السبت، 2 أبريل 2022

/ج1./وشَرْحُ مُوقِظَةِ الذَّهَبي في علم مصطلح الحديث {1} جزء أول /// و 100: سؤال وجواب في مصطلح الحديث

 الكتاب:

 

100 سؤال وجواب في مصطلح الحديث منتقاه من رسالة في مصطلح الحديث للشيخ محمد بن صالح العثيمين 
وصف الكتاب


100 سؤال وجواب في مصطلح الحديث منتقاه من رسالة في مصطلح الحديث للشيخ محمد بن صالح العثيمين 

روابط التحميل

============

  

شَرْحُ مُوقِظَةِ الذَّهَبي

في علم مصطلح الحديث

{1} 

شرح الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله 

اعتنى به

أبو هاجر النجدي 

بسم الله الرحمن الرحيم 

والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه .

رب زدني علماً، ووفِّق يا كريم.

أما بعد,

قال الشيخُ الإمامُ العالمُ العلاَّمة، الرُّحْلةُ المحقَّق، بحرُ الفوائد، ومَعْدِنُ الفرائد، عُمدةُ الحُفَّاظِ والمحدثين، وعُدَّةُ الأئمةِ المحقَّقين، وآخِرُ المجتهدين، شمسُ الدين محمدُ بن أحمد بنُ عُثمان الذهبيُّ الدمشقي رحمه الله ونفعنا بعلومه وجميع المسلمين:

الشرح

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ..

أما بعد ...

فهذا كتاب الموقظة في علم مصطلح الحديث, وهو مختصرٌ من كتاب الاقتراح, لشيخه ابن دقيق العيد.

والحافظ الذهبي رحمه الله وُلِدَ سنة ثلاثٍ وسبعين وستمائة, واسمه محمد بن أحمد الذهبي. قيل إن والده كان يشتغل ببيع الذهب فنُسِبَ إليه, وقيل هو اشتغل بصنعة الذهب في أول عمره.

له مؤلفاتٌ متعددة في كل العلوم, وقد اشتهر بعلم الحديث, وألَّف فيه عشرات المجلدات, تصنيفاً, وتدقيقاً, وتعليقاً, وتحقيقاً. وكتب في التاريخ مئات المجلدات, فله تاريخ الإسلام, يتجاوز خمسين مجلداً, وله سير أعلام النبلاء, بنحو أربعةٍ وعشرين مجلداً, وله غير ذلك.

وقد أخذ العلم عن شيخ الإسلام بحر العلوم الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى, المولود سنة إحدى وستين وستمائة, المتوفى سنة ثمانٍ وعشرين وسبعمائة.

وقد توفي الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى سنة ثمانٍ وأربعين وسبعمائة.

وكان من ضمن ما ترك من العلم النافع والعمل الصالح: هذا الكتاب, الذي نتناوله بالشرح إن شاء الله تعالى. وهو أحد الكتب المختصرة في علم المصطلح. وعلم المصطلح علمٌ عظيم وعلمٌ مهم, من خلاله وبواسطته وعن طريقه نصل إلى معرفة صحيح الحديث من سقيمه, والمرفوع من الموقوف, والمقطوع من المنقطع, والمدلَّس من غيره, ومن خلاله نميِّز بين مراتب الأحاديث, فإن السنة هي الأصل الثاني, والأصل الأول كتاب الله, والأصل الثاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا الأصل لا يتأتى معرفته ولافهمه إلا من خلال هذه الوسائل.

وقد جاء في جامع أبي عيسى من طريق شعبة عن سماك عن عبد الرحمن بن    عبد الله عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي, فوعاها فأداها كما سمعها, فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع).

ولا يمكن أن يصل الثاني إلى الأول, والثالث إلى الثاني, إلاَّ من خلال طرق ووسائل, لا بد من التعرف عليها, وإلا خلط الحق بالباطل, والصحيح بالضعيف, والموضوع بغيره. ولذلك الذين لا يعرفون في المصطلح شيئاً, ولا يفقهون في علم الحديث, يروون عن النبي صلى الله عليه وسلم الموبقات, وقد يأخذون من ذلك بعض الأحكام الفقهية, ويبنون على ذلك حلاً وحرمة, وهذا غلط, فالمصطلح موعظة وتبصرة في مثل هذه الأمور.

قال المؤلف رحمه الله تعالى "بسم الله الرحمن الرحيم":

وهذه طريقة متبعة في مؤلفات العلماء ومصنفاتهم, يستفتحون ذلك بالبسملة, اقتداءً بكتاب الله جل وعلا, وتأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في مكاتباته ومراسلاته.

ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم, ولا أحد من الصحابة, يبدأ في المكاتبات والمراسلات بغير البسملة, وكانوا يقتصرون عليها, دون ربط ذلك بالحمدلة. وهذا بخلاف الخطب الكلامية الإنشائية, فإنه يُشرع البداءة بها بالحمدلة, لفعل النبي صلى الله عليه وسلم, وفعل الصحابة رضي الله عنهم من بعده.

وقد جاء في جامع أبي عيسى وغيره من طريق الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود, ومن طريق أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا خطبة الحاجة كما يعلمنا السورة من القرآن: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) ثم يقرأ مطلع سورة النساء, وقول الله جل وعلا في آل عمران (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون), والآية الثالثة في الأحزاب (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً).

وأما الجمع بينهما, فهذا مذهب طائفة من العلماء, بحيث يبدأ بالبسملة ويثنِّي بالحمدلة, ولكن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثابت أنه يقتصر على البسملة, كما أنه يقتصر في الخطب الكلامية على الحمدلة دون البسملة, وهذا الأفضل والأكمل.

وأما حديث (كل أمرٍ ذي بال لا يُبدَأ ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع): فهذا قد رواه الخطيب في الجامع, والسبكي في طبقات الشافعية, وفيه اختلاف واضطراب, وتفرد به أحمد بن محمد بن عمران المعروف بابن الجَنَدي, قال عنه الأزهري رحمه الله: ليس بشيء.

وقد أورد ابن الجوزي في كتاب الموضوعات حديثاً في فضائل علي, وحكم عليه بالوضع, وقال: لا يتعدى ابن الجَنَدي.

واللفظ الآخر (كل أمر ذي بال لا يُبدَأ بالحمد فهو أقطع): هذا ضعيف, ولا يصح إلا مرسلاً.

وقد رواه قرة بن عبد الرحمن المعافري عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقرة بن عبد الرحمن, قال عنه الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ليس بشيء. وضعفه يحيى وجماعة.

وقد رواه الحفاظ, عقيل وغيره, عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم, بدون ذكر أبي سلمة وأبي هريرة, وذكرهما غلط, والغلط من قرة بن عبد الرحمن المعافري, فهو سيء الحفظ, ويغلط كثيرا, ولا يُعتمد عليه في مثل هذه الأمور.

ثم ثنى المؤلف رحمه الله تعالى بالحمدلة, والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم, وهذه طريقة جماعة من العلماء ويقال أن هذا من أحد النساخ, وليس من المؤلف.

ثم أثنى الناسخ على الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى. وقد تقدم قبل قليل بأنه وُلِدَ سنة ثلاثٍ وسبعين وستمائة, وتوفي سنة ثمانٍ وأربعين وسبعمائة. وهو إمام معروف, له مؤلفات كثيرة, ومصنفات متعددة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1- الحديثُ الصحيح :

هو ما دَارَ على عَدْلً مُتْقِنٍ واتَّصَل سَنَدُه. فإن كان مُرسَلاً ففي الاحتجاج به اختلاف.

وزاد أهلُ الحديث: سلامتَهُ من الشذوذِ والعِلَّة. وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء، فإنَّ كثيراً من العِلَل يأبَوْنها.

فالمجُمْعُ على صِحَّتِه إذاً: المتصلُ السالمُ من الشذوذِ والعِلَّة، وأنْ يكون رُواتُه ذوي ضَبْطٍ وعدالةٍ وعدمِ تدليس.

الشرح

قال المؤلف رحمه الله تعالى "أولها الصحيح":

شرع المؤلف رحمه الله تعالى يتحدث عن شروط الحديث الصحيح. الحديث قسمان: صحيح وضعيف, هذا المعروف عند الأئمة السابقين, ثم اصطُلِح فيما بعد الأئمة, من عصر الترمذي فما بعده, إلى تقسيم الحديث إلى ثلاثة أقسام: صحيح وحسن وضعيف. ومنهم من زاد, قال: صحيح لذاته, وصحيح لغيره, وحسن لذاته, وحسن لغيره, وضعيف, وموضوع, وتحت كل نوعٍ أنواع, لأن الحديث الضعيف منه المنكر, ومنه الباطل, ومنه الشاذ, ومنه المنقطع, ومنه غير ذلك من أقسام الأحاديث الضعيفة.

الصحيح هو ما رواه عدل ثقة, تام الضبط, عن مثله, إلى أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن يكون سالماً من الشذوذ والعلة.

مثال ذلك:

قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا الحُمَيدي عبدا لله بن الزبير, قال: حدثنا سفيان, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص الليثي, قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات .. الحديث). هذا إسناد متصل, سمع بعضهم من بعض, ورواته كلهم ثقات, وقد سلم من الشذوذ ومن العلة. ولذلك اتفق الأكابر على تصحيحه, فصححه مالك ورواه في موطئه في رواية محمد بن الحسن, وصححه البخاري وأورده في صحيحه, ورواه الإمام مسلم في صحيحه, وأهل السنن, ولا يُعرَف محدث من المحدثين إلا وقد خرَّج هذا الخبر.

وقد ذكر المؤلف رحمه الله تعالى للحديث الصحيح خمسة شروط:

الشرط الأول: عدالة الرواة. الشرط الثاني: تمام الضبط. الشرط الثالث: اتصال الإسناد. الشرط الرابع: انتفاء الشذوذ. الشرط الخامس: عدم العلة.

فقوله "عدل":

أحياناً تكون العدالة في الظاهر, ومنهم من يشترط العدالة في الظاهر والباطن, وهؤلاء لا يرون التخريج ولا الاحتجاج برواية المبتدع, لأنه ليس بعدل في الظاهر ولا في الباطن.

وذهب جماعة إلى أن المبتدع يُحتَج بروايته, ما لم تخرجه بدعته عن الإسلام, فلنا صدقه وعليه بدعته. والصواب أنه يُكتَفى من العدالة بالعدالة الظاهرة, فمن كان عدلاً في ظاهره قُبِلَ حديثه.

قوله "متقن":

الشرط الثاني: تمام الضبط, سواء كان من كتاب أو من حفظ. فإذا كان لا يحدِّث إلا من كتاب, فلا بد أن يكون كتابه صحيحاً, وإذا حدَّث من غير كتابه وغلط وكثر غلطه تُرِكَ حديثه.

وإذا كان يحدِّث من حفظه, يُشتَرط أن يكون الغالب على حديثه الصحة والضبط.

وقد قال الإمام ابن مهدي رحمه الله تعالى: الناس ثلاثة: رجل حافظ متقن لا يُختلف فيه, ورجل حافظ, الغالب على حديثه الصحة, فهذا لا يُترك حديثه, ورجل حافظ, الغالب على حديثه الغلط, فهذا يُترك حديثه.

قوله "واتصل سنده":

خرج من ذلك المنقطع. كيف نعرف المتصل؟ نعرفه بمعرفة المواليد والوفيات, وبنص كلام الأئمة, ومطالعة كتب المحدثين, وكتب الرجال, فهذا علم عظيم, لا تتأتى معرفته ما بين عشية وضحاها, ولذلك في كل عصر أهله أقل الناس, ولا يطلبه إلا القليل, وصحيح أنه علم صعب, علم يعتمد على الحفظ, ويعتمد على التدوين, ويعتمد على المراجعة, لكنه علم ضروري, الأمة بحاجة إليه.

فالمتصل كمالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: مالك سمع من نافع, ونافع مولى ابن عمر سمع من ابن عمر, هذا المتصل.

خرج المنقطع: الحسن البصري عن عمر, منقطع, لماذا؟

لأن عمر رضي الله عنه قُتِلَ سنة ثلاث وعشرين, والحسن وُلِدَ سنة إحدى وعشرين, إذاً هو لم يدرك من حياته سوى سنتين, إذاً هو منقطع.

الشرط الرابع " ألاَّ يكون في الحديث شذوذ":

سواء في الإسناد أو في المتن, فإن المتن قد يقع فيه شذوذ, بأن يتفرد الثقة عمن هو أوثق منه وأضبط منه, كتفرد محمد بن عوف عن علي بن عياش عن شعيب بن أبي حمزة عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة, آتِ محمدا الوسيلة والفضيلة, وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته, إنك لا تخلف الميعاد).

رواه البيهقي رحمه الله تعالى في السنن الكبرى: محمد بن عوف عن علي بن عياش عن شعيب عن ابن المنكدر عن جابر. محمد بن عوف صدوق ولكن لا تُحمَل مخالفته وزيادته: (إنك لا تخلف الميعاد).

رواه أئمة الحفظ, ما لا يقلون عن عشرة: أئمة الدنيا ثلاثة: أحمد بن حنبل في مسنده, والبخاري في صحيحه, وعلي ابن المديني رحمه الله. هؤلاء الثلاثة يروونه عن علي بن عياش عن شعيب عن ابن المنكدر عن جابر بدون الزيادة: (إنك لا تخلف الميعاد). إذاً هي زيادة شاذة, لا يجوز ذكرها ولا العمل بها, لأنها غير محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الشرط الخامس "أن يكون الحديث غير معلَّل":

وكثير من أهل المصطلح يقسمون العلة إلى قسمين: علة مؤثرة, وعلة غير مؤثرة. ونتحدث إن شاء الله عن هذه المسألة في بابها.

والصواب أن نقول أن الاختلاف نوعان: اختلاف مؤثر, واختلاف غير مؤثر. أما شيء اسمه: علة غير مؤثرة, فهذا غير صحيح. فإنه إذا ثبت أنها علة, فهي مؤثرة قلَّت أو عَظُمَت.

إذاً نشترط في الحديث الصحيح أن تنتفي عنه العلة.

والعلة أعم من الشذوذ, وأعم من الاضطراب, وأعم من الاختلاف, فيقال: خبر معلول, ما علته؟ منقطع.

يقال: خبر معلول, ما علته؟ في إسناده قرة بن عبد الرحمن المعافري, أوفي إسناده عبد الله بن لهيعة.

يقال: خبر معلول, ما علته؟ عاصم بن عبيد الله, روى الخبر عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أذَّن في أُذُنِ الحسن حين ولدته فاطمة, فهذا خبر معلول, لماذا؟ لأنه تفرد به عاصم بن عبيد الله, وعاصم بن عبيد الله ضعيف الحديث, إذاً هو خبر معلول.

ولكن الأئمة كثيراً ما يعنون بالمعلول:, المضطرب الذي له علة خفية لا يهتدي إليها إلا الأكابر من المحدثين. ولكن من حيث العموم العلة تُطلَق على ما هو أعم.

وقد كتب الأئمة رحمهم الله تعالى كتباً في العلل: ككتاب العلل لأحمد, والعلل لعلي بن المديني, والعلل لابن أبي حاتم, والعلل للدار قطني, والإرشاد للخليلي, وغير  ذلك من الكتب النافعة في هذا الباب.

وننصح كل طالب حديث أن يقتني هذه الكتب, وألاَّ تخلو مكتبته من هذه الكتب النافعة العظيمة.

فإذا وُجِدَت هذه الشروط صار الخبر صحيحاً, وإذا تخلف واحد منها صار الخبر معلولا.

المؤلف أشار إلى الاختلاف في المرسل, ونتحدث عنه إن شاء الله تعالى في بابه. فالمرسل هو ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم, وأسقط واسطة, والساقط من هو؟ الله أعلم. لو علمنا بأنه صحابي لحكمنا على الحديث بالصحة. وبعض العلماء يقبل مراسيل سعيد والحسن البصري والأكابر, وبعض العلماء يقتصر في القبول على مراسيل سعيد, وبعض العلماء لا يقبل شيئاً, وبعض العلماء يتوسع في هذا, وهذا نتحدث عنه إن شاء الله تعالى في بابه.

ولكن المرسل في الجملة من قسيم الأحاديث الضعيفة, وقد أشار إلى هذا الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه.

وأشار المؤلف رحمه الله تعالى إلى أن الفقهاء يختلفون مع المحدثين في بعض التعاليل, وهذا بلا ريب, ولكن الشأن كل الشأن في كلام المحدثين, وليس في كلام الفقهاء.

وأشير في هذا الباب إلى أن بعض المحدثين في مصطلحاتهم يمزجون كلام الفقهاء وكلام الأصوليين بكلام المحدثين وهذا غلط, فإن أول من ألَّف في المصطلح هو الإمام الرامهرمزي, المتوفى عام ستين وثلاثمائة, في كتابه المحدِّث الفاصل, وتبعه على ذلك الحاكم في معرفة علوم الحديث, والخطيب في الكفاية, وهو كتاب جامع نافع, ولكنه خلط ومزج علوم المحدثين بعلوم الفقهاء والأصوليين, وهذا وجه الغلط في كثير من هذه الكتب.

أتى بعد هؤلاء القاضي عياض في كتابه الإلماع, ثم أتى بعد ذلك ابن الصلاح في كتابه المقدمة, وهو الذي اشتهر واستفاض, والناس يتداولونه ويقرأونه, وكان أهل عصره يحفظونه, وهو كتاب ممزوج بكلام المحدثين وكلام الفقهاء وكلام الأصوليين, وفيه مسائل لا تمت إلى الحديث بصلة, حتى المؤلف الذهبي رحمه الله - سوف ننبه إن شاء الله في ثنايا الشرح - أدرج بعض المسائل التي لا علاقة لها بعلم الحديث, أو هي مغلوطة ودخيلة على علم الحديث, أخذها من كتاب شيخه ابن دقيق العيد الاقتراح. والاقتراح مأخوذ من بعض الكتب الأصولية والفقهية, وكتب بعض المحدثين الذين لا يعنون ويمحِّضون كتب وكلام السلف عن كلام غيرهم. وهذا ما سوف أشير إليه إن شاء الله تعالى في بابه, وعند كل مسألة نتحدث عنها من هذا القبيل. نقول: لا علاقة للفقهاء بقضية العلة والشذوذ ونحو ذلك, لأن الفقيه يجب عليه أن يعتمد على المحدِّث, وألاَّ يبني حكماً إلا على حديث صحيح, لأننا متفقون على أن الأحكام الشرعية تُستَقى من الأحاديث الصحيحة, والذي يميز الأحاديث الصحيحة من الأحاديث الضعيفة هم المحدثون.

ديـنُ النبي محمـدٍ أخبـارُ

نِعْـمَ المطيـةُ للفتى آثـارُ

لا ترغبنَّ عن الحديثِ وأهلهِ

فالرأيُ ليلٌ والحديثُ نهـارُ

ولرُبَّمَا جَهِلَ الفتى أثرَ الهدى

والشمسُ بـازغةٌ لها أنوارُ

 

ولذلك يقول الشافعي رحمه الله تعالى: إذا رأيتُ رجلاً من أهل الحديث, فكأنما رأيتُ رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, جزاهم الله عنا خيراً, حفظوا لنا الأصل فلهم منا الفضل.

كلُّ العلومِ سِوَى القرآنِ مَشْغَلَةٌ

إلا الحديثَ وعلمَ الفقهِ في الديـنِ

العلمُ ما كان فيه قال حدَّثَنـا

ومـا سوى ذاك وَسْوَاسُ الشياطينِ

إذاً نستفيد من هذا بأن الحديث الصحيح هو ما رواه عدل عن مثله, ضابط, عن مثله, فيه اتصال – خرج الانقطاع – غير معلَّل ولا شاذ, وهذا يسمى الصحيح لذاته, وأمثلته كثيرة. وعلى ضوء هذه الشروط ألَّف الإمام البخاري رحمه الله تعالى صحيحه. البخاري رحمه الله تعالى توفي عن اثنتين وستين سنة.

وتبعه بعد ذلك تلميذه الإمام مسلم, المتوفى عن سبعٍ وخمسين عاماً.

وهذان الكتابان هما أصح الكتب المؤلفة. وقد ذهب أكثر العلماء بأن كل ما فيهما صحيح, وقال آخرون: فيهما بعض الأحاديث المنتقدة.

صحيحٌ أن فيهما بعض الأحاديث المعلولة, ولكن الأصل في ذلك الصحة, ليس معناه أن الإنسان إذا قرأ, يسأل عما في الصحيحين هل هو صحيح أم ضعيف؟ الأصل الصحة. وبعض الأحاديث المعلولة هي محل نقاش مع العلماء والمحدثين والأكابر من أهل التخصص, فليس لأحد أن يقرأ على الناس صحيح البخاري, ثم إذا فرغ قال: هذا حديث صحيح, هذا حديث صحيح, هذا حديث صحيح. الأصل أنك تقرأ في البخاري وهو صحيح, وتقرأ في مسلم وهو صحيح. والعلماء هم الذين يناقشون بعض الأحاديث التي تحدث عنها الأكابر, كأحمد, والدار قطني, وجماعة.

وليس كل من كتب كتاباً وأسماه الصحيح صار كتابه صحيحاً, فابن خزيمة ألَّف كتاباً, وسماه الصحيح, وفيه أحاديث ضعيفة, وابن حبان سمى كتابه الصحيح, وفيه أحاديث ضعيفة, والحاكم سمى كتابه المستدرك على الصحيحين, وفيه أحاديث منكرة وواهية وموضوعة وباطلة, وفيه غير ذلك, لأنه ألَّف على شرط الشيخين, وما ضبط مسألة شرط الشيخين, وضبط أصول الشيخين في هذا الباب, حتى قال بعض العلماء عن تصحيحات الحاكم:

فأصبحتُ الغداةَ من ليلى كقابضٍ

على الماءِ خانته فروجُ الأصابعِ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فأعلى مراتبِ المجمَع عليه: مالكٌ ، عن نافع ، عن ابن عُمَر.

أو: منصورٌ، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله.                                                                          أو: الزهريُّ،عن سالم, عن أبيه.

أو: أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة.

ثم بعدَهُ:

مَعْمَر، عن هَمَّام، عن أبي هريرة.

أو: ابنُ أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن أنس.

أو: ابنُ جُرَيج، عن عطاء، عن جابر، وأمثالُه.

ثم بعدَهُ في المرتبةِ:

الليثُ، وزهير، عن أبي الزُّبير، عن جابر.

أو: سِماَكٌ، عن عكرمة، عن ابن عباس.

أو: أبو بكر بن عَيّاش، عن أبي إسحاق، عن البَرَاء.

أو: العلاءُ بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، ونحوُ ذلك من أفراد البخاري أو مسلم.

الشرح

شرع المؤلف رحمه الله تعالى يتحدث عن أعلى مراتب الصحة, فقال "مالك عن نافع عن ابن عمر":

وهذا اختيار جماعة, كإسحاق وأحمد وآخرين من الحفاظ.

وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لا يقال: هذا أصح إسناد, وإن كان لا حرج أن يقال: أصح إسناد عن ابن عمر كذا, وأصح إسناد عن أبي هريرة كذا, وأصح إسناد عن جابر كذا, وأصح إسناد عن عائشة كذا, وأصح إسناد عن علي كذا, فهذا لا حرج منه. أما أصح إسناد في الجملة وعلى الإطلاق من كل الأسانيد, فهذا فيه نظر.

وهذا التفضيل لا يلزم منه التفضيل من كل وجه, فقد يقترن ببعض الأسانيد ما يكون من أصح من هذا الإسناد.

والمؤلف رحمه الله تعالى ذكر في الطبقة الأولى مالك عن نافع عن ابن عمر, ثم ذكر إسناد ابن مسعود, ثم ذكر الزهري عن سالم.

واختُلف عليه في هذا, لأنه ذكر بعد هؤلاء مراتب قد تكون بمنـزلة هذا وأصح, ولا سيما أنه مثَّل بإسناد معلول, جعله من أعلى مراتب الصحة, وهو "سماك عن عكرمة عن ابن عباس" فهذا إسناد معلول, لأن سماكاً يضطرب عن عكرمة, نص عليه الإمام أحمد وعلي بن المديني وجماعة.

وقال علي بن المديني: داود بن الحصين عن عكرمة مضطرب.

إذاً سماك عن عكرمة ليس من أعلى مراتب الصحة, بل هذا من مراتب الضعف.

من أعلى مراتب الصحة "ابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس":

نعم هذا من أعلى مراتب الصحة, وهذا من أصح الأسانيد إلى أنس.

إذاً أعلى مراتب الصحة, مسألة نسبية ليست راجحة من كل وجه. وإذا أردنا أن نفاضل بين الأسانيد, فإننا نقول: أصح الأسانيد عن ابن عمر, أصح الأسانيد عن أبي هريرة كأبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة, أصح الأسانيد عن ابن مسعود عنه علقمة بن قيس, وهو أحد الأئمة المشهورين, وعنه النخعي, وعن النخعي منصور. فحينئذٍ نفضِّل الأسانيد إلى أحد الصحابة رضي الله عنهم, وأما أن نجعل أصح إسناد في الدنيا هذا الإسناد فهذا فيه نظر. فنقول مثلا: أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن جابر عن البراء ونحو هذا, وأبو الزبير عن جابر, وهذه أيضاً مسألة خلافية, لا يزال العلماء يختلفون في ذلك, ويتفاوتون في الترجيح.

المهم الآن أن نفهم مراتب هؤلاء, وأن نفهم ما قيل حول هذه المسألة, فمما قيل بأن أصح الأسانيد على الإطلاق مالك عن نافع عن ابن عمر, وقيل: لا, هذا أصح إسناد من أسانيد ابن عمر, ليس غير فقط, وأصح الأسانيد إلى أبي هريرة أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة, وأصح الأسانيد إلى قتادة سعيد بن أبي عروبة عن قتادة, وقتادة عن أنس, وأمثال ذلك كثير.

ما الفائدة من هذا؟

الفائدة من معرفة أصح الأسانيد أنه عند التعارض نرجح, فحين يختلف شعبة مع ابن أبي عروبة في قتادة, من نرجح؟ نرجح ابن أبي عروبة, لماذا؟ لأنه أحفظ الناس عن قتادة.

إذاً الفائدة أننا عند التعارض نرجح بعض الأسانيد على بعض.

حين الاختلاف على ابن عمر نرجح نافعاً, وعن نافع نرجح مالكاً.

هناك من قدم عبيد الله بن عمر العُمَرِي عن نافع, وهناك من قال: مالك الرجل الأول في نافع. وإذا اختلف الحفاظ عن الأعرج - واسمه عبد الرحمن بن هرمز - نقدم فيه أبا الزناد, واسمه عبد الله بن ذكوان.

نهاية الدرس الأول - يوجد أسئلة.

 

 

 

 

 

 

 

 

2- الحَسَن:

وفي تحرير معناه اضطراب، فقال الخَطَّابيُّ رحمه الله: هو ما عُرِفَ مَخْرجُه واشتَهَر رجالُه، وعليه مَدارُ أكثرِ الحديث، وهو الذي يَقبَلُه أكثرُ العلماء، ويَستعملُه عامَّة الفقهاء.

وهذه عبارةٌ ليسَتْ على صِناعة الحدودِ و التعريفات، إذْ الصحيحُ يَنطَبقُ ذلك عليه أيضاً، لكنْ مُرادُه مما لم يَبْلُغ درجةَ الصحيح.

فأقول: الحَسَنُ ما ارتَقَى عن درجة الضعيف، ولم يَبلغ درجةَ الصحة.

الشرح

شرع المؤلف رحمه الله تعالى في الحديث عن معنى الحديث الحسن. وقد تقدم الحديث عن الحديث الصحيح, وعن شروطه, وعن بعض فوائده ومتعلقاته, وتقدم أن أئمة السلف كانوا يطلقون لفظ الحسن على الصحيح, وقلَّما يتحدثون عن المعاني الخاصة للحديث الحسن, حتى جاء الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى فاصطلح للحسن معنىً خاصاً, وعرَّف الحسن بأنه ما جاء من غير وجه, ولم يكن في رواته لا كذاب ولا متهم بالكذب, ولم يكن شاذاً.

وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في تحديد معنى الحسن, وقد أشار المؤلف رحمه الله تعالى إلى هذا بقوله "وفي تحرير معناه اضطراب" واختلاف كثير بين العلماء. لكن في الجملة الحسن من أقسام الأحاديث الصحيحة, فالحسن يُعمل به, سواء كان حسناً لذاته, بمعنى أنه قد صح بمفرده, أو كان حسناً لغيره, بمعنى الحديث الضعيف إذا تعددت طرقه وجاء من غير وجه, وارتقى إلى درجة الحسن لغيره.

وهذا له شروط نجملها ثم يأتي فيما بعد تفصيلها إن شاء الله.

الشرط الأول: ألاَّ يكون هذا في العقائد, فإن العقائد لا بد أن تكون صحيحة بذاتها, مستغنية عن تقويتها بشواهدها, ولأن العقائد مبنية على الأمور القطعية, ولا تُبنَى على الأمور الظنية, وتحت هذا تفصيل أطول, نذكره إن شاء الله تعالى في بابه.

الشرط الثاني: ألاَّ يخالف أصلاً, فإن خالف أصلاً في الصحيحين أو في أحدهما رُدَّ هذا الحديث.

ولذلك لا نصحح ولا نحسن حديث (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) فهو حديث ضعيف بمجموع طرقه. وهذا قول أكابر أئمة السلف لأنه يعارض الأحاديث الثابتة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم, فإن كل من وصف وضوءه لم يذكر عنه أنه يبسمل, إذاً كيف نحسنه بالشواهد, وهذا الأمر المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!.

الشرط الثالث: ألاَّ يكون أصلاً في الباب, لأن الصواب من قولي المحدثين أن حديث الصدوق الذي لم يُعرَف تفرده يُرَدُّ إذا كان أصلاً في الباب, فكيف نأتي إلى أحاديث ضعيفة نحسنها بمجموع شواهدها أو طرقها, ونجعلها أصلاً في الباب؟!!.

وإذا كنا نرد حديث محمد بن إسحاق عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة عن أبيه عن أمه عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا يوم رُخِّصَ لكم فيه, إذا رميتم جمرة العقبة أن تَحُلُّوا, فإذا غربت الشمس, ولم تطوفوا بالبيت, عدتم حرماً كما بدأتم). هذا خبر معلول بحدود أربع علل في الإسناد أو خمس علل, أهمها أن ابن إسحاق لا يُقبَل تفرده في الأحكام, وقد تفرد هنا بأصلٍ, كما نص عليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى وغيره من المحدثين.

الأمر الثاني: تفرد بذلك أبو عبيدة عن أبيه وعن أمه, وأين أقرانه الثقات الحفاظ حتى يتفرد بهذا الأصل أبو عبيدة؟!!.

قال المؤلف رحمه الله تعالى "قال الخطابي رحمه الله - عن الحديث الحسن - هو ما عُرِفَ مخرجه, واشتهر رجاله, وعليه مدار أكثر الحديث, وهو الذي يقبله أكثر العلماء, ويستعمله عامَّة الفقهاء":

وهذا فيه نظر من وجوه:

الوجه الأول: أن هذا الكلام ليس تعريفاً خاصاً للحديث الحسن, فيدخل فيه الصحيح والضعيف, لأن الصحيح يقال عنه بأنه عُرِفَ مخرجه واشتهر رجاله, والضعيف يقال: عُرِفَ مخرجه واشتهر رجاله. فابن لهيعة من أشهر الناس, وحديثه ضعيف. وعاصم بن عبيد الله مشهور, وحديثه ضعيف. وابن أبي المخارق مشهور, وحديثه ضعيف. ونُعَيم بن حماد الخزاعي مشهور, وحديثه ضعيف. فهؤلاء أئمة مشاهير, وحتى لو عُرِفَ مخرجه, فالحديث الضعيف يبقى بأنه ضعيف.

ولذلك حين قال المؤلف "وهذه عبارة ليست على صناعة الحدود والتعريفات" أصاب هذا, لأنه قال أن الصحيح ينطبق عليه ذلك أيضاً, والصواب أن يقال: والضعيف ينطبق عليه ذلك أيضاً.

ثم قال "لكن مراده ما لم يبلغ درجة الصحيح":

الصواب أنه لو بلغ درجة الصحيح, لا يخرج عن كونه حسناً, لو كان التعريف صواباً, لأن الحسن يشترك مع الحديث الصحيح في جوانب متعددة: بنقل العدل تام الضبط, متصل السند, غير مُعَلَّلٍ ولا شاذ, هذه شروط للحسن, كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في النخبة: فإن خف الضبط – حين ذكر شروط الحديث الصحيح – فالحسن لذاته, وبكثرة طرقه يُصحَّح.

فشروط الحديث الصحيح هي شروط الحديث الحسن, ولكن الحسن أقل رتبة, فقد يقترن بالحديث الصحيح ما يجعله حسناً, للاختلاف في الرواة, وللاختلاف في الراوي, ونحو ذلك, لأن الثقات مراتب متعددة, وقد تقدم ذكر كلام ابن مهدي رحمه الله تعالى حين قال: الناس ثلاثة: رجل حافظ متقن لا يُختَلف فيه, فهذا حديثه صحيح بالاتفاق, النوع الثاني: رجل حافظ, والغالب على حديثه الضبط والصحة, فهذا مقبول ولا يُترَك حديثه, النوع الثالث: رجل حافظ, والغالب على حديثه الوهم, فهذا يُترَك حديثه.

فالنوع الأول والنوع الثاني بينهما أمور مشتركة, ولكن لا يمكن أن نجعل الحكم واحداً, فهذا متقن كمالك عن نافع عن ابن عمر, وهذا متقن ولكنه أقل رتبة كالعلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة, وكسهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة, وكلاهما أحاديثهما صحيحة. وقد يقترن بحديث سهيل ما يجعله حسناً باعتبار أنه في الجملة مقبول, كما أننا نقبل أحاديث عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر, ونجعل هذه الأحاديث مقبولة.

وقد تأتي قرائن تفيد بأن هذا الحديث وإن كان رجاله ثقات لا يرتقي إلى درجة الحُسْن, فقد يكون ضعيفاً, لأنه لا يزال الأئمة يختلفون في مثل عاصم بن بهدلة, وعبد الله بن محمد بن عَقِيل, وفُلَيح بن سليمان, حتى الحارث الأعور, وخصيف, وعاصم بن عبيد الله, فيهم خلاف يسير, وإن كان الأكثر من العلماء على تضعيفهم. أما عاصم بن بهدلة فالخلاف فيه قوي: منهم من ضعفه مطلقاً, ومنهم من قَبِلَهُ. والصواب أن عاصماً, ومن كان في طبقته كعبد الله بن محمد بن عَقِيل, مقبول ولكن بشروط:

الشرط الأول: ألاَّ يتفرد بأصل, فإن تفرد بأصل عُلِمَ بأن هذا من أوهامه.

الشرط الثاني: ألاَّ يخالف غيره ممن هو أوثق منه, لأن هذا دليل على خطئه, فابن عَقيل عن ابن الحنفية عن علي (مفتاح الصلاة الطَّهور) صحيح, ولكن حين روى ابن عقيل عن ابن الحنفية عن علي بأن النبي صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ في سبعة أثواب, فإنه ضعيف, لأنه خالف الحديث المتفق على صحته بأنه كُفِّنَ في ثلاثة أثواب.

الشرط الثالث: ألاَّ يأتي بما يُنكَر عليه, من تَفَرُّدٍ بأصل كالقسم الأول, أو المخالفة للثقات كالقسم الثاني, أو من اضطراب جعل من هذا الاختلاف علة في هذا الخبر, أو من غير ذلك.

قال المؤلف رحمه الله تعالى "فأقول: الحسن ما ارتقى عن درجة الضعيف, ولم يبلغ درجة الصحة":

وهذا صواب في الجملة, ولكن الأئمة يختلفون في ذلك, ولا حرج من التعبير بلفظ الحسن عن الصحة, كأن يكون الحديث حسناً, وتقول عنه بأنه صحيح, لا حرج من ذلك, ولأنه قد يتعذر على كثير من الناس تمييز المعنى الاصطلاحي للحسن عن الصحيح, ولكن إذا فهم في الجملة بأن الخبر صحيح فلا حرج من ذلك.

ثم قد يأتي آخر فيجعل الحسن ضعيفاً, كحديث محمد بن مسلم بن مهران عن جده عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً).

ذهب جماعة من العلماء إلى تحسين هذا الخبر بمعنى التصحيح, فإن محمد بن مسلم صدوق, وقالوا عن جده بأنه صدوق وقد سمع من ابن عمر, وابن عمر صحابي, فالحديث صحيح.

وقال آخرون بأن الخبر منكر, وقد نص على ذلك الإمام أبو زرعة رحمه الله تعالى, ولعل هذا هو الأقرب, ولهذا قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى عن هذا الخبر في جامعه: وهذا حديث حسن غريب.

ولكن ثبت عند الترمذي, وحسنه دون أن يستغربه, من طريق أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر أربعا) الحديث, هذا إسناد جيد, وهذا يقتضي استحباب صلاة أربع ركعات إذا دخل وقت العصر.

وإن شِئتَ قلت: الحَسَنُ ما سَلِمَ من ضعفِ الرُّواة. فهو حينئذٍ داخلٌ في قسم الصحيح.

وحينئذٍ يكونُ الصحيحُ مراتب كما قدَّمناه، والحسَنُ ذا رتُبةٍ  دُونَ تلك المراتب، فجاء الحسَنُ مثلاً في آخِرِ مراتب الصحيح.

وأما الترمذيُّ فهو أوَّلُ من خَصَّ هذا النوع باسم الحَسَن، وذَكَر أنه يريدُ به: أن يَسلم راويه من أن يكون متهماً، وأن يَسلم من الشذوذ، وأن يُروَى نحوهُ من غير وجه.

وهذا مشكلٌ أيضاً على ما يقولُ فيه: حسَنٌ غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقيل: الحسَنُ ما ضَعْفُه محتَمَل، ويَسوغُ العملُ به.

وهذا أيضاً ليس مضبوطاً بضابطٍ يَتميَّزُ به الضَّعْفُ المحتمَل.

الشرح

قوله "وإن شئت قلت: الحسن ما سلم من ضعف الرواة. فهو حينئذٍ داخل في قسم الصحيح":

وهذا أحد معاني الحديث الحسن, فإنه هو ما ارتقى عن درجة الضعف, ولم يبلغ درجة الصحة من كل وجه. والناس يتفاوتون في فهم هذا الكلام, وفي تطبيقه على الأحاديث. وأنتم تعلمون أن العلماء يختلفون في تصحيح الأخبار, فهذا يصحح, وهذا يضعِّف.

وقد أشرت فيما تقدم إلى أن الأئمة متفقون على صحة ما جاء في الصحيحين, ولكن هناك بعض العلماء من ضعف بعض الأحاديث في البخاري, وهناك بعض الأئمة ضعف بعض الأحاديث في مسلم, إذاً ما ارتضى ولا أعلى مراتب الصحيح, فكيف بالأحاديث التي يتجاذبها العلماء, هذا يقول صحيح, وهذا يقول ضعيف. كيف في الرواة الذين تنازع فيهم الأئمة رحمهم الله تعالى, منهم من يصحح, ومنهم من يضعف.

ولكن لا نضعف الرواة, ولا نصحح الرواة, بناءً على ما نقرأه في تقريب التهذيب, لأن طائفة من الناس يقرؤون في التقريب, فمن يقول عنه ابن حجر بأنه ثقة يبني عليه أن الخبر صحيح, ومن يقول عنه ابن حجر بأنه ضعيف يبني عليه بأن الخبر ضعيف, وهذا ظلم للراوي, وظلم للعلم, وظلم لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا تبرأ ذمة أحد يعمل هذا, بل لا بد من البحث الواسع بالنظر في كتب المطولات, كتهذيب الكمال وأمثال هذه الكتب, ثم النظر بعد ذلك في كتب العلل وماذا قال أئمة الشأن كأحمد والبخاري ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي والدار قطني على هذه الأخبار, فإن تصحيح الخبر لا يُبنَى على مجرد الحكم على ظاهر الإسناد, ولا يُبنَى على مجرد أن تعلم أنه ثقة أو ضعيف, فقد يكون ثقة عن ثقة عن ثقة عن ثقة, ولكن منقطع عن منقطع عن منقطع عن منقطع, وهذا لا إشكال فيه.

قد تقرأ في ترجمة الحسن أنه ثقة ثم عن عمر صحابي, تقول: صحيح؟

لا, لأن فيه انقطاعاً, فإن الحسن لم يسمع من عمر رضي الله عنه.

عبد الله البهي عن أبي بكر, ثقة عن أبي بكر, لكن البهي لم يسمع من أبي بكر. وقد تقرأ أنه ثقة كعطاء, لكن عطاء بن السائب اختلط, فلا بد أن تميز من روى عنه قبل الاختلاط, ومن روى عنه بعد الاختلاط.

سماك: صدوق من رجال مسلم والأربعة, ولكن إذا روى عن عكرمة فهو مضطرب.

عكرمة بن عمار: ثقة خرج له مسلم والأربعة, عن يحيى بن أبي كثير, ثقة خرج له الستة, ولكن إذا روى عكرمة عن يحيى بن كثير, فقد قال الإمام أحمد: مضطرب.

قوله "وحينئذ يكون الصحيح مراتب كما قدمناه":

وهذا لا إشكال فيه, الحديث الصحيح مراتب, فمالك عن نافع عن ابن عمر أعلى من سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة, وسهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أعلى من عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر, وعاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر ربما يقال بأنه أعلى من عبد الله بن محمد بن عَقيل ومن عاصم بن أبي النجود, فهذه مراتب متعددة, وقد أدخلت الحديث الحسن ضمن الحديث الصحيح في هذه التقاسيم.

قال المؤلف "والحسن ذا رتبة دون تلك المراتب":

"ذا" خبر كان, أي يكون الصحيح مراتب, ويكون الحسن ذا رتبة دون تلك المراتب.

قوله "فجاء الحسن مثلاً في آخر مراتب الصحيح":

وهذا لا إشكال فيه.

قوله "وأما الترمذي فهو أول من خص هذا النوع باسم الحسن":

كان لفظ الحسن يُطلَق عند الأئمة ولكن بالمعنى العام, وليس بالمعنى الخاص, بمعنى أنه إما أن يكون صحيحاً, أو أنه حسن المعنى, ولو لم يكن بالمعنى الخاص, وهو ما لم يكن في رواته كذاب ولا متهم وجاء من غير وجه.

قال المؤلف "وذكر أنه يريد به: أن يسلم راويه من أن يكون متهماً, وأن يسلم من الشذوذ, وأن يُروَى نحوه من غير وجه":

قوله "أن يسلم راويه من أن يكون متهماً": لكن دخل في ذلك الضعيف, لأنه لا يلزم إذا لم يكن كذاباً أن يكون ثقة. قد لا يكون كذاباً, ولا يكون ثقة, فالتقييد بألاَّ يكون متهماً بالكذب لا يصح, فقد لا يكون متهماً كابن لهيعة, ولكن يكون ضعيفاً.

قوله "وأن يسلم من الشذوذ": كأن يسلم من اللفظ الشاذ, كرواية البارقي عن ابن عمر (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) فإن زيادة (النهار) شاذة, تفرد بها علي البارقي عن ابن عمر, وقد خالفه ما لا يقل عن عشرة من الحفاظ كنافع وسالم وحُمَيد وأبي سلمة وجماعة, يروون هذا الخبر بلفظ (صلاة الليل مثنى مثنى) وذِكْرُ النهار غلط. ونذكر هذا الباب إن شاء الله عند الوصول إلى الحديث الشاذ وزيادة الثقة وما يتعلق بهذه المعاني.

قوله "وأن يروى نحوه من غير وجه": بمعنى أن يأتي بمعناه وإن لم يكن بلفظه من وجوه أخرى, بحيث لا يكون أصلاً في الباب, فإذا كان الخبر في النية, فقد جاء ما يدل عليه من المعاني الأخرى.

وقد نوزع الإمام أبو عيسى رحمه الله تعالى في هذا, لأن الصواب في الحديث الحسن أنه ما ارتقى عن درجة الضعيف ولم يبلغ مرتبة الصحيح, وإذا لم يكن أحد من الرواة متهماً بالكذب, فلا يلزم أن يكون ثقة, فكثير من الرواة لا يُتهمون بالكذب وهم ضعفاء, لأن التهمة بالكذب تنافي الصدق, وهذا هو الذي كان يعبر عنه بعض الأئمة حين يُسأَل عن فلان, فيقول: ثقة, فيقال له: يُحتَج به في الحديث؟ فيقول: لا.

وهذا كثير جدا في كلام يحيى بن معين, يُسأَل عن الراوي, فيقول: ثقة, يُقال له: يُحتَج به في الحديث؟ يقول: لا.

إذاً ما معنى هذا؟

المعنى - حتى نفهم, ولا نهم على الأئمة, وحتى لا نصحح هذا الحديث بمجرد التوهم والغلط – أنه ثقة أي في دينه, بمعنى أنه صدوق, وقد يعبرون عنه بأنه صدوق, بمعنى الصدوق عند السلف, بمعنى الذي لا يتقصد الكذب, وليس صدوقاً بمعنى أن حديثه صحيح, فهذا غلط, بل الصدوق الذي لا يتقصد الكذب عند السلف, والثقة أي في دينه, لأنه لما قيل له: يُحتَج به؟ قال: لا. فإن الاحتجاج شيء آخر, إذاً هو ضعيف في الحديث, ثقة في دينه, صدوق بمعنى أنه لا يتقصد الكذب.

ثم قال المؤلف "وهذا مشكل أيضاً على ما يقول فيه: حسن غريب, لا نعرفه إلا من هذا الوجه":

هذا لا إشكال فيه, وإنما أتى هذا الإشكال عن عدم استيعاب وفهم لكلام أبي عيسى الترمذي رحمه الله تعالى.

أبو عيسى عرَّف الحديث الحسن الذي لا يرتبط بمعنىً آخر. فالمؤلف قال "وهذا مشكل أيضاً على ما يقول فيه: حسن غريب":

إذا قال: حسن غريب, خرج عن التعريف, ولا دخل في تعريف الترمذي. فالترمذي عرَّف الحديث الحسن الذي لم يرتبط لفظه بمعنىً آخر, إذا قال: هذا حديث حسن, ما قال: حديث حسن صحيح, ولا قال: حديث حسن غريب, إذاً قال الترمذي: حديث حسن, فقط, هو الذي قاله, ألاَّ يكون في رواته كذاب ولا متهم بالكذب, وأن يسلم من الشذوذ, وأن يُروَى نحوه من غير وجه.

وأما إذا قال: وهذا حديث حسن غريب, فخرج عن التعريف, فإننا نتناول هذا الحديث بمنهج جديد, وبحكم مستقل مغاير للحكم الآخر, وهذا مهم جداً, لا بد أن نفهمه حتى لا نهم أيضاً على أبي عيسى الترمذي رحمه الله تعالى.

فعليه قول المؤلف "وهذا مشكل أيضاً على ما يقول فيه: حسن غريب, لا نعرفه إلا من هذا الوجه": ليس بمشكل, فإنه حين قال لا نعرفه إلا من هذا الوجه, خرج عن حيز التعريف الذي يقول: وجاء من غير وجه.

قوله "وقيل الحسن ما ضعفه محتمِل - ويجوز أن تقرأ محتَمل - ويسوغ العمل به":

الحسن يُعمل به, وهذا بلا إشكال, بشرط أن يرتقي عن درجة الضعيف.

وأما الخبر الضعيف إذا ثبت ضعفه فلا يُعمَل به. والصواب من قولي العلماء أنه لا يُعمَل به لا في الأحكام, ولا في الفضائل, ولا في الآداب, ولا في القصص, ولا في غير ذلك, ولكن لا مانع من روايته تحت أصل, أو يُروَى ويُبيَّن ضعفه, فينبغي أن يُميَّز بين ما يُروَى وبين ما يُحتَج به, فقد يُروَى الحديث الضعيف, ولا يزال الأئمة يروون الأحاديث الضعيفة, ويكتبونها, ويدوِّنونها, ولكن هل يُعمَل بالحديث الضعيف؟

الصواب: لا, وليس معنى هذا أن الحديث الضعيف المختلف في ضعفه ننكر على الآخرين إذا كانوا يروونه ويعملون به, لأن هناك ضعف لا ينجبر ومجمع على ضعفه, فهذا لا إشكال فيه أنه لا يجوز العمل به بالاتفاق, وضعف آخر قد ينجبر, ولذلك يتنازع العلماء فيه, منهم من يحسنه, ومنهم من لا يحسنه, فإذا كان العالم الفلاني يحسنه والآخر يضعفه, فلا يأتي الذي يضعفه لينكر على الذي يحسنه, ولا الذي يحسنه لينكر على الذي يضعفه, كلٌّ يعمل بما بلغه, لا تثريب على هذا ولا على ذاك.

لأن الناس الآن يعانون مسألة الأحاديث الواردة في الأذكار والفضائل وما يتعلق بذلك, إذا بلغ الفتى أن فلاناً يضعفه, وبلغ الآخر بأن فلاناً يصححه, أوجد عنده بلبلة, وهذا لا إشكال فيه, لا يزال العلماء يتنازعون في ذلك.

مثال هذا: حديث (اللهم أجرني من النار) سبع مرات في الصباح والمساء بعد صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب:

من العلماء من حَسَّنَ هذا الخبر باعتبار أنه جاء من رواية الحارث بن مسلم عن أبيه, ومنهم من ضعف هذا الخبر باعتبار وجود الجهالة والاضطراب في هذا الخبر, ولعل هذا هو الأقرب, وأن الخبر مضطرب.

ولكن الأئمة لم يتفقوا على ضعف هذا الخبر, فمنهم من حسنه, ومنهم من ضعفه.

وأعلى من هذا: الأحاديث الواردة في النـزول على اليدين, والأحاديث الواردة في النزول على الركبتين:

فقد جاء حديث محمد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير, وليضع يديه قبل ركبتيه).

وجاء الحديث الآخر: حديث يزيد بن هارون عن شريك عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي, فإذا أراد أن يسجد, وضع ركبتيه قبل يديه).

منهم من حمل هذا على حالتين, تفعل هذا تارة, وذاك تارةً أخرى, وهذا مبحث فقهي, ونحن نتحدث الآن عن البحث الحديثي:

الصواب أن كلا الحديثين ضعيف, فالحديث الأول حديث محمد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير) فيه عدة علل:

العلة الأولى: تَفَرُّدُ محمد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد, وأين مالك وأصحاب مالك عن رواية هذا الخبر عن أبي الزناد حتى يتفرد به محمد بن عبد الله بن الحسن؟!!.

العلة الثانية: الانقطاع بين محمد بن عبد الله بن الحسن وأبي الزناد, وأشار إلى هذه العلة الإمام البخاري رحمه الله تعالى وغيره.

العلة الثالثة: الوقف, فقد ذهب جماعة من العلماء ومن أكابر المحدثين إلى أن الصواب في هذا الحديث هو الوقف, بأنه موقوف ولا يصح رفعه. وفيه غير ذلك من العلل.

الحديث الآخر, شريك عن عاصم: شريك سيئ الحفظ, وقد ذكر أبو عيسى وغيره بأن شريكاً لم يرو عن عاصم بن كليب إلا هذا الخبر.

ولكن لا يزال الحفاظ والأئمة يتنازعون في هذه الأحاديث, منهم الذي يصحح, ومنهم الذي يضعف, ولا تثريب على من ذهب إلى هذا أو ذاك, فنحن الآن في مجال بحث المصطلحات, وبحث طريقة التصحيح وطريقة التضعيف, وكيفية التعامل مع كلام الأئمة رحمهم الله تعالى في هذه الأخبار.

وقد تقدم أن هذا العلم وسيلة إلى كيفية التصحيح والتضعيف, والتعامل مع كلام الأئمة, فلا بد أن نحفظ ولا بد أن نستوعب هذا العلم بالحفظ والجد والاجتهاد في تحصيل هذا الأمر.

ثم قال المؤلف "وهذا أيضاً ليس مضبوطاً بضابط يتميز به الضعف المحتمِل".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وقال ابن الصلاح رحمه الله: (( إنَّ الحسَنَ قَسمان:

أحدُهما: مالا يخلو سَنَدُه من مستورٍ لم تَتحقَّق أهليتهُ، لكنه غير مُغَفَّلٍ ولا خطَّاءٍ ولا متهم، ويكون المتنُ مع ذلك عُرِف مثلُه أو نحوُه من وجهٍ آخر اعتَضد به.

وثانيهما: أن يكون راويه مشهوراً بالصدق والأمانة، لكنه لم يبلغ درجةَ رجالِ الصحيح لقصوره عنهم في الحفظ والإتقان، وهو مع ذلك يرتفع عن حالِ من يُعَدُّ تفرُّدُه منكَراً، مع عَدَمِ الشذوذِ والعِلِّة )).

فهذا عليه مؤاخذات.

وقد قلت لك: إنَّ الحسَنَ ما قَصُرَ سَنَدُه قليلاً عن رتُبة الصحيح. وسيَظهر لك بأمثلة.

الشرح

قال المؤلف رحمه الله تعالى "وقال ابن الصلاح رحمه الله: إن الحسن قسمان":

ذكر هذا رحمه الله تعالى في كتابه المقدمة, وحين ألَّف ابن الصلاح كتاب المقدمة كان الناس بعده عيالاً عليه.

قوله "أحدهما ما لا يخلو سنده من مستورٍ لم تتحقق أهليته, لكنه غير مغفل ولا خطَّاء ولا متهم, ويكون المتن مع ذلك عُرِفَ مثله أو نحوه من وجه آخر اعتضد به":

وهذا فيه نظر, وذلك من وجوه:

الوجه الأول: أنه وإن صح هذا تعريفاً للحسن, فإنه للحسن لغيره وليس لذاته, فلا يصح هذا تعريفاً للحسن لذاته, لأنه لا بد أن يقوى بنفسه دون غيره.

الوجه الثاني: "أن يكون المتن عُرِفَ مثله أو نحوه من وجه آخر اعتضد به" لا يلزم أنه إذا اعتضد بمتن آخر أن يكون الخبر حسناً, فقد يأتي من وجوه متعددة, ولا يرتقي إلى درجة الحُسْن, وذلك لأسباب كثيرة, كما مثلت قبل قليل بحديث (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) فهذا حديث ضعيف, وإن جاء من غير وجه, لا يعتضِد, لأن الأحاديث الصحيحة على خلافه. وقد ذكرت قبل قليل شروط قبول الحديث الذي يُحَسَّنُ بشواهده.

الوجه الثالث: أنه لا يلزم من الراوي إذا لم يكن مغفلاً ولا خَطَّاءً, وليس فيه تهمة, أن يعتضد حديثه بغيره. ثم إن هذا ليس تعريفاً للحديث الحسن, هذا الحديث عن الحديث الضعيف إذا قوي بالمتابعات والشواهد.

قوله "وثانيهما: أن يكون راويه مشهوراً بالصدق والأمانة, لكنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح, لقصوره عنهم في الحفظ والإتقان, وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يُعَدُّ تفرده منكراً, مع عدم الشذوذ والعلة":

وقد تقدم أن هذا قسيم للأحاديث الصحيحة. هنا يقول: أن يكون راويه مشهوراً بالصدق والأمانة –أي والحفظ- لكنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح, لقصوره عنهم في الحفظ والإتقان, وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يعد تفرده منكراً, مع عدم الشذوذ والعلة. إذاً توفرت فيه الشروط الخمسة: بنقل عدل, تام الضبط, متصل السند, غير مُعَلَّلٍ ولا شاذ, ولكنه قَصُرَ قليلاً عن رتبة الصحيح, فهذا يُعَدُّ حديثه حسناً.

ومَظِنَّةُ هذا: سنن أبي داود, وسنن النسائي, وجامع أبي عيسى, وسنن ابن ماجه, وهذه الكتب فيها الصحيح, وفيها الضعيف, وفيها الحديث الحسن.

وقد ذهب بعض العلماء إلى أن كل حديث ثبت عند أبي داود, أو عند النسائي, أو في أي كتاب دون الصحيحين, فإنه لا يبلغ مرتبة الصحيح. السبب في هذا, يقول أن الصحة مختصة بما في الصحيحين, وما خرج عن الصحيحين وإن كان ثابتا فإنه يُعَبَّرُ عنه بالحديث الحسن, وهذا فيه نظر, لأن صاحبي الصحيح لم يشترطا استيعاب الأحاديث الصحيحة في كتابيهما, فقد تركا أحاديث كثيرة, بدليل أن أبا عيسى رحمه الله تعالى في جامعه ينقل عن البخاري تصحيح أحاديث كثيرة, كحديث (الطهور ماؤه الحل ميتته) صححه الإمام البخاري رحمه الله تعالى, ولم يورده في صحيحه, وكما ذكر ذلك الإمام مسلم رحمه الله تعالى قال: ليس كل حديث صحيح أودعته في كتابي. فهناك أحاديث صحيحة لم يودعها الإمام البخاري ولا مسلم في صحيحيهما.

ولكن نشير إلى قواعد عامة, وستأتي إن شاء الله على شكل خاص:

القاعدة الأولى: أنه لا يلزم من ثقة الرواة صحة الحديث.

القاعدة الثانية: أنه لا يلزم من تصحيح أبي عيسى للحديث أو تحسينه أن يكون في نفس الأمر صحيحاً أو حسناً, فقد صحح الإمام أبو عيسى رحمه الله تعالى أحاديث كثيرة, ولم تبلغ مرتبة الصحة, ولا مرتبة الحُسْن, كحديث كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده, صححه, وهو حديث متروك باتفاق الحفاظ, وكحديث عاصم بن عبيد الله, صحح له أبو عيسى, وهو حديث ضعيف عند الأكثر من العلماء.

وليس معنى هذا أن أبا عيسى رحمه الله تعالى متساهل كما يقوله من يقوله, ومنهم الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى, فقد ذكر في الميزان بأنه متساهل, وهذا غلط, فإن أبا عيسى رحمه الله تعالى ليس بمتساهل في التصحيح. هو إمام جِهبِذ, إمام حافظ عالم, ولكن له نظرة في بعض الأحاديث لا تعني أنه متساهل في هذا, بدليل أنه يضعِّف أحاديث قد وجدت في صحيح البخاري, وبدليل أن الأحاديث التي اتهم بأنه صححها وهي ضعيفة, قد شاركه في تصحيحها شيخه الإمام البخاري, فهل يعني هذا وصف البخاري بالتساهل؟!!

كلا. ثم إنه لا يجوز رمي العلماء رحمهم الله تعالى بمثل هذه العبارات العامَّة, بالتساهل ونحو ذلك, لأن هذه وجهة نظر, وهي مبنية على أصول, وعلى أمور أخرى. فمن قال عن الترمذي رحمه الله تعالى بأنه متساهل في التصحيح, فلا يُعتمد على تصحيحه فقد غلط, بل الترمذي رحمه الله معتدل, ويُعتَمَد على تصحيحه.

ولكن ليس معنى أنه مُعتَمد على تصحيحه أن ُيوافَق من كل وجه. حتى الإمام أحمد لو صحح أحاديث ربما يختلف معه غيره, فيكون الصواب مع الآخر, فهذا الإمام أحمد رحمه الله تعالى حين سأله أبو داود عن حديث (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله, ينفون عنه تحريف الغالين, وانتحال المبطلين, وتأويل الجاهلين) أهو موضوع؟ قال: لا, بل هو صحيح. وأكثر الحفاظ بل كل الحفاظ يضعفون هذا الخبر, فهل يعني أن الإمام أحمد متساهل في هذا, وأن الآخرين متشددون على هذا الاعتبار؟!! لا. هذه وجهات نظر, وهذه اجتهادات عند العلماء رحمهم الله تعالى.

القاعدة الثالثة: أن الحفاظ إذا أجمعوا على تصحيح حديث فلا تَعْدُ هذا إلى كلام غيرهم, وإذا أجمعوا على تضعيف حديث كحديث عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام من غير أن يمس ماء) هذا مجمع على ضعفه, فلا تَعْدُ إلى تصحيح غيرهم, وإذا اختلف الحفاظ الأكابر في تصحيح خبر أو تضعيفه, فلا حرج أن تذهب إلى من تراه أقوى أو أعلم, وحذارِ حذارِ من الهوى.

نهاية الدرس الثاني - يوجد أسئلة.

 

 

 

 

 

 

 

ثم لا تَطمَعْ بأنَّ للحسَنَ قاعدةً تندرجُ كلُ الأحاديثِ الحِسانِ فيها، فأَنَا على إِياسٍ من ذلك، فكم من حديث تردَّدَ فيه الحُفَّاظُ، هل هو حسَنٌ أو ضعيفٌ أو صحيح؟ بل الحافظُ الواحدُ يتغيَّرُ اجتهادُه في الحديث الواحد، فيوماً يَصِفُه بالصحة، ويوماً يَصِفُه بالحُسْن، ولربما استَضعَفَه.

وهذا حقٌّ، فإنَّ الحديثَ الحَسَنَ يَستضعفه الحافظُ عن أن يُرَقِّيَه إلى رتبةِ الصحيح، فبهذا الاعتبارِ فيه ضَعْفٌ ما، إذْ الحَسَنُ لا ينفك عن ضَعْفٍ ما، ولو انفَكَّ عن ذلك لصَحَّ باتفاق.

الشرح

قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى "ثم لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها":

يشير بهذا رحمه الله تعالى إلى أن الحديث الصحيح له قاعدة, وأن الحديث الحسن ليس له قاعدة, لا تختلف الأفراد عن الكليات, لأن الحديث الحسن هو أحد الأحاديث الصحيحة في اصطلاح الأئمة المتقدمين, ويشير إلى هذا المؤلف رحمه الله تعالى بعد قليل.

وقد حرص كثير من المتأخرين على جعل ضابط للحديث الحسن, فأتى كل عالم بما أدى إليه علمه واجتهاده وفهمه, فأبعد جماعة, وقرَّب جماعة, واختلفت عباراتهم وأقوالهم, وكان كل واحد من هؤلاء يرد على الآخر, وتارةً يزيد, وتارةً ينقص, ولم يتفقوا على تعريفٍ جامعٍ مانعٍ للحسن, وإن كان أقرب هذه التعاريف: القول بأنه ما ارتقى عن درجة الضعيف, ولم يصل إلى درجة الصحة.

والعلماء رحمهم الله تعالى يختلفون في الحكم على الأحاديث صحةً وضعفاً, ولكن هناك أمور من المسلَّمات عند هؤلاء:

فقد اتفق العلماء على تلقي صحيحي البخاري ومسلم بالقبول, واختلفوا فيما عدا ذلك.

ويأتي الاختلاف في التصحيح والتضعيف للاختلاف في الحكم على الرواة, وهذا أحد معاني الاختلاف.

أمرٌ آخر يختلف على حسب وقوفهم على كلام الأئمة السابقين: فمن كان أكثر اطلاعاً على كلام الأئمة, وأكثر حفظاً, وأكثر بحثاً, وأكثر معرفة, كان حكمه على الأحاديث أصوب, وأقرب من كلام غيره.

قوله "فكم من حديث تردد فيه الحفاظ, هل هو حسن أو ضعيف أو صحيح؟":

وهذا كثير في كلام المتأخرين, من أهل القرن الخامس والسادس والسابع إلى عصرنا هذا, ولكنه قليل في كلام الأئمة المتقدمين, كالبخاري, وأحمد, وعلي بن المديني, ويحيى بن معين, ومسلم, وأبي داود, الترمذي, والنسائي, ومن قبل هؤلاء, كمالك, وشعبة, والسفيانين, ونحو هؤلاء.

وقد ذكرت فيما تقدم بأن الأئمة إذا اتفقوا على تضعيف حديث, فلا تبحث عن صحته في كلام غيرهم, وإذا اتفقوا على تصحيح حديث, فلا يُنظَر إلى من ضعفه. وحين يختلفون: ننظر في مراتب هؤلاء الأئمة, ومنازل هؤلاء الأئمة, وقدرات هؤلاء الأئمة في الحكم على الأحاديث, بشرط أن يكون هذا البحث مبنياً على ضبط قواعدهم, وضبط أصولهم, فإن من ضبط قواعد هؤلاء الأئمة, وضبط أصولهم, استطاع أن يصل إلى نتيجة إيجابية غير متناقضة.

ولا تُبنَى هذه النتيجة على النظر في ظواهر الأسانيد, فهذا ظلم للرواة, وظلم للأحاديث. النتيجة الصحيحة هي التي تُبنَى على الحكم على الرواة, والدراسة للراوي, لأن الراوي قد يكون ثقة, ولكنه إذا روى عن فلان فإنه ضعيف, وقد يكون ضعيفاً, ولكنه في مرويات فلان أقوى منه في مرويات غيره, هذه هي المرحلة الأولى.

المرحلة الثانية: النظر في الاتصال والانقطاع, فإن الراوي قد يكون ثقة عن ثقة ثقة عن ثقة, ولكن فيه انقطاع, فالذي لا ينظر في كلام الأئمة في الاتصال والانقطاع يخطئ في التصحيح. وفي هذا كتب مؤلفة, كالمراسيل لابن أبي حاتم, والمراسيل لأبي داود, والتاريخ الكبير للبخاري, وغير ذلك كثير.

المرحلة الثالثة: النظر في العلة, وهذه أصعب المراحل, فكم من حديث ظاهره الصحة وهو معلول, وقد يكون بالاتفاق.

والعلة تتمثل بأمور:

الاختلاف. والاختلاف نوعان: نوع مؤثر, ونوع غير مؤثر.

تتمثل بالتدليس, وهذه علة خفية.

تتمثل بالانقطاع, أوبترجيح وقفه على رفعه, أوبترجيح إرساله على رفعه.

وما يُلَقَّى ذلك إلاَّ الذين يبحثون ويحفظون, واختلط هذا العلم بلحومهم ودمائهم, فإن هذا العلم لا يُكتَسب عن فراغ, بل هو علم عظيم, علم مبني على أمرين كبيرين:

الأمر الأول: الحفظ وسعته.

الأمر الثاني: البحث مع الفهم.

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى "بل الحافظ الواحد يتغير اجتهاده في الحديث الواحد":

وقد قلت قبل قليل أن هذا بالنسبة للمتقدمين قليل, وبالنسبة للطبقة الوسطى هذا صحيح أنه كثير في كلامهم, وهو أكثر في كلام المعاصرين.

والسر في هذا قلة الحفظ, فيختلف الاجتهاد ربما لقلة حفظه, فإنه يصحح وينسى أنه صحح, فبالتالي يضعف, ولأن هذا العلم مبني في أصول المتأخرين على غير أصول المتقدمين في الكثير منهم.

مثال هذا: كان الأئمة المتقدمون لا يكثرون التحسين بالشواهد, وهذا استفاض في كلام المتأخرين, حتى صارت أكثر الأحاديث الحسنة في كلامهم ما كانت بالشواهد, ومنهم من منع من التحسين بالشواهد مطلقاً, وهذا لا أصل له في كلام السلف, ولا أصل للتوسع.

وقد كان السلف يتوسطون في ذلك, فلا يحسنون بالشواهد في العقائد, ولا ما خالف أصلاً, ولا يمنعون من ذلك مطلقاً.

أمر آخر: حديث المجهول, كثير من المتأخرين يقول أن الجهالة نوعان:

جهالة حال, وجهالة عين. وجهالة الحال ما روى عن راوٍ راويان, وجهالة العين ما روى عن الراوي واحد. وبنوا على ذلك أن الأول مقبول, والثاني مردود, وهذا فيه نظر, فأئمة السلف في المجهول لا يقبلونه مطلقاً, ولا يردونه مطلقاً, فيعتبرون حديثه بالقرائن, وبحكم الأئمة عليه, فإذا تفرد هذا بأصل, أوخالف غيره, أو أتى بحديث لا يُحمَل تفرده فيه, فهذه علة, سواء روى عنه اثنان أو ثلاثة, أولم يرو عنه إلا واحد.

الأمر الثالث: كان الأئمة يشددون في مسألة الاتصال, وهذا مما تساهل فيه المتأخرون. بعكس هذا فإن المتأخرين يشددون في التدليس, حتى في الحسن البصري, وفي أبي إسحاق السبيعي, وفي قتادة, وفي الوليد بن مسلم, وفي الأعمش, إذا رأوا للواحد من هؤلاء حديثا معنعناً, قالوا: علته الأعمش, مدلس وقد عنعن, وهذا لا يمكن أن تراه ولو في حديث واحد في كلام المتقدمين, فإنهم يفرقون بين العنعنة وبين التدليس, وهذا من اختلاف الأصول بين المتأخرين والمتقدمين.

الأمر الرابع: أن المتقدمين يُعِلُّوْنَ حديث الصدوق الذي لا يُعرَف كثرة تفرده, ولا يُعرَف له كبير حديث إذا تفرد بأصل, وهذا لا يكاد يوجد في كلام المتأخرين, وإن وُجِدَ فهو نادر. وهناك أمور غير ذلك نمر عليها إن شاء الله تعالى في أبوابها.

قال المؤلف "فيوما يصفه بالصحة ويوما يصفه بالحسن ولربما استضعفه, وهذا حق, فإن الحديث الحسن يستضعفه الحافظ":

في الحقيقة أن الحديث الحسن هو قسم من أقسام الأحاديث الصحيحة, ولا يمكن أن يستضعفه الحافظ, لأنه لو استضعفه, أو بدا له أنه لا يتقوى, فهم يحتاطون لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلا يصححونه, بل يضعفونه.

والحسن نوعان:

نوع يثبت تصحيحه بالأمور القطعية عند المحدث, بحيث لا يخالجه شك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال هذا, كما لا يخالجنا شك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلِّم الصحابة خطبة الحاجة كما يعلمهم السورة من القرآن, فقد جاء من رواية أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود, وجاء من رواية أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود, وصححه جمع غفير من الحفاظ.

النوع الثاني: هو الذي يختلف فيه اجتهاد الحافظ, ويكون الأمر ظنياً بالنسبة له, فلا يقطع بصحته, ولكنه يرى أنه إلى الصحة أقرب منه إلى الضعف, فيكون تحسينه للحديث تحسيناً نسبياً. وأمثلة هذا كثيرة جداً, والناس يتفاوتون في هذا. ونضرب مثالاً في حديث زكاة الحُلِي الذي رواه أبو داود في سننه من طريق خالد بن الحارث عن الحسين المعلِّم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأةً أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وفي يد ابنتها مَسَكَتَانِ غليظتان من ذهب, فقال: (أتؤدين زكاة هذا؟) قالت: لا. قال: (أَيَسُرُّكِ أن يُسَوِّرَكِ الله بسوارين من نار؟):

هذا حديث أعله الإمام النسائي رحمه الله تعالى بالإرسال, وجزم بضعفه واضطرابه الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى, وأكثر الأئمة المتقدمين يضعفونه, ولا يرون العمل به, كمذهب مالك والشافعي وأحمد, وعمل به الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى, ولم يثبت عنه أنه حكم عليه بالصحة. واشتهر تصحيح هذا الخبر في كلام أصحاب القرون الوسطى وكلام المعاصرين, والصواب في هذا أنه خبر معلول, لا يصح بحال, وبالتالي لا يؤخذ منه حكم فقهي.

فالذين يرون تحسين هذا الخبر, هو مجرد تحسين ظني لغلبة الظن, والذين يرون ضعفه طبقتان: منهم من يقطع بضعفه, ويرى أن هذا الأمر قطعي, ومنهم من يرى أن الأمر ظني, لاحتمال صحة الخبر.

قال المؤلف "وهذا حقٌّ, فإن الحديث الحسن يستضعفه الحافظ عن أن يرقيه إلى رتبة الصحيح, فبهذا الاعتبار فيه ضعفٌ ما, إذ الحسن لا ينفك عن ضعفٍ ما":

وهذا ليس على إطلاقه, والصواب أن الحسن المقبول لا ضعف فيه, إلاَّ إذا كان المؤلف رحمه الله تعالى يقصد بأن الحسن لا ينفك عن ضعف عند طائفة من العلماء, بحيث يقول هذا بأنه صحيح, والآخر يقول بأنه ضعيف, فهو لا ينفك عند غير من قال به, لأن من قال بحسنه جزم بذلك, ولا يرى أن هناك علة في تضعيفه. وإذا قيل عن الحديث بأنه حسن فبمعنى أنه مقبول ويشرع العمل به. والمؤلف رحمه الله تعالى يذكر بعد قليل بعض النماذج للأسانيد الحسنة.

قوله "ولو انفك عن ذلك لصح باتفاق":

الصواب أنه لا يلزم من ذلك أن يكون بالاتفاق. والصواب أيضاً أن الحسن هو من قِبَلِ الأحاديث الصحيحة.

 

 

وقولُ الترمذي: (هذا حديث حسَنٌ صحيح)، عليهِ إشكال، بأن الحَسَن قاصِرٌ عن الصحيح, ففي الجمع بين السَّمْتَيْنِ لحديثٍ واحدٍ مُجاذَبَة.

وأُجيبَ عن هذا بشيءٍ لا ينَهض أبداً، وهو أنَّ ذلك راجعٌ إلى الإسناد، فيكون قد رُوِيَ بإسنادٍ حسن، وبإسنادٍ صحيح. وحينئذٍ لو قيل: حسنٌ صحيح، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، لبَطَلَ هذا الجواب.

وحقيقةُ ذلك ـ أن لو كان كذلك ـ أن يقال: حديث حَسنٌ وَصحيح. فكيف العَملُ في حديثٍ يقول فيه: حسَنٌ صحيح, لا نعرفه إلا من هذا الوجه. فهذا يُبطِلُ قولَ من قال: أن يكون ذلك بإسنادين.

ويَسُوغُ أن يكون مُرادُه بالحَسَن المعنى اللغويَّ لا الاصطلاحيَّ، وهو إقبالُ النفوسِ وإصغاءُ الأسماعِ إلى حُسنِ مَتْنِه، وجِزَالةِ لفظِه، وما فيه من الثوابِ والخير، فكثيرٌ من المتون النبوية بهذه المثابة.

الشرح

قال المؤلف رحمه الله تعالى "وقول الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح), عليه إشكال, بأن الحسن قاصر عن الصحيح, ففي الجمع بين السمتين لحديث واحد مجاذَبة":

لماذا استشكل الذهبي رحمه الله تعالى هذا؟

لأنه ربما غاب عنه تعريف الترمذي للحديث الحسن, فالترمذي عَرَّف الحسن بأنه ما لم يكن فيه كذاب ولا متهم بالكذب, وليس شاذاً وجاء من غير وجه, فالإمام أبو عيسى عَرَّفَ الحسن الذي لم يقترن بوصفٍ آخر, لا بوصف غريب, ولا بوصف صحيح.

إذاً إذا قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, لا نعرفه إلا من هذا الوجه, لا إشكال فيه, لأنه ربط ووصف الحسن بالصحة, فخرج عن حيز التعريف الذي ذكره, فنحن نتعامل مع اصطلاح الترمذي فيما ذكره عن نفسه, لا بما ينقله ويذكره الآخرون عنه, فهذا وجه الغلط في كلام حفاظ وأكابر, أمثال الذهبي, وابن حجر في النخبة, وآخرين من العلماء.

هنا يقول بأن "عليه إشكال بأن الحسن قاصر عن الصحيح ففي الجمع بين السمتين لحديث واحد مجاذبة": لا مجاذبة في ذلك.

قوله "وأجيب عن هذا بشيء لا ينهض أبداً, وهو أن ذلك راجع للإسناد, فيكون قد روي بإسناد حسن, وبإسناد صحيح, وحينئذٍ لو قيل: حسن صحيح, لا نعرفه إلا من هذا الوجه, لبطل هذا الجواب":

والصواب أنه لا يبطل على اصطلاح الترمذي, وإنما يبطل على من قال بأنه روي بإسناد حسن وبإسناد صحيح, ففيه إسنادان, فإذا قيل: لا نعرفه إلا من هذا الوجه, بطل, لأنه لا يُعرَف إلا من طريق واحد, ولكن أبا عيسى الترمذي إذا قال: هذا حديث حسن أو صحيح, لا يقصد بأن الحسن في هذا الموضع جاء من غير وجه, بدليل أنه كثيراً ما يقول: هذا حديث حسن صحيح, لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

مثاله: روى أبو عيسى في جامعه من طريق يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص الليثي قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئٍ مانوى, فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله, فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها, أو امرأةٍ ينكحها, فهجرته إلى ما هاجر إليه) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح, لا نعرفه إلا من حديث يحيى. الترمذي أكبر من كونه يذكر تعريفاً, ويتناقض معه بأكثر من ألف مثال, هذا لا يقع في كلام صغار طلبة العلم, فكيف يقع في كلام الأكابر أمثال أبي عيسى عليه رحمة الله تعالى؟!! فعُلِمَ أن الغلط ممن جاء بعده, وممن أراد أن يفسر كلامه فأعماه وما فهمه, فأبو عيسى رحمه الله تعالى يقول: هذا حديث حسن صحيح, لا نعرفه إلا من هذا الوجه. فإذاً الحسن هنا لا يدخل فيه ما جاء من غير وجه, لأنه إذا أُفْرِدَ دون إذا قُرِنَ بلفظ آخر.

إذاً يبقى الإشكال: ما معنى كلام أبي عيسى إذا قال: وهذا حديث حسن صحيح, لا نعرفه إلا من هذا الوجه؟

قيل عدة أقوال:

القول الأول: قيل بأنه حسن عند جماعة, صحيح عند آخرين, بمعنى أن الخلاف قائم بين العلماء, منهم من يحسنه ومنهم من يضعفه.

وقيل بأن الحسن المقصود به هنا هو المعنى اللغوي, بمعنى أن النفوس تُقْبِلُ وتصغي إلى حسن متنه, وجزالة لفظه, ولا علاقة للناحية الاصطلاحية في هذا.

وقيل: - وإليه أشار الحافظ رحمه الله تعالى في النخبة - حُذِفَتْ أداة التردد, والمعنى: حسن أو صحيح, بمعنى أن هناك تردد عند الحافظ.

وقيل في المعنى الرابع: حسن المتن, صحيح الإسناد.

وهذه المعاني متقاربة, وغير متناقضة, وقد تكون كلها مقصودة, باستثناء حذف أداة التردد ففي ذلك مجاذَبة.

قال المؤلف "وحقيقة ذلك - أن لو كان كذلك - أن يقال: حديث حسن وصحيح. فكيف العمل في حديثٍ يقول فيه: حسن صحيح, لا نعرفه إلا من هذا الوجه. فهذا يبطل قول من قال: أن يكون ذلك بإسنادين":

هذا بلا ريب أنه يبطل قول من قال أن ذلك بإسنادين. ولكن الغلط أن يقال أن هذا بإسنادين, لأن تعريف الحسن عند الترمذي إذا أُفْرِدَ فقط, ينبغي أن نفهم هذا.

وأكرر لأهمية الأمر: الإمام أبو عيسى حين عَرَّفَ الحسن مراده إذا أُفْرِدَ هذا اللفظ, وأما ما قال فيه: حسن غريب, فلا يصح هذا التعريف, وما قال فيه: حسن صحيح فلا يصح هذا التعريف. إذاً لا تَنَاقُضْ حين يقول: حسن صحيح, لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وأبو عيسى أكبر من كونه يُعَرِّفُ الحسن بأنه ما جاء من غير وجه, ثم يقول فيما لا يقل عن ألف حديث: هذا حديث حسن صحيح, لا نعرفه إلا من هذا الوجه, بل آحاد الناس وأصاغر طلبة العلم أكبر من كونهم يقعون في هذا الغلط.

قال المؤلف رحمه الله تعالى "ويسوغ أن يكون مراده بالحسن المعنى اللغوي لا الاصطلاحي: وهو إقبال النفوس وإصغاء الأسماع إلى حسن متنه, وجزالة لفظه, وما فيه من الثواب والخير, فكثير من المتون النبوية بهذه المثابة":

وهذا أحد المعاني التي قيلت في الجمع بين لفظ الحُسْن وبين لفظ الصحة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قال شيخنا ابنُ وهب: فعلى هذا يَلزمُ إطلاقُ الحَسَنِ على بعضِ الموضوعات, ولا قائل بهذا.

ثم قال: فأقول: لا يشُتَرَطُ في الحَسَن قيدُ القُصور عن الصحيح، وإنما جاء القصورُ إذا اقتُصِر على (حديثٌ حَسَن)، فالقصورُ يأتيه من قيدِ الاقتصار، لا من حيث حقيقتهُ وذاتهُ.

ثم قال: فللرُواةِ صفاتٌ تقتضي قبولَ الرواية، ولتلك الصفاتِ دَرَجَاتٌ بعضُها فوقَ بعض، كالتيقَّظِ والحفظِ والإتقان.

فوجودُ الدَّرَجةِ الدنيا كالصدقِ مثلاً وعَدَمِ التُّهمة، لا ينافيه وجودُ ما هو أعلى منهُ من الإتقانِ والحفظ. فإذا وُجِدتْ الدرجةُ العُلْيا، لم يُنافِ ذلك وجودُ الدنيا كالحفظ مع الصدق، فَصحَّ أن يقال: (حسَنٌ) باعتبار الدنيا، (صحيحٌ) باعتبار العُلْيا.

ويَلزَمُ على ذلك أن يكون كلُّ صحيحٍ حسناً، فيُلتَزَمُ ذلك، وعليه عبارات المتقدمين، فإنهم يقولون فيما صَحَّ: هذا حديثٌ حسن.

الشرح

قال المؤلف رحمه الله تعالى "قال شيخنا ابن وهب - هو الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى - فعلى هذا يلزم إطلاق الحسن على بعض الموضوعات, ولا قائل بهذا":

إن كان يعني بهذا أنه لا قائل بهذا على المعنى الاصطلاحي, فهذا لا إشكال فيه, أنه لا قائل به: كيف الجمع بين السمتين حديث وموضوع؟!!.

وإن كان يقصد بهذا المعنى, فهذا فيه نظر. لأن الحديث الموضوع قد يكون معناه صحيحاً, كحديث (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان):

هذا خبر موضوع على الصحيح, كما قال ذلك الإمام أحمد ويحيى وجماعة من الحفاظ, ولكن النفوس تصغي إلى حسن هذا المعنى, وجزالة لفظه, وأمثلة هذا كثيرة جداً.

ولا تلازم عند المحدثين بين الوضع وبين فساد المعنى, كما أنه لا تلازم عند المحدثين بين صحة المعنى وبين صحة الإسناد, فحديث (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه):

الصواب إرساله عند المحدثين, وقد جزم بلك الإمام البخاري, وأبو حاتم, وأحمد, وأبو زرعة, والدارقطني, وابن رجب, كل هؤلاء الأئمة يجزمون بإرسال هذا الخبر.

فقد رواه الإمام مالك عن الزهري عن علي بن الحسين زين العابدين عن النبي صلى الله عليه وسلم, ومن رواه كقرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد غلط, وقرة تقدم بأنه سيء الحفظ, قاله أحمد, ويحيى, وجماعة. وزيادة على سوء حفظه فقد خالف من هو أوثق منه, وأقعد منه, وأحفظ منه, فبالتالي يُحكَم على رواية قرة بالشذوذ والنكارة, ونحكم لرواية مالك بالحفظ والضبط, فحديث (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) لا يصح عند المحدثين إلا مرسلاً, وإن قال عنه أبو عيسى في جامعه: وهذا حديث حسن صحيح. فقد تفرد في رفعه قرة بن عبد الرحمن المعافري, وهو سيء الحفظ, وقد خالفه مالك رحمه الله تعالى.

 

 

 

 

قوله "ثم قال: فأقول: لا يشترط في الحسن قيد القصور عن الصحيح, وإنما جاء القصور إذا اقتُصِرَ على (حديث حسن) فالقصور يأتيه من قيد الاقتصار, لا من حيث حقيقته وذاته":

وهذا فيه نظر أيضاً, على اعتبار الذين يقسمون الخبر إلى صحيح وحسن في هذا القول نظر, وعلى اعتبار الذين يجعلون الحديث إما صحيحاً وإما ضعيفاً فلا إشكال في هذا.

قوله "ثم قال: فللرواة صفات تقتضي قبول الرواية, ولتلك الصفات درجات بعضها فوق بعض, كالتيقظ والحفظ والإتقان":

وقد ذكرت هذا فيما سبق, وذكرت صفات الرواة الذين تُقبَل أحاديثهم كالحفظ والضبط, وقلت بأن الضبط نوعان: ضبط كتاب, وضبط صدر.

فالذي يضبط عن كتاب, ويحدث من صدره, ويغلط, هذا يُترَك حديثه, ما لم نتيقن بأنه حدث عن كتاب. وقلت أن ابن مهدي يقول بأن الرواة ثلاثة: حافظ متقن, فهذا لا يُختَلف في قبول حديثه. وآخر حافظ ضابط, ويغلط, ولكن الغالب عليه الضبط, فهذا يُقبَل حديثه. والثالث حافظ, ولكنه يهم, ويغلط, والغالب على حديثه الوهم والغلط, فهذا يُترَك حديثه.

وقد يُقبَل الراوي في وجه دون وجه كالمختلط: المختلط كعطاء بن السائب, فمن روى عنه قبل الاختلاط قُبِلَ حديثه, ومن روى عنه بعد الاختلاط تُرِكَ حديثه. ويمكن تقسيم المختلطين إلى قسمين:

قسم تميز حديثه.

وقسم لم يتميز حديثه.

فالذين لم يتميز حديثهم نتركهم مطلقاً, ولا نقبل منهم لا صرفاً ولا عدلاً, كالليث بن أبي سليم.

وقسم تميزت أخبارهم, كعطاء بن السائب: نقبل من عطاء من روى عنه قبل الاختلاط, كسفيان, والحمَّادَيْن على الصحيح, والأعمش لأنه من القدامى, وشعبة, وأمثال هؤلاء. ولا نقبل زهيراً, ولا جريراً, ولا أمثال هؤلاء.

فالرواة لهم صفات يُقبَلون بها. فإذاً هذا يقتضي أهمية دراسة الأسانيد, وأكرر: بقراءة الكتب المطولة.

فإذا أراد أحدكم أن يدرس إسناداً في أبي داود, أو في جامع أبي عيسى, أو عند النسائي, فإنه يذهب إلى تهذيب الكمال, أو تهذيب التهذيب, وينظر ما قيل عن الرواة. والرواة قد يكون فيهم خلاف, فإن كان عنده قدرة على الترجيح, فإنه يرجح, وإن لم يكن عنده قدرة على الترجيح, فإنه يعتمد على غيره من الأئمة, وينظر في كلام السابقين, هذه هي المرحلة الأولى, ثم المرحلة الثانية, والثالثة قد ذكرتها قبل قليل.

إذاً المعرفة مراحل متعددة. وأكرر وأقول: إن الراوي قد يقال عنه بأنه ثقة, ولكن ينبغي أن نتنبه لقولهم (إلا في فلان), وقد لا يرد هذا الاستثناء لا في تهذيب الكمال, ولا في تهذيب التهذيب, بل يرد هذا الاستثناء في صلب كتب الأئمة المتقدمين, كالعلل لأحمد, أو العلل لابن أبي حاتم, أو التاريخ الكبير للبخاري, وأمثال هؤلاء. وهذا يقتضي ضرورة إدمان النظر في كتب الأئمة, والبُعْدَ عن التعجل, والتصدر للتصحيح والتضعيف, قبل أن ترسخ قدم العبد في قراءة هذه الكتب المطولة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى "فوجود الدرجة الدنيا كالصدق مثلاً وعدم التهمة, لا ينافيه وجود ما هو أعلى منه من الإتقان والحفظ":

لأن الرواة مراتب متعددة. ودائماً أكرر: مالك عن نافع عن ابن عمر, ليس كسهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة, وليس كالعلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحُرَقِي مولاهم عن أبيه عن أبي هريرة, فهؤلاء مراتب متعددة.

وأيضاً سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة, ليس كعبد الله بن محمد بن عَقِيل عن ابن الحنفية عن علي, فرواية سهيل أعلى من رواية عبدا لله بن محمد بن عَقِيل, وأعلى من رواية أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضَمْرة عن علي على الصحيح. وعاصم بن ضَمْرة أكثر العلماء يوثقونه, ولكن فيه كلام للمحدثين.

قوله "فإذا وُجِدَت الدرجة العليا, لم ينافِ ذلك وجود الدنيا كالحفظ مع الصدق, فصح أن يقال (حسن) باعتبار الدنيا (صحيح) باعتبار العليا":

وهذا أحد المعاني فيما قيل عنه (حسن صحيح). لكن إذا قال (لا نعرفه إلا من هذا الوجه) ففيه التفصيل السابق.

قوله "ويلزم على ذلك أن يكون كل صحيح حسناً, فيُلتزَم ذلك, وعليه عبارات المتقدمين":

وهذا ما أكرره بأن هذه طريقة المتقدمين, فإنهم قد يقولون فيما صح (هذا حديث حسن). ولكن قد يقولون في الحديث الحسن (هذا حديث صحيح).

فإذا قالوا فيما صح (هذا حديث حسن) فإنهم يقصدون بذلك المعنى العام, لأن أول من قال ذلك على الاصطلاح الخاص هو أبو عيسى الترمذي, وتتابع الناس بعده. ولكن الأئمة المتقدمين يقولون في الحديث الذي لم تتوفر فيه شروط الصحة من كل وجه - وكان على اصطلاح المتأخرين يُطلَق عليه بأنه حسن - يقولون عنه بأنه صحيح, ولا غضاضة في ذلك.

ولأن أكثر العامة الآن حينما تقول له (حديث حسن) فإنه لا يفهم معنى (حديث حسن), وحينما تقول (صحيح) فإنه يفهم, فبالتالي لا حرج على الإنسان أن يصطلح على إلغاء لفظ الحسن, فيقول (هذا حديث صحيح) للفهم والاستيعاب. فإذا سأل سائل فقال: من أي مراتب الصحة؟ نقول: من الحسن. وهذا اصطلاح جيد, وينبغي أن نتمشى معه في بعض الأوقات, وبالذات حين الحديث عند العامة وما يتعلق به, ولو اصطلحنا عليه مطلقاً لم يكن في ذلك غضاضة, فهو منهج أكابر المتقدمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قلتُ: فأعلى مراتب الحَسَن:

بَهْزُ بن حَكيم، عن أبيه، عن جَدِّه.

و: عَمْرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جَدِّه.

و: محمد بن عَمْرو، عن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة.

و: ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التَّيْمِي، وأمثالُ ذلك.

وهو قسمٌ مُتجاذَبٌ بين الصحةِ والحُسن، فإنَّ عِدَّةً من الحُفَّاظ يصححون هذه الطرق، وينعتونها بأنها من أدنى مراتب الصحيح.

ثم بعد ذلك أمثلةٌ كثيرة يُتَنازَعُ فيها، بعضُهم يُحسَّنونها، وآخَرُون يُضعِّفونها، كحديث الحارثِ بن عبد الله، وعاصم بن ضَمْرة، وحَجَّاج بن أَرْطَاة، وخُصَيْف، ودَرَّاجٍ أبي السَّمْح، وخلقٍ سِواهم.

الشرح

قال الحافظ الذهبي "قلت: فأعلى مراتب الحسن: بهز بن حكيم عن أبيه عن جده":

أي هذا من أعلى مراتب الحسن, وهو بهز بن حكيم عن أبيه عن جده, وهذه السلسلة موجودة بكثرة في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وجماعة. وقد روى ذلك البخاري في صحيحه معلقاً.

قوله "وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده":

والخلاف في رواية عمرو بن شعيب أكثر من الخلاف في رواية بهز بن حكيم, لأن عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص, عن أبيه شعيب, عن جده: قيل يعني بجده محمد بن عبد الله, فحينئذ يكون منقطعاً.

وقد أشار الحاكم رحمه الله تعالى في كتاب الحج إلى رواية صحيحة في سماع شعيب من عبد الله بن عمرو بن العاص فيكون المعنى: عمرو عن أبيه وهو شعيب, عن جده جد شعيب, ليس جد عمرو وهو عبد الله بن عمرو بن العاص, فيكون الإسناد متصلاً.

وحين نقول عن رواية بهز بن حكيم, وعن رواية عمرو بن شعيب, بأن هذه السلسلة مقبولة, وأن هذه السلسلة من أعلى مراتب الحسن, لا يعني هذا أن نقبل هذه السلسلة في كل حديث, كلا. لأن بعض الناس يسمع مثل هذا الكلام, وإذا رأى عمرو بن شعيب, قال: هو مقبول. هذا غلط, فقد تكون فيه علة أخرى ممن قَبْلَ عمرو بن شعيب, أو قد تكون العلة منه, أو يكون فيه تفرد, أو فيه مخالفة, فحينئذ يُترَك عمرو, ويُترَك بهز.

قال "ومحمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة":

وفي جامع أبي عيسى أحاديث كثيرة جداً لمحمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة. مع وجود الخلاف القوي بين المحدثين في محمد بن عمرو عن أبي سلمة, وقد ضعف ذلك يحيى وغيره.

وذهب أحمد وأبو عيسى وجماعة إلى قبول هذا, وهذا الأقرب, فإن سلسلة محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مقبولة. من ذلك حديث افتراق الأمم, فقد جاء من رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة.

ومن ذلك حديث (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة). ولا ينافي هذا ورود هذا الخبر في الصحيحين.

قوله "وابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي, وأمثال ذلك":

محمد بن إسحاق مقبول, وهو موصوف بالتدليس, وقد قال الإمام أحمد عنه: إذا تفرد بالأحكام فإنه لا يُقبَل. ومن العلماء من قال: هو في السيرة صحيح, وفي الحديث ضعيف.

والصواب في محمد بن إسحاق بأنه صدوق يَهِمُ قليلاً, فيُقبَل حديثه في الفضائل, وفي الأحكام, مالم يتفرد بأصل, أو يخالف غيره, ونعتبر في الحكم على حديثه بالقرائن, فإذا دلت قرينة على ترك حديثه تركناه, وإلاَّ فالأصل قبوله.

قال المؤلف "وهو قسم متجاذَبٌ بين الصحة والحُسْن, فإن عدة من الحفاظ يصححون هذه الطرق, وينعتونها بأنها من أدنى مراتب الصحيح. ثم بعد ذلك أمثلة كثيرة يُتنازَع فيها, بعضهم يحسنونها, وآخرون يضعفونها, كحديث الحارث بن عبد الله":

هذا الحارث بن عبد الله الأعور. يروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والصواب في الحارث أنه ضعيف مطلقاً, وقد قال عنه أبو خيثمة وعلي بن المديني: كذاب.

وقد جاء بأسانيد صحيحة عن جماعة من السلف بأن الحارث الأعور يقول: تعلمت القرآن في سنتين, والوحي في ثلاث سنين - حين قال بعض السلف: حفظت القرآن في سنتين - قالوا: القرآن هَيِّنٌ, أشد منه الوحي. فالحارث الأعور ضعيف مطلقاً.

قوله "وعاصم بن ضَمْرة":

الصواب في عاصم بن ضَمْرة أنه صدوق. وهو يروي عن علي رضي الله عنه, وله أحاديث كثيرة في جامع أبي عيسى. من ذلك ما رواه أبو إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضَمْرة عن علي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل الظهر أربعا وبعدها ركعتين), هذا حديث حسن كما قاله أبو عيسى. وبهذا الإسناد: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر أربعاً). وقد ذكر أبو عيسى في جامعه بأن بعض المحدثين يوثقون عاصم بن ضَمْرة.

 

قوله "وحجاج بن أرطاة":

والصواب في حجاج أنه ضعيف, ومدلس, وهو يضطرب كثيراً في الأحاديث. قوله "وخُصَيف":

خُصَيف هذا هو ابن عبد الرحمن الجزري, توفي سنة ثمان وثلاثين ومائة. والصواب أنه سيء الحفظ ضعيف.

قوله "ودَرَّاج أبي السمح, وخلقٍ سواهم":

دَرَّاج مختلف فيه, والصواب أن دَرَّاجاً صدوق, باستثناء ما رواه عن أبي الهيثم, فإذا روى دَرَّاج عن أبي الهيثم فضعيف. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ما أنكرها.

من ذلك: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان) جاء من رواية دَرَّاج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري, وهذا خبر معلول.

ومن ذلك قول موسى: (يا رب علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به) هذا جاء من رواية أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد, وهو معلول.

نهاية الدرس الثالث - يوجد أسئلة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

3- الضعيف:

ما نَقَص عن درجة الحَسَن قليلاً.

ومن ثَمَّ تُرُدِّدَ في حديثِ أُنَاسٍ، هل بَلَغ حديثُهم إلى درجةِ الحَسَنِ أم لا؟

وبلا ريبٍ فخَلْقٌ كثيرٌ من المتوسطين في الرَّوايةِ بهذه المثابة. فآخِرُ مراتب الحَسَنِ هي أول مراتب الضَّعيف.

أعني: الضعيفَ الذي في ((السُّنَن)) وفي كتب الفقهاء, ورُواتُه ليسوا بالمتروكين، كابن لَهِيعَة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأبي بكر بن أبي مريم الحمصي، وفَرَج بن فَضَالة، ورِشْدين، وخلقٍ كثير.

الشرح

قال المؤلف رحمه الله تعالى "الضعيف":

هو النوع الثالث من أقسام الحديث. فحين تحدث المؤلف رحمه الله تعالى عن الحديث الصحيح ومراتبه, وتحدث عن الحديث الحسن, شرع رحمه الله يتحدث عن الحديث الضعيف.

والحديث الضعيف مراتب متعددة: فمنه المطروح وهو ما رَبَّعَ به المؤلف رحمه الله, ومنه المنقطع, ومنه المرسل في قول طائفة من العلماء, ومنه المنكر, ومنه المتروك, ومنه المعضل, وفيه غير ذلك.

ولكن المؤلف رحمه الله تعالى قصد بقوله الضعيف ما انحط عن رتبة الحسن ولم يبلغ مرتبة المتروك, وهذا اصطلاح لطائفة من العلماء في تعريف الحديث الضعيف, فمنهم من يعبر بالضعيف, ومنهم من يعبر بالضعيف جداً فيما اشتد ضعفه, وذلك للتمييز بين هذا وذاك.

 

 

قال المؤلف رحمه الله تعالى عن الضعيف "ما نقص عن درجة الحسن قليلاً":

فهو لم يصل إلى مرتبة الحسن, لأنه لو وصل إلى مرتبة الحسن لكان صحيحاً, ولم ينحط عن رتبة الضعيف إلى ضعيف جداً, أو إلى متروك, أو إلى منكر.

وإن كان جماعة من العلماء يطلقون المنكر على الضعيف, ولذلك قال المؤلف "ومن ثَمَّ تُرُدِّدَ في أحاديث أناس, هل بلغ حديثهم إلى درجة الحسن أم لا؟": وهذه مسائل اجتهادية تنبعث من الحكم على الراوي, ومن البحث, ومن قوة الاطلاع, ومن تتبع الطرق.

فأنا أكرر دائماً بأن التصحيح لا يُبنَى على مجرد النظر في ظاهر الإسناد, فقد يتسلسل الحديث ثقة عن ثقة, وفيه علة, وفي نفس الوقت ليس كل راوٍ قيل عنه بأنه ضعيف يُترَك حديثه مطلقاً, فقد يُحتَج به في باب المتابعات والشواهد, وقد يُقبَل في بعض الرجال, وقد يجري العمل عليه, وقد يُروَى عنه في باب الرقاق والترغيب والترهيب ونحو ذلك, وقد يتنازع العلماء فيه, منهم من يحسن حديثه كابن إسحاق, ومنهم من يضعِّف حديثه.

ويمكن أن نقسِّم الرواة إلى أقسام:

القسم الأول: ما اتفق الحفاظ على توثيقه.

القسم الثاني: ما اختلف العلماء فيه, والأكثر على توثيقه, كشريك ابن أبي نَمِر, وخالد بن مخلد القَطَواني, وفُلَيْح بن سليمان, ونحو هؤلاء.

القسم الثالث: الثقة الذي اختلط ولم يتميز حديثه, فهذا يُترَك مطلقاً.

القسم الرابع: الثقة الذي اختلط وتميز حديثه, فمن روى عنه قبل الاختلاط قُبِلَ حديثه, ومن روى عنه بعد الاختلاط تُرِكَ حديثه.

القسم الخامس: الحافظ المختلف فيه, وغلطه أكثر من صوابه, فهذا ضعيف, كابن لهيعة, وعبد الرحمن بن زياد الإفريقي, ونحو هؤلاء.

القسم السادس: الذي يُقبَل في حال دون حال, ويُترَك في حال دون حال, كسماك يُقبَل مطلقاً باستثناء روايته عن عكرمة, فسماك عن عكرمة ضعيف, وكعكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير, فعكرمة ثقة, وإذا روى عن يحيى بن أبي كثير فحديثه ضعيف.

القسم السابع: المتفق على ضعفه, وهؤلاء مراتب متفاوتة.

فقول المؤلف رحمه الله تعالى "وبلا ريب فخلقٌ كثير من المتوسطين في الرواية بهذه المثابة":

بمثابة من تُرُدِّدَ في حديثه, هل بلغ مرتبة الحسن أم لا؟ ومثل هؤلاء خلق كثير, منهم من يوثقهم, ومنهم من يضعفهم. وحيث أن الدرس عن الحديث الضعيف, فنتحدث عن بعض الضعفاء, وبعض مروياتهم, كعبد الرحمن بن زياد الإفريقي, فقد روى عن أبي غُطَيف عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ على طُهْرٍ كتب الله له عشر حسنات).

قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى: هذا إسناد ضعيف, وعلته عبد الرحمن بن زياد, فإنه سيء الحفظ, وهذا قول الأكثر من العلماء.

مثال آخر للصدوق الذي ضُعِّفَ في بعض الأحاديث ليكون في هذه الحالة في حيز الضعفاء: حديث عائشة الذي رواه أحمد وابن خزيمة وجماعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة بسواك تعدل سبعين صلاةً بغير سواك).

هذا تفرد به محمد بن إسحاق, وقد ضُعِّفَ محمد ابن إسحاق في هذا الخبر, وأنكر حديثه الإمام أحمد والبخاري والدارقطني وابن خزيمة وجماعة من العلماء.

وقد أشار المؤلف رحمه الله تعالى في آخر فصل الضعيف إلى بعض الضعفاء, نتحدث عنهم إن شاء الله تعالى بعد قليل.

 

 

قوله "فآخر مراتب الحسن هي أول مراتب الضعيف":

وهذا فيه نظر, لأن الحسن نوع من أنواع الصحيح, وآخر مراتب الحسن صحاح, ولا يصح عَدُّها في مراتب الضعف, فهذه العبارة غير دقيقة.

وأما مسألة الاختلاف فالاختلاف لا يجعل من الحق باطلاً, ولا من الباطل حقاً, ولا يجعل من الصحيح ضعيفاً, ولا من الضعيف صحيحاً, فهذه اجتهادات خاضعة للأئمة رحمهم الله تعالى.

ولكن الاصطلاح العام أن آخر مراتب الحسن رتبة من مراتب الصحيح, ولا ينزل الحسن إلى مرتبة الضعيف إلا باجتهادات العلماء, وعلى حسب اختلافاتهم, وبحثهم واطلاعهم ومعرفتهم ونحو ذلك.

كما أن الضعيف الذي ثبت ضعفه, لا يرتقي إلى درجة الحسن, وقد يُحسَّن عند طائفة لاعتقادهم بأن هؤلاء الرواة يصلون إلى مرتبة الحسن.

وقد قال طائفة من العلماء بأن الضعيف إذا تعددت طرقه كان حسناً لغيره, وهذا مشهور في كلام المتأخرين, وله رواج في الكتب المعاصرة, ويبحثون في بطون الكتب, والأجزاء, والكتب الغريبة, ويستنتجون منها المتابعات والشواهد, ويبحثون من هنا وهناك عن بعض الزيادات ويصححونها, وهذا منهج غير مرضي, فإن الأئمة الذين يقولون بجواز تحسين الحديث بكثرة طرقه, لا يقولون بذلك على وجه الإطلاق, بل يقيدون ذلك, ويذكرون بعض الشروط, أشير إليها:

الشرط الأول: ألاَّ يكون ذلك في باب الاعتقاد, كالأسماء والصفات ونحو ذلك, لأن الاعتقاد لا يُبنَى إلاَّ على أمور قطعية.

الشرط الثاني: ألاَّ يخالف أصلاً, كحديث (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) لا نحسنه بشواهده على كثرتها, لأنه يخالف الأحاديث الثابتة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكل من وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكر أحد عنه أنه كان يبسمل.

الشرط الثالث: ألاَّ يكون في أصل باب من الأبواب, لأن هذا يُرفَضُ فيه حديث الصدوق الذي ليس بمكثر, فكيف يُقبَل فيه حديث الضعيف؟!!.

الشرط الرابع: ألاَّ يكون في هذه الأسانيد كذاب, ولا متهم بالكذب, ولا متروك الحديث, ولا يكون المتن غلطاً لأن الغلط لا يزال غلطاً, ولا يتقوى الغلط بالغلط, ولا المنكر بالمنكر, إنما يتقوى حديث سيء الحفظ, كحديث شريك القاضي بحديث قيس بن الربيع, وبحديث عبد الله بن لهيعة ونحو هذا.

قوله "أعني الضعيف الذي في السنن وفي كتب الفقهاء":

وهذا فيه نظر, كما تقدم.

قوله "ورواته ليسوا بالمتروكين كابن لهيعة":

عبد الله بن لهيعة مختلف فيه: فمنهم من وثقه وقَبِلَه مطلقاً.

ومنهم من ضعفه مطلقاً, وهذا قول الجمهور, كيحيى بن معين, وأحمد في رواية, ويحيى بن سعيد, وأبي حاتم, وأبي زرعة. وحين قيل لأبي زرعة رحمه الله: رواية القدامى عنه, تختلف عن رواية غيرهم؟

قال: القدامى وغيرهم سواء, فهو ضعيف ولا يُحتَج به.

القول الثالث في ابن لهيعة التفصيل: فمن روى عنه من الأكابر من أصحابه كعبد الله بن وهب, وعبد الله بن المبارك, وعبد الله بن يزيد المقري, ويُعَبَّرُ عن ذلك في بعض كتب المحدثين برواية العبادلة عن ابن لهيعة, ويُلحَق بهؤلاء: الليث وجماعة من القدامى, فهؤلاء تقبل رواياتهم عن ابن لهيعة عند طائفة من العلماء, ومن كان غير هؤلاء فيُرَدُّ حديثهم.

والصواب في ابن لهيعة أنه يُعتَبر في باب المتابعات والشواهد, ولا يُقبَل في الأحكام مطلقاً, سواء روى عنه العبادلة أم غيرهم.

ومن حديثه (عجب ربك من شابٍّ ليست له صبوة):

تفرد به عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف.

قوله "وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم":

يروي عن أبيه. ولزيد بن أسلم ثلاثة أبناء يروون عنه: عبد الرحمن, وأسامة, وعبد الله, وكلهم ضعفاء على الصحيح, وأضعفهم عبد الرحمن, ويكاد يتفق الحفاظ على أنه ضعيف, وقد حكى الحاكم الاتفاق على ضعفه. وقد قال أبو حاتم وغيره: كان في دينه صالحاً, وفي حديثه واهياً.

وقد روى عن أبيه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُحِلَّت لنا ميتتان ودمان) ورفع هذا الخبر منكر.

وقد رواه سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن ابن عمر موقوفاً, وهذا هو المحفوظ, رواه الدارقطني وغيره.

قوله "وأبي بكر بن أبي مريم الحمصي":

الشامي. اختُلِفَ في اسمه: فقيل بُكَيْر, وقيل غير ذلك. وقد ضعفه أكثر الحفاظ. قيل: سُرِقَ حُلِيٌّ له, فتغير عقله.

ومن حديثه (الكيس من دان نفسه) وهو حديث ضعيف, وعلته أبو بكر بن أبي مريم.

قوله "وفرج بن فضالة":

فرج بن فضالة فيه خلاف كثير بين العلماء, منهم من وثقه, ومنهم من ضعفه, وهو إلى الضعف أقرب, وحديثه عن يحيى بن سعيد أشد ضعفاً.

قوله "ورشدين":

هو ابن سعد المصري. ذهب أكثر العلماء إلى ضعفه. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ما بحديثه بأس في الرقاق. أي لا حرج منه في الترغيب والترهيب, وأما في الأحكام فلذلك رجال.

ومن حديثه (الماء طهور لا ينجسه شيء, إلا أن تغير طعمه أو لونه أو رائحته). قوله "وخلقٍ كثير":

أي غير هؤلاء أعداد كثيرة يُضَعَّفُوْنَ, ولا يبلغ ضعفهم مرتبة المتروكين, وقد يختلف العلماء فيهم, منهم من يضعف, ومنهم من يوثق, والأقرب التضعيف.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

4- المطروح:

ما ا نحطَّ عن رُتبة الضعيف.

ويُروَى في بعض المسانيد الطِّوال وفي الأجزاء، وفي (( سنن ابن ماجَهْ )) و (( جامع أبي عيسى )).

مثلُ عَمْرِو بن شَمِر، عن جابر الجُعفي، عن الحَارِث، عن علي.

وكصَدَقَة الدَّقِيقي، عن فَرْقَدٍ السَّبَخي، عن مُرَّةَ الطَّيِّب، عن أبي بكْر.

وجُوَيْبِر، عن الضحاك، عن ابن عباس.

وحفص بن عُمَر العَدَني، عن الحكَم بن أبان، عن عكرمة.

وأشباهُ ذلك من المتروكين، والهَلْكَى، وبعضهم أفضل من بعض.

الشرح

قال المؤلف رحمه الله تعالى "المطروح: وهو ما انحطَّ عن رتبة الضعيف":

المطروح هو ما انحطَّ عن رتبة الضعيف, ولم يبلغ مرتبة الموضوع, وهذا اصطلاح لطائفة من العلماء, فمنهم من يعبر عن المطروح بأنه ضعيف, والمتروك بأنه ضعيف, والمنكر بأنه ضعيف. وما كان في إسناده سيء الحفظ, أو قليل الضبط بأنه ضعيف. المقصود البيان ولا مشاحة في الاصطلاح, وهو البيان بالتمييز بين الصحيح والضعيف.

ويجب البيان بين الضعيف والموضوع, لأن الموضوع لا تجوز روايته بحال, بخلاف الضعيف.

والمطروح هو ما اشتد ضعف رواته, ويوجد من هؤلاء بكثرة في معاجم الطبراني, وفي كثير من كتب الأجزاء, والكتب المتأخرة, ويوجد شيء من هذا في سنن أبي داود, وفي جامع أبي عيسى, كحديث عمر بن أبي خثعم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى بعد المغرب ست ركعات) الحديث, هذا خبر منكر ضعيف جداً, وقد ضعفه أبو عيسى, ونقل عن البخاري بأن عمر منكر الحديث, فحديثه مطروح.

وقد يعبر البخاري بأنه مطروح, ويعبر الإمام أحمد بأنه متروك, ويعبر أبو حاتم بأنه ضعيف, لأن النتيجة واحدة.

قوله "ويُروَى في بعض المسانيد الطوال, وفي الأجزاء, بل وفي سنن ابن ماجه وجامع أبي عيسى":

بل ويُروَى - وإن كان قليلاً - في سنن النسائي, وفي أبي داود, وفي مسند أحمد.

ثم إن المؤلف رحمه الله تعالى مَثَّلَ بحديث "عمرو بن شَمِر - ويقال شِمْر - عن جابر الجعفي عن الحارث - وهو الأعور- عن علي":

وهذه سلسلة مطروحة متروكة عند الحفاظ. وجابر الجعفي ضعيف جداً ولا يُحتَج به, والحارث هو الأعور تقدم الحديث عنه.

قوله "وكصدقة - وهو ابن موسى - الدقيقي":

ضعيف الحديث, وهو قول الأكثر. ولم يصب الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في التقريب حين قال: صدوق له أوهام.

والصواب أنه ضعيف, وهذا قول الأكثر من المحدثين.

قوله "عن فرقد السَّبَخِي": ضعيف "عن مرة الطيب": وهو ثقة "عن أبي بكر". قوله "وجويبر":

وهو ابن سعيد البلخي, نزيل الكوفة, قيل اسمه جابر, ويُصَغَّر بجويبر. وقد تكلم فيه الحفاظ, وحديثه ضعيف جداً.

قوله "عن الضحاك عن ابن عباس":

الضحاك هذا هو ابن مزاحم الهلالي. قال يحيى بن سعيد: كان شعبة لا يحدث عن الضحاك. وقال: لأنه لم يسمع من ابن عباس.

وقال ابن حبان رحمه الله: أدرك الضحاك اثنين وسبعين تابعياً, أو عدداً من التابعين, ولم يشافه أحداً من الصحابة, ومن قال بأنه سمع من ابن عباس فقد وهم.

وذكر نحو هذا ابن عَدِي وغيره من الحفاظ. فجويبر عن الضحاك سلسلة متروكة, ضعيف عن ثقة يروي عمن لم يسمع منه.

قوله "وحفص بن عمر العدني": ضعيف "عن الحكم بن أبان عن عكرمة".

قال المؤلف "وأشباه ذلك من المتروكين والهلكى, وبعضهم أفضل من بعض": أي أن هؤلاء مراتب, بعضهم أفضل من بعض.

وهذه الأمور يمكن تلخيصها بلفظ أخصر مما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى من هذه التقاسيم, ولكنه رحمه الله تعالى قسم الضعيف, ثم أتى بالمطروح, ثم يأتي بالموضوع, ثم يأتي بالمرسل, ثم يأتي بالمنقطع, ليفهم الطالب أكثر, وليستوعب أحسن, وإن كان بعض العلماء يرى أن هذه الأمور قد تُباعِد عن الفهم, وتُباعِد عن الضبط, فإن المقصود أن يفهم بأنه ضعيف, وليس بلازم أن يفهم بأنه متروك أو مطروح أو غير ذلك.

ولكن جميل جداً أن نعلم بأن هذا ضعيف, وهذا ضعيف جداً, لنعلم ما هو الذي يمكن أن يتقوى في باب المتابعات والشواهد, وفي نفس الوقت نعرف مقدار الضعف, وما هو الذي قال عنه الأئمة بأنه يُعمَل به في باب الرقاق, وفي باب الفضائل, وفي نفس الوقت نعرف المختلف فيه من غيره, لأن الحديث الذي اتفق الحفاظ على ضعفه لا يجوز العمل به بحال, لا في الفضائل ولا في غيرها, وأما الحديث الذي اختلف فيه العلماء منهم من يحسنه ومنهم من يضعفه, فهذا الذي قال بعض العلماء بأنه ُيعمَل به في الفضائل, ومنهم من يرى أنه لا ُيعمَل بشيء في الفضائل ولكن إذا جاء الحديث في الأحكام كان فيه التشديد, وإذا جاء الحديث في الفضائل كان فيه التساهل, بمعنى أن شريكاً القاضي النخعي الكوفي يضعف في الأحكام, لكن إذا جاء في الفضائل تُسُوْمِحَ في حديثه, فهذا المعنى من هذا القول المذكور عند جماعة من العلماء.

فالمؤلف رحمه الله تعالى حين ذكر الحديث المطروح, وذكر بعض أمثلته, قال: "وأشباه ذلك من المتروكين والهلكى, وبعضهم أفضل من بعض" يعني أن هؤلاء الهلكى يتفاوتون, وفي نفس الوقت لا يزال كلام العلماء مختلفاً في بعضهم, فهذا يوثق, وهذا يضعف, وهذا يرى بأن الخبر يصل إلى مرتبة المتروك.

بل هناك أحاديث في جامع أبي عيسى الترمذي رحمه الله تعالى حكم عليها بالصحة, وخالفه أكثر العلماء بأن الخبر متروك أو منكر أو باطل أو غير ذلك. ولكن هذا قليل بالنسبة لكلام الأئمة المتقدمين.

وهذا الغلط يكثر في كلام المتأخرين: ترى بعض المتأخرين يحكم على الحديث بالصحة, وهو عند العلماء مثلاً مجمع على ضعفه, كحديث عائشة رضي الله عنها - رواه البيهقي وغيره, ورواه أهل السنن, ولكن صححه البيهقي وغيره - تقول عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام جنباً من غير أن يمس ماء):

هذا حديث مجمع على ضعفه عند السلف, ضعفه أحمد والبخاري وأبو حاتم وأبو زرعة ومسلم, وحكى ابن رجب في فتح الباري وابن عبدالهادي في المحرر الإجماع على ضعفه, ثم أتى بعض المتأخرين إلى تصحيحه معتمداً على كلام البيهقي, وشتان ما بين الإجماع على ضعفه ومابين الانتقال إلى تصحيحه.

وأكبر من هذا أن يتفق الحفاظ على نكارته, ثم يأتي من يصححه أيضاً, لأن رواة حديث عائشة ثقات, ولكن الإشكالية في وقوع الغلط, فالحديث وُجِدَ فيه غلط, فهو ضعيف, ولذلك أجمع العلماء على ضعفه.

وهناك أحاديث يكاد يتفق الحفاظ على أن الخبر موضوع كحديث (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان):

ذهب أكثر الأئمة, منهم أحمد ويحيى, إلى أنه حديث موضوع وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأتى بعض المتأخرين إلى تصحيحه.

وقد يوجد عن الأئمة اختلاف في الراوي فينتج منه اختلاف في التصحيح والتضعيف, أما أن يكون الأئمة متفقون على تضعيفه وعلى نكارته, ثم يأتي من يصححه, فهذا بعيد جداً.

وحَرِيٌّ بعد هذا أن يكون هناك عناية خاصة بضبط الرواة, وبضبط كلام الأئمة رحمهم الله تعالى.

وأنا أقول دائماً بأنه لا يكفي أن الإنسان يحفظ بأن الراوي صدوق أو ثقة أو صدوق يخطئ, لأنه لا بد أن يضبط كل مروياته, إذا أراد أن يتأهل لمسألة التصحيح والتضعيف, لأن الراوي قد يوثق في فلان, ويحسن حديثه في الآخر, ويضعف, كحماد بن سلمة مثلاً: حماد بن سلمة من أوثق الناس في ثابت البناني, حتى قال الإمام أحمد وغيره: لا يُقَدَّمُ في ثابت أحد على حماد.

وفي نفس الوقت حماد بن سلمة ضعيف الحديث عن قتادة, وصدوق عن غير قتادة وعن غير ثابت, لأنه عن ثابت ثقة, واحتج به مسلم وغيره, وعن قتادة ضعيف, ضعفه أحمد وغيره, وعن آخرين فإنه صدوق, فهذه مراتب لا بد أن نعيها في كل راوٍ إذا أردنا أن نصحح أو نضعف.

وهناك أمر آخر وهو النظر في كلام الأئمة, وفي تصحيحهم, وفي تضعيفهم, وفي كيفية التعامل مع ترجيح الوقف, أو ترجيح الرفع, أو ترجيح الإرسال, أو وجود غلط في الحديث, وهذه يسمى اختلاف مؤثر, واختلاف غير مؤثر.

وأما العلة فهي علة, ولا يقال أنها علة مؤثرة, أو علة غير مؤثرة, كما وضحت, وسوف أوضح إن شاء الله في باب العلة. إذا سميناها علة فهي مؤثرة مطلقاً. لكن نقول: اختلاف مؤثر, واختلاف غير مؤثر, فالاختلاف المؤثر هو الذي فيه علة. نعم قد تكون العلة خفية لا يَطَّلِعُ عليها إلا نوادر من العلماء, وقد تكون العلة ظاهرة يَطَّلِعُ عليها طالب العلم, ويَطَّلِعُ عليها العالم الحاذق المبدع.

فإن قيل: إذا قلنا بأن الأئمة كانوا يتعاملون مع المطروح بأنه ضعيف, فكيف نتعامل نحن مع الراوي في باب التحسين في باب المتابعات والشواهد, إذا ما عرفنا هذه الاصطلاحات الخاصة التي ذكرها أصحاب القرون الوسطى؟

فالجواب أن التعامل يكون مع الرواة, ومع اجتهاد العالم, لأنه من وصل إلى مرتبة التحسين بالشواهد, فهو يعطي كل راوٍ مرتبته, بصرف النظر هل يفهم بأنه مطروح أو غير مطروح, أو يتعامل مع هذه الاصطلاحات الخاصة.

فهو حين يبحث عن الإسناد, ويرى سلسلة فيها جويبر عن الضحاك عن ابن عباس, أو سلسلة فيها حفص بن عمر العدني عن الحكم, أو سلسلة فيها جابر الجعفي عن الحارث الأعور عن علي, فهذه أحاديث متروكة لشدة الضعف في بعض رواتها, لكن حين يرتقي إلى رتبة أعلى من هؤلاء كابن لهيعة, وما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى كصدقة بن موسى الدقيقي, وأمثال هؤلاء, يمكن أن يرتقي إلى مرتبة أرفع من المتروكين, ويمكن يرتقي أيضاً إلى مرتبة أرفع من ابن لهيعة, وهي المرتبة التي بعض العلماء يحسن أحاديثهم كعبدالله بن محمد بن عَقِيل, وكعاصم بن أبي النجود, وكشريك بن عبدالله القاضي النخعي الكوفي, وأمثال هؤلاء.

نهاية الدرس الرابع – يوجد أسئلة.

 

 

 

 

 

5- الموضوع:

ما كان مَتْنُه مخالفاً للقواعد، وراويه كذَّاباً، كالأربعين الوَدْعانيَّة،   وكنسخةِ عليّ الرِّضَا المكذوبةِ عليه.

وهو مراتب، منه:

ما اتفقوا على أنه كَذِب. ويُعرَفُ ذلك بإقرار واضعِه، وبتجربةِ الكذبِ منه، ونحوِ ذلك.

ومنه: ما الأكثرون على أنه موضوع، والآخَرُون يقولون: هو حديثٌ ساقطٌ مطروح، ولا نَجسُرُ أن نُسمَّيَه موضوعاً.

ومنه: ما الجمهورُ على وَهْنِه وسُقوطِه، والبعضُ على أنه كذِب.

ولهم في نقد ذلك طُرقُ متعدِّدة، وإدراكٌ قويٌ تَضِيقُ عنه عباراتُهم، من جِنسِ ما يُؤتاه الصَّيرفيُّ الِجهْبِذُ في نقدِ الذهب والفضة، أو الجوهريُّ لنقدِ الجواهرِ والفُصوصِ لتقويمها.

فلكثرةِ ممارستهِم للألفاظ النبوية إذا جاءهم لفظٌ ركيك، أعني مُخالفِاً للقواعد، أو ـ فيه ـ المجازفةُ في الترغيب والترهيب، أو الفضائل، وكان بإسنادٍ مُظلم، أو إسنادٍ مُضِيء كالشمس في أثنائه رجلٌ كذاب أو وضَّاع، فيحكمون بأنَّ هذا مختلَق، ما قاله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وتَتواطأُ أقوالُهم فيه على شيء واحد.

وقال شيخنا ابنُ دقيق العيد: إقرارُ الراوي بالوضع في رَدَّه، ليس بقاطعٍ في كونه موضوعاً، لجوازِ أن يَكذب في الإِقرار.

قلتُ: هذا فيه بعضُ ما فيه، ونحن لو افتتحنا بابَ التجويز والاحتمالِ البعيد، لوقعنا في الوسوسة والسفسطة!.

نعم كثيرٌ من الأحاديث التي وُسِمَتْ بالوضع ، لا دليلَ على وضعها ، كما أنَّ كثيراً من الموضوعاتِ لا نرتابُ في كونها موضوعة .

الشرح

قال المؤلف رحمه الله تعالى في الحديث عن القسم الخامس من أقسام الحديث "الموضوع":

وهو ضد الصحيح. وكثير من الأئمة المتقدمين يقسمون الحديث إلى قسمين: صحيح, وضعيف.

فيدرجون الحسن ضمن الصحيح, ويدخلون الموضوع ضمن الضعيف. وبلا ريب فإنهم يفرقون بين الموضوع والضعيف, وليس بمعنى أنهم يجعلون ذلك في مرتبة واحدة, كلا, فهذا لم يقله أحد من الأئمة, ولذلك أجمع العلماء على أنه لا تجوز رواية الحديث الموضوع إلا مع بيان وضعه, بينما لم يجمع العلماء على جواز رواية الحديث الضعيف.

وقد يُعبَّر عن الحديث الموضوع بمثل هذا اللفظ, فيقال (هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقد يُعبَّر عنه بأن هذا حديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد يُعبَّر عنه بأن هذا حديث ليس له أصل, وإن كانت هذه اللفظة تحتمل عدة معانٍ:

المعنى الأول: أي ليس له أصل من الصحة, فقد يكون ضعيفاً, وقد يكون موضوعاً.

المعنى الثاني: ليس له أصل, أي ليس له إسناد, بمعنى أنه لم يُروَ بإسناد.

ومن المعاني في هذا: أن يقال: ليس له أصل, أي من حديث فلان, وله أصل من حديث فلان.

وقد يُعنَى بذلك: ليس له أصل في دواوين أهل الإسلام المشهورة, كمسند أحمد, والصحيحين, والسنن, وموطأ مالك, وصحيحي ابن خزيمة وابن حبان, ومصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة.

وترد هذه العبارة في غير هذه المعاني.

قال المؤلف رحمه الله تعالى "الموضوع ما كان متنه مخالفاً للقواعد":

وهذا لا يهتدي إليه إلا الراسخون في العلم, الذين اختلط علم الحديث بلحومهم ودمائهم, وأسهروا ليلهم, وأظمأوا نهارهم, في البحث عن ذلك.

وهذا حكم على المتن قبل النظر إلى الإسناد. وقد سُئِلَ الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في المنار المنيف: هل يتأتى للعالم أن يحكم على الحديث دون أن يرى إسناده؟ فأجاب بنعم. ولكن لمن؟ لمن اختلط علم الحديث بلحمه ودمه, وله ممارسة, وله اطلاع, وعنده حفظ, وله فهم, وذكر كلاماً طويلاً, يُراجَع في هذا الباب.

قال ابن الجوزي رحمه الله في كتابه الموضوعات: إذا رأيتَ الحديث يخالف العقول, ويباين المنقول, فاعلم أنه موضوع, ولا تتكلف اعتباره.

وأمثلة ذلك كثيرة جداً, لأن هذا ينبني على اختلاف العلماء, والذين يحكمون على هذه الأحاديث, في مقدار مخالفة هذا الحديث للقواعد. فمنهم من يرى بأن هذا الحديث مخالف للقواعد, فيحكم عليه بأنه موضوع, كالحديث الذي رواه أبو داود في المراسيل وغيره عن لحوم البقر بأنها داء:

جماعة من المعاصرين يصححون هذا الخبر, وجماعة يحكمون على هذا الخبر بأنه موضوع لأنه مخالف للقواعد. فالله جل وعلا امتن على العباد بلحوم البقر, وهذا صريح القرآن, وتقرب النبي صلى الله عليه وسلم لربه بالبقر, وضحى عن نسائه بالبقر, فكيف يقال أن النبي صلى الله عليه وسلم تقرب بما لحمه داء؟!!

هذا لا يصح أبداً.

ومن هذا القبيل حديث (الربا بضع وسبعون باباً, أدناه مثل أن ينكح الرجل أمه):

ذهب جماعة من المتأخرين إلى تصحيح هذا الخبر. والصواب أن أوله صحيح (الربا بضع وسبعون باباً), وأما (وأدناه مثل أن ينكح الرجل أمه) فهذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومخالف للقواعد العامة والخاصة, ومناقض للأحاديث الصحيحة, ومباين ومجانب للعقل, ووجه هذا:

أولاً: أن الزنا أعظم حرمةً من الربا بنوعيه: النسيئة والفضل.

ثانياً: أن نكاح المحارم من أعظم المحرمات, ومن أكبر الذنوب, وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن من أتى ذات محرم يُخَطُّ بالسيف, ولو لم يكن محصناً, وذلك لعظيم أمر الزنا, وذهب الأكثر من العلماء إلى أنه يُجلَد كغيره, ولا حرج أن يُعَزَّر.

وحينئذٍ كيف تُجعَل المعاملات الربوية, وأدنى الأمور الربوية, أعظم حرمةً عند الله من رجل نكح ذات محرم؟!! بل نكح أمه والعياذ بالله؟!!.

ثالثاً: أنه قال في الحديث (وإن أربى الربا استطالة عرض امرئ مسلم) فظاهر هذه الرواية أن أعظم الربا عند الله أن تستطيل عرض امرئ مسلم, وأي استطالةٍ أعظم من كون العبد يزني بأمه, هذا أعظم أنواع الاستطالة.

فعُلِمَ أن آخر الحديث ينقض أوله, فإنه قال: (وأدناه مثل أن ينكح الرجل أمه, وإن أربى الربا استطالة عرض امرئ مسلم) فكأنه في هذا الخبر لم يَعُدَّ نكاح الأم استطالةً للعرض, وكفى بذلك شناعةً وفظاعة.

وهذا أمر يدركه العقل, ويُعرَف بالنقل, ولا يكابر فيه أحد, ولذلك حكم أبو حاتم, وابن الجوزي, وجماعة, على هذا الخبر بالوضع والكذب, ولا عبرة بكلام من صححه.

وهذا يؤكد المعنى الذي نقرره بالرجوع دائماً إلى كلام أئمة السلف, وعدم الاقتصار في تصحيح الأخبار على ظواهر الأسانيد, أو الاعتماد على مجرد كلام المتأخرين.

قوله "وراويه كذاباً":

إذا وُجِدَ في الإسناد كذاب, يُحكَم على حديثه بالوضع. وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في رواية الوضاع إذا تاب: هل تُقبَل أم لا؟ قولان للعلماء. ولا يختلف العلماء أن التوبة تُقبَل, ولكن هل تُقبَل روايته أم لا؟

منهم من قال أنها لا تُقبَل, ردعاً له ولغيره, ولأنه لا يُؤمَن أن يعود إلى كذبه. ومنهم من قال: إذا ثبتت توبته, فلا حرج من قبول روايته.

والأئمة يدركون هذه المعاني. ولا يمكن أن يأتي كذاب فيُرَوِّجُ كذبه على هؤلاء الأئمة.

قوله "كالأربعين الودعانية":

هذه لمحمد بن علي الودعاني الموصلي, حاكم الموصل. وُلِدَ سنة إحدى وأربعين وأربعمائة, وتوفي في نفس القرن, سنة أربع وتسعين.

أورد أربعين خطبة بدون زمامٍ ولا خطام, وفي بعض ألفاظها معانٍ حسنة, ونسبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد اتفق الحفاظ على أن هذه النسخة كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا تصح روايتها إلاَّ مع بيان وضعها.

ويقال بأن الودعاني سرقها ممن اختلقها أَوَّلاً, وهو ابن رفاعة الهاشمي. ويقال أن ابن رفاعة الهاشمي هو الذي وضع رسائل إخوان الصفا, وهو من أعظم الخلق كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن أجهلهم علماً بالحديث, وأقلهم حياءً.

 

قوله "وكنسخة علي الرضا المكذوبة عليه":

تُروَى من رواية عبد الله بن أحمد بن عامر عن أبيه عن علي الرضا عن آبائه في هذا النسخة المكذوبة الباطلة.

قوله "وهو مراتب - أي الموضوع مراتب - منه ما اتفقوا على أنه كذب. ويُعرَف ذلك بإقرار واضعه, وبتجربة الكذب منه, ونحو ذلك":

وكثير من الكذابين حين يُحقَّق معه يعترف بذلك. وقد قيل لغلام خليل: هذه الأحاديث التي ترويها في الرقائق؟ فقال: وضعناها ترقيقاً لقلوب العامَّة.

أي أنه يختلق الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى ترقيق قلوب العامَّة, وبدعوى الترغيب والترهيب, الترغيب في الخير, والترهيب من الشر, وهذا هو الشر كله. فهؤلاء العامة أطيب من هذا الكذاب, وأقرب إلى الحق.

ومثل هذا ابن أبي العرجا الكذاب, ربيب حماد بن سلمة, ويقال أنه كان يدس على حماد بن سلمة بعض الأحاديث.

وحين استُدعِي إلى محمد بن سليمان, فحكم عليه بالقتل, وحين رأى أنه لا مناص من القتل, قال: وضعت فيكم أربعة آلاف حديث, أحلل فيها الحرام, وأحرم فيها الحلال, وأُصَوِّمُكُم يوم فطركم, وأُفَطِّرُكُم يوم صومكم.

فهذا الرجل الذي يقال عنه بأنه زنديق, لا يمكن أن يروج شيء من كذبه على الأئمة, فقد اعترف بالكذب, والأئمة يدركون هذا.

وقوله (أُصَوِّمُكُم يوم فطركم): أي وضعت في هذه الأحاديث ما يجعلكم تصومون يوم فطركم, وتفطرون يوم صومكم. وليس المعنى أن هذه الأحاديث راجت عليكم, فأنتم تفطرون وقت الصيام, وتصومون وقت الفطر, كلا, فمعاذ الله أن يمر شيء من هذه الأكاذيب والأباطيل والأساطير على أئمة الحديث, فهو يتخيل أنه يستطيع أن يصنع شيئاً, وأن له شيء من هذا, هذا بعيد جداً, لأن الأئمة يميزون, وهذا فضل العالم على العابد, وفضل المحدث على الفقيه.

قوله "ومنه ما الأكثرون على أنه موضوع, والآخرون يقولون: هو حديث ساقط مطروح, ولا نجسر أن نسمِّيَه موضوعا":

أي ما اختلف فيه المحدثون رحمهم الله تعالى, منهم من يحكم عليه بالوضع, ومنهم من لا يتجاسر على ذلك, فيقول عنه بأنه ساقط أو مطروح أو غير ذلك. وهذا اختلاف نسبي, على حسب اختلافهم في معرفة الرجال, وضبطهم, وقوة علمهم, وما بلغهم عمن سبقهم من الحديث عن هذا الراوي, وعلى حسب أيضاً معرفة المتن, والدراية والرواية, وكلما كان العالم له دراية أقوى من الآخر, كان حكمه على الحديث أصوب.

قوله "ومنه ما الجمهور على وهنه وسقوطه, والبعض على أنه كذب":

وهذا داخل في الذي قبله. فالاختلافات هذه نسبية. وقد كتب الحافظ ابن الجوزي كتاب الموضوعات, واشتهر هذا الكتاب واستفاض, وصار من أشهر الكتب وأكثرها نفعاً في باب الموضوعات, وفي نفس الوقت عِيْبَ عليه أحاديث كثيرة أوردها في الموضوعات, ولا تنـزل إلى حد الموضوع, ففي كتابه أحاديث أرقى من الموضوع, ومنهم من يعبر عن ذلك بالساقط والمطروح.

وأحاديث أوردها على أنها من الموضوعات, وهي من الأحاديث الضعيفة. بل وفيه أحاديث أوردها في الموضوعات, وهي أحاديث صحيحة, كحديث أبي هريرة في صحيح الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن ترى رجالاً عليهم مثل أذناب البقر, يروحون في سخط الله, ويغدون في لعنته) وهذا الخبر في مسلم, قد أورده مسلم رحمه الله تعالى من وجهين. وقد أورده ابن الجوزي رحمه الله في الموضوعات.

وحينئذٍ فالذين يقرؤون في الموضوعات لابن الجوزي يجب عليهم الاحتياط في بعض الأمور, وإن كان الكتاب نافعاً وجيداً ومفيداً, ولا سيما المقدمة العصماء التي أوردها قبل الشروع في الموضوع, فهي مقدمة نافعة ومفيدة, وتتضمن معانٍ جيدة.

قوله "ولهم في نقد ذلك طرق متعددة, وإدراك قوي تضيق عنه عباراتهم, من جنس ما يُؤتَاه الصيرفي الجِهبذ في نقد الذهب والفضة, أوالجوهري لنقد الجواهر والفصوص لتقويمها":

أي أن المحدثين لهم نقد, وإبداع في النقد, ولهم ذوق قد لا يفهمه الذي يأتي بعدهم, أو لا يدركه ولا يبلغ شأوه. وهذا بمنـزلة الصيرفي, وبمنـزلة الجوهري, فهذا وذاك يدركان في الصنعة ما لا يدركه من ليس أهل الصنعة, فلا يمكن لشخص ليس من أهل الصنعة أن يقول: هذا ليس كذا, وهذا ليس كذا, أو هذا ذهب, وهذا فضة. فإن التمر لا يُجلَب إلى أهله, وأهل مكة أدرى بشعابها. فهذا العالم بالحديث, المبدع فيه, وبالأخص كالإمام البخاري, وأحمد, والسفيانين, وشعبة, وعلي بن المديني, ويحيى بن معين, ومسلم, والنسائي, وأبي داود, والترمذي, والدارقطني, وأمثال هؤلاء, يدركون ما لا يدركه غيرهم.

وكلما كان طالب العلم أكثر قراءةً لكلام هؤلاء, وأحفظ لكلام هؤلاء, كلما كان علمه وتعليله وفهمه ألصق بهم من غيره. والذين يقرؤون الآن في المصطلحات المتأخرة, كمقدمة ابن الصلاح, أو بعض مؤلفات الحافظ ابن حجر, أو كتب العراقي كالألفية, أو ألفية السيوطي, هؤلاء يحصل عندهم من الخلل في التطبيق العملي والنظري, ما لا يحصل عند من يدمن القراءة مثلاً في كتب ابن رجب, أو كتب ابن عبدالهادي, أو كتب الأئمة المتقدمين.

وليس معنى هذا أن مؤلفات هؤلاء الأئمة كابن حجر وابن الصلاح لا تُقرَأ, كلا, فهي تُقرَأ ويُستَفاد منها, وهم أئمة, لهم قدرهم ومكانتهم, ولا خير في رجل لا يعرف فضل هؤلاء. ولكن هؤلاء الأئمة لهم تفردات في علم مصطلح الحديث لم يقل بها أحد من أئمة السلف, ولهم آراء نقلها بعضهم عن بعض دون تحقيق, ودون تمحيص, تؤثر على الأمور العملية في التصحيح والتضعيف, وليست مأخوذة عن أئمة السلف.

وطالب العلم دائماً يبحث عن الأكمل, وعن الأفضل, ويبحث عما هو أقرب إلى الصواب, وعما هو أكثر فائدة, وعما هو أدق تعبيراً, وأدق معنى, وهذا مطلب لا يأباه أحد, ولكن لا يتأتى إدراكه ولا معرفته إلا بقراءة كتب أئمة السلف, وحفظ كثير منها, ودراستها, والنظر فيها, فإن هؤلاء الأئمة لهم من النقد ما ليس لمن جاء بعدهم, وتارةً ينقدون الحديث دون أن يبينوا علته, فيأتي من جاء بعدهم فينقدهم, وهذا غلط. هؤلاء لا ينقدون عن فراغ, ولا يتحدثون عن شهوة في الحديث, كما قال أحدهم: إنا لنطعن في رجال لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة منذ مئتي عام. وكما قال بعضهم: عِلْمُنَا إلهام لا ندري من أين قلناه. أي لا يستطيع الواحد من هؤلاء أن يعبر عما يقول, أي بالعبارة المطلوبة من كل وجه, وهذا ليس في كل حديث, إنما هو في بعض الأحاديث, بسبب أن هؤلاء يأخذون هذا العلم بالممارسة, وبالأمور العملية.

قوله "فلكثرة ممارستهم للألفاظ النبوية, إذا جاءهم لفظ ركيك, أعني مخالفاً للقواعد – تقدم تحرير هذا - أو فيه المجازفة في الترغيب والترهيب, أو الفضائل, وكان بإسنادٍ مظلم, أو إسنادٍ مضيء كالشمس في أثنائه رجل كذاب أو وضَّاع, فيحكمون بأن هذا مُختَلق":

من هذا حديث محمد بن المهاجر عن أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر العُمَرِي عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ القرآن نظراً, خفف الله العذاب عن والديه, وإن كانا كافرين) هذا خبر مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, قد حكم عليه بالوضع أبو حاتم, وابن الجوزي, وجماعة. إسناده إلى أبي معاوية كالشمس: ابن عمر صحابي, ونافع من رجال الستة, وعبيد الله بن عمر العُمَرِي من رجال الستة, وأبو معاوية من رجال الستة, والآفة من محمد بن المهاجر.

وقول المؤلف رحمه الله تعالى "أو فيه المجازفة في الترغيب والترهيب": هذا إذا كان بإسناد ضعيف, وفيه مجازفة, يُحكَم على الحديث بالوضع.

أما إذا كان الإسناد نظيفاً, وفيه فضلٌ كبير, فلا يُضعَّف الحديث بذلك, لأن بعض الناس نسمعه, ودائماً تأتي أسئلة عن الحديث الذي فيه فضل كبير, هل يُضعَّف إذا لم يكن في الصحيحين؟ الجواب: لا, لا يُضعَّف, إذا لم تكن فيه علة إسنادية لا يُضعَّف, كحديث أوس بن أوس الثقفي عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غسَّل واغتسل, وبكَّر وابتكر, ومشى ولم يركب, ودنا من الإمام, وأنصت ولم يَلْغُ, كان له بكل خطوةٍ عمل سنة, أجر صيامها وقيامها) هذا الحديث رواه أبو داود وغيره, وهو مختلف في إسناده, منهم من حسنه, وهو الأقرب, ومنهم من ضعفه. ولكن لا يُضعَّف بمجرد أن هذا الفضل كبير.

فهناك ما هو أكبر فضلاً من هذا وأقل عملاً, ففي حديث ابن عباس في صحيح مسلم, حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم على جويرية, وهي جالسة في مصلاها, فخرج, ورجع إليها بعد أن أضحى, وقال: (ما زلت على تلك الحال التي فارقتكِ عليها؟). قالت: نعم. قال: (لقد قلتُ بعدكِ أربع كلمات, لو وُزِنَت بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه, ورضا نفسه, وزنة عرشه, ومداد كلماته). هذا فضل كبير عظيم, في عمل يسير. وقد رواه كريب عن ابن عباس, وهو حديث صحيح.

 

 

قوله "فيحكمون بأن هذا مختلق, ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتتواطأ أقوالهم فيه على شيء واحد":

وهذا واضح لمن قرأ وتأمل في الكتب المؤلفة في الأحاديث المنكرة والموضوعة والواهية, تتفق ألفاظهم وتتواطأ أقوالهم على شيء واحد, والسر في هذا أن العلوم متقاربة, والاستقاء متشابه.

قوله "وقال شيخنا ابن دقيق العيد: إقرار الراوي بالوضع, في رَدِّه, ليس بقاطعٍ في كونه موضوعاً, لجواز أن يكذب في الإقرار. قلت: –القائل الذهبي – هذا فيه بعض ما فيه, ونحن لو افتتحنا باب التجويز والاحتمال البعيد, لوقعنا في الوسوسة والسفسطة":

الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى نستطيع أن نعبر - وإن كانت العبارة فيها نوع قسوة - ما فهم كلام شيخه ابن دقيق العيد, فإن ابن دقيق العيد رحمه الله يقول: إقرار الراوي بالوضع, في رَدِّه, ليس بقاطعٍ في كونه موضوعاً. ليس معنى هذا أنه لا يعمل بذلك الإقرار أصلاً, كما فهم من ذلك الحافظ الذهبي فقال: لو افتتحنا باب التجويز والاحتمال البعيد لوقعنا في الوسوسة والسفسطة. إنما يقصد ابن دقيق العيد بأن هذا الخبر وإن كنا نحكم عليه بالوضع, لكن الحكم بالوضع ليس بقطعي, فهو نفى الأمور القطعية, ولم ينفِ الحكم على الشيء. إذاً ابن دقيق العيد نفى القطع بذلك, ولا يلزم من نفي القطع نفي الحكم على ما فهمه الذهبي رحمه الله تعالى.

ويحتمل أن الذهبي رحمه الله تعالى عاب كلام شيخه بفتح باب التجويز حتى في القطع في مثل هذا, وهذا ربما فيه نظر, لأن الراوي إذا أقر على نفسه بالوضع, قد لا يكفي الإقرار, فهو ليس بقطعي, ولكن هذا لا ينفي الحكم بأن نقول عن الخبر بأنه موضوع, وأن هذا الراوي كذاب ... سقط أثناء قلب الشريط ... لا نقطع بأنها موضوعة, بل ولا نجزم بضعفها, بل هناك حديث في صحيح الإمام مسلم. قوله "كما أن كثيراً من الموضوعات لا نرتاب في كونها موضوعة":

سواء كان في الإسناد كذاب, أو لم يكن فيه كذاب, قد تكون العلة في المتن وليست في الإسناد.

نهاية الدرس الخامس – يوجد أسئلة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

6- المرسل:

عَلَمٌ على ما سَقَط ذكرُ الصحابي من إسناده، فيقول التابعيُّ: قال   رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويقع في المراسيل الأنواعُ الخمسةُ الماضية، فمن صِحاح المراسيل:

مرسَلُ سعيد بن المسيَّب.

و : مرسَل مسروق.

و : مرسَلُ الصُّنَابِحِي.

و : مرسَلُ قيس بن أبي حازم، ونحوُ ذلك.

فإنَّ المرسَل إذا صَحَّ إلى تابعيٍّ كبير، فهو حُجَّةٌ عند خلق من الفقهاء.

فإن كان في الرُّوَاةِ ضَعيْفٌ إلى مثلِ ابن المسيَّب، ضَعُفَ الحديثُ من قِبَلِ ذلك الرجل، وإن كان متروكاً، أو ساقطاً: وهن الحديثُ وطُرحِ.

ويوُجَدُ في المراسيل موضوعات.

نعم وإن صَحَّ الإسنادُ إلى تابعيٍّ متوسِطِ الطبقة، كمراسيل مجاهد، وإبراهيم، والشعبي, فهو مرسَلٌ جيِّدٌ لا بأسَ به، يقَبلُه قومٌ, ويَرُدُّه آخَرون.

ومن أوهى المراسيل عندهم: مراسيلُ الحَسَن.

وأوهى من ذلك: مراسيلُ الزهري، و قتادة، وحُمَيد الطويل، من صغار التابعين.

وغالبُ المحقَّقين يَعُدُّون مراسيلَ هؤلاء مُعْضَلاتٍ ومنقطِعات، فإنَّ غالبَ رواياتِ هؤلاء عن تابعيٍّ كبير عن صحابي، فالظنُّ بممُرْسِلِه أنه أَسقَطَ من إسنادِه اثنين.

 

 

الشرح

قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى "المرسل":

وهذا النوع السادس من أقسام الحديث. تقدم القسم الأول الصحيح, والقسم الثاني الحسن, والقسم الثالث الضعيف, والقسم الرابع المطروح, والقسم الخامس الموضوع, والقسم السادس المرسل.

المرسل يطلق على معنيين:

المعنى الأول: هو ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا لا يختلف العلماء فيه بأنه يسمى مرسلاً. وقد اصطلح كثير من المتأخرين على تخصيص معنى المرسل بمثل هذا.

والنوع الثاني: أن المرسل يتضمن هذا وأكثر, ويشمل هذا وأعم, فيُطلَق المرسل على ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم, وعلى المنقطع, وعلى المعضل. وهذا الذي درج عليه الأئمة السابقون, فإنهم يطلقون المرسل على المنقطع, وعلى المعضل, وعلى ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سمى الإمام ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى كتابه: المراسيل, وأورد فيه كل هذه الأنواع, ولأبي داود كتاب اسمه: المراسيل, وفيه هذه الأنواع, وهذا معروف في كلامهم واصطلاحهم, وهذا الذي يقول به كثير من الأصوليين, فإن الأصوليين يصطلحون على ما اصطلح عليه كثير من الأئمة المتقدمين في هذا الباب.

قال الحافظ رحمه الله تعالى "المرسل عَلَمٌ على ما سقط ذكر الصحابي من إسناده, فيقول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم":

وهذا قاله طائفة من العلماء. وقد جاء في البيقونية قوله:

ومرسلٌ منه الصحابيُّ سقطْ

وقل غريبٌ ما روى راوٍ فقطْ

وهذا فيه نظر, فإن المرسل الذي نجزم بأن الساقط من إسناده هو الصحابي لا يختلف العلماء في قبوله, وقد ضُعِّفَ المرسل عند طائفة من العلماء, لأنه لا يُدرَى عن التابعي في روايته هذا الخبر, هل رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة صحابي, أو بواسطة تابعي عن صحابي, أو بواسطة تابعي عن تابعي عن صحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فحين وُجِدَتْ هذه الاحتمالات, لم يجز الجزم بأن الساقط هو الصحابي.

والصواب في تعريف المرسل: هو ما رواه التابعي ومن دونه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا ثبت بأن الذي رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم سقط من إسناده صحابي, فهذا مقبول, لأن الصحابة كلهم عدول.

قال المؤلف رحمه الله "ويقع في المراسيل الأنواعُ الخمسةُ الماضية":

يشير بالأنواع الخمسة إلى الصحيح, والحسن, والضعيف, والمطروح, والموضوع. فالمرسل منه الصحيح, ومنه الضعيف, والصحيح منه الحسن, والضعيف منه المطروح. ويوجد في المرسل أحاديث موضوعة.

وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حكم المرسل إذا صح إسناده إلى مرسِله, فقال أبو عيسى رحمه الله تعالى بأن أكثر أهل الحديث لا يقبلونه, وقال الحافظ ابن جرير رحمه الله تعالى بأن ترك الحديث المرسل بدعة حدثت بعد المائتين. والصواب في الحديث المرسل التفصيل, فلا نقبله مطلقاً, ولا نرده مطلقاً, فمنه المقبول, ومنه المردود, فيُقبَل الحديث المرسل من تابعيٍّ كبير لا يحدث إلاَّ عن ثقة, كسعيد بن المسيَّب, بفتح الياء, ويُقرَأ المسيِّب, والصواب المسيَّب. وما حُكِيَ عن سعيد أنه قال: سيَّبوني سيَّبهم الله. فهذا لا يصح عن سعيد, وأكثر المحدثين, على فتح الياء, وهذا الاسم المعروف, والمشهور به, وهو الذي سماه به أهله, فننطق هذا, لأنه هو الأصل.

وأما المرسل الذي جاء من قِبَلِ أحد صغار التابعين, أو عمن يحدِّث عن كل أحد ولا يبالي, فهذا غير مقبول. ونذكر إن شاء الله تعالى بعد قليل زيادة مزيد على شروط قبول المرسل, وما يتعلق بذلك من أحكام.

قال المؤلف رحمه الله "فمن صحاح المراسيل: مرسل سعيد بن المسيَّب":

سعيد وُلِدَ قبل مقتل عمر رضي الله عنه بثمان سنين, وعليه فقد وُلِدَ سنة خمس عشرة. وهو أحد أوعية العلم, وأحد الفقهاء السبعة, وقد اتفق العلماء رحمهم الله تعالى على أنه من أفقه التابعين, ومن أعلمهم, ومن أكثرهم ورعاً وزهداً.

ولا يختلف العلماء بأن مراسيل سعيد أصح المراسيل. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أصح المراسيل مراسيل سعيد, ومراسيل إبراهيم لا بأس بها, وأضعف المراسيل مراسيل الحسن وعطاء, فإنهما يأخذان عن كل أحد.

والسر في كون مراسيل سعيد من أصح المراسيل أنه لا يحدث عن الضعفاء, ولا عن المتروكين, وقد فُتِّشَتْ أحاديثه فوُجِدَت مسندة بأسانيد صحيحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, ذكر ذلك الشافعي وغيره.

ولم يكن أئمة السلف يمتنعون من قبول مراسيل سعيد. وهم حين يقولون: نقبل مراسيل سعيد, لا يعنون بذلك فقط ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم, بل يقبلونه فيما رواه عن عمر, وعن جماعة من الصحابة الذين أدركهم, وإن كان لم يسمع منهم كل شيء.

وقد سُئِلَ الإمام أحمد رحمه الله: سعيد عن عمر؟

فقال: إذا لم يكن سعيد سمع من عمر, فمن يسمع؟!!.

وهو لا يعني رحمه الله بهذا الكلام أن سعيداً سمع من عمر كل ما رواه, فهذا بعيد. وإنما عنى بذلك أنه سمع منه بعض الأحاديث, وبقيتها مقبولة, باعتبار أن الأصل في سعيد عن عمر الصحة.

وزيادة في الفائدة فإنه ليس كل حديث حُكِمَ عليه بالانقطاع يُحكَم عليه بالضعف. فهذا الإمام علي بن المديني, وابن أبي شيبة, والدارقطني, والترمذي, والأكابر, يحكمون على مرويات أبي عبيدة عن أبيه بالانقطاع, وأعتقد أن هذا محل إجماع, بأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه, ولكن الأئمة يقبلونه, منهم: علي ابن المديني, وابن أبي شيبة, والدارقطني, وجماعة, لأنه يروي بواسطة أهل بيته. ومن ذلك علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: مقبول, لأنه يروي بواسطة مجاهد, وعكرمة, وسعيد بن جبير.

قال المؤلف رحمه الله تعالى "ومرسل مسروق":

مسروق هذا هو ابن الأجدع الهمداني, وهو أحد أئمة الفقه في عصر التابعين, ومن كبار أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه توفي سنة اثنتين وثلاثين, وقد مات مسروق سنة ثلاث وستين, ومراسيله جيدة وقوية.

ولا يعني هذا قبول كل مراسيل سعيد, أو مسروق, أو الصُّنابحي.

و"الصُّنابحي" هو عبد الرحمن بن عسيلة, ثقة من كبار التابعين. وقد قيل بأنه قَدِمَ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أيام.

أو مراسيل "قيس بن أبي حازم" وقد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فَقُبِضَ وهو في الطريق. فروى عن أكابر الصحابة, كأبي بكر, وعمر, وعثمان, وعلي, وبقية العشرة, باستثناء عبدالرحمن بن عوف.

فلا يعني قبول كل ما يروونه وما يأتون به, فهناك مراسيل كاد يتفق الحفاظ على ردها, كمرسل سعيد بن المسيَّب على عظيم منزلته وكبير قدره, قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر مُدَّيْنِ من حنطة) رواه أبو داود وغيره في المراسيل. هذا مرسل ضعيف, وأهل العلم لا يقبلونه.

ومن ذلك مرسل سعيد في دية المعاهَد بأنها ألف دينار, فهذا مرسل غير مقبول.

فأهل العلم حينما يقولون: نقبل مراسيل سعيد, ومسروق, والصنابحي, وقيس بن أبي حازم, ليس معنى هذا أنهم يقبلون كل شيء. فهم يردون بعض مراسيل هؤلاء الأئمة التي هي مخالفة للأحاديث الأخرى.

ولكن إذا جاء مرسل هؤلاء بما يعتضد بمرفوع آخر, أو بمرسل آخر, أو بقول صحابي, أو جاء من طريق أخرى صحيحة, أو فُتِّشَتْ مراسيله فَوُجِدَتْ مسندة, أو عُلِمَ بالتتبع والاستقراء أنه لا يروي إلا عن ثقة, فهذه المراسيل مقبولة عند العلماء.

قوله "فإن المرسل إذا صح إلى تابعيٍّ كبير, فهو حجة عند خلق من الفقهاء": المرسل إذا صح إلى تابعيٍّ كبير, كهؤلاء المذكورين, فهو حجة عند كثير من المحدثين والفقهاء والأصوليين. واتفاقهم على مراسيل سعيد أكثر من اتفاقهم على مراسيل غيره, وذلك لأمور:

الأمر الأول: أن سعيداً لا يحدث إلا عن الثقات.

الأمر الثاني: أن مراسيل سعيد فُتِّشَتْ, فَوُجِدَتْ مسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الأمر الثالث: أن سعيداً لا يحدث عن كل أحد, وهذا يعطي المحدث قوة في أحاديثه, فإن الذي يحدث عن كل أحد, قد يكون تلقى هذا المرسل عن ضعيف, كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى عن مراسيل الزهري, قال: هي عندنا غير حجة, وجدناه يرويها عن سليمان بن أرقم, وهو ضعيف.

وكما قال الإمام ابن سيرين رحمه الله تعالى في مراسيل الحسن وأبي العلية بأنها غير مقبولة, السبب يقول: فإنهما لا يباليان عمن رويا. وقد خولف ابن سيرين رحمه الله تعالى في الاحتجاج بمراسيل الحسن البصري, أذكره إن شاء الله تعالى بعد قليل.

فالمقصود أن المرسل إذا صح إلى تابعيٍّ كبير, فإنه مقبول ما لم يمنع من ذلك مانع. وقبوله بشروط:

الشرط الأول: أن يكون المرسِِل لا يروي إلا عن الثقات.

الشرط الثاني: أن يكون المرسِل من كبار التابعين.

الشرط الثالث: أن تشهد الأصول, والاعتبارات, والأدلة الأخرى, على صحة مرسَله. حيث لو دلت الأصول, أو الأحاديث الأخرى, على ضعف هذا المرسَل لما جاز قبوله.

واشترط بعض العلماء شرطاً رابعاً: أن يكون جاء من وجهٍ آخر صحيح.

اعترض على هذا بعضهم فقال: إذا جاء من وجهٍ آخر صحيح, فإننا نستغني به عن المرسل. وهذا فيه نظر, وقد وضح هذا الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في شرح علل الترمذي.

قوله "فإن كان في الرواة ضعيف إلى مثل ابن المسيَّب, ضُعِّفَ الحديث من قِبَلِ ذلك الرجل ":

هذا لا يختص به المرسل, فهو حكم عام في المرفوع, والموقوف, والمرسل, وغيره. فإذا كان في الإسناد مثل ابن لهيعة, أو عمر بن هارون, أو قرة بن عبدالرحمن المعافري, فإن الخبر ضعيف, ولا نقبله.

وإذا كان الإسناد ثقة عن ثقة إلى سعيد, أو إلى أمثاله من كبار أئمة التابعين, فيُقبَل هذا المرسل إلى سعيد, ويُنظَر بعد ذلك في الشروط الأخرى.

قوله "وإن كان متروكاً أو ساقطاً: وَهَنَ الحديث وطُرِحْ":

وهذا لا يختلف فيه العلماء, ولا المحدثون.

قوله " ويوجد في المراسيل موضوعات":

وهذا لا ينازع فيه أحد. فإن المرسل شأنه شأن المرفوع, منه الصحيح, والحسن, والضعيف, والمطروح, والموضوع. والاعتبار في هذا: النظر في الأسانيد, والمتون.

قوله "نعم وإن صح الإسناد إلى تابعيٍّ متوسط الطبقة, كمراسيل مجاهد, وإبراهيم, والشعبي, فهو مرسل جيد, لا بأس به, يقبله قوم, ويرده آخرون": وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مراسيل إبراهيم: ليس بها بأس.

وقَبِلَ جماعة مراسيل الشعبي, على خلاف بين العلماء في مولد الشعبي, منهم من قال بأنه وُلِدَ في حياة عمر, ومنهم من قال بأنه وُلِدَ سنة ثمان وعشرين. قالوا: فهو أدرك جماعة من أكابر الصحابة.

وبالنظر إلى مراسيله فإنه لا يحدث عن الضعفاء, والمتروكين, ولكن هو ليس بمنـزلة سعيد, وليس بمنـزلة مسروق, ولا الصُّنابحي, ولا قيس بن أبي حازم. بل ذهب جماعة من العلماء إلى أن مراسيل الحسن أقوى من مراسيل إبراهيم, ومن مراسيل مجاهد, ومن مراسيل الشعبي. وإبراهيم هذا هو النخعي.

قوله "ومن أوهى المراسيل عندهم: مراسيل الحسن":

قال ذلك ابن سيرين, والإمام أحمد, وجماعة من المحدثين, فهم يعتبرون مراسيل الحسن من أوهى المراسيل, والسبب في هذا أنه يحدث عن كل أحد.

وقال جماعة من العلماء بأن مراسيل الحسن صحاح, ومن قال عنه بأنه يحدث عن كل أحد, فهذا غير صحيح, فإنه لا يحدث إلا عن الثقات, والحفاظ, وقد قال يحيى بن سعيد وأبو زرعة: لم نر للحسن البصري أحاديث يرويها عن النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفة إلا حديثاً أو حديثين. وهؤلاء يقبلون مراسيل الحسن, ويجعلون مراسيل الحسن من أقوى المراسيل.

والصواب أن مراسيل الحسن قوية, ولكن ليست بمنـزلة مراسيل سعيد. وقد تقدم قبل قليل أن المرسل منه الصحيح, ومنه الضعيف. فإن صح الإسناد إلى الحسن, وكان المتن موافقاً للأحاديث الأخرى, فالصواب أنه مقبول.

وأنا قلت قبل قليل بأن الأئمة يطلقون المرسل على المنقطع, وعلى المعضل في اصطلاحات المتأخرين.

قوله "وأوهى من ذلك مراسيل الزهري":

الزهري وُلِدَ سنة خمسين.

 

قوله "وقتادة":

قتادة وُلِدَ سنة ستين.

قوله "وحُمَيْد الطويل": حُمَيْد الطويل توفي سنة مائة واثنتين وأربعين, عن خمسةٍ وسبعين عاماً, فحينئذ تكون ولادته بحدود سنة سبعٍ وستين.

فمراسيل هؤلاء ضعيفة عند العلماء. وقد قال يحيى وغيره بأن مراسيل الزهري وقتادة من أوهى المراسيل. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: مراسيل الزهري عندنا غير مقبولة, قد رأيناه يروي عن سليمان بن أرقم, وهو ضعيف الحديث. وهذا دليل على أن الأئمة يطلقون المرسل على المنقطع, وعلى المعضل.

قوله "وغالب المحققين يعدون مراسيل هؤلاء معضلات ومنقطعات":

وهذا في اصطلاح كثير من المتأخرين. وأما في اصطلاح كثير من المتقدمين فهم يعبرون عن المنقطع والمعضل في اصطلاحات المتأخرين بالمرسل, ويسمون هذه الأحاديث مرسلة.

قوله "فإن غالب روايات هؤلاء عن تابعيٍّ كبير, عن صحابي, فالظن بمرسِله أنه أسقط من إسناده اثنين":

وهذا لا يضر على اصطلاحات المتأخرين [a1] سواء أسقط اثنين أو ثلاثة فإنه لا يخرج عن كونه مرسلاً.

وقد فَصَّل في موضوع المرسل الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في شرح علل الترمذي, فيُنصَح بقراءة ما كتب وما دوَّن وما قرر في هذا الباب, فإنه كلام جميل ونافع, وفيه فوائد متعددة, وفيه رد على من قَبِلَ المرسل مطلقاً, وعلى من رده مطلقاً, وعلى من لم يفرق بين مراسيل كبار التابعين ومراسيل صغارهم.

وقد تقدم قبل قليل قول الحافظ ابن جرير بأن القول بأن المرسل ليس بحجة, بدعة حدثت بعد المائتين.

 

7- المُعْضَـل:

هو ما سَقَط من إسنادِه اثنانِ فصاعداً.

الشرح

قوله "المعضل":

هذا هو النوع السابع من أنواع الحديث. عَرَّفَ المؤلف رحمه الله تعالى المعضل بأنه ما سقط من إسناده اثنان فصاعداً. والصواب على هذا الاصطلاح أن يقال أن المعضل ما سقط من إسناده اثنان متواليان فصاعداً, لأنه لو سقط من إسناده اثنان غير متواليين, فإنه يُحكَم عليه بالانقطاع, ولا يُحكَم عليه بالإعضال.

والمعضل من قبيل الأحاديث الضعيفة, ما لم يثبت مجيئه من وجهٍ آخر صحيح. ويقال كل معضلٍ منقطع, ولا عكس, أي لا يقال: كل منقطع معضل.

مثاله: قال يحيى بن يحيى راوية موطأ الإمام مالك رحمه الله عن مالك قال: بلغني عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للملوك طعامه وكسوته). وصل هذا الخبر الإمام الدارقطني رحمه الله تعالى في غرائب الإمام مالك, فرواه من طريق محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه, فعُلِمَ من هذا أن الساقط اثنان: محمد بن عجلان, وأبوه.

ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تعطي أموال اليتامى الذين في حجرها من يتجر بها. هذا معضل على هذا الاصطلاح, لأن مالكاً يروي عن عائشة بواسطة اثنين: عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها.

وحين يروي مالك عن نافع عن النبي صلى الله عليه وسلم, فإننا نسمي هذا منقطعاً, لأن مالكا يروي عن ابن عمر بواسطة نافع. مالك عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم, فهو منقطع, لأن مالكاً يروي عن ابن عمر بواسطة نافع, مالك عن نافع عن ابن عمر, فلا يسمى هذا معضلاً.

ولا يروي مالك عن أبي هريرة إلا بواسطة رجلين فأكثر, فهو يروي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه, ويروي عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ويروي عن عائشة من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها.

إذاً نعرف المعضل بأمور:

الأمر الأول: بمجيئه من طريقٍ أخرى.

الأمر الثاني: بنص إمام من الأئمة الكبار بأنه سقط من إسناده اثنان.

الأمر الثالث: بمعرفة المواليد والوفيات.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

8- وكذلك المنقطِع:

فهذا النوعُ قلَّ من احتَجَّ به.

وأجوَدُ ذلك ما قال فيه مالك: بلَغَنِي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: كذا وكذا. فإنَّ مالكاً متثِّبتٌ، فلعلَّ بلاغاتهِ أقوى من مراسَيل مِثل حُمَيد، و قتادة.

الشرح

قوله "وكذلك المنقطع, فهذا النوع قَلَّ من احتج به":

الحديث المنقطع هو ما سقط من إسناده واحد أو أكثر على غير توالٍ. والأصل في المنقطع أنه حديث ضعيف. وإذا عُلِمَت الواسطة بين الراويين, وكان ثقة, قُبِلَ خبره.

ويمثل للمنقطع بما رواه الترمذي وغيره في جامعه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ بعض نسائه, ثم يخرج إلى الصلاة, ولا يتوضأ). قال يحيى بن سعيد على هذا الخبر: هذا شبه لا شيء. وحبيب بن أبي ثابت لم يسمع هذا الخبر من عروة, قاله البخاري وغيره. وقد جاء هذا الخبر من رواية التيمي عن عائشة, وقال الترمذي رحمه الله في جامعه: ولا نعلم للتيمي سماعاً من عائشة ولذلك ... من هذا الموضع إلى نهاية الدرس السادس غير واضح, وقد فات بسبب هذا السقط شرح المنقطع والموقوف.

 

 

 

 

 

10- ومُقابِلُهُ المرفوع:

وهو ما نُسِبَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من قولِه أو فعلِه.

الشرح

قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى حين تحدث عن الموقوف, وهو ما أُسنِد إلى صحابيٍّ من قوله أو فعله, قال "ومقابله المرفوع: وهو ما نُسِبَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله أو فعله":

ولم يذكر المؤلف رحمه الله تعالى الإقرار, فإن ما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم ما قاله أو فعله.

وإن أقـرَّ قولَ غيرهِ جُـعِلْ

كقوله كذاك فِعْلٌ قد فُعِلْ

وما جرى في عصرهِ ثم اطَّلعْ

علـيه إن أقـرَّه فليـُتَّبَعْ

وقد روى البخاري ومسلم من طريق محمد بن المنكدر قال: سمعت جابر بن   عبد الله يحلف بالله أن ابن صياد هو الدجال, فقلت له: أتحلف بالله؟ قال جابر رضي الله عنه: سمعت عمر يحلف بالله على هذا عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم. فقد احتج جابر بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم, لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل, ولا يسكت عن حق.

فحين أتى ثلاثة نفر إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم, وسألوا عن عبادته, وأُخبِروا بذلك, كأنهم تقالُّوها, فقال أحدهم: أمَّا أنا فأصوم ولا أفطر. وقال الثاني: وأمَّا أنا فأقوم ولا أنام. وقال الثالث: وأمَّا أنا فلا أتزوج النساء. فحين أُخبِر النبي صلى الله عليه وسلم بخبر هؤلاء, لم يتركهم, بل ذهب إليهم في أماكنهم, وقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا وكذا). قالوا: نعم. فقال صلى الله عليه وسلم: (أمَّا أنا فأصوم وأفطر, وأنام وأقوم, وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني). وهذا متفق على صحته. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر الباطل, ولا يسكت عن الحق.

قوله "وهو ما نُسِبَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله": سواء كان صحيحاً أو ضعيفاً, فإن المرفوع يصدق على هذا وذاك. وأغلب السنن وأحكام الشريعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم.

جاء في الصحيحين من طريق مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً). وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) متفق عليه من حديث عمر, ورواه عن عمر علقمة, وعن علقمة التيمي, وعن التيمي يحيى بن سعيد.

قوله "أو فعله": أي ما أخبر الصحابي عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم. كقول عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية, ويثيب عليها) رواه البخاري من طريق عيسى بن يونس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها.

ومن ذلك ما رواه الشيخان من طريق عبد الله بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم, وأعطى الذي حجمه أجرته). وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة في هذا الباب.

 

 

 

 

 

 

11- المتصل:

ما اتَّصَل سَنَدُه، وسَلِمَ من الانقطاع، ويَصدُق ذلك على المرفوع والموقوف.

الشرح

قوله "المتصل هو ما اتصل سنده, وسلم من الانقطاع, ويصدق ذلك على المرفوع والموقوف":

إذا أُطلِق على الخبر بأنه متصل, فمعنى هذا أنه ما اتصل إسناده من بداية الإسناد إلى نهايته, ولم يكن في ذلك انقطاع.

ويُطلَق هذا على الحديث المرفوع, وعلى الموقوف, وعلى المقطوع, وهو قول التابعي فمن دونه.

وكثير من العلماء يفرق بين المقطوع والمنقطع, فإن المقطوع من متعلقات المتن, والمنقطع من متعلقات الإسناد.

فحين يقال: (هذا حديث مقطوع) فهو بمعنى أنه من قول الحسن, أو من قول سعيد, أو أحد التابعين, أو مَن دون هؤلاء, كمالك وأمثاله.

وإذا قيل (هذا إسناد منقطع) فهو بمعنى أنه معلول, كالحسن عن عمر, فإن الحسن لم يسمع من عمر.

 

 

 

 

 

 

12- المُسْنَد:

هو ما اتصل سَنَدُه بذكرِ النبي صلى الله عليه وسلم.

وقيل: يَدخُلُ في المسند كلُّ ما ذُكِرَ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وإن كان في أثناءِ سَنَدِه انقطاع.

الشرح

قوله "المسند: هو ما اتصل سنده بذكر النبي صلى الله عليه وسلم":

اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في تعريف الحديث المسند على مذاهب:

منهم من قال: المسند هو الحديث المرفوع المتصل. وهذا قول الحاكم, وطائفة من العلماء, وحينئذٍ لا يسمى الخبر مسنداً إلا بشرطين:

الشرط الأول: أن يكون مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الشرط الثاني: أن يسلم من الانقطاع.

ولا يلزم من ذلك الصحة كالمتصل, قد يكون في إسناده ضعيف, ولكنه سَلِمَ من الانقطاع.

المذهب الثاني: المسند هو ما أُسنِد إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وإن كان في سنده انقطاع, بدليل صنيع كثير من الأئمة, فإنهم يوردون في مسانيدهم بعض الأحاديث المنقطعة.

المذهب الثالث: المسند هو ما أُسنِد إلى صاحبه من بدايته إلى منتهاه, سواء كان مرفوعاً أو موقوفاً, ويُطلَق في الغالب على المرفوع دون الموقوف. ولا يلزم من كونه مسنداً سلامته من الانقطاع, بدليل صنيع كثير من الأئمة الذين صنفوا على المسانيد, كمسند أحمد, ففيه أحاديث منقطعة, وفيه أحاديث موقوفة, وكمسند الطيالسي, فيه أحاديث منقطعة. ولعل هذا القول هو الأقرب, فالمسند يُطلَق في الغالب على ما أُسنِد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد يُطلَق على قول الصحابي, ولا يلزم من ذلك سلامته من الانقطاع, وإن كان الغالب أنه متصل.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

13- الشاذّ:

هو ما خالف راويه الثقات، أو ما انفَرَد به من لا يَحتمِلُ حالُه قبولَ تفرُّدِه.

الشرح

قوله "الشاذ: هو ما خالف راويه الثقات":

بمعنى أنه إذا خالف الثقة من هو أوثق منه, فإنه يُحكَم على حديثه بالشذوذ, ولا يُحكَم على زيادته بالقبول. وهناك تلازم بين بحث زيادة الثقة, وبين بحث الحكم على الزيادة بالشذوذ, ويكون الحديث عنهما مرتبطاً.

وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حكم الزيادة, بمعنى أن الحديث يُروَى بإسنادٍ واحد عن جماعةٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو إلى الصحابي, فيأتي واحد فيروي هذا المتن بزيادة, أو يرفع الموقوف, أو يوقف المرفوع, فكيف نحكم على هذه الزيادة؟

قالت طائفة من العلماء بأن زيادة الثقة مقبولة مطلقاً, فإذا تفرد الثقة عمن هو أوثق منه, فرَفَعَ الموقوف, أو أوقف المرفوع, أو تفرد بلفظة من المتن, فنحكم على زيادته بالقبول مطلقاً, وهذا قول طائفة من الأصوليين وعامَّة الفقهاء, ويحكون هذا المذهب عن الإمام البخاري رحمه الله تعالى, حين قال على حديث (لا نكاح إلا بولي) بأن الزيادة من الثقة مقبولة. وهذا فيه نظر, وحكاية هذا عن البخاري ليست بدقيقة, لأن الإمام البخاري رحمه الله تعالى ليس من الذين يقبلون الزيادة مطلقاً, بدليل منهجه في صحيحه, وفي تاريخه.

وقالت طائفة من العلماء: نقبل هذه الزيادة, ما لم تكن منافيةً لمن هو أوثق, فإذا لم تكن منافية: نقبلها, وإذا كانت منافية: نردها.

وقالت طائفة ثالثة: لا نقبل هذه الزيادة مطلقاً, ونحكم على كل زيادة تفرد بلفظها ثقة عن الثقات بالشذوذ.

وقالت طائفة: لا نحكم على الزيادة بالقبول مطلقاً, ولا بالرد مطلقاً, ونحكم على هذه الزيادات على حسب القرائن. وهذا قول أكابر أئمة الحديث كمالك, والبخاري, وأحمد, وعلي بن المديني, ويحيى بن معين, ومسلم, وأبي داود, والترمذي, والنسائي. ومن نظر في مناهج هؤلاء, وقرأ كتبهم, عَلِمَ أن هذا هو مذهبهم, فيقبلون تارةً, ويردون ذلك تارةً أخرى, ويعتبرون القرائن في هذا الباب.

فإذا كان المحدث قد زاد لفظة, وهو لصيقٌ بشيخه, فيعتبرون هذه قرينة على قبول زيادته, وإن خالفه أكثر من واحد. ويقولون: إذا روى جماعة حديثاً, وخالفهم من هو في درجتهم, فيُحكَم بقول الجماعة.

فحين روى محمد بن عوف, وهو أحد الحفاظ, عن علي بن عياش عن شعيب ابن أبي حمزة عن ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة, والصلاة القائمة, آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة, وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته, إنك لا تخلف الميعاد) فزيادة (إنك لا تخلف الميعاد) جاءت في سنن البيهقي من رواية الحافظ محمد بن عوف, وقد خالفه أئمة الحفظ, كعلي بن المديني, وأحمد بن حنبل, والبخاري, وغير هؤلاء, يروون هذا الخبر عن علي بن عياش دون قوله في آخره (إنك لا تخلف الميعاد).

قال جماعة بأن هذه الزيادة زيادة ثقة, وهذا غير صحيح, والصواب أن هذه الزيادة شاذة, ولا حرج أن يقال عن هذه الزيادة بأنها منكرة. وقد كان كثير من الأئمة يعبر بالنكارة في الحكم على الزيادات. ومن ذلك ما رواه أبو داود رحمه الله تعالى في سننه من رواية الفراهيدي عن شعبة عن أشعث بن سليم عن أبيه عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله, وترجله, وطهوره, وسواكه). ورواه جمع غفير من الحفاظ, منهم عبد الله بن المبارك, ومنهم سليمان بن حرب, ومنهم أبو الأحوص, ومنهم العنبري, وغير هؤلاء, عن شعبة عن أشعث عن أبيه عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها بلفظ (كان يعجبه التيمن في تنعله, وترجله, وطهوره, وفي شأنه كله) ولم يذكر واحد من هؤلاء زيادة (وسواكه). وقد زادها الفراهيدي, ولم يذكر الفراهيدي (وفي شأنه كله). والحكم في هذا الخبر للثقات دون الفراهيدي.

ومن ذلك ما رواه علي البارقي عن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى). اتفق أكابر الحفاظ, كسالـم بن عبد الله بن عمر, ونافع مولى ابن عمر, وأبي سلمة, وحُمَيد, وطاووس, على رواية هذا الخبر عن ابن عمر بلفظ (صلاة الليل مثنى مثنى). وزيادة النهار شاذة أو منكرة.

وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي في النهار أربعاً بسلامٍ واحد, رواه ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح.

ومن ذلك زيادة علي بن مسهر عن الأعمش (فليرقه) في حديث (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم). وهذه الزيادة شاذة, فقد تفرد بها علي بن مسهر عن الأعمش. وحكم أكابر الحفاظ على هذه الزيادة بالشذوذ.

ومن ذلك زيادة عبد الرزاق عن الثوري في وضع الأصبعين في الأذنين. خالفه محمد بن يوسف, وغيره من الحفاظ, فهم يروون هذا الخبر بدون وضع الأصبعين في الأذنين, وهي زيادة شاذة. وعبد الرزاق رحمه الله على منـزلته, وكبير قدره, وعظيم حفظه, فإنه يخطئ على الثوري. نص على ذلك يحيى, وغيره من الحفاظ.

 

وهذا الباب بابٌ واسع. وقد يكون من ذلك ترجيح وقف المرفوع, أو ترجيح رفع الموقوف, أو ترجيح الإرسال, أو الوصل, أو ترجيح رواية على رواية. وتختلف عبارات الأئمة في هذا الباب.

وقد قَبِلَ كثير من الأئمة رواية مالك عن نافع (من المسلمين في زكاة الفطر). وذلك لثقة مالك, وكبير منـزلته, وعظيم حفظه, فهذه قرينة على قبول زيادة الثقة.

وكثيراً ما يختلف الأئمة في هذا الباب, فيرى طائفة بأن الصواب رفع الخبر, ويرى آخرون بأن الصواب إرسال الخبر, وليس لذلك قاعدة مطردة. فيُعرَف هذا الباب العظيم, الذي يعتبر من أهم الأبواب في علم الحديث, بالنظر في القرائن, وجمع الطرق, والنظر في كلام الأئمة, وكيفية تعاملهم مع الأحاديث.

وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في رواية ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر حين أُتِيَ بأبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن رأسه ثغامة, فقال: (غيروا هذا بشيء, وجنبوه السواد). فمن العلماء من قال بأن هذه الزيادة زيادة ثقة, وهي مقبولة.

ومن العلماء من يُعِلُّها, فقد رواه أبو خيثمة عن أبي الزبير بدونها.

فكان العلماء في هذا على مذاهب, ولا تثريب على من ذهب إلى هذا أو ذاك, ما دام القصد من هذا هو نصرة السنة, والذب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحذارِ حذارِ من الهوى في هذا الباب نصرةً للمذهب, أو تعصباً للرأي, أو بحثاً عن الشاذ من القول, فمن فعل هذا فإنه لا يفلح. فهذا العلم يحتاج إلى تقوى, وإلى ورع, إضافةً إلى الحفظ والمعرفة, والاطلاع وإدمان القراءة في كتب أئمة هذا الشأن.

 

قوله "أو ما انفرد به مَن لا يَحْتَمِلُ حالُه قبول تفرده":

هذا أحد معاني الشاذ. فمن لا يُحتَمل قبول تفرده يُحكَم على حديثه بالشاذ. وطائفة يعبرون عن هذا بالمنكر, ولا مشاحة في الاصطلاح حين يُفهَم المعنى, وتُوضَع الأمور على وجهها.

روى يحيى بن سعيد عن المغيرة قال: حدثنا أنس رضي الله عنه, قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله؛ أعقلها وأتوكل؟ أو أطلقها وأتوكل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل).

قال يحيى بن سعيد: هذا عندي منكر. وقد استغربه أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى. فقد تفرد به المغيرة عن أنس, ولا يحمل تفرده في هذا, فكان هذا موجباً للحكم على حديثه بالشذوذ, أو النكارة على اصطلاح كثير من أئمة هذا الشأن.

ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد في مسنده, وأبو داود في سننه من رواية محمد ابن إسحاق, قال: حدثنا أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة عن أبيه وأمه عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا يوم رُخِّصَ لكم فيه, إذا رميتم جمرة العقبة أن تَحُلُّوا, فإذا غربت الشمس, ولم تطوفوا بالبيت, عدتم حرماً كما بدأتم). هذا خبرٌ منكر, لم يروه عن أبي عبيدة كبير أحد, وابن إسحاق رحمه الله لا يُقبَل تفرده عن أبي عبيدة بمثل هذا المتن. وأبو عبيدة وإن كان كبير القدر, كبير الشرف, لكنه ليس بكبير الحفظ, فلا يُقبَل تفرده في هذا الخبر. وأين الأئمة الحفاظ عن هذا المتن؟!!.

 

 

 

 

14- المنـكَر:

وهو ما انفرد الراوي الضعيفُ به. وقد يُعَدُّ مُفْرَدُ الصَّدُوقِ منكَراً.

الشرح

قال المؤلف رحمه الله تعالى "المنكر: وهو ما انفرد الراوي الضعيف به"

وهذا أحد معاني الحكم على الحديث بالنكارة. فإذا تفرد الضعيف بالخبر يُحكَم على حديثه بالنكارة, كحديث عمر بن أبي خثعم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى بعد المغرب ست ركعات لـم يتكلم بينهن, عدلن له بعبادة ثنتي عشرة سنة). هذا خبر حكم عليه البخاري, والترمذي, وجماعة, بالنكارة. قال البخاري رحمه الله تعالى عن عمر بأنه منكر الحديث. وهذا لا اختلاف فيه, فهذا الخبر فيه نكارة.

قال المؤلف "وقد يُعَدُّ مفرد الصدوق منكرا":

يصدق على هذا حديث ابن إسحاق المتقدم.

وفي حديث عائشة (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي متربعاً) رواه النسائي في سننه, وغيره. قال النسائي رحمه الله تعالى: هذا خبر منكر. وقد أعله رحمه الله تعالى بأبي داود الحَفَرِي, وحكم عليه بأنه ثقة, ولكنه لا يُحمَل تفرده في هذا, وقد خالفه غيره.

 

 

 

 

 

 

15- الغريب:

ضِدُّ المشهور.

فتارةً ترجعُ غرابتُه إلى المتن، وتارةً إلى السَّنَد.

والغريبُ صادقٌ على ما صَحَّ، وعلى ما لم يصحّ، والتفرُّدُ يكونُ لما انْفَرَدَ به الراوي إسناداً أو متناً، ويكونُ لما تَفَرَّدَ به عن شيخٍ معيَّن، كما يقال: لم يَروِه عن سفيان إلا ابنُ مَهْدِي، ولم يَروِه عن ابن جريج إلا ابنُ المبارك.

الشرح

قال المؤلف رحمه الله تعالى "الغريب":

الغريب ضد المشهور. وقد كان أئمة الحديث يحذِّرون من الأحاديث الغريبة, لأن غالبها ضعيف, ولا يعني هذا أن كل غريب ضعيف.

قال الإمام مالك, وأحمد, وجماعة: شر العلم الغريب. وكانوا يحثون على الأحاديث المشهورة التي أتت من هنا وهناك. فحديثٌ يعرفه العلماء, ويتداولونه كابراً عن كابر, يختلف عن حديث لا يرويه إلا واحد عن واحد. وفي نفس الوقت هؤلاء الأئمة لا يرون تلازماً بين الشهرة والصحة, وبين الغرابة والضعف, فهناك أحاديث مشهورة على الألسنة, ويتداولها الفقهاء, وقد تكون أحاديث ليس لها أصل.

وهناك أحاديث مشهورة على ألسنة العامة, ولا تُعرَف بإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالعامة يقولون ويروون عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قال: (تكبيرة الإحرام خيرٌ من الدنيا وما فيها). وهذا ليس له أصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا يُعرَف بإسناد فيما أحفظ وأعلم. المحفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ركعتا الصبح خيرٌ من الدنيا وما فيها).

ومن ذلك: (إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج). وقد تسمعون هذا من بعض أئمة المساجد, يقول: استووا, اعتدلوا. ثم يذكر لكم هذا الخبر, بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج). وهذا أمر فيما أحفظ وأعلم ليس له أصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا يُعرَف بإسناد.

ومن ذلك: (أحب الأسماء إلى الله جل وعلا ما حُمِّدَ وعُبِّد). وهو بهذا اللفظ ليس له أصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث الوارد في مسلم (أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن). وجاء حديث عند الطبراني, وهو خبر منكر, إشارة إلى الثناء على الأسماء المحمَّدة.

وقد يكون للحديث إسناد, ويشتهر عند الفقهاء, ولكنه بعيد عن الصحة, فلا تكسبه الشهرة الصحة. كحديث إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن). هذا حديث مشهور عند الفقهاء, وعمل به كثير من الفقهاء, ويرون تحريم قراءة القرآن على الحائض. والصواب أن هذا الخبر غريب منكر, وقد أنكره الإمام أحمد, وقال: باطل. وحكى ابن تيمية, وابن القيم, وجماعة, إجماع الحفاظ على ضعفه.

وإسماعيل بن عياش إذا روى عن غير أهل الشام فلا يُقبَل خبره, فإذا روى عن أهل العراق, أو إذا روى عن أهل الحجاز, فحديثه ضعيف. وشيخه في هذا الخبر موسى بن عقبة: حجازي مدني.

والغرابة عند العلماء رحمهم الله تعالى تكون في الإسناد, وتكون في المتن, وإلى هذا أشار المؤلف رحمه الله تعالى بقوله "فتارةً ترجع غرابته إلى المتن, وتارةً إلى السند" وقال "والغريب صادقٌ على ما صح, وعلى ما لم يصح, والتفرد يكون لما انفرد به الراوي إسناداً أو متناً, ويكون لما تفرد به عن شيخ معين, كما يقال: لم يروه عن سفيان إلا ابن مهدي, ولم يروه عن ابن جريج إلا ابن المبارك":

ولا يختلف أهل العلم بالحديث أنه لا تلازم بين الغرابة وبين الضعف, فقد اتفق المحدثون على تصحيح حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات). وهو حديث غريب, تفرد به بشرط الصحة عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم, وتفرد به عن عمر علقمة بن وقاص الليثي, وتفرد به عن علقمة محمد بن إبراهيم التيمي, وتفرد به عن محمد بن إبراهيم التيمي يحيى بن سعيد, ورواه عن يحيى جمعٌ غفير.

ومن ذلك ما رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (نهى عن بيع الولاء وعن هبته). تفرد به ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم, وتفرد به ابن دينار عن ابن عمر, والخبر متفق على صحته. فلم تكن الغرابة مسوِّغةً لتضعيفه. ومن ذلك قول أنس رضي الله عنه (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر) تفرد به أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم, ورواه عن أنس الزهري, ولم يروه كبير أحد عن الزهري إلا مالك, فهذا حديث غريب, وقد اتفق البخاري ومسلم على تخريجه.

وقد ذهب جماعة من المتأخرين إلى تقسيم الغرابة إلى قسمين: غرابة مطلقة, وغرابة نسبية, وهذا لا يؤثر. فمن الغريب المطلق يجعلون حديث عمر. ومن الغريب النسبي لم يروه عن سفيان إلا ابن مهدي, وعن ابن جريج إلا ابن المبارك, ولم يروه عن ابن عمر إلا ابن دينار, ولم يروه عن أنس إلا الزهري, ولا عن الزهري كبير أحد إلا مالك, ولا يضر هذا.

المقصود أن نفهم الغرابة في الجملة, لأن الأئمة يستغربون الأحاديث لمعانٍ: فمن ذلك أن يتفرد الثقة عن أقرانه, فيستغربه الأئمة, وقد يضعفونه, وقد يقبلونه, على ما تقدم تقريره في حكم الشاذ وزيادة الثقة.

ويستغربون الحديث لغرابة متنه, ويستغربون الحديث لتفرد صدوق في أصل في الباب, ويستغربون الحديث إذا تفرد به ثقة عن ثقة إلى منتهاه, ويستغربون الحديث لنكارة في الإسناد, أو نكارة في المتن, وغير ذلك من معاني الغرابة عند أئمة السلف رحمهم الله تعالى.

نهاية الدرس السابع – لا يوجد أسئلة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

16- المُسَلْسَل:

ما كان سَنَدُه على صِفةٍ واحدةٍ في طبقاته. كما سُلْسِلَ بسَمِعتُ، أو كما سُلْسِلَ بالأوليَّة إلى سُفْيَان.

وعامَّة المسلسلاتِ واهِية، وأكثُرها باطِلةٌ، لكذبِ رُواتها. وأقواها المُسَلْسَلُ بقراءة سُورة الصَّفّ، والمسلسَلُ بالدمشقيين، والمسلسَلُ بالمصريين، والمسلسَلُ بالمحمَّدِين إلى ابن شِهاب.

الشرح

قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى "المسلسل":

المسلسل نوعان: مسلسل قولي, ومسلسل فعلي. ويتعلق المسلسل بصفة الرواية, ويتعلق بصفة الرواة. والتسلسل في عصر التحمل, وعصر التدوين, أكثر فائدة وأهم منه في العصور المتأخرة. وفائدته: أمن الانقطاع, وأمن التدليس.

وقد عرَّفه المؤلف رحمه الله تعالى بأنه "ما كان سنده على صفةٍ واحدة في طبقاته":

يتضح هذا بقوله "كما سُلْسِلَ بسمعتُ". وهذه صفة للرواة, كل واحدٍ من الرواة يقول: سمعت فلاناً يقول.

فمن ذلك حديث صهيب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما آمن بالقرآن من استحل محارمه). فرواه عن صهيب سعيد بن المسيَّب؛ قال: سمعت صهيباً يقول. ورواه عن سعيد بن المسيَّب مجاهد؛ قال: سمعت سعيداً يقول. وقد تسلسل هذا الإسناد بقول كل واحد: سمعت فلاناً يقول. روى ذلك الحافظ ضياء الدين المقدسي رحمه الله.

وقد يكون التسلسل إلى وسط الإسناد, فقد يكون إلى أربعة, أو إلى ستة, أو إلى عشرة, ثم ينقطع التسلسل.

قال "أو كما سُلْسِلَ بالأولية إلى سفيان":

فكل واحد من الرواة يقول: وهذا أول حديث سمعته. ونحن نروي هذا المسلسل بالأولية عن شيخنا حماد الأنصاري رحمه الله تعالى, وهذا أول حديث سمعته بالأولية. وكل واحد من الرواة يقول: هذا أول حديث سمعته, بالأولية, وينتهي التسلسل إلى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاص عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى, ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).

ولا تلازم بين التسلسل وبين الصحة, فإن المسلسل قد يكون صحيحاً, وقد يكون ضعيفاً, وقد أشار المؤلف رحمه الله تعالى إلى هذه المسألة بقوله "وعامَّة المسلسلات واهية, وأكثرها باطلة لكذب رواتها":

فلذلك قَلَّمَا تسلم المسلسلات من ضعف, ويعنى بهذا في وصف التسلسل, فإن المتن قد يكون ثابتاً من وجه آخر.

قوله "وأقواها - أي وأقوى المسلسلات - المسلسل بقراءة سورة الصف":

وقد جاء هذا الخبر في جامع أبي عيسى الترمذي رحمه الله تعالى عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي؛ قال: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: قعدنا, نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه, فأنزل الله (سبح لله ما في السموات وما في والأرض, وهو العزيز الحكيم, يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون, كَبُرَ مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) إلى آخر السورة, قال عبد الله بن سلام: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو سلمة: فقرأها علينا عبد الله بن سلام. قال يحيى: فقرأها علينا أبو سلمة. قال ابن كثير: فقرأها علينا الأوزاعي. قال عبد الله: فقرأها علينا ابن كثير.

ومن ذلك "المسلسل بالدمشقيين":

وهو حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: (يا عبادي, إني حرمت الظلم على نفسي, وجعلته بينكم محرماً, فلا تظالموا) والحديث في مسلم. وقد رواه عن أبي ذر أبو إدريس الخولاني, ورواه عن أبي إدريس ربيعة بن يزيد, ورواه عن ربيعة سعيد بن عبد العزيز. وقد تسلسل هذا الخبر بالدمشقيين. وهذا الخبر من أفضل أحاديث أهل الشام.

ومن ذلك الحديث "المسلسل بالمصريين":

وهو حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُصَاحُ برجلٍ من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق, فيُنشر عليه تسعة وتسعون سِجِلاًّ, كل سجل منها مثل مد البصر). وقد رواه عن عبد الله بن عمرو أبو عبد الرحمن الحُبُلي, وعن الحُبُلي المعافري, وعنه الليث بن سعد, وتسلسل هذا الخبر بالمصريين. وقد رواه الإمام أحمد, والترمذي, وجماعة, وإسناده صحيح.

وعبد الله بن عمرو بن العاص سكن مصر مع أبيه عمرو, وأقام بعده مدة يسيرة, ثم انتقل منها.

ومن ذلك الحديث "المسلسل بالمحمَّدِين":

وينتهي إلى الإمام محمد بن شهاب الزهري. ويروي الزهري عن السائب بن يزيد أن النداء يوم الجمعة كان أوله في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفي زمان أبي بكر, وفي زمان عمر: إذا خرج الإمام, وإذا قامت الصلاة, حتى إذا كان في زمان عثمان, وكثر الناس, زاد النداء الثالث على الزوراء. فقد تسلسل هذا الخبر عن الزهري بالمحمَّدِين, فرواه عنه محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب, وعن ابن أبي ذئب محمد بن إسماعيل بن أبي فديك.

وتسلسل هذا الخبر إلى كثير من الأئمة الذين يعتنون بالمسلسلات, ويرغبون في مثل هذا.

وهذه المسلسلات منها ما ينقطع تسلسله في وسط إسناده, ويعتبر هذا نقصاً في التسلسل, ولا علاقة لهذا لا بالصحة, ولا بالضعف. ومنه التسلسل الذي يتصل من أوله إلى منتهاه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

17- المُعَنْعَن:

ما إسنادُه فلانٌ عن فلان.

فمن الناس من قال: لا يَثْبُتُ حتى يَصِحَّ لقاءُ الراوي بشيخه يوماً ما، ومنهم من اكتَفَى بمجرَّد إمكان اللُّقِيّ، وهو مذهَبُ مُسْلم, وقد بالَغَ في الردِّ على مخالِفِه.

ثم بتقدير تَيِقُّن اللقاء، يُشتَرَطُ أن لا يكون الراوي عن شيخِهِ مُدَلَساً، فإن لم يكن حملناه على الاتصال، فإن كان مُدَلّساً، فالأظهرُ أنه لا يحمَلُ على السماع.

ثم إن كان المدلِّسُ عن شيخِه ذا تدليسٍ عن الثقات فلا بأس، وإن كان ذا تدليسٍ عن الضعفاءِ فمردود.

فإذا قال الوليد أو بَقِيَّة: عن الأوزاعي، فواهٍ، فإنَّهما يُدلَّسانِ كثيراً عن الهَلْكَى، ولهذا يَتَّقي أصحابُ ( الصحاح ) حديثَ الوليد، فما جاء إسنادُه بِصِيغةِ عن ابن جُرَيج، أو عن الأوزاعي تجنَّبوه.

وهذا في زماننا يَعْسُرُ نقدُه على المحدِّث، فإنِّ أولئك الأئمة كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود، عايَنُوا الأصول، وعَرَفوا عِلَلَها، وأمَّا نحن فطالَتْ علينا الأسانيد، وفُقِدَتْ العباراتُ المتيقَّنَة، وبمثلِ هذا ونحوِه دَخَل الدَّخَلُ على الحاكم في تَصَرُّفِهِ في (( المستدرك )).

الشرح

قال المؤلف رحمه الله تعالى "المعنعن: ما إسناده فلان عن فلان":

سواء قال: عن فلان, أو قال: أن فلاناً, أو قال: قال فلان, وما كان بمعنى العنعنة. والعلماء يعبرون بالعنعنة, وقد يقولون بالمأنن, وذلك لأن العنعنة الأشهر.

قوله "فمن الناس من قال: لا يثبت - أي حديث المعنعن - حتى يصح لقاء الراوي بشيخه يوماً ما":

وهذا يُحكَى عن الإمام البخاري, ذكره عنه القاضي عياض, وتتابع الناس بعد ذلك. فهؤلاء يحكون عن البخاري, وعن علي بن المديني, أنهما لا يقبلان الحديث حتى تثبت المعاصرة, ويصح لقاء الراوي بشيخه ولو مرة واحدة.

الإمام البخاري رحمه الله تعالى لم يذكر في كتبه, لا في صحيحه, ولا في تاريخه, ولا في شيء من ذلك, هذا الكلام, وإنما قال ذلك القاضي عياض, وتبعه على ذلك جمع غفير, استقراءً لمنهج البخاري رحمه الله تعالى.

ومنهم من نازع القاضي عياض في هذا, وأن هذا الاستقراء وهذا التتبع وهذا الحكم غير صحيح, فلم يقله أحد من الأئمة الذين هم أعرف بمنهج البخاري من القاضي عياض. والأمثلة الواردة عن البخاري المفيدة لهذا المعنى لا تقتضي بأن هذا شرط, بدليل أنه في أحاديث كثيرة في صحيحه وفي غيره يكتفي بمجرد المعاصرة, وانتفاء القرائن على أنه ما هناك عدم سماع.

وقد ذهب الإمام مسلم رحمه الله تعالى إلى قبول الحديث المعنعن بثلاثة شروط: الشرط الأول: المعاصرة, وهذا لا يخالف فيه أحد.

الشرط الثاني: ألاَّ يكون الراوي الذي عنعن مدلساً لا تُقبَل عنعنته.

الشرط الثالث: ألاَّ تكون هناك قرينة تدل على عدم السماع.

وقد رد الإمام مسلم رحمه الله تعالى في مقدمة صحيحه على المخالفين في هذا, وحكى رحمه الله الإجماع على صحة مذهبه, وأنه لا يعلم أحداً من الأئمة ينازع ويخالف في هذا, وذكر رحمه الله جمعاً غفيراً من الأئمة ومن المحدثين ومن الأكابر ما كانوا يشترطون اللُّقِي, وأنه إذا كان فيه معاصرة, كفت هذه المعاصرة عن اللُّقِي, ما لم تدل قرينة على عدم السماع.

وقد علَّق على هذا الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في العلل فقال: والصواب أن ما لم يَرِدْ فيه السماع من الأسانيد, لا يُحكَم باتصاله, ويُحتَج به مع إمكان اللُّقِي, كما يُحتَج بمراسيل أكابر التابعين. فمعنى هذا أنه يُعَل الخبر بالانقطاع, ويُحتَج به, ويُقبَل في العمل.

نظير هذا الاحتجاج بمراسيل أكابر التابعين. ومنهم من أنكر هذا, وأن الخلاف في مسألة السماع, وليس في مسألة الاحتجاج والعمل. فهل يقال بما نُسِبَ للبخاري؟ أم يُصَار إلى ما صار إليه مسلم وحكى عليه الإجماع؟

العلماء مختلفون في هذا اختلافاً كثيراً, منهم من نصر ما نُسِبَ إلى البخاري, كابن عبد البر, ومنهم من نصر ما نُسِبَ إلى الإمام مسلم.

والصواب أن المعاصرة شرط.

والشرط الآخر: ألاَّ يكون الراوي الذي عنعن مدلساً, يغلب عليه التدليس, لأنه إذا كان يغلب عليه التدليس لا بد أن يصرح بالسماع, وهذا ولله الحمد لا يوجد في أحاديث الثقات والأكابر, وإنما يوجد في أحاديث الضعفاء والمتروكين ونحو هؤلاء.

الشرط الثالث أن يُعتَبر السماع وعدمه بالقرائن.

ولا يزال العلماء رحمهم الله تعالى يعملون بالقرائن؛ يقبلون تارةً بالقرائن, ويردون بالقرائن, ولا يجعلون في هذا قاعدة مطَّردة, وإن كانوا يبحثون مسألة: ما هو الأصل؟ هل الأصل القبول, ويُرَدُّ بالقرائن؟ أو الأصل الرد, ويقبل بالقرائن؟

ما نُسِبَ إلى البخاري هو أن الأصل الرد, ويُقبَل بالقرائن, لأنه قَبِل. وما نصره مسلم أن الأصل القبول, وقد يرد بالقرائن, كما صنع الإمام مسلم رحمه الله. وهذا في الحقيقة نوع تقريب للمذهبين, وأننا نُعْمِل القرائن في هذا, فلا نقبل هذا, ولا نَرُدُّ ذاك, إلا بقرينة, وهذه القرينة قد تكون دالة على القبول, وقد تكون دالة على الرد.

قوله "ثم بتقدير تيقن اللقاء, يُشتَرط ألاَّ يكون الراوي عن شيخه مدلساً":

ويأتي إن شاء الله تعالى الحديث عن التدليس, وعن المدلسين. وهذا الشرط الذي ذكره الذهبي رحمه الله تعالى حين يُقيَّد بالمكثِر, هذا لا إشكال فيه. وحين يقال بالإطلاق, كما أطلق الذهبي رحمه الله تعالى, فهذا فيه نظر, فإن الصواب من مذاهب المحدثين أن من لم يكن الغالب على حديثه التدليس تُقبَل عنعنته مطلقاً.

قوله "فإن لم يكن حملناه على الاتصال":

أي فإن لم يكن مدلساً حملناه على الاتصال. وهذا على قولهم بتقدير تيقن اللقاء, قد تقدم قبل قليل ما فيه من العلم.

قوله "فإن كان مدلساً, فالأظهر أنه لا يُحمَل على السماع":

وهذا فيه نظر, والصواب أن التدليس نوعان, ويُحمَل كلام المؤلف على المكثِر الذي غلب عليه التدليس, وأما المقل فتُحمَل عنعنته على الاتصال والسماع. والأئمة رحمهم الله تعالى يقولون: دلَّسه, ولا يقولون: عنعنه, فهم يفرقون بين العنعنة, وبين التدليس, باستثناء ما غلب على اصطلاحات كثير من المتأخرين. قوله "ثم إن كان المدلس عن شيخه ذا تدليس - أي صاحب تدليس - عن الثقات فلا بأس":

معنى هذا أن من لا يدلس إلاَّ عن ثقة, يُقبَل حديثه, وتُقبَل عنعنته, كسفيان بن عيينة, وكجماعة من الأكابر. وهذا مبني على قاعدة أن المدلس إذا عنعن لا يُقبَل حديثه, والصواب التفصيل.

قوله "وإن كان ذا تدليس عن الضعفاء فمردود":

يقال: الرواة المتهمون بالتدليس على قسمين:

القسم الأول: من كثر تدليسه, واشتهر به, وكان غالباً عليه, فهذا لا يُقبَل حديثه حتى يصرح بالسماع, وهذا ولله الحمد لا يُعرَف عن أحد من الأئمة الثقات, ولا يوجد هذا النوع إلا فيمن قيل عنه أنه سيء الحفظ, أو ضعيف, أو صدوقٌ مختلف فيه, كبقية بن الوليد, والحجاج بن أرطاة, ونحو هؤلاء.

وقد سُئِلَ علي بن المديني رحمه الله تعالى عن الرجل يدلس, أيكون حجة فيما لم يقل فيه: حدثنا؟ فقال رحمه الله: إذا كان الغالب عليه التدليس فلا, حتى يقول: حدثنا.

مفهوم هذا أنه إذا كان مقلاًّ, فلا تؤثر عنعنته على الإسناد والحديث.

القسم الثاني: من قلَّ تدليسه, أو دلَّس عن ثقة, فحكم حديثه الصحة, وتُقبَل عنعنته.

من ذلك: قتادة, والأعمش, وأبو إسحاق السبيعي, وأبو الزبير المكي, وهُشَيم, وابن جريج, والثوري, والوليد بن مسلم, وغير هؤلاء, فهؤلاء أئمة الحفظ, وأكابر علماء الحديث, وقد وُصِفَ هؤلاء بالتدليس, وهذا غير مؤثر على حديثهم. فالأصل في عنعنتهم الاتصال والسماع, ما لم يثبت عن الواحد منهم بأنه قد دلس, ووُجِدَت واسطة في الإسناد. وهذا يعرف بنص إمام, أو بجمع الطرق, أو بغير ذلك من القرائن المفيدة لمعرفة التدليس.

قوله "فإذا قال الوليد أو بقية: عن الأوزاعي, فواهٍ, فإنهما يدلسان كثيراً عن الهلكى":

الوليد بن مسلم رحمه الله قد وُصِفَ بتدليس الإسناد, وتدليس الشيوخ, وتدليس التسوية. وذلك أنه قد يروي عن الأوزاعي عن بعض الضعفاء, فيُسقِط هذا الضعيف, ويُسَوِّي الإسناد. وقد قيل بأن تدليس الوليد خاص بروايته عن الأوزاعي, وهذا ظاهر عبارات الأئمة المتقدمين.

وقد الوليد يروي عن يوسف ابن أبي .. غير واضح .. وهو متروك عن الأوزاعي, فيُسقِط يوسف, ويروي عن الأوزاعي. وهذا لم يمنع الأئمة من كونهم يقولون بأن عنعنة الوليد غير مؤثرة, لأنه مكثِر عن الأوزاعي, ولأنه ما من حديث قد دلَّسه عن الأوزاعي إلا تبين للعلماء, وما عدا ذلك فالأصل فيه الاتصال والسماع, وهذا الذي نص عليه غير واحد من الأئمة.

ولم يكن أحد من أئمة السلف يعل أحاديث الأكابر كالحسن البصري أو قتادة بمجرد العنعنة, كصنيع كثير من المتأخرين, يقولون: فلان ثقة, وهو مدلس, وقد عنعن, فلا يُقبَل حديثه. وهذا غلط, وهذا يعني تضعيف أحاديث كثير من الأئمة, وإن كان بعضهم لا يلتزم هذا المنهج, يُعَبِّر عن الشيخين دون غيرهما, ويصحح بعض الأحاديث, لأنه لا يتجاسر على تضعيفها بمجرد العنعنة.

قوله "أو بقية": هذا بقية بن الوليد الشامي الحمصي, وهو موصوف بكثرة التدليس عن الضعفاء, فإذا عنعن يُتَوقَّف في حديثه, حتى يثبت ما يفيد السماع أو الاتصال.

قوله "ولهذا يتقي أصحاب الصحاح حديث الوليد":

وهذا فيه نظر, فلم يكن أحد من أصحاب الصحاح, لا البخاري, ولا مسلم, ولا ابن خزيمة, ولا ابن حبان, يتقي حديث الوليد إذا روى بالعنعنة. وقد روى عنه أكابر العلماء معنعناً, وهو يعنعن عن الأوزاعي, ولم يمنع هذا الإمام مسلم رحمه الله تعالى من التخريج له.

قوله "فما جاء إسناده بصيغةِ عن ابن جريج, أو عن الأوزاعي, تجنبوه":

وهذا فيه نظر, والصواب أن الأئمة يقبلون هذا, ولا يتجنبونه, وإن اشتهر هذا الرد والقول بأنهم يتجنبونه عن كثير من المتأخرين.

قوله "وهذا في زماننا يعسر نقده على المحدث":

هو في الحقيقة يعسر, ولكن لا يتعذر, وليس النقد بمحال, فمن أسهر ليله, وأظمأ نهاره بمدارسة كتب الأئمة المتقدمين, كعلي بن المديني, وأحمد بن حنبل, والشيخين البخاري ومسلم, والترمذي, والنسائي, وأبي داود, وكتب الدارقطني, واختلط هذا العلم بلحمه ودمه, وصل إلى ما وصل إليه كثير من الأئمة, في القدرة على التعليل والنقد, ويحصل له من اليسر ما لا يحصل لغيره, ممن لم يمارس كلام الأئمة المتقدمين رحمهم الله. وهذا يحتاج إلى حفظ واسع, ويحتاج إلى آلة من الكتب, ويحتاج إلى سعة إطلاع, ويحتاج إلى بحث, وتدوين للفوائد, وما يمر من ذلك من المعاني الجميلة, والفرائد, التي قد لا توجد في الكتب الأخرى.

قوله "فإن أولئك الأئمة كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود, عاينوا الأصول, وعرفوا عللها, وأما نحن فطالت علينا الأسانيد, وفُقِدَت العبارات المتيقنة": يقال عن هذا: إذا طالت الأسانيد, فنحن نتحدث عن الكتب التي دونت في عصر الأئمة, لأن الأسانيد التي تُروَى إلى عصرنا هذا, تُروَى عن المجاهيل, وعن الضعفاء. فنحن نروي الأحاديث, الكتب الستة وغيرها, بأسانيدها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكن نروي هذه الكتب عن مجاهيل, وعن أناس لا نعرفهم, وإن كنا نعرف الذين نأخذ عنهم بالضبط والحفظ والمعرفة, لكن هم يروون عن أناس, ومشايخهم يروون عن آخرين, ممن لا يُعرَف حفظه ولا ضبطه, وحينئذ يتعسر ضبط هذا العلم.

أما الأحاديث المدونة, الموجودة في سنن أبي داود, والترمذي, والنسائي, وابن ماجه, والموطأ, وصحيح ابن خزيمة, وصحيح ابن حبان, ومصنف ابن أبي شيبة, ومصنف عبدالرزاق, فنحن حينما نريد أن ننقد خبراً, نعتمد في ذلك على أصول الأئمة المتقدمين, وحينئذٍ نصل إلى النتيجة التي كان السلف يصلون إليها, لأن النتيجة تكون صحيحة على حسب صحة المنهج. وأما الذين ليس لهم منهج راسخ, ومعرفة بهذا العلم, فدائماً ما تكون النتيجة خاطئة.

قوله "وبمثل هذا ونحوه دخل الدَّخَلُ على الحاكم في تصرفه في المستدرك":

بمعنى أنه طالت عليه الأسانيد, ولم يكن له من المعرفة كمعرفة البخاري وأبي حاتم وأحمد ومسلم, فكان في كتابه المستدرك خلل. قد كان الخلل ناتجاً من هذا المعنى, ومن غيره من المعاني, كتساهله في الرواة, حتى أنه يصحح بعض الرواة في موضع, ويضعفهم في موضع آخر.

ثم إن منهج الحاكم رحمه الله تعالى لـم يكن واضحاً جلياً في استدراكه على الشيخين, ولهذا وغيرِه قال بعض العلماء عن تصحيحات الحاكم:

فأصبحتُ الغداةَ من ليلى كقابضٍ

على الماءِ خانته فروجُ الأصابعِ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

18- المُدَلَّس:

ما رواه الرجل عن آخَر ولم يَسمعه منه، أو لم يُدركه.

فإن صَرَّح بالاتصال وقال: حدَّثنا، فهذا كذَّاب، وإن قال: عن، احتُمِلَ ذلك، ونُظِرَ في طبقِتِه هل يُدرِكُ من هو فوقَهُ؟ فإن كان لَقِيَه فقد قرَّرناه، وإن لم يكن لَقِيَه فأمكن أن يكون مُعاصِرَه، فهو محلُّ تردُّد، وإن لم يُمكِن فمنقطِع، كقتادة عن أبي هريرة.

وحُكْمُ (قال) حُكمُ (عن). ولهم في ذلك أغراض:

فإن كان لو صَرّحَ بمن حَدَّثه عن المسمَّى، لعُرِفَ ضَعْفُه، فهذا غَرَضٌ مذموم وجِنايةٌ على السُّـنَّة، ومن يُعاني ذلك جُرِحَ به، فإنَّ الدينَ النصيحة.

وإن فَعَلهُ طَلَباً للعلو فقط، أو إيهاماً بتكثير الشيوخ، بأن يُسمِّي الشيخَ مرَّةً ويُكَنِّيَه أخرى، وَيَنْسُبَه إلى صَنْعةٍ أو بلدٍ لا يكادُ يُعرَف به، وأمثالَ ذلك، كما تقول: حدَّثَنا البُخَاريُّ، وتَقصِدُ به من يُبَخَّرُ الناس، أو: حدَّثنا عليٌّ بما وراءَ النهر، وتعني به نهراً، أو: حَدَّثنا بزَبِيد، وتُرِيد موضعاً بقُوص، أو : حدَّثنا بحَرَّان، وتُريدُ قريةَ المَرْج، فهذا مُحْتَمَل، والوَرَعُ تركُه.

ومن أمثلة التدليس: الحَسَنُ عن أبي هريرة. وجمهورُهم على أنه منقطع، لم يَلْقَه. وقد رُوِيَ عن الحَسَنِ قال: حدَّثنا أبو هريرة. فقيل: عَنَى بحَدَّثَنا: أهلَ بلدِه.

وقد يؤدِّي تدليسُ الأسماء إلى جهالةِ الراوي الثقة، فيُرَدُّ خبَرُه الصحيح. فهذه مَفْسَدَة، ولكنها في غير (( جامع البخاري )) ونحوِه، الذي تَقرَّرَ أنَّ موضوعَه للصحاح، فإنَّ الرجلَ قد قال في (( جامعه )): حدَّثنا عبدُ الله. وأراد به: ابنَ صالح المصري. وقال: حدَّثنا يعقوب. وأراد به: ابنَ كاسِب. وفيهما لِين. وبكلِّ حالٍ: التدليسُ منافٍ للإخلاص، لما فيه من التزيُّن.

الشرح

قال المؤلف رحمه الله تعالى "المدلَّس":

وقد تحدث عنه المؤلف رحمه الله تعالى بكلام مختصر قبل قليل, وشرحت هذا المعنى. والمدلَّس في اصطلاح الأئمة المتقدمين ليس على معنىً واحد, ولا على اصطلاح متفق عليه, فلا نعطي الكلمة حكماً واحداً, فلها معانٍ متعددة بصريح عباراتهم, ومفهوم كلامهم. فإذا جاء عن أحد من الأئمة وصف حافظ بالتدليس, فلا نعطيه وصف التدليس المعروف عند المتأخرين, وهو رواية الراوي عمن لقيه وسمعه ما لم يسمعه منه, وحين نصنع هذا نجني على الأحاديث, ونجني على الرواة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى في تعريف التدليس "ما رواه الرجل عن آخر ولـم يسمعه منه, أو لـم يدركه":

هذه العبارة غير دقيقة, وتحتاج إلى تكميل.

قوله "ما رواه الرجل عن آخر": يقال لقيه, وسمع منه, وروى عنه مالم يسمعه منه, وهذا النوع من التدليس هو المشهور عند المتأخرين, وهو عند الأئمة يسمى تدليساً, ولكن اصطلح كثير من المتأخرين على هذا المعنى. وبمجرد أن ترد عبارة عن كثير من الأئمة بأن فلاناً مدلس, يحملون هذا التدليس على هذا المعنى, وهذا ما ننادي به بأنه غلط, وغلط, وغلط, وهذا خلاف مناهج الأئمة.

قال الحافظ "أو لم يدركه":

أي رواية الراوي عمن عاصره ولـم يلقه, أو لقيه ولـم يسمع منه, ويسمى هذا عند المتأخرين بالمرسل الخفي.

 

 

قوله "فإن صرح بالاتصال وقال: حدثنا, فهذا كذاب":

لأنه قال: حدثنا, فيما لم يسمعه, وهذا لا يجوز. ولكن الأئمة الحفاظ لا يقولون: حدثنا, فيما لم يسمعوا, بل يقولون: عن, وأَنَّ, وقال, وهذا لا يؤثر على الرواية, وإن كان موصوفاً بالتدليس. وقد يقول الموصوف بالتدليس: حدثنا, باعتبار أنه سمع, هذا لا إشكال فيه باتفاق الأئمة.

وقد يقول: عن, وهذا لا إشكال فيه, فهو بمعنى (حدثنا) في قول أكابر الأئمة, ما لم يكن الغالب على حديثه التدليس, فهذا له حكم. وقد تقدم التفصيل في هذا.

قوله "وإن قال: عن, احتُمِل ذلك, ونُظِرَ في طبقته هل يدرك من هو فوقه؟ فإن كان لقيه فقد قررناه":

وقد قررت على تقريره بأن الصواب قبوله, ما لم يكن مشهوراً بالتدليس, ومكثراً, وغالباً عليه.

قوله "وإن لم يكن لقيه فأمكن أن يكون مُعَاصِرَه, فهو محل تردد":

وقد تقدم تفصيل هذا بين المذهبين: المذهب المنسوب للبخاري, والمذهب الذي نصره مسلم رحمه الله تعالى في مقدمة صحيحه.

قوله "وإن لم يمكن فمنقطع":

أي فإن لم يمكن اللُّقي, والمعاصرة, فيسمى هذا الخبر بالمنقطع.

قوله "كقتادة عن أبي هريرة":

فإن قتادة وُلِدَ سنة ستين, وتوفي أبو هريرة رضي الله عنه سنة تسعٍ وخمسين.

قوله "وحُكْمُ (قال) حُكْمُ (عن). ولهم في ذلك أغراض":

"حُكْمُ (قال) حُكْمُ (عن)": ومثل ذلك (أنَّ).

"ولهم": أي وللمدلسين في ذلك أغراض.

 

قوله "فإن كان لو صرح بمن حدثه عن المسمَّى, لعُرِفَ ضعفه, فهذا غرض مذموم وجناية على السنة, ومن يعاني ذلك جُرِحَ به, فإن الدين النصيحة":

قوله " فإن كان لو صرح بمن حدثه عن المسمى, لعُرِفَ ضعفه, فهذا غرض مذموم": وهذا يصنعه كثير من الموصوفين بكثرة التدليس. وقد كان الوليد بن مسلم رحمه الله تعالى يدلس عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم, من أهل دمشق, ويقول: قال أبو عمرو, وحدثنا أبو عمرو عن الزهري. يوهم أنه الأوزاعي, وإنما هو ابن تميم. وابن تميم هذا قال عنه ابن حبان رحمه الله بأنه كان ينفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات, من كثرة الوهم والخطأ.

وقد تقدم أن الوليد يصنع هذا في مرويات الأوزاعي, وهذا غير مؤثر على مروياته الأخرى, وغير مؤثر على مكانته وعلمه وجلالة قدره وعظيم منـزلته, فهو رحمه الله تعالى مكثر جداً. وقد تقدم أن الوليد وُصِفَ بتدليس الإسناد, وتدليس الشيوخ, وتدليس التسوية.

وقول الذهبي رحمه الله تعالى بأن هذا غرض مذموم وجناية على السنة ليس على عمومه, والمسألة تحتاج إلى تفصيل أطول وأكثر, فقد يصنعون هذا ثقةً بمن يروون عنه, وهم يعتقدون أن الناس حين يعرفون هذا الرجل لا يقبلونه, لأنهم لا يعرفونه, فهو يعتقد أنه يعرفه أكثر من الآخرين, وهذا ليس فيه جناية على السنة, وهذه من مسائل الاجتهاد, وإن كان أكثر العلماء يرون المنع من هذا, ويرون ضرورة الابتعاد عن هذا, إلا أنهم لا يغلظون القول في هذا الباب.

وقول الذهبي "ومن يعاني ذلك جُرِحَ به, فإن الدين النصيحة": الصواب أنه لا يُجرَح. وما جُرِحَ الوليد بقوله: حدثنا أبو عمرو, يوهم بأنه الأوزاعي, وهو  عبد الرحمن بن يزيد, لأن الناس حين يعرفون أنه عبد الرحمن بن يزيد لا يقبلونه, فيتوهم من ليس له صناعة في علم الحديث بأنه الأوزاعي فيقبله.

قوله "وإن فعله طلباً للعلو فقط, أو إيهاماً بتكثير الشيوخ, بأن يسمي الشيخ مرةً ويكنيه أخرى, ويَنْسُبَه إلى صنعة أو بلد لا يكاد يُعرَف به, وأمثال ذلك, كما تقول: حدثنا البخاري, وتقصد به من يُبَخِّرُ الناس, أو: حدثنا عليٌّ بما وراء النهر, وتعني به نهراً":

لأنه يراد بما وراء النهر  نهر جيحون بخراسان, ولذلك كان العلماء يقولون: ما كان في شرقيه يسمونه ما وراء النهر, وما كان في غربيه فهو خراسان.

قوله "أو حدثنا بزبيد - زبيد اسم مدينة مشهورة باليمن - وتريد موضعاً بقُوص":

وقوص مدينة كبيرة معروفة, من مدن الصعيد في مصر.

قوله "أو حدثنا بحرَّان - حرَّان مدينة على طريق الموصل والشام - وتريد قرية المـرْج - وهي من غوطة دمشق- ":

فهذا يقول المؤلف أنه "محتَمل, والورع تركه". هوبلا ريب أن ألفاظ التحديث الموهمة لخلاف المتبادر بالذهن ينبغي تركها والابتعاد عنها, وإذا كان المحدث يأتي بمثل هذا إيهاماً على الآخرين, فهذا غلط, ويجب الابتعاد عن هذا.

وهذه أمور فُعِلَت في العصور السابقة, وانتهى أمرها, وتداولها العلماء بالبحث, والمهمة الآن ليست مهمة تحليل هذه الألفاظ وهذه المعاني, بقدر ما هي المهمة كيف نتعامل في التصحيح والتضعيف مع ما يَرِدُ علينا من هذه الألفاظ.

قوله "ومن أمثلة التدليس: الحسن عن أبي هريرة":

أوَّلاً: لم يثبت عن الحسن البصري رحمه الله تعالى بأنه مدلس بالمعنى المشهور عند كثير من المتأخرين, وهو رواية الراوي عمن لقيه وسمعه ما لم يسمعه منه بصيغةٍ تحتمل السماع, فإن الحسن البصري رحمه الله تعالى من كبار أئمة التابعين, ومن أوعية العلم, ومن أهل الورع والتقوى, ومن قال عنه بأنه مدلس, فهو يعني أنه يروي عمن لم يسمع منه, وهذا يسمى انقطاعاً, ويطلقون عليه تدليساً تجوزاً, فمن حمل هذا المعنى الذي أطلقه بعض الأئمة على المعنى المتأخر فقد غلط.

وإذا أردنا أن نقسو في الألفاظ, وأن نقسو في المعاني, فإننا نقول عمن قال هذا هو الذي في الحقيقة له جناية على السنة.

قوله "الحسن عن أبي هريرة": الصواب أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة, وقيل بأنه سمع, وقيل بأنه سمع حديثاً واحداً, وهو (المنتزعات هن المنافقات) والحديث رواه النسائي. وقد قيل: الحسن لم يسمع من أبي هريرة غير هذا الحديث, ولكن أنكر هذا النسائي, وغيره من العلماء, ويقولون بأن الحسن لم يسمع من أبي هريرة, وأن قوله (لم يسمع) هذا من غلط الرواة.

قوله "وجمهورهم على أنه منقطع, لم يلقه":

ولعل هذا هو الأقرب.

قوله "وقد رُوِيَ عن الحسن قال: حدثنا أبو هريرة. فقيل: عنى بحدثنا: أهل بلده": وهذه الحكاية غير صحيحة, وكثير من العلماء يورد هذه الحكاية .... سقْطٌ يسير في هذا الموضع .....

قوله "وقد يؤدي تدليس الأسماء إلى جهالة الراوي الثقة, فيُرَدُّ خبره الصحيح. فهذه مفسدة":

وهذا لا يمكن أن يقع ولله الحمد في كلام الأئمة, فهم يميزون, ويعرفون, وأهل اطلاع, وأهل خبرة, وليسوا من الناس الذين يحكمون على الحديث بمجرد أن يأتي إليهم الاسم بالكنية, أو الكنية بالاسم, أو العكس, ولا يكاد يفوت الأئمة شيء من هذا.

قوله "ولكنها في غير جامع البخاري ونحوه, الذي تقرر أن موضوعه للصحاح, فإن الرجل – يعني الإمام البخاري - قد قال في جامعه: حدثنا عبد الله. وأراد به ابن صالح المصري. وقال: حدثنا يعقوب. وأراد به ابن كاسب. وفيهما لين":

عبد الله بن صالح, هو كاتب الليث, وثقه جماعة.

وقال الذهلي: شغلني حسن حديثه عن الاستكثار من سعيد بن عُفَير.

وقال الإمام أحمد: كان في أول أمره متماسكاً, ثم فسد بآخره.

وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في هدي الساري: ظاهر كلام الأئمة أن حديثه في الأول مستقيم, ثم طرأ عليه فيه تخليط, فمقتضى ذلك أن ما يجيء من روايته عن أهل الحذق كيحيى بن معين, والبخاري, وأبي زرعة, وأبي حاتم, فهو من صحيح حديثه.

وحين قال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا عبد الله. فليس هذا من التدليس في شيء, ثم إن عبد الله بن صالح لا يروي عنه البخاري رحمه الله تعالى إلا ما كان من صحيح حديثه.

وأما قول البخاري: حدثنا يعقوب. فقد اختُلِفَ في قصد البخاري رحمه الله تعالى بيعقوب, فقيل هو ابن كاسب, وقيل يعقوب بن إبراهيم الدَّورقي, وقيل غير ذلك, والحافظ الذهبي رحمه الله تعالى يقول بأنه أراد ابن كاسب, وهذا ليس بيقين. وإن كان هو فقد توبع على حديثه في البخاري, ولم يتفرد به.

قوله "وبكلِّ حال: التدليس مناف للإخلاص لما فيه من التزين":

يُخَصُّ هذا الكلام بالتدليس المصطلح عليه عند المتأخرين, وهو رواية الراوي عمن لقيه وسمعه ما لم يسمعه بصيغة تحتمل أو توهم السماع, لأن التدليس له عدة معاني, فلا بد أن نعيها, وأن نفهمها, حتى نستطيع من خلال ذلك أن نحكم على أحاديث الموصوفين بالتدليس.

نهاية الدرس الثامن – لا يوجد أسئلة.

 

19- المضطرب والمُعَلَّل:

ما رُوِيَ على أوجهٍ مختلِفة، فَيعتلُّ الحديث.

فإن كانت العِلّةُ غيرَ مؤثًرة، بأن يَرويَه الثَّبْتُ على وجهٍ، ويُخالِفَه واهٍ، فليس بمَعْلُول. وقد ساق الدارقطنيُّ كثيراً من هذا النمط في (( تاب العِلَل )), فلم يُصِب، لأنَّ الحُكم للثَّبْت.

فإن كان الثَّبْتُ أرسَلَه مثلاً، والواهي وصَلَه، فلا عبرة بوصلِه لأمرين: لضعفِ راويه، ولأنه معلولٌ بإرسال الثَّبْت له.

ثم اعلم أنَّ أكثَرَ المتكلَّمِ فيهم، ما ضعَّفهم الحُفَّاظُ إلا لمخالفتهم للأثبات.

وإن كان الحديثُ قد رَوَاه الثَّبْتُ بإسناد، أو وَقَفَه، أو أَرسَلَه، ورفقاؤه الأثباتُ يُخالفونه، فالعبِرةُ بما اجتَمَع عليه الثقات، فإنَّ الواحد قد يَغلَط. وهنا قد ترجَّح ظهورُ غَلَطِه فلا تعليل، والعِبرةُ بالجماعة.

وإن تساوَى العَدَدُ، واختَلَف الحافظانِ، ولم يترجَّح الحكمُ لأحِدهما على الآخر، فهذا الضَّرْبُ يَسوقُ البخاريُّ ومسلمُ الوجهين ِ ـ منه ـ في كتابيهما, وبالأولَى سَوْقُهما لما اختَلَفا في لفظِهِ إذا أمكن جَمْعُ معناه.

ومن أمثلة اختلاف الحافِظَينِ: أن يُسمِّيَ أحدُهما في الإسناد ثقةً، ويُبدِله الآخرُ بثقةٍ آخر, أو يقولَ أحدُهما: عن رجل، ويقولَ الآخرُ: عن فلان، فيُسمِّيَ ذلك المبهَمَ، فهذا لا يَضُرُّ في الصحة.

فأمَّا إذا اختَلَف جماعةٌ فيه، وأَتَوْا به على أقوالٍ عدًة، فهذا يُوهِنُ الحديث، ويَدُلُّ على أنَّ راوِيَه لم يُتقِنه.

نعم لو حَدَّثَ به على ثلاثِة أوجهٍ تَرجعُ إلى وجهٍ واحد، فهذا ليس بمُعْتَلّ، كأن يقولَ مالك: عن الزُّهري، عن ابن المسَّيب، عن أبي هريرة. ويقولَ عُقَيل: عن الزُّهري، عن أبي سَلَمة. ويَرويَه ابنُ عيينة، عن الزهري، عن سَعِيدٍ وَأبي سَلَمة معاً.

الشرح

قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى "المضطرب والمعلَّل":

علم المعلَّل علم عزيز, وقد كتب عنه العلماء, وعن أهميته, حتى قال عنه الحاكم رحمه الله تعالى: هو علم برأسه, غير الصحيح والسقيم والجرح والتعديل.

وقال ابن منده رحمه الله تعالى: إنما خص الله بمعرفة هذه الأخبار نفراً يسيراً من كثير ممن يدعي علم الحديث, فأما سائر الناس ممن يدعي كثرة كتابة الحديث, أو متفقه في علم الشافعي وأبي حنيفة, أو متبع لكلام الحارث المحاسبي والجنيد وذي النون وأهل الخواطر, فليس لهم أن يتكلموا في شيء من علم الحديث. إلاَّ من أخذه عن أهله, وأهل المعرفة به, فحينئذ يتكلم بمعرفته.

وعلم العلل علم واسع, ومعظم أنواع الحديث تدخل في العلل, فإن الأئمة قد يُعِلُّون بالوقف, أو الإرسال, أو الاضطراب, أو التدليس, أو الانقطاع, أو غير ذلك, والذي يميز علم العلل عن هذه الفروع هو ما تتضمنه العلة من خفاءٍ لا يميزه إلا من اختلط علم الحديث بلحمه ودمه.

ولهذا قال ابن مهدي رحمه الله تعالى: لأن أعرف علة الحديث أحبُّ إلي من أن أكتب حديثاً. وقال رحمه الله: معرفة الحديث إلهام. وقال رحمه الله: إنكارنا الحديث عند الجهال إهانة.

وأهل العلم المتميزون به كثيرون, منهم شعبة - هم كثيرون, وهم قليلون بالنسبة للحفاظ والذين لا يميزون - فمن هؤلاء شعبة, وابن مهدي, وابن المبارك, و مالك, وابن معين, وابن المديني, وأحمد, والبخاري, وأبو زرعة, وأبو حاتم, ومسلم, وأبو داود, والترمذي, والنسائي, والدارقطني, وغير هؤلاء من الأئمة الذين يتميزون عن غيرهم بمعرفة العلل, وضبط هذه الأبواب, ورصدها والكتابة عنها.

وقد كُتِبَ في هذا الباب عشرات الكتب, فكان أنفعها هو كتاب العلل لعلي بن المديني, وكتاب العلل لأحمد, وكتاب العلل لابن أبي حاتم, وكتاب الإرشاد للخليلي, وكتاب العلل للدارقطني.

قال الحافظ رحمه الله تعالى في تعريف المضطرب والمعلَّل "ما رُوِيَ على أوجهٍ مختلفة, فيعتلُّ الحديث":

وهذا لفظ مجمل, فإنه لا يلزم من مجيء الحديث على أوجه مختلفة أن يكون معلولاً. وقد ذهب بعض الذين يكتبون في المصطلح إلى أن العلة نوعان, وهذا الذي أشار إليه الذهبي رحمه الله تعالى في كلامه, حيث جعلها علة مؤثرة, وعلة غير مؤثرة. والصواب أن العلة مؤثرة مطلقاً, وقد يكون تأثيراً أشد من تأثير هذا بلا ريب.

وأما أن تكون في الحديث علة, ولا تؤثر على الحديث, فهذا غير صحيح. والصواب أن نعبر بالاختلاف, فهذا اختلاف مؤثر, وهذا اختلاف غير مؤثر.

قال رحمه الله "فإن كانت العلة غير مؤثرة":

والصواب أن يقال: فإن كان الاختلاف غير مؤثر. فحين نجزم بأن هذه علة, فإن الخبر معلول, وجه علته الانقطاع, أو الإرسال, أو التدليس, أو ترجيح الوقف, أو الاضطراب, أو غير ذلك من أنواع العلل.

قوله "بأن يرويه الثبت على وجه, ويخالفه واهٍ, فليس بمعلول":

هو رحمه الله قال بأن هذه علة, ولكنها غير مؤثرة, فحينئذ يقصد بقوله: فليس بمعلول, أي فليست هذه بعلة مؤثرة. ونحن نعبر بالاختلاف, وهذا أصح: اختلاف مؤثر, واختلاف غير مؤثر.

قوله "وقد ساق الدارقطني كثيرا من هذا النمط في كتاب العلل فلم يصب لأن الحكم للثبت":

وهذا فيه نظر, فإن الإمام الدارقطني رحمه الله تعالى حين يعل حديث الثقة بالضعيف, ليس بمعنى تقديم رواية الضعيف على الثقة, أو أن هذا الضعيف يرتقي من الضعف إلى الثقة, أو أن هذا الضعيف يقدم حديثه على الثقة, ولكن الدارقطني رحمه الله تعالى يورد بعض أحاديث الثقات, ويبين علتها, بمعنى أنها لا تُعرَف من طريقهم, ولا تُعرَف إلاَّ من رواية هؤلاء الضعفاء, فتُقدَّم رواية الضعيف على رواية الثقة باعتبار أن الخبر يُعرَف من رواية الضعيف, ولا يُعرَف من رواية الثقة. وليس بمعنى ما فهمه الذهبي رحمه الله تعالى, بأن الدارقطني يقدم الضعيف على الثقة, وأن الخبر إذا رواه الثبت على وجهٍ, وخالفه الضعيف فالحكم للثبت.

وقول المؤلف رحمه الله تعالى "فلم يصب": يعني الدارقطني, والصواب أنه أصاب في هذا, والحافظ الذهبي رحمه الله تعالى هو الذي لم يصب. والدارقطني رحمه الله تعالى أكبر علماً من الذهبي, وأكبر قدراً ومنـزلة, وأعظم حفظاً, وهو أقعد في هذا الباب. على أنه لا يلزم من كون هذا أعلم من هذا, أن يكون هذا أصوب من هذا, لأن الأقل علماً ربما يصيب ما لا يصيب الآخر, والأقل حفظاً ربما يفهم ما لا يفهم الآخر.

ولكن الذهبي رحمه الله تعالى بلا ريب أنه أخطأ في هذه المسألة. والدار قطني رحمه الله تعالى حين ساق بعض الأحاديث الضعيفة للثقات فرجح روايات الضعفاء على هؤلاء, فهو باعتبار أن الخبر لا يُعرَف من رواية الثقة, فيُعَلُّ حديثه, ومثل هذا كثير.

أما إذا لم يكن في حديث الثقة علة, ورواه الثقة, وخالفه الضعيف, فيُحكَم على رواية الضعيف بالنكارة, وهذا صنيع الأئمة كلهم كالبخاري, ومسلم, وأحمد, ويحيى, وابن معين, وابن مهدي, وأمثال هؤلاء الأئمة, الذين يُعلَم تميزهم في هذا الباب عن غيرهم.

قوله "فإن كان الثبت أرسله مثلاً, والواهي وصله, فلا عبرة بوصله لأمرين: لضعف راويه, ولأنه معلولٌ بإرسال الثبت له":

قوله "فإن كان الثبت أرسله": كمالك, أو الزهري, أو نحو هؤلاء, "والواهي وصله": كقرة بن عبد الرحمن, ويعنى بالواهي هنا مطلق الضعف, فلا عبرة بوصله لأمرين: لضعف راويه, ولأنه معلول بإرسال الثبت له. ويمثل لهذا بحديث قرة بن عبد الرحمن المعافري عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حسن إسلام المرء تركه  ما لا يعنيه). هذا الخبر معلول بالإرسال, فقد رواه مالك وغيره عن الزهري عن علي بن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً, وقرة بن   عبد الرحمن سيء الحفظ, وهو لو تفرد بهذا الخبر لكان معلولاً, ويكون ضعفه أشد حين يخالف غيره من الحفاظ.

مثال آخر: روى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحلت لنا ميتتان ودمان, فأما الميتتان فالجراد والحوت, وأما الدمان فالكبد والطحال). وهذا خبر معلول, فقد رفعه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وهو ضعيف باتفاق أكابر المحدثين, وحُكِيَ الإجماع على ضعفه, وتابعه بعض الضعفاء. وروى الخبر سليمان بن بلال, وهو ثقة, عن زيد بن أسلم عن ابن عمر موقوفاً, وهذا هو الصواب. وحينئذٍ يُحكَم في هذا وذاك بإرسال الثبت, وتضعيف الوصل, لأمرين:

الأمر الأول: ضعف من رفع الخبر.

الأمر الثاني: العلة بإرسال الثبت له.

قوله "ثم اعلم أن أكثر المتكلَّم فيهم, ما ضعفهم الحفاظ إلا لمخالفتهم للأثبات":

وهذا صحيح, فعدد كبير من الرواة يُضعَّفون بسبب مخالفتهم للحفاظ, وبسبب تفردهم عن الأثبات, فإن الصدوق إذا كثر تفرده عن الأئمة, صار هذا علة في خبره, لأنه لا يُقبَل تفرد إلا من عُرِفَ بالحفظ والضبط والإتقان, وشهد له الأئمة بالتقدم والسبق, والأئمة لا يقبلون تفرد كل أحد.

قوله "وإن كان الحديث قد رواه الثبت بإسناد, أو وقفه, أو أرسله, ورفقاؤه الأثبات يخالفونه, فالعبرة بما اجتمع عليه الثقات, فإن الواحد قد يغلط. وهنا قد ترجح ظهور غلطه فلا تعليل, والعبرة بالجماعة":

الصواب في هذا الباب أنه يعتبر فيه بالقرائن. وقد تقدم الحديث عن هذا في الدروس الماضية, وأن الأئمة لا يحكمون على الزيادة بالقبول مطلقاً, ولا يردون ذلك مطلقاً, ويعتبرون في هذا الباب بالقرائن, فتارةً يحكمون على هذه الزيادة بالقبول, وتارةً بالرد, وتارةً يرجحون وقف الخبر, وتارةً يرجحون رفعه.

كثير من الأئمة يقبلون رواية مالك عن نافع بزيادة (من المسلمين في الفطر). وفي نفس الوقت يردون رواية آخرين يزيدون في الأحاديث, أو يرفعون الموقوف. وكثير من الأئمة لا يقبلون رواية هُشَيم عن شعبة عن عَدِي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يأتِ, فلا صلاة له إلا من عذر). وقد رواه غير واحد عن شعبة برفعه, ولكن ذهب الأكثر والأحفظ كغندر ووكيع إلى وقفه, فهؤلاء يروون الخبر عن شعبة عن عدي عن سعيد بن جبير ابن عباس موقوفاً, وهذا هو الصواب.

وتقدم الحديث عن هذه المسألة في الحديث عن الشاذ. وحين يسأل طالب علم: ما هي القرائن التي ترجح في هذا الباب؟

نقول:القرائن متعددة, منها الكثرة, ومنها التخصص, فيكون هذا له تخصص بروايته دون ذاك, فيقدم المتخصص على غيره, كابن جريج في عطاء, وهُشَيم في حصين. ومن ذلك اتفاق الأئمة على ترجيح رواية, وغير ذلك من القرائن.

قوله "وإن تساوى العدد, واختلف الحافظان, ولم يترجح الحكم لأحدهما على الآخر":

هذا الترجيح يعتبر نسبياً, فقد لا يترجح للبخاري, ويترجح لمسلم. وقد لا يترجح لمسلم, ويترجح لأبي داود. وقد لا يترجح لأبي داود, ويترجح للنسائي. وقد لا يترجح للنسائي, ويترجح للدارقطني. وقد يتفق العالمان على ترجيح الوجهين, ويأتي ثالث فيخالف هذا وذاك.

قوله "فهذا الضَّرب - الذي فيه تساوى العدد, واختلف الحافظان, ولم يترجح الحكم لأحدهما على الآخر - يسوق البخاري ومسلم الوجهين منه في كتابيهما. وبالأولى سوقهما لما اختلفا في لفظه إذا أمكن جمع معناه":

وهذا باب لا يُحكَم فيه بحكم كلي, فهو يُبنَى على التتبع, والاستقراء, والسبر, والمقارنة, والموازنة, والمدارسة. وقد يختلفون في بعض الأحاديث, فهذا البخاري رحمه الله تعالى قد أورد في صحيحه حديث روح بن عبادة وعبد الوارث بن سعيد عن الحسين المعلم عن عبد الله بن بريدة قال: حدثنا عمران رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل وهو قاعد؟ فقال: (من صلى قائماً فهو أفضل) الحديث. رواه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه من رواية إبراهيم بن طهمان عن الحسين المعلم بلفظ (صل قائماً). فالإسناد واحد, والقصة واحدة, والسبب واحد, وقد ساق البخاري رحمه الله تعالى هذين الحديثين في صحيحه, فكأنه يقول أن هذا وذاك صحيح.

وذهب جماعة إلى الترجيح, وأن رواية إبراهيم بن طهمان شاذة, لأنه قد تفرد بهذا الخبر عن الحسين المعلم.

قوله "ومن أمثلة اختلاف الحافِظَين: أن يسمي أحدهما في الإسناد ثقة, ويبدله الآخر بثقة آخر, أو يقول أحدهما: عن رجل, ويقول الآخر: عن فلان, فيسمي ذلك المبهم, فهذا لا يضر في الصحة":

وهذا ليس على إطلاقه, فهذا باب يعتبر بالقرائن, ولا يُعطَى هذا الباب حكماً كلياً, فقد يُرَجَّحُ أحد الحافِظَين على الآخر, ونرجح أحد الإسنادين, وقد يكون أحد الحافِظَين قد غلط, وحينئذ قد نرجح رواية المبهَم على رواية المفصَح عن اسمه, وقد نرجح الآخر باعتبار القرائن والدلالات والأمور الأخرى, وقد نرجح كلا الإسنادين باعتبار أن هذا ثقة وذاك ثقة, ولا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر مع كثرة ووفرة المرجحات. وعلى كلٍّ فهذا باب يُبنَى على التتبع, والاستقراء, والسبر, والمقارنة.

قوله "فأما إذا اختلف جماعة فيه, وأتوا به على أقوالٍ عدة, فهذا يوهن الحديث, ويدل على أن راويه لم يتقنه":

وهذا الباب في نفس الوقت ليس على إطلاقه, فيمكن أن يُمَيَّز بين هذا الاختلاف, ويمكن أن يكون هذا الاختلاف مؤثراً على الحديث, فإن الاختلاف نوعان: اختلاف مؤثر, واختلاف غير مؤثر.

وهذا الباب وهذا العلم يبنى على التتبع, والاستقراء, والسبر. ولعل هذا هو السر في قول ابن مهدي: معرفة الحديث إلهام. وفي قوله: إنكارنا الحديث عند الجهال إهانة. وغير ذلك من المنقول عن هؤلاء الأئمة في أبواب العلل.

 

 

 

 

قوله "نعم لو حدَّث به على ثلاثة أوجه ترجع إلى وجهٍ واحد, فهذا ليس بمعتل, كأن يقول مالك: عن الزهري عن ابن المسيَّب عن أبي هريرة. ويقول عُقَيل: عن الزهري عن أبي سلمة. ويرويه ابن عيينة عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة معاً":

هذا الباب يُحتَمل من الحافظ المكثر كالزهري, ومالك, وسفيان, فإن الواحد من هؤلاء إذا روى حديثاً بأكثر من إسناد, فإنه يُحمَل على سعة روايته, وكثرة محفوظاته. أما إذا كان هذا ممن لم يبلغ في الحفظ, والضبط, وكثرة الأحاديث, هؤلاء الأئمة وأمثالهم, فإنه قد يُعَلُّ ويُحمَل على الاضطراب. ويتأكد هذا في الموصوف بسوء الحفظ ونحو ذلك.

ومن هذا أن الأئمة لا يقبلون من غير الحافظ المتقن الجمعَ بين الرواة في الأسانيد. قال الإمام أبو يعلى الخليلي رحمه الله تعالى: ذاكرت يوماً بعض الحفاظ, فقلت: البخاري لم يُخَرِّج حماد بن سلمة في الصحيح, وهو ثقة زاهد, فقال: لأنه جمع بين جماعة من أصحاب أنس, فيقول: حدثنا قتادة, وثابت, وعبد العزيز بن صهيب, وربما يخالف في بعض ذلك, فقلت له: أليس ابن وهب اتفقوا عليه وهو يجمع بين الأسانيد, فيقول: حدثنا مالك, وعمرو بن الحارث, والليث بن سعد, والأوزاعي, ويجمع بين جماعةٍ غيرهم, فقال: ابن وهب أتقن لما يرويه, وأحفظ له.

فهذه الحكاية تفيد أن الذين يحدثون بالحديث الواحد بأكثر من إسناد, أو يجمعون بين الأسانيد, لا يُقبَلون مطلقاً, فهذا يُحتَمل من الحافظ المتيقظ المكثر, ولا يحتمل من الضعيف, أو سيء الحفظ, أو الصدوق الذي ما عُلِمَ كثرة محفوظاته.

 

 

20- المُدْرَج :

هي ألفاظ تقعُ من بعض الرواة، متصلةً بالمَتْن، لا يبِينُ للسامع إلا أنها من صُلْبِ الحديث، ويَدلُّ دليلٌ على أنها من لفظِ راوٍ، بأن يأتيَ الحديثُ من بعضِ الطرق بعبارةٍ تَفْصِلُ هذا من هذا.

وهذا طريقٌ ظني، فإنْ ضَعُفَ توقَّفْنا أو رجَّحْنا أنها من المتن، ويَبْعُدُ الإدراجُ في وسط المتن، كما لو قال: (( من مَسَّ أُنْثَيْيِه وذكَرَهُ فلْيتوضأ )).

وقد صنَّف فيه الخطيب تصنيفاً، وكثيرٌ منه غيرُ مُسلَّمٍ له إدراجُه.

الشرح

قال المؤلف رحمه الله تعالى "المدرج":

المدرج نوعان: إدراج في المتن, وإدراج في الإسناد.

فالأول ينقسم إلى ثلاثة أنواع:

النوع الأول: أن تكون الزيادة في آخر الحديث. فمن ذلك ما جاء في الصحيحين من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن الشغار, والشغار أن يزوجه الرجل ابنته, على أن يزوجه ابنته, وليس بينهما صداق).

وقد جاء هذا الخبر من وجه آخر يفيد أن تفسير الشغار مدرج, فقد رواه البخاري ومسلم من طريق عبيد الله بن عمر العُمَري عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن الشغار). قال عبيد الله قلت لنافع: ما الشغار؟ فذكر تفسير ذلك.

فالأول فيه إدراج, وهذا الإدراج من نافع, وقد عُلِمَ هذا الإدراج بمجيئه من روايةٍ أخرى, وهذا إدراج في آخر الحديث.

النوع الثاني: أن يكون الإدراج في وسط الحديث, وهذا قليل جداً.

النوع الثالث: أن يكون في أول الحديث.

والأكثر من أنواع الإدراج هو الإدراج في آخر الحديث.

قال المؤلف رحمه الله تعالى عن الإدراج "هي ألفاظ تقع  من بعض الرواة, متصلة بالمتن, لا يَبِينُ للسامع إلاَّ أنها من صلب الحديث":

وهذا الأصل. الأصل أن ما كان من صلب الحديث أن يكون من الحديث. ولا يعل بالإدراج. والتعليل بالإدراج علة عارضة, وإذا لم يتميز, فالأصل عدم الإدراج.

ولهذا قال المؤلف "ويدل دليل على أنها من لفظ راوٍ, بأن يأتي الحديث من بعض الطرق بعبارة تفصل هذا من هذا" قال "وهذا طريق ظني":

قد يكون ظنياً, وقد يكون قطعياً. ودوافع الإدراج أن يُوْرِدَ الراوي توضيح مشكل, أو بيان مبهم. ومنه أن يقصد بيان حكم, وفيه غير ذلك.

وحينئذٍ يُعرَف الإدراج بأمور كثيرة, منها أن يستحيل كون هذا اللفظ أو المعنى من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك حديث أبي هريرة في البخاري من طريق الزهري عن ابن المسيَّب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للعبد المملوك الصالح أجران, والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي, لأحببت أن أموت وأنا مملوك). فآخره يستحيل أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاء الخبر في صحيح مسلم بلفظ (والذي نفس أبي هريرة بيده), لأن أم النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن موجودة, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتمنى أن يكون عبداً مملوكاً, فله مثل أجر العامل من أمته.

الأمر الثاني مما يُعرَف به الإدراج: أن يصرح راوي الحديث الصحابي أو من دونه بأن هذه الجملة ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله "ويبعد الإدراج في وسط المتن, كما لو قال: (من مس أنثييه وذكره فليتوضأ)":

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مس ذكره فليتوضأ). رواه أهل السنن عن بسرة بنت صفوان عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذهب جماعة إلى تضعيفه, والأكثرون على تصحيحه, ولعله الأقرب.

وقد جاء هذا الخبر عند الطبراني في معجمه الأوسط من رواية عبد الحميد بن جعفر عن هشام بن عروة عن أبيه عن بسرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

( من مس فرجه وأنثييه فليتوضأ وضوءه للصلاة). قال الطبراني رحمه الله تعالى: لم يقل فيه (وأنثييه) عن هشام إلاَّ عبد الحميد بن جعفر, وهذه الزيادة منكرة. والمؤلف رحمه الله تعالى مثل لذلك بالمدرج, وقد يقال بأن المدرج إنما جاء من رواية الثقة عن الثقة, وأقحم أحد الرواة تفسير معنى, أو توضيح بيان مشكل, وأما هذه الزيادة فلم يثبت أن الراوي ذكرها تفسيراً, وإنما أُقحِمَت في صلب الحديث, فهي رواية منكرة.

قوله "وقد صنف فيه الخطيب تصنيفاً, وكثير منه غير مسلَّمٍ له إدراجه": تصنيف الخطيب مطبوع في ثلاثة مجلدات, بعنوان (الفصل للوصل, المدرج في النقل).

قال عنه ابن الصلاح رحمه الله تعالى: شفى وكفى.

وقال عنه ابن كثير: هو كتاب حافل مفيد جداً. وقد لخصه الحافظ ابن حجر رحمه الله, وزاد عليه في كتابٍ سماه (تقريب المنهج بترتيب المدرج).

وبلا ريب أن كتاب الخطيب كتاب نافع وحافل, ولكن من طبيعة الذي يبتكر التأليف, ويؤلف في باب من الأبواب لم يسبقه أحد, أن يقع فيه من الأغلاط أكثر مما يقع في كتب غيره, ويبقى بعد ذلك له الفضل على من جاء بعده.

نهاية الدرس التاسع – يوجد أسئلة

21- ألفاظُ الأداء :

فـ ( حدَّثَنا ) و ( سَمِعتُ ) لِمَا سُمِع من لفظ الشيخ. واصطُلِح على أنَّ (حدَّثَني ) لما سَمِعتَ منه وحدَك، و (حدَّثَنا ) لما سَمِعتَه مع غيرك. وبعضُهم سَوَّغ ( حدَّثَنا ) فيما قرأه هو على الشيخ.

وأما ( أخبَرَنا ) فصادِقةٌ على ما سَمِع من لفظ الشيخ، أو قرأه هو، أو قرأه آخَرُ على الشيخِ وهو يَسمع. فلفظُ ( الإخبار ) أعمُّ من ( التحديث ).      و ( أخبرني ) للمنفرِد. وسَوَّى المحققون كمالكٍ والبخاريِّ بين ( حدَّثنا )            و (أخبِرنا ) و ( سَمِعتُ )، والأمرُ في ذلك واسع.

فأمَّا ( أنبأنا ) و ( أنا ) فكذلك، لكنها غلَبتْ في عُرف المتأخرين على الإجازة. وقولُه تعالى: ) قالَتْ من أَنبأَك هذا قال: نَبَّأنيَ العليمُ الخبير (. دَالٌّ على التَّساوِي. فالحديثُ والخبرُ والنَّبأُ مُترادِفات.

وأما المغاربة فيُطلقون: ( أخبرَنا ) على ما هو إجازة، حتى إنَّ بعضهم يُطلِقُ في الإجازة: ( حدَّثَنا )!وهذا تدليس. ومن الناس من عَدَّ          ( قال لنا ) إِجازَةً ومُناوَلةً.

ومن التدليس أن يقولَ المحدَّثُ عن الشيخ الذي سَمِعَه، في أماكنَ لم يَسمَعْها: قُرِئ على فلان: أخبَرك فلان. فربما فَعَل ذلك الدار قطنيُّ يقول: قُرِئَ على أبي القاسم البغوي: أخبرك فلان.  وقال أبو نُعَيم: قُرِئ على عبد الله بن جعفر بن فارس:حدثنا هارون بن سليمان. ومن ذلك ( أخبرنا فلانٌ من كتابِه )، ورأيت ابنَ مُسَيَّب يفعله. وهذا لا ينبغي فإنه تدليس، والصوابُ قولُك: في كتابه.

ومن التدليس أن يكون قد حَضَر طِفْلاً على شيخٍ وهو ابن سنتينِ أو ثلاث، فيقول : أنبأنا فلان، ولم يقل: وأنا حاضر. فهذا الحضورُ العَرِيُّ عن إذنِ المُسْمِع لا يُفيد اتصالاً، بل هو دون الإجازة، فإن الإجازة نوعُ اتصال عند أئمة.

وحضورُ ابنِ عامٍ أو عامَيْنِ إذا لم يَقترن بإجازةٍ كلا شيء، إلا أن يكون حضورُه على شيخٍ حافظِ أو محدِّثٍ وهو يَفْهَمُ ما يُحدِّثُه، فيكون إقرارُه بكتابةِ اسمِ الطفل بمنزلةِ الإِذن منه له في الرواية.

ومن صُوَر الأداء: حدَّثَنا حَجَّاجَ بن محمد، قال: قال ابن جُرَيج. فصيغةُ ( قال ) لا تدلُّ على اتصال.

وقد اغتُفِرَتْ في الصحابة، كقول الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.  فحُكمُها الاتصالُ إذا كان ممن تُيُقِّنَ سَمَاعُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان لم يكن له إلا مُجرَّدُ رُؤْية، فقولُه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم محمولٌ على الإرسال، كمحمود بن الرَّبِيع، وأبي أُمَامة بن سَهْل، وأبي الطُّفَيل، ومروان.

وكذلك ( قال ) من التابعي المعروفِ بلقاء ذلك الصحابي، كقول   عُروة: قالت عائشة. وكقولِ ابن سيرين: قال أبو هريرة، فحُكمُه الاتصال.

وأرفَعُ من لفظةِ ( قال ) لفظةُ ( عن ). وأرفَعُ من ( عن ) ( أخبرنا )             و ( ذَكَر لنا) و ( أنبأنا ). وأرفعُ من ذلك: ( حدَّثَنا ) و ( سَمِعتُ ).

وأما في اصطلاح المتأخرين فـ( أنبأنا ) و ( عن ) و ( كَتبَ إلينا ) واحِدٌ.

الشرح

قال الذهبي رحمه الله تعالى "ألفاظ الأداء":

هذه الألفاظ كانت من الأهمية بمكان في عصر التحمل, وعصر الرواية, وعصر التدوين. وكان الأئمة يعنون في هذا الباب عناية كبيرة, ويميزون بين الألفاظ, ويجعلون لكثير من الألفاظ أحكاماً خاصة تتميز عن غيرها. وهي في العصور المتأخرة أقل أهمية, فإن عصر الرواية بالإسناد قد انتهى أمره, ولم يبقَ إلاَّ الحكاية, ولأن الأحاديث قد دُوِّنَت وكُتِبَت.

وتظهر الأهمية في هذا الباب للذين يشتغلون بتصحيح الأخبار وتضعيفها, فهم يبنون الأحكام على معرفة ألفاظ الأداء. وأما عامَّة الناس ففائدة ذلك قليلة بالنسبة لهم.

قوله "فـ (حدثنا) و(سمعتُ) لما سُمِعَ من لفظ الشيخ":

سواء سمع هذا من كتاب الشيخ, أو من حفظه. وهذا يعتبر عند المحدثين أرفع أنواع الأداء. وصيغة (سمعتُ) أصرح من صيغة (حدثنا) أو (حدثني) لأنها لا تحتمل الواسطة.

وقد قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: لا خلاف أنه يجوز في هذا أن يقول السامع منه: حدثنا, وأخبرنا, وأنبأنا, وسمعتُ فلاناً يقول, وقال لنا فلان, وذكر لنا فلان. وقد نازعه بعض العلماء في قوله: لا خلاف.

قوله "واصطُلِح على أن (حدثني) لما سمعته منه وحدك, و(حدثنا) لما سمعته مع غيرك. وبعضهم سوَّغ (حدثنا) فيما قرأ هو على الشيخ":

وقد تقدم أنه يجوز قول: حدثنا, فيما سمع من الشيخ. وإذا سمع وحده فإنه يقول: حدثني, وإن جمع فلا حرج, فقد يكون الجمع هنا للتعظيم.

ومذهب البخاري, وطائفة من المحدثين, أن السماع من لفظ الشيخ, والقراءة عليه, في الصحة والقوة سواء.

وروى البخاري في صحيحه عن سفيان قال: إذا قُرِئَ على المحدث فلا بأس أن تقول: حدثني.

وقال مالك وسفيان: القراءة على العالم وقراءته سواء.

 

قوله "وأما (أخبرنا) فصادقة على ما سَمِعَ من لفظ الشيخ, أو قرأه هو, أو قرأه آخر على الشيخ وهو يسمع":

وإذا قال: حدثنا, أو أنبأنا, فلا حرج في ذلك, فإن هذه الألفاظ بمعنىً واحد في قول طائفة من أهل العلم. وقد قال أبو عيسى رحمه الله: كنا عند أبي مصعب المديني فقُرِئَ عليه بعض حديثه, فلما فرغ منه, قلت: كيف نقول؟ قال: قل حدثنا أبو مصعب. فهذا فيما قرأه على الشيخ, أو فيما قُرِئَ على الشيخ. فإذا قال: حدثنا, أو أخبرنا, فلا حرج في ذلك.

قوله "فلفظ الإخبار أعم من التحديث":

وهذا قول جماعة من المحدثين. وقال آخرون: هما بمعنى واحد, والتفريق بينهما فيه تكلف.

قوله "و(أخبرني) للمنفرد":

وإذا قال: أخبرنا, لما سمع وحده فلا حرج, كما في قوله: حدثني, فيما سمع وحده, فلا حرج أن يقول: حدثنا.

قوله "وسَوَّى المحقِّقون كمالك والبخاري بين (حدثنا) و(أخبرنا) و(سمعتُ) والأمر في ذلك واسع":

قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب قول المحدث (حدثنا) أو(أخبرنا) و(أنبأنا) وقال لنا الحميدي: كان عند ابن عيينة (حدثنا) و(أخبرنا) و(أنبأنا) و(سمعت) واحداً.