الاثنين، 14 مايو 2018

ج5// 1 زاد المعاد في هدي خير العباد المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى : 751هـ)



ج5// 1 زاد المعاد في هدي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى : 751هـ)
وأما الأمر الشرعىُّ: فإيجابُ الضمان على الطبيب الجاهل، فإذا تعاطى عِلمَ الطِّب وعمله، ولم يتقدم له به معرفة، فقد هَجم بجهله على إتلافِ الأنفس، وأقْدَم بالتهوُّر على ما لم يعلمه، فيكون قد غَرَّرَ بالعليل، فيلزمه الضمانُ لذلك، وهذا إجماع من أهل العلم.
قال الخطَّابىُّ: لا أعلم خلافاً فى أن المعالِج إذا تعدَّى، فتَلِفَ المريضُ كان ضامناً، والمتعاطى علماً أو عملاً لا يعرفه متعد، فإذا تولَّد من فعله التلف ضمن الدية، وسقط عنه القَودُ، لأنه لا يستبِدُّ بذلك بدون إذن المريض وجنايةُ المُتطبب فى قول عامة الفقهاء على عاقِلَتِه.
قلت: الأقسام خمسة
أحدها: طبيب حاذق أعطى الصنعةَ حقَّها ولم تجن يده، فتولَّد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع، ومن جهة مَن يطبُّه تلفُ العضو أو النفس، أو ذهابُ صفةٍ، فهذا لا ضمان عليه اتفاقاً، فإنها سِراية مأذونٍ فيه، وهذا كما إذا خَتَنَ الصبىَّ فى وقت، وسِنٍّه قابل للختان، وأعطى الصنعةَ حقَّها، فَتَلِفَ العضو أو الصبىُّ، لم يضمن، وكذلك إذا بَطَّ مِن عاقل أو غيرِه ما ينبغى بطُّه فى وقته على الوجه الذى ينبغى فَتَلِفَ به، لم يضمن، وهكذا سِراية كُلِّ مأذون فيه لم يتعدَّ الفاعل فى سببها، كسِراية الحدِّ بالاتفاق. وسِرايةِ القِصاص عند الجمهور خلافاً لأبى حنيفة فى إيجابه الضمان بها، وسِراية التعزير، وضربِ الرجل امرأته، والمُعلِّم الصبىَّ، والمستأجر الدابة، خلافاً لأبى حنيفة والشافعى فى إيجابهما الضمانَ فى ذلك، واستثنى الشافعى ضَرْبَ الدابة. وقاعدةُ الباب إجماعاً ونزاعاً: أنَّ سِراية الجناية مضمونةٌ بالاتفاق، وسِراية الواجب مُهْدَرةٌ بالاتفاق، وما بينهما ففيه النزاع. فأبو حنيفة أوجب ضمانَه مطلقاً، وأحمد ومالكٌ أهدرا ضمانه، وفرَّقَ الشافعىُّ بين
المقدَّر، فأهدر ضمانه، وبين غيرِ المُقَدَّر فأوجبَ ضمانه. فأبو حنيفة نظر إلى أن الإذن فى الفعل إنما وقع مشروطاً بالسلامة، وأحمد ومالك نظرا إلى أنَّ الإذن أسقط الضمانَ، والشافعىُّ نظر إلى أنَّ المُقَدَّر لا يمكن النقصان منه، فهو بمنزلة النص، وأما غيرُ المُقَدَّر كالتَّعزيرات، والتأديبات فاجتهاديةٌ، فإذا تَلِفَ بها، ضمن، لأنه فى مَظِنَّة العُدوان.
فصل
القسمُ الثانى: متطبِّبٌ جاهِلٍ باشرت يدُه مَن يَطُبُّه، فتَلِفَ به، فهذا إن علم المجنىُّ عليه أنه جاهل لا عِلْمَ له، وأَذِنَ له فى طِبه لم يضمن، ولا تُخالف هذه الصورة ظاهرَ الحديث، فإنَّ السِّياق وقوة الكلام يدلُّ على أنه غرَّ العليل، وأوهمه أنه طبيب، وليس كذلك، وإن ظنَّ المريضُ أنه طبيب، وأذن له فى طِبه لأجل معرفته، ضَمِنَ الطبيبُ ما جنت يده، وكذلك إن وصف له دواء يستعملُه، والعليلُ يظن أنه وصفه لمعرفته وحِذْقه فتَلِفَ به، ضمنه، والحديثُ ظاهر فيه أو صريح.
فصل
القسم الثالث: طبيبٌ حاذِق، أُذن له، وأعطى الصَّنعة حقها، لكنه أخطأت يدُه، وتعدَّت إلى عضو صحيح فأتلفه، مِثل: أن سبقت يدُ الخاتن إلى الكَمَرَةِ، فهذا يضمَنُ، لأنها جِنَايةُ خطإٍ، ثم إن كانت الثُّلُث فما زاد، فهو على عاقِلَتِه، فإن لم تكن عاقلةٌ، فهل تكون الدِّيَة فى ماله، أو فى بيت المال ؟ على قوليْن، هما روايتان عن أحمد. وقيل: إن كان الطبيب ذِمِّيا،
ففى ماله؛ وإن كان مسلماً، ففيه الروايتان، فإن لم يكن بيتُ المال، أو تعذَّر تحميلُه، فهل تسقط الدِّيَة، أو تجب فى مال الجانى ؟ فيه وجهان أشهرهما: سقوطها.
فصل
القسم الرابع: الطبيبُ الحاذِق الماهر بصناعته، اجتهد فوصف للمريض دواءً، فأخطأ فى اجتهاده، فقتله، فهذا يُخرَّج على روايتين؛ إحداهما: أنَّ دِيةَ المريض فى بيت المال. والثانية: أنها على عاقلة الطبيب، وقد نص عليهما الإمامُ أحمد فى خطإ الإمام والحاكم.
فصل
القسم الخامس: طبيبٌ حاذق، أعطى الصنعةَ حقها، فقطع سِلْعَةً من رجل أو صبى، أو مجنون بغير إذنه، أو إذن وَليِّه، أو خَتَنَ صبياً بغير إذن وَليِّه فَتَلِفَ، فقال أصحابُنا: يضمن، لأنه تولَّد من فعلٍ غير مأذون فيه، وإن أذن له البالغ، أو وَلِىُّ الصبى والمجنون، لم يضمن، ويحتمِلُ أنْ لا يضمَن مطلقاً لأنه محسنٌ، وما على المُحسنين من سبيلٍ. وأيضاً فإنه إن كان متعدِّياً، فلا أثر لإذن الولىّ فى إسقاطِ الضمان، وإن لم يكن متعدِّياً، فلا وجه لضمانه.
فإن قلتَ: هو متعدٍّ عند عدم الإذن، غير متعدٍّ عند الإذن.
قلتُ: العُدوان وعدمه إنما يرجع إلى فعله هو، فلا أثر للإذن وعدمه فيه، وهذا موضع نظر.
فصل
والطبيبُ فى هذا الحديث يتناول مَن يطب بوصفه وقوله، وهو الذى يُخَصُّ باسم الطَّبائعى، وبمرْوَدِهِ وهو الكحَّال، وبِمبضَعه ومراهِمه وهو الجرائحىُّ، وبمُوساه وهو الخاتِن، وبريشته وهو الفاصد، وبمَحاجمه ومِشْرَطِه وهو الحجَّام، وبخَلْعِه ووَصْله ورِباطه وهو المجبِّر، وبمكواته وناره وهو الكوَّاء، وبقِربته وهو الحاقن.
وسواء أكان طبه لحيوان بهيمٍ، أو إنسان، فاسمُ الطبيب يُطلق لغةً على هؤلاء كلهم، كما تقدَّم، وتخصيصُ الناس له ببعض أنواع الأطباء عُرْفٌ حادث، كتخصيص لفظ الدابة بما يخصُّها به كُلُّ قوم.
فصل
والطبيب الحاذق: هو الذى يراعى فى علاجه عشرين أمراً:
أحدها: النظر فى نوع المرض من أى الأمراض هو ؟
الثانى: النظر فى سببه من أى شىء حدث، والعِلَّةُ الفاعلةُ التى كانت سببَ حدوثه ما هى ؟
الثالث: قوة المريض، وهل هى مقاومة للمرض، أو أضعفُ منه ؟ فإن كانت مقاومةً للمرض، مستظهرة عليه، تركها والمرض، ولم يُحَرِّكْ بالدواء ساكناً.
الرابع: مزاج البدن الطبيعى ما هو ؟
الخامس: المزاجُ الحادث على غير المجرى الطبيعى.
السادس: سِنُّ المريض.
السابع: عادته.
الثامن: الوقت الحاضر من فصول السنة وما يليق به.
التاسع: بلدُ المريض وتُربتُه.
العاشر: حال الهواء فى وقت المرض.
الحادى عشر: النظر فى الدواء المضاد لتلك العِلَّة.
الثانى عشر: النظر فى قوة الدواء ودرجته، والموازنة بينها وبين قوة المريض.
الثالث عشر: ألا يكون كلُّ قصده إزالة تلك العِلَّة فقط، بل إزالتُها على وجهٍ يأمن معه حدوث أصعبَ منها، فمتى كان إزالتها لا يأمن معها حدوث عِلَّةٍ أُخرى أصعبَ منها، أبقاها على حالها، وتلطيفها هو الواجب، وهذا كمرض أفواه العروق، فإنه متى عُولج بقطعه وحبسه خِيف حدوث ما هو أصعبُ منه.
الرابع عشر: أن يُعالِج بالأسهل فالأسهل، فلا يَنتقِلُ من العلاج بالغذاء إلى الدواء إلا عند تعذُّرِه، ولا ينتقِلُ إلى الدواء المركَّب إلا عند تعذرِ الدواء البسيط، فمن حذق الطبيب علاجُه بالأغذية بدل الأدوية، وبالأدوية البسيطة بدل المركَّبة.
الخامس عشر: أن ينظر فى العِلَّة، هل هى مما يمكن علاجُها أو لا ؟ فإن لم يُمكن علاجُها، حفظ صِناعته وحُرمتَه، ولا يحمِلُه الطمع على علاج لا يفيد شيئاً. وإن أمكن علاجها، نظر هل يمكن زوالُها أم لا ؟ فإن علم أنه لا يمكن زوالُها، نظر هل يمكن تخفيفُها وتقليلُها أم لا ؟ فإن لم يمكن
تقليلُها، ورأى أنَّ غاية الإمكان إيقافُها وقطعُ زيادتها، قصد بالعلاج ذلك، وأعان القوة، وأضعف المادة
السادس عشر: ألا يتعرَّض للخلط قبل نُضجه باستفراغ، بل يقصد إنضاجه، فإذا تمَّ نضجُه، بادر إلى استفراغه.
السابع عشر: أن يكون له خِبْرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها، وذلك أصل عظيم فى علاج الأبدان، فإنَّ انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمرٌ مشهود، والطبيب إذا كان عارفاً بأمراض القلب والروح وعلاجهما، كان هو الطبيبَ الكاملَ، والذى لا خِبْرة له بذلك وإن كان حاذقاً فى علاج الطبيعة وأحوالِ البدن نصفُ طبيب. وكلُّ طبيب لا يداوى العليل، بتفقُّد قلبه وصلاحه، وتقويةِ روحه وقُواه بالصدقة، وفعل الخير، والإحسان، والإقبال على الله والدار الآخرة، فليس بطبيب، بل متطبِّبٌ قاصر. ومن أعظم علاجات المرض فعلُ الخير والإحسان والذِّكر والدعاء، والتضرع والابتهال إلى الله، والتوبة، ولهذه الأُمور تأثيرٌ فى دفع العلل، وحصول الشفاء أعظمُ من الأدوية الطبيعية، ولكن بحسب استعداد النفس وقبولِها وعقيدتِها فى ذلك ونفعه.
الثامن عشر: التلطفُ بالمريض، والرِّفق به، كالتلطُّف بالصبى.
التاسع عشر: أن يستعمل أنواع العِلاجات الطبيعية والإلهية، والعلاج بالتخييل، فإنَّ لِحذَّاق الأطباء فى التخييل أُموراً عجيبة لا يصل إليها الدواء، فالطبيب الحاذق يستعين على المرض بكل مُعين.
العشرون: وهو مِلاك أمر الطبيب أن يجعل علاجَه وتدبيرَه دائراً على سِتَّة أركان: حفظ الصحة الموجودة، وردِّ الصحة المفقودة بحسب الإمكان، وإزالة العِلَّة أو تقليلها بحسب الإمكان، واحتمالُ أدنى
المفسدتَيْن لإزالة أعظمهما، وتفويتُ أدنى المصلحتَيْن لتحصيل أعظمهما، فعلى هذه الأُصول السِّتَّة مدارُ العلاج، وكلُّ طبيب لا تكون هذه أخِيَّته التى يرجع إليها، فليس بطبيب.. والله أعلم.
فصل
ولما كان للمرض أربعةُ أحوال: ابتداءٌ، وصُعودٌ، وانتهاءٌ، وانحطاطٌ؛ تعيَّن على الطبيب مراعاةُ كل حال من أحوال المرض بما يُناسبها ويليق بها، ويستعمِلُ فى كل حال ما يجبُ استعمالُه فيها. فإذا رأى فى ابتداء المرض أنَّ الطبيعة محتاجة إلى ما يُحَرِّك الفضلات ويستفرِغُها لنضجها، بادر إليه، فإن فاته تحريك الطبيعة فى ابتداء المرض لعائق منع من ذلك، أو لضعف القوة وعدم احتمالها للاستفراغ، أو لبرودة الفصل، أو لتفريط وقع، فينبغى أن يَحْذَرَ كل الحَذرِ أن يفعل ذلك فى صعود المرض، لأنه إن فعله، تحيَّرت الطبيعة لاشتغالها بالدواء، وتخلَّت عن تدبير المرض ومقاومته بالكلية، ومثاله: أن يجىءَ إلى فارس مشغول بمواقعة عدوه، فيشغله عنه بأمر آخر، ولكن الواجب فى هذه الحال أن يُعين الطبيعة على حفظ القوة ما أمكنه.
فإذا انتهى المرض ووقف وسكن، أخذ فى استفراغه، واستئصال أسبابه، فإذا أخذ فى الانحطاط، كان أولى بذلك. ومثالُُ هذا مثال العدو إذا انتهت قُوَّته، وفرغ سِلاحُه، كان أخذُه سهلاً، فإذا ولَّى وأخذ فى الهرب، كان أسهلَ أخذاً، وحِدَّته وشَوْكتُه إنما هى فى ابتدائه،
وحال استفراغه، وسعة قُوَّته، فهكذا الداء والدواء سواء.
فصل
وَمِن حِذق الطبيب أنه حيث أمكن التدبير بالأسهل، فلا يَعْدِلُ إلى الأصعب، ويتدَّرج من الأضعف إلى الأقوى إلا أن يخاف فَوتَ القُوَّة حينئذ، فَيجبُ أن يبتدىء بالأقوى، ولا يُقيم فى المعالجة على حال واحدة فتألفُها الطبيعة، ويَقِلُّ انفعالُها عنه، ولا تَجْسُر على الأدوية القوية فى الفصول القوية، وقد تقدَّم أنه إذا أمكنه العِلاجُ بالغذاء، فلا يُعالِج بالدواء، وإذا أشكل عليه المرضُ أحارٌ هو أم بارد ؟ فلا يقدم حتى يتبيَّن له، ولا يُجرِّبه بما يخاف عاقبته، ولا بأس بتجرِبته بما لا يضرُّ أثرُه.
وإذا اجتمعت أمراض، بدأ بما تخصه واحدة من ثلاث خصال:
إحداها: أن يكون بُرء الآخر موقوفاً على بُرئه كالورم والقُرحة، فإنه يبدأ بالورم.
الثانية: أن يكون أحدهُما سبباً للآخر، كالسَّدة والحُمَّى العَفِنة، فإنه يبدأ بإزالة السبب.
الثالثة: أن يكون أحدهما أهمَ من الآخر، كالحاد والمزمن، فيبدأ بالحاد. ومع هذا فلا يغفُلُ عن الآخر. وإذا اجتمع المرض والعَرَض، بدأ بالمرض، إلا أن يكون العَرَضُ أقوى كالقُولنج، فيُسكن الوجع أولاً، ثم يُعالج السَّدة. وإذا أمكنه أن يعتاضَ عن المعالجة بالاستفراغ بالجوع أو الصوم أو النوم، لم يستفرغه، وكُلّ صحة أراد حفظها، حفظها بالمثل أو الشبه، وإن أراد نقلها إلى ما هو أفضلُ منها، نقلها بالضد.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى التحرز من الأدواء المعدية بطبعها، وإرشاده الأصحاءَ إلى مجانبة أهلها
ثبت فى "صحيح مسلم" من حديث جابر بن عبد الله، أنه كان فى وَفْد ثَقِيف رجلٌ مجذومٌ، فأرسل إليه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ارْجِعْ فَقَدْ بايَعْنَاكَ".
وروى البخارى فى "صحيحه" تعليقاً مِن حديث أبى هريرة، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأسَدِ".
وفى "سنن ابن ماجه" من حديث ابن عباس، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تُدِيمُوا النَّظَرَ إلى الْمَجْذُومِين ".
وفى "الصحيحين" من حديث أبى هُريرة، قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ".
ويُذكر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَلِّمْ الْمَجْذُومَ، وَبَيْنَك وَبَيْنَهُ قِيدُ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ ".
الجُذَام: عِلَّة رديئة تحدثُ من انتشار المِرَّةِ السَّوداء فى البدن كُلِّه، فيفسُد مِزاجُ الأعضاء وهيئتُها وشكلُها، ورُبما فسد فى آخره اتصالُها حتى تتأكَّلَ الأعضاء وتسقط، ويُسمى داءَ الأسد.
وفى هذه التسمية ثلاثةُ أقوال للأطباء؛ أحدها: أنها لِكثرة ما تعترى الأسد. والثانى: لأنَّ هذه العِلَّة تُجهِّم وجهَ صاحبها وتجعلُه فى سُحنةَ الأسد. والثالث: أنه يفترِسُ مَن يقرُبه، أو يدنو منه بدائه افتراسَ الأسد.
وهذه العِلَّة عند الأطباء من العلل المُعدية المتوارثة، ومقارِبُ المجذوم، وصاحبِ السِّل يَسْقَمُ برائحته، فالنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكمال شفقته على الأُمة، ونُصحه لهم نهاهم عن الأسباب التى تُعرِّضهم لوصول العيب والفساد إلى أجسامهم وقلوبهم، ولا ريب أنه قد يكون فى البدن تهيُّؤ واستعداد كامن لقبول هذا الداء، وقد تكون الطبيعةُ سريعة الانفعال قابلةً للاكتساب من أبدان مَن تُجاوِرُه وتُخالطه، فإنها نقَّالة، وقد يكون خوفُها من ذلك ووهمهُا مِن أكبر أسباب إصابة تلك العِلَّة لها، فإنَّ الوهم فعَّال مستَوْلٍ على القُوَى والطبائع، وقد تَصِلُ رائحة العليل إلى الصحيح فتُسقمه، وهذا
معايَن فى بعض الأمراض، والرائحةُ أحدُ أسباب العدوى، ومع هذا كله فلا بد من وجود استعدادِ البدن وقبوله لذلك الداء، وقد تزوَّج النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأةً، فلما أراد الدخولَ بها، وجَد بكَشْحها بياضاً، فقال: "الْحَقِى بأهْلِكِ".
وقد ظنَّ طائفة مِن الناس أنَّ هذه الأحاديث معارَضةٌ بأحاديثَ أُخَر تُبطلها وتُناقضها، فمنها: ما رواه الترمذى، من حديث عبد الله بن عمر (ان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بيَدِ رجُلٍ مجذومٍ، فأدخلها معه فى القَصْعَةِ، وقال: "كُلْ باسم الله، ثِقَةً بالله، وتوكُّلاً عليه" ، ورواه ابن ماجه.
وبما ثبت فى "الصحيح"، عن أبى هُريرة، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا عَدوَى ولا طِّيَرَة".
ونحن نقول: لا تعارُض بحمد الله بين أحاديثه الصحيحة. فإذا وقع التعارضُ، فإما أن يكون أحدُ الحديثين ليس مِن كلامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد غَلِطَ فيه بعضُ الرواة مع كونه ثقةً ثَبتاً، فالثقةُ يَغْلَطُ، أو يكونُ أحدُ الحديثين ناسخاً للآخر إذا كان مما يَقْبَلُ النسخ، أو يكونُ التعارضُ فى فهم السامع، لا فى فى نفس كلامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بُدَّ مِن وجه من هذه الوجوه الثلاثة. وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان مِن كل وجه، ليس أحدُهما ناسخاً للآخر، فهذا لا يُوجد أصلاً، ومعاذَ اللهِ أن يُوجَدَ فى كلام الصادق المصدوق الذى لا يخرج من بين شفتيه إلا الحقُّ، والآفةُ مِن التقصير فى
معرفة المنقول، والتمييز بين صحيحه ومعلوله، أو من القُصور فى فهم مُراده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحمل كلامه على غير ما عناه به، أو منهما معاً. ومن ههنا وقع من الاختلاف والفساد ما وقع.. وبالله التوفيق.
قال ابن قتيبة فى كتاب "اختلاف الحديث" له حكايةً عن أعداء الحديث وأهله: قالوا: حديثان متناقضان رويتُم عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا عَدوَى ولا طِّيَرَة". وقيل له: إنَّ النُّقْبَةَ تقع بمِشْفَرِ البَعيرِ، فيجرَبُ لذلك الإبلُ،
قال: "فما أعدَى الأولَ" ؟، ثم رويتُم: " لا يُوردُ ذو عاهة على مُصِحٍّ" و"وفِرَّ من المجذومِ فِرارَك من الأسَدِ" ، وأتاه رجل مجذوم ليُبايَعه بَيْعة الإسلام، فأرسل إليه البَيْعةَ، وأمَره بالانصراف، ولم يأذن له، وقال: "الشُّؤمُ فى المرأة والدارِ والدَّابةِ".. قالوا: وهذا كُلُّه مختلِفٌ لا يُشبه بعضُه بعضاً.
قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه ليس فى هذا اختلافٌ، ولكل معنى منها وقتٌ وموضع، فإذا وُضِع موضعَه زال الاختلاف
والعدوى جنسان ؛ أحدهما: عدوى الجُذام، فإنَّ المجذوم تشتدُّ رائحتُه حتى يُسْقِمُ مَن أطال مجالسته ومحادثته، وكذلك المرأةُ تكونُ تحتَ المجذوم، فتُضاجِعُه فى شِعارَ واحد، فيُوصِل إليها الأذى، وربما جُذِمَتْ، وكذلك ولدُه يَنزِعُون فى الكِبر إليه، وكذلك مَن كان به سِلٌ ودِقٌ ونُقْبٌ. والأطباء تأمر ألا يُجالَس المسلول ولا المجذُوم، ولا يُريدون بذلك معنى العدوى، وإنما يُريدون به معنى تغيُّرِ الرائحة، وأنها قد تُسْقِمْ مَن أطال اشتمامَها، والأطباء أبعدُ الناس عن الإيمان بيُمن وشُؤم، وكذلك النُّقْبةُ تكون بالبعير وهو جَرَبٌ رَطبٌ فإذا خالط الإبلَ أو حاكَّها، وأوَى فى مَباركها، وصل إليها بالماء الذى يَسيل منه، وبالنَّطف نحو ما به، فهذا هو المعنى الذى قال فيه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُورَدُ ذو عاهة على مُصِح"، كَرِهَ أن يُخالط المَعْيُوه الصحيحَ، لئلا ينالَه مِن نَطَفه وحِكَّته نحو مما به.
قال: وأما الجنسُ الآخرُ من العدوى، فهو الطاعونُ ينزلُ ببلد، فيخرُج منه خوفَ العدوى، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا وقَعَ بِبَلَدٍ وأنْتُم به، فلا تَخْرُجُوا مِنْه، وإذا كان بِبَلَدٍ، فلا تَدْخُلُوه ". يريد بقوله: لا تَخْرُجُوا مِن البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أنَّ الفِرارَ مِن قَدَر الله يُنجيكم من الله، ويُريد بقوله:
"وإذا كان ببلد فلا تدخلوه "، أى: مُقامُكم فى الموضع الذى لا طاعون فيه أسْكنُ لقلوبكم، وأطيبُ لعيشكم، ومن ذلك المرأةُ تُعرف بالشؤم أو الدارُ، فينال الرجلَ مكروةٌ أو جائحةٌ، فيقول: أعدتْنى بشؤمها، فهذا هو العدوى الذى قال فيه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا عَدْوَى".
وقالت فِرْقة أُخرى: بل الأمرُ باجتنابِ المجذوم والفِرار منه على
الاستحباب، والاختيار، والإرشاد. وأما الأكل معه، ففَعلُه لبيانِ الجواز، وأنَّ هذا ليس بحرام.
وقالت فِرْقة أُخرى: بل الخطابُ بهذين الخطابين جزئى لا كلى. فكلُّ واحد خاطبه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يليق بحاله، فبعضُ الناس يكون قوىَّ الإيمان، قوىَّ التوكل تدفع قوةُ توكله قُوَّةَ العدوى، كما تدفع قوةُ الطبيعة قوةَ العِلَّة فتُبطلها، وبعضُ الناس لا يَقوى على ذلك، فخاطبه بالاحتياط والأخذ بالتحفظ، وكذلك هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعل الحالتين معاً، لتقتدى به الأُمة فيهما، فيأخذ مَن قَوى من أُمته بطريقة التوكل والقُوَّة والثقة بالله، ويأخذ مَن ضَعف منهم بطريقة التحفظ والاحتياط، وهما طريقان صحيحان. أحدهما: للمؤمن القوى، والآخر: للمؤمن الضعيف، فتكون لكل واحد من الطائفتين حُجَّةٌ وقُدوةٌ بحسب حالهم وما يناسبهم، وهذا كما أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوى، وأثنَى على تارِك الكىِّ، وقرن تركَه بالتوكل، وتَرَكَ الطِّيرة، ولهذا نظائرُ كثيرة، وهذه طريقة لطيفةٌ حسنة جداً مَن أعطاها حقَّها، ورُزِق فقْه نَفْسه فيها، أزالت عنه تعارضاً كثيراً يظنه بالسُّنَّةِ الصحيحة.
وذهبت فِرقة أُخرى إلى أنَّ الأمر بالفِرار منه، ومجانبتِه لأمر طبيعى، وهو انتقالُ الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة إلى الصحيح، وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة له، وأما أكلُه معه مقداراً يسيراً من الزمان لمصلحة راجحة، فلا بأس به، ولا تحصُل العدوى مِن مرَّةٍ واحدة ولحظة واحدة، فنَهى سداً للذريعة، وحِمايةً للصحة، وخالطه مخالطةً ما للحاجة والمصلحة، فلا تعارُضَ بين الأمرين.
وقالت طائفة أُخرى: يجوز أن يكونَ هذا المجذومُ الذى أكل معه به من الجُذام أمرٌ يسير لا يُعدى مثله، وليس الْجَذْمَى كُلُّهم سواءً، ولا
العدوى حاصلة من جميعهم، بل منهم مَن لا تضرُّ مخالطته، ولا تُعدى، وهو مَن أصابه من ذلك شىء يسير، ثم وقف واستمر على حاله، ولم يُعْدِ بقيةَ جسمه، فهو أن لا يعدِىَ غيره أولى وأحرى.
وقالت فِرقة أُخرى: إنَّ الجاهلية كانت تعتقد أنَّ الأمراض المعدية تُعدى بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه، فأبطل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتقادَهم ذلك، وأكل مع المجذوم ليُبَيِّنَ لهم أنَّ الله سبحانه هو الذى يُمرض ويَشفى، ونهى عن القُرب منه ليتبينَ لهم أنَّ هذا من الأسباب التى جعلها الله مُفضية إلى مسبباتها، ففى نهيه إثباتُ الأسباب، وفى فعله بيان أنها لا تستقِلُّ بشىء، بل الربُّ سبحانه إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثر شيئاً، وإن شاء أبقى عليها قُواها فأثَّرت.
وقالت فِرقة أُخرى: بل هذه الأحاديث فيها الناسخ والمنسوخ، فيُنظر فى تاريخها، فإن عُلِمَ المتأخر منها، حُكِمَ بأنه الناسخ، وإلا توقفنا فيها.
وقالت فِرقة أُخرى: بل بعضُها محفوظ، وبعضها غيرُ محفوظ، وتكلمت فى حديث: "لا عَدّوَى"، وقالت: قد كان أبو هريرة يرويه أوَّلاً، ثم شكَّ فيه فتركه، وراجعوه فيه، وقالوا: سمعناك تُحدِّث به، فأبى أن يُحدِّث به.
قال أبو سلمة: فلا أدرى، أنسىَ أبو هريرة، أم نَسخَ أحدُ الحديثين الآخَر ؟
وأما حديثُ جابر: أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بيدِ مجذوم، فأدخلها معه فى القصعة، فحديثٌ لا يثبت ولا يَصِحُّ، وغاية ما قال فيه الترمذى: إنه غريب، لم يُصَحِّحْه ولم يُحَسِّنه. وقد قال شعبة وغيرُه: اتقوا هذه الغرائبَ. قال الترمذى: ويُروى هذا من فعل عمر، وهو أثبت، فهذا شأنُ هذين
الحديثين اللَّذين عُورض بهما أحاديثُ النهى، أحدهما: رجع أبو هريرة عن التحديث به وأنكره، والثانى: لا يَصِحُّ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله أعلم، وقد أشبعنا الكلام فى هذه المسألة فى كتاب "المفتاح"، بأطولَ من هذا.. وبالله التوفيق.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى المنع من التداوى بالمحرَّمات
روى أبو داود فى "سننه" من حديث أبى الدرداء رضى الله عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاء، وَجَعَلَ لِكُلِّ داءٍ دواءً، فَتَدَاوَوْا، ولا تَدَاوَوْا بِالْمُحَرَّم".
وذكر البخارى فى "صحيحه" عن ابن مسعود: "إنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عليكم".
وفى "السنن" عن أبى هريرة، قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدَّوَاءِ الخَبِيثِ.
وفى "صحيح مسلم" عن طارق بن سُوَيد الجُعفىِّ، أنه سأل النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الخمر، فنهاه، أو كَرِهَ أن يصنَعَها، فقال: إنما أصنعُها للدواء، فقال: " إنَّه لَيْسَ بِدَوَاءٍ ولكنَّهُ دَاءٌ".
وفى "السنن" أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئل عن الخمر يُجْعَل فى الدَّواء، فقال: "إنَّهَا دَاءٌ ولَيسَتْ بِالدَّوَاءِ " رواه أبو داود، والترمذى.
وفى "صحيح مسلم" عن طارق بن سُويدٍ الحضرمى ؛ قال: قلت: يا رسول الله ؛ إنَّ بأرضنا أعناباً نَعتصِرُها فنشرب منها، قال: "لا". فراجعتُه، قلتُ: إنَّا نستشفى للمريض قال: "إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشِفَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ".
وفى "سنن النسائى" أنَّ طبيباً ذَكر ضِفْدَعاً فى دواءٍ عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنهاه عن قَتْلِها.
ويُذكر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "مَنْ تَدَاوَى بِالْخَمْرِ، فَلا شَفَاهُ اللهُ".
المعالجة بالمحرَّمات قبيحةٌ عقلاً وشرعاً، أمَّا الشرعُ فما ذكرْنا من هذه الأحاديثِ وغيرها. وأمَّا العقلُ، فهو أنَّ اللهَ سبحانه إنما حرَّمه لخُبثه، فإنه لم يُحَرِّم على هذه الأُمة طَيباً عقوبةً لها، كما حرَّمه على بنى إسرائيلَ بقوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}[النساء: 160]، وإنما حرَّم على هذه الأُمة ما حَرَّم لخبثه، وتحريمُه له حِمية لهم، وصيانة عن تناوله، فلا يُناسِبُ أن يُطلَبَ به الشِّفاءُ من الأسقام والعِلل، فإنه وإن أثَّر فى إزالتها، لكنه يُعْقِبُ سَقَماً أعظمَ منه فى القلب بقوة الخُبث الذى فيه، فيكون المُدَاوَى به قد سعى فى إزالة سُقْم البدن بسُقْم القلب.
وأيضاً فإنَّ تحريمه يقتضى تجنُّبه والبُعدَ عنه بكُلِّ طريق، وفى اتخاذه دواء حضٌ على الترغيب فيه وملابسته، وهذا ضِدُّ مقصود الشارع، وأيضاً فإنه داء كما نصَّ عليه صاحبُ الشريعة، فلا يجوز أن يُتخذ دواءً.
وأيضاً فإنه يُكْسِبُ الطبيعة والروح صفةَ الخبث، لأن الطبيعة تنفعِلُ عن كيفية الدواء انفعالاً بَيِّناً، فإذا كانت كيفيتُه خبيثةً، اكتسبت الطبيعةُ منه خُبثاً، فكيف إذا كان خبيثاً فى ذاته، ولهذا حرَّم الله سبحانه على عباده الأغذيةَ والأشربةَ والملابِسَ الخبيثة، لما تُكسب النفسَ من هيئة الخبث وصفته.
وأيضاً فإنَّ فى إباحة التداوى به، ولا سِيَّما إذا كانت النفوسُ تميل إليه ذريعةً إلى تناوله للشهوة واللَّذة، لا سِيَّما إذا عرفت النفوسُ أنه نافع لها مزيلٌ لأسقامِها جالبٌ لِشفائها، فهذا أحبُّ شىءٍ إليها، والشارعُ سدَّ الذريعة إلى تناوله
بكُلِّ ممكن، ولا ريبَ أنَّ بينَ سدِّ الذريعة إلى تناوله، وفَتْحِ الذريعة إلى تناوله تناقضاً وتعارضاً.
وأيضاً فإنَّ فى هذا الدواء المحرَّم من الأدواء ما يزيدُ على ما يُظَن فيه من الشِّفاء، ولنفرضْ الكلام فى أُمِّ الخبائث التى ما جعل الله لنا فيها شفاءً قَطُّ، فإنها شديدةُ المضرَّة بالدماغ الذى هو مركزُ العقل عند الأطباء، وكثير من الفقهاء والمتكلمين.
قال "أبقراط" فى أثناء كلامه فى الأمراض الحادة: ضرر الخمرة بالرأس شديد. لأنه يُسرع الارتفاع إليه. ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التى تعلو فى البدن، وهو لذلك يضر بالذهن.
وقال صاحب "الكامل": إنَّ خاصية الشَّراب الإضرارُ بالدماغ والعَصَب.
وأمَّا غيرُه من الأدوية المحرَّمة فنوعان:
أحدهما: تعافُه النفس ولا تنبعِثُ لمساعدته الطبيعةُ على دفع المرض به كالسموم، ولحوم الأفاعى وغيرها من المستقذرات، فيبقى كَلاً على الطبيعة مثقلاً لها، فيصير حينئذ داءً لا دواء.
والثانى: ما لا تَعافُه النفس كالشراب الذى تستعمِلُه الحوامل مثلاً، فهذا ضررُه أكثرُ من نفعه، والعقلُ يقضى بتحريم ذلك، فالعقلُ والفِطرةُ مطابقٌ للشرع فى ذلك.
وهاهنا سِرٌ لطيف فى كون المحرَّمات لا يُستشفَى بها، فإنَّ شرطَ الشفاء بالدواء تلقِّيه بالقبول، واعتقادُ منفعته، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء، فإنَّ النافعَ هو المبارَك، وأنفعُ الأشياءِ أبركُها، والمبارَكُ من الناس أينما كان هو الذى يُنتفَع به حيث حَلَّ، ومعلوم أنَّ اعتقاد المسلم تحريمَ هذه العَيْن مما يَحولُ بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها، وبين حُسن ظنه بها، وتلقِّى طبعه لها بالقبول، بل كلَّما كان العبدُ أعظمَ إيماناً، كان أكره لها
وأسوأ اعتقاداً فيها، وطبعُه أكره شىء لها، فإذا تناولها فى هذه الحال، كانت داءً له لا دواء إلا أن يزولَ اعتقادُ الخُبث فيها، وسوءُ الظن والكراهةُ لها بالمحبة، وهذا يُنافى الإيمان، فلا يتناولها المؤمن قَطُّ إلا على وجه داء.. والله أعلم.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج القَمْلِ الذى فى الرأس وإزالته
فى "الصحيحين" عن كعب بن عُجْرةَ، قال: كان بى أذىً مِن رأسى، فَحُمِلْتُ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقَمْلُ يَتناثَرُ على وجهى، فقال : "ما كنتُ أَرى الجَهْدَ قد بَلَغَ بِكَ ما أرَى" ، وفى رواية: فأمَرَه أن يَحْلِقَ رأسَه، وأن يُطعِمَ فَرقاً بَيْنَ سِتَّةٍ، أو يُهدِىَ شاة، أو يَصُومَ ثلاثةَ أيامٍ.
القمل يتولَّد فى الرأس والبدن من شيئين: خارج عن البدن وداخلٍ فيه، فالخارجُ: الوسخُ والدنس المتراكم فى سطح الجسد، والثانى: من خلط ردىء عفن تدفعُه الطبيعة بين الجلد واللَّحم، فيتعفَّنُ بالرُّطوبة الدموية فى البَشَرَةِ بعد خُروجها من المسام، فيكون مِنه القملُ، وأكثرُ ما يكون ذلك بعد العلل والأسقام، وبسبب الأوساخ، وإنما كان فى رؤوس الصبيان أكثر
لكثرة رطوباتهم وتعاطيهم الأسباب التى تُولِّد القمل، ولذلك حَلَقَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رؤوسَ بنى جعفر.
ومن أكبر عِلاجه حَلْقُ الرأس لِتنفتح مسامُّ الأبخرَة، فتتصاعد الأبخرة الرديئة، فتضعفُ مادة الخلط، وينبغى أن يُطلى الرأس بعد ذلك بالأدوية التى تقتل القمل، وتمنع تولُّده.
وحلقُ الرأس ثلاثة أنواع ؛ أحدها: نُسُك وقُربة. والثانى: بِدعة وشرك. والثالث: حاجة ودواء.
فالأول: الحلق فى أحد النُّسُكين، الحجِّ أو العُمرة.
والثانى: حلقُ الرأس لغير الله سبحانه. كما يحلِقها المريدُون لشيوخهم، فيقول أحدهم: أنا حلقتُ رأسى لفلان، وأنت حلقتَه لفلان، وهذا بمنزلة أن يقول: سجدتُ لفلان، فإنَّ حَلْقَ الرأس خضوعٌ وعُبودية وذُل، ولهذا كان من تمام الحجِّ، حتى إنه عند الشافعى ركنٌ من أركانه لا يَتِمُّ إلا به. فإنه وضعُ النواصى بين يدى ربها خضوعاً لعظمته، وتذللاً لعِزَّته، وهو من أبلغ أنواع العبودية، ولهذا كانت العربُ إذا أرادت إذلالَ الأسير منهم وعِتْقَه، حلقوا رأسه وأطلقُوه، فجاء شيوخُ الضلال والمزاحِمون للربوبية الذين أساسُ مشيختهم على الشِّرك والبدعة، فأرادوا مِن مريديهم أن يتعبَّدوا لهم، فزيَّنوا لهم حَلْقَ رؤوسهم لهم، كما زيَّنوا لهم السجودَ لهم، وسمَّوه بغير اسمه، وقالوا: هو وضعُ الرأس بين يدى الشيخ، ولعَمرُ الله إنَّ السجود لله هو وضعُ الرأس بين يديه سبحانه، وزيَّنوا لهم أن ينذُروا لهم، ويتوبُوا لهم، ويَحلِفُوا بأسمائهم، وهذا هو اتخاذُهم أرباباً وآلهةً مِن دُونِ الله، قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوْا عِبَاداً لِّى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ
تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً، أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران: 79-80].
وأشرفُ العبودية عبوديةُ الصلاة، وقد تقاسمها الشيوخُ والمتشبهون بالعلماء والجبابرة، فأخذ الشيوخُ منها أشرفَ ما فيها، وهو السجود، وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوعَ، فإذا لقىَ بعضُهم بعضاً ركع له كما يركع المُصَلِّى لربه سواء، وأخذ الجبابرةُ منهم القيامَ، فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبوديةً لهم، وهم جلوس، وقد نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الأُمور الثلاثة على التفصيل، فتعاطِيها مخالفةٌ صريحة له، فنَهى عن السجود لغير الله وقال: "لا يَنْبغِى لأَحَدٍ أنْ يَسْجُدَ لأحَدٍ" . وأنكر على مُعَاذٍ لَمَّا سَجد له وقال: "مَهْ". وتحريمُ هذا معلوم من دينه بالضرورة، وتجويزُ مَن جَوَّزه لغير الله مُراغمَةٌ للهِ ورسوله، وهو من أبلَغِ أنواع العبودية، فإذا جَوَّز هذا المُشرِكُ هذا النوعَ للبَشَر، فقد جوَّز العبودية لغير اللهِ، وقد صَحَّ
أنه قيل له: الرَّجُلُ يَلقَى أخاه أَيَنْحَنِى له ؟ قال: "لا". قيل: أَيَلْتَزِمُه ويُقَبِّلُهُ ؟ قال: "لا". قيل: أَيُصافِحُه ؟ قال: "نعم".
وأيضاً.. فالانحناءُ عند التحية سجود، ومنه قوله تعالى:
{وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً}[البقرة: 58] أى: منحنين، وإلا فلا يُمكن الدخول على الجباه، وصَحَّ عنه النهىُ عن القيام، وهو جالس، كما تُعَظِّم الأعاجمُ بعضُها بعضاً، حتى منع مِن ذلك فى الصلاة، وأمرَهم إذا صَلَّى جالساً أن يُصَلُّوا جلوساً، وهم أصحاء لا عُذرَ لهم، لئلا يقوموا على رأسه وهو جالس، مع أنَّ قيامَهم لله، فكيف إذا كان القيامُ تعظيماً وعبوديةً لغيره سبحانه.
والمقصود.. أنَّ النفوس الجاهلة الضالة أسقطتْ عبوديةَ الله سبحانه، وأشركت فيها مَن تُعَظِّمه مِن الخلق، فسجدت لغير الله، وركعت له، وقامت بين يديه قيامَ الصلاة، وحلفت بغيره، ونذرَتْ لغيره، وحَلَقَتْ لغيره، وذبحت لغيره، وطافت لِغير بيته، وعَظَّمته بالحب، والخوف، والرجاء، والطاعة، كما يُعَظَّم الخالقُ، بل أشد، وسوَّتْ مَن تعبُده من المخلوقين بربِّ العالمين، وهؤلاء هم المضادون لدعوة الرُّسُل، وهم الذين بربهم يَعدِلون، وهم الذين يقولون وهم فى النار مع آلهتهم يختصمون: {تَاللهِ إن كُنَّا لَفِى ضَلاَلٍ مُبِينٍ إذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء: 98]، وهم الذين قال الله فيهم :{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ}[البقرة: 165] وهذا كُلُّه مِن الشِّرك،
والله لا يغفر أَنْ يُشْرَكَ به. فهذا فصل معترض فى هَدْيه فى حلق الرأس، ولعله أهمُّ مما قُصِدَ الكلام فيه.. والله الموفق.
فصل فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العلاج بالأدوية الروحانية الإلهية المفردة، والمركَّبة منها، ومن الأدوية الطبيعية
...
[فصول: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العلاج بالأدوية الروحانية الإلهية المفردة، والمركَّبة منها، ومن الأدوية الطبيعية]
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج المصاب بالعَيْنِ
روى مسلم فى "صحيحه" عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "العَيْنُ حَقٌ ولو كان شَىْءٌ سَابَقَ القَدَرِ، لَسَبَقتْهُ العَيْنُ".
وفى "صحيحه" أيضاً عن أنس: "أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رخَّصَ فى الرُّقية مِن الحُمَةِ، والعَيْنِ والنَّملةِ"
وفى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "العَيْنُ حَقٌ".
وفى "سنن أبى داود" عن عائشة رضى الله عنها، قالت: كان يُؤمَرُ العائِنُ
فيتوضَّأ، ثم يَغْتَسِلُ منه المَعِينُ.
وفى "الصحيحين" عن عائشة قالت: أمرنى النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أَمَرَ أن نَسْتَرْقِىَ من العَيْن.
وذكر الترمذى، من حديث سفيان بن عُيَينةَ، عن عمرو بن دينار، عن عروة بن عامر، عن عُبيد بن رفاعة الزُّرَقىِّ، أنَّ أسماء بنت عُمَيْس قالت: يا رسولَ الله ؛ إنَّ بَنِى جعفر تُصيبُهم العَينُ، أفأسترْقِى لهم ؟ فقال: "نعم فَلَوْ كان شَىْءٌ يَسْبِقُ القضاءَ لسَبَقَتْهُ العَيْنُ" قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
وروى مالك رحمه الله، عن ابن شهابٍ، عن أبى أُمامةَ بن سهل بن حنيفٍ، قال: رأى عامرُ بن ربيعة سَهْلَ بن حُنَيف يغتسِلُ، فقال: واللهِ ما رأيتُ كاليوم ولا جِلْدَ مُخَبَّأة، قال: فلُبِطَ سَهْلٌ، فأتى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامراً، فتَغَيَّظَ عليه، وقال: "عَلامَ يَقْتُلُ أحدُكُم أخاهُ ؟ ألاَ بَرَّكْتَ ؟ اغْتَسِلْ له"، فغسل له عامرٌ وجهَه ويديه ومِرفَقَيْه ورُكبتيه، وأطرافَ رِجليه، وداخِلَة إزاره فى قدح، ثم صبَّ عليه، فراحَ مع الناس.
وروى مالك رحمه الله أيضاً عن محمد بن أبى أُمامة بن سهل، عن أبيه هذا الحديث، وقال فيه: " إنَّ العيْنَ حقٌ، توضَّأْ لهُ"، فتوضَّأ له.
وذكر عبد الرزَّاق، عن مَعْمَرٍ، عن ابن طاووس، عن أبيه مرفوعاً: "العَيْنُ حَقٌ، ولو كان شىءٌ سَابَقَ القَدَرَ، لَسَبَقَتْهُ العَيْنُ، وإذا اسْتُغْسِلَ أحدُكمْ، فَلْيَغْتَسِلْ" ، ووصْله صحيحٌ.
قال الزُّهْرى: يُؤْمَر الرجل العائن بقدح، فيُدخِلُ كفَّه فيه، فيتمضمض، ثم يَمُجّه فى القدح، ويغسِلُ وجهه فى القدح، ثم يُدخِل يده اليُسرى، فيصُبُّ على رُكبته اليُمنى فى القَدَح، ثم يُدخِلُ يده اليُمنى، فيصُبُّ على رُكبته اليُسرى، ثم يَغْسِلُ داخِلَة إزارِهِ، ولا يُوضع القَدَحُ فى الأرض، ثم يُصَبُّ على رأس الرجل الذى تُصيبه العينُ من خلفه صبةً واحدةً.
والعَيْن عَيْنان: عَيْنٌ إنسية، وعَيْنٌ جِنِّية. فقد صح عن أُمِّ سلمةَ، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى فى بيتها جاريةً فى وجهها سَفْعَةٌ، فقال: "اسْتَْرقُوا لها، فإنَّ بها النَّظرَة".
قال الحسين بن مسعود الفرَّاء: وقوله "سَفْعَة" أى: نظرة، يعنى من الجن، يقول: بها عينٌ أصابْتها من نظَرِ الجن أنفذُ من أسِّنَة الرِماح
ويُذكر عن جابر يرفعه: "إنَّ العَيْنَ لتُدْخِلُ الرجُلَ القَبْرَ، والجَمَلَ القِدْرَ".
وعن أبى سعيد، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتعوَّذ من الجان، ومن عَيْن الإنسان.
فأبطلت طائفةٌ ممن قلَّ نصيبُهم مِن السمع والعقل أمْرَ العَيْن، وقالوا: إنما ذلك أوهامٌ لا حقيقةَ لها، وهؤلاء مِن أجهل الناس بالسَّمعِ والعقل، ومِن أغلظهم حِجاباً، وأكثفِهم طِباعاً، وأبعدِهم معرفةً عن الأرواح والنفوسِ، وصفاتها وأفعالِها وتأثيراتها، وعقلاءُ الأُمم على اختلافِ مِللهم ونِحلهم لا تدفَعُ أمر العَيْن، ولا تُنكره، وإن اختلفوا فى سببه وجهة تأثير العَيْن.
فقالت طائفة: إنَّ العائن إذا تكيَّفت نفسُه بالكيفية الرديئة، انبعث مِن عينه قُوَّةٌ سُمِّيةٌ تتصل بالمَعِين، فيتضرر. قالوا: ولا يُستنكر هذا، كما لا يُستنكر انبعاثُ قوة سُمِّية من الأفعى تتصل بالإنسان، فيهلكِ، وهذا أمر قد اشتُهِرَ عن نوع من الأفاعى أنها إذا وقع بصرُها على الإنسان هلك، فكذلك العائنُ.
وقالت فِرقة أُخرى: لا يُستبعد أن ينبعِثَ من عَيْن بعضِ الناس جواهِرُ لطيفة غيرُ مرئية، فتتصل بالمَعِين، وتتخلل مسامَ جسمه، فيحصل له الضررُ.
وقالت فِرقة أُخرى: قد أجرى الله العادةَ بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عَيْنِ العائن لمن يَعِينه مِن غير أن يكون منه قوةٌ ولا سببٌ ولا تأثيرٌ أصلاً، وهذا مذهبُ منكرى الأسباب والقُوَى والتأثيرات فى العالَم، وهؤلاء قد سدُّوا على أنفسهم بابَ العِلل والتأثيرات والأسباب، وخالفوا العقلاء أجمعين.
ولا ريب أنَّ اللهَ سبحانه خلق فى الأجسام والأرواح قُوَى وطبائع مختلفة، وجعل فى كثير منها خواصَّ وكيفياتٍ مؤثرة، ولا يمكن لعاقل إنكارُ تأثير الأرواح فى الأجسام، فإنه أمر مُشاهَدٌ محسوس، وأنت ترى الوجهَ كيف يحمَرُّ حُمرةً شديدة إذا نظر إليه مَن يحتشِمُه ويَستحى منه، ويصفرُّ صُفرة شديدة عند نظر مَن يخافُه إليه، وقد شاهد الناسُ مَن يَسقَم من النظر وتضعُف قواه، وهذا كُلُّه بواسطة تأثير الأرواح، ولشدة ارتباطها بالعَيْن يُنسب الفعل إليها، وليست هى الفاعلة، وإنما التأثيرُ للرَّوح. والأرواحُ مختلفة فى طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها، فروحُ الحاسد مؤذية للمحسود أذىً بيِّناً. ولهذا أمر اللهُ سبحانه رسولَه أن يستعيذَ به من شره. وتأثيرُ الحاسد فى أذى المحسود أمرٌ لا يُنكره إلا مَن هو خارج عن حقيقةِ الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعَيْن، فإنَّ النفس الخبيثة الحاسدة تتكيَّفُ بكيفية خبيثة، وتُقَابِلُ المحسود، فتؤثِّرُ فيه بتلك الخاصِّية، وأشبهُ الأشياء بهذا الأفعى، فإن السُّمَّ كامِنٌ فيها بالقوة، فإذا قابلتْ عدوَّها، انبعثت منها قوة غضبية، وتكيَّفتْ بكيفية خبَيثةٍ مؤذية، فمنها ما تشتدُّ كيفيتُها وتقوى حتى تؤثر فى إسقاط الجنين، ومنها ما تؤثر فى طمس البصر، كما قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الأَبْتَر، وذى الطُّفْيَتَيْن مِنَ الحيَّات : "إنَّهمَا يَلتَمِسَان البَصَرَ، ويُسقطان الحَبَلَ".
ومنها: ما تُؤثر فى الإنسان كيفيتُها بمجرد الرؤية من غير اتصال به، لشدة خُبْثِ تلك النفس، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة، والتأثيرُ غيرُ موقوف على الاتصالات الجسمية، كما يظنُّه مَن قلَّ علمُه ومعرفته بالطبيعة والشريعة، بل التأثيرُ يكون تارةً بالاتصال، وتارةً بالمقابلة، وتارةً بالرؤية، وتارةً بتوجه الرَّوح نحوَ مَن يُؤثر فيه، وتارةً بالأدعية والرُّقَى والتعوُّذات، وتارةً بالوهم والتخيُّل، ونفسُ العائن لا يتوقفُ تأثيرُها على الرؤية، بل قد يكون أعمى، فيُوصف له الشىء، فتؤثِّرُ نفسه فيه، وإن لم يره، وكثيرٌ من العائنين يُؤثر فى المَعِين بالوصف من غير رؤية، وقد قال تعالى لنبيه:{ وَإن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ} [القلم: 51]وقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ} فكلُّ عائنٌ حاسدٌ، وليس كلُّ حاسد عائناً
فلمَّا كان الحاسد أعمَّ من العائن، كانت الاستعاذةُ منه استعاذةً من العائن، وهى سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحوَ المحسود والمَعِين تُصيبُه تارةً وتُخطئه تارة، فإن صادفْته مكشوفاً لا وِقاية عليه، أثَّرتْ فيه، ولا بُدَّ، وإن صادفته حَذِراً شاكىَ السِّلاح لا منفذَ فيهِ للسهام، لم تُؤثر فيه، وربما رُدَّتْ السهامُ على صاحبها، وهذا بمثابة الرمى الحِسِّىّ سواء، فهذا مِن النفوس والأرواح، وذاك مِن الأجسام والأشباح. وأصلُه مِن إعجاب العائن بالشىء، ثم تتبعه كيفيةُ نفسِه الخبيثة، ثم تستعينُ على تنفيذ سُمِّها بنظرة إلى المَعِين، وقد يَعِينُ الرجلُ نفسَه، وقد يَعينُ بغير
إرادته، بل بطبعه، وهذا أردأ ما يكونُ من النوع الإنسانى، وقد قال أصحابُنا وغيرُهم من الفقهاء: إنَّ مَن عُرِفَ بذلك، حبَسه الإمامُ، وأجرَى له ما يُنفِقُ عليه إلى الموت، وهذا هو الصوابُ قطعاً.
فصل
والمقصودُ: العلاجُ النبوىُّ لهذه العِلَّة، وهو أنواعٌ، وقد روى أبو داود فى "سننه" عن سهل بن حُنَيفٍ، قال: مررْنا بَسيْلٍ، فدخلتُ، فاغتسلتُ فيه، فخرجتُ محموماً، فنُمِىَ ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "مُرُوا أبا ثابتٍ يَتَعَوَّذُ". قال: فقلتُ: يا سيدى ؛ والرُّقَى صالحة ؟ فقال: " لا رُقيةَ إلا فى نَفْسٍ، أو حُمَةٍ، أو لَدْغَةٍ".
والنَّفْس: العَيْن، يقال: أصابت فلاناً نفسٌ، أى: عَيْن. والنافِس: العائن. واللَّدْغة بدال مهملة وغين معجمة وهى ضربةُ العقرب ونحوها.
فمن التعوُّذاتِ والرُّقَى الإكثارُ من قراءة المعوِّذتين، وفاتحةِ الكتابِ، وآيةِ الكُرسى، ومنها التعوذاتُ النبوية.
نحو: "أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّاتِ مِن شرِّ ما خَلق".
ونحو: "أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّةِ، مِن كُلِّ شيطانٍ وهامَّةٍ، ومِن كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ".
ونحو: "أعوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ التى لا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌ ولا فاجرٌ، مِن شَرِّ ما خلق وذرَأ وبرَأ، ومِن شَرِّ ما ينزلُ من السماء، ومِن شَرِّ ما يَعرُجُ
فيها، ومِن شَرِّ ما ذرأ فى الأرض، ومِن شَرِّ ما يخرُج مِنها، ومِن شَرِّ فِتَنِ الليلِ والنهار، ومِن شَرِّ طَوَارق الليلِ، إلا طارقاً يَطرُق بخير يا رحمن".
ومنها: "أَعُوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّةِ مِن غضبه وعِقَابه، ومِن شرِّ عباده، ومِن هَمَزات الشياطينِ وأن يَحضُرونِ".
ومنها: "اللهُمَّ إنى أعوذُ بوجْهِكَ الكريم، وكلماتِك التامَّاتِ من شرِّ ما أنت آخِذٌ بناصيته، اللهُمَّ أنتَ تكشِفُ المأثَمَ والمَغْرَمَ، اللهُمَّ إنه لا يُهْزَمُ جُنْدُكَ، ولا يُخلَفُ وعدُك، سبحانَك وبحمدِك".
ومنها: "أَعُوذُ بوجه اللهِ العظيمِ الذى لا شىءَ أعظمُ منه، وبكلماتِه التامَّات التى لا يُجاوزُِهن بَرٌ ولا فاجرٌ، وأسماءِ الله الحُسْنَى، ما علمتُ منها وما لم أعلم، مِن شَرِّ ما خلق وذرَأ وبرأ، ومن شَرِّ كُلِّ ذى شرٍّ لا أُطيق شرَّه، ومِن شَرِّ كُلِّ ذى شَرٍّ أنتَ آخِذٌ بناصيته، إنَّ ربِّى على صِراط مستقيم".
ومنها: "اللهُمَّ أنت ربِّى لا إله إلا أنتَ، عليك توكلتُ، وأنتَ ربُّ العرشِ العظيم، ما شاء اللهُ كان، وما لم يشأْ لم يكن، لا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله، أعلم أنَّ اللهَ على كُلِّ شىء قديرٌ، وأنَّ الله قد أحاط بكل شىء علماً، وأحصَى كُلَّ شىءٍ عدداً، اللهُمَّ إنى أعوذُ بِكَ مِن شَرِّ نفسى، وشَرِّ الشيطانِ وشِرْكه، ومِن شَرِّ كُلِّ دابةٍ أنتَ آخذٌ بناصيتها، إنَّ ربِّى على صِراط مستقيم".
وإن شاء قال: "تحصَّنتُ باللهِ الَّذى لا إله إلا هُوَ، إلهى وإله كُلِّ شىء، واعتصمتُ بربى وربِّ كُلِّ شىء، وتوكلتُ على الحىِّ الذى لا يموتُ، واستَدْفَعتُ الشرَّ بلاحَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله، حسبىَ اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، حسبىَ الربُّ مِن العباد، حسبىَ الخَالِقُ من المخلوق، حسبىَ الرازقُ مِنَ المرزوق، حسبىَ الذى هو حسبى، حسبىَ الذى بيده ملكوتُ كُلِّ شىءٍ، وهو يُجيرُ
ولا يُجَارُ عليه، حسبىَ الله وكَفَى، سَمِعَ الله لمنْ دعا، ليس وراء اللهِ مرمَى، حسبىَ الله لا إله إلا هُوَ، عليه توكلتُ، وهُوَ ربُّ العرشِ العظيم".
ومَن جرَّب هذه الدعوات والعُوَذَ، عَرَفَ مِقدار منفعتها، وشِدَّةَ الحاجةِ إليها، وهى تمنعُ وصول أثر العائن، وتدفعُه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها، وقوةِ نفسه، واستعداده، وقوةِ توكله وثباتِ قلبه، فإنها سلاح، والسلاحُ بضاربه.
فصل
وإذا كان العائنُ يخشى ضررَ عينه وإصابتهَا للمَعين، فليدفع شرِّها بقوله: اللهُمَّ بَارِكْ عليه، كما قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حُنيف: " ألا برَّكْتَ" أى: قلتَ: اللهُمَّ بارِكْ عليه .
ومما يُدفع به إصابةَ العَيْن قولُ: "ما شاء الله لا قُوَّة إلا بالله"، روى هشام ابن عروة، عن أبيه، أنه كان إذا رأى شيئاً يُعجِبُه، أو دخل حائطاً مِن حِيطانه، قال: "ما شاء الله، لا قُوَّة إلا بالله".
ومنها رُقْيَةُ جِبريل عليه السَّلامُ للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التى رواها مسلم فى "صحيحه": "باسمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَىْءٍ يُؤذيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نفسٍ أو عَيْنِ حَاسدٍ اللهُ يَشفِيكَ، باسمِ اللهِ أرْقِيكَ".
ورأى جماعة من السَّلَف أن تُكتب له الآياتُ مِن القرآن، ثم يشربَها. قال مجاهد: لا بأس أن يكتُبَ القرآنَ، ويغسِلَه، وَيْسقِيَه المريضَ، ومثلُه عن أبى قِلابَةَ. ويذكر عن ابن عباس: أنه أمر أن يُكَتبَ لامرأة تَعَسَّرَ عليها
وِلادُها أثرٌ من القرآن، ثم يُغسل وتُسقى. وقال أيوب: رأيتُ أبا قِلابَةَ كتب كتاباً من القرآن، ثم غسله بماء، وسقاه رجلاً كان به وجعٌ.
فصل
[فى أمر العائن بغسل مَغابنِهِ وأطرافه وداخِلَةِ إزاره]
ومنها: أن يُؤمر العائِنُ بغسل مَغابنِهِ وأطرافه وداخِلَةِ إزاره، وفيه قولان ؛ أحدهما: أنه فرجُه. والثانى: أنه طرفُ إزاره الداخل الذى يلى جسدَه من الجانب الأيمن، ثم يُصَبُّ على رأس المَعِين مِن خلفه بغتة، وهذا مما لا ينالُه عِلاجُ الأطباء، ولا ينتفِعُ به مَن أنكره، أو سَخِرَ منه، أو شَكَّ فيه، أو فعله مجرِّباً لا يعتقد أنَّ ذلك ينفعُه.
وإذا كان فى الطبيعة خواصٌ لا تَعْرِفُ الأطباءُ عِلَلَها ألبتةَ، بل هى عندهم خارجةٌ عن قياس الطبيعة تفعل بالخاصِّية، فما الذى يُنكره زنادقتهم وجهلتُهم من الخواص الشرعية، هذا مع أنَّ فى المعالجة بهذا الاستغسال ما تشهدُ له العقولُ الصحيحة، وتُقِرُّ لمناسبته، فاعلم أنَّ تِرياق سُمِّ الحيَّة فِى لحمها، وأنَّ علاجَ تأثير النفس الغضَبية فى تسكين غضبها، وإطفاء ناره بوضع يَدِكَ عليه، والمسح عليه، وتسكينِ غضبه، وذلك بمنزلة رجل معه شُعلة من نار، وقد أراد أن يَقذِفَك بها، فصبِبِتَ عليها الماء، وهى فى يده حتى طُفئتْ، ولذلك أُمِرَ العائِنُ أن يقول: "اللهُمَّ بارِكْ عَلَيْه" ليدفع تلك الكيفية الخبيثة بالدعاء الذى هو إحسانٌ إلى المَعِين، فإنَّ دواء الشىء بضِدِّه. ولما كانت هذه الكيفيةُ الخبيثة تظهر فى المواضِع الرقيقة من الجسد، لأنها تطلب النفوذَ، فلا تجد أرقَّ مِن المغابن، وداخِلَةِ الإزار، ولا سِيَّما إن كان كنايةً عن الفَرْج، فإذا غُسِلَتْ بالماء، بطل تأثيرها وعملها، وأيضاً فهذه المواضع للأرواح الشيطانية بها اختصاص.
والمقصود: أنَّ غسلها بالماء يُطفىء تلك النارية، ويَذهبُ بتلك السُّمِّية.
وفيه أمر آخر، وهو وُصول أثرِ الغسل إلى القلب من أرقِّ المواضع وأسرعها تنفيذاً، فيُطفىء تلك النارية والسُّمِّية بالماء، فيشفى المَعِين، وهذا كما أنَّ ذواتِ السموم إذا قُتِلت بعد لَسعها، خَفَّ أثرُ اللسعة عن الملسوع، ووَجد راحة، فإن أنفسَها تمدُّ أذاها بعد لَسعها، وتُوصِله إلى الملسوع. فإذا قُتِلَتْ، خَفَّ الألم، وهذا مُشَاهَد. وإن كان من أسبابه فرحُ المَلسوع، واشتفاءُ نفسه بقتل عدوِّه، فتقوى الطبيعة على الألم، فتدفعه.
وبالجملة.. غسل العائن يُذهِبُ تلك الكيفية التى ظهرت منه، وإنما ينفع غسلُه عند تكيُّفِ نفسه بتلك الكيفية.
فإن قيل: فقد ظهرت مناسبةُ الغسل، فما مناسبةُ صبِّ ذلك الماء على المَعِين ؟
قيل: هو فى غاية المناسبة، فإنَّ ذلك الماء ماء طُفىء به تلك النارية، وأبطل تلك الكيفية الرديئة من الفاعل، فكما طُفئت به النارية القائمة بالفاعِل طُفئت به، وأبطلت عن المحل المتأثر بعد ملابسته للمؤثر العائِن، والماءُ الذى يُطفأ به الحديدُ يدخُل فى أدوية عِدَّة طبيعية ذكرها الأطباء، فهذا الذى طُفىء به نارية العائِن، لا يُستنكر أن يدخل فى دواء يُناسب هذا الداء.
وبالجملة.. فطب الطبائعية وعلاجُهم بالنسبة إلى العلاج النبوىِّ، كطب الطُّرقية بالنسبة إلى طبهم، بل أقل، فإنَّ التفاوتَ الذى بينهم وبين الأنبياء أعظمُ، وأعظمُ من التفاوت الذى بينهم وبين الطُّرقية بما لا يُدرِكُ الإنسان مقداره، فقد ظهر لك عقدُ الإخاء الذى بين الحِكمة والشرع، وعدمُ مناقضة أحدهما للآخر، واللهُ يهدى مَن يشاء إلى الصواب، ويفتحُ لمن أدام قرعَ باب التوفيق منه كُلَّ باب، وله النعمة السابغة، والحُجَّة البالغة.
فصل
ومن علاج ذلك أيضاً والاحتراز منه سترُ محاسن مَن يُخاف عليه العَيْن بما يردُّها عنه، كما ذكر البغوىُّ فى كتاب "شرح السُّنَّة": أنَّ عثمان رضى الله عنه رأى صبياً مليحاً، فقال: دَسِّمُوا نُونَتَه، لئلا تُصيبه العَيْن، ثم قال فى تفسيره: ومعنى "دسِّمُوا نونته" أى: سَوِّدُوا نونته، والنونة: النُّقرة التى تكون فى ذقن الصبىِّ الصغير.
وقال الخطَّابى فى "غريب الحديث" له عن عثمان: إنه رأى صبياً تأخذه العَيْن، فقال: دسِّموا نونته. فقال أبو عمرو: سألت أحمد بن يحيى عنه، فقال: أراد بالنونة: النُّقرة التى فى ذقنه. والتدسيمُ: التسويد. أراد: سَوِّدُوا ذلك الموضع من ذقنه، ليرد العَيْن. قال ومن هذا حديثُ عائشةَ ان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب ذاتَ يومٍ، وعلى رأسهِ عِمامةٌ دَسْماء أى: سوداء أراد الاستشهاد على اللَّفظة، ومن هذا أخذ الشاعرُ قَوله:
مَا كَانَ أَحْوَجَ ذَا الْكَمَالِ إلَى ... عَيبٍ يُوَقِّيهِ مِنَ الْعَيْنِ
فصل
ومن الرُّقَى التى تردُّ العَيْن ما ذُكر عن أبى عبد الله السَّاجى، أنه كان فى بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارِهَةٍ، وكان فى الرفقة رجل عائن، قلَّما نظر إلى شىء إلا أتلفه، قيل لأبى عبد الله: احفَظْ ناقَتكَ مِنَ العائِن، فقال: ليس له إلى ناقتى سبيل، فأُخْبِرَ العائِنُ بقوله، فتَحيَّنَ غَيبة أبى عبد الله، فجاء إلى رَحْله، فنَظر إلى الناقةَ، فاضطربتْ وسقطت، فجاء أبو عبد الله، فأُخْبِرَ أنَّ العائِنَ قد عانها، وهى كما ترى، فقال: دُلُّونى عليه. فدُلَّ، فوقف عليه، وقال: بسمِ اللهِ، حَبْسٌ حابسٌ، وحَجَرٌ يابِسٌ، وشِهابٌ قابِسٌ، ردَّت عين العائن عليه، وعلى أحبِّ الناس إليه، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك: 3-4] فخرجتْ حَدَقَتا العائنِ، وقامت الناقةُ لا بأسَ بها.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العلاج العام لكل شكوى بالرُّقية الإلهية
روى أبو داود فى "سننه": من حديث أبى الدرداء، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "مَن اشتكى منكم شيئاً، أو اشتكاهُ أخٌ له فلْيقُلْ: رَبَّنا اللهَ الذى فى السَّماء، تقدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فى السَّماء والأرضِ كما رَحْمَتُك فى السَّماءِ، فاجعل رحمتكَ فى الأرض، واغفر لنا حُوْبَنَا وخطايانا أنتَ ربُّ الطَّيِّبِين، أنْزِلْ رحمةً من رحمتك، وشفاءً من شفائك على هذا
الوَجَع، فيَبْرأ بإذْنِ اللهِ ".
وفى "صحيح مسلم" عن أبى سعيد الخُدْرِى، أنَّ جبريلَ عليه السلام أتى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمدُ ؛ أشتكيْتَ ؟ فقال: "نعم". فقال جبريلُ عليه السلام : "باسمِ اللهِ أَرقيكَ مِن كُلِّ شىءٍ يُؤذيكَ، مِن شَرِّ كُلِّ نفْسٍ أو عَيْن حاسدٍ اللهُ يَشفيكَ، باسمِ اللهِ أرقيكَ".
فإن قيل: فما تقولون فى الحديث الذى رواه أبو داود: "لا رُقيةَ إلا من عَيْنٍ، أو حُمَةٍ"، والحُمَةُ: ذوات السُّموم كلها ؟
فالجواب: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُرِدْ به نفىَ جواز الرُّقية فى غيرها، بل المرادُ به: لا رُقية أولى وأنفعُ منها فى العَيْن والحُمَة، ويدل عليه سياقُ الحديث، فإنَّ سهل ابن حُنيف قال له لما أصابته العَيْن: أوَ فى الرُّقَى خير ؟ فقال: "لا رُقيةَ إلا فى نَفْسٍ
أو حُمَةٍ" ويدل عليه سائرُ أحاديث الرُّقَى العامة والخاصة، وقد روى أبو داود من حديث أنس قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا رُقْيَةَ إلا مِن عَيْنٍ، أو حُمَةٍ، أو دَمٍ يَرْقأُ".
وفى "صحيح مسلم" عنه أيضاً:"رخَّص رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الرُّقية من العَيْن والحُمَةِ والنَّمْلَةِ".
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رُقْيَة اللَّدِيغ بالفاتحة
أخرجا فى "الصحيحين" من حديث أبى سعيد الخدرى، قال: "انْطلَقَ نَفَرٌ من أصحابِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سفرةٍ سافرُوها حتى نزلوا على حىٍّ مِن أحياءِ العرب، فاسْتَضَافوهم، فأبَوْا أن يُضَيِّفُوهُم، فلُدِغَ سَيِّدُ ذلك الحىِّ، فَسَعَوْا له بكُلِّ شىء لا يَنْفَعُه شىء، فقال بعضهم: لو أتيتُم هؤلاءِ الرَّهطَ الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شىء. فأتوهم، فقالوا: يا أيُّهَا الرَّهطُ ؛ إنَّ سَيِّدَنا لُدِغَ، وسَعينا له بكُلِّ شىء لا يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أحدٍ منكم من شىء ؟ فقال بعضُهم: نعم واللهِ إنى لأَرْقى، ولكن اسْتَضَفْناكُمْ، فلم تَضيِّفُونَا، فما أنا بَرَاقٍ حتى تَجْعَلُوا لنا جُعْلاً، فصالَحُوهم على قطيعٍ من الغنم، فانطلَقَ يَتْفُل عليه، ويقرأ: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فكأنما أُنشِطَ من عِقَالٍ، فانطلق يمشى وما به قَلَبَةٌ، قال: فأوفَوْهُم جُعْلَهُم الذى صالحوهم عليه، فقال بعضُهم: اقتسِمُوا، فقال الذى رَقَى: لا تفعلوا حتى نأتىَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنذكُرَ له الذى كان، فننظُرَ ما يأمرُنا، فَقَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكروا له ذلك، فقال: "وما يُدْريكَ أنَّها رُقْيَةٌ" ؟، ثم قال: "قد أصَبْتُم، اقسِمُوا واضْرِبوا لى مَعَكُم سهماً".
وقد روى ابن ماجه فى "سننه" من حديث على قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ الدَّوَاءِ القُرآنُ".
ومن المعلوم أنَّ بعض الكلام له خواصُّ ومنافعُ مُجرَّبة، فما الظنُّ بكلام ربّ العالمين، الذى فَضْلُهُ على كل كلامٍ كفضلِ اللهِ على خلقه الذى هو الشفاءُ التام، والعِصْمةُ النافعة، والنورُ الهادى، والرحمة العامة، الذى لو أُنزِلَ على جبل لتَصَدَّعَ من عظمته وجلالته. قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}[الإسراء: 82]. و"مِن" ههنا لبيان الجنس لا للتبعيض، هذا أصَحُّ القولين، كقوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرَاً عَظِيماً}[الفتح:29] وكُلُّهُمْ مِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فما الظنُّ بفاتحة الكتاب التى لم يُنزل فى القرآن، ولا فى التوراة، ولا فى الإنجيل، ولا فى الزَّبور مِثلُها، المتضمنة لجميع معانى كتب الله، المشتملة على ذكر أُصول أسماء الرب تعالى ومجامعها، وهى: الله، والرَّب، والرحمن، وإثبات المعاد، وذكرِ التوحيدين: توحيدِ الربوبية، وتوحيدِ الإلهية، وذكر الافتقار إلى الربِّ سُبحانه فى طلبِ الإعانة وطلب الهداية، وتخصيصه سبحانه بذلك، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعِهِ وأفرَضِه، وما العبادُ أحوج شىءٍ إليه، وهو الهدايةُ إلى صِراطه المستقيم، المتضمن كمالَ معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمرَ به، واجتنابِ ما نَهَى عنه، والاستقامة عليه إلى الممات، ويتضمن ذِكْر أصنافِ الخلائق وانقسامهم إلى مُنْعمٍ عليه بمعرفة الحق، والعمل به، ومحبته، وإيثاره، ومغضوب عليه بعدُوله عن الحق بعد معرفته له، وضال بعدم معرفته له. وهؤلاء أقسامُ الخليقة مع تضمنها لإثبات القَدَر، والشرع، والأسماء، والصفات، والمعاد، والنبوات، وتزكيةِ النفوس، وإصلاح القلوب، وذكر عدل الله وإحسانه، والرَّدِّ على جميع أهل البدع والباطل، كما ذكرنا ذلك فى كتابنا الكبير "مدارج السالكين" فى شرحها. وحقيقٌ بسورةٍ هذا بعضُ
شأنها، أن يُستشفى بها من الأدواء، ويُرقَى بها اللَّديغُ.
وبالجملة.. فما تضمنته الفاتحةُ مِن إخلاص العبودية والثناء على اللهِ، وتفويضِ الأمر كُلِّه إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وسؤاله مجامع النِّعَم كُلِّها، وهى الهداية التى تجلبُ النِّعَم، وتدفَعُ النِّقَم، من أعظم الأدوية الشافية الكافية.
وقد قيل: إنَّ موضع الرُّقْيَة منها :{إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 4]، ولا ريبَ أنَّ هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء، فإنَّ فيهما من عموم التفويض والتوكل، والالتجاء والاستعانة، والافتقارِ والطلبِ، والجمع بين أعلى الغايات، وهى عبادةُ الربِّ وحده، وأشرف الوسائل وهى الاستعانةُ به على عبادته ما ليس فى غيرها، ولقد مرَّ بى وقت بمكة سَقِمْتُ فيه، وفَقَدْتُ الطبيبَ والدواء، فكنت أتعالج بها، آخذ شربةً من ماء زمزم، وأقرؤها عليها مراراً، ثم أشربه، فوجدتُ بذلك البرءَ التام، ثم صِرتُ أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع، فأنتفع بها غايةَ الانتفاع.
فصل
وفى تأثير الرُّقَى بالفاتحة وغيرها فى علاج ذواتِ السُّموم سِرٌ بديع، فإنَّ ذواتِ السموم أثَّرت بكيفيات نفوسِها الخبيثة، كما تقدَّم، وسِلاحها حُماتها التى تلدَغُ بها، وهى لا تلدغ حتى تغضَب، فإذا غضبت، ثار فيها السُّمُّ، فتقذفه بآلتها، وقد جعل اللهُ سبحانه لكل داءٍ دواءً، ولكل شىءٍ ضِداً، ونفس الراقى تفعلُ فى نفس المرقى، فيقعُ بين نفسيهما فعلٌ وانفعالٌ، كما يقع
بين الداء والدواء، فتقوى نفسُ الراقى وقُوَّته بالرُّقية على ذلك الداء، فيدفعُه بإذن اللهِ، ومدارُ تأثير الأدوية والأدواء على الفعل والانفعال، وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين، يقع بين الداء والدواء الروحانيين، والروحانى، والطبيعى، وفى النَّفْث والتَّفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء، والنفس المباشر للرُّقية، والذِكْر والدعاء، فإنَّ الرُّقية تخرُج مِن قلب الراقى وفمه، فإذا صاحبها شىءٌ من أجزاء باطنه من الرِّيق والهواء والنَّفَس، كانت أتمَّ تأثيراً، وأقوى فعلاً ونفوذاً، ويحصُل بالازدواج بينهما كيفيةٌ مؤثرة شبيهةٌ بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية.
وبالجملة.. فنفْسُ الراقى تُقابل تلك النفوس الخبيثة، وتزيدُ بكيفية نفسه، وتستعين بالرُّقية وبالنفثِ على إزالة ذلك الأثر، وكلَّما كانت كيفيةُ نَفَس الراقى أقوى، كانت الرُّقيةُ أتمَّ، واستعانتُهُ بنفْثه كاستعانة تلك النفوسِ الرديئة بلسعها.
وفى النفث سِرٌ آخر، فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة، ولهذا تفعلُه السَّّحَرةُ كما يفعلَهُ أهلُ الإيمان. قال تعالى: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ} ، وذلك لأن النفْس تتكيَّفُ بكيفية الغضب والمحاربة، وتُرسِلُ أنفاسَها سِهاماً لها، وتمدُّها بالنفْث والتفْل الذى معه شىء مِن الرِّيق مصاحب لكيفية مؤثرة، والسواحِرُ تستعين بالنفث استعانةً بيِّنةً، وإن لم تتصل بجسم المسحور، بل تنفثُ على العُقدة وتعقِدها، وتتكلم بالسِّحْر، فيعمل ذلك فى المسحور بتوسط الأرواح السُّفلية الخبيثة، فتقابِلُها الرَّوح الزكية الطيبة بكيفية الدفع والتكلم بالرُّقية، وتستعينُ بالنفث، فأيُّهُما قَوِىَ كان الحكمُ له، ومقابلةُ الأرواح بعضها لبعض، ومحاربتُها وآلتها مِن جنس مقابلة الأجسام، ومحاربتها وآلتها سواء، بل الأصلُ فى المحاربة والتقابلِ للأرواح والأجسام آلتها وجندها، ولكن مَن غلب عليه الحِسُّ
لا يشعرُ بتأثيرات الأرواح وأفعالِهَا وانفعالاتِهَا لاستيلاء سُلطان الحِسِّ عليه، وبُعْدِهِ من عالَم الأرواح، وأحكامها، وأفعالها.
والمقصود.. أنَّ الرَّوح إذا كانت قويةً وتكيَّفتْ بمعانى الفاتحة، واستعانت بالنفث والتفْل، قابلت ذلك الأثَر الذى حصل من النفوس الخبيثة، فأزالته.. والله أعلم.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج لدغة العقرب بالرُّقْيَة
روى ابن أبى شَيْبَةَ فى "مسنده"، من حديث عبد الله بن مسعود، قال: بينا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلِّى، إذ سجد فَلَدَغَتْه عقربٌ فى أُصبعه، فانصرفَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: "لَعَنَ اللهُ العَقْرَبَ ما تَدَعُ نبيّاً ولا غَيْرَه" ، قال: ثُمَّ دعا بإناءٍ فيه ماء ومِلح، فَجَعَلَ يَضَعُ موضِعَ اللَّدغة فى الماء والمِلحِ، ويقرأُ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، والمُعَوِّذَتَيْن} حتى سكنتْ.
ففى هذا الحديث العلاجُ بالدواء المركَّب مِنَ الأمرين: الطبيعىِّ والإلهىِّ، فإنَّ فى سورة الإخلاص مِن كمال التوحيد العِلمى الاعتقادى، وإثبات الأحَدِيَّة للهِ، المستلزِمة نفىَ كُلِّ شركة عنه، وإثباتِ الصَّمديَّةِ المستلزمةِ لإثبات كُلِّ كمال له مع كونِ الخلائق تَصمُدُ إليه فى حوائجها، أى: تقصِدُه الخليقةُ، وتتوجه إليه، عُلويُّها وسُفليُّها، ونفى الوالد
والولد، والكُفْءِ عنه المتضمن لنفى الأصل، والفرع والنظير، والمماثل مما اختصَّت به وصارت تعدِلُ ثُلُثَ القرآن، ففى اسمه "الصمد" إثباتُ كل الكمال، وفى نفى الكُفْءِ التنزيهُ عن الشبيه والمثال. وفى "الأحد" نفىُ كُلِّ شريك لذى الجلال، وهذه الأُصول الثلاثة هى مجامعُ التوحيد.
وفى المعوِّذتين الاستعاذةُ مِن كل مكروه جملةً وتفصيلاً، فإنَّ الاستعاذَة مِن شَرِّ ما خلق تَعُمُّ كُلَّ شَرٍّ يُستعاذ منه، سواء أكان فى الأجسام أو الأرواح، والاستعاذَةَ مِن شَرِّ الغاسق وهو اللَّيل، وآيتِهِ وهو القمر إذا غاب، تتضمن الاستعاذةَ مِن شَرِّ ما ينتشِرُ فيه من الأرواح الخبيثة التى كان نورُ النهار يحولُ بينها وبين الانتشار، فلما أظلم الليل عليها وغاب القمرُ، انتشرت وعاثت.
والاستعاذة مِن شَرِّ النفاثات فى العُقد تتضمن الاستعاذة من شَرِّ السواحر وسِحرهن.
والاستعاذة مِن شَرِّ الحاسد تتضمن الاستعاذَة مِن النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها ونظرها.
والسورةُ الثانية: تتضمن الاستعاذة مِن شَرِّ شياطين الإنس والجن، فقد جمعت السورتان الاستعاذة من كُلِّ شَرٍّ، ولهما شأنٌ عظيم فى الاحتراس والتحصن من الشرور قبل وقوعها، ولهذا أوصى النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُقبةَ بن عامر بقراءتهما عَقِبَ كُلِّ صلاةٍ، ذكره الترمذىُّ فى "جامعه" وفى هذا سِرٌ عظيم فى استدفاع الشرورِ من الصلاة إلى الصلاة. وقال: ما تَعَوَّذ المتعوِّذون بمثلهما. وقد ذُكر أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ فى إحدى عشرةَ عُقدة، وأنَّ جبريلَ
نزل عليه بهما، فجعَلَ كُلَّما قرأ آية منهما انحلَّتْ عُقدة، حتى انحلَّتْ العُقَد كُلُّها، وكأنما أُنْشِطَ من عِقَال.
وأما العلاج الطبيعى فيه، فإنَّ فى المِلح نفعاً لكثير من السُّموم، ولا سِيَّما لدغة العقرب، قال صاحب "القانون": يُضمَّد به مع بذر الكتان للسع العقرب، وذكره غيرُه أيضاً. وفى المِلح من القوة الجاذبة المحلِّلة ما يَجذِبُ السُّموم ويُحللها، ولَمَّا كان فى لسعها قوةٌ نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج جمع بين الماءِ المبرد لنار اللَّسعة، والمِلح الذى فيه جذبٌ وإخراج، وهذا أتم ما يكون من العلاج وأيسره وأسهله، وفيه تنبيه على أنَّ علاج هذا الداء بالتبريد والجذب والإخراج.. والله أعلم.
وقد روى مسلم فى "صحيحه" عن أبى هُريرة قال: جاء رجلٌ إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله ؛ ما لقيتُ مِنْ عقربٍ لَدَغْتنى البارحةَ فقال: "أما لو قُلْتَ حِينَ أمْسَيْتَ: أعُوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ،
لم تَضُرَّك".
واعلم أنَّ الأدوية الطبيعية الإلهية تنفعُ مِن الداء بعد حصوله، وتمنَعُ من وقوعه، وإن وقع لم يقع وقوعاً مضراً، وإن كان مؤذياً، والأدوية الطبيعية إنما تنفعُ، بعد حصول الداء، فالتعوُّذاتُ والأذكار، إما أن تمنعَ وقوعَ هذه الأسباب، وإما أن تحولَ بينها وبين كمالِ تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه، فالرُّقَى والعُوَذ تُسْتَعمل لحفظ الصحة، ولإزالة المرض، أما الأول: فكما فى "الصحيحين" من حديث عائشة كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أوى إلى فراشِهِ نَفَثَ فى كَفَّيْهِ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} و
المُعَوِّذَتَيْن. ثم يمسحُ بهما وجهه، وما بلغت يدُه من جسده".
وكما فى حديث عُوذة أبى الدرداء المرفوع: "اللهُمَّ أنت رَبِّى لا إله إلا أنت عليكَ تَوَكَّلْتُ وأنتَ رَبُّ العَرْشِ العظيم"، وقد تقدَّم وفيه: "مَن قالها أوَّل نهارِهِ لم تُصِبْهُ مُصيبة حتى يُمسى، ومَن قالها آخر نهارِهِ لم تُصِبْه مُصيبةٌ حتى يُصْبِح".
وكما فى "الصحيحين": "مَن قَرَأَ الآيَتَيْن مِن آخرِ سُورةِ البقرةِ فى لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ".
وكما فى "صحيح مسلم" عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن نَزَلَ مَنْزِلاً فقال: أَعُوذُ بكلمات ِاللهِ التَّامَّاتِ مِن شرَِّ ما خَلَقَ، لم يَضُرَّهُ شَىءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِن مَنْزِلهِ ذلِكَ".
وكما فى "سنن أبى داود" أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فى السفر يقول باللَّيل :"يا أرضُ ؛ رَبِّى ورَبُّكِ اللهُ، أَعُوذُ باللهِ مِن شَرِّكِ وشَرِّ ما فِيكِ، وشَرِّ ما يَدُبُّ عليكِ، أعوذُ باللهِ مِن أسَدٍ وأسْوَدٍ، ومِن الحَيَّةِ والعقربِ، ومِن ساكنِ البَلَدِ، ومن والدٍ وما وَلَدَ".
وأما الثانى: فكما تقدَّم من الرُّقية بالفاتحة، والرُّقية للعقرب وغيرها مما يأتى.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رُقْيَة النَّمْلَة
قد تقدَّم من حديث أنس الذى فى "صحيح مسلم" أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "رخَّص فى الرُّقْيَةِ مِنَ الحُمَةِ والعَيْنِ والنَّمْلَةِ".
وفى "سنن أبى داود" عن الشِّفَاء بنت عبد الله، قالت: دخل علىَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا عِند حَفْصَة، فقال: "ألا تُعَلِّمينَ هذه رُقية النَّمْلةِ كما عَلَّمْتِيها الكتابةَ".
النَّمْلَة: قُروح تخرج فى الجنبين، وهو داء معروف، وسُمِّى نملةً، لأن صاحِبَه يُحس فى مكانه كأنَّ نملة تَدِبُّ عليه وَتعضُّه، وأصنافها ثلاثة، قال ابن قتيبة وغيرُه: كان المجوسُ يزعمون أنَّ ولد الرجل من أُخته إذا خُطَّ على النَّملَةِ، شُفِىَ صاحبها، ومنه قول الشاعر:
وَلاَ عَيْبَ فِينَا غَيْرَ عُرْفٍ لِمَعْشَرٍ ... كِرامٍ وَأَنَّا لاَ نَخُطُّ عَلَى النَّمْلِ
وروى الخَلاَّل: أنَّ الشِّفَاء بنتَ عبد الله كانت تَرقى فى الجاهلية من النَّمْلَة، فلمَّا هاجرت إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانت قد بايعته بمكة، قالت: يا رسول الله ؛ إنِّى كنت أرقى فى الجاهلية من النَّمْلَة، وإنى أُريدُ أن أعْرِضَهَا عليكَ، فعرضت عليه فقالت: بسم اللهِ ضَلَّت حتى تعود مِن أفواهها،
ولا تَضُرُّ أحداً، اللهُمَّ اكشف البأسَ ربَّ الناسِ، قال: ترقى بِهَا عَلَى عُودٍ سبعَ مَرات، وتقصِدُ مَكاناً نظيفاً، وَتَدْلُكُهُ على حجر بخَلِّ خَمرٍ حاذق، وتَطْلِيه على النَّمْلَةِ. وفى الحديث: دليلٌ على جواز تعليم النساء الكتابة.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رُقْيَة الحَيَّة
قد تقدَّم قوله: "لا رُقْيَةَ إلا فى عَيْنٍ، أو حُمَةٍ"، الحُمَة: بضم الحاء وفتح الميم وتخفيفها.
وفِى "سنن ابن ماجه" من حديث عائشة: "رخَّص رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الرُّقْيَة من الحيَّةِ والعقرب".
ويُذكر عن ابن شهاب الزُّهْرى، قال: لَدَغَ بعض أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَّةٌ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "هَلْ مِن رَاقٍ" ؟ فقالوا: يا رسول الله ؛ إن آل حزم كانوا يَرْقُون رُقيةَ الحَيَّةِ، فلما نَهَيْتَ عن الرُّقَى تركوها، فقال: "ادْعُو عُمارة بن حزم" فدعوه، فعرضَ عليه رُقاه، فقال: "لا بأسَ بها" فأذن له فيها فرقاه.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رُقْيَة القَرْحة والجُرْح
أخرجا فى "الصحيحين" عن عائشة قالت: "كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اشتكى الإنسانُ أو كانت به قَرحةٌ أو جُرحٌ، قال بأصبعه: هكذا ووضع سفيانُ سبَّابَتَهُ بالأرض، ثم رفعها وقال: "بسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أرضِنا بِرِيقَةِ بعضِنا، يُشْفَى سَقِيمُنا بإذنِ رَبِّنا".
هذا من العلاج الميسر النافع المركَّب، وهى معالجة لطيفة يُعالج بها القُروحُ والجِراحات الطرية، لا سِيَّما عند عدم غيرِها من الأدوية إذ كانت موجودة بكل أرض، وقد عُلِمَ أنَّ طبيعة التراب الخالص باردةٌ يابسة مجفِّفةٌ لرطوبات القروح والجراحات التى تمنع الطبيعةُ من جودة فعلها، وسرعةِ اندمالها، لا سِيَّما فى البلاد الحارَّة، وأصحاب الأمزجة الحارَّة، فإنَّ القُروح والجِراحات يتبعُها فى أكثر الأمر سوءُ مزاجٍ حارٍ، فيجتمِعُ حرارة البلد والمزاجُ والجِراحُ، وطبيعةُ التراب الخالص باردة يابسة أشدُّ مِن برودة جميع الأدوية المفردة الباردة، فتُقَابِلُ برودةُ الترابِ حرارةَ المرض، لا سِيَّما إن كان الترابُ قد غُسِلَ وجُفِّفَ، ويتبعها أيضاً كثرةُ الرطوبات الرديئة، والسيلان، والتُّراب مُجَفِفٌ لها، مُزِيلٌ لشدة يبسه وتجفيفه للرطوبة الرديئة المانعة من برئها، ويحصل به مع ذلك تعديلُ مزاج العضو العليل، ومتى اعتدل مزاج العضو قويت قواه المدبرة، ودفعت عنه الألم بإذن الله.
ومعنى الحديث: أنه يأخذ مِن ريق نفسه على أصبعه السبابة، ثم يضعها على التراب، فيعلَق بها منه شىء، فيمسح به على الجُرح، ويقول هذا الكلام لما فيه من بركة ذكر اسم الله، وتفويض الأمر إليه، والتوكل عليه، فينضَمُّ أحدُ العلاجين إلى الآخر، فَيقْوَى التأثير.
وهل المراد بقوله: "تُرْبَةُ أَرضِنا" جميع الأرض أو أرضُ المدينة خاصة ؟ فيه قولان، ولا ريبَ أنَّ مِن التُربة ما تكون فيه خاصية ينفع بخاصيته من أدواءٍ كثيرة، ويشفى بها أسقاماً رديئة.
قال "جالينوس": رأيتُ بالإسكندرية مَطحُولين، ومُستسقين كثيراً، يستعملون طين مصر، ويطلُون به على سُوقهم، وأفخاذهم، وسواعدهم، وظهورهم، وأضلاعهم، فينتفعون به منفعة بَيِّنة. قال: وعلى هذا النحو فقد ينفع هذا الطلاء للأورام العفنة والمترهِّلة الرخوة، قال: وإنِّى لأعرفُ قوماً ترهَّلَت أبدانُهم كُلُّها من كثرة استفراغ الدم من أسفل، انتفعوا بهذا الطين نفعاً بَيِّناً، وقوماً آخرين شَفَوْا به أوجاعاً مزمنة كانت متمكنة فى بعض الأعضاء تمكناً شديداً، فبرأت وذهبت أصلاً.
وقال صاحب "الكتاب المسيحى": قُوَّة الطين المجلوب من "كنوس" وهى جزيرة المصطكى قوة تجلو وتغسل، وتُنبت اللحمَ فى القروح، وتختم القُروح.. انتهى.
وإذا كان هذا فى هذه التُرْبات، فما الظنُّ بأطيبِ تُربة على وجه الأرض وأبركها، وقد خالطت ريقَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقارنت رُقيته باسم ربه، وتفويض الأمر إليه، وقد تقدم أن قُوَى الرُّقْيَة وتأثيرَها بحسب الراقى، وانفعال المرقى عن رُقْيَته، وهذا أمر لا يُنكره طبيب فاضل عاقل مسلم، فإن انتفى أحد الأوصاف، فليقل ما شاء.
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في علاج الوجع بالرقية
روى مسلم في "صحيحه" عن عثمان بن أبي العاص، "أنه شكى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ضع يَدَكَ عَلَى الَّذي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ وقُل: بِسْمِ الله ثلاثاً، وقُلْ سبع مرات: أعوذُ بِعِزَّةِ الله وقُدرَتهِ منْ شَرِّ مِا أجدُ وأُحاَذِر" ففي هذا العلاج من ذكر الله، والتفويض إليه، والاستعاذة بعزته وقدرته من شر الألم ما يَذهب به، وتكراره ليكونَ أنجعَ وأبلغ، كتكرار الدواء لإخراج المادة، وفي السبع خاصية لا توجد في غيرها، وفي "الصحيحين": أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "كان يعوِّذُ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى، ويقول: "اللهمَّ رَبَّ الناس، أَذهِب الباَسَ، واشفِ أنت الشّافي، لا شِفَاء إلا شفاؤُك، شفاءً لا يغادرُ سَقَماً". ففي هذه الرُقية توسل إلى الله بكمال زبوبيته، وكما رحمته بالشفاء، وأنه وحده الشافي، وأنه لا شفاء إلا شِفاؤُه، فتضمنت التوسل إليه بتوحيده وإحسانه وربوبيته.
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في علاج حر المصيبة وحزنها
قال تعالى: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }[البقرة: 155] . وفي "المسند" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ما من أَحَدٍ تصيبُه مصِيبَةٌ فيقولُ: إنَّا لله وإنَّا إليه رَاجِعُونَ، اللهم أجرنِي في مُصيبَتى وأخلفْ لي خيراً منهَا، إلا أجاَرَه الله في مصِيبَتِهِ، وأخلفَ لهُ خَيراً منها".
وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب، وأنفعه له في عاجلته وآجلته، فأنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته.
أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة، وقد جعله عند العبد عارية، فإذا أخذه منه، فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير، وأيضا فإنه محفوف بِعَدَمينِ: عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير، وأيضا فإنه ليس الذي أوجده من عدمه، حتى يكون ملكه حقيقةً، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده، ولا يبقى عليه وجوده، فليس له فيه تأثير، ولا ملك حقيقي، وأيضا فإنه متصرف فيه بالأمر تصرف العبد المأمور المنهي، لا تصرف الملاك، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي.
والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولاعشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد وما خُوِّله ونهايته، فكيف يفرح بموجود، أو يأسى على مفقود، ففكره فى مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء، ومن علاجه أن يعلم علم
اليقين أنَّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه. قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنْفُسِكُمْ إلاَّ فِى كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا، إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[الحديد: 22].
ومن علاجه أن ينظر إلى ما أُصيبَ به، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله، أو أفضل منه، وادَّخر له إن صبرَ ورضِىَ ما هو أعظمُ من فوات تِلك المصيبةِ بأضعافٍ مُضاعفة، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هى.
ومن عِلاجه أن يُطفئَ نارَ مصيبته ببرد التأسِّى بأهل المصائب، وليعلم أنه فى كل وادٍ بنو سعد، ولينظر يَمْنةً، فهل يرى إلا مِحنةً ؟ ثم ليعطف يَسْرةً، فهل يرى إلا حسرةً ؟، وأنه لو فتَّش العالَم لم ير فيهم إلا مبتلىً، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأنَّ شرورَ الدنيا أحلامُ نوم أو كظلٍّ زائلٍ، إن أضحكتْ قليلاً، أبكتْ كثيراً، وإن سَرَّتْ يوماً، ساءتْ دهراً، وإن مَتَّعتْ قليلاً، منعت طويلاً، وما ملأت داراً خيرةً إلا ملأتها عَبْرة، ولا سرَّته بيومِ سرور إلا خبأتْ له يومَ شرور.
قال ابن مسعود رضى الله عنه: لكل فرحةٍ تَرْحة، وما مُلِىءَ بيتٌ فرحاً إلا مُلِىءَ تَرحاً.
وقال ابن سيرين: ما كان ضحكٌ قَطٌ إلا كان من بعده بُكاء.
وقالت هند بنت النُّعمان: لقد رأيتُنا ونحن مِن أعزِّ الناس وأشدِّهم مُلكاً، ثم لم تَغِبِ الشمسُ حتى رأيتُنا ونحن أقلُّ الناس، وأنه حقٌ على الله ألا يملأ داراً خَيْرة إلا ملأها عَبرة.
وسألها رجلٌ أن تُحَدِّثه عن أمرها، فقالت: أصبحنا ذا صباح، وما فى العرب أحدٌ إلا يرجونا، ثم أمسينا وما فى العرب أحد إلا يرحمُنا.
وبكت أختها حُرقَةُ بنت النُّعمان يوماً، وهى فى عِزِّها، فقيل لها: ما يُبكيكِ، لعل أحداً آذاك ؟ قالت: لا، ولكن رأيتُ غَضارة فى أهلى، وقلَّما امتلأت دارٌ سروراً إلا امتلأت حُزناً.
قال إسحاق بنُ طلحة: دخلتُ عليها يوماً، فقلتُ لها: كيف رأيتِ عبراتِ الملوك ؟ فقالت: ما نحنُ فيه اليومَ خيرٌ مما كنا فيه الأمس، إنَّا نجِدُ فى الكتب أنه ليس مِن أهل بيت يعيشون فى خيْرة إلا سيُعقَبون بعدها عَبرة، وأنَّ الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بَطَن لهم بيوم يكرهونه، ثم قالت:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا ... إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
فَأُفٍّ لِدُنْيَا لاَ يَدُومُ نَعِيمُهَا ... تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ الجزع لا يردها، بل يُضاعفها، وهو فى الحقيقة من تزايد المرض.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ فوت ثواب الصبر والتسليم، وهو الصلاةُ والرحمة والهداية التى ضمِنَها الله على الصبر والاسترجاع، أعظمُ مِن المصيبة فى الحقيقة.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ الجَزَعَ يُشمت عدوه، ويسوء صديقه، ويُغضب ربه، ويَسرُّ شيطانه، ويُحبط أجره، ويُضعف نفسه، وإذا صبرَ واحتسب أنضى شيطانه، وردَّه خاسئاً، وأرضى ربه، وسرَّ صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه، وعزَّاهم هو قبل أن يُعَزُّوه، فهذا هو الثباتُ والكمال الأعظم، لا لطمُ الخدودِ، وشقُّ الجيوب، والدعاءُ بالوَيْل والثُّبور، والسخَطُ على المقدور.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ ما يُعقبه الصبرُ والاحتساب من اللَّذة والمسرَّة أضعافُ ما كان يحصُل له ببقاء ما أُصيبَ به لو بقى عليه، ويكفيه من ذلك بيتُ الحمد الذى يُبنى له فى الجنَّة على حمده لربه واسترجاعه، فلينظرْ: أىُّ المصيبتين أعظمُ ؟ مصيبةُ العاجلة، أو مصيبةُ فواتِ بيتِ الحمد فى جنَّة الخلد ؟
وفى الترمذى مرفوعاً: "يَوَدُّ ناسٌ يَوْمَ القيامة أنَّ جُلُودَهُم كانت تُقْرَضُ بالمقارِيض فى الدُّنيا لما يَرَوْنَ من ثوابِ أهلِ البلاءِ".
وقال بعضُ السَّلَف: لولا مصائبُ الدنيا لورَدْنا القيامة مفاليس.
ومِن عِلاجها: أن يُرَوِّح قلبه برَوْح رجاء الخَلَفِ من الله، فإنه من كُلِّ شىء عِوَض إلا الله، فما مِنه عِوَضٌ كما قيل:
مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ ... وَمَا مِنَ اللهِ إنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ
ومن عِلاجها: أن يعلم أنَّ حظه من المصيبة ما تُحدثه له، فمن رضى، فله الرِّضى، ومن سخِط، فله السَّخَط، فحظُّك منها ما أحدثته لك، فاختر خيرَ الحظوظ أو شرَّها، فإن أحدثت له سخطاً وكفراً، كُتِب
فى ديوان الهالكين، وإن أحدثت له جزعاً وتفريطاً فى ترك واجب، أو فى فعل مُحَرَّم، كُتِبَ فى ديوان المفرِّطين، وإن أحدثتْ له شكايةً وعدم صبرٍ، كُتِبَ فى ديوان المغبونين، وإن أحدثتْ له اعتراضاً على الله، وقدحاً فى حكمته، فقد قرع باب الزندقة أو ولَجه، وإن أحدثت له صبراً وثباتاً لله، كُتِبَ فى ديوان الصابرين، وإن أحدثت له الرِّضى عن الله، كُتِبَ فى ديوان الراضين، وإن أحدثت له الحمدَ والشكرَ، كُتِبَ فى ديوان الشاكرين، وكان تحتَ لواء الحمد مع الحمَّادين، وإن أحدثت له محبةً واشتياقاً إلى لقاء ربه، كُتِبَ فى ديوان المُحبِّين المخلصين.
وفى "مسند الإمام أحمد" والترمذىِّ، من حديثِ محمود بن لبيد يرفعه: "إنَّ اللهَ إذا أحبَّ قوماً ابتلاهُم، فمَن رَضِىَ فَلَهُ الرِّضى، ومَن سَخِط فَلَهُ السُّخْطُ". زاد أحمد: "ومَن جَزِع فَلَهُ الجَزَعُ".
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنه وإن بلغ فى الجَزَع غايتَه، فآخِرُ أمره إلى صبر الاضطرار، وهو غيرُ محمود ولا مُثاب، قال بعض الحكماء: العاقلُ يفعل فى أوَّل يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومَن لم يصبْر صَبْرَ الكِرَام، سلا سُلُوَّ البهائم
وفى "الصحيح" مرفوعاً: "الصَّبْرُ عند الصَّدْمَةِ الأُولى".
وقال الأشعث بن قيس: إنك إن صبرتَ إيماناً واحتساباً، وإلا سَلَوْتَ سُلُوَّ البهائِم.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ أنفع الأدوية له موافقةُ ربه وإلهه فيما أحبَّه ورضيه له، وأن خاصيَّة المحبة وسِرَّها موافقةُ المحبوب، فمَن ادَّعى محبة محبوب، ثم سَخِطَ مَا يُحِبُّه، وأحبَّ ما يُسخطه، فقد شهد على نفسه بكذبه، وتَمقَّتَ إلى محبوبه.
وقال أبو الدرداء: إنَّ الله إذا قضى قضاءً، أحب أن يُرضَى به.
وكان عِمران بن حصين يقول فى عِلَّته: أحَبُّهُ إلىَّ أحَبُّهُ إليه، وكذلك قال أبو العالية.
وهذا دواءٌ وعِلاجٌ لا يَعمل إلا مع المُحبِّين، ولا يُمكن كُلّ أحد أن يتعالج به.
ومِن عِلاجها: أن يُوازِن بين أعظم اللَّذتين والتمتعين، وأدْوَمِهما: لذَّةِ تمتعه بما أُصيب به، ولَذَّةِ تمتُّعه بثواب الله له، فإن ظهر له الرجحان، فآثر الراجِحَ، فليحمدِ الله على توفيقه، وإن آثر المرجوحَ مِن كل وجه، فليعلم أنَّ مصيبتَه فى عقله وقلبه ودينه أعظمُ مِن مصيبته التى أُصيب بها فى دنياه
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ الذى ابتلاه بها أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ الراحمين، وأنه سبحانه لم يُرسل إليه البلاءَ ليُهلكه به، ولا ليُعذبه به، ولا ليَجْتاحَه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه، وليسمع تضرُّعه وابتهالَه، وليراه طريحاً ببابه، لائذاً بجنابه، مكسورَ القلب بين يديه، رافعاً قصصَ الشكوى إليه.
قال الشيخ عبد القادر: يا بُنَىَّ ؛ إنَّ المصيبةَ ما جاءت لِتُهلِكَكَ، وإنَّما جاءت لتمتحِنَ صبرك وإيمانَك، يا بُنَىَّ ؛ القَدَرُ سَبُعٌ، والسَّبُعُ لا يأكل الميتةَ.
والمقصود: أنَّ المصيبة كِيرُ العبدِ الذى يُسبَك به حاصله، فإما أن
يخرج ذهباً أحمر، وإما أن يخرج خَبَثاً كله، كما قيل:
سَبَكْنَاه ونَحْسِبهُ لُجَيْناً ... فأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ
فإن لم ينفعه هذا الكِيرُ فى الدنيا، فبيْنَ يديه الكِيرُ الأعظم، فإذا علم العبد أنَّ إدخاله كِيرَ الدنيا ومَسبكَها خيرٌ له من ذلك الكِير والمسبك، وأنه لا بد من أحد الكِيرَين، فليعلم قدرَ نعمة الله عليه فى الكِير العاجل.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنه لولا مِحَنُ الدنيا ومصائبُها، لأصاب العبدَ مِن أدْواء الكِبْرِ والعُجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سببُ هلاكه عاجلاً وآجلاً، فمن رحمةِ أرحم الراحمين أن يتفقَّده فى الأحيان بأنواع من أدوية المصائب، تكون حِمية له من هذه الأدواء، وحِفظاً لصحة عُبوديتهِ، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه، فسبحانَ مَن يرحمُ ببلائه، ويبتلى بنعمائه كما قيل:
قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بِالْبَلْوَى وَإنْ عَظُمَتْ ... وَيَبْتَلِى اللهُ بعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ
فلولا أنه سبحانه يداوى عباده بأدوية المحن والابتلاء، لطَغَوا، وبَغَوْا، وعَتَوْا، واللهُ سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرِغُ به من الأدواء المهلكة، حتى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه، أهَّلَه لأشرفِ مراتب الدنيا، وهى عبوديتُه، وأرفع ثواب الآخرة، وهو رؤيتُه وقُربه ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ مرارةَ الدنيا هى بعينها حلاوةُ الآخرة، يَقلِبُها الله سبحانه كذلك، وحلاوة الدنيا بعينها مرارةُ الآخرة، ولأَنْ ينتقل مِن مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خيرٌ له من عكس ذلك. فإن خَفِىَ عليك هذا، فانظر إلى قول الصادق المصدوق: "حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكَارهِ،
وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ"
وفى هذا المقام تفاوتت عقولُ الخلائق، وظهرت حقائقُ الرجال، فأكثرُهم آثرَ الحلاوةَ المنقطعة على الحلاوة الدائمة التى لا تزول، ولم يحتمل مرارةَ ساعةٍ لِحلاوة الأبد، ولا ذُلَّ ساعةٍ لِعزِّ الأبد، ولا مِحنةَ ساعةٍ لعافيةِ الأبد، فإنَّ الحاضر عنده شهادةٌ، والمنتظر غيبٌ، والإيمان ضعيفٌ، وسلطانُ الشهوة حاكم، فتوَلَّد من ذلك إيثارُ العاجلة، ورفضُ الآخرة، وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأُمور، وأوائلها ومبادئها، وأما النظر الثاقب الذى يَخرِق حُجُب العاجلة، ويُجاوزه إلى العواقب والغايات، فله شأنٌ آخرُ.
فادع نفسك إلى ما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم، والسعادة الأبدية، والفوز الأكبر، وما أعدَّ لأهل البطالة والإضاعة من الخزى والعقاب والحسرات الدائمة، ثم اخترْ أىُّ القسمَيْن أليقُ بك، وكُلٌ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ، وكُلُّ أحد يصبُو إلى ما يُناسبه، وما هو الأَوْلَى به، ولا تستطِلْ هذا العلاج، فشدةُ الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه، وبالله التوفيق.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج الكرب والهم والغم والحزن
أخرجا فى "الصحيحين" من حديث ابن عباس، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول عند الكَرْب: " لا إلهَ إلا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لا إلهَ
إلا اللهُ ربُّ العرشِ العَظِيمُ، لا إلهَ إلا اللهُ رَبُّ السَّمَواتِ السَّبْع، ورَبُّ الأرْض , رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمُ".
وفى "جامع الترمذىِّ" عن أنس، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "كان إذا حَزَبَهُ أمرٌ، قال : "يا حَىُّ يا قَيُّومُ برحمتِكَ أستغيثُ".
وفيه عن أبى هُريرة: "أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان إذا أهمَّهُ الأَمْرُ، رفع طرفه إلى السماء فقال: "سُبْحَانَ الله العظيمِ"، وإذا اجتهد فى الدعاء قال: "يا حَىُّ يا قَيُّومُ".
وفى "سنن أبى داود"، عن أبى بكر الصِّدِّيق، أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " دَعَواتُ المكروبِ: اللهُمَّ رَحْمَتَكَ أرجُو، فَلا تَكِلْنِى إلى نَفْسى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وأصْلِحْ لى شَأنى كُلَّهُ، لا إله إلا أنْتَ".
وفيها أيضاً عن أسماء بنت عُمَيس قالت: قال لى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا أُعلِّمُكِ كلماتٍ تقوليهِنَّ عِنْدَ الكَرْبِ أو فى الكَرْبِ: "اللهُ رَبِّى
لا أُشْرِكُ به شيئاً". وفى رواية أنها تُقال سبعَ مرات.
وفى "مسند الإمام أحمد" عن ابن مسعود، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما أصابَ عبداً هَمٌ ولا حُزْنٌ فقال: اللهُمَّ إنِّى عَبْدُكَ، ابنُ عَبْدِكَ، ابنُ أمتِكَ، ناصِيَتى بيَدِكَ، مَاضٍ فِىَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌْ فىَّ قضاؤكَ، اسألُكَ بكل اسْمٍ هُوَ لكَ سَمَّيْتَ به نَفْسَكَ، أو أنزلْتَه فِى كِتَابِكَ، أو عَلَّمْتَهُ أحداً من خَلْقِك، أو استأثَرْتَ به فى عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ: أن تَجْعَل القُرْآنَ العظيم رَبيعَ قَلْبِى، ونُورَ صَدْرى، وجِلاءَ حُزنى، وذَهَابَ هَمِّى، إلا أذْهَبَ اللهُ حُزْنَه وهَمَّهُ، وأبْدَلَهُ مكانَهُ فرحاً".
وفى "الترمذىِّ" عن سعد بن أبى وَقَّاص، قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دعوةُ ذى النُّون إذْ دَعَا رَبَّهُ وهو فى بَطْنِ الحُوتِ: {لاَ إلهَ إلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، لَمْ يَدْعُ بها رجلٌ مسلمٌ فى شىءٍ قَطُّ إلا اسْتُجِيبَ له".
وفى رواية: "إنِّى لأعلمُ كِلْمَةً لا يقولُهَا مكْروبٌ إلا فرَّج الله عنه: كَلِمَةَ أخى يُونُس".
وفى "سنن أبى داود" عن أبى سعيد الخدرى، قال: دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يُقالُ له: أبو أُمَامة، فقال: "يا أبا أُمامة ؛ ما لى أرَاكَ فى المسجدِ فى غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاةِ" ؟ فقال: هُمومٌ لَزِمَتْنى، وديونٌ يا رسولَ الله، فقال: "ألا أُعَلِّمُكَ كلاماً إذا أنت قُلْتَهُ أذهبَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ هَمَّكَ وقَضَى دَيْنَكَ" ؟ قال: قلتُ: بلى يا رسول الله، قال: " قُلْ إذا أصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ: اللهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ من الهَمِّ والحَزَنِ، وأعوذُ بِكَ من العَجْزِ والكَسَلِ، وأعوذُ بِكَ من الجُبْنِ والبُخْلِ، وأعُوذُ بِكَ من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَال"، قال: ففعلتُ ذلك، فأذهب الله عَزَّ وجَلَّ هَمِّى، وقَضى عنى دَيْنِى.
وفى "سنن أبى داود"، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن لَزِمَ الاستغفارَ، جَعَلَ اللهُ لَهُ من كلِّ هَمٍّ فَرَجاً، ومِن كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجاً، ورزَقَهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِب"
وفى "المسند": أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا حَزَبَه أمرٌ، فَزِعَ إلى الصَّلاة، وقد قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالْصَّلاَة}
وفى "السنن": "عَلَيْكُم بالجِهَادِ، فإنَّه بابٌ مِن أبوابِ الجَنَّةِ، يدفعُ اللهُ به عن النُّفُوسِ الهَمَّ والغَمَّ".
ويُذكر عن ابن عباس، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن كَثُرَتْ هُمُومُهُ وغُمُومُهُ، فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ".
وثبت فى "الصحيحين": أنها كَنزٌ من كنوز الجَنَّة.
وفى "الترمذى ": أنها بابٌ من أبواب الجَنَّة.
هذه الأدوية تتضمَّن خمسةَ عشرَ نوعاً من الدواء، فإن لم تقو على إذهاب داءِ الهَمِّ والغَمِّ والحزن، فهو داءٌ قد استحكم، وتمكنت أسبابه، ويحتاج إلى استفراغ كُلِّى..
الأول: توحيد الرُّبوبية.
الثانى: توحيد الإلهية.
الثالث: التوحيد العلمى الاعتقادى.
الرابع: تنزيه الرَّب تعالى عن أن يظلم عبده، أو يأخذه بلا سبب من العبد يُوجب ذلك.
الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم.
السادس: التوسُّل إلى الرَّب تعالى بأحبِّ الأشياء، وهو أسماؤه وصفاته، ومن أجمعها لمعانى الأسماء والصفات: الحىُّ القَيُّوم.
السابع: الاستعانة به وحده.
الثامن: إقرار العبد له بالرجاء.
التاسع: تحقيقُ التوكلِ عليه، والتفويضِ إليه، والاعترافُ له بأنَّ ناصيتَه فى يده، يُصرِّفُه كيف يشاء، وأنه ماضٍ فيه حُكمُه، عدلٌ فيه قضاؤه.
العاشر: أن يَرتَعَ قلبُه فى رياض القرآن، ويجعلَه لقلبه كالربيع للحيوان، وأن يَسْتَضِىءَ به فى ظُلُماتِ الشُّبهات والشَّهوات، وأن يَتسلَّى به عن كل فائت، ويَتعزَّى به عن كل مصيبة، ويَستشفِىَ به من أدواء صدره، فيكونُ جِلاءَ حُزْنِه، وشفاءَ همِّه وغَمِّه.
الحادى عشر: الاستغفار.
الثانى عشر: التوبة.
الثالث عشر: الجهاد.
الرابع عشر: الصلاة.
الخامس عشر: البراءة من الحَوْل والقُوَّة وتفويضُهما إلى مَن هُما بيدِه.
فصل: فى بيان جهة تأثير هذه الأدوية فى هذه الأمراض
خلق الله سبحانه ابن آدمَ وأعضاءَه، وجعل لكل عُضو منها كمالاً إذا فقده أحسَّ بالألم، وجعل لِمَلِكها وهو القلب كمالاً، إذا فقده، حضرتْه
أسقامُه وآلامُه من الهموم والغموم والأحزان.
فإذا فقدت العَيْنُ ما خُلِقَتْ له مِن قوة الإبصار، وفقدت الأُذنُ ما خُلِقتْ له مِن قوة السَّمْع، واللِّسَانُ ما خُلِقَ له مِن قُوَّة الكلام، فقدتْ كمالَها
والقلبُ: خُلِقَ لمعرفةِ فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به، والابتهاج بحبه، والرضى عنه، والتوكل عليه، والحب فيه، والبغض فيه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، ودوام ذكره، وأن يكون أحبَّ إليه مِن كل ما سواه، وأرْجَى عنده مِن كل ما سواه، وأجَلَّ فى قلبه مِن كل ما سواه، ولا نعيمَ له ولا سرورَ ولا لذَّةَ، بل ولا حياة إلا بذلك، وهذا له بمنزلة الغِذاء والصحة والحياة، فإذا فَقَدَ غذاءه وصحته وحياته، فالهمومُ والغموم والأحزان مسارعةٌ مِن كل صَوْبٍ إليه، ورهْنٌ مقيم عليه.
ومن أعظم أدوائه: الشِّركُ والذنوبُ والغفلةُ والاستهانةُ بِمَحابِّه ومَراضيه، وتركُ التفويض إليه، وقِلَّةُ الاعتماد عليه، والركونُ إلى ما سواهُ، والسخطُ بمقدوره، والشكُّ فى وعده ووعيده.
وإذا تأملتَ أمراض القلب، وجدتَ هذه الأُمور وأمثالها هى أسبابُها لا سببَ لها سِواها، فدواؤه الذى لا دواءَ له سواه ما تضمنتْهُ هذه العلاجات النبوية من الأُمور المضادة لهذه الأدواء، فإنَّ المرضَ يُزال بالضد، والصِّحةُ تُحفظ بالمِثْل، فصحتُه تُحفظ بهذه الأُمور النبوية، وأمراضُه بأضدادها.
فالتوحيد.. يفتح للعبد بابَ الخير والسرور واللَّذة والفرح والابتهاج، والتوبةُ استفراغٌ للأخلاط والمواد الفاسدة التى هى سببُ أسقامه، وحِميةٌ له من التخليط، فهى تُغْلِق عنه بابَ الشرور، فيُفتَح له بابُ السعادة والخير بالتوحيد، ويُغْلَق باب الشرور بالتوبة والاستغفار.
قال بعض المتقدمين من أئمة الطب: مَن أراد عافية الجسم، فليقلِّلْ
مِن الطعام والشراب، ومَن أراد عافية القلب، فليترُكْ الآثام.
وقال ثابت بن قُرَّةَ: راحةُ الجسم فى قِلَّة الطعام، وراحةُ الرَّوح فى قِلَّة الآثام، وراحةُ اللِّسان فى قِلَّة الكلام.
والذنوبُ للقلب، بمنزلة السُّموم، إن لم تُهلكْه أضعفتْه، ولا بُدَّ، وإذا ضعُفت قوته، لم يقدرْ على مقاومة الأمراض، قال طبيبُ القلوب عبدُ الله ابن المُبارَك:
رَأَيْتُ الذنُوبَ تُمِيتُ الْقُلوبَ ... وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمَانُها
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلوبِ ... وَخَيرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
فالهوى أكبرُ أدوائها، ومخالفتُه أعظمُ أدويتها، والنفس فى الأصل خُلِقَتْ جاهلة ظالمة، فهى لجهلِها تظن شِفاءَها فى اتباع هواها، وإنما فيه تلفُها وعطَبُها، ولظلمِها لا تقبل مِن الطبيب الناصح، بل تضَعُ الداء موضِعَ الدواء فتعتمده، وتضعُ الدواء موضع الداء فتجتنبه، فيتولَّدُ مِن بين إيثارِها للداء، واجتنابِها للدواء أنواعٌ من الأسقام والعِلل التى تُعيِى الأطباء، ويتعذَّرُ معها الشفاء. والمصيبةُ العظمى، أنها تُرَكِّبُ ذلك على القَدَر، فتُبرِّىء نفسَها، وتلومُ ربَّها بلسان الحال دائماً، وَيقوَى اللَّومُ حتى يُصرِّحَ به اللِّسان.
وإذا وصل العليلُ إلى هذه الحال، فلا يُطمَع فى بُرئه إلا أن تتداركه رحمة من ربه، فيُحييه حياةً جديدة، ويرزقُه طريقةً حميدة، فلهذا كان حديث ابن عباس فى دُعاء الكرب مشتملاً على توحيد الإلهية والربوبية، ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم، وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القُدرة والرحمة، والإحسان والتجاوز، ووصفِه بكمال ربوبيته للعالَم العُلوىِّ والسُّفلىِّ، والعرش الذى هو سقفُ المخلوقات وأعظمها. والرُّبوبية
التامة تستلزِمُ توحيدَه، وأنه الذى لا تنبغى العبادةُ والحبُّ والخوفُ والرجاء والإجلال والطاعة إلا له. وعظمتُه المطلقة تستلزمُ إثباتَ كل كمال له، وسلبَ كل نقص وتمثيل عنه. وحِلمُه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه.
فعِلْمُ القلب ومعرفتُه بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيدَه، فيحصل له من الابتهاج واللَّذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم، وأنت تجدُ المريض إذا ورد عليه ما يسرُّهُ ويُفرحه، ويُقوِّى نفسه، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسِّى، فحصولُ هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى.
ثم إذا قابلتَ بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التى تضمَّنها دعاءُ الكرب، وجدته فى غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخروج القلب منه إلى سعَةِ البهجة والسرور، وهذه الأُمورُ إنما يُصدِّق بها مَن أشرقت فيه أنوارُها، وباشر قلبُه حقائقَها.
وفى تأثير قوله: "يا حىُّ يا قَيُّومُ، برحمتِك أستغيثُ" فى دفع هذا الداء مناسبة بديعة، فإنَّ صفة الحياة متضمِّنةٌ لجميع صفات الكمال، مستلزمة لها، وصفة القَيُّومية متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا كان اسمُ الله الأعظمُ الذى إذا دُعىَ به أجاب، وإذا سُئِلَ به أعطى: هو اسمُ الحَىّ القَيُّوم، والحياة التامة تُضاد جميعَ الأسقام والآلام، ولهذا لَمَّا كَمُلَتْ حياة أهل الجَنَّة لم يلحقهم هَمٌ ولا غَمٌ ولا حَزَنٌ ولا شىء من الآفات. ونقصانُ الحياة تضر بالأفعال، وتنافى القيومية، فكمالُ القيومية لكمال الحياة، فالحىُّ المطلق التام الحياة لا يفوتُه صِفة الكمال ألبتة، والقَيُّوم لا يتعذَّرُ عليه فعلٌ ممكنٌ ألبتة، فالتوسل بصفة الحياة والقَيُّومية
له تأثيرٌ فى إزالة ما يُضادُّ الحياة، ويضُرُّ بالأفعال.
ونظير هذا توسلُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ربه بربوبيته لجبريلَ ومِيكائيلَ وإسرافيلَ أن يَهدِيَه لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنه، فإنَّ حياة القلب بالهداية، وقد وكَّل الله سبحانه هؤلاء الأملاك الثلاثة بالحياة، فجبريلُ موَّكلٌ بالوحى الذى هو حياةُ القلوب، وميكائيل بالقَطْر الذى هو حياةُ الأبدان والحيوان، وإسرافيل بالنَّفْخ فى الصُّور الذى هو سببُ حياةِ العالَم وعَودِ الأرواح إلى أجسادها، فالتوسل إليه سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة، له تأثير فى حصول المطلوب.
والمقصود: أن لاسم الحىّ القَيُّوم تأثيراً خاصاً فى إجابة الدعوات، وكشف الكُربات.
وفى "السنن" و"صحيح أبى حاتم" مرفوعاً: "اسمُ اللهِ الأعْظَم فى هاتَيْنِ الآيتين: {وَإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ، لا إلهَ إلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]، وفاتحةِ آلِ عمران: {آلم اللهُ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ}[آل عمران: 1-2] ، قال الترمذىُّ: حديث صحيح
وفى "السنن" و"صحيح ابن حِبَّان" أيضاً: من حديث أنس أنَّ رجلاً دعا، فقال: اللهُمَّ إنِّى أسألُكَ بأنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لا إلَهَ إلا أنتَ المنَّانُ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ، يا ذا الجلال والإكرام، يا حىُّ يا قَيُّومُ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لقد دَعَا اللهَ باسمِهِ الأعْظَم الذى إذا دُعِىَ به أجابَ، وإذا سُئِلَ به أعْطَى".
ولهذا كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اجتهد فى الدعاء، قال: "يَا حىُّ يا قَيُّومُ".
وفى قوله: "اللهُمَّ رَحْمَتَكَ أرْجُو، فلا تَكِلْنى إلى نفسى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وأصْلِحْ لى شأنى كُلَّهُ لا إلهَ إلاَّ أنتَ" من تحقيق الرجاء لمن الخيرُ كُلُّهُ بيديه والاعتمادُ عليه وحده، وتفويضُ الأمر إليه، والتضرع إليه، أن يتولَّى إصلاح شأنه، ولا يَكِلَه إلى نفسه، والتوسُّل إليه بتوحيده مما له تأثيرٌ قوى فى دفع هذا الداء، وكذلك قوله: "اللهُ ربِّى لا أُشْرِكُ بِه شَيْئاً".
وأما حديث ابن مسعود: "اللهُمَّ إنِّى عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ"، ففيه من المعارف الإلهية، وأسرارِ العبودية ما لا يتَّسِعُ له كتاب، فإنه يتضمَّن الاعترافَ بعبوديته وعبودية آبائه وأُمهاته، وأنَّ ناصيته بيده يُصرِّفها كيف يشاء، فلا يملِك ُ العبدُ دونه لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً، ولا نُشوراً، لأنَّ مَن ناصيتُه بيد غيره، فليس إليه شىءٌ من أمره، بل هو عانٍ فى قبضته، ذليل تحت سلطان قهرِه.
وقوله: "ماضٍ فىَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِىَّ قضاؤكَ" متضمنٌ لأصلين عظيمين عليهما مدارُ التوحيد.
أحدهما: إثباتُ القَدَر، وأنَّ أحكام الرَّبِّ تعالى نافذةٌ فى عبده ماضيةٌ فيه، لا انفكاكَ له عنها، ولا حِيلةَ له فى دفعها.
والثانى: أنه سبحانه عدلٌ فى هذه الأحكام، غير ظالم لعبده،
بل لا يخرُج فيها عن موجب العدل والإحسان، فإنَّ الظلم سببه حاجةُ الظالم، أو جهلُه،أو سفهُه، فيستحيلُ صدورهُ ممن هو بكل شىء عليمٌ، ومَن هو غنىٌ عن كل شىء، وكلُّ شىء فقيرٌ إليه، ومَنْ هو أحكم الحاكمين، فلا تخرُج ذَرَّةٌ مِن مقدوراته عن حِكمته وحمده، كما لم تخرج عن قُدرته ومشيئته، فحِكمته نافذة حيثُ نفذتْ مشيئته وقُدرته، ولهذا قال نبىُّ الله هودٌ صَلَّى الله على نبينا وعليه وسَلَّم، وقد خَوَّفه قومُه بآلهتهم:{ إنِّى أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ *مِن دُونِهِ، فَكِيدُونِى جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إنِّى تَوَكَّلْتُ علَى اللهِ رَبِّى وَرَبِّكُم * مَّا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[هود: 54-57] ، أى مع كونه سبحانه آخذاً بنَواصى خلقه وتصريفهم كما يشاء، فهو على صراطٍ مستقيمٍ لا يتصرَّفُ فيهم إلا بالعدل والحكمة، والإحسان والرحمة. فقوله: "ماضٍ فىَّ حُكْمُكَ"، مطابقٌ لقوله: {مَا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} ، وقولُه: "عَدْلٌ فِىَّ قضاؤكَ"، مطابقٌ لقوله:
{إنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 57] ، ثم توسَّلَ إلى رّبِّه بأسمائه التى سمَّى بها نفسه ما عَلِمَ العبادُ منها وما لم يعلموا. ومنها: ما استأثره فى علم الغيب عنده، فلم يُطلع عليه مَلَكاً مُقرَّباً، ولا نبيّاً مرسلاً، وهذه الوسيلةُ أعظمُ الوسائل، وأحبُّها إلى الله، وأقربُها تحصيلاً للمطلوب.
ثم سأله أن يجعلَ القرآن لِقلبه كالربيع الذى يرتَع فيه الحيوانُ، وكذلك القرآنُ ربيعُ القلوب، وأن يجعلَه شفاءَ هَمِّه وغَمِّه، فيكونُ له بمنزلة الدواء الذى يستأصِلُ الداء، ويُعيدُ البدن إلى صحته واعتداله، وأن يجعله لحُزنه كالجِلاء الذى يجلو الطُّبوعَ والأصديةَ وغيرها، فأحْرَى بهذا العلاج إذا صدق العليل فى استعماله أن يُزيلَ عنه داءه، ويُعقبه شفاءً تاماً، وصحةً وعافيةً.. والله الموفق.
وأما دعوةُ ذى النون.. فإنَّ فيها من كمال التوحيد والتنزيه للربِّ تعالى، واعترافِ العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدويةِ الكَربِ والهَمِّ والغَمِّ، وأبلغِ الوسائل إلى الله سبحانه فى قضاء الحوائج، فإنَّ التوحيدَ والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال للهِ، وسلبَ كُلِّ نقصٍ وعيب وتمثيل عنه. والاعترافُ بالظلم يتضمَّن إيمانَ العبد بالشرع والثواب والعقاب، ويُوجب انكسارَه ورجوعَه إلى الله، واستقالته عثرتَه، والاعترافَ بعبوديته، وافتقاره إلى ربه، فههنا أربعةُ أُمور قد وقع التوسلُ بها: التوحيد، والتنزيه، والعبودية، والاعتراف.
وأما حديث أبى أمامة: "اللهُمَّ إنِّى أعوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ"، فقد تضمَّن الاستعاذة من ثمانية أشياء، كُلُّ اثنين منها قَرينان مزدوجان، فالهمُّ والحَزَنُ أَخوان، والعجزُ والكسلُ أخوان، والجُبنُ والبُخلُ أَخوان، وضَلَعُ الدَّيْن وغلبةُ الرجال أخوان، فإنَّ المكروه المؤلم إذا ورد على القلب، فإما أن يكون سببهُ أمراً ماضياً، فيُوجب له الحزن، وإن كان أمراً متوقعاً فى المستقبل، أوجب الهم، وتخلفُ العبد عن مصالحه وتفويتها عليه، إما أن يكون مِن عدم القُدرة وهو العجز، أو من عدم الإرادة وهو الكسل، وحبسُ خيره ونفعه عن نفسه وعن بنى جنسه، إما أن يكونَ منعَ نفعه ببدنه، فهو الجُبن، أو بماله، فهو البخل، وقهرُ النَّاس له إما بحق، فهو ضَلَعُ الدَّيْن، أو بباطل فهو غَلبَةُ الرِّجال، فقد تضمَّن الحديثُ الاستعاذة من كل شَرٍّ.
وأما تأثيرُ الاستغفار فى دفع الهَّمِّ والغَمِّ والضِّيق، فلِمَا اشترَكَ فى العلم به أهلُ الملل وعقلاءُ كُلِّ أُمة أنَّ المعاصىَ والفسادَ تُوجب الهَمَّ والغَمَّ، والخوفَ والحُزن، وضيقَ الصدر، وأمراض القلب، حتى إنَّ أهلها إذا قضَوْا منها أوطارَهم، وسئمتها نفوسُهم، ارتكبوها دفعاً لما
يَجِدُونه فى صدورهم من الضيق والهَمِّ والغَمِّ، كما قال شيخُ الفسوق:
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ ... وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام فى القلوب، فلا دواءَ لها إلا التوبةُ والاستغفار
وأما الصَّلاةُ.. فشأنها فى تفريح القلب وتقويته، وشرحِه وابتهاجه ولذَّته أكبرُ شأن، وفيها من اتصالِ القلب والروح بالله، وقربه والتنعم بذكره، والابتهاجِ بمناجاته، والوقوفِ بين يديه، واستعمالِ جميع البدن وقُواه وآلاته فى عبوديته، وإعطاء كل عضو حظَّه منها، واشتغالهِ عن التعلُّق بالخلق وملابستهم ومحاوراتهم، وانجذابِ قُوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره، وراحتِه من عدوِّه حالةَ الصلاة ما صارت به من أكبر الأدوية والمفرِّحات والأغذية التى لا تُلائم إلا القلوبَ الصحيحة. وأمَّا القلوبُ العليلة، فهى كالأبدان لا تُناسبها إلا الأغذية الفاضلة.
فالصلاةُ من أكبر العَوْن على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة، وهى منهاةٌ عن الإثم، ودافعةٌ لأدواء القلوب، ومَطْرَدَةٌ للداءِ عن الجسد، ومُنوِّرةٌ للقلب، ومُبيِّضَةٌ للوجه، ومُنشِّطةٌ للجوارح والنفس، وجالِبةٌ للرزق، ودافعةٌ للظلم، وناصِرةٌ للمظلوم، وقامِعةٌ لأخلاط الشهوات، وحافِظةٌ للنعمة، ودافِعةٌ للنِّقمة، ومُنزِلةٌ للرحمة، وكاشِفة للغُمَّة، ونافِعةٌ من كثير من أوجاع البطن.
وقد روى ابن ماجه فى "سننه" من حديث مجاهد، عن أبى هريرة قال: رآنى رسولُ
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا نائم أشكو مِن وجع بطنى، فقال لى: "يا أبا هُرَيْرَة ؛ أشِكَمَتْ دَرْدْ" ؟ قال: قلتُ: نعم يا رسولَ الله، قال: "قُمْ فَصَلِّ، فإنَّ فى الصَّلاةِ شِفَاءً".
وقد رُوى هذا الحديثُ موقوفاً على أبى هُرَيرةَ، وأنه هو الذى قال ذلك لمجاهد، وهو أشبهُ. ومعنى هذه اللفظةِ بالفارسى: أيوجعُكَ بطنُكَ ؟
فإن لم ينشرح صدرُ زنديق الأطباء بهذا العلاج، فيُخاطَبُ بصناعة الطب، ويقالُ له: الصلاةُ رياضة النفس والبدن جميعاً، إذ كانت تشتمِلُ على حركات وأوضاع مختلفة مِن الانتصاب، والركوع، والسجود، والتورُّك، والانتقالات وغيرها من الأوضاع التى يتحرَّك معها أكثرُ المفاصل، وينغمِزُ معها أكثرُ الأعضاء الباطنة، كالمَعِدَة، والأمعاء، وسائر آلات النَّفَس، والغذاء، فما يُنكر أن يكونَ فى هذه الحركات تقويةٌ وتحليلٌ للمواد، ولا سِيَّما بواسطة قوةِ النفس وانشراحِها فى الصلاة، فتقوى الطبيعة، فيندفع الألم.
ولكن داء الزندقةِ والإعراض عما جاءت به الرُّسلُ، والتَّعوُّضِ عنه بالإلحاد داءٌ ليس له دواء إلا نارٌ تَلَظَّى لاَ يَصْلاَهَا إلاَّ الأشْقَى الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى
وأمَّا تأثيرُ الجهادِ فى دفع الهم والغم، فأمرٌ معلوم بالوجدان، فإنَّ النفس متى تركتْ صائِلَ الباطل وصَوْلته واستيلاءَه، اشتد همُّها وغمُّها، وكربُها وخوفها، فإذا جاهدته لله أبدل الله ذلك الهمَّ والحُزْنَ فرحاً ونشاطاً وقوةً، كما قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}[التوبة: 14-15]، فلا شىءَ أذهبُ لجوَى القلب وغَمِّه وهَمِّه وحُزنه من الجهاد..
والله المستعان.
وأمَّا تأثيرُ "لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله" فى دفع هذا الداءِ، فلِما فيها من كمالِ التفويضِ، والتبرِّى من الحَوْل والقُوَّة إلا به، وتسليمِ الأمر كله له، وعدمِ منازعته فى شىء منه، وعموم ذلك لكلِّ تحوُّلٍ من حَال إلى حال فى العالَم العُلوىِّ والسُّفلىِّ، والقوةِ على ذلك التحول، وأنَّ ذلك كُلَّه باللهِ وحدَه، فلا يقوم لهذه الكلمة شىء.
وفى بعض الآثار: إنه ما ينزِلُ مَلَكٌ من السماء، ولا يَصعَدُ إليها إلا ب "لاَ حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بالله"، ولها تأثيرٌ عجيب فى طرد الشيطان.. والله المستعان.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاجِ الفَزَع، والأرَقِ المانِع من النوم
روى الترمذىُّ فى "جامعه" عن بُريدةَ قال: شكى خالدٌ إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله ؛ ما أنام الليل مِن الأرَقِ، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إذا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فَقُلْ: اللهُمَّ رَبَّ السَّمَواتِ السَّبْع وَمَا أظَلَّتْ، ورَبَّ الأرَضِينَ، وَمَا أَقَلَّتْ، وربَّ الشَّيَاطينِ وما أضَلَّتْ، كُنْ لَى جاراً مِنْ شَرِّ خَلْقِكَ كُلِّهِمْ جميعاً أنْ يَفْرُطَ علىَّ أحدٌ مِنْهُمْ، أَوْ يَبْغىَ عَلَىَّ، عَزَّ جَارُك، وجَلَّ ثَنَاؤُكَ، ولا إلهَ غَيْرُك".
وفيه أيضاً: عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده أنَّ رسولَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يُعَلِّمُهم مِنَ الفَزَعِ: " أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التامَّةِ مِنْ غَضِبهِ، وعِقَابِهِ، وَشرِّ عِبَادِه، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وأعُوذُ بِكَ رَبِّ أنْ يَحضُرُونِ" ، قال: وكان عبد الله بن عَمْرو يُعَلِّمُهنَّ مَن عَقَلَ من بنيه، ومَن لم يَعْقِلْ كتبه، فأعلقه عليه، ولا يخفى مناسبةُ هذه العُوذَةِ لعلاج هذا الداءِ.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج داء الحريق وإطفائه
يُذكر عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا رَأيتُمُ الحَرِيقَ فَكَبِّروا، فإنَّ التكبيرَ يُطفِئُهُ".
لما كان الحريقُ سببهُ النارُ، وهى مادةُ الشيطان التى خُلِقَ منها، وكان فيه من الفساد العام ما يُنَاسب الشيطان بمادته وفعلِه، كان للشيطان إعانةٌ عليه، وتنفيذ له، وكانت النارُ تطلبُ بطبعها العلوَ والفسادَ، وهذان الأمران وهما العلوُّ فى الأرض والفسادُ هما هَدْىُ الشيطان، وإليهما يدعو، وبهما يُهلِكُ بنى آدم، فالنار والشيطان كل منهما يُريد العلو فى الأرض والفسادَ، وكبرياءُ الرب عَزَّ وجَلَّ تَقمَعُ الشيطانَ وفِعلَهُ. ولهذا كان تكبيرُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ له أثرٌ فى إطفاء الحريق، فإنَّ
كبرياء الله عَزَّ وجَلَّ لا يقوم لها شىء، فإذا كبَّر المسلمُ ربَّه، أثَّر تكبيرُه فى خمودِ النار وخمودِ الشيطان التى هى مادته، فيُطفىءُ الحريقَ، وقد جرَّبنا نحن وغيرُنا هذا، فوجدناه كذلك.. والله أعلم.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حفظ الصحة
لما كان اعتدالُ البدن وصحته وبقاؤه إنما هو بواسطة الرطوبة المقاوِمةِ للحرارة، فالرطوبة مادته، والحرارةُ تُنضِجُهَا، وتدفع فضلاتِها، وتُصلحها، وتلطفها، وإلا أفسدتْ البدن ولم يمكن قيامُه، وكذلك الرطوبةُ هى غِذاءُ الحرارة، فلولا الرطُوبة، لأحرقتْ البدن وأيبَسَتْه وأفسدته، فقِوامُ كُلِّ واحدة منهما بصاحبتها، وقِوام البدنِ بهما جميعاً، وكُلٌ منهما مادة للأُخرى، فالحرارة مادة للرطوبة تحفظها وتمنعها من الفساد والاستحالة، والرطوبة مادة للحرارة تغذُوها وتحمِلُها، ومتى مالتْ إحداهما إلى الزيادة على الأُخرى، حصل لمزاج البدن الانحرافُ بحسب ذلك، فالحرارةُ دائماً تُحَلِّلُ الرطوبة، فيحتاجُ البدن إلى ما به يُخلَف عليه ما حلَّلتْه الحرارة لضرورة بقائهِ وهو الطعامُ والشرابُ، ومتى زاد على مقدار التحللِ، ضعُفتِ الحرارةُ عن تحليل فضلاته، فاستحالتْ موادَّ رديئة، فعاثتْ فى البدن، وأفسدتْ، فحصلت الأمراضُ المتنوعة بحسب تنوُّع موادِّها، وقبولِ الأعضاء واستعدادِها، وهذا كُلُّه مستفَادٌ من قوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} [الأعراف: 31]، فأرشدَ عِباده إلى إدخالِ ما يُقِيمُ البدنَ من الطعام والشراب عِوَضَ ما تحلَّل منه، وأن يكون بقدر ما ينتفعُ به البدنُ فى الكمِّية والكيفية، فمتى جاوز ذلك كان إسرافاً، وكلاهما
مانعٌ من الصحة جالبٌ للمرض، أعنى عدم الأكل والشرب، أو الإسراف فيه.
فحفظ الصحة كله فى هاتين الكلمتين الإلهيتين، ولا ريب أنَّ البدن دائماً فى التحلل والاستخلاف، وكُلَّما كثر التحلُّل ضعفت الحرارة لفناء مادتها، فإنَّ كثرةَ التحلل تُفنى الرطوبة، وهى مادة الحرارة، وإذا ضعفت الحرارة، ضعفَ الهضم، ولا يزال كذلك حتى تَفنى الرطوبةُ، وتنطفئ الحرارة جملةً، فيستكملُ العبدُ الأجلَ الذى كتب اللهُ له أن يَصِلَ إليه.فغايةُ علاج الإنسان لنفسه ولغيره حراسةُ البدن إلى أن يصل إلى هذه الحالة، لا أنه يستلزمُ بقاءَ الحرارة والرطوبة اللَّتين بقاءُ الشباب والصحة والقوَّة بهما، فإنَّ هذا مما لم يحصُلْ لبَشَر فى هذه الدار، وإنما غايةُ الطبيب أن يحمىَ الرطوبةَ عن مفسداتها من العفونة وغيرها، ويحمىَ الحرارة عن مُضعِفاتها، ويعدل بينهما بالعدل فى التدبير الذى به قام بدنُ الإنسان، كما أنَّ به قامت السمواتُ والأرضُ وسائرُ المخلوقات، إنما قوامُها بالعدل
ومَن تأمَّل هَدْىَ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجده أفضلَ هَدْى يُمكن حِفظُ الصِّحة به، فإنَّ حفظها موقوفٌ على حُسن تدبير المطعم والمشرب، والملبس والمسكن، والهواء والنوم، واليقظة والحركة، والسكون والمَنكَح، والاستفراغ والاحتباس، فإذا حصَلتْ هذه على الوجه المعتدل الموافق الملائم للبدن والبلد والسِّنِّ والعادة، كان أقربَ إلى دوام الصحة أو غلبتها إلى انقضاء الأجل
ولمَّا كانت الصحةُ والعافيةُ من أجَلِّ نِعَم الله على عبده، وأجزل عطاياه، وأوفر مِنحه، بل العافيةُ المطلقة أجَلُّ النِّعَمِ على الإطلاق، فحقيق لمن رُزق حظاً مِن التوفيق مراعاتها وحِفظها وحمايتُها عمَّا يُضادها.وقد
روى البخارىُّ فى "صحيحه" من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فيهما كثيرٌ مِنَ الناس: الصِّحَّةُ والفَرَاغُ".
وفى "الترمذى" وغيره من حديث عُبَيْد الله بن مِحصَن الأنصارى، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن أصْبَحَ مُعَافىً فى جَسَدِهِ، آمناً فى سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فكأنما حِيزَتْ لَهُ الدُّنيا". وفى "الترمذى" أيضاً من حديث أبى هريرة، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "أوَّلُ ما يُسْألُ عنه العَبْدُ يومَ القيامَةِ مِنَ النَّعِيم، أن يُقال له: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، ونُرَوِّكَ مِنَ الماءِ البارد". ومن هاهنا قال مَن قال مِن السَّلَف فى قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر: 8] قال: عن الصحة
وفى "مسند الإمام أحمد": أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للعباس: "يا عباس، يا عَمَّ رسول اللهِ ؛ سَلِ اللهَ العافِيةَ فى الدُّنْيَا والآخِرَة".
وفيه عن أبى بكر الصِّدِّيق، قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " سَلُوا اللهَ اليَقينَ والمُعافاةَ، فما أُوتِىَ أحدٌ بَعْدَ اليقينِ خَيراً من العافية"،
فجمع بين عافيتى الدِّينِ والدنيا، ولا يَتِمُّ صلاح العبد فى الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا فى قلبه وبدنه.
وفى "سنن النسائى" من حديث أبى هريرة يرفعه: "سَلُوا اللهَ العَفْوَ والعافيةَ والمُعافاة، فما أُوتِىَ أحدٌ بَعْدَ يقينٍ خيراً من مُعافاةٍ". وهذه الثلاثة تتضمَّن إزالة الشرور الماضية بالعفو، والحاضرة بالعافية، وَالمستقبلة بالمعافاة، فإنها تتضمن المداومةَ والاستمرارَ على العافية.
وفى "الترمذى" مرفوعاً: "ما سُئِلَ اللهُ شيئاً أحبَّ إلَيْهِ من العافيةِ".
وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى: عن أبى الدرداء، قلت: يا رسول الله ؛ لأن أُعافَى فأشكُر أحبُّ إلىَّ من أن أُبتََلى فأصبر، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ورسولُ اللهِ يُحِبُّ مَعَكَ العافِيَةَ ".
ويُذكر عن ابن عباس أنَّ أعرابياً جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: ما أسألُ الله بعد الصلواتِ الخمس ؟ فقال: "سَلِ اللهَ العافيةَ" ، فأعاد عليه، فقال له فى الثالثة: "سَلِ اللهَ العَافِيةَ فى الدُّنيا والآخرَة".
وإذا كان هذا شأنَ العافية والصحةِ، فنذكُرُ من هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى مراعاة هذه الأُمور ما يتبيَّنُ لمن نظر فيه أنه أكملُ هَدْى على الإطلاق ينال به حفظَ صحةِ البدن والقلب، وحياة الدُّنيا والآخرة، والله المستعانُ، وعليه التُّكلان، ولا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله.
فصل
فأما المطعمُ والمشرب، فلم يكن مِن عادته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبسُ النفسِ على نوع واحد من الأغذية لا يتعدَّاه إلى ما سواه، فإنَّ ذلك يضر بالطبيعة جداً، وقد سيتعذَّر عليها أحياناً، فإن لم يتناول غيرَه، ضعفَ أو هلكَ، وإن تناول غيره، لم تقبله الطبيعة، واسْتضرَّ به، فقصرها على نوع واحد دائماً ولو أنه أفضل الأغذية خطرٌ مُضر.بل كان يأكل ما جرت عادةُ أهل بلده بأكله مِنَ اللَّحم، والفاكهة، والخُبز، والتمر، وغيره مما ذكرناه فى هَدْيه فى المأكول، فعليك بمراجعته هناك
وإذا كان فى أحد الطعامين كيفيةٌ تحتاجُ إلى كسرٍ وتعديلٍ، كسَرها وعدلها بضدها إن أمكن، كتعديل حرارة الرُّطَبِ بالبطيخ، وإن لم يجد ذلك، تناوَله على حاجة وداعيةٍ من النفس من غير إسراف، فلا تتضرر به الطبيعة
وكان إذا عافت نفسُه الطعامَ لم يأكله، ولم يُحمِّلْها إيَّاه على كُره، وهذا أصل عظيم فى حفظ الصحة، فمتى أكل الإنسان ما تعافه نفسه، ولا تشتهيه، كان تضرُّره به أكثر من انتفاعه.قال أنس: ما عابَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاماً قَطُّ، إن اشتهاه أكلَه، وإلا تركه، ولم يأكلْ منه. ولمَّا قُدِّمَ إليه الضَّبُّ المشوىُّ لم يأكلْ منه، فقيل له: أهو حرامٌ ؟
قال: "لا، ولكنْ لم يكن بأرضِ قَوْمى، فأجِدُنى أعافُه". فراعى عادتَه وشهوتَه، فلمَّا لم يكن يعتادُ أكله بأرضه، وكانت نفسُه لا تشتهيه، أمسَكَ عنه، ولم يَمنع مِن أكله مَن يشتهيه، ومَنْ عادتُه أكلُه.
وكان يحبُّ اللَّحم، وأحبُّه إليه الذراعُ، ومقدم الشاة، ولذلك سُمَّ فيه.وفى "الصحيحين": "أُتِىَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلحم، فرُفِع إليه الذراع، وكانت تُعجبُه".وذكر أبو عُبيدة وغيره عن ضباعَة بنت الزُّبير، أنها ذَبحتْ فى بيتها شاةً، فأرسل إليها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ أطعِمِينا من شاتكم، فقالت للرسول: ما بقىَ عندَنا إلاَّ الرَّقبةُ، وإنى لأستحى أنْ أُرسلَ بها إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرجع الرسولُ فأخبره، فقال: "ارْجِعْ إليها فقلْ لها: أَرْسِلى بِهَا، فإنَّها هاديةُ الشَّاةِ وأقْرَبُ إلى الخَيْر، وأبعدُها مِنَ الأذَى" ولا ريب أن أخفَّ لحمِ الشاة لحمُ الرقبة، ولحمُ الذراع والعَضُد، وهو أخفُّ على المَعِدَة، وأسرعُ انهضاماً، وفى هذا مراعاةُ الأغذية التى تجمع ثلاثةَ أوصاف ؛ أحدها: كثرةُ نفعها وتأثيرها فى القُوَى. الثانى: خِفَّتُها على المَعِدَة، وعدمُ ثقلها عليها. الثالث: سرعةُ هضمها، وهذا أفضل ما يكون من الغِذاء. والتغذِّى باليسير من هذا أنفعُ من الكثير من غيره.
وكان يُحب الحَلْواءَ والعسلَ، وهذه الثلاثة أعنى: اللَّحم والعسل والحلواء من أفضل الأغذية، وأنفعها للبدن والكَبِد والأعضاء، وللاغتذاء بها نفعٌ عظيم فى حفظ الصحة والقوة، ولا ينفِرُ منها إلا مَن به عِلَّةٌ وآفة.وكان يأكُلُ الخبز مأدُوماً ما وَجَدَ له إداماً، فتارةً يَأدِمُه باللَّحم ويقول: "هُوَ سَيِّدُ طعامِ أهلِ الدُّنيا والآخرةِ" رواه ابن ماجه وغيره "وتارة بالبطيخ، وتارةً بالتمر،فإنه وضع تمرة على كِسْرة شعير، وقال: "هذا إدامُ هذه". وفى هذا من تدبير الغذاء أنَّ خبز الشعير بارد يابس، والتمر حار رطب على أصح القولين، فأَدمُ خبزِ الشعير به من أحسن التدبير، لا سِيَّما لمن تلك عادتُهم، كأهل المدينة، وتارةً بالخَلِّ، ويقول: "نِعْمَ الإدَامُ الخَلُّ" ، وهذا ثناءٌ عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر، لا تفضيلٌ له على غيرِه، كما يظن الجُهَّالُ، وسببُ الحديث أنه دخَلَ على أهله يوماً، فقدَّموا له خبزاً، فقال: "هَل عِنْدَكُم مِن إدَامٍ" ؟ قالوا: ما عِندَنا إلاَّ خَل. فقال: "نِعْمَ الإدامُ الخَلُّ".والمقصود: أنَّ أكل الخبز مأدوماً من أسباب حِفظ الصحة، بخلاف الاقتصار على أحدهما وحده. وسُمِىَ الأُدمُ أُدماً: لإصلاحه الخبزَ، وجعلِه ملائماً لحفظ الصحة. ومنه قوله فى إباحته للخاطب النظرَ: "إنه
أحْرَى أنْ يُؤدَمَ بيْنَهما"، أى: أقربُ إلى الالتئام والموافقة، فإنَّ الزوجَ يدخل على بصيرة، فلا يندَم.
وكان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها، ولا يَحتمِى عنها، وهذا أيضاً من أكبر أسباب حفظ الصحة، فإنَّ الله سبحانه بحكمته جعل فى كل بلدةٍ من الفاكهة ما ينتفِعُ به أهلُها فى وقتِهِ، فيكونُ تناولُه من أسباب صحتِهم وعافيتِهم، ويُغنى عن كثير من الأدوية، وقَلَّ مَن احتَمى عن فاكهة بلده خشيةَ السُّقم إلا وهو مِن أسقم الناس جسماً، وأبعدِهم من الصحة والقوة.وما فى تلك الفاكهة من الرطوبات، فحرارةُ الفصل والأرض، وحرارةُ المَعِدَة تُنضِجُهَا وتدفع شرها إذا لم يُسْرِفْ فى تناولها، ولم يُحمِّلْ منها الطبيعةَ فوق ما تَحْتَمِله، ولم يُفسد بها الغذاء قبل هضمه، ولا أفسَدَها بشرب الماء عليها، وتناولِ الغذاء بعد التحلِّى منها، فإن القُولَنْج كثيراً ما يَحدث عند ذلك، فمَن أكل منها ما ينبغى فى الوقت الذى ينبغى على الوجه الذى ينبغى، كانت له دواءً نافعاً.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى هيئة الجلوسِ للأكل
صحَّ عنه أنه قال: "لا آكُلُ مُتَّكِئاً"، وقال: "إنما أجْلِسُ
كما يَجْلِسُ العبدُ، وآكُلُ كما يأكُلُ العبدُ".
وروى ابن ماجه فى "سننه" أنه نَهى أن يأكلَ الرجلُ وهو منبطحٌ على وجهه.وقد فُسِّر الاتكاءُ بالتربُّع، وفُسِّر بالاتكاء على الشىء، وهو الاعتمادُ عليه، وفُسِّر بالاتكاء على الجنب. والأنواعُ الثلاثة من الاتكاء، فنوعٌ منها يضرُّ بالآكل، وهو الاتكاء على الجنب، فإنه يمنعُ مجرَى الطعام الطبيعى عن هيئته، ويَعوقُه عن سرعة نفوذه إلى المَعِدَة، ويضغطُ المَعِدَةَ، فلا يستحكم فتحُها للغذاء، وأيضاً فإنها تميل ولا تبقى منتصبة، فلا يصل الغذاء إليها بسهولة.وأما النوعان الآخران: فمن جلوس الجبابرة المنافى للعبودية، ولهذا قال: "آكُلُ كما يأكُلُ العبد" وكان يأكل وهو مُقْعٍ، ويُذكر عنه أنه كان يجلس للأكل مُتَورِّكاً على ركبتيه، ويضعُ بطنَ قدمِه اليُسْرى على ظهر قدمه اليمنى تواضعاً لربه عَزَّ وجَلَّ، وأدباً بين يديه، واحتراماً للطعام وللمؤاكِل، فهذه الهيئة أنفعُ هيئات الأكل وأفضلُها، لأنَّ الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعى الذى خلقها الله سبحانه عليه مع ما فيها من الهيئة
الأدبية، وأجودُ ما اغتذى الإنسان إذا كانت أعضاؤه على وضعها الطبيعى، ولا يكون كذلك إلا إذا كان الإنسان منتصباً الانتصابَ الطبيعى، وأردأ الجلسات للأكل الاتكاءُ على الجنب، لما تقدم من أن المَرِىء، وأعضاء الازدراد تضيقُ عند هذه الهيئة، والمَعِدَةُ لا تبقى على وضعها الطبيعى، لأنها تنعصر مما يلى البطن بالأرض، ومما يلى الظهر بالحجاب الفاصل بين آلات الغذاء، وآلات التنفس
وإن كان المراد بالاتكاء الاعتماد على الوسائد والوطاء الذى تحت الجالس، فيكون المعنى أَنى إذا أكلت لم أقعد متكئاً على الأوْطِية والوسائد، كفعل الجبابرة، ومَن يُرِيد الإكثار من الطعام، لكنى آكُلُ بُلْغةً كما يأكل العبد.
فصل
وكان يأكُلُ بأصابعه الثَّلاث، وهذا أنفعُ ما يكون من الأكلات، فإنَّ الأكل بأصبع أو أُصبعين لا يَستلذُّ به الآكل، ولا يُمريه، ولا يُشبعه إلا بعدَ طول، ولا تفرحُ آلاتُ الطعام والمَعِدَةُ بما ينالها فى كل أكلة، فتأخذَها على إغماضٍ، كما يأخذ الرجل حقَّه حبَّةً أو حبَّتَين أو نحوَ ذلك، فلا يلتذُّ بأخذه، ولا يُسَرُّ به، والأكل بالخمسة والراحةِ يُوجب ازدحامَ الطعام على آلاته، وعلى المَعِدَةُ، وربما انسدَّت الآلات فمات، وتُغصبُ الآلاتُ على دفعه، والمَعِدَةُ على احتماله، ولا يجد له لذةً ولا استمراءً، فأنفعُ الأكل أكلُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأكلُ مَن اقتدى به بالأصابع الثلاث.
فصل
ومَن تدبَّر أغذيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما كان يأكلهُ، وجَده لم يجمع قَطُّ بين لبن وسمك، ولا بين لبن وحامض، ولا بين غذائين حارَّين، ولا بارِدين، ولا لَزِجَين، ولا قابضين، ولا مُسهلين، ولا غليظين، ولا مُرخيين، ولا مستحيلين إلى خلط واحد، ولا بين مختلفَين كقابض ومسهل، وسريع الهضم وبطيئه، ولا بين شَوىٍّ وطبيخ، ولا بين طَرىٍّ وقَديد،ولا بين لبن وبيض، ولا بين لحم ولبن، ولم يكن يأكل طعاماً فى وقت شدة حرارته، ولا طبيخاً بائتاً يُسخَّن له بالغد، ولا شيئاً من الأطعمة العَفِنَةِ والمالحة، كالكَوامخ والمخلَّلات، والملوحات. وكل هذه الأنواع ضار مولِّدٌ لأنواع من الخروج عن الصحة والاعتدال.وكان يُصلح ضرر بعض الأغذية ببعض إذا وَجد إليه سبيلاً، فيكسرُ حرارةَ هذا ببرودة هذا، ويُبوسةَ هذا برطُوبة هذا، كما فعل فى القِثَّاء والرُّطَب، وكما كان يأكل التمر بالسَّمن، وهو الحَيْسُ، ويشربُ نقيع التمر يُلطِّف به كَيْمُوساتِ الأغذية الشديدة وكان يأمر بالعَشاء، ولو بكفٍّ من تمر، ويقول: "تَرْكُ العَشاءِ مَهْرَمةٌ"، ذكره الترمذىُّ فى "جامعه"، وابن ماجه فى "سننه"
وذكر أبو نُعيم عنه أنه كان ينهى عن النوم على الأكل، ويذكر أنه يُقسى القلب، ولهذا فى وصايا الأطباء لمن أراد حفظ الصحة: أن يمشىَ بعد
العَشاء خُطواتٍ ولو مِائة خطوة، ولا ينام عَقِبه، فإنه مضر جداً، وقال مسلموهم: أو يُصلِّى عقيبَه ليستقرَّ الغِذاء بقعرِ المَعِدَة، فيسهلَ هضمه، ويجودَ بذلك. ولم يكن من هَدْيه أن يشربَ على طعامه فيُفسده، ولا سِيَّما إن كان الماء حاراً أو بارداً، فإنه ردىءٌ جداً. قال الشاعر:
لا تَكنْ عِنْدَ أَكْلِ سُخْنٍ وَبَرْدٍ ... وَدخُولِ الْحَمَّامِ تَشربُ مَاءَ
فَإذَا ما اجْتَنَبْتَ ذلكَ حَقّاً ... لَمْ تَخَفْ ما حَيِيتَ فِىالْجَوْفِ داءَ
ويُكره شرب الماء عقيبَ الرياضة، والتعبِ، وعقيبَ الجِمَاع، وعقيبَ الطعامِ وقبله، وعقيبَ أكل الفاكهة، وإن كان الشربُ عقيبَ بعضِها أسهلَ مِن بعض، وعقب الحمَّام، وعند الانتباه من النوم، فهذا كُلُّهُ منافٍ لحفظ الصحة، ولا اعتبار بالعوائد، فإنها طبائع ثوانٍ.
فصل
وأما هَدْيه فى الشراب، فمن أكمل هَدْىٍ يحفظ به الصحة، فإنه كان يشرب العسلَ الممزوجَ بالماء البارد، وفى هذا مِن حفظ الصحة ما لا يَهتدى إلى معرفته إلا أفاضلُ الأطباء، فإنَّ شُربه ولعقَه على الرِّيق يُذيب البلغم، ويغسِلُ خَمْل المَعِدَة، ويجلُو لزوجتها، ويدفع عنها الفضلات، ويُسخنها باعتدال، ويفتحُ سددها، ويفعل مثل ذلك بالكَبِد والكُلَى والمثَانة، وهو أنفع للمَعِدَة من كل حلو دخلها، وإنما يضر بالعَرَض لصاحب الصَّفراء لحدَّتِه وحِدَّة الصفراء، فربما هيَّجها، ودفعُ مضرَّته لهم بالخلِّ، فيعودُ حينئذ لهم نافعاً جداً، وشربه أنفع من كثير من الأشربة
المتخذة من السكر أو أكثرِها، ولا سِيَّما لمن لم يعتد هذه الأشربة، ولا ألِفَها طبعُه، فإنه إذا شربها لا تلائمه ملاءمةَ العسل، ولا قريباً منه، والمحكَّمُ فى ذلك العادة، فإنها تهدم أُصولاً، وتبنى أُصولاً
وأما الشراب إذا جَمَعَ وصْفَىْ الحلاوة والبرودة، فمن أنفع شىء للبدن، ومن أكبر أسباب حفظ الصحة، وللأرواح والقُوى، والكبد والقلب، عشقٌ شديدٌ له، واستمدادٌ منه، وإذا كان فيه الوصفانِ، حصَلتْ به التغذيةُ، وتنفيذُ الطعام إلى الأعضاء، وإيصاله إليها أتمَّ تنفيذ.
والماء البارد رطب يقمع الحرارة، ويحفظ على البدن رطوباته الأصلية، ويرد عليه بدل ما تحلَّل منها، ويُرقِّقُ الغِذاء ويُنفِذه فى العروق.
واختلف الأطباء: هل يُغذِّى البدن ؟ على قولين: فأثبتت طائفةٌ التغذية به بناءً على ما يشاهدونه من النمو والزيادة والقوة فى البدن به، ولا سِيَّما عند شدة الحاجة إليه.
قالوا: وبينَ الحيوانِ والنبات قدرٌ مشترك مِن وجوه عديدة منها: النموُّ والاغتذاءُ والاعتدال، وفى النبات قوةُ حِسٍّ تُناسبه، ولهذا كان غِذاءُ النبات بالماء، فما يُنكر أن يكون للحيوان به نوعُ غذاء، وأن يكون جزءاً من غذائه التام.
قالوا: ونحن لا ننكر أنَّ قوة الغذاء ومعظمه فى الطعام، وإنما أنكرنا أن لا يكون للماء تغذية ألبتة. قالوا: وأيضاً الطعام إنما يُغذِّى بما فيه من المائية، ولولاها لما حصلت به التغذيةُ.قالوا: ولأن الماء مادة حياة الحيوان والنبات، ولا ريب أنَّ ما كان أقربَ إلى مادة الشىء، حصلت به التغذية، فكيف إذا كانت مادته الأصلية، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ}[الأنبياء: 30]، فكيف
ننكِرُ حصولَ التغذية بما هو مادة الحياة على الإطلاق ؟
قالوا: وقد رأينا العطشان إذا حصل له الرِّىُّ بالماء البارد، تراجعت إليه قواه ونشاطُه وحركته، وصبرَ عن الطعام، وانتفع بالقدر اليسير منه، ورأينا العطشانَ لا ينتفِعُ بالقدرِ الكثير مِن الطعام، ولا يجد به القوة والاغتذاءَ، ونحن لا ننكِرُ أنَّ الماءَ يُنفِذُ الغذاء إلى أجزاء البدن، وإلى جميع الأعضاء، وأنه لا يتم أمر الغذاء إلا به، وإنما ننكر على مَن سلب قوةَ التغذية عنه ألبتة، ويكاد قولُه عندنا يدخُل فى إنكار الأُمورالوجدانية.
وأنكرت طائفةٌ أُخرى حصولَ التغذية به، واحتجَّت بأُمور يرجعُ حاصِلُها إلى عدم الاكتفاء به، وأنه لا يقومُ مقام الطعام، وأنه لا يزيد فى نموِّ الأعضاء، ولا يخلف عليها بدل ما حلَّلتْه الحرارةُ، ونحو ذلك مما لا ينكره أصحاب التغذية، فإنهم يَجعلون تغذيته بحسب جوهره، ولطافته ورقته، وتغذيةُ كل شىء بحسبه، وقد شُوهد الهواءُ الرَّطب البارد اللَّين اللَّذيذ يُغذِّى بحسبه، والرائحة الطيبة تُغذِّى نوعاً من الغذاء، فتغذية الماء أظهر وأظهر.
والمقصودُ: أنه إذا كان بارداً، وخالطه ما يُحليه كالعسل أو الزبيب، أو التمر أو السكر، كان من أنفع ما يدخل البدن، وحفِظَ عليه صحته، فلهذا كان أحبُّ الشرابِ إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البارِدَ الحلوَ. والماءُ الفاتِرُ ينفخ، ويفعل ضدَّ هذه الأشياء.
ولما كان الماء البائت أنفعَ من الذى يُشرب وقتَ استقائه، قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد دخل إلى حائط أبى الهيثم بن التيهان: "هَلْ من ماءٍ بات فى شَنَّة" ؟ فأتاه به، فشرب منه، رواه البخارى ولفظُه: "إنْ كان عِنْدَكَ
ماءٌ باتَ فى شَنَّة وإلاَّ كَرَعْنَا".والماء البائت بمنزلة العجين الخمير، والذى شُرِب لوقته بمنزلة الفطير، وأيضاً فإنَّ الأجزاء الترابية والأرضية تُفارقه إذا بات، وقد ذُكِر أنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُسْتَعْذَبُ له الماء، ويَختار البائت منه. وقالت عائشة: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُستقى له الماء العذب مِن بئر السقيا.
والماء الذى فى القِرَب والشنان، ألذُّ من الذى يكون من آنية الفَخَّار والأحجار وغيرهما، ولا سِيَّما أسقيةَ الأدمَ، ولهذا التَمسَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماءً بات فى شَنَّة دون غيرها من الأوانى، وفى الماء إذا وُضع فى الشِّنان، وقِرب الأدم خاصةٌ لطيفةٌ لما فيها من المسامِّ المنفتحةِ التى يرشَح منها الماء، ولهذا كان الماء فى الفَخَّار الذى يرشح ألذُّ منه، وأبردُ فى الذى لا يرشَح، فصلاةُ الله وسلامه على أكمل الخلق، وأشرفهم نفساً، وأفضلهم هَدْياً فى كل شىء، لقد دَلَّ أُمته على أفضل الأُمور وأنفعها لهم فى القلوب والأبدان، والدُّنيا والآخرة
قالت عائشةُ: كان أحبُّ الشرابِ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحُلوَ البارِدَ.
وهذا يحتمل أن يريد به الماءَ العذبَ، كمياه العيون والآبار الحلوة، فإنه كان يُستعذَب له الماء. ويحتملُ أن يريد به الماءَ الممزوجَ بالعسل، أو الذى نُقِعَ فيه التمرُ أو الزبيبُ. وقد يُقال وهو الأظهر: يعمُّهما جميعاً
وقولُه فى الحديث الصحيح: "إن كان عندكَ ماء باتَ فى شَنٍ وإلا كَرَعْنَا"، فيه دليلٌ على جواز الكَرْع، وهو الشرب بالفم من الحوضِ والمِقْراةِ ونحوها، وهذه والله أعلم واقعةُ عَيْن دعت الحاجةُ فيها إلى الكَرْع بالفم، أو قاله مبيِّناً لجوازه، فإنَّ مِن الناس مَنْ يكرهُه، والأطباءُ تكادُ تُحَرِّمُه، ويقولون: إنه يَُضرُّ بالمَعِدَة، وقد رُوى فى حديث لا أدرى ما حالُه عن ابن عمر، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهانا أنْ نشرب على بطوننا، وهو الكَرْعُ، ونهانا أنْ نغترِفَ باليد الواحدة وقال:
"لا يَلَغْ أحدُكُم كَمَا يَلَغُ الكلبُ، ولا يَشْرَبْ باللَّيْلِ مِن إنَاءٍ حَتَّى يَختبِرَه إلا أنْ يكونَ مُخَمَّراً"
وحديثُ البخارى أصحُّ من هذا، وإن صحَّ، فلا تعارُضَ بينهما، إذ لعلَّ الشربَ باليد لم يكن يمكن حينئذٍ، فقال: "وإلا كَرَعْنا"، والشربُ بالفم إنما يضرُّ إذا انكبَّ الشارِبُ على وجهه وبطنه، كالذى يشربُ من النهر والغدِير، فأمَّا إذا شرب مُنتصِباً بفمه من حوض مرتفع ونحوِه، فلا فَرْقَ بين أن يشرب بيده أو بفمه.
فصل
وكان من هَدِْيه الشُّربُ قاعداً، هذا كان هديَه المعتادَ وصحَّ عنه أنه نهى عن الشُّرب قائماً، وصحَّ عنه أنه أمر الذى شرب قائماً أن يَسْتَقىءَ، وصَحَّ عنه أنه شرب قائماً.
فقالت طائفةٌ: هذا ناسخٌ للنهى، وقالت طائفةٌ: بل مبيِّنٌ أنَّ النهىَ ليس للتحريم، بل للإرشاد وتركِ الأوْلى، وقالت طائفةٌ: لا تعارُضَ بينهما أصلاً، فإنه إنما شَرِبَ قائماً للحاجة، فإنه جاء إلى زمزمَ، وهم يَستَقُون منها، فاستَقَى فناولُوه الدَّلوَ، فشرب وهو قائم، وهذ كان موضعَ حاجة.
وللشرب قائماً آفاتٌ عديدة منها: أنه لا يحصل به الرِّىُّ التام، ولا يستَقِرُّ فى المَعِدَة حتى يَقْسِمَه الكبدُ على الأعضاء، وينزلُ بسرعة وَحِدَّة إلى المَعِدَة، فيُخشى منه أن يُبردَ حرارتَها، ويُشوشها، ويُسرع النفوذ إلى أسفل البدن بغير تدريج، وكلُّ هذا يَضُرُّ بالشارب، وأمَّا إذا فعله نادراً أو لحاجة، لم يَضره، ولا يُعترض بالعوائد على هذا، فإنَّ العوائد طبائعُ ثوانٍ، ولها أحكامٌ أُخرى، وهى بمنزلة الخارج عن القياس عند الفقهاء.
فصل
وفى "صحيح مسلم" من حديث أنس بن مالك، قال: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتنفَّسُ فى الشَّراب ثلاثاً، ويقولُ: "إنه أرْوَى وأمْرَأُ وأبْرَأُ "
الشراب فى لسان الشارع وحمَلَةِ الشرع: هو الماء، ومعنى تنفُّسِه فى الشراب: إبانتُه القَدَح عن فيه، وتنفُّسُه خارجَه، ثم يعود إلى الشراب، كما جاء مصرَّحاً به فى الحديث الآخر: " إذا شَرِبَ أحَدُكُم فَلا يَتنفَّسْ فى القَدَحِ، ولكنْ لِيُبِنِ الإناءَ عن فيهِ"
وفى هذا الشرب حِكمٌ جَمَّة، وفوائدٌ مهمة، وقد نبَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مَجامِعها، بقوله: " إنه أروَى وأمرَأ وأبرأ" فأروَى: أشدُّ ريَّاً، وأبلغُه وأنفعُه، وأبرأُ: أفعلُ من البُرء، وهو الشِّفاء، أى يُبرىء من شدة العطش ودائه لتردُّدِه على المَعِدَة الملتهبة دفعاتٍ، فتُسَكِّن الدفعةُ الثانية ما عجزت الأُولى عن تسكينه، والثالثةُ ما عجزت الثانية عنه، وأيضاً فإنه أسلمُ لحرارة المَعِدَة، وأبقَى عليها من أن يَهجُم عليها الباردُ وَهْلةً واحدة، ونَهْلةً واحدة.وأيضاً فإنه لا يُروِى
لمصادفته لحرارة العطش لحظةً، ثم يُقلع عنها، ولما تُكسَرْ سَوْرتُها وحِدَّتُها، وإن انكسرتْ لم تبطل بالكلية بخلاف كسرِها على التمهُّل والتدريج.
وأيضاً فإنه أسلمُ عاقبةً، وآمنُ غائلةً مِن تناوُل جميع ما يُروِى دفعةً واحدة، فإنه يُخاف منه أن يُطفىء الحرارة الغريزية بشدة برده، وكثرةِ كميته، أو يُضعفَها فيؤدِّى ذلك إلى فساد مزاج المَعِدَة والكَبِد، وإلى
أمراض رديئة، خصوصاً فى سكان البلاد الحارة، كالحجاز واليمن ونحوهما، أو فى الأزمنة الحارة كشدة الصيف، فإن الشرب وَهْلَةً واحدةً مَخُوفٌ عليهم جداً، فإنَّ الحار الغريزى ضعيف فى بواطن أهلها، وفى تلك الأزمنة الحارة.
وقوله: "وأمْرَأُ": هو أفعلُ مِن مَرِئ الطعامُ والشرابُ فى بدنه: إذا دخله، وخالطه بسهولة ولذة ونفع. ومنه: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً}[النساء: 4]، هنيئاً فى عاقبته، مريئاً فى مذاقه. وقيل: معناه أنه أسرعُ انحداراً عن المَرِىء لسهولته وخفته عليه، بخلاف الكثير، فإنه لا يسهُل على المرىء انحدارُه.
ومن آفات الشرب نَهْلَةً واحدة أنه يُخاف منه الشَّرَق بأن ينسدَّ مجرى الشراب لكثرة الوارد عليه، فيغَصَّ به، فإذا تنفَّس رُويداً، ثم شرب، أمِنَ من ذلك.
ومن فوائده: أنَّ الشارب إذا شرب أول مرة تصاعد البخارُ الدخانىُّ الحارُّ الذى كان على القلب والكبد لورود الماء البارد عليه، فأخرجَتْه الطبيعةُ عنها، فإذا شرِب مرةً واحدةً، اتفق نزولُ الماء البارد، وصعودُ البخار، فيتدافعان ويتعالجان، ومن ذلك يحدُث الشَرقُ والغصَّة، ولا يهْنأ الشاربُ بالماء، ولا يُمرئُه، ولا يتم رِيُّه.
وقد روى عبد الله بن المبارك، والبَيْهَقىُّ، وغيرُهما عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا شَرِبَ أحدُكُم فَلْيَمَُصَّ الماءَ مَصَّاً، ولا يَعُبَّ عبَّا، فإنَّه مِن الكُبَادِ ".والكُبَاد بضم الكاف وتخفيف الباء هو وجع الكبد، وقد عُلم بالتجرِبة أنَّ ورود الماء جملةً واحدة على الكبد يؤلمها ويُضعفُ حرارتَها، وسببُ ذلك المضادةُ التى بين حرارتها، وبين ما ورد عليها من كيفية المبرود
وكميته. ولو ورد بالتدريج شيئاً فشيئاً، لم يضاد حرارتَها، ولم يُضعفْها، وهذا مثالُه صَبُّ الماء البارد على القِدْر وهى تفور، لا يضرُّها صَبُّه قليلاً قليلاً.
وقد روى الترمذىُّ فى "جامعه" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تَشْرَبُوا نَفَساً واحداً كَشُرْبِ البَعيرِ، ولكن اشرَبُوا مَثْنَى وثُلاثَ، وسمُّوا إذا أنتم شَرِْبُتم واحْمَدُّوا إذَا أنتُمْ فَرَغْتُمْ".
وللتسمية فى أول الطعام والشراب، وحمد الله فى آخره تأثيرٌ عجيب فى نفعه واستمرائه، ودفع مَضَرَّته.
قال الإمام أحمد: إذا جمع الطعام أربعاً، فقد كَمُل: إذا ذُكِرَ اسمُ الله فى أوله، وحُمِدَ اللهُ فى آخره، وكثرتْ عليه الأيدى، وكان من حِلٍّ.
فصل
وقد روى مسلم فى "صحيحه" من حديث جابر بن عبد الله، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "غطُّوا الإناءَ، وأَوْكُوا السِّقاءَ، فإنَّ فى السَّنَةِ لَيْلَةً ينزِلُ فِيهَا وِباءٌ لا يَمُرُّ بإناءٍ ليس عليه غِطَاءٌ، أو سِقاءٍ ليس عليه وِكاءٌ إلا وَقَعَ فيه من ذلك الدَّاء".
وهذا مما لا تنالُه علوم الأطباء ومعارفُهم، وقد عرفه مَن عرفه من عقلاء الناس بالتجربة. قال اللَّيث بن سعد أحدُ رواة الحديث: الأعاجمُ عندنا يتَّقون تلك الليلة فى السنة، فى كانُونَ الأول منها.
وصَحَّ عنه أنه أمرَ بتخمير الإناء ولو أن يَعرِضَ عليه عُوداً. وفى عرض العود عليه من الحكمة، أنه لا ينسى تخميرَه، بل يعتادُه حتى بالعود، وفيه: أنه ربما أراد الدُّبَيِّب أن يسقط فيه، فيمرُّ على العود، فيكون العودُ جسراً له يمنعه من السقوط فيه.
وصَحَّ عنه أنه أمرَ عند إيكاءِ الإناء بذكر اسم الله، فإنَّ ذِكْر اسم الله عند تخمير الإناء يطرد عنه الشيطان، وإيكاؤُه يطرد عنه الهَوامَّ، ولذلك أمر بذكر اسم الله فى هذين الموضعين لهذين المعنيين.
وروى البخارى فى "صحيحه" من حديث ابن عباس، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الشُّرب مِنْ في السِّقاء.
وفى هذا آدابٌ عديدة، منها: أنَّ تردُّدَ أنفاس الشارب فيه يُكسبه زُهومة ورائحة كريهة يُعاف لأجلها.ومنها: أنه ربما غلب الداخِلُ إلى جوفه من الماء، فتضرَّر به. ومنها: أنه ربما كان فيه حيوان لا يشعر به،فيؤذيه. ومنها: أنَّ الماء ربما كان فيه قَذاةٌ أو غيرُها لا يراها عند الشرب، فتَلِج جوفه. ومنها: أنَّ الشرب كذلك يملأ البطن من الهواء، فيضيقُ عن أخذ
حظَّه من الماء، أو يُزاحمه، أو يؤذيه، ولغير ذلك من الحِكَم.
فإن قيل: فما تصنعون بما فى "جامع الترمذي": أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا بإداوة يومَ أُحُد، فقال: "اخْنُثْ فَمَ الإدَاوَة" ، ثُمَّ شَرِبَ منها مِن فَيّهَا.قلنا: نكتفى فيه بقول الترمذى: هذا حديثٌ ليس إسناده بصحيح، وعبد الله ابن عمر العُمرىُّ يُضعَّفُ من قِبلِ حفظه، ولا أدرى سمع من عيسى، أو لا... انتهى.يريد عيسى بن عبد الله الذى رواه عنه، عن رجل من الأنصار.
فصل
وفى "سنن أبى داود" من حديث أبى سعيد الخُدرىِّ، قال: "نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الشُّرب من ثُلْمَةِ القَدَحِ، وأن ينفُخَ فى الشَّراب". وهذا من الآداب التى تتم بها مصلحةُ الشارب، فإن الشُّرب من ثُلْمِة القَدَح فيه عِدَّةُ مفاسد:
أحدها: أنَّ ما يكون على وجه الماء من قَذىً أو غيره يجتمع إلى الثُّلْمة بخلاف الجانب الصحيح.
الثانى: أنَّه ربما شوَّش على الشارب، ولم يتمكن من حسن الشرب من الثُّلْمة.
الثالث: أنَّ الوسخ والزُّهومة تجتمِعُ فى الثُّلْمة، ولا يصل إليها الغَسلُ، كما يصل إلى الجانب الصحيح.
الرابع: أنَّ الثُّلْمة محلُّ العيب فى القَدَح، وهى أردأُ مكان فيه، فينبغى تجنُّبه، وقصدُ الجانب الصحيح، فإنَّ الردىء من كل شىء لا خير فيه، ورأى بعض السَّلَف رجلاً يشترى حاجة رديئة، فقال: لا تفعل، أما عَلِمتَ أنَّ اللهَ نزع البركة من كل ردىء.
الخامس: أنَّه ربما كان فى الثُّلْمة شقٌ أو تحديدٌ يجرح فم الشارب، ولغيرِ هذه من المفاسد.
وأما النفخ فى الشراب.. فإنه يُكسِبُه من فم النافخ رائحةٌ كريهةٌ يُعاف لأجلها، ولا سِيَّما إن كان متغيِّرَ الفم. وبالجملة: فأنفاس النافخ تُخالطه، ولهذا جمع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين النهى عن التنفُّس فى الإناء والنفخ فيه، فى الحديث الذى رواه الترمذىُّ وصحَّحه، عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُتنفَّسَ فى الإناء، أو يُنْفَخَ فيه.
فإن قيل: فما تصنعون بما فى "الصحيحين" من حديث أنس، "أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتنفَّسُ فى الإناء ثلاثاً" ؟.
قيل: نُقابلُه بالقبول والتسليم، ولا مُعارضة بينه وبين الأول، فإن معناه أنه كان يتنفس فى شربه ثلاثاً، وَذَكَرَ الإناءَ لأنه آلة الشرب، وهذا كما جاء فى الحديث
الصحيح: أنَّ إبراهيم ابن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات فى الثَّدْى، أى: فى مُدة الرَّضاع.
فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشرب اللَّبن خالصاً تارةً، ومُشَوباً بالماء أُخرى. وفى شرب اللَّبن الحلو فى تلك البلاد الحارة خالصاً ومَشوباً نفعٌ عظيم فى حفظ الصحة، وترطيبِ البدن، ورَىِّ الكبد، ولا سِيَّما اللبنَ الذى ترعى دوابُّه الشيحَ والقَيْصومَ والخُزَامَى وما أشبهها، فإن لبنها غذاءٌ مع الأغذية، وشرابٌ مع الأشربة، ودواءٌ مع الأدوية.
وفى جامع "الترمذى" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أكل أحدكم طعاماً فيلقُلْ: اللهُمَّ بارِكْ لنا فيه، وأطْعِمنا خيراً منه، وإذا سُقى لبناً فليقل: اللهُمَّ بارِكْ لنا فيه، وزِدْنا منه، فإنه ليس شىءٌ يُجْزِئُ منَ الطعام والشرابِ إلاَّ اللبنُ". قال الترمذى: هذا حديث حسن.
فصل
وثبت فى "صحيح مسلم" أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُنْبَذُ له أوَّل الليل، ويشربُه إذا أصبح يومَه ذلك، والليلةَ التى تجىءُ، والغَد، واللَّيلةَ الأُخرى،
والغَد إلى العصر، فإن بقى منه شىءٌ سقاه الخادِمَ، أو أمر به فَصُبَّ.
وهذا النبيذ: هو ما يُطرح فيه تمرٌ يُحليه، وهو يدخل فى الغذاء والشراب، وله نفع عظيم فى زيادة القوة، وحفظِ الصحة، ولم يكن يشربه بعدَ ثلاث خوفاً من تغيُّره إلى الإسكار.
فصل: فى تدبيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الملبس
وكان من أتم الهَدْى، وأنفعه للبدن، وأخفِّه عليه، وأيسره لُبساً وخَلعاً، وكان أكثر لُبسه الأردية والأُزُر، وهى أخفُّ على البدن من غيرها، وكان يلبسُ القميص، بل كان أحبَّ الثياب إليه.
وكان هَديُه فى لُبسه لما يلبَسُه أنفَعُ شىء للبدن، فإنه لم يكن يُطيل أكمامه، ويُوسِعُها، بل كانت كُمُّ قميصه إلى الرُّسْغ لا يُجاوز اليد، فتشق على لابسها، وتمنعُه خِفَّة الحركة والبطش، ولا تقصُرُ عن هذه، فتبرز للحر والبرد.
وكان ذيلُ قميصه وإزاره إلى أنصاف الساقين لم يتجاوز الكعبين، فيؤذىَ الماشى ويَؤُوده، ويجعله كالمقيَّد، ولم يقصُرْ عن عَضلة ساقيه، فتنكشفَ ويتأذَّى بالحر والبرد.
ولم تكن عِمامته بالكبيرة التى يؤذى الرأس حملُها، ويضعفُه ويجعله عُرْضةً للضعف والآفات، كما يُشَاهَد من حال أصحابها، ولا بالصغيرة التى تقصرُ عن وقاية الرأس من الحر والبرد ؛ بل وَسَطاً بين ذلك، وكان يُدخلها تحت حَنكه، وفى ذلك فوائدُ عديدة: فإنها تقى العنق الحر والبرد، وهو أثبت لها، ولا سِيَّما عِند ركوب الخيل والإبل،
والكرِّ والفرِّ، وكثير من الناس اتخذ الكلاَليب عوضاً عن الحنك، ويا بُعدَ ما بينهما فى النفع والزينة، وأنت إذا تأملت هذه اللُّبسة وجدتها من أنفع اللُّبسات وأبلغِها فى حفظ صحة البدن وقوته، وأبعدها من التكلف والمشقة على البدن.
وكان يلبسُ الخِفاف فى السفر دائماً، أو أغلب أحواله لِحاجة الرِّجلين إلى ما يقيهما من الحر والبرد، وفى الحَضَر أحياناً.
وكان أحبُّ ألوان الثياب إليه البياضَ، والحِبَرَة، وهى: البرود المحبَّرة.
ولم يكن مِن هَدْيه لُبس الأحمر، ولا الأسود، ولا المصبَّغ، ولا المصقول
وأما الحُلَّة الحمراء التى لبسها، فهى الرداءُ اليمانىُّ الذى فيه سوادٌ وحُمرة وبياض، كالحُلَّةِ الخضراء، فقد لبس هذه وهذه، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك، وتغليطُ مَن زعم أنه لبس الأحمر القانى بما فيه كفاية.
فصل: فى تدبيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمر المسكن
لمَّا علم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه على ظهرِ سيرٍ، وأن الدنيا مرحلةُ مسافرٍ ينزلُ فيها مُدَّة عمره، ثم ينتقلُ عنها إلى الآخرة، لم يكن من هَديه وهَدى أصحابه ومن تبعه الاعتناءُ بالمساكن وتشييدها، وتعليتها وزَخرفتها وتوسِيعها، بل كانت من أحسن منازل المسافر تقى الحر والبرد، وتسترُ عن العيون، وتمنعُ من ولوج الدوابِّ، ولا يُخاف سقوطُها لفرطِ ثقلها، ولا تُعشش فيها الهوام لِسعتها ولا تعتَوِرُ عليها الأهوية والرياح المؤذية لارتفاعها،
وليست تحت الأرض فتؤذىَ ساكنها، ولا فى غاية الارتفاع عليها، بل وسط، وتلك أعدلُ المساكن وأنفعُها، وأقلُّها حراً وبرداً، ولا تضيقُ عن ساكنها، فينحصِر، ولا تفضل عنه بغير منفعة ولا فائدة، فتأوَى الهوامُّ فى خلوها، ولم يكن فيها كُنُفٌ تُؤذى ساكنها برائحتها، بل رائحتها من أطيب الروائح لأنه كان يُحبُّ الطيب، ولا يزال عنده، وريحه هو من أطيب الرائحة، وعَرَقُه من أطيب الطيب، ولم يكن فى الدار كَنِيفٌ تظهر رائحتُه، ولا ريبَ أنَّ هذه من أعدل المساكن وأنفعها وأوفقها للبدن، وحفظِ صحته.
فصل: فى تدبيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمر النوم واليقظة
مَن تدبَّر نومه ويقظَته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجدَه أعدلَ نوم، وأنفعَه للبدن والأعضاء والقُوى، فإنه كان ينام أوَّلَ الليل، ويستيقظ فى أول النصف الثانى، فيقومُ ويَستاك، ويتوضأ ويُصَلِّى ما كتبَ اللهُ له، فيأخذُ البدن والأعضاء والقُوَى حظَّها من النوم والراحة، وحظَّها من الرياضة مع وُفورِ الأجر، وهذا غايةُ صلاح القلب والبدن، والدنيا والآخرة. ولم يكن يأخذ من النوم فوقَ القدر المحتاج إليه، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه، وكان يفعلُه على أكمل الوجوه، فينامُ إذا دعتْه الحاجةُ إلى النوم على شِقِّه الأيمن، ذاكراً الله حتى تغلبه عيناه، غيرَ ممتلئ البدنِ من الطعام والشراب، ولا مباشرٍ بجنبه الأرضَ، ولا متخذٍ للفُرش المرتفعة، بل له ضِجَاع من أُدم حشوهُ ليف، وكان يَضطجع على الوِسادة، ويضع يده تحت خدِّه أحياناً.
ونحن نذكر فصلاً فى النوم، والنافع منه والضار
فنقول: النوم حالة للبدن يَتبعُها غوْر الحرارةِ الغريزية والقُوى إلى باطن البدن لطلب الراحة، وهو نوعان: طبيعى، وغيرُ طبيعى.
فالطبيعى: إمساك القُوى النفسانية عن أفعالها، وهى قُوَى الحِسِّ والحركة الإرادية، ومتى أمسكتْ هذه القُوَى عن تحريك البدن اسْتَرخى، واجتمعتْ الرطوباتُ والأبخرةُ التى كانت تتحلَّل وتتفرَّق بالحركات واليقظة فى الدماغ الذى هو مبدأ هذه القُوَى، فيتخدَّرُ ويَسترخِى، وذلك النومُ الطبيعى.
وأمَّا النومُ غيرُ الطبيعى، فيكونُ لعَرض أو مرض، وذلك بأن تستولىَ الرطوباتُ على الدماغ استيلاءً لا تقدِرُ اليقظةُ على تفريقها، أو تصعد أبخرةٌ رَطبة كثيرة كما يكون عقيبَ الامتلاء مِن الطعام والشراب، فتُثقِلُ الدماغ وتُرخيه، فَيتخدَّرَ، ويقع إمساكُ القُوَى النفسانية عن أفعالها، فيكون النوم.
وللنوم فائدتان جليلتان، إحداهما: سكونُ الجوارح وراحتُها مما يَعرض لها من التعب، فيُريح الحواسَّ مِن نَصَب اليقظة، ويُزيل الإعياء والكَلال.
والثانية: هضم الغذاء، ونُضج الأخلاط لأن الحرارة الغريزية فى وقت النوم تَغور إلى باطن البدن، فتُعين على ذلك، ولهذا يبرد ظاهره ويحتاج النائم إلى فضل دِثَار.
وأنفعُ النوم: أن ينامَ على الشِّق الأيمن، ليستقرَّ الطعام بهذه الهيئة فى المَعِدَة استقراراً حسناً، فإن المَعِدَة أميَلُ إلى الجانب الأيسر قليلاً، ثم يَتحوَّل إلى الشِّق الأيسر قليلاً ليُسرعَ الهضم بذلك لاستمالة المَعِدَة على الكَبِد، ثم يَستقرُّ نومُه على الجانب الأيمن، ليكون الغِذاء أسرعَ انحداراً
عن المَعِدَة، فيكونُ النوم على الجانب الأيمن بُداءة نومه ونهايتَه، وكثرةُ النوم على الجانب الأيسر مضرٌ بالقلب بسبب ميل الأعضاء إليه، فتنصبُّ إليه المواد.
وأردأُ النومِ النومُ على الظهر، ولا يَضرُّ الاستلقاء عليه للراحة من غير نوم، وأردأُ منه أن ينامَ منبطحاً على وجهه، وفى "المسند" و"سنن ابن ماجه"، عن أبى أُمامةَ قال: مرَّ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على رجُلٍ نائم فى المسجد منبطح على وجهه، فضرَبه برجله، وقال: " قُمْ أوِ اقْعُدْ فإنَّهَا نومةٌ جَهَنَّمِيَّةٌ".
قال "أبقراطٌ" فى كتاب "التَّقدِمة": وأما نومُ المريض على بطنه من غير أن يكون عادتُه فى صحته جرتْ بذلك، فذلك يدلُّ على اختلاط عقل، وعلى ألمٍ فى نواحى البطن، قال الشُرَّاح لكتابه: لأنه خالف العادة الجيدة إلى هيئة رديئة من غير سبب ظاهر ولا باطن.
والنومُ المعتدل ممكِّنٌ للقُوَى الطبيعية من أفعالها، مريحٌ للقوة النفسانية، مُكْثرٌ من جوهر حاملها، حتى إنه ربَّما عاد بإرخائه مانعاً من تحلُّل الأرواح. ونومُ النهار ردئٌ يُورث الأمراضَ الرطوبية والنوازلَ، ويُفسد اللَّون، ويُورث الطِّحال، ويُرخى العصبَ، ويُكسل، ويُضعف الشهوة، إلاَّ فى الصَّيفِ وقتَ الهاجِرة، وأردؤه نومُ أول النهار، وأردأُ منه النومُ آخره بعدَ العصر، ورأى عبد الله بن عباس ابناً له نائماً نومة الصُّبْحَةِ، فقال
له: قم، أتنام فى الساعة التى تُقسَّمُ فيها الأرزاق ؟
وقيل: نوم النهار ثلاثة: خُلقٌ، وحُرق، وحُمق. فالخُلق: نومة الهاجرة، وهى خُلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والحُرق: نومة الضحى، تُشغل عن أمر الدنيا والآخرة. والحُمق: نومة العصر. قال بعض السَّلَف: مَن نام بعد العصر، فاختُلِسَ عَقلُه، فلا يلومنَّ إلا نفسه. وقال الشاعر:
أَلاَ إنَّ نَوْمَاتِ الضُّحَى تُورِثُ الْفَتَى ... خَبَالاً وَنَوْمَاتُ الْعُصَيْرِ جُنُونُ
ونوم الصُّبحة يمنع الرزق، لأن ذلك وقتٌ تطلبُ فيه الخليقةُ أرزاقَها، وهو وقتُ قسمة الأرزاق، فنومُه حرمانٌ إلا لعارض أو ضرورة، وهو مضر جداً بالبدن لإرخائه البدن، وإفسادِه للفضلات التى ينبغى تحليلُها بالرياضة، فيُحدث تكسُّراً وَعِيّاً وضَعفاً. وإن كان قبل التبرُّز والحركة والرياضة وإشغالِ المَعِدَة بشىء، فذلك الداء العُضال المولِّد لأنواع من الأدواء.
والنومُ فى الشمس يُثير الداءَ الدَّفين، ونومُ الإنسان بعضُه فى الشمس، وبعضُه فى الظل ردىء، وقد روى أبو داود فى "سننه" من حديث أبى هريرة، قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا كان أحدكم فى الشَّمْسِ فَقَلَصَ عنه الظِّلُّ، فصار بَعْضُهُ فى الشَّمْسِ وبَعْضُهُ فى الظِّل، فَلْيَقُمْ".
وفى "سنن ابن ماجه" وغيره من حديث بُريدَةَ بن الحُصَيب، "أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أنْ يقعُدَ الرَّجُلُ بين الظِّلِّ والشمس"، وهذا تنبيه على منع النوم بينهما.
وفى "الصحيحين" عن البَرَاء بن عازِبٍ، أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا أتَيْتَ مَضْجَعَكَ فتوضَّأْ وُضُوءَكَ للصَّلاة، ثم اضطَّجِعْ على شِقِّكَ الأيمنِ، ثم قل: اللهُمَّ إنِّى أسْلمتُ نَفْسِى إليكَ، ووَجَّهْتُ وجْهىِ إليكَ، وفَوَّضْتُ أمرى إليكَ، وألجأْتُ ظَهْرى إليكَ، رَغبةً ورَهبةً إليكَ، لا ملجأَ ولا مَنْجا منك إلاَّ إليكَ، آمَنتُ بكتابِكَ الذى أنْزَلْتَ، ونبيِّكَ الذى أرْسلتَ. واجعلْهُنَّ آخر كلامِكَ، فإن مِتَّ مِن ليلتِك، مِتَّ على الفِطْرة".
وفى "صحيح البخارى" عن عائشة أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "كان إذا صلَّى ركعتى الفجرِ يعنى سُنَّتَها اضْطَّجَعَ على شِقِّه الأيمنِ".
وقد قيل: إنَّ الحكمة فى النوم على الجانب الأيمن، أن لا يستغرقَ النائم فى نومه، لأن القلب فيه ميلٌ إلى جهة اليسار، فإذا نام على جنبه الأيمن، طلب القلبُ مُستقَرَّه من الجانب الأيسر، وذلك يمنع من استقرار النائم واستثقاله فى نومه، بخلاف قراره فى النوم على اليسار، فإنه مُستقَرُّه، فيحصُل بذلك الدَّعةُ التامة، فيستغرق الإنسان فى نومه، ويَستثقِل، فيفوتُه مصالح دينه ودنياه.
ولما كان النائمُ بمنزلة الميت، والنومُ أخو الموت ولهذا يستحيل على الحىِّ الذى لا يموت، وأهلُ الجنَّة لا ينامون فيها كان النائم محتاجاً إلى مَن يحرُس نفسه، ويحفظُها مما يَعْرِضُ لها من الآفات، ويحرُسُ بدنه أيضاً من طوارق الآفات، وكان ربُّه وفاطرُه تعالى هو المتولى لذلك وحدَه. علَّم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النائمَ أن يقولَ كلماتِ التفويضِ والالتجاء، والرغبة والرهبة، ليَستدعىَ بها كمال حفظِ الله له، وحراسته لنفسه وبدنه، وأرشده مع ذلك إلى أن يَستذكِرَ الإيمانَ، وينامَ عليه، ويجعلَ التكلُّمَ به آخرَ كلامه، فإنه ربما توفاه الله فى منامه، فإذا كان الإيمانُ آخِرَ كلامه دخل الجنَّة، فتضمَّن هذا الهَدْىُ فى المنام مصالحَ القلب والبدن والروح فى النوم واليقظة، والدنيا والآخرة، فصلواتُ الله وسلامُه على مَن نالتْ به أُمتُه كُلَّ خير
وقوله: "أسلَمتُ نفْسى إليكَ" ؛ أى: جعلتُها مُسلَّمَةً لك تسليمَ العبدِ المملوك نفسَه إلى سيده ومالكه.
وتوجيهُ وجهه إليه: يتضمَّن إقبالَه بالكلِّية على ربه، وإخلاص القصد والإرادة له، وإقراره بالخضوع والذل والانقياد، قال تعالى: {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}. وذكر الوجهَ إذ هو أشرفُ ما فى الإنسان، ومَجْمَعُ الحواس، وأيضاً ففيه معنى التوجُّهِ والقصدِ من قوله:
أسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبّ الْعِبَادِ إلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
وتفويض الأمر إليه: ردُّهُ إلى الله سبحانه، وذلك يُوجب سُكون القلب وطمأنينتَه، والرِّضى بما يقضيه ويختارُه له مما يحبه ويرضاه، والتفويضُ
من أشرف مقامات العبودية، ولا عِلَّة فيه، وهو من مقامات الخاصة خلافاً لزاعمى خلاف ذلك.
وإلجاءُ الظَّهر إليه سبحانه: يَتضَمَّنُ قوةَ الاعتماد عليه، والثقة به، والسكونَ إليه، والتوكلَ عليه، فإنَّ مَن أسند ظهره إلى ركن وثيقٍ، لم يخف السقوطَ.
ولمَّا كان للقلب قوَّتان: قوة الطلب، وهى الرغبة، وقوة الهرب، وهى الرهبة، وكان العبد طالباً لمصالحه، هارباً من مضارِّه، جمع الأمرين فى هذا التفويض والتوجُّه، فقال: "رغبةً ورهبةً إليك".
ثم أثنى على ربه، بأنه لا مَلجأ للعبد سواه، ولا منجا له منه غيره، فهو الذى يلجأ إليه العبدُ ليُنجِيَه من نفسه، كما فى الحديث الآخر: "أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وبمُعَافَاتِكَ من عُقُوبَتِكَ، وأعوذُ بِكَ مِنْكَ" ، فهو سبحانه الذى يُعيذ عبدَه ويُنجيه من بأسه الذى هو بمشيئته وقُدرته، فمنه البلاءُ، ومنه الإعانةُ، ومنه ما يُطلب النجاةُ منه، وإليه الالتجاءُ فى النجاة، فهو الذى يُلجأ إليه فى أن يُنجىَ مما منه، ويُستعاذُ به مما منه، فهو ربُّ كل شىء، ولا يكون شىء إلا بمشيئته: {وَإن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ}[الأنعام: 17]، {قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}[الأحزاب: 17]
ثُمَّ ختم الدعاءَ بالإقرار بالإيمان بكتابه ورسوله الذى هو مَلاكُ النجاة، والفوز فى الدنيا والآخرة، فهذا هَدْيُه فى نومه.
لَوْ لَمْ يَقُلْ إنِّى رَسُولٌ لَكَ ... انَ شَاهِدٌ فِى هَدْيِهِ يَنْطِقُ
فصل
وأمَّا هَدْيُه فى يقظته، فكان يَستيقظ إذا صاح الصَّارخُ وهو الدِّيك، فيحمَدُ اللهَ تعالى ويُكبِّره، ويُهلِّله ويدعوه، ثم يَستاك، ثم يقوم إلى وضُوئه، ثم يَقِفُ للصلاة بين يَدَى ربه، مُناجياً له بكلامه، مُثنياً عليه، راجياً له، راغباً راهباً، فأىُّ حفظٍ لصحةِ القلب والبدن، والرُّوح والقُوَى، ولنعيم الدنيا والآخرة فوقَ هذا.
فصل
وأمَّا تدبيرُ الحركة والسكون، وهو الرياضة، فنذكرُ منها فصلاً يُعلم منه مطابقةُ هَدْيِه فى ذلك لأكملِ أنواعِه وأحمدِها وأصوبِها، فنقول:
من المعلوم افتقارُ البدن فى بقائه إلى الغذاء والشراب، ولا يَصير الغذاءُ بجملته جزءاًمن البدن، بل لا بد أن يبقى منه عند كل هضم بقية ما، إذا كثُرتْ على ممر الزمان اجتمع منها شىء له كميةٌ وكيفية، فيضُرُّ بكميته بأن يسد ويُثقلَ البدن، ويُوجبَ أمراضَ الاحتباس، وإن استفرغ تأذَّى البدن بالأدوية، لأن أكثرها سُمِيَّة، ولا تخلو من إخراج الصالح المنتفَع به، ويضر بكيفيته، بأن يسخن بنفسه، أو بالعَفِن، أو يبردُ بنفسه، أو يضعف الحرارة الغريزية عن إنضاجه.
وسدد الفضلات لا محالةَ ضارةٌ، تُرِكَتْ أو استُفرِغَتْ، والحركةُ أقوى الأسباب فى منع تولُّدِها، فإنها تُسخِّن الأعضاء، وتُسيل فضلاتِها، فلا تجتمعُ على طول الزمان، وتُعوِّدُ البدنَ الخفةَ والنشاط، وتجعلُه قابلاً للغذاء، وتُصلِّب المفاصِل، وتُقوِّى الأوتارَ والرباطاتِ، وتُؤمن جميعَ الأمراض المادية وأكثر الأمراض المِزاجية إذا استُعمِلَ القدرُ المعتدل منها فى وقته، وكان باقى التدبير صواباً.
ووقتُ الرياضة بعدَ انحدار الغذاء، وكمال الهضم، والرياضةُ المعتدلة هى التى تحمرُّ فيها البَشْرة، وتربُو ويَتَنَدَّى بها البدنُ، وأما التى يلزمُها سيلانُ العرق فمفرِطةٌ، وأىُّ عضو كثرتْ رياضتُه قَوِىَ، وخصوصاً على نوع تلك الرياضة، بل كلُّ قوة فهذا شأنُها، فإنَّ مَن استكثَر من الحفظ قويتْ حافِظتُه، ومَن استكثرَ من الفكر قويتْ قُوَّتُه المفكِّرة، ولكل عضو رياضةٌ تخصُّه، فللصدرِ القراءةُ، فليبتدئ فيها من الخِفية إلى الجهر بتدريج، ورياضةُ السمع بسمعِ الأصوات، والكلام بالتدريج، فينتقل من الأخف إلى الأثقل، وكذلك رياضةُ اللِّسان فى الكلام، وكذلك رياضةُ البصر، وكذلك رياضةُ المشى بالتدريج شيئاً فشيئاً.
وأمَّا ركوبُ الخيل، ورمىُ النُّشَّاب، والصراعُ، والمسابقةُ على الأقدام، فرياضةٌ للبدن كلِّه، وهى قالعة لأمراض مُزمنةٍ، كالجُذام والاستسقاء والقولنج.
ورياضةُ النفوس بالتعلُّم والتأدُّب، والفرح والسرور، والصبر والثبات، والإقدام والسماحة، وفِعْل الخير، ونحو ذلك مما تَرْتاض به النفوسُ، ومن أعظم رياضتها: الصبرُ والحب، والشجاعة والإحسان، فلا تزالُ تَرتاض بذلك شيئاً فشيئاً حتى تَصيرَ لها هذه الصفاتُ هيآتٍ راسخةً، ومَلَكاتٍ ثابتةً.
وأنت إذا تأمَّلت هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ذلك، وجدتَه أكملَ هَدْىٍ حافظٍ للصحة والقُوَى، ونافعٍ فى المعاش والمعاد.
ولا رَيْبَ أنَّ الصلاة نفسَها فيها من حِفظِ صحة البدن، وإذابةِ أخلاطه وفضلاته، ما هو من أنفع شىء له سوى ما فيها مِن حفظِ صحة الإيمان، وسعادةِ الدنيا والآخرة، وكذلك قيامُ الليل مِن أنفع أسباب حفظ الصحة،
ومن أمنع الأُمور لكثير من الأمراض المزمنة، ومن أنشط شىء للبدن والروح والقلب، كما فى "الصحيحين" عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: "يَعقِدُ الشَّيْطَانُ على قافِيَةِ رأسِ أحَدِكُم إذا هو نامَ ثلاثَ عُقَدٍ، يَضربُ على كُلِّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طويلٌ، فارقُدْ، فإنْ هو استيقَظ، فذكَرَ اللهَ انحلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ تَوَضَّأَ، انحلَّتْ عُقْدَةٌ ثانيةٌ، فإنْ صَلَّى انحلَّتْ عُقْدُهُ كُلُّهَا، فأصبحَ نشيطاً طَيِّبَ النفْسِ، وإلاَّ أصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ".
وفى الصوم الشرعى من أسبابِ حفظ الصحة ورياضةِ البدن والنفس ما لا يدفعُه صحيحُ الفطرة.
وأما الجهادُ وما فيه من الحركات الكلية التى هى من أعظم أسباب القوة، وحفظ الصحة، وصلابةِ القلب والبدن، ودفعِ فضلاتهما، وزوالِ الهم والغم والحزن، فأمر إنَّما يعرفه مَن له منه نصيبٌ، وكذلك الحجُّ، وفعلُ المناسك، وكذلك المسابقةُ على الخيل، وبالنِّصال، والمشىُ فى الحوائج، وإلى الإخوان، وقضاءُ حقوقهم، وعيادة مرضاهم، وتشييعُ جنائزهم، والمشىُ إلى المساجد للجُمُعات والجماعات، وحركةُ الوضوء والاغتسال، وغير ذلك.
وهذا أقلُّ ما فيه الرياضةُ المعينة على حفظِ الصحة، ودفع الفضلات، وأما ما شُرع له من التوصُّل به إلى خيرات الدنيا والآخرة، ودفع شرورهما، فأمرٌ وراء ذلك.
فعلمتَ أنَّ هَدْيَه فوق كل هَدْىٍ فى طبِّ الأبدان والقلوب، وحفظِ صحتها، ودفع أسقامهما، ولا مزيدَ على ذلك لمن قد أحضر رشده.. وبالله التوفيق.
فصل
[فى الجِماع والباه وهَدْى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه]
وأما الجِماعُ والباهُ، فكان هَدْيُه فيه أكملَ هَدْىٍ، يحفَظ به الصحة، وتتمُّ به اللَّذةُ وسرور النفس، ويحصل به مقاصدُه التى وُضع لأجلها، فإن الجِمَاع وُضِعَ فى الأصل لثلاثة أُمور هى مقاصدُه الأصلية:
أحدها: حفظُ النسل، ودوامُ النوع إلى أن تتكاملَ العُدة التى قدَّر الله بروزَها إلى هذا العالَم.
الثانى: إخراجُ الماء الذى يضر احتباسُه واحتقانُه بجملة البدن.
الثالث: قضاءُ الوَطر، ونيلُ اللَّذة، والتمتعُ بالنعمة، وهذه وحدَها هى الفائدةُ التى فى الجنَّة، إذ لا تناسُلَ هناك، ولا احتقانَ يستفرِغُه الإنزالُ.
وفضلاءُ الأطباء: يرون أنَّ الجِمَاع من أحد أسباب حفظ الصحة. قال "جالينوسُ": الغالبُ على جوهر المَنِىِّ النَّارُ والهواءُ، ومِزاجُه حار رطب، لأن كونه من الدم الصافى الذى تغتذى به الأعضاءُ الأصلية، وإذا ثبت فضلُ المَنِىِّ، فاعلم أنه لا ينبغى إخراجُه إلا فى طلب النسل، أو إخراجُ المحتقن منه، فإنه إذا دام احتقانُه، أحدث أمراضاً رديئة، منها: الوسواسُ والجنون، والصَّرْع، وغيرُ ذلك، وقد يُبرئ استعمالُه من هذه الأمراض كثيراً، فإنه إذا طال احتباسُه، فسد واستحال إلى كيفية سُمِّية تُوجب أمراضاً رديئة كما ذكرنا، ولذلك تدفعُه الطبيعةُ بالاحتلام إذا كثر عندها من غير جِمَاع.
وقال بعض السَّلَف: ينبغى للرجل أن يتعاهد من نفسه ثلاثاً: أن لا يدعَ المشىَ، فإن احتاج إليه يوماً قدَر عليه، وينبغى أن لا يدَع الأكل، فإن أمعاءه تضيق، وينبغى أن لا يدَع الجِمَاعَ، فإن البئر إذا لم تُنزحْ، ذهب ماؤها.
وقال محمد بن زكريا: مَن ترك الجِمَاعَ مدةً طويلة،
ضعفتْ قُوى أعصابه، وانسدَّت مجاريها، وتقلَّص ذَكرُه. قال: ورأيتُ جماعة تركوه لنوع من التقشف، فبرُدَتْ أبدانُهُم، وعَسُرَتْ حركاتُهُم، ووقعتْ عليهم كآبةٌ بلا سبب، وقَلَّتْ شهواتُهُم وهضمُهُم.. انتهى.
ومن منافعه: غضُّ البصر، وكفُّ النفس، والقدرةُ على العِفَّة عن الحرام، وتحصيلُ ذلك للمرأة، فهو ينفع نفسه فى دنياه وأُخراه، وينفع المرأة، ولذلك كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعاهدُه ويُحبُه، ويقول: "حُبِّبَ إلىَّ مِن دُنْيَاكُمُ: النِّسَاءُ والطِّيبُ". وفى كتاب "الزهد" للإمام أحمد فى هذا الحديث زيادةٌ لطيفة، وهى: "أصبرُ عن الطعام والشراب، ولا أصبرُ عنهنَّ".
وحثَّ على التزويج أُمَّته، فقال: "تَزَوَّجوا، فإنِّى مُكاثرٌ بِكُمُ الأُمَمَ".
وقال ابن عباس: خيرُ هذه الأُمة أكثرُها نِساءً.
وقال: "إنِّى أتزوَّجُ النساءَ، وأنامُ وأقومُ، وأَصُومُ وأُفطِرُ، فمن رَغِبَ عن سُنَّتى فليس منِّى".
وقال: "يا معشرَ الشبابِ ؛ مَن استطاعَ منكم الباءَةَ فلْيَتَزَوَّجْ، فإنه
أغضُّ للبصرِ، وأحْفَظُ للْفِرْج، ومَن لم يستطعْ، فعليه بالصومِ، فإنه له وِجاءٌ"
ولما تزوج جابر ثيِّباً قال له: "هَلاَّ بِكْراً تُلاعِبُها وتُلاعِبُكَ".
وروى ابن ماجه فى "سننه" من حديث أنس بن مالك قال، قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن أراد أنْ يَلْقَى اللهَ طاهراً مُطَهَّراً، فَلْيَتَزَوَّج الحَرَائِرَ".وفى "سننه" أيضاً من حديث ابن عباس يرفعه، قال: "لم نَرَ للمُتَحابَّيْن مِثْلَ النِّكاحِ".
وفى "صحيح مسلم" من حديث عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدُّنيا مَتَاعٌ، وخَيْرُ متاع الدُّنْيا المرأةُ الصَّالِحَةُ".
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحرِّض أُمته على نكاح الأبكار الحسان، وذواتِ الدين، وفى "سنن النسائى" عن أبى هريرةَ قال: سُئل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أىُّ
النساءِ خير ؟ قال: "التى تَسُرُّهُ إذا نَظَرَ، وتُطِيعُهُ إذا أَمَرَ، ولا تُخَالِفُه فيما يَكَرَهُ فى نفسِها ومالِهِ ".
وفى "الصحيحين" عنه، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "تُنكَحُ المرأةُ لمالِها، ولِحَسَبِها، ولِجَمَالِها، ولِدِينِهَا، فاظْفَرْ بذاتِ الدِّين، تَرِبَتْ يَدَاكَ".
وكان يَحثُّ على نكاح الوَلُود، وَيَكرهُ المرأة التى لا تلد، كما فى "سنن أبى داودَ" عن مَعْقِل بن يَسار، أنَّ رجلاً جاء إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إنى أصَبتُ امرأةً ذاتَ حَسَبٍ وجمالٍ، وإنَّها لاَ تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُها ؟ قال: "لا"، ثم أتاه الثانيةَ، فَنَهَاه، ثم أتاه الثالثةَ، فقال: "تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ، فإنِّى مُكَاثِرٌ بِكُمْ".
وفى "الترمذى" عنه مرفوعاً: "أَرْبَعٌ من سُنن المُرْسَلِينَ: النِّكاحُ، والسِّواكُ، والتَّعَطُّرُ والحِنَّاءُ". رُوى فى "الجامع" بالنون ووالياء، وسمعتُ أبا الحجَّاج الحافظَ يقول: الصواب: أنه الخِتَان، وسقطت النونُ من الحاشية، وكذلك رواه المَحَامِلىُّ عن شيخ أبى عيسى الترمذى.
وممَّا ينبغى تقديُمُه على الجِماع ملاعبةُ المرأة، وتقبيلُها، ومصُّ لِسانها، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُلاعبُ أهله، ويُقَبلُها
وروى أبو داود فى "سننه": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كان يُقبِّلُ عائشةَ، ويمصُّ لِسَانَها".
ويُذكر عن جابر بن عبد الله قال: "نَهَى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المُواقعةِ قبلَ المُلاَعَبَةِ".
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربما جامع نساءَه كُلَّهن بغُسل واحد، وربما اغتَسَلَ عند كل واحدة منهن، فروى مسلم فى "صحيحه" عن أنس أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَطوفُ على نسائه بغُسْلٍ واحد.
وروى أبو داود فى "سننه" عن أبي رافع مولَى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف على نسائه فى ليلة، فاغتَسَلَ عند كلِّ امرأةٍ منهنَّ غُسلاً، فقلتُ: يا رسول الله ؛ لو اغتسلتَ غُسلاً واحداً، فقال: "هذا أزكى وأطْهَرُ وأطْيَبُ".
وشُرع للمُجامِع إذا أراد العَودَ قبل الغُسل الوضوء بين الجِمَاعَيْن، كما روى مسلم فى "صحيحه" من حديث أبى سعيد الخدرىِّ، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أتى أحدُكُم أَهْلَهُ، ثم أرادَ أن يعودَ فلْيَتَوَضأ".
وفى الغُسْلِ والوضوء بعد الوطء من النشاطِ، وطيبِ النفس، وإخلافِ بعض ما تحلَّل بالجِماع، وكمالِ الطُهْر والنظافة، واجتماع الحار الغريزى إلى داخل البدن بعد انتشاره بالجِماع، وحصولِ النظافة التى يُحبها الله، ويُبغض خلافها ما هو مِن أحسن التدبير فى الجِماع، وحفظ الصحة والقُوَى فيه.
فصل
وأنفعُ الجِماع: ما حصلَ بعد الهضم، وعند اعتدال البدن فى حرِّه وبرده، ويُبوسته ورطوبته، وخَلائه وامتلائه. وَضَرَرُه عند امتلاء البدن أسهلُ وأقل من ضرره عند خُلوِّه، وكذلك ضررُه عند كثرة الرطوبة أقلُّ منه عند اليبوسة، وعند حرارته أقلُّ منه عند برودته، وإنما ينبغى أن يُجامِعَ إذا اشتدتْ الشهوةُ، وحصَلَ الانتشارُ التام الذى ليس عن تكلُّفٍ، ولا فكرٍ فى صورة، ولا نظرٍ متتابع.
ولا ينبغى أن يستدعىَ شهوةَ الجِماع ويتكلفها، ويحمل نفسه عليها، وليُبادْر إليه إذا هاجتْ به كثرةُ المَنِىِّ، واشتد شَبَقُهُ، وليحذرْ جِماعَ العجوز والصغيرةِ التى لا يُوطأُ مثلُها، والتى لا شهوة لها، والمريضةِ، والقبيحةِ المنظرِ، والبَغيضة، فوطءُ هؤلاء يُوهن القُوَى، ويُضعف الجِماع بالخاصِّية، وغلط مَن قال من الأطباء: إن جِماع الثيِّب أنفعُ من جِماع البكر وأحفظُ للصحة، وهذا من القياس الفاسد، حتى ربما حذَّر منه بعضُهم، وهو مخالف لِما عليه عقلاءُ الناسِ، ولِما اتفقتْ عليه الطبيعةُ والشريعة.
وفى جِماع البِكر من الخاصِّية وكمالِ التعلُّق بينها وبين مُجامعها، وامتلاءِ قلبها من محبته، وعدم تقسيم هواها بينه وبين غيره، ما ليس للثَيِّب. وقد قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجابر: "هلاَّ تَزوَّجتَ بِكراً "، وقد جعل الله سبحانه
من كمالِ نساء أهل الجنَّة من الحُور العين، أنَّهن لم يَطْمِثْهُنَّ أحدٌ قبلَ مَن جُعِلْنَ له، من أهل الجنَّة. وقالت عائشةُ للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرأيْتَ لو مَرَرْتَ بشجرةٍ قد أُرْتِعَ فيها، وشجرةٍ لم يُرْتَعْ فيها، ففى أيِّهما كنتَ تُرتِعُ بعيرَك ؟ قال: "فى التى لم يُرْتَعْ فيها". تريد أنه لم يأخذ بكراً غيرَها.
وجِماعُ المرأة المحبوبة فى النفس يَقِلُّ إضعافُهُ للبدن مع كثرةِ استفراغه للمَنِىِّ، وجماع البغيضة يُحِلُّ البدن، ويُوهن القُوَى مع قِلَّةِ استفراغه، وجِماعُ الحائض حرامٌ طبعاً وشرعاً، فإنه مضرٌ جداً، والأطباء قاطبةً تُحَذِّر منه.
وأحسنُ أشكالِ الجِماع أن يعلوَ الرجلُ المرأةَ، مُستفرِشاً لها بعدَ المُلاعبة والقُبلة، وبهذا سُميت المرأة فِراشاً، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الولَدُ لِلفِراش"، وهذا من تمام قَوَّامية الرجل على المرأة، كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]، وكما قيل:
إذَا رُمْتُهَا كَانَتْ فِرَاشَاً يُقِلُّنِى ... وَعِنْدَ فَرَاغِى خَادِمٌ يَتَمَلَّقُ
وقد قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187]، وأكملُ اللِّباس وأسبَغُه على هذه الحال، فإن فِراش الرجل لباسٌ له، وكذلك لِحَافُ المرأة لباسٌ لها، فهذا الشكلُ الفاضلُ مأخوذٌ من هذه الآية، وبه يَحسن موقعُ استعارةِ اللِّباس من كل من الزوجين للآخر.
وفيه وجه آخرُ، وهو أنها تَنعطِفُ عليه أحياناً، فتكونُ عليه كاللِّباس،
قال الشاعر:
إذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَها ... تَثَنَّتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا
وأردأُ أشكاله أن تعلُوَهُ المرأةُ، ويُجامِعَها على ظهره، وهو خلافُ الشكل الطبيعى الذى طبع الله عليه الرجل والمرأة، بل نوعَ الذكر والأُنثى، وفيه من المفاسد، أنَّ المَنِىَّ يتعسَّرُ خروجُه كلُّه، فربما بقى فى العضو منه فيتعفنُ ويفسد، فيضر.
وأيضاً: فربما سال إلى الذَّكر رطوباتٌ من الفَرْج.
وأيضاً: فإنَّ الرَّحِم لا يتمكن من الاشتمال على الماء واجتماعِهِ فيه، وانضمامِهِ عليه لتَخْلِيقِ الولد.
وأيضاً: فإنَّ المرأة مفعولٌ بها طبعاً وشرعاً، وإذا كانت فاعلة خالفتْ مقتضى الطبع والشرع.
وكان أهل الكتاب إنما يأتون النساء على جُنوبهن على حَرْفٍ، ويقولون: هو أيسرُ للمرأة.
وكانت قريش والأنصار تَشْرَحُ النِّساءَ على أقْفَائِهن، فعابَتِ اليهودُ عليهم ذلك، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].
وفى "الصحيحين" عن جابر، قال: كانت اليهود تقولُ: إذا أتى الرجلُ امرأتَه من دُبُرِها فى قُبُلِها، كان الولدُ أَحوَلَ، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].
وفى لفظ لمسلم: "إن شاء مُجَبِّيَة، وإن شاء غير مُجَيِّبَة، غَيْرَ أنَّ ذلك فى صِمِامٍ واحدٍ
و"المُجَبِّية": المُنْكَبَّة على وجهها، و"الصمام الواحد": الفَرْج، وهو موضع الحرْثِ والولد.
وأما الدُّبرُ: فلم يُبَحْ قَطُّ على لسان نبىٍّ من الأنبياء، ومَن نسب إلى بعض السَّلَف إباحة وطء الزوجة فى دُبُرها، فقد غلط عليه.
وفى "سنن أبى داود" عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ملعونٌ مَن أتى المرأةَ فى دُبُرِها".
وفى لفظ لأحمد وابن ماجه: "لا يَنْظُرُ اللهُ إلى رَجُلٍ جَامَعَ امرأتَه فى دُبُرِها".
وفى لفظ للترمذى وأحمد: " مَن أتى حائضاً، أو امرأةً فى دُبُرِها، أوْ كاهناً فَصَدَّقَهُ، فقد كَفَرَ بما أُنْزِلَ على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وفى لفظ للبيهقى: "مَنْ أتى شيئاً مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ فى الأدبار فقد كفر".
وفى "مصنَّف وكِيع": حدثنى زمْعة بن صالح، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن يَزيد ؛ قال: قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيى من الحقِّ، لا تأتُوا النِّسَاءَ فى أعجازِهِنَّ"، وقال مَرَّة: "فى أدبارِهِنَّ".
وفى "الترمذى": عن على بن طَلْق، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تأتوا النِّسَاءَ فى أعجازِهِنَّ، فإن الله لا يستحى من الحقِّ".
وفى "الكامل" لابن عَدِى: من حديثه عن المحامِلى، عن سعيد بن يحيى الأموىِّ، قال: حدَّثنا محمد بن حمزَةَ، عن زيد بن رَفيع، عن أبى عُبيدة، عن عبد الله بن مسعود يرفعه: "لا تأتوا النِّسَاءَ فى أعْجَازِهِنَّ".
وروينا فى حديث الحسن بن على الجوهرىِّ، عن أبى ذرٍّ مرفوعاً: "مَنْ أتى الرِّجَال والنِّسَاءَ فى أدْبَارِهنَّ، فقد كَفَرَ".
وروى إسماعيل بن عيَّاش، عن سُهيل بن أبى صالح، عن محمد ابن المُنْكَدِر، عن جابر يرفعه: "اسْتَحْيُوا مِنَ الله، فإنَّ اللهَ لا يَسْتَحيى مِنَ الحقِّ، لا تأْتُوا النِّسَاءَ فى حُشُوشِهِنَّ".
ورواه الدارقُطنِىُّ من هذه الطريق، ولفظه: "إنَّ الله لا يَسْتَحيى مِنَ الحق، لا يَحلُّ مَأْتَاك النِّسَاءَ فى حُشُوشِهِنَّ".
وقال البغوىُّ: حدثنا هُدْبَةُ، حدثنا همَّام، قال: سُئِل قتادة عن الذى يأتى امرأته فى دُبُرِها ؛ فقال: حَدَّثنى عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جده، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "تلك اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرى".
وقال أحمد فى "مسنده": حدَّثنا عبد الرحمن، قال: حدَّثنا همَّام، أُخبِرنا عن قتادَةَ، عن عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جده، فذكره.
وفى "المسند" أيضاً: عن ابن عباس: أنزلت هذه الآية: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} [البقرة: 223] فى أُناسٍ من الأنصار، أتَوْا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألوه، فقال: "ائْتِها على كُلِّ حال إذا كان فى الفَرْج".
وفى "المسند" أيضاً: عن ابن عباس، قال: جاء عمرُ بنُ الخطاب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله: هلكتُ. فقال: "وما الذى أهلكَكَ" ؟ قال: حَوَّلْتُ رَحْلى البارِحَةَ، قال: فلم يَرُدَّ عليه شيئاً، فأوحى الله إلى رسوله: {نِسَاءُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] أَقْبِلْ وأَدْبِرْ، واتَّقِ الحَيْضَةَ والدُّبُرَ".
وفى "الترمذى": عن ابن عباس مرفوعاً: "لا يَنْظُرُ اللهُ إلى رَجُلٍ أتى رَجُلاً أو امرأةً فى الدُّبُرِ".
وروينا من حديث أبى على الحسن بن الحسين بن دُومَا، عن البَراء
بن عازِب يرفعه: "كَفَرَ باللهِ العظيم عشرةٌ من هذه الأُمة: القاتِلُ، والسَّاحِرُ، والدُّيُّوثُ، وناكحُ المرأةِ فى دُبُرِها، ومانِعُ الزكاةِ، ومَن وَجَدَ سَعَةً فماتَ ولم يَحُجَّ، وشاربُ الخَمْرِ، والسَّاعِى فى الفِتَنِ، وبائعُ السِّلاحِ من أهلِ الحربِ، ومَن نكَح ذَاتَ مَحْرَمٍ منه".
وقال عبد الله بن وهب: حدَّثنا عبد الله بن لَهيعةَ، عن مِشرَح بن هاعانَ، عن عقبةَ بن عامر، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَلْعُونٌ مَن يأتى النِّسَاءَ فى محاشِّهِنَّ" ؛ يعنى: أدْبَارِهِنَّ.
وفى "مسند الحارث بن أبى أُسامة" من حديث أبى هريرة، وابن عباس قالا: خطبنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل وفاته، وهى آخِرُ خُطبةٍ خطبها بالمدينة حتى لحق بالله عَزَّ وَجَلَّ، وعظنا فيها وقال : "مَن نَكَحَ امرأَةً فى دُبُرِها أو رجلاً أو صَبِيَّاً، حُشِرَ يَوْمَ القيامة، وريحُهُ أنْتَنُ مِنَ الجِيفةِ يتأذَّى به النَّاسُ حتى يَدْخُلَ النَّار، وأَحْبَطَ اللهُ أجرَهُ، ولا يَقْبَلُ منه صَرْفاً ولا عدلاً، ويُدْخَلُ فى تابوتٍ من نارٍ، ويُشَدُّ عليه مَساميرُ من نارٍ"، قال أبو هريرة: هذا لمن لم يتب.
وذكر أبو نعيم الأصبهاني، من حديث خزيمة بن ثابت يرفعه، "إنَّ الله لا يَسْتَحي مِنَ الحَق، لا تأتوا النِّساَء في أَعْجاَزِهِنَّ".
وقال الشافعي: أخبرني عمي محمد بن علي بن شافع، قال: أخبرني عبد الله بن علي بن السائب، عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح، عن خزيمة
بن ثابت، أن رجلا سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال: "حلال"، فلما ولى، دعاه فقال: "كيف قُلتَ، في أيِّ الخُرْبَتَينِ، أو في أي الخَرْزَتَينِ، أو في أيِّ الخَصْفَتَينِ أمنْ دُبُرهاَ في قُبُلهَا ؟ فَنَعَم. أم مِنْ دُبُرِهاَ في دُبُرِهاَ، فلا، إنَّ الله لا يَسْتَحيِي مِنَ الحَق، لا تأتوا النِّساَء في أَدبارهِنَّ".
قال الربيع: فقيل للشافعي: فما تقول ؟ فقال: عمي ثقة، وعبد الله بن علي ثقة، وقد أثنى على الأنصاري خيراً، يعني عمرو بن الجلاح، وخزيمة ممن لا يشك في ثقته، فلست أرخص فيه، بل انهي عنه.
قلت: ومن هاهنا نشأ الغلط على من نقل عنه الإباحة من السلف والأئمة، فإنهم أباحوا أن يكون الدُّبر طريقاً إلى الوطء في الفرج، فيطأ من الدبر لا في الدبر، فاشتبه على السامع "من" ب "في" ولم يظن بينهما فرقاً، فهذا الذي أباحه السلف والأئمة، فغلط عليهم الغالط أقبح الغلط وأفحشه.
وقد قال تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] قال مجاهد: سألتُ ابن عَبَّاس عن قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222]، فقال: تأتيها من حيث أمرت أن تعتزلها يعني في الحيض. وقال علي بن أبي طلحة عنه يقول: في الفرج، ولا تعدُه إلى غيره.
وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دُبرها من وجهين: أحدهما: أنه أباح إتيانها في الحرث، وهو موضع الولد لا في الحُشّ الذي هو موضع الأذى، وموضع الحرث هو المراد من قوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] الآية قال: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] وإتيانُها في قبلها مِن دبرها مستفادٌ
من الآية أيضا، لأنه قال: أنى شئتم، أي: من أين شئتم من أمام أو من خلف. قال ابن عباس: فأتوا حرثكم، يعني: الفرج.
وإذا كان الله حرَّم الوطءَ في الفرج لأجل الأذى العارض، فما الظنُّ بالحشِّ الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جداً من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان.
وأيضاً: فللمرأة حق على الزوج في الوطء، ووطؤها في دُبرها يفوِّتُ حقها، ولا يقضي وطَرَها، ولا يُحَصِّل مقصودها.
وأيضاً: فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل، ولم يخلق له، وإنما الذي هيئ له الفرج، فالعادلون عنه إلى الدُّبُر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعاً.
وأيضاً: فإن ذلك مضر بالرجل، ولهذا ينهي عنه عقلاءُ الأطباء منِ الفلاسفة وغيرهم، لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن وراحة الرجل منه والوطءُ فى الدُّبُر لا يعين على اجتذاب جميع الماء، ولا يخرج كلَّ المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعى.
وأيضاً: يضر من وجه آخَر، وهو إحواجُه إلى حركات متعبةٍ جداً لمخالفته للطبيعة.
وأيضاً: فإنه محل القذر والنَّجْوِ، فيستقبلُه الرَّجل بوجهه، ويُلابسه.
وأيضاً: فإنه يضرُّ بالمرأة جداً، لأنه واردٌ غريب بعيدٌ عن الطباع، مُنافر لها غايةَ المنافرة.
وأيضاً: فإنه يُحِدثُ الهمَّ والغم، والنفرةَ عن الفاعل والمفعول.
وأيضاً: فإنه يُسَوِّدُ الوجه، ويُظلم الصدر، ويَطمِسُ نور القلب،
ويكسو الوجه وحشةً تصير عليه كالسِّيماء يعرِفُها مَن له أدنى فراسة.
وأيضاً: فإنه يُوجب النُّفرة والتباغض الشديد، والتقاطع بين الفاعل والمفعول، ولا بُدَّ.
وأيضاً: فإنه يُفسد حال الفاعل والمفعول فساداً لا يكادُ يُرجَى بعده صلاح، إلا أن يشاءَ الله بالتوبة النصوح.
وأيضاً: فإنه يُذهبُ بالمحاسن منهما، ويكسوهما ضِدَّها. كما يُذهب بالمَوَدَّة بينهما، ويُبدلهما بها تباغضاً وتلاعُناً.
وأيضاً: فإنه من أكبر أسباب زوال النِعَم، وحُلول النِقَم، فإنه يوجب اللَّعنةَ والمقتَ من الله، وإعراضه عن فاعله، وعدم نظره إليه، فأىُّ خير يرجوه بعد هذا، وأىُّ شر يأمنُه، وكيف حياة عبد قد حلَّتْ عليه لعنة الله ومقته، وأعرض عنه بوجهه، ولم ينظر إليه.
وأيضاً: فإنه يُذهب بالحياءِ جملةً، والحياءُ هو حياة القلوب، فإذا فقدها القلبُ، استحسَن القبيح، واستقبحَ الحسن، وحينئذٍ فقد استَحكَم فسادُه.
وأيضاً: فإنهُ يُحيل الطباعَ عما رَكَّبَها الله، ويُخرج الإنسانَ عن طبعه إلى طبع لم يُركِّب الله عليه شيئاً من الحيوان، بل هو طبع منكوس، وإذا نُكِسَ الطبعُ انتكس القلب، والعمل، والهدى، فيستطيبُ حينئذٍ الخبيثَ من الأعمال والهيئات، ويفسد حاله وعملُه وكلامه بغير اختياره.
وأيضاً: فإنه يُورِث مِنَ الوقاحة والجُرأة ما لا يُورثه سواه.
وأيضاً: فإنه يُورث مِنَ المهانة والسِّفال والحقَارة ما لا يورثه غيره.
وأيضاً: فإنه يكسو العبدَ مِن حُلَّة المقت والبغضاء، وازدراءِ الناس له،
واحتقارِهم إيَّاه، واستصغارِهم له ما هو مشاهَدٌ بالحسِّ، فصلاة الله وسلامه على مَن سعادةُ الدنيا والآخرة فى هَدْيِه واتباعِ ما جاء به، وهلاكُ الدنيا والآخرة فى مخالفة هَدْيِه وما جاء به.
فصل
والجِماع الضار: نوعان ؛ ضارٌ شرعاً، وضارٌ طبعاً.
فالضار شرعاً: المحرَّم، وهو مراتبُ بعضُها أشدُّ من بعض. والتحريمُ العارض منه أخفُّ من اللازم، كتحريم الإحرام، والصيام، والاعتكاف، وتحريم المُظاهِرِ منها قبل التكفير، وتحريمِ وطء الحائض... ونحو ذلك، ولهذا لا حدَّ فى هذا الجِمَاع.
وأما اللازمُ: فنوعان ؛ نوعٌ لا سبيل إلى حِلَّه ألبتة، كذواتِ المَحارم، فهذا من أضر الجِمَاع، وهو يُوجب القتل حداً عند طائفة من العلماء، كأحمد ابن حنبلٍ رحمه الله وغيرِه، وفيه حديث مرفوع ثابت.
والثانى: ما يمكن أن يكون حلالاً، كالأجنبية، فإن كانت ذاتَ
زوج، ففى وطئها حَقَّان: حقٌّ للهِ، وحقٌّ للزوج. فإن كانت مُكرَهة، ففيه ثلاثةُ حقوق، وإن كان لها أهل وأقاربُ يلحقهم العارُ بذلك صار فيه أربعةُ حقوق، فإن كانت ذات مَحْرَم منه، صار فيه خمسةُ حقوق. فمَضَرَّةُ هذا النوع بحسب درجاته فى التحريم.
وأما الضار طبعاً، فنوعان أيضاً: نوعٌ ضار بكيفيته كما تقدَّم، ونوعٌ ضار بكميته كالإكثار منه، فإنه يُسقط القُوَّة، ويُضر بالعصب، ويُحدث الرِّعشةَ، والفالج، والتشنج، ويُضعف البصر وسائرَ القُوَى، ويُطفئُ الحرارةَ الغريزية، ويُوسع المجارىَ، ويجعلها مستعدة للفضلات المؤذية.
وأنفعُ أوقاته، ما كان بعد انهضام الغذاء فى المَعِدَة وفى زمانٍ معتدلٍ لا على جوع، فإنه يُضعف الحار الغريزى، ولا على شبع، فإنه يُوجب أمراضاً شديدةً، ولا على تعب، ولا إثْرَ حمَّام، ولا استفراغٍ، ولا انفعالٍ نفسانى كالغمِّ والهمِّ والحزنِ وشدةِ الفرح.
وأجودُ أوقاته بعد هَزِيع من الليل إذا صادف انهضامَ الطعام، ثم يغتسل أو يتوضأ، وينامُ عليه، وينامُ عقبه، فَتَراجَعُ إليه قواه، وليحذرِ الحركة والرياضة عقبه، فإنها مضرة جداً.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى عِلاج العشق
هذا مرضٌ من أمراض القلب، مخالفٌ لسائر الأمراض فى ذاته وأسبابه وعِلاجه، وإذا تمكَّنَ واستحكم، عزَّ على الأطباء دواؤه، وأعيى العليلَ داؤُه، وإنَّما حكاه اللهُ سبحانه فى كتابه عن طائفتين من الناس: من النِّسَاء،
وعشاقِ الصبيان المُرْدان، فحكاه عن امرأة العزيز فى شأن يوسفَ، وحكاه عن قوم لوط، فقال تعالى إخباراً عنهم لمَّا جاءت الملائكةُ لوطاً: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إنَّ هَؤُلآءِ ضيفىَ فَلاَ تَفْضَحُونِ وَاتَّقُواْ اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِى إن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الحجر: 68-73].
وأمَّا ما زعمه بعضُ مَن لم يقدرسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقَّ قدره أنه ابتُلِىَ به فى شأن زينب بنت جَحْش، وأنه رآها فقال: "سُبحانَ مُقَلِّبِ القُلُوبِ". وأخذتْ بقلبه، وجعل يقول لزيد بن حارثةَ: "أمْسِكْها" حتى أنزل الله عليه: {وَإذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}[الأحزاب: 37] ، فظنَّ هذا الزاعمُ أنَّ ذلك فى شأن العشق، وصنَّف بعضهم كتاباً فى العشق، وذكر فيه عشق الأنبياء، وذكر هذه الواقعة، وهذا من جهلِ هذا القائل بالقرآن وبالرُّسُل، وتحمِيلهِ كلامَ الله ما لا يحتمِلُه، ونسبتِه رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ما برَّأَه الله منه، فإنَّ زينبَ بنت جحش كانت تحتَ
زيدِ بن حارثةَ، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تبنَّاه، وكان يُدعى "زيد بن محمد"، وكانت زينبُ فيها شَممٌ وترفُّع عليه، فشاور رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى طلاقها، فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمْسِكْ عليكَ زوجَكَ واتَّقِ الله"، وأخفى فى نفسه أن يتزوَّجَها إن طلَّقها زيد، وكان يخشى من قالةِ الناس أنه تزوَّج امرأة ابنه، لأن زيداً كان يُدعى ابنَه، فهذا هو الذى أخفاه فى نفسه، وهذه هى الخشية من الناس التى وقعت له، ولهذا ذكر سبحانه هذه الآية يُعَدِّدُ فيها نعمه عليه لا يُعاتبه فيها، وأعلمه أنه لا ينبغى له أن يخشى الناسَ فيما أحلَّ الله له، وأنَّ اللهَ أحق أن يخشاه، فلا يتحرَّج ما أحَلَّه له لأجل قول الناس، ثم أخبره أنه سبحانه زوَّجه إيَّاها بعد قضاء زيدٌ وطرَه منها لتقتدىَ أُمَّتُه به فى ذلك، ويتزوج الرجل بامرأةِ ابنه من التبنِّى، لا امرأةِ ابنه لِصُلبه، ولهذا قال فى آية التحريم: { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ}[النساء:23]، وقال فى هذه السورة: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ}[الأحزاب: 40]، وقال فى أولها: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ، ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4]، فتأمَّلْ هذا الذبَّ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودَفْع طعنِ الطاعنين عنه، وبالله التوفيق.
نعم.. كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ نساءه، وكان أحبَّهن إليه عائشةُ رضى الله عنها، ولم تكن تبلُغُ محبتُه لها ولا لأحد سِوَى ربه نهايةَ الحب، بل صح أنه قال: "لو كنتُ مُتَّخِذاً من أهل الأرض خليلاً لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ خليلاً"، وفى لفظ: "وإنَّ صَاحِبَكُم خَلِيلُ الرَّحْمَن".

--------------يتبع ان شاء الله  بجزء 5//2

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق