالك: كان فتحُ خيبرَ فى السنة السادسة، والجمهور: على أنها فى السابعة. وقطع أبو محمد بنُ حزم: بأنها كانت فى السادسةِ بلا شك، ولعل الخلافَ مبنىٌ على أوَّلِ التاريخ، هل هو شهر ربيع الأول شهرُ مَقدَمِه المدينة، أو مِن المحرَّم فى أوَّل السنة ؟ وللناس فى هذا طريقانِ: فالجمهورُ على أن التاريخَ وقع مِن المحرَّم، وأبو محمد بن حزم: يرى أنه مِن شهر ربيع الأول حين قَدِمَ، وكان أوَّلَ مَن أرَّخ بالهجرة يَعلى بن أُمية باليمن، كما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح، وقيل:
عمرُ بن الخطاب رضى الله عنه، سنةَ ست عشرة مِن الهجرة.
وقال ابنُ إسحاق: حدثنى الزُّهرى، عن عُروة، عن مروانَ بن الحكم، والمِسور بنِ مَخْرَمَة، أنهما حدَّثاه جميعاً، قالا: انصرفَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامَ الحُديبية، فنزلت عليه سورةُ الفتح فيما بينَ مكة والمدينة، فأعطاه اللهُ عزَّ وجلَّ فيها خيبرَ: {وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تأخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ}[الفتح: 20]: خيبر، فقدِم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينةَ فى ذى الحجة، فأقام بها حتى سار إلى خيبر فى المحرَّم، فنزلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرَّجيعِ: وادٍ بين خيبرَ وغَطَفَان، فتخوَّف أن تمدهم غَطَفَانُ، فبات به حتَّى أصبح، فغدا إليهم... انتهى.واستخلف على المدينة سِباعَ بنَ عُرْفُطَةَ، وقَدِمَ أبو هريرة حينئذ المدينة، فوافى سِباعَ بنَ عُرفُطة فى صلاة الصُّبح، فسمِعه يقرأ فى الركعة الأولى : {كهيعص}[مريم: 1] ، وفى الثانية: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}[المطففين: 1]، فقال فى نفسه: ويل لأبى فلان، له مِكيالان، إذا اكتال اكتالَ بالوافى، وإذا كال كال بالناقِص، فلما فرغ من صلاته، أتى سباعاً، فزوَّده حتى قَدِمَ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلَّم المسلمينَ، فأشْركُوه وأصحابه فى سُهمانهم.
وقال سلمةُ بنُ الأكوع: "خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خيبر، فسِرْنا ليلاً، فقال رجلٌ مِن القَومِ لعامر بنِ الأكوع: ألا تُسمِعُنَا مِن هُنَيْهَاتِك، وكان عامر رجلاً شاعراً ؟ فنزل يحدُو بالقوم يقول:
اللًَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا
فاغْفِر فِدَاءً لَكَ ما اقْتَفَيْنَا ... وَثَبِّتِ الأقْدَامَ إنْ لاَقَيْنَا
وَأَنْزِلَنْ سَكِينةً عَلَيْنا ... إنَّا إذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا
وبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا ... وإنْ أرَادُوا فتْنَةً أَبَيْنا
فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ هَذَا السّائِقُ" ؟ قالوا: عامر. فقال: "رَحِمَهُ اللهُ"، فقال رجلٌ مِن القوم: وجبت يا رسولَ اللهِ لولا أمتعتَنَا به. قال: فأتينا خيبر، فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصةٌ شديدة، ثم إنَّ الله تعالى فتح عليهم، فلما أَمْسَوْا، أوقدوا نيراناً كثيرة، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا هَذِهِ النِّيرانُ، عَلَى أَىِّ شَىءٍ تُوقِدُونَ" ؟ قالوا: على لحم. قال: "عَلَى أَىِّ لَحْمٍ" ؟ قالوا: على لحم حُمُر أنسية. فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أهْريقُوها واكْسِرُوها"، فقال رجل: يا رسول الله؛ أو نُهْرِيقُها ونغسِلُها ؟ فقال: "أو ذَاكَ"، فلما تصافّ القومُ، خرج مَرْحَب يخطُر بسيفه وهو يقول:
قَد عَلِمَتْ خَيْبَرُ أنى مَرْحَبُ ... شَاكى السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إذا الحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ
فنزل إليه عامر وهو يقول:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّى عَامِرُ ... شاكِى السِّلاح بَطَلٌ مُغامِرُ
فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مَرْحَب فى ترس عامر، فذهب عامر يَسْفُلُ له، وكان سيفُ عامر فيه قِصر، فرجع عليه ذُباب سيفه، فأصابَ عينَ ركبته، فمات منه، فقال سلمة للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زعمُوا أن عامراً حَبِطَ عملُه، فقال: "كَذَبَ مَنْ قَالَهُ، إنَّ لَهُ أَجْرَيْنِ وجمع بين أصبعيه إنه
لَجَاهِدٌ مُجاهِدٌ، قلَّ عربىٌ مشى بها مِثْلَه".
فصل
ولما قَدمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر، صلَّى بها الصُّبحَ، وركب المسلمون، فخرج أهلُ خيبر بمساحِيهم ومكاتِلهم، ولا يَشْعُرونَ، بل خرجُوا لأرضهم، فلما رأوا الجيش، قالوا: محمَّدٌ واللهِ، محمَّدٌ والخميسُ، ثم رجعوا هاربين إلى حصونهم، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْم، فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِين".
ولما دنا النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأشرف عليها، قال: "قفوا" فوقف الجيشُ، فقال: "اللهُمَّ رَبَّ السَّمواتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ، ورَبَّ الأَرَضينَ السَّبْعِ ومَا أَقْلَلْنَ، وربَّ الشَّيَاطِين وَمَا أَضْلَلْنَ، فإنَّا نَسْألُكَ خَيْرَ هذِهِ القرْيَةِ
وخَيْرَ أَهْلِها وَخَيْرَ مَا فِيهَا، ونَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هذِهِ القَرْيَةِ وشَرِّ أَهْلِهَا وشَرِّ مَا فيها، أقْدِمُوا بِسْم اللهِ".
ولما كانت ليلة الدخول، قال: "لأُعْطِيَنَّ هذِهِ الرَّايَةَ غَدَاً رَجُلاً يُحبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، ويُحِبُّهُ اللهُ ورَسُولُهُ، يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ" ، فبات الناسُ يدوكون أيهُّم يُعطاها، فلما أصبح الناسُ، غَدَوْا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهم يَرْجُو أن يُعطاها، فقال: "أَيْنَ عَلِىُّ بْنُ أبى طَالب" ؟ فقالُوا: يا رسُولَ الله؛ هو يَشتكى عينيه. قال: "فأرْسِلُوا إلَيْهِ"، فأُتى به، فبصق رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى عينيه، ودعا لهُ، فَبَرَأ حتَّى كأنْ لم يَكُنْ به وَجَعٌ، فأعطاهُ الرايَةَ، فقال: يا رسولَ اللهِ؛ أُقاتِلهم حتى يكُونوا مثلنا ؟ قال: "انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهم، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلامِ، وأَخْبِرْهُم بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ فيهِ، فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِىَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ ".
فخرج مَرْحَبٌ وهو يقول:
أنَا الَّذى سَمَّتْنى أُمِّى مَرْحَبُ ... شَاكِى السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إذا الحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ
فبرز إليه علىٌ وهو يقول:
أَنَا الَّذِى سَمَّتْنى أُمِّى حَيْدَرَهْ ... كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ المَنْظَرَهْ
أوفيهمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ
فضرب مَرْحَباً، ففلَق هامتَه، وكان الفتح.
ولما دنا علىُّ رضىَ الله عنه من حُصونهم، اطلع يهودىٌ مِن رأس الحصن، فقال: مَنْ أنت ؟ فقال: أنا علىُّ بنُ أبى طالب. فقال اليهودى: علوتُم وما أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى.
هكذا فى "صحيح مسلم": أن علىَّ بن أبى طالب رضى الله عنه هو الذى قتل مَرْحَبَا.
وقال موسى بن عُقبة، عن الزهرى وأبى الأسود، عن عروة ويونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدَّثنى عبد الله بن سهل أحد بنى حارثة عن جابر بن عبد الله، أن محمَّد بن مسلمة هو الذى قتله، قال جابر فى حديثه: خرج مَرْحبُ اليهودىُّ مِن حصن خيبر قد جمع سِلاحه، وهو يرتجزُ ويقول: مَن يُبارِزُ ؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لِهذَا" ؟ فقال
محمَّدُ بنُ مسلمة: أنا له يا رسولَ الله، أنا واللهِ المَوْتُورُ الثائرُ، قتلوا أخى بالأمسِ، يعنى محمودَ بن مسلمة، وكان قُتِل بخيبر، فقال: "قُمْ إلَيْهِ، اللهُمَّ أَعِنْهُ عَلَيْهِ"، فلما دنا أحدُهما مِن صاحبه، دخلَتْ بينهما شجرةٌ، فجعل كُلُّ واحد منهما يلوذُ بها من صاحبه، كلما لاذ بها منه اقتطع صاحبه بسيفه ما دونه منها، حتى برز كُلُّ واحد منهما لصاحبه، وصارت بينهما كالرجُل القائم، ما فيها فَنَن، ثُمَّ حملَ على محمد فضربه، فاتقاه بالدَّرقة، فوقع سيفُه فيها، فعضَّتْ به، فَأَمْسَكَتْهُ، وضربه محمَّدُ بن مسلمة فقتله، وكذلك قال سلمة بن سلاَّمة، ومجمع بن حارثة: إن محمد بن مسلمة قتل مرحباَ.
قال الواقدى: وقيل: إن محمَّد بن مسلمة ضرب ساقى مَرْحب فقطعهما، فقال مرحب: أَجْهِز علىَّ يا محمد. فقال محمد: ذُقِ الموت كما ذاقه أخى محمود، وجاوزه، ومرَّ به علىُّ رضى الله عنه، فضرب عُنقه، وأخذ سلَبه، فاختصما إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سَلَبِهِ، فقال محمَّدُ بن مسلمة: يا رسولَ الله؛ ما قطعتُ رجليه ثم تركتُه إلا لِيذوقَ الموتَ، وكنت قادراً أن أُجْهِزَ عليه. فقال علىُّ رضى الله عنه: صَدَقَ، ضربتُ عنقه بعد أن قطع رجليه، فأعطى رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محمَّد بن مسلمة سيفَه ورمحه، ومِغفره وبَيْضَته، وكان عند آلِ محمد بن مسلمة سيفُه فيه كتاب لا يُدرى ما فيه، حتى قرأه يهودى، فإذا فيه:
هذَا سَيْفُ مَرْحَبْ ... مَنْ يَذُقْهُ يَعْطَبْ
ثم خرج[ بعد مرحب أخوه ] ياسر، فبرز إليه الزبير، فقالت صفيَّةُ
أُمه: يا رسولَ اللهِ؛ يقتلُ ابنى ؟ قال: "بَلْ ابنُكِ يَقْتُلُهُ إنْ شَاءَ الله"، فقتله الزبير.
قال موسى بن عقبة: ثم دخل اليهودُ حِصناً لهم منيعاً يقال له: القَمُوص، فحاصرهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريباً مِن عشرينَ ليلة، وكانت أرضاً وَخْمَةً شَدِيدَةَ الحرِّ، فجُهِدَ المسلمون جَهْدَاً شديداً، فذبحوا الحُمُرَ فنهاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكلها، وجاء عبدٌ أسود حبشى من أهل خيبر، كان فى غنم لسيده، فلما رأى أهلَ خيبر قد أخذوا السلاح، سألهم ما تُريدون ؟ قالوا: نُقاتل هذا الذى يزعم أنه نبىٌ، فوقع فى نفسه ذكر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأقبل بغنمه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ماذا تقول وما تدعو إليه ؟ قال: "أَدْعُو إلى الإسْلام، وأَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إلهَ إلا الله، وأنِّى رَسُولُ الله، وأَنْ لا تَعْبُدَ إلا الله". قال العبدُ: فمالى إن شهدتُ وآمنتُ باللهِ عَزَّ وجَلَّ ؟ قال: "لَكَ الجَنَّةُ إنْ مِتَّ على ذلكَ"، فأسلم، ثم قال: يا نبىَّ اللهِ؛ إن هذه الغنم عندى أمانة، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أخْرِجْها مِنْ عِنْدِكَ وارْمِها بالحَصْباءِ، فإنَّ اللهَ سَيُؤَدِّى عَنْكَ أَمَانَتَكَ"، ففعل، فرجعت الغنم إلى سيِّدها، فعلم اليهودى أن غلامه قد أسلم، فقام رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الناس، فوَعَظهم، وحضَّهم على الجهاد، فلما التقى المسلمون واليهودُ، قُتِلَ فيمن قُتِلَ العبدُ الأسود، فاحتمله المسلمون إلى معسكرهم، فأُدخل فى الفُسْطَاطِ، فزعموا أن رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطلع فى الفُسطاط، ثم أقبل على أصحابه وقال: "لَقَدْ أَكْرَمَ اللهُ هذا العَبْدَ، وسَاقَهُ إلى خَيْرٍ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ عِنْدَ رَأْسِهِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الحُور العين، وَلَمْ يُصَلِّ للهِ سَجْدَةً قَطُّ".
قال حمَّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: أتى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلٌ فقال: يا رسولَ اللهِ؛ إنى رجل أسودُ اللَّون، قبيحُ الوجه، مُنْتِنُ الرِّيح،
لا مالَ لى، فإن قاتلتُ هؤلاء حتى أُقْتَلَ، أأدخلُ الجنَّة ؟ قال: "نعم"، فتقدَّم، فقاتلَ حتَّى قُتِلَ، فأتى عليه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مقتول، فقال: "لَقَدْ أَحْسَنَ اللهُ وَجْهَكَ، وَطَيَّبَ رِيحَكَ، وَكَثَّرَ مَالَكَ"، ثم قال: "لَقَدْ رَأَيْتُ زَوْجَتَيْهِ مِنَ الحُورِ العينِ يَنْزِعَان جُبَّتَهُ عَنْهُ، يدْخُلانِ فِيما بَيْنَ جِلْدِهِ وجُبَّته".
وقال شدَّادُ بنُ الهاد: جاء رجل من الأعرابِ إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فآمنَ به واتَّبعه، فقَالَ: أُهاجِرُ معكَ، فأوصى به بعضَ أصحابه، فلما كانت غزوةُ خيبر، غَنِمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً، فقسمه، وقسم للأعرابى، فأعطى أصحابه ما قسمه له، وكان يَرعى ظهرَهم، فلما جاء، دفعُوهُ إليه، فقال: ما هذا ؟ قالوا: قَسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخذهُ، فجاء به إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ما هَذَا يا رسول اللهِ ؟ قال: "قَسْمٌ قَسَمْتُهُ لَكَ"، قال: ما على هذا اتبعتُك، ولكن اتبعتُك على أن أُرمى هاهنا وأشار إلى حَلْقِه بسهم، فأموتَ فأدخل الجنَّة، فقال: "إنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ"، ثم نهض إلى قتال العدو، فأُتِى به إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مقتول، فقال: "أهو هو" ؟ قالوا: نعم. قال: "صَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ"، فكفَّنه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى جبته، ثم قدَّمه، فصلَّى عليه، وكان مِن دعائه له: "اللهُمَّ هذا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهاجِراً فى سَبِيلِكَ، قُتِلَ شَهِيداً، وأَنَا عَلَيْهِ شَهِيدٌ".
قال الواقدى: وتحوَّلت اليهود إلى قلعة الزبير: حصنٍ منيع فى رأس قُلّةٍ، فأقام رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثةَ أيام، فجاء رجل من اليهود يقال له "عزال" فقال: يا أبا القاسم؛ إنك لو أقمتَ شهراً ما بَالوا، إن لهم شراباً وعُيوناً،
تحتَ الأرض، يخرجُون بالليل، فيشربُون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم، فيمتنعُون منك، فإن قطعْت مشربَهم عليهم أصحَرُوا لك، فسار رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مائهم، فقطعه عليهم، فلما قُطِع عليهم،خرجوا، فقاتلُوا أشد القتال، وقُتِلَ مِن المسلمين نَفَرٌ، وأُصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم تحوَّل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهل الكُتَيْبَةِ والوَطِيح والسُّلالِم حصنِ ابن أبى الحُقيق، فتحصَّن أهلُه أشد التحصن، وجاءهم كُل فَلٍّ كان انهزم مِن النَّطاة والشَّق، فإن خيبر كانت جانبين: الأول:الشَّق والنَّطاة، وهو الذى افتتحه أولاً، والجانب الثانى: الكُتيبة والوطيح والسُّلالم، فجعلوا لا يخرجُون مِن حُصونهم حتى همَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينصبَ عليهم المَنجنيق، فلما أيقنُوا بالهَلَكَةِ، وقد حصرهم رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعةَ عشر يوماً، سألُوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّلْحَ، وأرسل ابنُ أبى الحُقيق إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنْزِلُ فَأُكَلِّمك ؟ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نعم"، فنزل ابنُ أبى الحُقيق، فصالَحَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حقن دِماء مَنْ فى حُصونهم من المقاتلة وتركِ الذُّرِّيَّة لهم، ويخرجُون من خيبر وأرضِها بذراريهم، ويُخلُّون بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبينَ ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء، والكُراع والحلقة إلا ثوباً على ظهر إنسان، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَبَرِئَتْ مِنْكُم ذَِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ إنْ كَتَمْتُمونى شَيْئاً" ، فصالحوه على ذلك.
قال حمَّادُ بن سلمة: أنبأنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلبَ على الزرعِ والنخل والأرض، فصالحُوه على أن يُجلوا منها، ولهم ما حملت ركابُهم ولِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصفراءُ والبيضاءُ، واشترط عليهم
أن لا يكتموا ولا يُغَيِّبُوا شيئاً، فإن فعلُوا فلا ذِمَّةَ لهم ولا عهد، فغيَّبوا مَسْكاً فيه مال وحُلى لحُيَىّ بن أَخْطَب، كان احتمله معه إلى خيبر حين أُجليت النضيرُ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعم حُيى ابن أخطب: "ما فَعَلَ مَسْكُ حُيَىّ الذى جَاءَ بِهِ مِنَ النَّضِير" ؟. قال: أذهبته النفقاتُ والحروب، فقال: "العَهْدُ قَريبٌ، والمَالُ أكْثَرُ مِنْ ذلِكَ"، فدفعه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الزُّبير، فمسَّه بعذاب، وقد كان قبل ذلك دخل خربة فقال: "قَدْ رأيْتُ حُيَيّاً، يَطُوفُ فى خربة هاهنا"، فذهبوا، فطافوا، فوجدوا المَسْكَ فى الخربة، فقتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنى أبى الحُقيق، وأحدُهما زوج صفية بنت حُيَىّ بن أخطب، وسبى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نساءهم وذراريهم، وقسم أموالَهم بالنَّكْثِ الذى نَكَثُوا، وأراد أن يُجليهم منها، فقالوا: يا محمد؛ دعنا نكُون فى هذه الأرض نُصلِحُها ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم، ولم يكن لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغُون يقومون عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطرَ مِن كل زَرعٍ وكل ثمرٍ ما بدا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقرهم. وكان عبد الله بن رواحة يخرصُه عليهم كما تقدم. ولم يقتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الصلح إلا ابنى أبى الحُقيق للنكث الذى نكثوا، فإنهم شرطوا إن غيَّبوا، أو كتموا، فقد برئت منهم ذِمَّة الله وذِمَّة رسوله، فغيَّبوا، فقال لهم: "أين المال الذى خرجتم به من المدينة حين أجليناكم" ؟ قالوا:ذهب فحلفوا على ذلك، فاعترف ابن عم كنانه عليهما بالمال حين دفعه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الزبير يعذبه، فدفع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنانه إلى محمد بن مسلمة فقتله
ويقال: إن كنانه هو كان قتل أخاه محمود بن مسلمه.
وسبى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفيه بنت حيي بن أخطب وابتة عمتها، وكانت صفية تحت كنانه لن أبى الحقيق، وكانت عروساً حديثة عهد بالدخول، فأمر بلالاً أن يذهب بها إلى رحله، فمر بها بلال وسط القتلى، فكره ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: أذهبت الرحمة منك يا بلال.
وعرض عليها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإسلام، فأسلمت، فاصطفاها لنفسه، وأعتقها، وجعل عِتْقَهَا صَدَاقها، وبنى بها فى الطريق، وأولم عليها، ورأى بوجهها خُضرةً، فقال: "ما هذا" ؟ قالت: يا رسولَ اللهِ؛ رأيتُ قبل قدومك علينا، كأن القَمرَ زال من مكانه، فسقط فى حَجرى، ولا واللهِ ما أذكرُ مِن شأنك شيئاً، فقصصتها على زوجى، فلطم وجهى، وقال: تمنين هذَا المَلِكَ الذى بالمدينة.
وشك الصحابة: هل اتخذها سُرِّيَّة أو زوجة ؟ فقالوا: انظروا إن حجبها، فهى إحدى نِسائه، وإلا فهى مما ملكتْ يمينُه، فلما رَكِب، جعل ثَوبه الذى ارتدى به على ظهرها ووجهها، ثم شدَّ طرفه تحته، فتأخَّرُوا عنه فى المسير، وعَلِمُوا أنها إحدى نسائه، ولما قدم لِيحملها على الرَحْل أجلَّته أن تضع قدمها على فخذه، فوضعت ركبتها على فخذه ثم ركبت.
ولما بنى بها، بات أبو أيوب ليلَته قائماً قريباً من قُبته، آخذاً بقائم السيف حتى أصبح، فلما رأى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كبَّرَ أبو أيوب حين رآه قد خرج، فسأله رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مالك يا أبا أيوب" ؟ فقال له: أَرِقْتُ ليلتى هذِهِ يا رسولَ اللهِ لما دخلتَ بهذه المرأة، ذكرتُ أنك قتلتَ أباها وأخاها، وزوجَها وعامةَ عشيرتها، فخِفْتُ أن تغتالك. فضحِكَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال له معروفاً.
فصل
وقسم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبرَ على ستة وثلاثين سهماً، جمع كُلُّ سهم مائةَ سهمٍ، فكانت ثلاثةَ آلافٍ وستَّمائة سَهْمٍ، فكان لِرسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللمسلمين النصفُ مِن ذلك، وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سهمٌ كسهمِ أحدِ المسلمين، وعَزَلَ النِّصفَ الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهمٍ لنوائبه وما ينزلُ به من أُمور المسلمين، قال البيهقى: وهذا لأن خيبر فُتحَ شَطْرُهَا عَنْوَةً، وشطرُها صُلحاً، فقسم ما فتح عَنوةً بين أهلِ الخمس والغانمين، وعزل ما فتح صلحاً لِنوائبه وما يحتاجُ إليه من أُمور المسلمين.
قلت: وهذا بناء منه على أصل الشافعى رحمه الله، أنه يجب قسم الأرض المفتتحةِ عَنوة كما تُقسم سائرُ المغانم، فلما لم يجده قسم النصفَ مِن خيبر، قال: إنه فُتِح صلحاً. ومَن تأمّل السيرَ والمغازىَ حقَّ التأمل،
تبيَّن له أن خيبر إنما فُتحت عَنوة، وأن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استولى على أرضها كُلِّهَا بالسيفِ عَنوة، ولو فُتِح شئ منها صُلحاً، لَم يُجلهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها، فإنه لما عزم على إخراجهم منها، قالوا: نحن أعلمُ بالأرض منكم، دعونا نكون فيها، ونعمرها لكم بشرط ما يخرج منها، وهذا صريح جدا في أنها إنما فتحت عنوة، وقد حصل بين اليهود والمسلمين بها من الحراب والمبارزة والقتل من الفريقين ما هو معلوم، ولكن لما أُلجئُوا إلى حصنهم نزلوا على الصلح الذي بذلوه، أن لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصفراء والبيضاء، والحَلْقَةَ والسلاح، ولهم رقابهم وذريتهم، ويجلوا من الأرض، فهذا كان الصلح، ولم يقع بينهم صلح أن شيئاً من أرض خيبر لليهود، ولا جرى ذلك البتة، ولو كان كذلك، لم يقل: نقركم ما شئنا، فكيف يقرهم في أرضهم ما شاء؟ ولم كان عمر أجلاهم كُلَّهم مِن الأرضِ، ولم يُصالحهم أيضاً على أن الأرضَ للمسلمين، وعليها خراجٌ يؤخذ منهم، هذا لم يقع، فإنه لم يضرب على خيبر خراجاً البتة.
فالصوابُ الذى لا شكَّ فيه: أنها فُتِحت عَنوة، والإمام مُخيَّر فى أرض العَنوة بين قَسْمها ووقفها، أو قَسْمِ بعضها ووقفِ البعض، وقد فعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنواع الثلاثة، فقسم قُريظة والنضير، ولم يَقْسِمْ مكة، وقسم شَطْرَ خيبر، وترك شطرها، وقد تقدَّم تقريرُ كون مكة فُتِحت عَنوة بما لا مدفع له.
وإنما قُسِمَتْ على ألف وثمانمائة سهم، لأنها كانت طُعمة مِن الله لأهل الحُديبية مَن شهد منهم، ومَن غاب، وكانوا ألفاً وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمانِ، فَقُسِمَتْ على ألف وثمانمائة سهم، ولم يغب عن خيبرمن أهل الحُديبية إلا جابر بن عبد الله، فقسم له رسولُ
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كسهم مَنْ حضرها.
وقسم للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهماً، وكانوا ألفاً وأربعمائة وفيهم مائتا فارس، هذا هو الصحيحُ الذى لا ريبَ فيه.
وروى عبد الله العمرى، عن نافع، عن ابن عمر، أنه أعطى الفارس سهمين والراجلَ سهماً.
قال الشافعى رحمه الله: كأنه سمع نافعاً يقول: للفرس سهمين، وللراجل سهماً، فقال: للفارس، وليس يَشُكُّ أحد مِن أهل العلم فى تقدُّم عُبيد الله بن عمر على أخيه فى الحفظ، وقد أنبأنا الثقة من أصحابنا، عن إسحاق الأزرق الواسطى، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرب للفرس بسهمين، وللفارس بسهم.
ثم روى من حديث أبى معاوية، عن عُبيد الله بن عُمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسهم للفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه، وهو فى "الصحيحين"، وكذلك رواه الثورى، وأبو أسامة عن عُبيد الله.
قال الشافعى رحمه الله: وروى مجمع بن جارية أن النَّبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم
سهام خيبر على ثمانية عشر سهماً، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة، منهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارسَ سهمين، والراجل سهماً.
قال الشافعى رحمه الله: ومجمع بن يعقوب يعنى راوى هذا الحديث عن أبيه، عن عمه عبد الرحمن بن يزيد، عن عمه مجمع بن جارية شيخ لا يُعرف فأخذنا فى ذلك بحديث عُبيد الله، ولم نر له مثله خبراً يُعارضه، ولا يجوز ردُّ خبر إلا بخبر مثله.
قال البيهقى: والذى رواه مجمع بن يعقوب بإسناده فى عدد الجيش وعدد الفرسان، قد خُولِفَ فيه، ففى رواية جابر، وأهل المغازى: أنّهم كانوا ألفاً وأربعمائة، وهم أهلُ الحُديبية، وفى رواية ابن عباس، وصالح بن كيسان، وبشير بن يسار، وأهلِ المغازى: أن الخيل كانت مائتى فرس، وكان لِلفرس سهمان، ولصاحبه سهم، ولكل راجل سهم.
وقال أبو داود: حديثُ أبى معاوية أصحُّ، والعملُ عليه، وأرى الوهم فى حديث مجمع أنه قال: ثلاثمائة فارس، وإنما كانوا مائتى فارس.
وقد روى أبو داود أيضاً من حديث أبى عمرة، عن أبيه، قال: "أتينا رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة نَفَرٍ، ومعنا فرس، فأعطى كل إنسان منا سهماً، وأعطى الفرس سهمين". وهذا الحديث فى إسناده عبد الرحمن بن عبد الله ابن عتبة بن عبد الله بن مسعود، وهو المسعودى، وفيه ضعف. وقد رُوى الحديثُ عنه على وجهٍ آخر، فقال: أتينا رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثة نَفَرٍ،
معَنَا فرس، فكان للفارس ثلاثة أسهم، ذكره أبو داود أيضاً.
فصل
وفى هذه الغزوة، قدم عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن عمه جعفرُ ابنُ أبى طالب وأصحابه، ومعهم الأشعريون: عبدُ الله بنُ قيس أبو موسى، وأصحابُه، وكان فيمن قَدِمَ معهم أسماءٍ بنت عميس.
قال أبو موسى: بلغنا مَخْرَجُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن باليمن، فخرجنا مُهاجرين أنا وأخوانِ لى:أنا أصغرُهما، أحدهُما أبو رُهْم، والآخر أبو بُردة، فى بِضع وخمسين رجلاً من قومى، فركبنا سفينةً، فألقتنا سفينتُنا إلى النجاشىِّ بالحبشة، فوافَقْنَا جَعْفَرَ بنَ أبى طالب وأصحابَه عنده، فقال جعفر: إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثنا، وأَمَرَنَا بالإقامة، فأقيمُوا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً، فَوَافَقْنَا رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينَ افتَتَحَ خيبر، فأسهم لنا، وما قسم لأحدٍ غابَ عن فتح خيبر شيئاً إلا لمن شهد معه، إلا لأصحابِ سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم، وكان ناس يقولون لنا: سبقناكم بالهِجرة، قال: ودَخَلَتْ أسماءُ بِنتُ عميس على حفصة، فدخل عليها عمر، فقال: مَنْ هذِهِ ؟ قالت: أسماءُ. فقال عُمَرُ: سبقناكم بالهجرة، نحن أحقُّ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنكم، فَغَضِبَتْ، وقالت: يا عُمَرُ؛ كلا واللهِ، لقد كنتم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُطعِمُ جائعكم، ويَعِظُ جاهِلَكُم، وكنا فى أرض البُعداء البُغضاء، وذلك فى اللهِ، وفى رسوله، وايمُ اللهِ، لا أطعَمُ طَعَاماً، ولا أشربُ شراباً حتى أذكر ما قلتَ لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن كنا نُؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله لا أكذب ولا أزيغ
ولا أزيدُ على ذلك، فلما جاء النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: يا رسول الله؛ إن عمر قال كذا وكذا. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما قلتِ له" ؟ قالت: قلت له كذا وكذا. فقال: "لَيْسَ بِأَحَقَّ بى مِنْكُم، ولَهُ ولأَصْحابه هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، ولَكُمْ أَنْتُمْ أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَان" ، وكان أبو موسى وأصحابُ السفينة يأتون أسماء أرسالاً يسألونها عن هذا الحديث، ما مِن الدنيا شىء، هم به أفرحُ ولا أعظمُ فى أنفسهم مما قال لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
ولما قَدِمَ جعفرٌ على النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تلقاه وقبَّل جبهته، وقال: "واللهِ ما أدرى بأَيِّهما أفْرَحُ، بِفَتْحِ خَيْبَر أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَر" ؟.
وأما ما رُوى فى هذه القِصة، أن جعفراً لما نظر إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حجَل يَعنى: مشى على رِجل واحدةٍ إعظاماً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعله أشباهُ الدِّباب الرَّقَّاصُون أصلاً لهم فى الرقص، فقال البيهقى وقد رواه مِن طريق الثورى عن أبى الزبير، عن جابر: وفى إسناده إلى الثورى مَن لا يُعرف.
قلت: ولو صح، لم يكن فى هذا حُجة على جواز التشبُّه بالدّباب، والتكسر والتخَنُّث فى المشى المنافى لهَدْى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن هذا لعله كان من عادة الحبشة تعظيماً لِكبرائها، كضرب الجُوك عند الترك ونحو ذلك، فجرى جعفر على تلك العادة وفعلها مرة، ثم تركها لِسُّنَّة الإسلام،
فأين هذا من القفز والتكسر، والتثنى والتخنُّث.. وبالله التوفيق.
قال موسى بن عقبة: كانت بنو فَزارة ممن قدم على أهلِ خيبر ليعينوهم، فراسلهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا يُعينوهم، وأن يخرجوا عنهم، ولكم من خيبر كذا وكذا، فأبَوْا عليه، فلما فتح اللهُ عليه خيبَر، أتاهُ مَن كان ثَمَّ من بنى فزارة، فقالوا: وعدك الذى وعدتنا، فقال: "لكم ذو الرُّقيبة جبل من جبال خيبر" فقالوا: إذاً نُقاتلك. فقال: "مَوْعِدُكم كذا"، فلما سَمِعُوا ذلك مِن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خرجوا هاربين.
وقال الواقدى: قال أبو شُييم المزنى وكان قد أسلم فحسن إسلامه: لما نفرنا إلى أهلنا مع عيينة بن حصن، رجع بنا عُيينة، فلما كان دون خيبر، عرَّسنا من اللَّيل، ففزِعنا، فقال عُيينة: أبشروا، إنى أرى الليلة فى النوم أننى أُعطيت ذا الرُّقيبة جبلاً بخيبر قد واللهِ أخذتُ برقبة محمد، فلما قدمنا خيبر، قدم عُيينة، فوجد رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد فتح خيبر. فقال: يا محمد؛ أعطنى ما غنمتَ من حُلفائى، فإنى انصرفتُ عنك، وقد فرغنا لك، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَذَبْتَ ولكِنَّ الصِّيَاحَ الَّذِى سَمِعْتَ نَفَّرَكَ إلى أهْلِكَ" . قال: أجزنى يا محمد ؟ قال: "لك ذو الرقيبة". قال: وما ذو الرقيبة ؟
قال: "الجبلُ الذى رأيتَ فى النوم أنك أخذته". فانصرف عُيينة، فلما رجع إلى أهله، جاءه الحارث بن عوف، فقال: ألم أقل لك: إنك تُوضِع فى غير شىء، واللهِ لَيَظْهَرَنَّ محمد على ما بين المشرق والمغرب، يهود كانوا يُخبروننا بهذا، أشَهد لسمِعْتُ أبا رافع سلام بن أبى الحُقيق يقول: إنَّا نحسُد محمداً على النبوة حيث خرجت من بنى هارون، وهو نبى مرسل، ويهود لا تُطاوعنى على هذا، ولنا منه ذبحان، واحد بيثرب وآخر بخيبر، قال الحارث: قلت لسلام: يملِكُ الأرض جميعاً ؟ قال: نعم والتوراةِ
التى أنزلت على موسى، وما أُحِبُّ أن تعلم يهودَ بقولى فيه.
فصل
وفى هذه الغزاةِ، سُمَّ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أهدت له زينبُ بنتُ الحارث اليهوديةُ امرأةُ سلام بن مِشْكَم شاةً مشويَّةً قد سمَّتها، وسألت: أىُّ اللَّحم أحبُّ إليه ؟ فقالوا: الذِّراعُ، فأكثرت من السُّمِّ فى الذراع، فلما انتهش من ذِراعها، أخبره الذِّراعُ بأنه مسموم، فلفظ الأكلة، ثم قال: "اجْمَعُوا لى مَنْ هاهنا من اليَهُودِ" ، فجُمِعوا له، فقالَ لهم: "إنِّى سَائِلُكُم عَن شَىءٍ، فَهَلْ أنتمْ صَادِقِىَّ فيه" ؟ قالوا: نَعَمْ يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَبُوكُم" ؟ قالوا: أبونا فلان. قال : "كَذَبْتُمْ، أبُوكُم فُلان". قالوا: صدقتَ وبَررْتَ، قال: "هَلْ أَنْتُمْ صَادِقىَّ عَنْ شىءٍ إنْ سَأَلْتُكُم عَنْهُ" ؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذَبْنَاكَ، عرفتَ كذبنا كما عرفتَه فى أبينا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَهْلُ النَّار" ؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً، ثم تَخْلُفُوننا فيها. فقال لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اخْسَؤوا فيها، فَواللهِ لاَ نَخْلُفُكُم فيها أَبَدَاً"، ثم قال: "هَلْ أَنْتُم صَادِقِىَّ عَن شَىءٍ إن سأَلْتُكُم عَنْهُ" ؟ قالوا: نعم. قال: "أجَعَلْتُمْ فى هذِهِ الشَّاةِ سُمّاً" ؟ قالوا: نعم. قال: "فَمَا حَمَلَكُم على ذلكَ" ؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذِباً نستريحُ منك، وإن كنت نبيَّاً لم يضرَّك".
وجئ بالمرأة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: أردتُ قتلَكَ. فقال : "ما كان اللهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَىَّ "، قالوا: ألا نقتُلها ؟ قال: "لا"، وَلم يتعرض لها، ولم يُعاقبها، واحتجم على الكاهِلِ، وأمرَ مَن أكل منها فاحتجم، فمات بعضُهم، واختُلِف فى قتل المرأة، فقال الزهرى: أسلمت فتركها، ذكره عبد الرزاق، عن معمر، عنه، ثم قال معمر: والناسُ تقول: قتلها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية، قال: حدثنا خالد، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة: أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهدت له يهوديةٌ بخيبرَ شاةً مَصْلِيَّةً.... وذكر القصة، وقال: فمات بشرُ بن البراء بن مَعرور، فأرسل إلى اليهودية: "ما حملكِ على الذى صنعتِ" ؟ قال جابر: فأمر بها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُتِلَتْ.
قلت: كلاهما مرسل، ورواه حمَّاد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة متصلاً: "أنه قتلها لما مات بشر بن البراء".
وقد وُفِّقَ بين الروايتين، بأنه لم يقتُلْها أولاً، فلما مات بشر، قتلها.
وقد اختُلِف: هل أكل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها أو لم يأكل ؟ وأكثرُ الروايات، أنه أكل منها، وبقى بعد ذلك ثلاثَ سنين حتى قال فى وجعه الذى مات فيه: "مَا زِلْتُ أَجِدُ مِن الأُكْلَةِ الَّتى أَكَلْتُ مِنَ الشَّاةِ يَوْمَ خَيْبَر،
فهذَا أوانُ انْقِطَاع الأبْهَرِ منِّى".
قال الزهرى: فتوفى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهيداً.
قال موسى بن عقبة وغيره: وكان بينَ قريش حين سمعوا بخروج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خيبرَ تَرَاهُنٌ عظيم، وتبايع، فمنهم مَن يقول: يظهر محمدٌ وأصحابُه، ومنهم يقول: يظهر الحليفان ويهودُ خيبر، وكان الحجَّاج بن عِلاط السُّلمى قد أسلم وشَهِدَ فتح خيبر، وكانت تحتَهُ أُمُّ شيبة أختُ بنى عبد الدار بن قُصَىّ، وكان الحجاجُ مُكثِرَاً مِن المال، كانت له معادِن بأرضِ بنى سُليم، فلما ظهر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خيبر، قال الحجاج بن عِلاط: إن لى ذهباً عِند امرأتى، وإن تعلم هى وأهلُها بإسلامى، فلا مال لى، فَأْذَنْ لى، فلأسرع السَّيرَ وأسْبقِ الخبر، ولأخبِرَنَّ أخباراً إذا قدمت أدرأُ بها عن مالى ونفسى، فأَذِنَ له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلما قَدِمَ مكة، قال لامرأته: أخفى علىَّ واجمعى ما كان لى عندكِ مِن مال، فإنى أريد أن أشترىَ مِن غنائم محمد وأصحابه، فإنهم قد استُبيحُوا، وأُصيبت أموالُهم، وإن محمدَاً قد أُسِرَ، وتفرَّق عنه أصحابُه، وإن اليهودَ قد أقسموا: لَتَبْعَثَنَّ به إلى مكة ثم لتقتُلَنَّه بقتلاهم بالمدينة، وفشا ذلك بمكة، واشتد على المسلمين، وبلغ منهم، وأظهر المشركون الفرحَ والسرورَ، فبلغ العباسَ عمَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَلَةُ النَّاس وجَلَبَتُهم، وإظهارُهم السُّرور، فأراد أن يقوم ويخرج، فانخزل ظهرُه، فلم يقدر على القيام، فدعا ابناً له يقال له:
"قُثَمُ". وكان يُشبه رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل العباس يرتَجِزُ، ويرفع صوته لئلا يشمتَ به أعداءُ الله:
حِبِّى قُثَمْ حِبِّى قُثم ... شَبيهُ ذِى الأَنْفِ الأَشمْ
نَبِىُّ ربِّى ذى النِّعَمْ ... برَغْمِ أَنْفِ مَنْ رَغمْ
وحشر إلى باب داره رجالٌ كثيرون من المسلمين والمشركين، منهم المظهِرُ للفرح والسرور، ومنهم الشامِتُ المغرى، ومنهم مَنْ به مثلُ الموت من الحُزْن والبلاء، فلما سمع المسلمون رجزَ العباس وتجلُّدَه، طابت نفوسُهم، وظن المشركون أنه قد أتاه ما لم يأتهم، ثم أرسلَ العباسُ غلاماً له إلى الحجاج، وقال له: اخلُ به، وقل له: ويلَك ما جئتَ به، وما تقول، فالذى وعَد الله خيرٌ مما جئتَ به ؟ فلما كلَّمه الغلامُ قال له: اقرأ على أبى الفضل السلام، وقل له: فَلْيَخْلُ بى فى بعض بيوته حتى آتيَه، فإن الخبرَ على ما يَسُرُّه، فلما بلغ العبدُ باب الدار، قال: أبشر يا أبا الفضل، فوثب العباسُ فرحاً كأنه لم يُصبه بلاءٌ قطُّ، حتى جاءه وقبَّل ما بين عينيه، فأخبره بقول الحجاج، فأعتقه، ثم قال: أخبرنى. قال: يقولُ لك الحجاج: أُخْلُ بِهِ فى بعض بيوتِك حتى يأتيكَ ظهراً، فلما جاءه الحجاج، وخلا به، أخذ عليه لتكتمَنَّ خبرى، فوافقه عباس على ذلك، فقال له الحجاج: جئتُ وقد افتتح رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر، وغنم أموالهم، وجرت فيها سهامُ الله، وإنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد اصطفى صفيَّةَ بِنت حُيَىّ لنفسه، وأعرسَ بها، ولكن جئتُ لمالى، أردت أن أجمعه وأذهب به، وإنى استأذنتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أقول، فَأَذِنَ لى أن أقول ما شئت، فأخْفِ علىَّ ثلاثاً، ثم اذكرْ ما شئت. قال: فجمعت له امرأتُه متاعه، ثم انشمر راجعاً، فلما كان بعدَ ثلاث، أتى العباسُ امرأة الحجاج،
فقال: ما فعل زوجُكِ ؟ قالت: ذهب، وقالت: لاَ يَحْزُنْك اللهُ يا أبا الفضل، لقد شقَّ علينا الذى بلغك. فقال: أجل، لا يَحْزُنُنى الله، ولم يكن بحمد الله إلا ما أُحِبُّ، فتح اللهُ على رسوله خيبرَ، وجرت فيها سهامُ الله، واصطفى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفيَّة لنفسه، فإن كان لكِ فى زوجك حاجة، فالحقى به. قالت: أظنُّك واللهِ صادقاً. قال: فإنى واللهِ صادق، والأمرُ على ما أقول لك. قالت: فمن أخبرك بهذا ؟ قال: الذى أخبركِ بما أخبركِ، ثم ذهب حتَّى أتى مجالسَ قريش، فلما رأوه، قالوا: هذا واللهِ التجلُّدُ با أبا الفضل، ولا يصيبُك إلا خير. قال: أجل لم يُصبنى إلا خيرٌ، والحمد لله، أخبرنى الحجَّاج بكذا وكذا، وقد سألنى أن أكتُمَ عليه ثلاثاً لحاجة، فردَّ الله ما كان للمسلمين مِن كآبة وجَزَع على المشركين، وخرج المسلمون مِن مواضعهم حتى دخلوا على العباس، فأخبرهم الخبرَ، فأشرقت وجوهُ المسلمين.
فصل: فيما كان فى غزوة خَيْبَر من الأحكام الفقهية
فمنها محاربةُ الكفار ومقاتلتُهم فى الأشهر الحُرُم، فإن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجع مِن الحُديبية فى ذى الحِجَّة، فمكث بها أيَّاماً، ثم سار إلى خَيْبَرَ فى المحرَّم، كذلك قال الزُّهرىُّ عن عُروة، عن مروان والمِسور بن مخرمة، وكذلك قال الواقدى: خرج فى أول سنة سبع من الهِجرة، ولكن فى الاستدلال بذلك نظر، فإن خُروجَه كان فى أواخر المحرَّم
لا فى أوله، وفتحُها إنما كان فى صَفَر، وأقوى من هذا الاستدلال بيعةُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابَه عند الشجرة بَيْعةَ الرضوان على القتال، وألا يَفِرُّوا، وكانت فى ذى القَعْدَة، ولكن لا دليلَ فى ذلك، لأنه إنما بايعهم على ذلك لما بلغه أنهم قد قتلوا عثمان وهم يُريدون قتاله، فحينئذ بايع الصحابة، ولا خلاف فى جواز القتال فى الشهر الحرام إذا بدأ العدو، إنما الخلاف أن يُقاتل فيه ابتداءً، فالجمهور: جوَّزوه، وقالوا: تحريمُ القِتَال فيه منسوخٌ، وهو مذهبُ الأئمة الأربعة، رحمهم الله.
وذهب عطاء وغيرُه إلى أنه ثابتٌ غيرُ منسوخ، وكان عطاء يحلِفُ بالله: ما يَحِلُّ القِتَالُ فى الشهر الحرام، ولا نسَخَ تحريمَه شىءٌ.
وأقوى من هذين الاستدلالين الاستدلالُ بحصار النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للطائف، فإنه خرج إليها فى أواخِر شوَّال، فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة، فبعضُها كان فى ذى القَعَدة، فإنه فتح مكة لِعَشرٍ بقينَ مِن رمضان، وأقام بها بعد الفتح تسع عشرةَ يقصُرُ الصلاة، فخرج إلى هَوازن وقد بقى من شوَّال عشرون يوماً، ففتح الله عليه هَوازِنَ، وقسم غنائمها، ثم ذهب منها إلى الطائف، فحاصرها بضعاً وعشرين ليلة، وهذا يقتضى أن بعضها فى ذى القَعَدة بلا شك.
وقد قيل: إنما حاصرهم بضع عشرة ليلة. قال ابنُ حزم: وهو الصحيح بلا شك، وهذا عجيب منه، فمن أين له هذا التصحيح والجزم به ؟ وفى "الصحيحين" عن أنس بن مالك فى قصة الطائف، قال:
"فحاصرناهُم أربعينَ يوماً، فاستعصوا وتمنعوا" وذكر الحديث فهذا الحصار وقع في ذي القَعدة بلا ريب، ومع هذا فلا دليل في القصة، لأن غزو الطائف كان مِن تمام غزوة هَوازن، وهم بدؤوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقتال، ولما انهزموا، دخل ملكُهم، وهو مالكُ بنُ عوف النَّضري مع ثقيف في حِصن الطائف محاربينَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان غزوُهُم مِن تمام الغزوة التي شرع فيها، والله أعلم.
وقال الله تعالى في (سورة المائدة) وهي من آخر القرآن نزولاَ، وليس فيها منسوخ: { يَا أيُها الَذِينَ آمَنُوا لا تُحلُوا شَعَائِرَ اللهِ ولا الشَهْرَ الحَرامَ، ولا الهَدْي ولا القَلائِدَ} [المائدة: 2].
وقال في سورة البقرة: {ويسأَلُونَكَ عَنِ الشَهرِ الحَرامِ قِتالٍ فيه قُل: قِتَالٌ فيهِ كَبير وصدٌ عَنْ سَبيلِ اللهِ} [البقرة: 217]، فهاتان آيتان مدنيتان، بينهما في النزول نحوُ ثمانيةِ أعوام، وليس في كتاب الله ولا سنةِ رسوله ناسخ لحكمهما، ولا أجمعتِ الأمةُ على نسخه، ومن استدل على نسخه بقوله تعالى: {وقاتِلُوا المُشرِكِينَ كَافَةَ} [التوبة: 36] ونحوِها من العمومات، فقد استدلَّ على النسخ بما لا يدُلُ عليه، ومن استدل عليه بان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث أبا عامر في سريةٍ إلى أوطاس في ذي القَعدة، فقد استدل بغير دليل، لأن ذلك كان مِن تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال، ولم يكن ابتداءً منه لقتالهم في الشهر الحرام.
فصل
ومنها: قِسمة الغنائم، للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم، وقد تقدم تقريره.
ومنها: أنه يجوز لآحادِ الجيش إذا وجد طعاماَ أن يأكلَه ولا يُخمسَه، كما أخذ عبد الله بن المغفل جِراب الشحْمِ الذي دُلي يومَ خيبر، واختص به بمحضر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومنها: أنه إذا لحق مددٌ بالجيش بعد تَقضّي الحرب، فلا سهمَ له إلا بإذن الجيش ورضاهم، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلَم أصحابَه في أهل السفينة حينَ قَدِمُوا عليه بخيبر - جعفرٍ وأصحابه -أن يُسهِمَ لهم، فأسهم لهم.
فصل
ومنها تحريمُ لحوم الحُمُرِ الإِنسية، صح عنه تحريمُها يومَ خيبر، وصح عنه تعليلُ التحريم بأنها رِجسٌ، وهذا مقدَّمٌ على قول من قال من الصحابة: إنما حرمها، لأنها كانت ظهرَ القوم وحَمُولَتهم، فلما قيل له: فنيَ الظهرُ وأكلت الحمر، حرمها، وعلى قول من قال: إنما حرمها، لأنها لم تُخمس، وعلى قول من قال: إنما حرمها لأنها كانت حول القرية، وكانت تأكُلُ العَذِرَةَ، وكل هذا في "الصحيح"، لكن قولُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنها رِجْسٌ" مقدَّم على هذا كلَه، لأنه مِن ظن الراوي،
وقولِه بخلاف التعليل بكونها رجساً.
ولا تعارضُ بين هذا التحريم وبين قوله تعالى: {قُل لاَ أَجِدُ فيما أُوحِيَ إِليَّ مُحَرَماً عَلَى طَاعِمٍ يَطعَمُه إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيتَةً أو دَماً مَسْفُوحاَ، أَو لَحْمَ خَنْزِيرٍ فإِنَهُ رجس أَو فِسْقاً أُهِلَ لِغَيْرِ اللهِ به} [الأنعام:145]، فإنه لم يكن قد حُرِّمَ حينَ نزول هذه الآية مِن المطاعم إلا هذه الأربعة، والتحريمُ كانَ يتجدَدُ شيئاً فشيئاً، فتحريمُ الحُمُر بعد ذلك تحريمٌ مبتدأ لما سكت عنه النصُّ، لا أنه رافع لما أباحه القرآن، ولا مُخصص لعمومه، فضلاً عن أن يكون ناسخاَ. والله أعلم.
فصل
ولم تُحرم المتعةُ يومَ خيبر، وإنما كان تحريمُها عامَ الفتحِ هذا هو الصوابُ، وقد ظنَّ طائفة مِن أهل العلم أنه حرمها يومَ خيبر، واحتجوا بما في "الصحيحين" من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أن رسولَ الله نَهى عن مُتعة النساء يومَ خيبر، وعَن أكل لحوم الحمر الإِنسية".
وفي "الصحيحين" أيضاً: أن علياً رضي الله عنه، سمع ابن عباس يُلينُ في مُتعة النساء، فقال: مهلاً يا ابنَ عباس، فإن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية" ، وفي لفظ للبخاري عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن مُتعة النساء يومَ خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإِنسية.
ولما رأى هؤلاء أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أباحها عامَ الفتح، ثم حرَمها، قالوا: حُرمَت، ثُم أبيحت، ثم حُرِّمَت.
قال الشافعي: لا أعلمُ شيئاَ حُرم، ثم أبيح، ثم حُرمَ إلا المتعة، قالُوا: نُسِخَتْ مرتين، وخالفهم في ذلك آخرون، وقالوا: لم تُحرم إلا عامَ الفتح، وقبل ذلك كانت مباحة. قالوا: وإنما جمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه بين الإخبار بتحريمها، وتحريمِ الحُمُر الأهلية، لأن ابن عباس كان يُبيحهما، فروى له علي تحرِيمَهما عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رداً عليه، وكان تحريمُ الحُمُرِ يومَ خيبر بلا شك، وقد ذكر يومَ خيبر ظرفاً لتحريم الحُمُرِ، وأطلَقَ تحريمَ المتعة، ولمٌ يقيده بزمن، كما جاء ذلك في "مسند" الإمام أحمد بإسناد صحيح: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "حرَّم لحومَ الحُمُرِ الأهلية يومَ خَيْبَر، وحرَّم مُتعة النساء" وفى لفظ: "حرَّم مُتعة النساء، وحرَّم لحومَ الحُمُر الأهلية يومَ خَيْبَر"، هكذا رواه سفيان بن عيينة مفصلاً مميزاً، فظن بعضُ الرواة أن يومَ خَيْبَر زمنٌ للتحريمين، فقيَّدهما به، ثم جاء بعضُهم، فاقتصر على أحد المحرَّمين وهو تحريمُ الحُمُر، وقيَّده بالظرف، فمن هاهنا نشأ الوهم.
وقصة خَيْبَر لم يكن فيها الصحابةُ يتمتعون باليهوديات، ولا استأذنوا
فى ذلك رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نقلَه أحدٌ قطُّ فى هذه الغزوة، ولا كان للمُتعة فيها ذِكرٌ البتة، لا فِعلاً ولا تحريماً، بخِلاف غزاة الفتح، فإن قصةَ المتعة كانت فيها فِعلاً وتحريماً مشهورة، وهذه الطريقة أصحُّ الطريقتين.
وفيها طريقة ثالثة: وهى أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُحرِّمها تحريماً عاماً البتة، بل حرَّمها عند الاستغناء عنها، وأباحها عند الحاجة إليها، وهذه كانت طريقةَ ابن عباس حتى كان يُفتى بها ويقولُ: هى كالميتةِ والدمّ ولحمِ الخنزير، تُباح عند الضرورة وخشيةِ العنت، فلم يفهم عنه أكثرُ الناسِ ذلك، وظنوا أنه أباحها إباحةً مطلقةً، وشبَّبوا فى ذلك بالأشعار، فلما رأى ابنُ عباس ذلك، رجع إلى القول بالتحريم.
فصل
[فى جواز المساقاة والمزارعة بجزء مما يخرج من الأرض،وكيف عامَلَ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل خَيْبَر]
ومنها: جوازُ المساقاة والمزارعة بجُزء مما يخرُج مِن الأرض مِن ثمر أو زرع، كما عامل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهلَ خَيْبَر على ذلك، واستمر ذلك إلى حين وفاته لم يُنسخ البتة، واستمر عملُ خلفائه الراشدين عليه، وليس هذا من باب المؤاجرة فى شىء، بل مِن باب المشاركة، وهو نظيرُ المضاربة سواء، فمَن أباح المضاربةَ، وحرَّم ذلك، فقد فرَّق بين متماثلين.
فصل
ومنها: أنه دفع إليهم الأرضَ على أن يعملُوها مِن أموالهم، ولم يدفع
إليهم البِذْرَ، ولا كان يَحمِلُ إليهم البِذرَ من المدينة قطعاً، فدل على أن هَدْيَه عدمُ اشتراط كونِ البِذر مِن ربِّ الأرض، وأنه يجوز أن يكون من العامل، وهذا كان هَدْىَ خلفائه الراشدينَ مِن بعده، وكما أنه هو المنقولُ، فهو الموافقُ للقياس، فإن الأرضَ بمنزلة رأس المال فى القِراض، والبِذر يجرى مجرى سقى الماء، ولهذا يموتُ فى الأرض، ولا يرجعُ إلى صاحبه، ولو كان بمنزلة رأس مال المضاربة لاشْتُرِطَ عودُه إلى صاحبه، وهذا يُفسِدُ المزارعة، فعُلِمَ أن القياسَ الصحيح هو الموافق لهَدْى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفائه الراشدين فى ذلك.. والله أعلم.
فصل
ومنها: خَرْصُ الثمار على رؤوس النخل وقِسمتها كذلك، وأن القسمة ليست بيعاً.
ومنها: الاكتفاءُ بخارِصٍ واحد، وقاسِمٍ واحد.
ومنها: جواز عقدِ المُهادنة عقداً جائزاً للإمام فسخُه متى شاء.
ومنها: جوازُ تعليق عقد الصلح والأمان بالشرط، كما عَقَدَ لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشرط أن لا يُغيِّبوا ولا يَكْتُموا.
ومنها: جوازُ تقريرِ أربابِ التُّهم بالعُقوبة، وأن ذلك من الشريعة العادلة لا مِن السياسة الظالمة.
ومنها: الأخذُ فى الأحكام بالقرائن والأمارات، كما قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكنانة: "المَالُ كَثيرٌ، والعَهْدُ قَرِيبٌ"، فاستدل بهذا على كذبه فى قوله: أذهبته الحروبُ والنفقة.
ومنها: أن مَن كان القولُ قولَه إذا قامت قرينةٌ على كذبه، لم يُلتفت إلى قوله، ونُزِّلَ منزلة الخائن.
ومنها: أن أهلَ الذِّمة إذا خالفوا شيئاً مما شُرِطَ عليهم، لم يبق لهم ذِمة، وحلَّت دِماؤهم وأموالهم، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقد لهؤلاء الهُدنة، وشرط عليهم أن لا يُغيِّبوا ولا يَكتُموا، فإن فعلوا حلَّت دِماؤهم وأموالُهم، فلما لم يفُوا بالشرط، استباحَ دماءَهم وأموالَهم، وبهذا اقتدى أميرُ المؤمنين عمرُ بن الخطاب فى الشروط التى اشترطها على أهل الذِّمة، فشرط عليهم أنهم متى خالفُوا شيئاً منها، فقد حلَّ له منهم ما يَحِلُّ مِن أهل الشِّقاق والعَداوة.
ومنها: جوازُ نسخ الأمر قبل فِعله، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرهم بكسرِ القُدور، ثم نسخه عنهم بالأمر بِغَسْلِهَا.
ومنها: أن ما لا يُؤكل لحمُه لا يَطْهُر بالذَّكاة لا جِلدهُ ولا لحمه، وأن ذبيحته بمنزلة موته، وأن الذكاة إنما تعمل فى مأكول اللَّحم.
ومنها: أن مَن أخذ مِن الغنيمة شيئاً قبل قسمتها لم يملكْه، وإن كان دونَ حقه، وأنه إنما يملِكُه بالقسمة، ولهذا قال فى صاحب الشَّملة التى غلَّها: "إنَّها تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَاراً". وقال لصاحب الشِّراك الذى غلَّه: "شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ".
ومنها: أن الإمام مخيَّر فى أرض العَنوة بين قِسمتها وتركها، وقَسْم بعضها، وتَرْكِ بعضها.
ومنها: جواز التفاؤُل بل استحبابُه بما يراه أو يسمعه مما هو من
أسباب ظهورِ الإسلام وإعلامه، كما تفاءل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برؤية المَساحى والفؤوس والمكاتِل مع أهل خَيْبَر، فإن ذلك فألٌ فى خرابها.
ومنها: جواز إجلاء أهل الذِّمةِ من دار الإسلام إذا اسْتُغنِىَ عنهم، كما قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نُقِرُّكُم مَا أَقَرَّكمُ اللهُ"، وقال لكبيرهم: "كَيْفَ بكَ إذا رَقَصَتْ بِكَ رَاحِلَتُكَ نَحْوَ الشَّام يَوْماً ثُمَّ يَوْماً" ، وأجلاهم عمرُ بعد موته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا مذهبُ محمد بن جرير الطبرى، وهو قولٌ قوى يسوغُ العملُ به إذا رأى الإمامُ فيه المصلحةَ.
ولا يُقال: أهل خَيْبَر لم تكن لهم ذِمة، بل كانُوا أهلَ هُدنة، فهذا كلام لا حاصِل تحته، فإنهم كانوا أهلَ ذِمة، قد أمِنوا بها على دمائهم وأموالهم أماناً مستمراً، نعم لم تكن الجزيةُ قد شُرِعَت، ونزل فرضُها، وكانوا أهلَ ذِمة بغير جزية، فلما نزل فرضُ الجزية، استُؤنِفَ ضربُها على مَن يُعقد له الذِّمة مِن أهل الكِتاب والمجوس، فلم يكن عدمُ أخذ الجزية منهم، لكونهم ليسوا أهلَ ذِمة، بل لأنها لم تكن نزل فرضُها بعد.
وأما كونُ العقد غيرَ مؤبَّد، فذاك لمدة إقرارهم فى أرض خَيْبَر، لا لمدة حقنِ دمائهم، ثم يستبيحها الإمامُ متى شاء، فلهذا قال: "نُقِرُّكُمْ ما أقرَّكمُ اللهُ أَوْ مَا شَئْنَا" ، ولم يقل: نحقِنُ دماءكم ما شئنا، وهكذا كان عقدُ الذمة لقُريظة والنَّضير عقداً مشروطاً، بأن لا يُحاربوه، ولا يُظاهِرُوا عليه، ومتى فعلوا، فلا ذِمة لهم، وكانوا أهلَ ذِمة بلا جزية، إذ لم يكن نزلَ فرضُها إذ ذاك، واستباحَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْىَ نسائهم وذرارِيهم، وجعل نقضَ العهد سارياً فى حق النِّساء والذُرِّية، وجعل حُكم الساكت والمقر حُكمَ الناقِضِ والمحارب، وهذا موجبُ هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أهل الذِّمة بعد الجزية أيضاً، أن يسرىَ نقضُ العهد فى ذُرِّيتهم
ونسائهم، ولكن هذا إذا كان الناقِضُون طائفةً لهم شَوْكة ومَنَعة، أما إذا كان الناقض واحداً مِن طائفة لم يُوافقه بقيتهم، فهذا لا يسرى النقضُ إلى زوجته وأولاده، كما أن مَن أهدر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دماءهم ممن كان يسبُّه، لَمْ يَسْبِ نساءَهم وذُرِّيتهم، فهذا هَدْيُه فى هذا، وهو الذى لا محيدَ عنه.. وبالله التوفيق.
ومنها: جوازُ عِتق الرجل أَمَتَه، وجعل عِتقها صَداقاً لها، ويجعلها زوجتَه بغير إذنها، ولا شهودٍ، ولا ولى غيره، ولا لفظِ إنكاح ولا تزويجٍ، كما فعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصفيَّة، ولم يقل قطّ: هذا خاصٌ بى، ولا أشار إلى ذلك، مع علمه باقتداء أُمَّته به، ولم يقُلْ أحد من الصحابه: إن هذا لا يصْلُح لغيره، بل رَوَوُا القِصة ونقلُوها إلى الأُمَّة، ولم يمنعوهم، ولا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الاقتداء به فى ذلك، والله سبحانه لمَّا خصَّه فى النكاح بالموهوبة قال: {خَالِصةً لَّكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[الأحزاب: 50]، فلو كانت هذه خالِصة له من دون أُمَّته، لكان هذا التخصيصُ أولى بالذِكر لكثرة ذلك من السادات مع إمائهم، بخلاف المرأة التى تَهَبُ نفسَها للرجل لنُدرته، وقِلَّته، أو مثله فى الحاجة إلى البيان، ولا سيما والأصل مشاركة الأُمَّة له، واقتداؤها به، فكيف يسكت عن منع الاقتداء به فى ذلك الموضع الذى لا يجوز مع قيام مقتضى الجواز، هذا شبهُ المحال، ولم تجتمع الأُمَّة على عدم الاقتداء به فى ذلك، فيجب المصيرُ إلى إجماعهم.. وبالله التوفيق.
والقياس الصحيحُ: يقتضى جوازَ ذلك، فإنه يملِكُ رقبتَها، ومنفعة وطئها، وخدمتها، فله أن يُسقِطَ حقَّه مِن مِلك الرقبة، ويستبقى مِلك المنفعةِ، أو نوعاً منها، كما لو أعتق عبدَه، وشرط عليه أن يخدِمَه
ما عاش، فإذا أخرج المالك رقبةَ ملكه، واستثنى نوعاً مِن منفعته، لم يُمنع من ذلِكَ فى عقد البيع، فكيف يُمنع منه فى عقد النكاح، ولما كانت منفعةُ البُضع، لا تُستباح إلا بعقدِ نكاح أو مِلك يمين، وكان إعتاقُها يُزِيلُ ملكَ اليمين عنها، كان مِن ضرورة استباحة هذه المنفعة، جعلُها زوجة، وسيدها كان يلى نكاحها، وبيعها ممن شاء بغير رضاها، فاستثنى لنفسه ما كان يَملِكُه منها، ولما كان مِن ضرورته عقدُ النكاح ملكه، لأن بقاء ملكه المستثنى لا يَتِمُّ إلا به، فهذا محضُ القياس الصحيح الموافق للسُّنَّة الصحيحة.. والله أعلم.
ومنها: جوازُ كذب الإنسانِ على نفسه وعلى غيره، إذا لم يتضمَّن ضرَر ذلك الغير إذا كان يُتوصل بالكذب إلى حقه، كما كذب الحجَّاحُ بن عِلاط على المسلمين، حتى أخذَ مالَه مِن مكة مِن غير مضرَّة لحقت المسلمين من ذلك الكذب، وأما ما نال مَن بمكة من المسلمين من الأذى والحزن، فمفسدةٌ يسيرة فى جنب المصلحة التى حصلت بالكذب، ولا سيما تكميلَ الفرح والسرور، وزيادةَ الإيمان الذى حصل بالخبرِ الصَّادِق بعد هذا الكذب، فكان الكذبُ سبباً فى حصول هذه المصلحة الراجحة، ونظيرُ هذا الإمامُ والحاكمُ يوهِمُ الخصمَ خلافَ الحق لِيتوصل بذلك إلى استعلام الحقِّ، كما أوهم سليمانُ بن داود إحدى المرأتين بِشَقِّ الولد نِصفين حتى توصَّل بذلك إلى معرفة عَيْن الأُم.
ومنها: جوازُ بناء الرجل بامرأته فى السفر، وركوبها معه على دابة بين الجيش.
ومنها: أن مَنْ قتل غيره بسُمٍّ يَقْتُلُ مثله، قُتِلَ بِهِ قِصاصاً، كما قُتِلَتِ اليهوديةُ ببشر بن البراء.
ومنها: جوازُ الأكل من ذبائح أهل الكتاب، وحِلُّ طعامهم.
ومنها: قبولُ هديةِ الكافر. فإن قيل: فلعل المرأةَ قُتِلَتْ لنقض العهد لِحرابها بالسُّمِّ لا قِصاصاً، قيل: لو كان قتلُها لنقض العهد، لقُتِلَت من حين أقرَّت أنها سمَّت الشاة، ولم يتوقف قتلُها على موت الآكل منها.
فإن قيل: فهلاَّ قُتِلَتْ بنقضِ العهد ؟ قيل: هذا حُجَّةُ مَن قال: إن الإمام مخيَّر فى ناقض العهد، كالأسير.
فإن قيل: فأنتم تُوجبون قتله حتماً كما هو منصوص أحمد، وإنما القاضى أبو يعلى ومَن تبعه قالوا: يُخيَّر الإمامُ فيه، قيل: إن كانت قِصةُ الشاة قبلَ الصُّلح، فلا حُجَّةَ فيها، وإن كانت بعدَ الصلح، فقد اختُلِفَ فى نقضِ العهد بقتل المسلم على قولين، فمَن لم ير النقضَ به، فظاهر، ومَن رأى النقضَ به، فهل يتحتمُ قتلُهُ، أو يُخيَّر فيه، أو يفصِلُ بينَ بعض الأسباب الناقضة وبعضها، فيتحتم قتلُه بسبب السبب، ويُخيَّر فيه إذا نقضه بحرابه، ولحوقه بدار الحرب، وإن نقضه بسواهما كالقتل، والزنى بالمسلمة، والتجسُّس على المسلمين، وإطلاع العدو على عَوْراتهم ؟ فالمنصوصُ: تَعيُّنُ القتل، وعلى هذا فهذه المرأةُ لما سمَّتِ الشاةَ، صارت بذلك محاربة، وكان قتلُها مُخيَّراً فيه، فلما مات بعضُ المسلمين من السُّم، قُتِلَتْ حتماً إما قِصاصاً، وإما لنقض العهد بقتلها المسلم، فهذا محتمل.. والله أعلم.
واختُلِف فى فتح خَيْبَر: هل كان عَنوة، أو كان بعضُها صلحاً، وبعضُها عَنوة ؟
فروى أبو داود من حديث أنس: "أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزا خَيْبَرَ، فأصبناها عَنوة فَجُمِعَ السَّبى".
وقال ابنُ إسحاق: سألتُ ابنَ شهاب، فأخبرنى أن رسولَ الله صلى الله عليه سلم افتتح خَيْبَرَ عَنوَةً بعد القتال.
وذكر أبو داود، عن ابن شهاب: "بلغنى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افتتح خَيْبَرَ عَنوةً بعد القتالِ، ونزل مَن نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال".
قال ابنُ عبد البر: هذا هو الصحيح فى أرض خَيْبَر، أنها كانت عَنوة كلّها مغلوباً عليها، بخلافِ فَدَك، فإنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم جميعَ أرضِها على الغانمين لها، المُوجِفين عليها بالخيلِ والرِّكاب، وهم أهلُ الحُديبية، ولم يختلفِ العلماءُ أن أرض خَيْبَرَ مقسومة، وإنما اختلفوا: هل تُقسم الأرض إذا غُنِمَتِ البلادُ أو توقَف ؟
فقال الكوفيون: الإمام مخيَّرٌ بين قِسمتها كما فعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأرضِ خَيْبَر، وبين إيقافها كما فعل عُمَرُ بسوادِ العراق.
وقال الشافعى: تُقسم الأرض كُلُّهَا كما قَسَمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، لأن الأرضَ غنيمةٌ كسائر أموال الكفار.
وذهب مالك إلى إيقافها اتباعاً لعمر، لأن الأرض مخصوصة من سائر الغنيمة بما فعل عمر فى جماعة من الصحابة من إيقافها لمن يأتى بعده من المسلمين، وروى مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعتُ
عمر يقول: "لَوْلاَ أنْ يُتْرَكَ آخِرُ النَّاسِ لا شَىء لَهُمْ ما افْتَتَحَ المُسْلِمُونَ قَرْيَةً إلاَّ قَسَمْتُها سُهْمَاناً كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ سُهْمَاناً".
وهذا يدل على أن أرضَ خَيْبَر قُسِمَتْ كُلُّهَا سُهماناً كما قال ابنُ إسحاق.
وأما مَن قال: إن خَيْبَر كان بعضُها صلحاً، وبعضُها عَنوة، فقد وهم وغَلِطَ، وإنما دخلت عليهم الشبهةُ بالحِصنين اللَّذينِ أسلمهما أهلُهُما فى حقن دمائهم، فلما لم يكن أهلُ ذينك الحِصنين مِن الرجال والنساء والذُرِّية مغنومين، ظن أن ذلك لصلح، ولعمرى إن ذلك فى الرجال والنساء والذُرِّية، كضربٍ من الصلحِ، ولكنهم لم يتركوا أرضَهم إلا بالحصار والقتالِ، فكان حكمُ أرضهما حكمَ سائر أرضِ خَيْبَر كلِّها عَنوة غنيمةً مقسومةً بين أهلها.
وربما شُبِّهَ على مَن قال: إن نصفَ خَيْبَر صُلحٌ، ونصفها عَنوة، بحديث يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار: "أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم خَيْبَرَ نِصفين: نصفاً له، ونِصفاً لِلمسلمين".
قال أبو عمر: ولو صح هذا، لكان معناه أنَّ النِّصْفَ له مع سائر مَن وقع فى ذلك النصف معه، لأنها قُسمت على ستة وثلاثين سهماً، فوقع السهمُ للنبى صلى الله عله وسلم وطائفة معه فى ثمانية عشر سهماً، ووقع سائرُ الناس فى باقيها، وكُلُّهُم ممن شهد الحُديبية ثم خَيْبَرَ، وليست الحصونُ التى أسلمها أهلُها بعد الحصار والقتال صُلحاً، ولو كانت صُلحاً لملكها
أهلُها كما يملك أهلُ الصُّلْحِ أرضَهم وسائر أموالهم، فالحق فى هذا ما قاله ابن إسحاق دون ما قاله موسى بن عقبة وغيره عن ابن شهاب، هذا آخر كلام أبى عمر.
قلت: ذكر مالك، عن ابن شهاب، أن خَيْبَرَ كان بعضُها عَنوة، وبعضُها صلحاً، والكُتيبة أكثُرها عَنوةً، وفيها صلح، قال مالك: والكُتيبة أرضُ خَيْبَرَ، وهو أربعون ألف عَذق.
وقال مالك: عن الزهري، عن ابن المسيب: "أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افتتح بعض خيبر عنوة".
فصل
ثم انصرف رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن خَيْبَر إلى وادى القُرَى، وكان بها جماعةٌ من اليهود، وقد انضاف إليهم جماعةٌ من العرب، فلما نزلوا استقبلهم يهودُ بالرمى، وهم على غير تعبئةٍ، فقُتِلَ مِدْعَمٌ عبدُ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال النَّاس: هنيئاً له الجنَّةُ، فقال النبىُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَلاَّ والَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتى أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِم، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ لتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَاراً "، فلما سمع بذلك الناس، جاء رجل إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أو شِرَاكين، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أوْ شراكان مِنْ نارٍ".
فعبَّأ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه لِلقتال، وصفَّهم، ودفع لواءه إلى سعدِ بْنِ عُبادة، ورايةً إلى الحُباب بن المنذر، ورايةً إلى سَهل بن حُنيف، وراية إلى عبَّاد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام، وأخبرهم أنهم إن أسلموا، أحرزوا أموالهم، وحقنوا دماءَهم وحسابهم على الله، فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبيرُ بن العوَّام، فقتله، ثم برز آخرُ، فقتله، ثم برز آخر، فبرز إليه علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه فقتله، حتى قُتِلَ منهم أحد عشرَ رجلاً، كلما قُتِلَ منهم رجلٌ، دعا مَن بقى إلى الإسلامِ، وكانت الصلاة تحضُر ذلك اليومَ، فيُصلِّى بأصحابه، ثم يعودُ فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أَمْسوا، وغدا عليهم، فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطَوْا ما بأيديهم، وفتحها عَنوة، وغنمه اللهُ أموالهم، وأصابُوا أثاثاً ومتاعاً كثيراً، وأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوادى القُرَى أربعةَ أيًَّام، وقسم ما أصابَ على أصحابه بوادى القُرَى، وترك الأرضَ والنخل بأيدى اليهود، وعامَلهم عليها، فلما بلغ يهودَ تيماءَ ما واطأ عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهلَ خَيْبَر وفَدَك ووادى القُرَى، صالحوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقاموا بأموالهم، فلما كانَ زمنُ عمرَ بن الخطاب رضى الله عنه، أخرج يهود خَيْبَر وفَدَك، ولم يُخرج أهلَ تيماء ووادى القُرَى، لأنهما داخلتان فى أرض الشام، ويرى أن ما دون وادى القُرَى إلى المدينة حِجاز، وأن ما وراء ذلك مِن الشام وانصرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راجعاً إلى المدينة.
فلما كانَ ببعضِ الطريق، سار ليله حتَّى إذا كان ببعض الطريق أدركهم الكَرى، عرَّس، وقال لبلال: "اكلأ لَنا اللَّيْلَ" [ فصلَّى بلالٌ ما قُدِّر له، ونام رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه فلما تقاربَ الفجرُ استند بلال إلى راحِلته مُواجه الفجر ]، فغلبت بلالاً عيناه، وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا بلالٌ، ولا أحدٌ من أصحابه حتى ضربتهم الشمسُ، فكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوَّلَهُم استيقاظاً، فَفَزِعَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "أىْ بلالُ" ؟ فقال: أخذَ بنفسى الذى أَخَذَ بِنَفْسِكَ، بأبى أنتَ وأُمِّى يا رسولَ اللهِ. فاقتادوا رواحلهم شيئاً حتى خرجُوا مِن ذلك الوادى، ثم قال: "هذا وادٍ به شَيْطَانٌ"، فلما جاوزه، أمرهم أن ينزِلُوا وأن يتوضؤوا، ثم صلَّى سُنَّة الفجر، ثم أمر بلالاً، فأقام الصلاة، وصلَّى بالناس، ثم انصرف إليهم وقد رأى من فزعهم وقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ إنَّ اللهَ قَبضَ أَرْوَاحَنا، ولَوْ شَاءَ لَرَدَّهَا إلَيْنَا فى حِين غَيْرِ هذا، فإذا رَقَدَ أَحَدُكُم عَنِ الصَّلاةِ أَوْ نَسِيَهَا، ثُمَّ فَزِعَ إليها فَلْيُصَلِّها كمَا كانَ يُصَلِّيهَا فى وَقْتِهَا" ، ثم التفتَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبى بكر فقال: "إنَّ الشَّيْطَانَ أتى بِلالاً، وهُوَ قائِمٌ يُصَلِّى فَأضْجَعَه فَلَمْ يَزَلْ يُهدِّئه كَمَا يُهَدَّأُ الصَّبىُّ حَتَّى نام "، ثم دعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلالاً، فأخبره بمثل ما أخبر به أبا بكر.وقد رُوى أن هذه القصة كانت فى مرجعهم مِن الحدَيبية، ورُوى أنها كانت فى مرجعهم مِن غزوة تبوك، وقد روى قِصَّة النومِ عن صلاةِ
الصبح عِمرانُ بن حُصين،
ولم يُوقِّت مدتَها، ولا ذكر فى أى غزوة كانت، وكذلك رواها أبو قتادة كلاهما فى قصة طويلة محفوظة.
وروى مالك، عن زيد بن أسلم: أن ذلك كان بطريق مكة، وهذا مرسل.
وقد روى شعبة، عن جامع بن شداد، قال: سمعتُ عبد الرحمن بن أبى علقمة، قال: سمعت عبد الله بن مسعود، قال: أقبلنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زمن الحُديبية، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ يَكْلَؤنا" ؟. فقال بلال: أنا... فذكر القصة.
لكن قد اضطربت الرواةُ فى هذه القصة، فقال عبد الرحمن بن مهدى عن شعبة، عن جامع: إن الحارس فيها كان ابنَ مسعود، وقال غُنْدَرٌ عنه: إن الحارس كان بلالاً، واضطربت الرواية فى تاريخها، فقال المعتمِرُ بنُ سليمان: عن شعبة عنه: إنها كانت فى غزوة تبوك، وقال غيرُه عنه: إنها كانت فى مرجعهم من الحُديبية، فدل على وهمٍ وقع فيها، ورواية الزهرى عن سعيد سالمة مِن ذلك.. وبالله التوفيق.
فصل فى فقه هذه القصة
فيها: أن من نام عن صلاة أو نسيها، فوقتُها حينَ يستيقظ أو يذكرُها.
وفيها: أن السنن الرواتبَ تُقضَى، كما تُقضَى الفرائض، وقد قضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةَ الفجر معها، وقضى سُنَّةَ الظهر وحدها، وكان هَديُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضاءَ السنن الرواتب مع الفرائض.
وفيها: أن الفائتة يُؤذَّن لها ويُقام، فإن فى بعض طرق هذه القصة، أنه أمر بلالاً، فنادى بالصلاة، وفى بعضها: فأمر بلالاً، فأذَّن وأقام ذكره أبو داود.
وفيها: قضاء الفائتة جماعة.
وفيها: قضاؤها على الفور لقوله: "فليُصلِّها إذا ذكرها"، وإنما أخَّرها عن مكان مُعرَّسِهم قليلاً، لكونه مكاناً فيه شيطان، فارتحل منه إلى مكان خيرٍ منه، وذلك لا يفُوِّت المبادرة إلى القضاء، فإنهم فى شغل الصلاة وشأنها.
وفيها: تنبيه على اجتناب الصلاة فى أمكنة الشيطان. كالحمَّام، والحُشِّ بطريق الأَوْلى، فإن هذه منازِلُه التى يأوى إليها ويسكُنها، فإذا كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ترك المبادرةَ إلى الصلاة فى ذلك الوادى، وقال: "إن به شيطاناً" ، فما الظن بمأوى الشيطان وبيته.
فصل
ولما رجع رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، ردَّ المهاجرون إلى الأنصار منائِحَهم التى كانوا منحُوهم إياها مِن النخيل حين صار لهم بخَيْبَر مالٌ ونخيلٌ، فكانت أُمُّ سُليم وهى أُم أنس بن مالك أعطت رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِذَاقاً، فأعطاهن أُمَّ أيمن مولاته، وهى أُم أُسامة بن زيد، فردَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أُم سُليم عِذاقها، وأعطى أُم أيمن مكانهن من حائطه مكانَ كل عَذق عشرة.
فصل
وأقام رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى المدينة بعد مقدَمه مِن خَيْبَر إلى شوَّال، وبعث فى خلال ذلك السرايا.
فمنها: سريةُ أبى بكر الصِّدِّيق رضى الله عنه إلى نجدٍ قِبَلَ بنى فَزارة، ومعه سلمةُ بنُ الأكوع، فوقع فى سهمه جاريةٌ حسناء، فاستوهبها مِنه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفادى بها أسرى من المسلمين كانوا بمكة.
ومنها: سريةُ عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى ثلاثين راكباً نحو هوازن، فجاءهم الخبر، فهربوا وجاؤوا محالهم، فلم يَلْقَ منهم أحداً، فانصرف راجعاً إلى المدينة، فقال له الدليل: هل لك فى جمعٍ من خَثْعَم
جاؤوا سائرين، وقد أجدبت بلادُهم ؟ فقال عمر: لم يأمرنى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهم، ولم يَعْرِضْ لهم.
ومنها: سرية عبد الله بن رواحة فى ثلاثين راكباً، فيهم عبد الله بن أنيس إلى يسير بن رِزَام اليهودى، فإنه بلغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يجمع غَطفان لِيغزوه بهم، فأتوه بخَيْبَر فقالوا: أرسلنا إليك رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليستعملك على خَيْبَر، فلم يزالوا حتى تَبِعَهم فى ثلاثين رجلاً مع كُلِّ رجل منهم رديفٌ من المسلمين، فلما بلغوا قَرقرة نِيار وهى من خَيْبَر على ستة أميال ندم يسير، فأهوى بيده إلى سيف عبد الله بن أنيس، ففطن له عبد الله بن أنيس، فزجر بعيره، ثم اقتحم عن البعير يسوقُ القوم حتى إذا استمكن مِن يسير، ضرب رجله فقطعها، واقتحم يسير وفى يده مِخرشَ من شوحط، فضرب به وجه عبد الله فشجَّه مأمومَة، فانكفأ كُلُّ رجل من المسلمين على رديفه، فقتله غيرَ رجل مِن اليهود أعجزهم شداً، ولم يُصَبْ مِن المسلمين أحدٌ، وقدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبصق فى شجَّة عبد الله بن أنيس، فلم تَقِحْ، ولم تُؤذه حتى مات.
ومنها: سريةُ بشير بن سعد الأنصارى إلى بنى مُرَّة بفدك فى ثلاثين رجلاً، فخرج إليهم، فلقى رِعاء الشاء، فاستاق الشاءَ والنَّعم، ورجع إلى المدينة، فأدركه الطلبُ عند الليل، فباتُوا يرمونهم بالنَبْلِ حتى فنى نَبْلُ بشير وأصحابه، فولَّى منهم مَنْ ولَّى، وأُصيب منهم مَنْ أُصيب،
وقاتل بشير قتالاً شديداً، ورجع القومُ بنَعمهم وشائهم، وتحامل بشيرٌ حتى انتهى إلى فدك، فأقام عند يهود حتى برئت جِراحه، فرجع إلى المدينة
ثم بعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرية إلى الحُرَقَةِ من جُهينة، وفيهم أسامةُ بن زيد، فلما دنا منهم، بعث الأميرُ الطلائع، فلما رجعوا بخبرهم، أقبل حتى إذا دنا منهم ليلاً، وقد احتلبوا وهدؤوا، قام فحمدَ الله، وأثنى عليه بما هو أهلُه، ثم قال: أوصيكم بتقوى الله وحدَه لا شريكَ له، وأن تُطيعونى، ولا تعصونى، ولا تُخالفوا أمرى، فإنه لا رأى لمن لا يُطاع، ثم رتبهم وقال: يا فلان، أنت وفلان، ويا فلان أنت وفلان، لا يُفارِقْ كلٌ منكما صاحِبَه وزميله، وإياكم أن يَرْجع أحد منكم، فأقول: أين صاحبك ؟ فيقول: لا أدرى، فإذا كبَّرتُ، فكبِّروا، وجرَّدوا السيوف، ثم كَبَّروا، وحملوا حملة واحدة، وأحاطُوا بالقوم، وأخذتهم سيوفُ الله، فهم يضعونها منهم حيث شاؤوا، وشعارهم: أَمِتْ أمِتْ، وخرج أُسامة فى أثر رجل منهم يقال له مِرداسُ بن نَهِيك، فلما دنا منه، وَلَحَمَهُ بالسيف، قال: لا إله إلا الله، فقتله، ثم استاقوا الشَّاءَ والنَّعم والذُّرِّيَّة، وكانت سُهمانُهم عشرة أبعرة لكل رجُل أو عِدْلَها من النَّعم، فلما قَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُخبر بما صنع أُسامة، فكَبُر ذلك عليه، وقال: "أقتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ؟" فَقَالَ: إنَّمَا قالها متعوِّذاً، قال: "فَهَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِه" ثم قال: "مَنْ لَكَ بلا إله إلاَّ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ "، فما زال يُكرر ذلك عليه حتى تمنَّى أن يكون أسلمَ يومئذ وقال:
يا رسولَ الله ؛ أُعطى الله عهداَ ألا أقتُل رجلاَ يقول: لا إله إلا الله، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بعدى" فقال أُسامة: بعدك.
فصل
وبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غالب بن عبد الله الكَلبى إلى بنى المُلَوَّح بالكَدِيد، وأمره أن يُغير عليهم.
قال ابن إسحاق: فحدَّثنى يعقوبُ بن عتبة، عن مسلم بن عبد الله الجهنى، عن جندب بن مَكيث الجُهنى، قال: كنتُ فى سريته، فمضينا حتى إذا كنا بِقَدِيد لَقِينَا به الحارث بن مالك بن البَرْصَاء الليثى، فأخذناه، فقال: إنما جئتُ لأسلم، فقال له غالب بن عبد الله: إن كنتَ إنما جئتَ لِتسلم، فلا يضرُّك رِباطُ يوم وليلة، وإن كنتَ على غير ذلك، استوثقنا مِنك، فأوثقه رِباطاً وخلَّف عليه رُويجلاً أسود، وقال له: امكث معه حتى نمر عليك، فإذا عَازَّك، فاحتَّز رأسَه، فمضينا حتى أتينا بطن الكَدِيد، فنزلناه عشيةً بعد العصر، فبعثنى أصحابى إليه، فَعَمَدْتُ إلى تل يُطلعنى على الحاضر، فانبطحتُ عليه، وذلك قبلَ غروب الشمس، فخرج رجل منهم، فنظر فرآنى منبطِحاً على التل، فقال لامرأته: إنى لأرى سَواداً على هذا التلِّ ما رأيتُه فى أوَّلِ النهار، فانظرى لا تكونُ الكِلابُ اجترَّت بعضَ أوعيتك، فنظرتْ، فقالت: لا واللهِ لا أفقد شيئاً. قال:
فناولينى قوسى وسهمين من نبلى، فناولته، فرمانى بسهم، فوضعه فى جنبى، فنزعته فوضعتُه ولم أتحرك، ثم رمانى بالآخر، فوضعه فى رأس منكبى، فنزعتُه فوضعتُه ولم أتحرك، فقال لامرأته: أما واللهِ، لقد خالطه سهامى، ولو كان ربيئةً لتحرَّك، فإذا أصبحتِ، فابتغى سَهْمَىَّ فخُذيهما لا تمضغهما الكلاب علىَّ، قال: فأمهلناهم حتى إذا راحت روائحهم، واحتلبُوا وسكنوا، وذهبت عَتَمَةُ الليل، شننا عليهم الغارة، فقتلنَا مَن قتلنا، واستقنا النَّعم، فوجهنا قافلين به، وخرج صريخُهم إلى قومهم، وخرجنا سِراعاً حتى نمر بالحارث بن مالك وصاحِبه، فانطلقنا به معنا، وأتانا صريخُ الناس، فجاءنا ما لا قِبَلَ لنا به، حتى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلا بطنُ الوادى مِن قُدَيْدٍ، أرسل اللهُ عزَّ وجَلَّ من حيث شاء سيلاً، لا واللهِ ما رأينا قبل ذلك مطراً، فجاء بما لا يقدر أحد يَقْدَمُ عليه، فلقد رأيتُهم وقوفاً ينظرون إلينا ما يَقْدِرُ أحد منهم أن يقدَم عليه، ونحن نَحْدوها، فذهبنا سِراعاً حتى أسندناها فى المُشلَّل، ثم حدرناها عنه، فأعجزنا القومَ بما فى أيدينا.
وقد قيل: إن هذه السرية هى السرية التى قبلها.. والله أعلم.
فصل
ثم قدم حُسيل بن نُويرة، وكان دليلَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خَيْبَر، فقال
له النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما وراءك"؟ قال: تركتُ جمعاً من يَمَن وغَطَفَان وحيَّان، وقد بعث إليهم عُيينة: إما أن تسيروا إلينا، وإما أن نَسيرَ إليكم، فأرسلوا إليه أن سِرْ إلينا، وهم يُريدونك، أو بعضَ أطرافك، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر وعمر، فذكر لهما ذلك، فقالا جميعاً: ابعث بشير بن سعد، فعقد له لواء، وبعث معه ثلاثمائة رجل، وأمرهم أن يسيروا الليل، ويكمنُوا النهار، وخرج معهم حُسيل دليلاً، فساروا الليل وكمنوا النَّهارَ، حتى أتوا أسفلَ خَيْبَر، حتى دَنَوْا مِن القوم، فأغاروا على سرحهم وبلغ الخبرُ جمعهم فتفرَّقوا، فخرج بشير فى أصحابه حتى أتى محالَّهم، فيجدُها ليس بها أحد، فرجع بالنَّعم، فلما كانوا بسلاح، لَقُوا عيناً لعُيينة، فقتلوه، ثم لقُوا جمعَ عُيينة وعُيينة لا يشعُرُ بهم، فناوشوهم، ثم انكشفَ جمع عُيينة، وتبعهم أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأصابُوا منهم رجلين، فَقَدِمُوا بهما على النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسلما فأرسلهما.
وقال الحارث بن عوف لعُيينة وقد لقيه منهزماً تعدُو به فرسه: قف. قال: لا أقدِرُ خلفى الطلب، فقال له الحارث: أما آن لك أن تُبصرَ بعضَ ما أنت عليه، وأن محمداً قد وطأ البلادَ، وأنت تُوضع فى غير شىء؟ قال الحارث: فأقمتُ مِن حين زالت الشمسُ إلى الليل وما أرى أحداً، ولا طلبوه إلا الرعبَ الذى دخله.
فصل
وبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن أبى حَدْرَدٍ الأسلمى فى سَرِيَّة، وكان مِن قصته ما ذكر ابن إسحاق، أن رجلاً من جُشَم بنِ معاوية، يقال له:
قيس بن رفاعة، أو رِفاعة بن قيس، أقبل فى عدد كثير حتى نزلوا بالغابة يُريد أن يجمع قَيْساً على محاربة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان ذا اسم وشَرَفٍ فى جُشَم، قال: فدعانى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورجلين من المسلمين، فقال: "اخرُجُوا إلى هذا الرَّجُلِ حَتَّى تَأتُوا مِنْهُ بِخَبَرٍ وعِلْمٍ" ، فقدَّم إلينا شارفاً عجفاءَ، فَحُمِلَ عليها أحدُنا، فواللهِ ما قامت به ضعفاً حتى دعمها الرجالُ من خلفها بأيديهم حتى استقلَّت وما كادت، وقال: "تَبَلَّغُوا عَلَى هَذِهِ" فخرجنا ومعنا سِلاحُنا من النبل والسيوف، حتى إذا جئنا قريباً من الحاضر مع غروب الشمس، فكَمَنْتُ فى ناحيةٍ، وأمرتُ صاحبىَّ، فكمنا فى ناحية أُخرى مِن حاضر القوم، قلت لهما: إذا سمعتمانى قد كبَّرتُ وشددتُ فى ناحية العسكر، فكبِّرا وشُدَّا معى، فواللهِ إنَّا كذلك ننتظر أن نرى غِرة أو نرى شيئاً، وقد غَشِيَنَا الليلُ حتى ذهبت فحمة العشاء، وقد كان لهم راع قد سرح فى ذلك البلد، فأبطأ عليهم، حتى تخوَّفُوا عليه، فقام صاحبُهم رِفاعة بن قيس، فأخذ سيفَه، فجعله فى عنقه، وقال: واللهِ لأتبَعَنَّ أثر راعينا هذا، واللهِ لقد أصابه شرٌ، فقال نفر ممن معه: واللهِ لا تذهبُ، نحنُ نكفيكَ. فقال: واللهِ لا يذهبُ إلا أنا. قالوا: فنحن معك، وقال: واللهِ لا يتبعُنى منكم أحد، وخرج حتى يمرَّ بى، فلما أمكننى، نفحتُه بسهم فوضعتُه فى فؤاده، فواللهِ ما تكلَّم، فوثبتُ إليه فاحتززتُ رأسه، ثم شددتُ فى ناحية العسكر، وكبَّرتُ، وشدَّ صاحبَاى فكبَّرا، فواللهِ ما كان إلا النجاءُ ممن كان فيه: عندك عندك بكلِّ ما قدرُوا عليه من نسائهم وأبنائهم، وما خفَّ معهم من أموالهم، واستقنا إبلاً عظيمة، وغنماً كثيرة، فجئنا بها إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجئتُ برأسه أحمله معى، فأعطانى من تلك الإبل ثلاثة عشر بعيراً فى صداقى، فجمعتُ
إلىَّ أهلى، وكنتُ قد تزوجتُ امرأة من قومى، فأصدقتها مائتى درهم، فجئتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أستعينُه على نكاحى، فقال: "والله ما عندى ما أعينك"، فلبثتُ أياماً، ثم ذكر هذه السرية.
فصل
[فى بعثه سرية إلى إضَم]
وبعث سرية إلى إضَم، وكان فيهم أبو قَتادة، ومُحلِّم بن جَثَّامة فى نفر من المسلمين، فمرَّ بهم عامِرُ بن الأضبط الأشجعى على قَعودٍ له معه مُتَيِّعٌ له، ووطَبٌ مِن لَبن، فسلَّم عليهم بتحية الإسلام، فأمسكوا عنه، وحمل عليه مُحُلِّم بنُ جَثَّامة فقتله لشئ كان بينه وبينه، وأخذ بعيرَه ومُتَيِّعه، فلما قَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخبرُوه الخبر، فنزل فيهم القرآن: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيَرةٌ، كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِّنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتبَيَّنُواْ، إنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء:94]، فلما قدموا، أُخْبِرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلكَ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أقتلتَه بعد ما قال آمنتُ بالله؟".
ولما كان عامُ خَيْبَر، جاء عُيينةُ بن بدرٍ يطلُب بِدَمِ عامر بن الأضبط الأشجعى وهو سيِّدُ قَيْس، وكان الأقرعُ بنُ حابس يرُدُّ عن مُحَلِّم، وهو سيدُ خِنْدِف، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوم عامر: "هَلْ لَكُمْ أنْ تَأْخُذُوا الآن مِنَّا خَمْسِينَ بَعيراً وخَمْسِينَ إذا رَجَعْنَا إلى المدينة"؟ فقال عُيينةُ بنُ بدر: واللهِ لا أدعُه حتى أُذيقَ نساءه من الحُرقة مثل ما أذاق نسائى، فلم يزل به حتَّى رضُوا بالدية، فجاؤوا بمُحلِّم حتى يستغفر له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما قام بين يديه، قال: "اللهُمَّ لا تَغْفِرْ لمحلِّم" وقالها ثلاثاً، فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه.
قال ابن إسحاق: وزعم قومه أنه استغفر له بعد ذلك، قال ابن إسحاق: وحدَّثنى سالم أبو النضر، قال: لم يقبلوا الديةَ حتى قام الأقرعُ بنُ حابس، فخلا بهم، فقال: يا معشر قَيْس ؛ سألكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتيلاً تترُكُونه لِيُصلحَ به بين النَّاس، فمنعتمُوه إياه. أفأمِنْتُم أن يغضَبَ عليكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيغضبَ اللهُ عليكم لِغضبه، أو يلعَنَكُم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيلعَنَكُم اللهُ بلعنته، واللهِ لتُسْلِمُنَّه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو لآتِيَنَّ بخمسين من بنى تميم كُلُّهم يشهدُون أن القتيل ما صلَّى قَط فلأطُلَّنَّ دمه، فلما قال ذلك: أخذُوا الدية.
فصل
فى سرية عبد الله بن حُذافة السَّهمى
ثبت فى "الصحيحين" من حديث سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: نزلَ قولُه تعالى: {يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 59]، فى عبد الله بن حُذافة السَّهمى بعثه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سَرِيَّةٍ.
وثبت فى "الصحيحين" أيضاً من حديث الأعمش، عن سعيد بن عُبيدة، عن أبى عبد الرحمن السُّلَمى، عن علىٍّ رضى الله عنه، قال: استعملَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجُلاً مِنَ الأنصارِ على سَرِيَّةٍ، بعثَهم وأمرهم أن يسمعُوا له ويُطِيعُوا، قال: فأغضبُوه فى شىءٍ، فقال: اجمعوا لى حَطَباً، فجمعوا، فقال: أَوْقِدُوا نارا، فأوقَدُوا، ثم قال: ألم يَأْمُرْكُم رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تسمعُوا لى وتُطيعوا؟ قالُوا: بَلَى، قال: فادْخُلُوهَا، قال: فنظر بعضُهم إلى بعضٍ، وقالُوا: إنما فَرَرْنَا إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن النَّار. فَسَكَن غَضَبُهُ، وطُفِئَتِ النَّارُ، فلما قَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكرُوا ذلك له فقال: "لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا، إنَّمَا الطَّاعَةُ فى المَعْرُوف".
وهذا هو عبد الله بن حُذافة السَّهمى.
فإن قيل: فلو دخلُوها دخلُوها طاعة للهِ ورسُولِه فى ظنهم، فكانوا متأوِّلين مخطئين، فكيف يُخَلَّدُون فيها؟ قيل: لما كان إلقاءُ نفوسهم فى النار معصيةً يكونون بها قاتِلى أنفسهم، فهمُّوا بالمُبَادرة إليها من غير اجتهاد منهم: هل هُو طاعةٌ وقُربة، أو معصيةٌ؟ كانوا مُقْدِمينَ على ما هو محرَّم عليهم، ولا تَسوغُ طاعةُ ولى الأمر فيه، لأنه لا طاعةَ لمخلوق فى معصيةِ الخالق، فكانت طاعةُ مَنْ أمرهم بدخول النار معصيةً للهِ ورسوله، فكانت هذه الطاعة هى سببَ العُقوبة، لأنها نفسُ المعصية، فلو دخلُوها، لكانُوا عُصاةً للهِ ورسولِه، وإن كانوا مطيعين لولى الأمر، فلم تدفع طاعتُهم لولى الأمرِ معصيتَهم للهِ ورسوله، لأنهم قد عَلِمُوا أن مَن قتل نفسه، فهو مستحِقٌ للوعيد، واللهُ قد نهاهم عن قتل أنفسهم، فليس لهم أن يُقْدِمُوا على هذا النهى طاعة لمن لا تَجِبُ طاعتُه إلا فى المعروف.
فإذا كان هذا حُكْمَ مَنْ عذَّب نفسه طاعة لولى الأمر، فكيف مَن عذَّب مسلماً لا يجوز تعذيبُه طاعة لولى الأمر.
وأيضاً فإذا كان الصحابةُ المذكورون لو دخلُوها لما خرجوا منها مع قصدِهم طاعةَ اللهِ ورسوله بذلك الدخولِ، فكيف بمن حمله على ما
لا يجوزُ مِن الطاعة الرغبةُ والرهبةُ الدنيوية.
وإذا كان هؤلاء لو دخلُوها، لما خرجوا منها مع كونهم قصدُوا طاعة الأمير، وظنُّوا أن ذلك طاعةٌ للهِ ورسوله، فكيف بمن دخلها مِن هؤلاء المُلَبِّسين إخوان الشياطين، وأوهمُوا الجُهَّالَ أن ذلك ميراثٌ من إبراهيم الخليل، وأن النار قد تصيرُ عليهم بَرْداً وسلاماً، كما صارت على إبراهيم، وخيارُ هؤلاء ملبوسٌ عليه يظنُّ أنه دخلها بحال رحمانى، وإنما دخلها بحالِ شيطانى، فإذا كان لا يعلم بذلك، فهو ملبوس عليه، وإن كان يعلم به، فهو مُلبِّسٌ على الناس يُوهمهم أنه مِن أولياء الرحمن، وهو مِن أولياء الشيطان، وأكثرُهم يدخلها بحال بُهتانى وتحيُّل إنسانى، فهم فى دخولها فى الدنيا ثلاثةُ أصناف: ملبوسٌ عليه، وملبِّس، ومتحيِّل، ونار الآخرة أشد عذاباً وأبقى
فصل: فى عُمرة القضيِّةِ
قال نافع: كانت فى ذى القَعدة سنةَ سبع، وقال سليمان التَّيمى: لما رجعَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خيبر، بعث السَّرايا، وأقام بالمدينةِ حتى استهل ذو القَعدة، ثم نادى فى النَّاس بالخروج.
قال موسى بن عقبة: ثم خرجَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العام المقبل مِن عام الحُديبية معتمراً فى ذى القَعدة سنةَ سبع، وهو الشهر الذى صدَّه فيه المشركون عن المسجدِ الحرام، حتى إذا بلغ يَأْجُج، وضع الأداة
كُلَّهَا: الجَحَف والمِجَانَّ، والنَّبل والرِّماح، ودخلوا بسلاح الراكبِ السيوفِ، وبعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعفرَ بنَ أبى طالب بين يديه إلى ميمونة بنتِ الحارث ابن حَزْنِ العامِرِيَّة، فخطبها إليه، فجعلت أمرَها إلى العبَّاس بن عبد المطلب، وكانت أُختها أُم الفضل تحتَه، فزوَّجَهَا العباسُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما قَدِمَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمر أصحابه فقال: "اكْشِفُوا عَنِ المَنَاكِب، واسْعَوْا فى الطَّوَاف"، لِيَرَى المُشْرِكُونَ جَلَدَهم وقُوَّتَهم. وكان يُكايدُهم بكُلِّ ما استطاع، فوقف أهل مكة: الرجالُ والنساءُ والصبيانُ، ينظرون إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وهم يطوفون بالبيت، وعبدُ الله بنُ رواحة بين يدى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرتجز متوشِّحاً بالسيف يقول:
خَلُّوا بَنى الكُفَّارِ عَن ْ سَبيلِهِ ... قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمنُ فى تَنْزِيلِهِ
فى صُحُفٍ تُتْلَى عَلى رَسُولِهِ ... يَارَبِّ إنِّى مُؤْمِنٌ بِقيلِهِ
إنِّى رَأَيْتُ الحَقَّ فى قبُولِهِ ... اليَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلى تَأْوِيلِهِ
ضَرْباً يُزِيلُ الهَامَ عَنْ مَقِيلِه ... وَيُذْهِلُ الخَلِيلَ عَنْ خَلِيلهِ
وتغيَّب رجال من المشركين كراهية أن ينظُروا إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَقَاً وغيظاً، فأقامَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة ثلاثاً، فلما أصبحَ مِن اليوم الرابع، أتاه سُهَيْلُ بنُ عمروٍ، وحُويطِبُ بنُ عبد العُزَّى، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى مجلسِ الأنصارِ يتحدَّث مع سعدِ بن عُبادة، فصاح حُويطب:
نناشدُك الله والعقد لما خرَجْتَ مِنْ أرضِنَا، فقد مضت الثلاثُ، فقال: سعد بن عُبادة: كذبتَ لا أُمَّ لك، ليست بأرضِكَ ولا أرض آبائك، واللهِ لا نخرُج، ثم نادى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُويطِباً أو سُهيلاً، فقال : "إنِّى قَدْ نَكَحْتُ مِنْكُم امْرَأَةً فما يَضُرُّكُم أَنْ أَمْكُثَ حَتَّى أَدْخُلَ بِهَا، ونَضَعَ الطَعَامَ، فَنَأْكُل، وتَأكُلونَ مَعَنَا" ، فقالوا: نُنَاشِدُك الله والعقد إلا خرجتَ عنا، فأمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا رافع، فأذَّنَ بالرحيل، وركِبَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزلَ بطنَ سَرِف، فأقام بها، وخلَّف أبا رافع لِيحمِلَ ميمونَةَ إليه حين يُمسى، فأقام حتى قَدِمَتْ ميمونةُ ومَنْ معها، وقد لَقُوا أذى وعَناءً مِن سُفهاءِ المشركين وصِبيانهم، فبنى بها بِسَرِف، ثم أدلجَ وسار حتَّى قَدِمَ المدينة، وقدَّر اللهُ أن يكون قبر ميمونَةَ بِسَرِفَ حيث بنى بها.
فصل
وأما قولُ ابنِ عباس: "إن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوَّجَ مَيْمُونَةَ، وهُوَ مُحْرمٌ، وبَنَى بِهَا وهُوَ حَلالٌ" فمما استدُركَ عليهِ، وعُدَّ من وهمه، قال سعيدُ بنُ المسيِّب: ووهم ابن عباس وإن كانت خالته، ما تَزَوَّجها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بعد ما حلَّ. ذكره البخارى.
وقال يزيدُ بن الأصم عن ميمونة: تزوَّجنى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونَحْنُ حَلاَلاَنِ بِسَرِفَ. رواه مسلم.
وقال أبو رافع: تزوَّجَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيمونةَ، وهُوَ حلالٌ، وبَنَى بها وهُوَ حلال، وكُنْتُ الرَّسُولَ بينهما. صحَّ ذلك عنه.
وقال سعيدُ بنُ المسيِّب: هذا عبدُ الله بن عباس يزعُمُ أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نكح ميمونَة وهو مُحْرمٍ، وإنما قَدِم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكَّةَ، وكان الحِلُّ والنكاحُ جميعاً، فشُبِّهَ ذلك على الناس.
وقد قيل: إنه تزوَّجها قبل أن يُحرم، وفى هذا نظر إلا أن يكونَ وكَّل فى العقد عليها قبل إحرامه، وأظنُّ الشافعىَّ ذكر ذلك قولاً، فالأقوال ثلاثة:
أحدها: أنه تزوَّجها بعد حلِّه من العُمرة، وهو قولُ ميمونة نفسها، وقولُ السفير بينها وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أبو رافع، وقولُ سعيد بن المسيِّب، وجمهورِ أهل النقل.
والثانى: أنه تزوَّجها وهو مُحرِم، وهو قولُ ابن عباس، وأهلِ الكوفة وجماعة
والثالث: أنه تزوَّجها قبل أن يُحرم.
وقد حُمِلَ قولُ ابن عباس أنه تزوجها وهو مُحْرمٌ، على أنه تزوجها فى الشهر الحرام، لا فى حال الإحرام، قالوا: ويُقال: أحرم الرجلُ: إذا عقد الإحرام، وأحرم: إذا دخل فى الشهر الحرام، وإن كان حلالاً بدليل قول الشاعر:
قَتلُوا ابْنَ عَفَّانَ الخَليفَةَ مُحْرِماِ ... وَرِعاً فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَقْتُولاً
وإنما قتلُوه فى المدينة حلالاً فى الشهر الحرام.
وقد روى مسلم فى "صحيحه" من حديث عُثمانَ بن عفَّان رضى الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لاَ يَنْكِحُ المُحْرِمُ وَلاَ يُنْكَحُ، وَلاَ يَخْطُبُ".
ولو قُدِّرَ تعارضُ القولِ والفِعل ههنا، لوجب تقديمُ القولِ، لأن الفِعلَ موافق للبراءة الأصلية، والقولُ ناقل عنها، فيكون رافعاً لحكم البراءة الأصلية، وهذا موافق لقاعدة الأحكام، ولو قُدِّمَ الفِعْلُ، لكان رافعاً لموجب القول، والقولُ رافع لموجب البراءة الأصلية، فيلزمُ تغييرُ الحكم مرتين، وهو خلاف قاعدة الأحكام.. والله أعلم.
فصل
ولما أراد النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخروجَ مِن مكة، تبعتهم ابنةُ حمزةَ تُنادى:
يا عَمُّ يَا عَمُّ، فتناولها علىُّ بنُ أبى طالب رضى الله عنهُ، فأخذ بيدها، وقال لِفاطمة: دونك ابنةَ عمِّكِ، فحملتها، فاختصم فيها علىٌ وزيدٌ وجعفرٌ، فقال على: أنا أخذتُها، وهى ابنةُ عمى، وقال جعفرٌ: ابنةُ عمى وخالتُها تحتى، وقال زيد: ابنةُ أخى، فقضى بها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخالتها، وقال: "الخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ"، وقال لعلى: "أَنْتَ مِنِّى وأَنَا مِنْكَ"، وقال لجعفر: "أَشْبَهْتَ خَلْقى وخُلُقى"، وقال لزيد: "أَنْتَ أَخُونَا ومَوْلاَنَا". متفق على صحته.
وفى هذه القصة مِن الفقه: أن الخالةَ مقدَّمة فى الحَضانة على سائر الأقارِبِ بعد الأبوين.
وأن تزوُّجَ الحاضِنَة بقريب من الطفل لا يسقط حضانَتَها، نص أحمد رحمه الله تعالى فى رواية عنه على أن تزويجها لا يسقط حضانتها فى الجارية خاصة، واحتج بِقصة بنتِ حمزة هذه، ولما كان ابنُ العم ليس مَحْرَماً لم يُفرِّق بينه وبين الأجنبى فى ذلك، وقال: تَزوُّجُ الحاضنة لا يُسقط حضانتها للجارية،وقال الحسن البصرى: لا يكون تزوُّجها مُسقطاً لحضانتها بحال ذَكَراً كان الولد أو أُنثى، وقد اختُلِف فى سقوط الحضانة بالنكاح على أربعة أقوال:
أحدها: تسقط به ذَكَراً كان أو أُنثى، وهو قول مالك، والشافعى، وأبى حنيفة، وأحمد فى إحدى الروايات عنه.
والثانى: لا تسقط بحال، وهو قول الحسن، وابن حزم.
والثالث: إن كان الطفل بنتاً، لم تسقط الحضانةُ، وإن كان ذَكَراً سقطت، وهذه رواية عن أحمد رحمه الله تعالى، وقال فى رواية مهنا: إذا تزوجتِ الأمُّ وابنُها صغير، أُخِذَ منها، قيل له: والجارية مِثْلُ الصبىّ؟ قال: لا، الجاريةُ تكون معها إلى سبع سنين، وحكى ابنُ أبى موسى روايةً أُخرى عنه: أنها أحقُّ بالبنت وإن تزوَّجت إلى أن تبلغ.
والرابع: أنها إذا تزوَّجت بنسيب مِن الطفل، لم تسقط حضانتُها، وإن تزوَّجت بأجنبى، سقطت، ثم اختلف أصحابُ هذا القول على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يكفى كونُه نسيباً فقط، مَحْرَمَاً كان أو غيرَ محرم، وهذا ظاهرُ كلام أصحاب أحمد وإطلاقهم.
الثانى: أنه يُشترط كونه مع ذلك ذا رحم محرم، وهو قولُ الحنفية.
الثالث: أنه يُشترط مع ذلك أن يكون بينه وبين الطفل وِلادة، بأن يكون جداَ للطفل، وهذا قولُ بعض أصحاب أحمد، ومالك، والشافعى.
وفى القصة حُجَّة لمن قدَّم الخالة على العمَّة، وقرابةَ الأُم على قرابة الأب، فإنه قضى بها لخالتها، وقد كانت صفيَّةُ عمَّتها موجودةً إذ ذاك، وهذا قولُ الشافعى، ومالك، وأبى حنيفة، وأحمد فى إحدى الروايتين عنه.
وعنه رواية ثانية: أن العمَّة مقدَّمة على الخالة، وهى اختيارُ شيخنا.
وكذلك نساءُ الأب يُقدَّمن على نساء الأُم، لأن الولايةَ على الطفل فى الأصل للأب، وإنما قُدِّمتْ عليه الأمُّ لمصلحة الطفل وكمال تربيته، وشفقتها وحنوها، والإناثُ أقومُ بذلك من الرجال، فإذا صار الأمر إلى النساء فقط، أو الرجال فقط، كانت قرابةُ الأب أولى من قرابة الأُم، كما يكون الأبُ أولى مِن كل ذَكر سواه، وهذا قوى جداً.
ويُجاب عن تقديم خالة ابنة حمزة على عمَّتها بأن العمَّة لم تَطلُبِ الحضانة، والحضانة حق لها يُقضَى لها به بطلبه، بخلاف الخالة، فإن جعفراً كان نائباً عنها فى طلب الحضانة، ولهذا قضى بها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها فى غيبتها.
وأيضاً فكما أن لِقرابة الطفل أن يمنع الحاضنة من حضانة الطفل إذا تزوَّجت، فللزوج أن يمنعها مِن أخذه وتفرغها له، فإذا رضىَ الزوج بأخذه حيث لا تسقطُ حضانتُها لِقرابته، أو لكون الطفل أُنثى على رواية، مُكِّنَتْ من أخذه وإن لم يرض، فالحق له، والزوج ههنا قد رضىَ وخاصم فى القصة، وصفيَّة لم يكن منها طلب.
وأيضاً فابنُ العم له حضانةُ الجارية التى لا تُشتَهى فى أحد الوجهين، بل وإن كانت تُشتهَى، فله حضانتُها أيضاً، وتُسلَّم إلى امرأةٍ ثقة يختارها هو، أو إلى محرمه، وهذا هو المختارُ لأنه قريبٌ من عصباتها، وهو أولى من الأجانب والحاكم، وهذه إن كانت طفلة فلا إشكال، وإن كانت ممن يُشتهَى، فقد سُلِّمتْ إلى خالتها، فهى وزوجها من أهل الحضانة. والله أعلم.
وقول زيد: ابنة أخى، يُريد الإخاء الذى عقده رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين حمزةَ لما واخى بين المهاجرين، فإنه واخى بين أصحابه مرتين، فواخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض قبلَ الهجرة على الحقِّ والمواساة، وآخى بين أبى بكر وعمر، وبين حمزة وزيد بن حارثة، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير وابن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبى وقاص، وبين أبى عبيدة وسالم مولى أبى حذيفة، وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله.والمرة
الثانية: آخى بين المهاجرين والأنصار فى دار أنس بن مالك بعد مقدمه المدينة.
فصل
واختُلِفَ فى تسمية هذه العُمرة بعُمرة القضاء، هل هو لكونها قضاءً للعُمرة التى صُدُّوا عنها، أو من المقاضاة؟ على قولين تقدَّما، قال الواقدى: حدَّثنى عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: لم تكن هذه العُمرة قضاء، ولكن كان شرطاً على المسلمين أن يعتمِرُوا فى الشَّهر الذى حاصرهم فيه المشركون.
واختلف الفقهاءُ فى ذلك على أربعة أقوال:
أحدها: أن مَن أُحصر عن العُمرة يلزمه الهَدْى والقضاء، وهذا إحدى الروايات عن أحمد، بل أشهرُها عنه.
والثانى: لا قضاء عليه، وعليه الهَدْى، وهو قول الشافعى، ومالك فى ظاهر مذهبه، ورواية أبى طالب عن أحمد.
والثالث: يلزمه القضاء، ولا هَدْى عليه، وهو قول أبى حنيفة.
والرابع: لا قضاء عليه، ولا هَدْى، وهو إحدى الروايات عن أحمد.
فمَن أوجبَ عليه القضاء والهَدْىَ، احتج بأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه نحروا الهَدْىَ حين صُدُّوا عن البيت، ثم قَضَوْا مِن قابل، قالوا: والعُمرة تلزم بالشروع فيها، ولا يسقط الوجوبُ إلا بفعلها، ونحر الهَدْى لأجل التحلل قبل تمامها، وقالوا: وظاهِرُ الآية يُوجب الهَدْى، لقوله تعالى: {فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْىِ} [البقرة: 196]
ومَن لم يُوجبهما، قالوا: لم يأمرُ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين أُحصروا معه
بالقضاء ولا أحداً منهم، ولا وقف الحِلُّ على نحرهم الهَدْىَ، بل أمرهم أن يَحْلِقُوا رؤوسهم، وأمر مَن كان معه هَدْى أن ينحر هَدْيه.
ومَن أوجب الهَدْىَ دون القضاء احتج بقوله: {فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْىِ}.
ومَن أوجب القضاء دون الهَدْى، احتج بأن العُمرة تلزم بالشروع، فإذا أُحْصِرَ، جاز له تأخيرُها لعذر الإحصار، فإذا زال الحصر، أتى بها بالوجوب السابق، ولا يُوجب تخلل التحلل بين الإحرام بها أولاً، وبين فعلها فى وقت الإمكان شيئاً، وظاهر القرآن يردُّ هذا القول، ويُوجب الهَدْىَ دون القضاء، لأنه جعل الهَدْىَ هو جميعَ ما على المُحْصَرِ، فدلَّ على أنه يُكتفى به منه. والله أعلم.
فصل
وفى نحره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أُحصر بالحديبية، دليلٌ على أن المحصَرَ ينحر هَدْيَه وقتَ حصره، وهذا لا خلاف فيه إذا كان مُحْرِماً بعُمرة، وإن كان مفرداً أو قارناً، ففيه قولان:
أحدهما: أن الأمر كذلك، وهو الصحيح لأنه أحد النُسُكين، فجاز الحل منه، ونحرُ هَدْيه وقت حصره، كالعُمرة، لأن العُمرة لا تفوتُ، وجميعُ الزمان وقتٌ لها، فإذا جاز الحِلُّ منها ونحرُ هَدْيها مِن غير خشية فواتها، فالحجُّ الذى يُخشى فواته أولى، وقد قال أحمد فى رواية حنبل: إنه لا يَحلُّ، ولا ينحرُ الهَدْى إلى يوم النحر، ووجه هذا أنَّ للهدى محلَّ زمانٍ ومحلَّ مكانٍ، فإذا عجز عن محل المكان لم يسقُطْ عنه محلُّ الزمان لتمكنه من الإتيان بالواجب فى محله الزمانى، وعلى هذا
القول لا يجوزُ له التحللُ قبلَ يوم النحر، لقوله: {ولاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ}[البقرة: 196]
فصل
وفى نحره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحِلِّه، دليلٌ على أن المُحصَر بالعُمرة يتحلل، وهذا قولُ الجمهور. وقد رُوى عن مالك رحمه الله: أن المعتمر لا يتحلل، لأنه لا يخاف الفوت، وهذا تبعُدُ صحته عن مالك رحمه الله، لأن الآية إنما نزلت فى الحُديبية، وكان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه كُلُّهم مُحرِمينَ بعُمرة، وحلُّوا كُلُّهم، وهذا مما لا يَشُكُّ فيه أحد مِن أهل العلم.
فصل
وفى ذبحه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحُديبية وهى مِن الحل بالاتفاق، دليلٌ على أن المُحْصَرَ ينحر هَدْيه حيث أُحْصِرَ مِن حِل أو حَرَم، وهذا قولُ الجمهور وأحمد، ومالك، والشافعى.
وعن أحمد رحمه الله رواية أُخرى، أنه ليس له نحرُ هَدْيه إلا فى الحرم، فيبعثُه إلى الحرم، ويُواطئ رجلاً على أن ينحرَه فى وقت يتحلل فيه، وهذا يُروى عن ابن مسعود رضى الله عنه، وجماعة من التابعين، وهو قول أبى حنيفة.
وهذا إن صح عنهم فينبغى حملُه على الحصر الخاص، وهو أن يتعرَّضَ ظالِمٌ لجماعة أو لواحد، وأما الحصرُ العام، فالسُنَّة الثابتة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدلُّ على خلافه، والحُديبية من الحل باتفاق الناس، وقد قال الشافعى: بعضُها من الحل، وبعضُها من الحرم، قلت: ومراده أن أطرافها من
الحرم وإلا فهى من الحل باتفاقهم.
وقد اختلف أصحابُ أحمد رحمه الله فى المُحْصَر إذا قدر على أطراف الحرم، هل يلزمه أن ينحر فيه؟ فيه وجهان لهم.
والصحيحُ: أنه لا يلزمُه، لأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحرَ هَدْيَه فى موضعه مع قُدرته على أطراف الحرم، وقد أخبر اللهُ سبحانه أن الهَدْىَ كان محبوساً عن بلوغِ مَحلِّه، ونصبَ الهَدْى بوقوع فعل الصَّدِّ عليه، أى: صدُّوكم عن المسجد الحرام، وصدُّوا الهَدْى عن بلوغ محله، ومعلوم أن صَدَّهم وصدَّ الهَدْى استمر ذلك العام ولم يزل، فلم يَصِلُوا فيه إلى محل إحرامهم، ولم يَصِلِ الهدىُ إلى محل نحره، والله أعلم.
فصل: فى غزوة مؤتة
وهى بأدنى البلقاءِ من أرض الشام، وكانت فى جُمادى الأُولى سنة ثمان، وكان سببُها أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث الحارث بن عميرٍ الأَزْدِى أحَد بنى لِهْب بكتابه إلى الشام إلى ملك الروم أو بُصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغسانى، فأوثقه رِباطاً، ثم قدَّمه فضرب عنقه، ولم يُقْتَل لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولٌ غيره، فاشتد ذلك عليه حين بلغه الخبر، فبعث البعوثَ، واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: "إنْ أُصيبَ فَجَعْفَرُ بْنُ أبى طالب عَلى النَّاس، فإنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ، فَعَبْدُ الله بْنُ رَواحة". فتجهَّز الناس وهُم ثلاثةُ آلاف، فلما حضر خروجُهم، ودَّع الناسُ
أُمراءَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسلَّمُوا عليهم، فبكى عبدُ الله بنُ رواحة، فقالوا: ما يُبكيك؟ فقال: أما واللهِ ما بى حُبُّ الدنيا ولا صَبابَةٌ بكم، ولكنى سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ آيةً مِن كتاب الله يذكُر فيها النار: {وَإنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً}[مريم: 71]، فلستُ أدرى كيف لى بالصَّدَرِ بَعْدَ الوُرُودِ؟ فقال المسلمون: صحبكم اللهُ بالسلامة، ودفعَ عنكم، وردّكم إلينا صالِحين، فقال عبد الله بن رواحة:
لكِنَّنِى أَسْأَلُ الرَّحْمنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِف الزَّبدَا
أَوْ طَعْنَةً بيَدى حَرَّان مُجْهِزَةً ... بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الأَحْشَاءَ والكَبِدا
حَتَّى يُقَالَ إذا مرُّوا عَلى جَدَثى ... يَا أَرْشَدَ اللهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدا
ثم مَضَوْا حتى نزلوا مَعَان، فبلغ الناسَ أن هِرَقْل بالبلقاء فى مائة ألفٍ مِن الروم، وانضمَّ إليهم مِن لَخم، وجُذام، وبَلْقَيْن، وبَهْرَاء، وبَلي، مائةُ ألف، فلما بلغ ذلك المسلمين، أقامُوا على مَعان ليلتين ينظرون فى أمرهم وقالوا: نكتُبُ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنُخبِرُه بعدد عدونا، فإما أن يُمِدَّنا بالرجال، وإما أن يأمُرَنَا بأمره، فنمضى له، فشجع الناسَ عبدُ الله بن رواحة، فقال: يا قوم؛ واللهِ إنَّ الذى تكرهون للتى خرجتُم تطلبُون: الشهادة، وما نُقاتِلُ الناسَ بعدد ولا قُوَّة ولا كثرة، ما نُقاتلهم إلا بهذا الدين الذى أكرمنا به الله، فانطلِقُوا، فإنما هى إحدى الحُسنيين، إما ظَفَرٌ وإما شَهَادَةٌ.
فمضى الناسُ حتَّى إذا كانوا بتُخُوم البَلقاء، لقيتهم الجموعُ بقرية
يقال لها: مَشَارف، فدنا العدوُّ، وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبَّى المسلمون، ثم اقتتلوا والرايةُ فى يد زيدِ بن حارثة، فلم يزل يُقاتل بها حتى شَاطَ فى رماح القوم وخرَّ صرِيعاً، وأخذها جعفرٌ، فقاتل بها حتى إذا أرهقه القتالُ، اقتحم عن فرسه، فعقرَها، ثم قاتَل حتَّى قُتِلَ، فكان جعفر أوَّل مَن عَقَرَ فرسَه فى الإسلامِ عند القتال، فقُطِعَتْ يمينُه، فأخذ الراية بيساره، فَقُطِعَتْ يسارُه، فاحتضن الراية حتى قُتِلَ وله ثلاث وثلاثون سنة، ثم أخذها عبدُ الله بن رَوَاحةَ، وتقدَّم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزِلُ نفسه ويتردد بعض التردد، ثم نزل، فأتاه ابنُ عم له، بعَرق من لحم فقال: شُدّ بها صُلْبَك، فإنك قد لقيتَ فى أيَّامِكَ هذِهِ ما لقيت، فأخذها مِن يده، فانتهس منها نهسة، ثم سمع الحَطْمَةَ فى ناحية الناس، فقال: وأنت فى الدنيا، ثم ألقاه مِن يده، ثم أخذ سيفه وتقدَّم، فقاتل حتَّى قُتِلَ، ثم أخذ الراية ثابتُ بن أقْرَم أخو بنى عَجلان، فقال: يا معشر المسلمين؛ اصطلحُوا على رجل منكم، قالوا: أنتَ، قال: ما أنا بفاعلٍ، فاصطلح الناسُ على خالد بن الوليد، فلما أخذ الرايةَ، دافع القومَ، وحاش بهم، ثم انحاز بالمسلمين، وانصرف بالناس.
وقد ذكر ابن سعد أن الهزيمة كانت على المسلمين، والذى فى "صحيح البخارى" أن الهزيمة كانت على الروم.
والصحيح ما ذكره ابن إسحاق أن كل فئة انحازت عن الأُخرى.
وأطلع الله سبحانه على ذلك رسولَه مِن يومهم ذلك، فأخبر به أصحابه،
وقال: "لَقَدْ رُفِعُوا إلىَّ فى الجَنَّةِ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ عَلَى سُرُرٍ مِنْ ذَهَبٍ فَرَأَيْتُ فى سَرِيرِ عَبْدِ اللهِ بْن رواحة ازْوِرَاراً عَنْ سَرِيرِ صَاحِبَيْهِ، فقلت: عَمَّ هذَا؟ فقيل لى: مَضَيا، وتَرَدَّدَ عَبْدُ اللهِ بَعْضَ التَّرَدُّدِ ثُمَّ مَضَى".
وذكر عبدُ الرزاق عن ابن عيينة، عن ابن جدعان، عن ابن المسيِّب، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مُثِّلَ لى جَعْفَرٌ وَزَيدٌ وابْنُ رَوَاحةَ فى خَيْمَةٍ مِنْ دُرٍّ، كُلُّ واحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى سَرِيرٍ، فَرَأَيْتُ زَيْداً وابْنَ رَواحَةَ فى أًعْناقهما صُدُود، ورَأَيْتُ جَعْفَراً مُسْتَقِيماً لَيْسَ فِيهِ صُدُودٌ قال: فَسَأَلْتُ أوْ قِيلَ لى: إنَّهما حِينَ غَشِيَهُمَا المَوْتُ أَعْرَضَا أَو كَأَنَّهُمَا صَدَّا بِوُجُوهِهما، وأمَّا جَعْفَرٌ فَإنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ".
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى جعفر: "إنَّ الله أَبْدَلَهُ بِيَدَيْهِ جَنَاحَيْنِ يَطيرُ بِهِمَا فى الجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَ ".
قال أبو عمر: وروينا عن ابن عمر أنه قال: "وجدنا ما بين صدرِ جعفر ومنكبيه وما أقبلَ منه، تِسعين جِراحةً ما بين ضربةٍ بالسيف وطعنة بالرمح".
وقال موسى بن عقبة: قدم يعلى بن منْية على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخبر أهلِ مُؤْتة، فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنْ شِئْتَ فَأخْبِرْنى، وإنْ شِئْتَ
أخْبَرْتُكَ" ، قال: أخبرنى يا رسولَ الله، فأخبره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرَهُم كُلَّهُ، ووصفَهُم له، فقال: والَّذِى بعثَكَ بالحقِّ، ما تركتَ من حديثهم حرفاً واحداً لم تذكُرْه، وإن أمرهم لكما ذكرتَ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللهَ رَفَعَ لى الأَرْضَ حَتَّى رَأَيْتُ مُعْتَرَكَهُمْ".
واستُشهدَ يومئذ: جعفرٌ، وزيدُ بن حارثة، وعبدُ الله بن رواحة، ومسعود ابن الأوس، ووهبُ بن سعد بن أبى سَرْح، وعبَّادُ بن قيس، وحارثةُ بن النعمان، وسُراقة بنُ عمرو بن عطية، وأبو كُليب وجابر ابنا عمرو بن زيد، وعامر وعمرو ابنا سعيد ابن الحارث، وغيرهم.
قال ابن إسحاق: وحدَّثنى عبد الله بن أبى بكر أنه حُدِّثَ عن زيد بن أرقم قال: كنتُ يتيماً لعبد الله بن رواحة فى حجره فخرج بى فى سفره ذلك مُردفى على حَقيبة رَحْلِه، فواللهِ إنه ليسيرُ ليلةً إذ سمعتُه وهو يُنشد:
إذا أَدْنيْتنِى وَحَمَلْتِ رَحْلِى ... مَسِيرَةَ أرْبَعٍ بَعْدَ الحِسَاءِ
فَشَأْنكِ فانْعَمِى وخَلاَكِ ذَمٌ ... وَلاَ أرْجِعْ إلى أَهْلى وَرَائى
وَجَاءَ المُسْلِمُونَ وَغَادَرُونى ... بِأَرْضِ الشَّام مُسْتَنْهَى الثَّواءِ
فصل
وقد وقع فى الترمذى وغيره أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل مكَّة يومَ الفتح وعبدُ الله ابن رواحة بين يديه ينشد: خَلُّوا بَنِى الكفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ الأبيات.
وهذا وهم، فإن ابنَ رواحة قتل فى هذه الغزوة، وهى قبل الفتح بأربعة أشهر، وإنما كان يُنْشَدُ بين يديه شعر ابن رواحة، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل النقل.
فصل: فى غزوة ذات السلاسل
وهى وراء وادى القُرى بضم السين الأُولى وفتحها لغتان وبينها وبينَ المدينة عشرةُ أيام، وكانت فى جُمادى الآخرة سنة ثمان.
قال ابن سعد: بلغ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن جمعاً مِن قُضاعة قد تجمَّعُوا يُرِيدُونَ أن يدنُوا إلى أطراف المدينة، فدعا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرَو بن العاص، فعقد له لواءً أبيض، وجعل معه رايةً سوداءَ، وبعثه فى ثلاثمائة مِن سَراة المهاجرين والأنصار، ومعهم ثلاثون فرساً، وأمره أن يستعينَ بمن مرَّ به من بَلِيٍّ، وعُذْرَةَ، وبَلْقَينِ، فسار اللَّيل، وكَمَن النهار، فلما قَرُبَ مِن القوم، بلغه أن لهم جمعاً كثيراً، فبعث رافعُ بن مَكِيثٍ الجُهَنى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستمدُّه، فبعث إليه أبا عُبيدة بنَ الجرَّاح فى مائتين، وعقد له لِواء، وبعث له سَراة المهاجرين والأنصار، وفيهم أبو بكر، وعمرُ، وأمره أن يلحقَ بعمرو، وأن يكونا جميعاً ولا يختلِفا، فلما لحق به، أراد أبو عبيدةَ أن يَؤُمَّ الناسَ، فقال عمرو: إنما قَدِمْتَ علىَّ مدداً وأنا الأميرُ، فأطاعه أبو عبيدة، فكان عمرو يُصلِّى بالناس، وسار حتى وطئ بلاد
قضاعة، فدوّخها حتى أتى إلى أقصى بلادهم، ولقى فى آخر ذلك جمعاً، فحمل عليهم المسلمون فهربُوا فى البلاد، وتفرَّقُوا، وبعث عوفَ بن مالك الأشجعى بريداً إلى رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بقُفولهم وسلامتهم وما كان فى غزاتهم.
وذكر ابنُ إسحاق نزولَهم على ماء لِجُذام يقال له: السلسل، قال: وبذلك سميت ذات السلاسل.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبى عدى، عن داود، عن عامر قال: بعثَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيشَ ذاتِ السَّلاسِل، فاستعمل أبا عُبيدة على المهاجرينَ، واستعمل عَمْرو بنَ العاص على الأعراب، وقال لهما: "تَطَاوَعا" قال: وكانوا أُمِرُوا أن يُغيرُوا على بَكر، فانطلق عمرو، وأغار على قُضاعة لأن بكراً أخوالُه، قال: فانطلق المغيرةُ بن شعبة إلى أبى عُبيدة فقال: إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعملك علينا، وإن ابن فلان قد اتبع أمر القوم، فليس لك معه أمرٌ، فقال أبو عبيدة: إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا أن نَتَطَاوَعَ، فأنا أُطيع رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن عصاه عمرو.
فصل
وفى هذه الغزوة احتلم أميرُ الجيش عَمْرُو بن العاص، وكانت ليلةً باردة، فخاف على نفسه من الماء، فتيمَّمَ وصلَّى بأصحابه الصُّبح،
فذكرُوا ذلك للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "يا عمرو؛ صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟". فأخبره بالذى منعه مِن الاغتسال، وقال: إنى سمعتُ اللهَ يقول: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ، إنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمَاً}[النساء: 29]، فضَحِكَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يَقُلْ شيئاً، وقد احتجَّ بهذه القِصَّةِ مَنْ قال: إنَّ التيممَ لا يرفعُ الحَدَث، لأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماهُ جُنباً بعد تيممه، وأجابَ مَن نازعهم فى ذلك بثلاثة أجوبة:
أحدها: أن الصحابة لما شَكَوْه قالوا: صلَّى بنا الصبحَ، وهو جُنُب، فسأله النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك وقال: "صَلَّيْتَ بِأَصحابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟" ، استفهاماً واستعلاماً، فلما أخبره بعُذره، وأنه تيمَّم للحاجة، أقرَّه على ذلك.
الثانى: أن الرواية اختلفت عنه، فرُوى عنه فيها أنه غسل مغابِنه وتوضَّأ وضوءه للصلاة، ثم صلَّى بهم، ولم يذكر التيممَ، وكأن هذه الرواية أقوى مِن رواية التيمم، قال عبد الحق وقد ذكرها وذكر روايةَ التيمم قبلها، ثم قال: وهذا أوصلُ من الأول، لأنه عن عبد الرحمن بن جُبير المصرى، عن أبى القيس مولى عمرو، عن عمرو. والأُولى التى فيها التيمُم، من رواية عبد الرحمن بن جُبير، عن عمرو بن العاص، لم يذكر بينهما أبا قيس.
الثالث: أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يستعلِمَ فقهَ عمرو فى تركه الاغتسال، فقال له: "صَلَّيْتَ بأصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟". فما أخبره أنه تيمَّم للحاجة علم فقهه، فلم يُنكر عليه، ويدل عليه أن ما فعله عمرو من التيمم والله أعلم خَشيةَ الهلاك بالبرد، كما أخبر به، والصلاة بالتيمم فى هذه الحال جائزة غيرُ منكر على فاعلها، فعُلِم أنه أراد استعلام فقهه وعلمه، والله أعلم.
فصل: فى سرية الخَبَطَ
وكان أميرها أبا عُبيدة بن الجرَّاح، وكانت فى رجَب سنة ثمانٍ فيما أنبأنا به الحافظ أبو الفتح محمد بن سيِّد الناس فى كتاب "عيون الأثر" له، وهو عندى وهم، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
قالوا: بعثَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا عُبيدة بن الجرَّاح فى ثلاثمائة رجل من المهاجرين والأنصار، وفيهم عمرُ بن الخطاب إلى حىٍّ مِن جُهينة بالقِبْلِيَّة مما يلى ساحِلَ البحر، وبينها وبين المدينة خمسُ ليال، فأصابهم فى الطَّرِيق جوعٌ شديد، فأكلوا الخَبَطَ، وألقى إليهم البحرُ حوتاً عظيماً، فأكلوا منه، ثمَّ انصرفوا، ولم يلقَوْا كَيْداً، وفى هذا نظر، فإن فى "الصحيحين" من حديث جابر قال: "بعثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ثلاثمائة راكب، أميرُنا أبو عبيدة بن الجرَّاح نَرْصُدُ عِيراً لقريش، فأصابنا جوعٌ شديد حتى أكلنا الخَبَطَ، فسمى جيشَ الخَبَطِ، فنحر رجلٌ ثلاث جزائر، ثمَّ نحر ثلاث جزائر، ثمَّ نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عُبيدة نهاه،
فألقى إلينا البحرُ دابَّةً يقال لها: العنبرُ، فأكلنا منها نصفَ شهر، وادهنا مِن وَدَكها حتى ثَابتْ إلينا أجسامُنا، وصَلُحت، وأخذ أبو عُبيدة ضِلعاً من أضلاعه، فنظر إلى أطولِ رجُل فى الجيش، وأطولِ جملٍ، فحُمِلَ عليه ومرَّ تحتَه، وتزودنا من لحمه وَشَائقَ، فلما قدمنا المدينة، أتينا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكرنا له ذلكَ، فقال : "هُوَ رِزْقٌ أخْرَجَهُ اللهُ لَكُمْ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَىْءٌ تُطْعِمُونَا"؟، فأرسلنا إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه فأكل".
قلتُ: وهذا السياقُ يدل على أن هذه الغزوةَ كانت قبل الهُدنة، وقبلَ عُمرةِ الحُديبية، فإنه مِن حين صالح أهلَ مكة بالحُديبية لم يكن يرصُدُ لهم عِيراً، بل كان زمنَ أمنٍ وهُدنة إلى حين الفتح، ويبعُدُ أن تكون سرية الخَبَطِ على هذا الوجه مرتين: مرة قبل الصُّلح، ومرَّة بعده.. والله أعلم.
فصل: فى فقه هذه القصة
ففيها جوازُ القِتال فى الشَّهرِ الحَرامِ إن كان ذِكْرُ التاريخ فيها برجب محفوظاً، والظاهر والله أعلم أنه وهم غيرُ محفوظ، إذ لم يُحفظ
عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه غزا فى الشهر الحرام، ولا أغار فيه، ولا بعثَ فيه سريَّة، وقد عيَّرَ المشركون المسلمين بقتالهم فى أوَّل رجب فى قصة العلاء بن الحضرمى، فقالُوا: استحلَّ محمَّدٌ الشهرَ الحرامَ، وأنزل الله فى ذلك: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ، قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}[البقرة: 217]، ولم يثبُت نسخُ هذا بنص يجبُ المصيرُ إليه، ولا أجمعتِ الأُمةُ على نسخه، وقد استُدِلَّ على تحريم القِتال فى الأشهر الحُرُم بقوله تعالى: {فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}[التوبة: 5]، ولا حُجَّة فى هذا، لأن الأشهر الحُرُم ههنا هى أشهر التسيير الأربعة التى سيَّر الله فيها المشركين فى الأرض يأمنُون فيها، وكان أولها يومَ الحج الأكبر عاشرَ ذى الحِجَّة، وآخِرُها عاشِر ربيع الآخر، هذا هو الصحيحُ فى الآية لوجوه عديدةٍ، ليس هذا موضعها
وفيها: جوازُ أكل ورق الشجر عند المخمَصَةِ، وكذلك عُشْبُ الأرض.
وفيها: جوازُ نهى الإمام وأميرِ الجيش للغُزاة عن نحر ظهورهم وإن احتاجُوا إليه خشية أن يحتاجوا إلى ظهرهم عِند لقاء عدُوِّهم، ويجب عليهم الطاعةُ إذا نهاهم.
وفيها: جوازُ أكل ميتة البحر، وأنها لم تدخل فى قوله عَزَّ وجَلَّ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}[المائدة: 3]، وقد قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ}[المائدة: 5] ، وقد صحَّ عن أبى بكر الصِّدِّيق، وعبدِ الله بن عباس، وجماعةٍ من الصحابة، أن صيدَ البحر ما صِيد منه، وطعامَه ما مات فيه، وفى السنن: عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ ودَمَانِ، فَأَمَّا المَيْتَتَانِ: فَالسَّمَكُ
والجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فالكَبِدُ والطِّحَالُ"حديث حسن، وهذا الموقوف فى حكم المرفوع، لأن قولَ الصحابى: "أُحِلَّ لنا كذا، وحُرِّمَ علينا" ينصَرِفُ إلى إحلال النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحريمه.
فإن قيل: فالصحابةُ فى هذه الواقعة كانوا مضطرين، ولهذا لما همّوا بأكلها قالُوا: إنها ميتة، وقالوا: نحنُ رسلُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحنُ مضطرون، فأكلُوا، وهذا دليلٌ على أنهم لو كانوا مستغنين عنها، لما أكلُوا منها.
قيل: لا ريب أنهم كانوا مضطرين، ولكن هيأ الله لهم مِن الرزق أطيَبه وأحلَّه، وقد قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم بعد أن قَدِمُوا: "هَلْ بَقِىَ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَئ"؟ قالوا: نعم، فأكل منه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: "إنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللهُ لَكُم"، ولو كان هذا رِزق مضطر لم يأكل منه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حال الاختيار، ثم لو كان أكلهم منها للضرورة، فكيف ساغَ لهم أن يدَّهِنُوا من وَدَكهَا ويُنجِّسوا به ثيابهم وأبدانَهم، وأيضاً فكثير من الفقهاء لا يُجَوِّز الشبعَ مِن الميتة، إنما يُجَوِّزون منها سدَّ الرمق، والسَّرِيَّة أكلت منها حتى ثابت إليهم أجسامهم وسمِنُوا، وتزوَّدوا منها.
فإن قيل: إنما يتم لكم الاستدلالُ بهذه القصة إذا كانت تلك الدابَّة قد ماتت فى البحر، ثم ألقاها ميتةً، ومن المعلوم، أنه كما يُحتَمَلُ ذلك يُحتمل أن يكون البحرُ قد جَزَرَ عنها، وهىَ حية، فماتت بمُفارقة
الماء، وذلك ذكاتُها وذكاةُ حيوان البحر، ولا سبيلَ إلى دفع هذا الاحتمال، كيف وفى بعض طرق الحديث: "فجَزَرَ البَحْرُ عَنْ حُوتٍ كالظَّرِبِ".
قيل: هذا الاحتمالُ مع بُعده جِداً، فإنه يكاد يكون خرقاً للعادة، فإن مثلَ هذه الدابة إذا كانت حية إنما تكون فى لُجَّةِ البحر وثَبَجِهِ دون ساحِلِه، وما رقَّ منه ودنا من البر، وأيضاً فإنه لا يكفى ذلك فى الحِلِّ، لأنه إذا شك فى السبب الذى مات به الحيوان، هل هو سبب مبيح له أو غير مبيح؟ لم يَحِلَّ الحيوانُ، كما قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الصيد يُرمى بالسهم، ثم يُوجد فى الماء: "وإنْ وَجَدْتَّه غَرِيقاً فى المَاء، فلا تأكلْهُ فإنَّكَ لا تَدْرِى الماءُ قَتَلَه أَوْ سهمك"، فلو كان الحيوانُ البحرىُّ حراماً إذا مات فى البحر، لم يُبَحْ، وهذا مما لا يُعلم فيه خلاف بين الأئمة.
وأيضاً فلو لم تكن هذه النصوصُ مع المبيحين، لكان القياسُ الصحيحُ معهم، فإن الميتة إنما حُرِّمَتْ لاحتقان الرُّطوباتِ والفضلاتِ والدمِ الخبيث فيها، والذكاةُ لما كانت تُزيل ذلك الدم والفضلات، كانت سببَ الحِلِّ، وإلا فالموتُ لا يقتضى التحريم، فإنه حاصل بالذكاة كما يحصُلُ بغيرها، وإذا لم يكن فى الحيوان دم وفضلاتٌ تُزيلها الذكاة، لم يَحْرُمْ بالموت، ولم يُشترط لحِلِّه ذكاة كالجراد، ولهذا لا ينجَسُ بالموت ما لا نَفس له سائلة، كالذُّباب والنَّحلة، ونحوهما، والسمكُ من هذا الضرب، فإنه لو كان له دم وفضلات تحتقِن بموته، لم يَحِلَّ لموته بغير ذكاة، ولم يكن فرق بينَ موته فى الماء وموتِه خارجَه، إذ من المعلوم أن موتَه فى البر لا يُذهِبُ تلك الفضلات التى تُحرِّمُه عند المحرِّمين إذا مات فى البحر، ولو لم يكن فى المسألة نصوص، لكان هذا القياسُ كافياً.. والله أعلم.
فصل
وفيها دليل على جواز الاجتهاد فى الوقائع فى حياة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإقراره على ذلك، لكن هذا كان فى حال الحاجة إلى الاجتهاد، وعدمِ تمكنهم مِن مراجعة النص، وقد اجتهد أبو بكر، وعمر رضى الله عنهما بينَ يدى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى عدةٍ من الوقائع، وأقرَّهُما على ذلك، لكن فى قضايا جزئية مُعيَّنة، لا فى أحكام عامة وشرائع كلية، فإن هذا لم يَقَعْ منْ أحدٍ من الصحابة فى حضوره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البتة.
فصل: فى الفتح الأعظم
الذى أعزَّ اللهُ به دينَه، ورسولَه، وجنده، وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيتَه الذى جعله هُدىً للعالمين مِن أيدى الكفار والمشركين، وهو الفتحُ الذى استبشر به أهلُ السماءِ، وضربت أطنابُ عِزِّه على مَناكِبِ الجوزاء، ودخل الناسُ به فى دين الله أفواجاً، وأشرق به وجهُ الأرضِ ضِياءً وابتهاجاً، خرج له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتائِبِ الإسلام، وجُنود الرحمن سنةَ ثمانٍ لعشر مَضَيْنَ مِن رمضان، واستعمل على المدينة أبا رُهْمٍ كُلثوم بن حُصين الغِفارى. وقال ابن سعد: بل استعمل عبدَ الله بْنَ أُمِّ مكتوم.
وكان السبب الذى جرَّ إليه، وحدا إليه فيما ذكر إمامُ أهل السير والمغازى والأخبار محمد بن إسحاق بن يسار، أن بنى بَكر بن عبدِ مناة
بن كِنانة عَدَتْ على خُزاعة، وهُمْ على ماءٍ يُقال له: الوتير، فبيَّتُوهم وقتلُوا منهم، وكان الذى هاج ذلك أن رجلاً من بنى الحضرمى يقال له: مالكُ بن عبَّاد خرج تاجراً، فلما توسَّط أرضَ خُزاعة، عَدَوْا عليه فقتلُوه، وأخذُوا مالَه، فعدت بنُو بكر على رجل من بنى خُزاعة فقتلُوه، فعدت خُزاعة على بنى الأسود، وهم سَلْمَى وكُلثوم وذُؤَيْب، فقتلوهُم بِعَرَفة عند أنصاب الحَرَمِ، هذا كُلُّهُ قَبْلَ المبعث، فلما بُعِثَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاء الإسلام، حجز بينهم، وتشاغلَ الناسُ بشأنه، فلما كان صُلْحُ الحُديبية بينَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبينَ قريش، وقع الشرطُ: أنه مَن أحبَّ أن يدخل فى عَقد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهدِهِ، فَعَلَ، ومَن أحبَّ أن يدخلُ فى عَقد قريش وعَهدهم، فعل، فدخلت بنو بكر فى عَقد قُريش وعهدهم، ودخلت خُزاعة فى عَقد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهده، فلما استمرَّت الهُدنة، اغتنمها بنو بكر من خُزاعة، وأرادوا أن يُصيبُوا منهم الثأرَ القديم، فخرج نوفلُ بنُ معاوية الدِّيلى فى جماعة مِن بنى بكر، فبيَّت خُزاعة وهم على الوَتير، فأصابُوا منهم رجالاً، وتناوشُوا واقتتلوا، وأعانت قُريش بنى بكر بالسِّلاح، وقاتلَ معهم مِن قريش مَن قاتل مستخفياً ليلاً، ذكر ابن سعد منهم: صفوان بن أُمية، وحُويطب بن عبد العُزَّى، ومِكْرز بن حفص، حتى حازوا خُزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه، قالت بنو بكر: يا نوفل؛ إنَّا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك. فقال كلمة عظيمة: لا إله لَهُ اليوم، يا بنى بكر أصيبُوا ثأركم، فلعمرى إنكم لتسرِقُون فى الحرم أفلا تُصيبُونَ ثأركُم فيه؟ فلما دَخَلَتْ خُزاعة مكة، لجؤوا إلى دار بُديل بن ورقاء الخُزاعى ودار مولى لهم يقال له: رافع، ويخرج عمرو بن سالم الخُزاعى حتى
قَدِمَ على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، فوقف عليه، وهو جالس فى المسجد بين ظهرانى أصحابه فقال:
ياربِّ إنِّى نَاشِدٌ مُحَمَّدا ... حِلْفَ أَبينَا وَأبيهِ الأتْلَدا
قَدْ كُنْتُمُ وُلْدَاً وكُناوَالِدا ... ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدا
فَانْصُرْ هَداَكَ اللهُ نَصراً أَبَدا ... وادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدا ... أَبْيَضَ مِثْلَ البدْرِ يَسْمو صُعُدَا
إنْ سِيمَ خَسْفاً وَجْهُهُ تَرَبَّدَا ... فى فَيلَقٍ كالبَحْرِ يَجْرِى مُزْبِدا
إنَّ قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ المَوْعِدا ... ونَقَضُوا مِيثَاقَكَ المُؤَكَّدَا
وَجَعَلُوا لى فى كَدَاءٍ رَصَدَا ... وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تَدْعو أَحدَا
وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا ... هُمْ بَيَّتُونَا بِالوَتِيرِ هُجَّدَا
وَقَتَلُونَا رُكَّعَاً وَسُجَّدَا
يقول: قُتِلْنَا وقَدْ أَسْلَمْنَا، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نُصِرْتَ يَا عَمْرو بنَ سالم"، ثم عرضَتْ سحابةٌ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "إنَّ هذه السَّحَابَةَ لَتَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بنى كَعْبٍ"، ثم خرج بُديل بنُ ورقاء فى نَفَرٍ من خُزاعة، حتى قَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبروه بما أُصيب منهم، وبمُظَاهَرَةِ قريش بنى بكر عليهم، ثم رجعُوا إلى مكة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للناس: "كَأَنَّكُم بأَبِى سُفْيانَ، وَقَدْ جَاءَ لِيَشُدَّ العَقْدَ وَيَزِيدَ فى المُدَّة".
ومضى بُديل بنُ ورقاء فى أصحابه حتى لَقُوا أبا سفيان بنَ حرب بعُسفان وقد بعثته قريش إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَشُدَّ العقدَ، ويزيدَ فى المدة، وقد رَهِبُوا الذى صنعوا، فلما لقى أبو سفيان بُديلَ بن ورقاء، قال: من أين
أقبلتَ يا بُديل؟ فظنَّ أنه أتى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: سِرتُ فى خُزاعة فى هذا الساحل، وفى بطن هذا الوادى، قال: أَوَ ما جئتَ محمداً؟ قال: لا، فلما راح بُديل إلى مكة، قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة، لقد علفَ بها النوى، فأتى مَبْرَكَ راحِلته، فأخذ من بعرها، ففتَّه، فرأى فيها النوى، فقال: أحِلفُ باللهِ لقد جاء بُديل محمداً.
ثم خرج أبو سفيان حتى قَدِمَ المدينة، فدخل على ابنتِه أُمِّ حبيبة، فلما ذهب لِيجلس على فِراش رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، طَوَتْهُ عنه، فقال: يا بُنية؛ ما أدرى أَرغبتِ بى عن هذا الفراش، أم رغبتِ به عنى؟ قالت: بل هو فِراشُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنت مُشرك نَجَسٌ، فقال: واللهِ لقد أصابك بعدى شر.
ثم خرج حتى أتى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكلَّمه، فلم يَرُدَّ عليه شيئاً، ثم ذهبَ إلى أبى بكر، فكلَّمه أن يُكَلَّمَ لَهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عُمَرَ بنَ الخطاب فكلَّمه، فقال: أنا أشفعُ لكم إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فواللهِ لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتُكم به، ثم جاء فدخل على علىٍّ بن أبى طالب، وعنده فاطمَةُ، وحسنٌ غلامٌ يَدِبُّ بين يديهما، فقال: يا علىُّ؛ إنك أمسُّ القومِ بى رحماً، وإنى قد جئتُ فى حاجة، فلا أرْجِعَنَّ كما جئتُ خائباً، اشفع لى إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سُفيان، واللهِ لقد عزم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أمر ما نستطيعُ أن نُكَلِّمَه فيه، فالتفتَ إلى فاطمة فقال: هَلْ لَكِ أَنْ تأمُرى ابْنَك هذا، فيجير بينَ الناس،فيكون سيدَ العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: واللهِ ما يبلغُ ابنى ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحدٌ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: يا أبا الحسن؛ إنى أرى الأُمورَ قد اشتدت علىَّ، فانصحنى، قال: واللهِ ما أعلم لك شيئاً يُغنى عنك،
ولكنك سَيدُ بنى كِنانة، فقم فأجِرْ بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال: أَوَ ترى ذلك مغنيا عنى شيئاً، قال: لا واللهِ ما أظنه، ولكنِّى ما أجد لك غيرَ ذلك، فقام أبو سفيان فى المسجد فقال: أيها الناس؛ إنى قد أجرتُ بين الناس، ثم ركب بعيره، فانطلق فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئتُ محمداً فكلَّمتُه، فواللهِ ما ردَّ علىَّ شيئاً، ثم جئتُ ابن أبى قُحافة، فلم أجد فيه خيراً، ثم جئتُ عمر بن الخطاب، فوجدته أعدى العدُو، ثم جئتُ علياً فوجدته ألين القوم، قد أشار علىَّ بشئ صنعته، فواللهِ ما أدرى، هل يُغنى عنى شيئاً، أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرنى أن أجير بين الناس، ففعلتُ، فقالُوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلَك، واللهِ إن زاد الرجلُ على أن لعب بك، قال: لا واللهِ ما وجدتُ غير ذلك.
وأمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناسَ بالجَهَازِ، وأمر أهله أن يُجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضى الله عنها، وهى تُحَرِّكُ بعضَ جهاز رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: أى بُنيَّة؛ أمركنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتجهيزه؟ قالت: نعم، فتجهز. قال: فأين تَرَيْنَهُ يُريد، قالت: لا والله ما أدرى.
ثم إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، فأمرهم بالجد والتجهيز، وقال: "اللهُمَّ خُذِ العُيُونَ والأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَها فى بِلاَدِهَا"، فتجهز الناسُ.
فكتب حاطِبُ بن أبى بَلْتَعَةَ إلى قُريش كتاباً يُخبرهم بمسيرِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جعلاً على أن تُبلغه قريشاً،
فجعلته فى قُرون فى رأسها، ثم خرجَتْ به، وأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخبرُ مِن السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والزُبير، وغير ابن إسحاق يقول: بعث علياً والمقداد والزبير، فقال: انطلقا حتَّى تأتيا رَوْضَةَ خاخ، فإنَّ بها ظعينة معها كِتاب إلى قُريش، فانطلقا تَعَادى بهما خَيْلُهما، حتى وجدا المرأةَ بذلك المكانِ، فاستنزلاها، وقالا: معكِ كتابٌ؟ فقالت: ما معى كتاب، ففتشا رَحْلها، فلم يجدا شيئاً، فقال لها على رضى الله عنه: أحِلفُ باللهِ ما كذبَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا كذبنا، واللهِ لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أو لنُجَرِّدَنَّكِ، فلما رأت الجدَّ منه، قالت: أَعْرِضْ، فأعرض، فحلَّت قُرون رأسها، فاستخرجت الكِتاب منها، فدفعته إليهما، فأتيا به رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا فيه: مِن حاطب ابن أبى بَلتعة إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاطباً، فقال: ما هذا يا حَاطِبُ؟ فقال: لا تَعْجَل علىَّ يا رسولَ الله، واللهِ إنى لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددتُ، ولا بدَّلْتُ، ولكنى كُنْتُ امرءاً مُلْصَقاً فى قريش لستُ من أنفسهم، ولى فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لى فيهم قرابة، يحمونهم، وكان مَنْ معكَ لهم قراباتٌ يحمونهم، فأحببتُ إذ فاتنى ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتى، فقال عُمَرُ بنُ الخطاب: دعنى يا رسول الله أضرب عُنُقَهُ، فإنه قد خان اللهَ ورسوله، وقد نافق، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إنَّهُ قَدْ شَهدَ بَدْراً، وما يُدْريكَ يَا عُمَرُ، لَعَلَّ الله قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْملُوا مَا شِئْتُم، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُم" فَذَرَفَتْ عَيْنَا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.
ثم مضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهُوَ صائم، والناسُ صِيامٌ، حتى إذا كانوا بالكُدَيد وهو الذى تسميه النَّاسُ اليومَ قُدَيْداً أفطرَ وأفطرَ الناسُ معه.
ثم مضى حتى نزلَ مرَّ الظَّهْرَانِ، وهو بطن مَرِّ، ومعه عشرةُ آلاف، وعمَّى اللهُ الأخبارَ عن قريش، فهم على وَجَلِ وارتقاب، وكان أبو سفيان يخرج يتحسَّسُ الأخبار، فخرج هو وحكيمُ بنُ حِزام، وبُدَيْلُ بنُ ورقاء يتحسَّسُونَ الأخبار، وكان العبَّاسُ قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلماً مهاجراً، فلقى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجُحْفَةِ، وقيل: فوق ذلك، وكان مِمن لقيه فى الطريق ابنُ عمه أبو سفيان بن الحارث، وعبدُ الله بنُ أبى أُميَّة لقياه بالأبواء، وهما ابن عمِّه وابنُ عمَّته، فأعرض عنهما لِما كان يلقاه مِنهما مِن شِدَّةِ الأذى والهَجْوِ، فقالت له أُمُّ سَلَمة: لا يَكُن ابنُ عمِّكَ وابنُ عمَّتك أشقى الناس بك، وقال علىّ لأبى سفيان فيما حكاه أبو عمر: ائتِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَل وجهه، فقل له ما قال إخوةُ يوسف ليوسف: {تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}[يوسف: 91]. فإنه لا يرضى أن يكون أحدٌ أحسنَ منه قولا، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف: 92]، فأنشده أبو سفيان أبياتاً منها:
لَعَمْرُك إنِّى حينَ أَحْمِلُ رايةً ... لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللاَّتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ
لَكا لمُدْلِجِ الحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهفَ ... هذَا أوانى حِينَ أُهْدَى فَأَهْتَدِى
هَدَانِى هَادٍ غَيْرُ نَفْسِى وَدَلَّنِى ... عَلى اللهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ
فضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدرَه وقال: "أَنْتَ طَرَّدْتَنِى كُلَّ مُطَرَّدٍ" ،
وحَسُنَ إسلامُه بعد ذلك.
ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ أسلم حياءً منه، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحبه، وشهد له بالجنَّة، وقال: "أرْجُو أَنْ يَكُونَ خَلَفاً مِنْ حَمْزَة "، ولما حضرته الوفاةُ، قال: لا تَبْكُوا علىَّ، فواللهِ ما نطقتُ بخطيئة منذ أسلمتُ
فلما نزل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّ الظهران، نزله عشاء، فأمر الجيشَ، فأوقدوا النيران، فأُوقِدَت عشرةُ آلاف نار، وجعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحَرَس عُمَرَ بنَ الخطَّاب رضى الله عنه، وركب العباسُ بغلة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البيضاء، وخرج يلتمِسُ لعله يجد بعضَ الحطَّابة، أو أحداً يُخبر قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يدخلَها عَنْوَةً، قال: واللهِ إنى لأسير عليها إذ سمعتُ كلامَ أبى سفيان، وبُديل بن ورقاء وهُما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيتُ كالليلة نيراناً قطُّ ولا عسكراً، قال: يقولُ بدليل: هذه واللهِ خزاعة حَمَشَتْهَا الحَرْبُ، فيقول أبو سفيان: خُزاعة أقلُّ وأذلُّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكَرها، قال: فعرفتُ صوته، فقلت: أبا حنظلة، فعرف صوتى، فقال: أبا الفضل؟ قلتُ: نعم، قال: مالك فِداك أبى وأُمى؟ قال: قلتُ: هذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الناس، واصباحَ قُريش واللهِ، قال: فما الحيلةُ فِداك أبى وأُمى؟ قلت: واللهِ لئن ظَفِرَ بك لَيَضْرِبَنَّ عُنقَكَ، فاركب فى عجزِ هذه البغلة حتى آتىَ
بِكَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأستأمنه لك، فركب خَلْفِى ورجع صَاحِبَاه، قال: فجئتُ به، فكلما مررتُ به على نار من نيران المسلمين، قالوا: مَنْ هذَا؟، فإذا رأَوْا بغلةَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا عليها، قالوا: عمُّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بغلته، حتى مررتُ بنارِ عمر بن الخطاب، فقال: مَن هذا؟ وقام إلىَّ، فلما رأى أبا سفيان على عَجزِ الدابة، قال: أبو سفيان عَدُوُّ اللهِ، الحمد للهِ الذى أمْكَنَ مِنْكَ بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحوَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وركضتُ البغلة، فَسَبَقَتْ، فاقتحمتُ عن البغلة، فدخلتُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودخل عليه عُمَرُ، فقال: يا رسولَ الله؛ هذا أبو سفيان، فدعنى أَضْرِبْ عنقه، قال: قلتُ: يا رسول الله؛ إنى قد أجرته، ثم جلستُ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخذتُ برأسه، فقلتُ: واللهِ لا يُناجيه الليلةَ أحد دونى، فلما أكثر عُمَرُ فى شأنه، قلتُ: مهلاً ياعمر، فواللهِ لو كان مِن رجال بنى عدى بْنِ كعب ما قُلْتَ مِثْلَ هذا، قال: مهلاً يا عبَّاسُ، فواللهِ لإسْلامُكَ كَانَ أَحَبَّ إلىَّ مِنْ إسْلام الخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ، ومَا بى إلا أنِّى قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ إسْلامَكَ كَانَ أحبَّ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إسلام الخطَّاب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اذْهَبْ بِهِ يا عبَّاسُ إلى رَحْلِك، فإذا أَصْبَحْتَ فَأتنى به، فذهبتُ فلما أصبحتُ، غدوتُ به إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما رآه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَان، أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ الله"؟ قال: بأبى أنتَ وأُمى، ما أحلمكَ، وأكرمَكَ، وأوصلَكَ، لقد ظننتُ أن لو كان مع اللهِ إلهٌ غيرُه، لقد أغنى شيئاً بعد، قال: "ويحَكَ يا أبا سفيان، أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّى رَسُولُ الله"؟ قال: بأبى أنتَ وأُمى، ما أحلمكَ وأكرمَكَ وأوصلَكَ، أما هذه، فإن فى النفس حتى الآن منها شيئاً، فقال له العباس: ويحكَ أسلم، واشهد أنْ لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله قبل أن
تُضَرَبَ عُنقُك، فأسلم وشَهِدَ شهادةَ الحق، فقال العباسُ: يا رسولَ اللهِ؛ إن أبا سفيان رَجُلٌ يُحِبُّ الفخر، فاجعل له شيئاً، قال: "نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أبى سُفيان، فهُوَ آمِنٌ، ومَنْ أغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَه، فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرام، فَهُوَ آمن".
وأمر العباسَ أن يَحبِسَ أبا سفيان بمضيقِ الوادى عند خَطْمِ الجبلِ حتى تَمُرَّ به جنودُ الله، فيراها، ففعل، فمرَّتِ القبائلُ على راياتها، كلما مرَّتْ به قبيلةٌ قال: يا عباسُ؛ مَنْ هذه؟ فأقول: سُليم، قال: فيقول: مالى ولِسُليم، ثم تمرُّ به القبيلة، فيقول: يا عباسُ؛ مَنْ هؤلاء؟ فأقول: مُزَيْنَة، فيقول: مالى ولمُزَيْنَة، حتى نَفَدَتِ القبائلُ، ما تَمُرُّ به قبيلة إلا سألنى عنها، فإذا أخبرتُه بهم قال: مالى ولبنى فلان، حتى مرَّ به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى كتيبتِه الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يُرى منهم إلا الحَدَق مِن الحديد، قال: سبحان اللهِ با عباس، مَن هؤلاء؟ قال: قلتُ: هذا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة، ثم قال: واللهِ يا أبا الفضل؛ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابن أخيك الْيَوْمَ عظيماً، قال: قلتُ: يا أبا سفيان؛ إنها النُّبوة، قال: فنعم إذاً، قال: قلتُ: النَّجاء إلى قومك.
وكانت رايةُ الأنصار مع سعد بن عُبادة، فلما مرَّ بأبى سفيان، قال له: اليَوْم يَوْمُ المَلْحَمَةِ، اليومَ تُسْتَحَلُّ الحُرْمةُ، اليَوْمَ أذَلَّ اللهُ قُرَيْشَاً.
فلما حاذى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا سفيان، قال: يارسولَ الله؛ ألم تسمعْ ما قال سعد؟ قال: "وما قال"؟، فقال: كذا وكذا، فقال عثمان وعبد الرحمن بن عَوْف: يا رسولَ الله؛ ما نأمن أن يكون له فى قُريش صَوْلة، فقال رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلِ اليَوْمَ يَوْمٌ تُعَظَّمُ فيهِ الكَعْبَةُ، اليَوْمَ يَوْمٌ أَعَزَّ اللهُ فيه قُرَيْشاً". ثم أرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى سعد، فنزع منه اللواء، ودفعه إلى قيس ابنه، ورأى أن اللواء لم يخرُجْ عن سعد إذ صار إلى ابنه، قال أبو عمر: ورُوى أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزع منه الراية، دَفَعَها إلى الزبير.
ومضى أبو سفيان حتى إذا جاء قُريشاً، صرخ بأعلى صوته: يا معشرَ قُريش ؛ هذا محمد قد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به، فمَن دخل دارَ أبى سفيان، فهو آمن، فقامت إليه هندُ بنتُ عتبة، فأخذت بشَاربه، فقالت: اقتلُوا الحَميت الدسم، الأحْمَشَ السَّاقين، قُبِّح مِن طَلِيعَةِ قوم، قال: ويلكم، لا تغرَّنَّكُم هذه مِن أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قِبَلَ لكم به، مَن دخل دار أبى سفيان، فهو آمن، ومَن دخل المسجد، فهو آمن، قالوا: قاتلكَ اللهُ، وما تُغنى عنا دارُك؟ قال: ومَن أغلق عليه بابه، فهو آمن، ومَن دخل المسجد، فهو آمن، فتفرَّق الناسُ إلى دورهم وإلى المسجد
وسار رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدخل مكة من أعلاها، وضُرِبَتْ له هنالك قُبَّة، وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالدَ بنَ الوليد أن يدخلها من أسفلها، وكان على المُجَنِّبَةِ اليُمنى، وفيها أسلم، وسُليم، وغِفار، ومُزَيْنَة، وجُهينة، وقبائل مِن قبائل العرب، وكان أبو عُبيدة على الرجالة والحُسًَّرِ، وهم الذين لا سلاح معهم، وقال لخالد ومَن معه: "إن عرضَ لكم أحدٌ من قُريش، فاحصدوهم حصداً حتى تُوافونى على الصَّفا"، فما عرض لهم أحد إلا أنامُوه، وتجمَّع سفهاء قريش وأخِفَّاؤُها مع عِكرمة بن أبى جهل، وصفوان بنِ أُميَّة، وسهيل بن عمرو بالخَنْدَمَةِ لِيقاتِلُوا المسلمين، وكان حِمَاسُ
بنُ قيس بن خالد أخو بنى بكر يُعِدُّ سلاحاً قبل دخول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت له امرأتُه: لماذا تُعِدُّ ما أرى؟ قال: لِمحمد وأصحابه، قالت: واللهِ ما يقومُ لِمحمد وأصحابه شىء، قال: إنى واللهِ لأرجو أنْ أُخْدِمَك بعضهم، ثم قال:
إنْ يُقْبِلُوا اليَوْمَ فَمَا لى عِلَّهْ ... هذا سِلاَحٌ كَاملٌ وألَّهْ
وذُو غِرارَيْنِ سَريعُ السَّلهْ
ثم شهد الخَنْدَمَةَ مع صفوان وعِكرمة وسهيل بن عمرو، فلما لَقِيَهُم المسلمون ناوشوهم شيئاً من قتال، فقتل كُرز بن جابر الفهرى، وخُنَيْس بن خالد ابن ربيعة من المسلمين، وكانا فى خيل خالد بن الوليد، فشذَّا عنه، فسلكا طريقاً غيرَ طريقه، فقُتِلا جميعاً، وأُصيبَ من المشركين نحو اثنى عشر رجلاً، ثم انهزموا، وانهزم حِماس صاحبُ السلاح حتى دخل بيته، فقال لامرأته: أغلقى علىَّ بابى، فقالت: وأين ما كنت تقول؟ فقال:
إنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الخَنْدَمهْ ... إذْ فَرَّ صَفْوانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ
وَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسُّيوف المُسْلِمَهْ ... يَقْطَعْنَ كَلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ
ضَرْباً فلا نَسْمَعُ إلاَّ غَمْغَمَهْ ... لَهُمْ نَهِيتٌ حَوْلَنَا وَهَمْهَمَهْ
لَمْ تَنْطِقِى فى اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ
وقال أبو هريرة: أقبل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدخل مكة، فبعث الزبيرَ على إحدى المجنبتين، وبعث خالدَ بن الوليد على المجنبةِ الأُخرى، وبعث أبا عُبيدة ابنَ الجراح على الحُسَّر، وأخذوا بطن الوادى ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فى كتيبته، قال: وقد وبَّشت قريش أوباشاً لها، فقالوا: نُقَدِّم هؤلاء، فإن كان لِقريش شىء كنا معهم، وإن أُصيبُوا أعطينا الذى سُئِلنا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا أبا هريرة"، فقلتُ: لَبَّيْكَ رسولَ الله وسعدَيك، فقال: "اهْتِفْ لى بالأنصارِ، ولا يَأْتِينى إلاَّ أنْصارى" ، فهتف بهم، فجاؤوا، فأطافوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "أَتَروْنَ إلى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِم"؟ ثمَّ قال بيديه إحداهما على الأُخرى: "احْصُدُوهُم حَصْداً حتَّى تُوافُونِى بالصَّفَا"، فانطلقنا، فما يشاءُ أحد منا أن يقتُلَ منهم إلا شاء، وما أحد منهم وجَّه إلينا شيئاً.
ورُكِزَتْ رايةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحَجُونِ عند مسجد الفَتْح.
ثم نهض رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمهاجرون والأنصار بينَ يديه، وخلفَه وحولَه، حتى دخل المسجِدَ، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طافَ بالبيتِ، وفى يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطْعَنُها بالقوسِ ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ، إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81]{جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49] والأصنامُ تتسَاقَطُ على وجوهها.
وكان طوافُه على راحلته، ولم يكن محرماً يومئذٍ، فاقتصر على الطَّوافِ، فلما أكملهُ، دعا عثمان بنَ طلحة، فأخذ منه مفتاحَ الكعبة، فأمر بها
فَفُتحت، فدخلها فرأى فيها الصَّوَرَ، ورأى فيها صورةَ إبراهيم وإسماعيل يستقسمانِ بِالأزْلاَمِ، فقال: "قَاتَلَهُم اللهُ، واللهِ إن اسْتَقْسما بِها قطُّ".
ورأى فى الكعبة حمامة من عِيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصُّوَرِ فمُحيت.
ثم أغلق عليه البابَ، وعلى أُسامة وبلال، فاستقبل الجِدَارَ الذى يُقابل البابَ، حتى إذا كانَ بينَه وبينَه قدرُ ثلاثةِ أذْرُعٍ، وقف وصلَّى هناك، ثم دار فى البيت، وكبَّر فى نواحيه، ووحَّد الله، ثم فتح البابَ، وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنَعُ، فأخذَ بعضَادتى الباب، وهم تحتَه، فقال: "لا إلَهَ إلاَّ الله وَحْدَهُ لا شَريكَ له، صَدَقَ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ، ألا كُلُّ مَأْثُرَةٍ أوْ مَال أوْ دَم، فَهُو تَحْتَ قَدَمَى هاتين إلاَّ سِدَانة البيْت وسقَايةَ الحَاجِّ، ألا وَقَتْلُ الخَطَأ شِبْهُ العَمْدِ السَّوطُ والعَصا، ففيهِ الدِّيةُ مُغَلَّظَةً مائة مِنَ الإبلِ، أرْبَعُونَ مِنْهَا فى بُطُونِها أوْلادُها، يَا مَعْشَرَ قُرَيْش؛ إنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُم نَخْوَةَ الجَاهِلِيَّةِ وتَعظُّمَها بالآباء، النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وآدَمُ مِنْ تُرابٍ"، ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعارَفُواْ، إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات: 13].
ثم قال: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْش؛ مَا تَرَوْنَ أنِّى فَاعِلٌ بكم"؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابنُ أخ كريم، قال: "فإنِّى أقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لإخْوَتِهِ:
لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُم اليَوْمَ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ".
ثم جلس فى المسجد، فقام إليه علىٌرضى الله عنه، ومفتاحُ الكعبة فى يده، فقال: يا رسول الله؛ اجمَعْ لنا الحِجَابَة مع السِّقَاية صلَّى الله عليك، فقال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَة"؟ فدُعِىَ له،
فقال له: هَاكَ مِفْتَاحَكَ يا عُثْمَانُ، اليَوْمُ يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاء".
وذكر ابن سعد فى "الطبقات" عن عثمان بن طلحة، قال: كنا نفتحُ الكعبةَ فى الجاهلية يومَ الاثنين، والخميس، فأقبلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً يُريد أن يدخُلَ الكعبة مع الناس، فأغلظتُ له، ونِلتُ منه، فحلمَ عنِى، ثم قال: "يا عثمانُ؛ لعلَّك سترى هذا المِفتاح يوماً بيدى أضعهُ حيث شِئْتُ"، فقلتُ: لقد هلكت قريشٌ يومئذ وذلَّت، فقال: "بل عَمَرَتْ وعزَّتْ يومئذ"، ودخل الكعبة، فوقعت كلمتُه منى موقِعاً ظننتُ يومئذ أن الأمرَ سيصيرُ إلى ما قال، فلما كان يومُ الفتح، قال: يا عثمان؛ ائتنى بالمفتاح، فأتيتُه به، فأخذه منِّى، ثم دفعه إلىَّ وقال: "خُذُوها خَالِدَةً تَالِدَةً لا يَنْزِعُها مِنْكُم إلاَّ ظَالِمٌ، يا عُثمانُ؛ إنَّ اللهَ اسْتَأْمَنَكُم عَلَى بَيْتهِ، فَكُلُوا مِمَّا يَصِلُ إلَيْكُم مِنْ هذا البَيْت بالمَعْرُوف"، قال: فلما ولَّيتُ، نادانى، فرجَعْتُ إليه فقال: "أَلَمْ يَكُنِ الَّذى قُلْتُ لَكَ"؟ قال: فذكرتُ قوله لى بمكة قبل الهجرة: "لعلك سترى هذا المفتاح بيدى أضعه حيث شِئتُ"، فقلتُ: بلَى أَشْهَدُ أنَّكَ رَسُولُ الله.
وذكر سعيدُ بن المسيِّب أن العباس تطاولَ يومئذٍ لأخذ المفتاح فى رجال من بنى هاشم، فردَّه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عثمان بن طلحة.
وأمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلالاً أن يصعَد فيؤذِّنَ على الكعبة، وأبو سفيان بنُ حرب، وعتَّابُ بنُ أسيد، والحارثُ بنُ هِشام، وأشرافُ قريش جُلوسٌ بِفِناء الكعبة، فقال عتَّاب: لقد أكرم الله أسيداً ألا يكون سَمِعَ هذا، فيسمعَ منه ما يُغِيظُه، فقال الحارث: أما واللهِ لو أعلم أنه حقٌ لاتبعته،
فقال أبو سفيان: أما واللهِ لا أقول شيئاً، لو تكلمتُ، لأخبرت عنى هذه الحصباءُ، فخرج عليهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لهم: "قَدْ عَلِمْتُ الَّذِى قُلْتُم" ، ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتَّاب: نشهد أنكَ رسول الله، واللهِ ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول: أخبرك
فصل
ثم دخل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دارَ أُمِّ هانئ بنت أبى طالب، فاغتسل، وصلَّى ثمانَ ركعات فى بيتها، وكانت ضُحَىً، فظنها مَن ظنها صلاةَ الضحى، وإنما هذه صلاةُ الفتح، وكان أُمراءُ الإسلام إذا فتحوا حِصناً أو بلداً، صلَّوْا عَقِيبَ الفتح هذه الصلاةَ اقتداءً برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفى القصة ما يدل على أنها بسبب الفتح شكراً لله عليه، فإنها قالت: ما رأيتُه صلاها قبلَها ولا بعدَها.
وأجارت أُم هانئ حَمَوَيْنِ لهَا، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ أجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هانئ".
فصل
ولما استقر الفتح، أمَّنَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ كُلَّهُم إلا تسعة نَفَر، فإنه أمر بقتلهم،وإن وُجِدُوا تحتَ أستارِ الكعبةِ، وهم عبدُ الله بن سعد بن أبى سَرْح، وعِكْرِمةُ بن أبى جهل، وعبد العُزَّى بن خَطَل، والحارثُ بنُ نُفيل ابن وهب، ومَقِيس بن صُبابة، وهَبَّار بن الأسود، وقينتان لابن خَطَل، كانتا تُغَنِّيان بهجاءِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسارةُ مولاةٌ لبعض بنى عبد المطلب.
فأما ابنُ أبى سَرْح فأسلم، فجاء به عثمانُ بن عفان، فاستأمن له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقبل منه بعد أن أمسك عنه رجاء أن يقومَ إليه بعضُ الصحابة فيقتله، وكان قد أسلم قبل ذلك، وهاجر، ثم ارتدَّ، ورجع إلى مكة.
وأما عِكرمةُ بنُ أبى جهل، فاستأمَنَت له امرأتُه بعد أن فرَّ، فأمَّنه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِمَ وأسلم وحَسُنَ إسلامه.
وأما ابنُ خَطَل، والحارث، ومَقِيس، وإحدى القَينتين، فقُتِلُوا، وكان مقيسٌ، قد أسلم، ثم ارتدَّ وقَتَلَ، ولَحِقَ بالمشركين، وأما هَبَّار بن الأسود، فهو الذى عرض لزينبَ بنتِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين هاجرت، فنخَس بها حتى سقطت على صخرة، وأسقطت جنينَها، ففرَّ، ثم أسلم وحَسُنَ إسلامُه.
واستؤمن رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسارة ولإحدى القَينتين، فأمَّنَهُمَا فأسلمتا.
فلما كان الغدُ مِن يوم الفتح، قامَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الناس خطيباً،
فَحَمِدَ اللهَ وأثنَى عليه، ومجَّده بما هُوَ أهلُه، ثم قال: "يا أيُّهَا النَّاسُ؛ إنَّ اللهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ، فهى حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، فَلا يَحِلُّ لامْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخرِ أنْ يَسْفِكَ فيها دَماً أوْ يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً، فإنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقولوا: إنَّ اللهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، ولَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وإنَّمَا حَلَّتْ لى سَاعَةً مِنْ نَهارٍ، وقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كحُرْمَتِهَا بالأمْس، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغائبَ".
ولما فتح اللهُ مكة على رسوله، وهى بلدُه، ووطنُه، ومولدُه، قال الأنصار فيما بينهم: أترون رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ فتحَ الله عليه أرضَه وبلدَه أن يُقيمَ بها، وهو يدعو على الصفا رافِعاً يديه؟ فلما فرغ من دُعائه، قال: "ماذا قلتم"؟ قالوا: لا شىء يا رسولَ الله، فلم يَزَلْ بهم حتَّى أخبروه، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَعَاذَ الله، المحْيَا مَحياكُم، والمَمَاتُ مَمَاتُكم".
وهمَّ فَضَالةُ بن عُمير بن الملِّوح أن يقتُلَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يطوف بالبيت، فلما دنا منه، قال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أفَضَالة"؟ قال: نعم فَضَالة يا رسولَ الله، قال: "ماذا كنتَ تُحَدِّثُ به نفسَك"؟ قال: لا شىء، كنتُ أذكر الله، فَضَحِكَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: "اسْتَغْفِرِ الله"، ثم وضع يده
على صدره، فسكن قلبُه، وكان فَضَالة يقول: واللهِ ما رَفَعَ يدَه عن صدرى حتى ما خَلَقَ اللهُ شيئاً أحبَّ إلىَّ منه، قال فَضَالة: فرجعتُ إلى أهلى، فمررتُ بامرأة كنتُ أتحدث إليها، فقالت: هلمَّ إلى الحديث، فقلت: لا، وانبعث فَضَالة يقول:
.قَالَتْ هَلُمَّ إلى الحَدِيثِ فَقُلْتُ لا ... يأْبَى عَلَيْك اللهُ والإسْلامُ
لَوْ قدْ رَأَيْتِ مُحَمَّداً وقَبِيلهُ ... بِالفَتْحِ يَوْم َ تُكَسَّرُ الأصْنَامُ
لَرَأَيْتِ دِينَ اللهِ أَضْحَى بَيِّناً ... والشِّرْكُ يَغْشِى وَجْهه الإظْلامُ
وفرَّ يومئذ صفوانُ بن أُميَّة، وعِكرمةُ بنُ أبى جهل، فأما صفوانُ، فاستأمن له عُميرُ بن وهب الجُمَحى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمَّنه وأعطاه عِمامته التى دخل بها مكة، فلحقه عميرٌ وهو يُريدُ أن يركب البحر فردَّه،فقال: اجعلنى فيه بالخيار شهرين، فقال: أنت بالخيار فيه أربعة أشهر.
وكانت أُمُّ حكيم بنتُ الحارث بن هشام تحتَ عِكرمة بن أبى جهل، فأسلمت، واستأمنت له رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمَّنه فَلَحِقَتْ بِهِ باليمن، فأمَّنته فردَّته، وأقرهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وصفوان على نكاحهما الأول.
ثم أمرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تميم بن أسيد الخُزاعى فجدَّد أنصاب الحرم.
وبثَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سراياه إلى الأوثان التى كانت حولَ الكعبة، فكُسِّرَتْ كُلُّهَا مِنها اللات والعُزَّى، ومنَاةُ الثالثةُ الأُخرى، ونادى منادِيهِ بمكة: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، فلا يَدَعْ فى بَيْتِهِ صَنماً إلا كسَره"
فبعث خالد بن الوليد إلى العُزَّى لِخمس ليال بقينَ من شهر رمضان ليهدمها، فخرج إليها فى ثلاثين فارساً مِن أصحابِهِ حتَّى انْتَهَوا إليها، فهدمها ثم رجع إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره، فقال: "هَلْ رَأَيْتَ شَيْئاً"؟ قال: لا، قال: "فإنَّك لم تَهْدِمْهَا فارْجِعْ إليها فاهدِمْهَا"، فرجع خالد وهو متغيِّظ فجرَّد سيفَه، فخرجت إليه امرأة عجوز عُريانة سوداءُ ناشرة الرأس، فجعل السَّادِنُ يصيحُ بها، فضربها خالد فجزلَها باثنتين، ورجع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره، فقال: "نَعَمْ تِلْكَ العُزَّى، وقَدْ أَيِسَتْ أنْ تُعْبَدَ فى بِلادِكُمْ أَبَداً" وكانت بنخلة، وكانت لِقريش وجميعِ بنى كِنانة، وكانت أعظمَ أصنامِهم، وكان سدنتُها بنى شيبان.
ثم بعثَ عَمْرَو بن العاص إلى سُواع، وهو صنم لهُذَيْل ليهدمه، قال عَمْرو: فانتهيتُ إليه وعنده السَّادِن، فقال: ما تُريد؟ قلتُ: أمرنى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أهْدِمَه، فقال: لا تَقدِرُ على ذلك، قلت: لِمَ؟ قالت: تُمنع. قلتُ: حتَّى الآن أنت عَلى الباطِل، ويحك، فهل يَسْمَعُ أو يُبْصِرُ؟، قال: فدنوتُ منه فكسرتُه، وأمرتُ أصحابى فهدموا بيت خزانته فلم نجدْ فيه شيئاً، ثم قلتُ للسَّادِن:كيف رأيتَ؟ قال: أسلمتُ لله.
ثم بعثَ سعد بن زيد الأشهلى إلى مَنَاة، وكانت بالمُشَلَّل عند قُديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم، فخرج فى عشرين فارساً حتى انتهى إليها وعندها سادِنٌ، فقال السَّادِنُ: ما تُريدُ؟ قلتُ: هَدْمَ مَنَاة، قال: أنتَ
وذاك، فأقبل سعدٌ يمشى إليها، وتخرُج إليه امرأة عُريانة سوداءُ، ثائرة الرأس، تدعو بالويل، وتَضْرِبُ صدرَها، فقال لها السَّادِنُ: مَنَاة؛ دونك بعضَ عُصاتك، فضربها سعد فقتلَها، وأقبل إلى الصنم، ومعه أصحابه فهدمه، وكسروه، ولم يجدوا فى خزانته شيئاً.
ذكر سرية خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة
قال ابنُ سعد: ولما رجع خالدُ بن الوليد من هَدْم العُزَّى، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقيمٌ بمكة، بعثه إلى بنى جُذيمةَ داعياً إلى الإسلام، ولم يبعثه مقاتلاً، فخرج فى ثلاثمائة وخمسين رجلاً مِن المهاجرين والأنصار وبنى سُليم، فانتهى إليهم، فقال: ما أنتم؟ قالوا: مسلمون قد صلَّينا وصدَّقنا بمحمد وبنينا المساجدَ فى ساحتنا، وأذَّنا فيها، قال: فما بالُ السلاح عليكم؟ قالوا: إن بينَنا وبَيْنَ قومٍ من العرب عداوةً، فخِفنا أن تكونُوا هم، وقد قيل: إنهم قالوا صبأنا، ولم يُحسِنُوا أن يقولُوا: أسلمنا، قال: فضعُوا السلاح، فوضعُوه، فقال لهم: استأسِرُوا، فاستأسرَ القومُ، فأمر بعضَهم فكتف بعضاً، وفرَّقهم فى أصحابه، فلما كان فى السَّحَر، نادى خالدُ بن الوليد: مَن كان معه أسيرٌ، فليضرِبْ عُنُقَه، فأما بنو سُليم فقتلُوا مَن كان فى أيديهم، وأما المهاجرون والأنصار، فأرسلوا أسراهم، فبلغ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما صنع خالِدٌ، فقال: "اللهُمَّ إنِّى أبْرأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ" ، وبعث علياً يُودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم.
وكان بين خالدٍ وعبدِ الرحمن بن عَوْف كلامٌ وشرٌ فى ذلك، فبلغ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "مَهْلاَ يَا خَالدُ، دَعْ عَنْكَ أَصْحَابِى فَوَاللهِ لَوْ كَانَ لَكَ أُحُدٌ ذَهَباً ثُمَّ أَنْفَقْتَهُ فى سَبِيلِ اللهِ مَا أدْرَكْتَ غَدْوَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِى وَلا رَوْحَتَه".
فصل
وكان حسَّانُ بن ثابت رضى الله عنه قد قال فى عُمْرة الحُديبية:
عَفَتْ ذَاتُ الأَصَابعِ فالجِوَاءُ ... إلى عَذْراءَ مَنْزِلُها خَلاَءُ
دِيَارٌ مِنْ بَنِى الحَسْحَاسِ قَفْرٌ ... تُعَفِّيها الرَّوَامِسُ والسَّماءُ
وكَانَتْ لاَ يَزَالُ بِهَا أنِيسٌ ... خِلالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وشَاءُ
فَدَعْ هذَا ولكِن مَنْ لِطَيفٍ ... يُؤَرِّقُنِى إذَا ذَهَبَ العِشَاءُ
لشَعْثَاءَ الَّتى قَدْ تَيَّمَتْهُ ... فَلَيْسَ لِقَلْبَهِ مِنْهَا شِفَاءُ
كَأنَّ خَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ
إذَا ما الأشْرِباتُ ذُكِرْنَ يَوْمَاً ... فَهُنَّ لِطَيِّبِ الرَّاحِ الفِداءُ
نُوَلِّيها المَلاَمَةَ إن أَلَمْنا ... إذَا مَا كَانَمَغْثٌ أَو لحَاءُ
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكَنَا مُلُوكاً ... وَأُسْداً مَا يُنَهْنِهُنا اللِّقَاءُ
عدِمْنَا خَيْلَنَاإنْ لَمْ تَرَوْهَا ... تُثيرُ النَّقْعَ مَوْعِدُهَا كدَاءُ
يُنَازِعْنَ الأَعِنَّةَ مُصْعِدَاتٍ ... عَلَى أَكْتَافِهَا الأَسَلُ الظِّمَاءُ
تَظَلُّ جِيادُنَا مُتمَطِّراتٍ ... تُلَطِّمُهُنَّ بِالخُمُرِ النِّسَاءُ
فَإمَّا تُعْرِضُوا عَنَّا اعْتَمَرْنَا ... وَكَانَ الفَتْحُ وانْكَشَفَ الغِطَاءُ
وَإلاَّ فَاصْبِرُوا لجِلاد يَوْمٍ
... يُعِزُّ اللهُ فِيه مَنْ يَشَاءُ
وَجِبْريلٌ رَسُولُ اللهِ فِينَا ... وَرُوحُ القُدْس لَيْس لَهُكِفَاءُ
وَقَالَ اللهُ قَدْ أرْسَلْتُ عَبْداً ... يَقُولُ الحَقَّ إنْ نَفَعَ البلاءُ
شَهِدْتُ بِهِ فَقُوموا صدِّقوهُ ... فَقُلْتُمْ لاَ نَقُومُ ولا نَشَاءُ
وَقَالَ اللهُ قَدْ سَيَّرْتُ جُنْداً ... هُمُ الأنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ
لَنَا فى كُلّ ِ يَوْمٍ مِنْ مَعَدٍّ ... سِبَابٌ أوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ
فَنُحْكِمُ بِالقَوَافِى مَنْ هَجَانَا ... وَنَضْرِبُ حِينَ تَخْتَلِطُ الدِّماءُ
أَلا أَبْلِغْ أبَا سُفْيانَ عَنِّى ... مُغَلْغَلَةً فَقَدْ بَرِحَ الخَفَاءُ
بِأَنَّ سَيُوفَنَا تَرَكَتْكَ عَبْدا ... وَعَبْدُ الدَّارِ سادَتُهَا الإمَاءُ
هَجَوْتَ مُحَمَّدا ً فأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللهِ فى ذَاكَ الجَزَاءُ
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَاالفِدَاءُ
هَجَوْتَ مُبَاركاً بَرّاً حَنِيفاً ... أَمِينَ اللهِ شِيمَتُهُ الوَفَاءُ
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُه سَوَاءُ
فإنَّ أبى وَوَالِدَه ُ وعِرْضِى ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقاءُ
لِسَانِى صَارِمٌ لاَ عَيْبَ فِيهِ ... وَبَحْرِى لا تُكَدِّرُهُ الدِّلاءُ
فصل: فى الإشارة إلى ما فى الغزوة من الفقه واللَّطائف
كان صلحُ الحديبية مقدِّمةً وتوطئة بينَ يدى هذا الفتح العظيم، أَمِنَ الناسُ به، وكلَّم بعضُهم بعضاً وناظره فى الإسلام، وتمكن مَن اختفى مِن المسلمين بمكة من إظهار دينه، والدعوةِ إليه، والمناظرةِ عليه، ودخل بسببه بَشَرٌ كثيرٌ فى الإسلام، ولهذا سمَّاه الله فتحاً فى قوله: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً}[الفتح: 1]، نزلت فى شأن الحُديبية، فقال عمر: يا رسول الله ؛ أَوَ فتحٌ هو؟ قال: "نعم". وأعاد سبحانه وتعالى ذكر كونه فتحاً، فقال: {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ}إلى قوله: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً}[الفتح: 27] وهذا شأنه سبحانه أن يُقدِّم بين يدى الأُمور العظيمة مقدِّماتٍ تكونُ كالمدخل إليها، المنبهة عليها، كما قدَّم بين يدى قصة المسيح وخلقه مِن غير أب، قِصة زكريا، وخلقِ الولد له مع كونه كبيراً لا يُولد لمثله، وكما قدَّم بين يدى نسخ القِبْلة قصةَ البيت وبنائه وتعظيمه، والتنويه بِه، وذِكْر بانيه، وتعظِيمهِ، ومدحه، ووطأ قبل ذلك كُلِّه بذكر النسخ، وحكمته المقتضية له، وقُدرته الشاملة له، وهكذا ما قدَّم بين يدى مبعث رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من قصة الفيل،
وبِشارات الكُهَّان به، وغير ذلك، وكذلك الرُّؤيا الصالحة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت مقدِّمةً بين يدى الوحى فى اليقظة، وكذلك الهِجرة كانت مقدِّمةً بين يدى الأمر بالجهاد، ومَن تأمل أسرار الشرع والقدر، رأى من ذلك ما تَبْهَرُ حِكمتُه الألبابَ.
فصل
[فى أن أهل العهد إذا حاربوا مَن هم فى ذِمَّة الإمام وجواره وعهده يصيرون حرباً له بذلك]
وفيها: أن أهل العهد إذا حاربُوا مَن هم فى ذمة الإمام وجواره وعهده، صارُوا حرباً له بذلك، ولم يبق بينهم وبينه عهدٌ، فله أن يُبَيِّتَهم فى ديارهم، ولا يحتاجُ أن يُعلِمَهُمْ على سواء، وإنما يكون الإعلامُ إذا خاف منهم الخيانَة، فإذا تحقَّقها، صاروا نابذين لعهده.
فصل
وفيها: انتقاضُ عهد جميعهم بذلك، رِدْئهم ومُباشِرِيهم إذا رضُوا بذلك، وأقرُّوا عليه ولم يُنكروه، فإن الذين أعانُوا بنى بكر مِن قُريش بعضُهم، لم يُقاتِلُوا كُلُّهم معهم، ومع هذا فغزاهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلَّهم، وهذا كما أنهم دخلوا فى عقد الصلح تبعاً، ولم ينفرِدْ كلُّ واحد منهم بصُلح، إذ قد رَضُوا به وأقرُّوا عليه، فكذلك حُكم نقضهم للعهد، هذا هَدْىُ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذى لا شك فيه كما ترى.
وطردُ هذا جريانُ هذا الحكمِ على ناقضى العهد مِن أهل الذِّمة إذا رضى جماعتُهم به، وإن لم يُباشر كُلُّ واحد منهم ما ينقُضُ عهده، كما
أجلى عُمَرُ يهودَ خيبر لما عدا بعضُهم على ابنه، ورَمَوْه مِن ظهر دار فَفَدَعُوا يده، بل قد قتل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جميع مقاتلة بنى قُريظة، ولم يسأل عن كل رجل منهم: هل نقض العهد أم لا؟ وكذلك أجلى بنى النَّضير كُلَّهم، وإنما كان الذى هَمَّ بالقتل رجلان، وكذلك فعلَ ببنى قَيْنُقَاع حتى استوهبهم منه عبدُ الله ابن أُبَىّ، فهذه سيرتُه وهَدْيُه الذى لا شك فيه، وقد أجمع المسلمون على أن حكم الرِّدء حكمُ المباشِرِ فى الجهاد، ولا يُشترط فى قسمة الغنيمة، ولا فى الثواب مباشرةُ كل واحدٍ واحدٍ القتال.
وهذا حكمُ قُطَّاع الطريق، حكمُ ردئهم حكمُ مباشرهم، لأن المباشِرَ إنما باشر الإفساد بقوة الباقين، ولولاهم ما وصل إلى ما وصل إليه، وهذا هو الصوابُ الذى لا شك فيه، وهو مذهبُ أحمد،ومالك،وأبى حنيفة، وغيرهم.
فصل
وفيها: جوازُ صلح أهلِ الحرب على وضع القِتال عشرَ سنين، وهل يجوزُ فوق ذلك؟ الصواب: أنه يجوزُ للحاجة والمصلحة الراجِحة، كما إذا كان بالمسلمين ضعفٌ وعدوُّهم أقوى منهم، وفى العَقد لِما زاد عن العشر مصلحةٌ للإسلام.
فصل
وفيها: أن الإمام وغيرَه إذا سُئل ما لا يجوز بذلُه، أو لا يجبُ،
فسكت عن بذله، لم يكن سكوتُه بذلاً له، فإن أبا سفيان سأل رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تجديدَ العهد، فسكتَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يجبه بشئ، ولم يكن بهذا السكوتِ معاهِداً له.
فصل
وفيها: أن رسولَ الكفار لا يُقتل، فإن أبا سفيان كان ممن جَرَى عليه حُكْمُ انتقاضِ العهد، ولم يقتُلْه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ كان رسولَ قومه إليه.
فصل
وفيها: جوازُ تبييتِ الكفار، ومُغافَضَتُهم فى ديارهم إذا كانت قد بلغتهم الدعوةُ، وقد كانت سرايا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبيِّتُون الكفَّار، ويُغيرون عليهم بإذنه بعد أن بلغتهم دعوتُه.
فصل
وفيها: جوازُ قتل الجاسوسِ وإن كان مسلماً لأن عمر رضى الله عنه سأل رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتلَ حاطب بن أبى بَلتعةَ لما بعثَ يُخبر أهلَ مكة بالخبر، ولم يقل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يَحِلُّ قتله إنه مسلم، بل قال: "ومَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُم" فأجاب بأن فيه مانعاً من قتله، وهو شهودهُ بدراً، وفى الجواب بهذا كالتنبيه على جواز
قتل جاسوسٍ ليس له مِثْلُ هذا المانع، وهذا مذهب مالك، وأحد الوجهين فى مذهب أحمد، وقال الشافعى وأبو حنيفة: لا يُقتل، وهو ظاهر مذهب أحمد، والفريقان يحتجون بقصة حاطب، والصحيح: أن قتله راجع إلى رأى الإمام، فإن رأى فى قتله مصلحة للمسلمين، قتله، وإن كان استبقاؤه أصلحَ، استبقاه.. والله أعلم.
فصل
وفيها: جوازُ تجريدِ المرأة كُلِّها وتكشيفها للحاجة والمصلحةِ العامة، فإن علياً والمقداد قالا للظعينة: لتُخْرِجِنَّ الكتابَ أو لنكْشِفَنَّك، وإذا جاز تجريدُها لحاجتها إلى حيث تدعو إليها، فتجريدُها لمصلحة الإسلام والمسلمين أولى.
فصل
وفيها: أن الرجل إذا نَسَبَ المسلم إلى النفاقِ والكُفْرِ متأوِّلاً وغضباً للهِ ورسوله ودينه لا لهواه وحظه، فإنه لا يكفُر بذلك، بل لا يأثمُ به، بل يُثاب على نيِّته وقصده، وهذا بِخِلاف أهل الأهواء والبدع، فإنهم يُكفِّرون ويُبدِّعُون لمخالفة أهوائهم ونحلهم، وهم أولى بذلك ممن كفَّروه وبدَّعوه.
فصل
وفيها: أن الكبيرةَ العظيمَةَ مما دون الشركِ قد تُكَفَّرُ بالحسنةِ الكبيرةِ
الماحية، كما وقع الجَسُّ مِن حاطب مكفَّراً بشهوده بدراً، فإن ما اشتملت عليه هذه الحسنةُ العظيمةُ مِن المصلحة، وتضمنتهُ مِن محبة الله لها ورضاه بها، وفرحِه بها، ومباهاتِه للملائكة بفاعلها، أعظمُ مما اشتملت عليه سيئةُ الجسِّ مِن المفسدة، وتضمَّنَتْهُ مِن بغضِ الله لها، فغلب الأقوى على الأضعفِ، فأزاله، وأبطل مقتضاه، وهذه حكمةُ الله فى الصحة والمرض الناشئين من الحسنات والسيئات، الموجبينِ لصحةِ القلب ومرضه، وهى نظيرُ حكمته تعالى فى الصحة والمرضِ اللاحِقين للبدن، فإن الأقوى منهما يَقْهَرُ المغلوبَ، ويصير الحكمُ له حتى يذهبَ أثرُ الأضعف، فهذه حِكمتُه فى خلقه وقضائه، وتلك حِكمته فى شرعه وأمره.
وهذا كما أنه ثابت فى محو السيئاتِ بالحسنات، لقوله تعالى: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هود: 14]. وقوله تعالى: {إن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}[النساء: 31]، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وأتبع السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُها" ، فهوثابت فى عكسه لقوله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى}[البقرة: 264]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}[الحجرات: 2]. وقول عائشة، عن زيد ابن أرقم أنه لما باع بالعينة: "إنَّه قد أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلاَّ أَنْ يَتُوبَ".
وكقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الحديث الذى رواه البخارى فى "صحيحه": "مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ "... إلى غير ذلك من النصوص والآثار الدالة على تدافُع الحسناتِ والسيئات، وإبطالِ بعضها بعضاً، وذهابِ أثر القوى منها بما دونَه، وعلى هذا مبنى الموازنة والإحباط.
وبالجملة.. فقوة الإحسان ومرضُ العصيان متصاولان ومتحاربان، ولهذا المرض مع هذه القوة حالةُ تزايد وترام إلى الهلاك، وحالةُ انحطاط وتناقص، وهى خيرُ حالات المريض، وحالةُ وقوف وتقابل إلى أن يقهرَ أحدُهما الآخر، وإذا دخل وقتُ البُحران وهو ساعة المناجزة، فحظُّ القلب أحدُ الخطتين: إما السلامةُ وإما العطبُ، وهذا البُحران يكونُ وقتَ فعلِ الواجبات التى تُوجِبُ رِضَى الربِّ تعالى ومغفرتَه، أو تُوجبُ سُخْطَه وعقوبَته، وفى الدعاء النبوى: "أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ"، وقال عن طلحة يومئذ: "أَوْجَبَ طَلْحَةُ"،
ورُفِع إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلٌ وقالوا: يا رسولَ الله؛ إنه قد أوجب، فقال: "أَعْتِقُوا عَنْهُ ". وفى الحديث الصحيح "أَتَدْرُونَ مَا المُوجِبتَان"؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلم. قال: "مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً دَخَلَ الجَنَّة، ومَنْ مَاتَ يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً دَخَلَ النَّار"، يريد أن التوحيد والشِّرك رأس الموجبات وأصلها، فهما بمنزلة السمِّ القاتِل قطعاً، والترياق المنجى قطعاً.
وكما أن البدن قد تَعْرِضُ له أسبابٌ رديئة لازمة تُوهِنُ قوَّته وتُضعِفُها، فلا ينتفعُ معها بالأسباب الصالحة والأغذية النافعة، بل تُحيلُها تلك المواد الفاسدة إلى طبعها وقوَّتها، فلا يزدادُ بها إلا مرضاً، وقد تقومُ به موادٌ صالحة وأسبابٌ موافِقة تُوجِبُ قوَّتَه، وتُمَكِّنُه مِن الصحة وأسبابها، فلا تكادُ تضرُّه الأسبابُ الفاسِدةُ، بل تُحيلها تلك الموادُّ الفاضلة إلى طبعها، فهكذا موادُّ صحة القلبِ وفسادِه.
فتأمل قوة إيمانِ حاطب التى حملته على شهودِ بدر، وبذلِه نفسَه مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإيثارِهِ اللهَ ورسولَه على قومه وعشيرتهِ وقرابتهِ وهم بين ظهرانى العدُوِّ، وفى بلدهم، ولم يَثْنِ ذلكَ عِنَانَ عزمِه، ولا فَلَّ مِن حَدِّ إيمانه ومواجهته للقتال لمن أهلُه وعشيرته وأقاربُه عندهم، فلما جاء مرضُ الجسِّ، برزت إليه هذه القوةُ، وكان البُحرانُ صالحاً، فاندفع المرض، وقام المريض، كأن لم يكن به قَلبَةٌ، ولما رأى الطبيبُ قوةَ
إيمانه قد استعلت على مرض جَسِّه وقهرته، قال لمن أراد فصده: لا يحتاجُ هذا العارض إلى فصاد، "ومَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أهل بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُم، فَقَدْ غَفرْتُ لَكُم".
وعكس هذا ذو الخُويصِرَة التميمى وأضرابه مِن الخوارج الذين بلغ اجتهادُهم فى الصلاةِ والصِّيَامِ والقراءة إلى حد يَحْقِرُ أحدُ الصحابة عملَه معه كيف قال فيهم: "لَئِنْ أدْركْتُهُم لأَقْتَلَنَّهُم قَتْلَ عَادٍ"، وقال: "اقْتُلُوهُم فإنَّ فى قَتْلِهِمْ أَجْرَاً عِنْدَ اللهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ". وقال: "شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ"، فلم ينتفِعُوا بتلك الأعمال العظيمةِ مع تلك المواد الفاسدة المهلكةِ واستحالت فاسدةً.
وتأمَّل فى حال إبليس لما كانت المادةُ المهلكة كامنة فى نفسه، لم ينتفعْ معها بما سَلَف مِن طاعاته، ورجع إلى شاكلته وما هُوَ أولى به، وكذلك الذى آتاه اللهُ آياتِه، فانسلخَ مِنها، فأتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ، فكان مِن الغاوين وأضرابُه وأشكالُه، فالمعوَّلُ على السرائر والمقاصد والنِّياتِ والهِمم، فهى الإكسير الذى يَقْلِبُ نحاسَ الأعمال ذهباً، أو يرُدُّهَا خَبَثَاً... وبالله التوفيق.
ومَن له لُبٌ وعقل، يعلم قَدْرَ هذِهِ المسألة وشِدَّةَ حاجته إليها، وانتفاعه بها، ويطَّلِعُ منها على باب عظيم من أبواب معرفة الله سبحانه وحكمته فى خلقه، وأمره، وثوابِه، وعِقابه، وأحكامِ الموازنة، وإيصالِ اللَّذة والألم إلى الروح والبدن فى المعاش والمعاد، وتفاوتِ المراتب فى ذلك بأسباب مقتضية بالغة ممن هو قائمٌ على كُلِّ نفس بما كسبت.
فصل
وفى هذه القصة جوازُ مباغتة المعَاهَدِينَ إذا نقضُوا العهد، والإغارةُ عليهم، وألا يُعلمهم بمسيره إليهم، وأما ما داموا قائمين بالوفاء بالعهد، فلا يجوزُ ذلك حتى يَنْبِذَ إليهم على سواء
فصل
وفيها:جواز بل استحباب كثرة المسلمين وقوتهم وشوكتهم وهيئتهم لرسل العدوِّ إذا جاؤوا إلى الإمام كما يفعل ملوك الإسلام، كما أمر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإيقاد النيران ليلة الدخول إلى مكة، وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان عند خطم الجبل، وهو ما تضايق منه حتى عُرِضت عليه عساكر الإسلام، وعصابة التوحيد وجند الله، وعُرِضت عليه خاصِكية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم فى السلاح لا يُرى منهم إلا الحدق، ثم أرسله، فأخبر قريشاً بما رأى.
فصل
وفيها: جواز دخول مكة للقتال المباح بغير إحرام، كما دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون، وهذا لا خلاف فيه، ولا خلاف أنه لا يدخلها مَن أراد الحج أو العُمْرة إلا بإحرام، واختُلِفَ فيما سوى ذلك إذا لم يكن
الدخولُ لحاجة متكررة، كالحشَّاشِ والحطَّاب، على ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يجوزُ دخولُها إلا بإحرام، وهذا مذهبُ ابنِ عباس رضى الله عنه، وأحمد فى ظاهر مذهبه، والشافعى فى أحد قوليه.
والثانى: أنه كالحشَّاشِ والحطَّاب، فيدخُلها بغير إحرام، وهذا القولُ الآخر للشافعى، ورواية عن أحمد.
والثالث: أنه إن كان داخِلَ المواقيت، جاز دخولُه بغير إحرام، وإن كان خارجَ المواقيت، لم يدخُلْ إلا بإحرام، وهذا مذهب أبى حنيفة وهَدْىُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معلومٌ فى المجاهد، ومريدِ النُّسك، وأما مَنْ عداهما فلا واجبَ إلا ما أوجبه اللهُ ورسولُه، أو أجمعت عليه الأُمةُ.
فصل
وفيها البيانُ الصريح بأن مكة فُتِحَتْ عَنْوَةً كما ذهب إليه جمهورُ أهل العلم، ولا يُعرف فى ذلك خلاف إلا عن الشافعى وأحمد فى أحد قوليه، وسياق القصة أوضحُ شاهد لمن تأمله لقول الجمهور، ولمَّا استهجن أبو حامد الغزالى القول بأنها فُتِحَتْ صلحاً، حكى قول الشافعى أنها فُتِحَتْ عَنوة فى "وسيطه"، وقال: هذا مذهبُه.
قال أصحاب الصلح: لو فتحت عَنوة، لقسمها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الغانمين كما قسم خَيْبَر، وكما قسم سائر الغنائم مِن المنقولات، فكان يُخمسها ويَقْسِمُها، قالوا: ولما استأمن أبو سفيان لأهل مكة لما أسلم، فأمَّنهم،كان هذا عقد صلح معهم، قالوا: ولو فُتِحَتْ عَنوة، لملكَ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق