الاثنين، 21 مايو 2018

ج4 /2 الروض الانف للسهيلي ذَكَرَ خَدِيجَ بْنَ سَلَامَةَ الْبَلَوِيّ/ الْإِذْنُ لِمُسْلِمِي مَكّةَ بِالْهِجْرَةِ /وَذَكَرَ هِجْرَةَ بَنِي جَحْشٍ

ج4 /2 الروض الانف للسهيلي
تابع الروض الانف ج4.
[ ص 285 ] ذَكَرَ خَدِيجَ بْنَ سَلَامَةَ الْبَلَوِيّ فَصْلٌ وَذَكَرَ خَدِيجَ بْنَ سَلَامَةَ الْبَلَوِيّ وَهُوَ خَدِيجٌ بِخَاءِ مَنْقُوطَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَدَالٍ مَكْسُورَةٍ كَذَا ذَكَرَهُ الدّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَهُ الطّبَرِيّ ، وَقَالَ شَهِدَ الْعَقَبَةَ ، وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا ، وَقَالَ يُكَنّى أَبَا رَشِيدٍ [ ص 286 ] وَذَكَرَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَنَسَبَهُ إلَى أُدَيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ أَخِي سَلِمَةَ وَقَدْ انْفَرَضَ عَقِبُ أُدَيّ وَآخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، وَقَدْ يُقَالُ فِي أُدَيّ أَيْضًا : أُذُنٌ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ وَابْنِ هِشَامٍ . [ ص 287 ] وَذَكَرَ أَنّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ مَاتَ فِي طَاعُونِ عَمْوَاسٍ ، هَكَذَا تَقَيّدَ فِي النّسْخَةِ عَمْوَاسٌ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَقَالَ فِيهِ الْبَكْرِيّ فِي كِتَابِ الْمُعْجَمِ مِنْ أَسْمَاءِ الْبُقَعِ عَمَوَاسٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْعَيْنِ وَهِيَ قَرْيَةٌ بِالشّامِ عُرِفَ الطّاعُونُ بِهَا لِأَنّهُ مِنْهَا بَدَأَ وَقِيلَ إنّمَا سُمّيَ طَاعُونَ عَمْوَاسٍ لِأَنّهُ عَمّ وَآسَى أَيْ جَعَلَ بَعْضَ النّاسِ أُسْوَةَ بَعْضٍ . [ ص 288 ] وَذَكَرَ يَزِيدَ بْنَ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزْمَةَ بِسُكُونِ الزّايِ كَذَا قَالَ فِيهِ ابْنُ إسْحَاقَ وَابْنُ الْكَلْبِيّ وَقَالَ الطّبَرِيّ فِيهِ خَزَمَةَ بِتَحْرِيكِ الزّايِ وَهُوَ بَلَوِيّ مِنْ بَنِي عَمّارَةَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَلَا يُعْرَفُ عَمّارَةُ فِي الْعَرَبِ إلّا هَذَا ، كَمَا لَا يُعْرَفُ عِمَارَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ إلّا أُبَيّ بْنُ عِمَارَةَ الّذِي يَرْوِي حَدِيثًا فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفّيْنِ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ عُمَارَةُ بِضَمّ الْعَيْنِ وَأَمّا سِوَى هَذَيْنِ فَعُمَارَةُ بِالضّمّ غَيْرَ أَنّ الدّارَقُطْنِيّ ذَكَرَ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْكَلْبِيّ فِي نَسَبِ قُضَاعَةَ : قَالَ مُدْرِكُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْقَمْقَامُ بْنِ عِمَارَةَ بْنِ ذُوَيْدِ بْنِ مَالِكٍ . وَفِي النّسَاءِ عُمَارَةُ بِنْتُ نَافِعٍ وَهِيَ أُمّ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّزّاقِ ، وَفِي الْأَنْصَارِ خَزَمَةُ سِوَى هَذَا الْمَذْكُورِ بِفَتْحِ الزّايِ كَثِيرٌ . [ ص 289 ] وَذَكَرَ بَنِي الْحُبْلَى وَالنّسَبُ إلَيْهِ حُبُلِيّ بِضَمّ الْحَاءِ وَالْبَاءِ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ النّسَبِ وَتَوَهّمَ بَعْضُ مَنْ أَلّفَ فِي الْعَرَبِيّةِ أَنّ سِيبَوَيْهِ قَالَ فِيهِ حُبَلِيّ بِفَتْحِ الْبَاءِ لِمَا ذَكَرَهُ مَعَ جُذَمِيّ فِي النّسَبِ إلَى جَذِيمَةَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ سِيبَوَيْهِ مَعَهُ لِأَنّهُ عَلَى وَزْنِهِ وَلَكِنْ لِأَنّهُ شَاذّ مِثْلُهُ فِي الْقِيَاسِ الّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالضّمّ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ الْقَالِي فِي الْبَارِعِ وَقَالَ هَكَذَا تَقَيّدَ فِي النّسَخِ الصّحِيحَةِ مِنْ سِيبَوَيْهِ ، وَحَسْبُك مِنْ هَذَا أَنّ جَمِيعَ الْمُحَدّثِينَ يَقُولُونَ أَبُو عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحُبُلِيّ بِضَمّتَيْنِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ فَدَلّ هَذَا كُلّهُ عَلَى غَلَطِ مَنْ نَسَبَ إلَى سِيبَوَيْهِ أَنّهُ فَتَحَ الْبَاءَ .
نُزُولُ الْأَمْرِ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْقِتَالِ
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ . قَالَ حَدّثَنَا أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْحَرْبِ وَلَمْ تُحَلّلْ لَهُ الدّمَاءُ إنّمَا يُؤْمَرُ بِالدّعَاءِ إلَى اللّهِ وَالصّبْرِ [ ص 289 ] وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ اضْطَهَدَتْ مَنْ اتّبَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَتّى فَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَنَفَوْهُمْ مِنْ بِلَادِهِمْ فَهُمْ مِنْ بَيْنِ مَفْتُونٍ فِي دِينِهِ وَمِنْ بَيْنِ مُعَذّبٍ فِي أَيْدِيهِمْ وَبَيْنِ هَارِبٍ فِي الْبِلَادِ فِرَارًا مِنْهُمْ مِنْهُمْ مَنْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ بِالْمَدِينَةِ وَفِي كُلّ وَجْهٍ فَلَمّا عَتَتْ قُرَيْشٌ عَلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَرَدّوا عَلَيْهِ مَا أَرَادَهُمْ بِهِ مِنْ الْكَرَامَةِ وَكَذّبُوا نَبِيّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَذّبُوا وَنَفَوْا مَنْ عَبَدَهُ وَوَحّدَهُ وَصَدّقَ نَبِيّهُ وَاعْتَصَمَ بِدِينِهِ أَذِنَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِرَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْقِتَالِ وَالِانْتِصَارِ مِمّنْ ظَلَمَهُمْ وَبَغَى عَلَيْهِمْ فَكَانَتْ أَوّلَ آيَةٍ أُنْزِلَتْ فِي إذْنِهِ لَهُ فِي الْحَرْبِ وَإِحْلَالِهِ لَهُ الدّمَاءَ وَالْقِتَالَ لِمَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَوْلُ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنّ اللّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الذين أخرجوا من ديارهم بِغَيْرِ حَقّ إِلّا أَنْ يَقُولُوا رَبّنَا اللّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ الّذِينَ إِنْ مَكّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصّلَاةَ وَآتَوُا الزّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } أَيْ أَنّي ، إنّمَا أَحْلَلْت لَهُمْ الْقِتَالَ لِأَنّهُمْ ظُلِمُوا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَنْبٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النّاسِ إلّا أَنْ يَعْبُدُوا اللّهَ وَأَنّهُمْ إذَا ظَهَرُوا أَقَامُوا الصّلَاةَ وَآتَوْا الزّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ يَعْنِي النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ثُمّ أَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِ { وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أَيْ حَتّى لَا يُفْتَنَ مُؤْمِنٌ عَنْ دِينِهِ { وَيَكُونَ الدّينُ لِلّهِ } أَيْ حَتّى يُعْبَدَ اللّهُ لَا يُعْبَدُ مَعَهُ غَيْرُهُ
الْإِذْنُ لِمُسْلِمِي مَكّةَ بِالْهِجْرَةِ
[ ص 290 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا أَذِنَ اللّهُ تَعَالَى لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْحَرْبِ وَبَايَعَهُ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالنّصْرَةِ لَهُ وَلِمَنْ اتّبَعَهُ وَأَوَى إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنْ مَعَهُ بِمَكّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمَدِينَةِ وَالْهِجْرَةِ إلَيْهَا ، وَاللّحُوقِ بِإِخْوَانِهِمْ مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَقَالَ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ بِهَا . فَخَرَجُوا أَرْسَالًا ، وَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبّهُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ مَكّةَ ، وَالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ .
الْمُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ
هِجْرَةُ أَبِي سَلَمَةَ وَزَوْجِهِ وَحَدِيثُهَا عَمّا لَقِيَا
فَكَانَ أَوّلَ مَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ ، مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللّهِ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ بَيْعَةِ أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ بِسَنَةِ وَكَانَ قَدِمَ [ ص 291 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَلَمّا آذَتْهُ قُرَيْشٌ وَبَلَغَهُ إسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْأَنْصَارِ ، خَرَجَ إلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَدّتِهِ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ لَمّا أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الْخُرُوجَ إلَى الْمَدِينَةِ رَحّلَ إلَيّ بَعِيرَهُ ثُمّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ وَحَمَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ فِي حِجْرِي ، ثُمّ خَرَجَ بِي يَقُودُ بِي بَعِيرَهُ فَلَمّا رَأَتْهُ رِجَالُ بَنِي الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ قَامُوا إلَيْهِ فَقَالُوا هَذِهِ نَفْسُك غَلَبْتنَا عَلَيْهَا ، أَرَأَيْت صَاحِبَتَك هَذِهِ ؟ عَلَامَ نَتْرُكُك تَسِيرُ بِهَا فِي الْبِلَادِ ؟ قَالَتْ فَنَزَعُوا خِطَامَ الْبَعِيرِ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذُونِي مِنْهُ . قَالَتْ وَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ ، رَهْطُ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالُوا : لَا وَاَللّهِ لَا نَتْرُكُ ابْنَنَا عِنْدَهَا إذَا نَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا . قَالَتْ فَتَجَاذَبُوا بُنَيّ سَلَمَةَ بَيْنَهُمْ حَتّى خَلَعُوا يَدَهُ وَانْطَلَقَ بِهِ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ ، وَحَبَسَنِي بَنُو الْمُغِيرَةِ عِنْدَهُمْ وَانْطَلَقَ زَوْجِي أَبُو سَلَمَةَ إلَى الْمَدِينَةِ . قَالَتْ فَفُرّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَبَيْنَ ابْنِي . قَالَتْ فَكُنْت أَخْرُجُ كُلّ غَدَاةٍ فَأَجْلِسُ بِالْأَبْطَحِ فَمَا أَزَالُ أَبْكِي ، حَتّى أُمْسِي سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا حَتّى مَرّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمّي ، أَحَدُ بَنِي الْمُغِيرَةِ فَرَأَى مَا بِي فَرَحِمَنِي فَقَالَ لِبَنِي الْمُغِيرَةِ أَلَا تُخْرِجُونَ هَذِهِ الْمِسْكِينَةَ فَرّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا قَالَتْ فَقَالُوا لِي : الْحَقِي بِزَوْجِك إنْ شِئْت . قَالَتْ وَرَدّ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ إلَيّ عِنْدَ ذَلِكَ ابْنِي . قَالَتْ فَارْتَحَلْت بَعِيرِي ثُمّ أَخَذْت ابْنِي فَوَضَعْته فِي حِجْرِي ، ثُمّ خَرَجْت أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ . قَالَتْ وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللّهِ . قَالَتْ فَقُلْت : أَتَبَلّغُ بِمَنْ لَقِيت حَتّى أَقْدَمَ عَلَى زَوْجِي ، حَتّى إذَا كُنْت بِالتّنْعِيمِ لَقِيت عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَخَا بَنِي عَبْدِ الدّارِ فَقَالَ لِي : إلَى أَيْنَ يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيّةَ ؟ قَالَتْ فَقُلْت : أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ . قَالَ أوَ مَا مَعَك أَحَدٌ ؟ قَالَتْ فَقُلْت : لَا وَاَللّهِ إلّا اللّهَ وَبُنَيّ هَذَا . قَالَ وَاَللّهِ مَا لَك مِنْ مَتْرَكٍ فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْبَعِيرِ فَانْطَلَقَ مَعِي يَهْوِي بِي ، فَوَاَللّهِ مَا صَحِبْت رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ قَطّ ، أَرَى أَنّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْهُ كَانَ إذَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَنَاخَ بِي ، ثُمّ اسْتَأْخَرَ عَنّي ، حَتّى إذَا نَزَلْت اسْتَأْخَرَ بِبَعِيرِي ، فَحَطّ عَنْهُ ثُمّ قَيّدَهُ فِي الشّجَرَةِ ، ثُمّ تَنَحّى إلَى شَجَرَةٍ فَاضْطَجَعَ تَحْتَهَا ، فَإِذَا دَنَا الرّوَاحُ قَامَ إلَى بَعِيرِي فَقَدّمَهُ فَرَحّلَهُ ثُمّ اسْتَأْخَرَ عَنّي ، وَقَالَ ارْكَبِي . فَإِذَا رَكِبْت وَاسْتَوَيْت عَلَى بَعِيرِي أَتَى فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ فَقَادَهُ حَتّى [ ص 292 ] الْمَدِينَةَ ، فَلَمّا نَظَرَ إلَى قَرْيَةِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ قَالَ زَوْجُك فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ - وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ بِهَا نَازِلًا - فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ ثُمّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى مَكّةَ . قَالَ فَكَانَتْ تَقُولُ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ فِي الْإِسْلَامِ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ آلَ أَبِي سَلَمَةَ ، وَمَا رَأَيْت صَاحِبًا قَطّ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ .Sمَتَى أَسْلَمَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ
[ ص 290 ] وَذَكَرَ هِجْرَةَ أُمّ سَلَمَةَ وَصُحْبَةَ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ لَهَا ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى كُفْرِهِ وَإِنّمَا أَسْلَمَ عُثْمَانُ فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَهَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ إخْوَتُهُ مُسَافِعٌ وَكِلَابٌ وَالْحَارِثُ وَأَبُوهُمْ وَعَمّهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ قُتِلَ أَيْضًا يَوْمَ أُحُدٍ [ ص 291 ] كَانَتْ مَفَاتِيحُ الْكَعْبَةِ وَدَفَعَهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَامَ الْفَتْحِ إلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَإِلَى ابْنِ عَمّهِ شَيْبَةَ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، وَهُوَ جَدّ بَنِي شَيْبَةَ حَجَبَةِ الْكَعْبَةِ ، وَاسْمُ أَبِي طَلْحَةَ جَدّهِمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى ، وَقُتِلَ عُثْمَانُ رَحِمَهُ اللّهُ شَهِيدًا بِأَجْنَادِينَ فِي أَوّلِ خِلَافَةِ عُمَرَ .
هِجْرَةُ عَامِرٍ وَزَوْجِهِ وَهِجْرَةُ بَنِي جَحْشٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ كَانَ أَوّلَ مَنْ قَدِمَهَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ أَبِي سَلَمَةَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ بْنِ غَانِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ . ثُمّ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ صَبْرَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ ، حَلِيفُ بَنِي [ ص 293 ] عَبْدِ شَمْسٍ ، احْتَمَلَ بِأَهْلِهِ وَبِأَخِيهِ عَبْدِ بْنِ جَحْشٍ وَهُوَ أَبُو أَحْمَدَ - وَكَانَ أَبُو أَحْمَدَ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ وَكَانَ يَطُوفُ مَكّةَ ، أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا ، بِغَيْرِ قَائِدٍ وَكَانَ شَاعِرًا ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ الْفَرْعَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَكَانَتْ أُمّهُ أُمَيْمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ - فَغُلّقَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ هِجْرَةً فَمَرّ بِهَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ . وَالْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَهِيَ دَارُ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ الْيَوْمَ الّتِي بِالرّدْمِ وَهُمْ مُصْعِدُونَ إلَى أَعْلَى مَكّةَ ، فَنَظَرَ إلَيْهَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ تَخْفِقُ أَبْوَابُهَا يَبَابًا لَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ فَلَمّا رَآهَا كَذَلِكَ تَنَفّسَ الصّعَدَاءَ ثُمّ قَالَ
وَكُلّ دَارٍ وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهَا
يَوْمًا سَتُدْرِكُهَا النّكْبَاءُ وَالْحُوبُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا الْبَيْتُ لِأَبِي دُؤَادٍ الْإِيَادِيّ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالْحُوبُ التّوَجّعُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَالَ عُتْبَةُ أَصْبَحَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ خَلَاءً مِنْ أَهْلِهَا فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَمَا تَبْكِي عَلَيْهِ مِنْ قُلّ بْنِ قُلّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْقُلّ : الْوَاحِدُ . قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ :
كُلّ بَنِي حُرّةٍ مَصِيرُهُم ْ
قُلّ وَإِنْ أَكْثَرَتْ مِنْ الْعَدَدِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَالَ هَذَا عَمَلُ ابْنِ أَخِي هَذَا ، فَرّقَ جَمَاعَتَنَا ، وَشَتّتْ أَمْرَنَا وَقَطَعَ بَيْنَنَا فَكَانَ مَنْزَلُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ ، وَأَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ عَلَى مُبَشّرِ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ نَبْرٍ بِقُبَاءَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ثُمّ قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ أَرْسَالًا ، وَكَانَ بَنُو غَنْمِ بْنِ دُودَانَ أَهْلَ إسْلَامٍ قَدْ [ ص 294 ] الْمَدِينَةِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هِجْرَةً رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ ، وَأَخُوهُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ ، وَعُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ وَشُجَاعٌ وَعُقْبَةُ ابْنَا وَهْبٍ وَأَرْبَدُ بْنُ جُمَيْرَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ ابْنُ حُمَيْرَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمُنْقِذُ بْنُ نَبَاتَةَ وَسَعِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ وَمُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ وَيَزِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ ، وَقَيْسُ بْنُ جَابِرٍ ، وَعَمْرُو بْنُ مِحْصَنٍ وَمَالِكُ بْنُ عَمْرٍو ، وَصَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو ، وَثَقْفُ بْنُ عَمْرٍو ، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ وَالزّبَيْرُ بْنُ عُبَيْدٍ ، وَتَمّامُ بْنُ عُبَيْدَةَ وَسَخْبَرَةُ بْنُ عُبَيْدَةَ وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ . وَمِنْ نِسَائِهِمْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ ، وَأُمّ حَبِيبِ بِنْتُ جَحْشٍ وَجُذَامَةُ بِنْتُ جَنْدَلٍ وَأُمّ قَيْسِ بِنْتُ مِحْصَنٍ وَأُمّ حَبِيبِ بِنْتُ ثُمَامَةَ وَآمِنَةُ [ أَوْ أُمَيْمَةُ ] بِنْتُ رُقَيْشٍ وَسَخْبَرَةُ بِنْتُ تَمِيمٍ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ .Sهِجْرَةُ بَنِي جَحْشٍ[ ص 292 ] وَذَكَرَ هِجْرَةَ بَنِي جَحْشٍ وَهُمْ عَبْدُ اللّهِ وَأَبُو أَحْمَدَ وَاسْمُهُ عَبْدٌ وَقَدْ كَانَ أَخُوهُمْ عُبَيْدُ اللّهِ أَسْلَمَ ثُمّ تَنَصّرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ الّتِي كَانَتْ عِنْدَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَنَزَلَتْ فِيهَا : { فَلَمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوّجْنَاكَهَا } [ الْأَحْزَابَ : 37 ] وَأُمّ حَبِيبِ بِنْتُ جَحْشٍ الّتِي كَانَتْ تُسْتَحَاضُ وَكَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ الّتِي كَانَتْ تَحْتَ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ ، وَكَانَتْ تُسْتَحَاضُ أَيْضًا ، وَقَدْ رُوِيَ أَنّ زَيْنَبَ اُسْتُحِيضَتْ أَيْضًا ، وَوَقَعَ فِي الْمُوَطّأِ أَنّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الّتِي كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَكَانَتْ تُسْتَحَاضُ وَلَمْ تَكُ قَطّ زَيْنَبُ عِنْدَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ وَالْغَلَطُ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ بَشَرٌ وَإِنّمَا كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرّحْمَنِ أُخْتُهَا أُمّ حَبِيبٍ وَيُقَالُ فِيهَا أُمّ حَبِيبَةَ غَيْرَ أَنّ شَيْخَنَا أَبَا عَبْدِ اللّهِ مُحَمّدَ بْنَ نَجَاحٍ أَخْبَرَنِي أَنّ أُمّ حَبِيبٍ كَانَ اسْمُهَا : زَيْنَبَ فَهُمَا زَيْنَبَانِ غَلَبَتْ عَلَى إحْدَاهُمَا الْكُنْيَةُ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ فِي حَدِيثِ الْمُوَطّأِ وَهْمٌ وَلَا غَلَطٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَكَانَ اسْمُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ : بَرّةَ فَسَمّاهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - زَيْنَبَ وَكَذَلِكَ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمّ سَلَمَةَ رَبِيبَتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ اسْمُهَا بَرّةَ فَسَمّاهَا زَيْنَبَ كَأَنّهُ كَرِهَ أَنْ تُزَكّيَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِهَذَا الِاسْمِ وَكَانَ اسْمُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ بُرّةَ بِضَمّ الْبَاءِ فَقَالَتْ زَيْنَبُ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ غَيّرْت اسْمَ أَبِي ، فَإِنّ الْبُرّةَ صَغِيرَةٌ فَقِيلَ إنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لَهَا : لَوْ أَبُوك مُسْلِمًا لَسَمّيْته بِاسْمِ مِنْ أَسْمَائِنَا أَهْلِ الْبَيْتِ ، وَلَكِنّي قَدْ سَمّيْته جَحْشًا . وَالْجَحْشُ أَكْبَرُ مِنْ الْبُرّةِ . ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ مُسْنَدًا فِي كِتَابِ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ أَبُو الْحَسَنِ الدّارَقُطْنِيّ [ ص 293 ] فَصْلٌ ذَكَرَ الْبَيْتَ الّذِي تَمَثّلَ بِهِ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ مَرّ بِدَارِ بَنِي جَحْشٍ تَخْفِقُ أَبْوَابُهَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ
وَكُلّ بَيْتٍ وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ
يَوْمًا سَتُدْرِكُهُ النّكْبَاءُ وَالْحُوبُ
كُلّ امْرِئِ بِلِقَاءِ الْمَوْتِ مُرْتَهَنٌ
كَأَنّهُ غَرَضٌ لِلْمَوْتِ مَنْصُوبُ
وَالشّعْرُ لِأَبِي دُؤَادٍ الْإِيَادِيّ وَاسْمُهُ حَنْظَلَةُ بْنُ شَرْقِيّ وَقِيلَ جَارِيَةُ بْنُ الْحَجّاجِ ذَكَرَ دَارَ بَنِي جحادة ، وَأَنّهَا عِنْدَ دَارِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بِالرّدْمِ وَالرّدْمُ حَفْرٌ بِالْقَتْلَى فِي الْجَاهِلِيّةِ فَسُمّيَ الرّدْمَ ، وَذَلِكَ فِي حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَ بَنِي جُمَحَ وَبَيْنَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ ، وَكَانَتْ الدّبَرَةُ فِيهَا عَلَى بَنِي الْحَارِثِ وَلِذَلِكَ قَلّ عَدَدُهُمْ فَهُمْ أَقَلّ قُرَيْشٍ عَدَدًا .
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ وَهُوَ يَذْكُرُ هِجْرَةَ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ قَوْمِهِ إلَى اللّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِيعَابُهُمْ فِي ذَلِكَ حِينَ دُعُوا إلَى الْهِجْرَةِ
وَلَوْ حَلَفَتْ بَيْنَ الصّفَا أُمّ أَحْمَدَ
وَمَرْوَتُهَا بِاَللّهِ بَرّتْ يَمِينُهَا
لَنَحْنُ الْأُلَى كُنّا بِهَا ، ثُمّ لَمْ نَزَلْ
بِمَكّةَ حَتّى عَادَ غَثّا سَمِينُهَا
بِهَا خَيّمَتْ غَنْمُ بْنُ دُودَانَ وَابْتَنَتْ
وَمَا إنْ غَدَتْ غَنْمٌ وَخَفّ قَطِينُهَا
إلَى اللّهِ تَغْدُو بَيْنَ مَثْنَى وَوَاحِد
وَدِينِ رَسُولِ اللّهِ بِالْحَقّ دِينُهَا
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ أَيْضًا :
لَمّا رَأَتْنِي أُمّ أَحْمَدَ غَادِيًا
بِذِمّةِ مَنْ أَخْشَى بِغَيْبِ وَأَرْهَبُ
تَقُولُ فَإِمّا كُنْت لَا بُدّ فَاعِلًا
فَيَمّمْ بِنَا الْبُلْدَانَ وَلِتَنْأَ يَثْرِبُ
فَقُلْت لَهَا : بَلْ يَثْرِبُ الْيَوْمَ وَجْهُنَا
وَمَا يَشَإِ الرّحْمَنُ فَالْعَبْدُ يَرْكَبُ
إلَى اللّهِ وَجْهِي وَالرّسُولِ وَمَنْ يُقِمْ
إلَى اللّهِ يَوْمًا وَجْهَهُ لَا يُخَيّبُ
فَكَمْ قَدْ تَرَكْنَا مِنْ حَمِيمٍ مُنَاصِحٍ
وَنَاصِحَةٍ تَبْكِي بِدَمْعِ وَتَنْدُبُ
تَرَى أَنّ وِتْرًا نَأْيُنَا عَنْ بِلَادِنَا
وَنَحْنُ نَرَى أَنّ الرّغَائِبَ نَطْلُبُ
دَعَوْت بَنِي غَنْمٍ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ
وَلِلْحَقّ لَمّا لَاحَ لِلنّاسِ مَلْحَبُ
أَجَابُوا بِحَمْدِ اللّهِ لَمّا دَعَاهُمْ
إلَى الْحَقّ دَاعٍ وَالنّجَاحِ فَأَوْعَبُوا
وَكُنّا وَأَصْحَابًا لَنَا فَارَقُوا الْهُدَى
أَعَانُوا عَلَيْنَا بِالسّلَاحِ وَأَجْلَبُوا
كَفَوْجَيْنِ أَمّا مِنْهُمَا فَمُوَفّقٌ
عَلَى الْحَقّ مَهْدِيّ ، وَفَوْجٌ مُعَذّبُ
طَغَوْا وَتَمَنّوْا كِذْبَةً وَأَزَلّهُمْ
عَنْ الْحَقّ إبْلِيسُ فَخَابُوا وَخَيّبُوا
وَرُعْنَا إلَى قَوْلِ النّبِيّ مُحَمّدٍ
فَطَابَ وُلَاةُ الْحَقّ مِنّا وَطَيّبُوا
نَمُتّ بِأَرْحَامِ إلَيْهِمْ قَرِيبَةٍ
وَلَا قُرْبَ بِالْأَرْحَامِ إذْ لَا نُقَرّبُ
فَأَيّ ابْنِ أُخْتٍ بَعْدَنَا يَأْمَنَنّكُم
وَأَيّةُ صِهْرٍ بَعْدَ صِهْرِي تُرْقَبُ
سَتَعْلَمُ يَوْمًا أَيّنَا إذْ تَزَايَلُوا
وَزُيّلَ أَمْرُ النّاسِ لِلْحَقّ أَصْوَبُ
[ ص 295 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْله : " وَلِتَنْأَ يَثْرِبُ " ، وَقَوْلُهُ " إذْ لَا نُقَرّبُ " ، عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يُرِيدُ بِقَوْلِهِ " إذْ " إذَا ، كَقَوْلِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ { إِذِ الظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبّهِمْ } قَالَ أَبُو النّجْمِ الْعِجْلِيّ : ثُمّ جَزَاهُ اللّهُ عَنّا إذْ جَزَى جَنّاتِ عَدْنٍ فِي الْعَلَالِيّ وَالْعُلَا . [ ص 296 ] [ ص 297 ]S[ ص 294 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ شِعْرَ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ وَفِيهِ
إ لَى اللّهِ وَجْهِي وَالرّسُولِ وَمَنْ يُقِمْ
إلَى اللّهِ يَوْمًا وَجْهَهُ لَا يُخَيّبْ
[ ص 295 ] سِيبَوَيْهِ : يَجُوزُ أَيْضًا لَا عَلَى إضْمَارِ الْفَاءِ وَلَكِنْ عَلَى نِيّةِ التّقْدِيمِ لِلْفِعْلِ عَلَى الشّرْطِ كَمَا أَنْشَدُوا : إنّك إنْ يُصْرَعْ أَخُوك تُصْرَعُ
وَهُوَ مَعَ إنْ أَحْسَنُ لِأَنّ التّقْدِيرَ إنّك تُصْرَعُ إنْ يُصْرَعْ أَخُوك ، وَأَنْشَدُوا أَيْضًا : مَنْ يَفْعَلْ الْحَسَنَاتِ اللّهُ يَشْكُرُهُ
عَلَى هَذَا التّقْدِيرِ وَفِي الشّعْرِ أَيْضًا : وَلَا قُرْبَ بِالْأَرْحَامِ إذْ لَا تُقَرّبُ
وَتَأَوّلَ ابْنُ هِشَامٍ إذْ هُنَا بِمَعْنَى : إذَا وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ لَا يَحْسُنُ بَعْدَ إذَا مَعَ حَرْفِ النّفْيِ وَإِنّمَا يَحْسُنُ بَعْدَ إذْ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ إذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ [ الْأَنْفَالَ 49 ] وَلَوْ قُلْت : سَآتِيك إذَا تَقُولُ كَذَا ، كَانَ قَبِيحًا إذَا أَخّرْتهَا ، أَوْ قَدّمْت [ ص 296 ] الْمَاضِي ، تَقُولُ سَآتِيك إنْ قَامَ زَيْدٌ وَإِذَا قَامَ زَيْدٌ وَيَقْبُحُ سَآتِيك إنْ يَقُمْ زَيْدٌ لِأَنّ حَرْفَ الشّرْطِ إذَا أُخّرَ أُلْغِيَ وَإِذَا أُلْغِيَ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ الْمُعْرَبُ بَعْدَهُ غَيْرَ أَنّهُ حَسُنَ فِي كَيْفَ نَحْوُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } [ الْمَائِدَةَ 64 ] و { فَيَبْسُطُهُ فِي السّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ } [ الرّومَ : 48 ] لِسِرّ بَدِيعٍ لَعَلّنَا نَذْكُرُهُ إنْ وَجَدْنَا لِشَفْرَتِنَا مَحَزّا ، وَيَحْسُنُ الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ مَعَ إذَا بَعْدَ الْقَسَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاللّيْلِ إِذَا يَسْرِ } [ الْفَجْرَ 4 ] لِانْعِدَامِ مَعْنَى الشّرْطِ فِيهِ فَهَذَا وَجْهٌ وَالْوَجْهُ الثّانِي : أَنّ إذْ بِمَعْنَى إذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي الْكَلَامِ وَلَا حَكَاهُ ثَبْتٌ وَمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ مِنْ قَوْلِ رُؤْبَةَ لَيْسَ عَلَى مَا ظَنّ إنّمَا مَعْنَاهُ ثُمّ جَزَاهُ اللّهُ رَبّي إنْ جَزَى ، أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنْ نَفَعَنِي وَجَزَى عَنّي ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا } [ الْبَقَرَةَ 48 ] جَزَى : مُضْمَرٌ عَائِدٌ عَلَى الرّجُلِ الْمَمْدُوحِ وَإِذْ بِمَعْنَى أَنْ الْمَفْتُوحَةِ كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي سَوَادِ الْكِتَابِ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ آلَ عِمْرَانَ : 80 ] وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ } [ الزّخْرُفَ 39 ] وَغَفَلَ النّسَوِيّ عَمّا فِي الْكِتَابِ مِنْ هَذَا ، وَجَعَلَ الْفِعْلَ الْمُسْتَقْبَلَ الّذِي بَعْدَ لَنْ عَامِلًا فِي الظّرْفِ الْمَاضِي ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ سَآتِيك الْيَوْمَ أَمْسِ وَهَذَا هُرَاءٌ مِنْ الْقَوْلِ وَغَفْلَةٌ عَمّا فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ ، وَلَيْتَ شِعْرِي مَا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } [ الْأَحْقَافَ : 11 ] فَإِنْ جَوّزَ وُقُوعَ الْمُسْتَقْبَلِ فِي الظّرْفِ الْمَاضِي عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ فَكَيْفَ يَعْمَلُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ فِيمَا قَبْلَهَا لَا سِيّمَا مَعَ السّينِ وَهُوَ قَبِيحٌ أَنْ تَقُولَ غَدًا سَآتِيك ، فإن قُلْت : غَدًا فَسَآتِيك ، فَكَيْفَ إنْ زِدْت عَلَى هَذَا وَقُلْت : أَمْسِ فَسَآتِيك ، وَإِذْ عَلَى أَصْلِهِ بِمَنْزِلَةِ أَمْسِ فَهَذِهِ فَضَائِحُ لَا غِطَاءَ عَلَيْهَا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَكَيْفَ الْوَجْهُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا } [ الْأَنْعَامَ 30ْ ] وَكَذَلِكَ { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ } [ السّجْدَةَ 12 ] أَلَيْسَ هَذَا كَمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ بِمَعْنَى إذَا الّتِي تُعْطِي الِاسْتِقْبَالَ ؟ قِيلَ لَهُ وَكَيْفَ تَكُونُ بِمَعْنَى إذَا ، وَإِذَا لَا يَقَعُ بَعْدَهَا الِابْتِدَاءُ وَالْخَبَرُ ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ { إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ } وَإِنّمَا التّقْدِيرُ وَلَوْ تَرَى نَدَمَهُمْ وَحُزْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَعْدَ وُقُوفِهِمْ عَلَى النّارِ فَإِذْ ظَرْفٌ مَاضٍ عَلَى أَصْلِهِ وَلَكِنْ بِالْإِضَافَةِ إلَى حُزْنِهِمْ وَنَدَامَتِهِمْ فَالْحُزْنُ وَالنّدَامَةُ وَاقِعَانِ بَعْدَ الْمُعَايَنَةِ وَالتّوْقِيفِ فَقَدْ صَارَ وَقْتُ التّوْقِيفِ مَاضِيًا بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا بَعْدَهُ وَاَلّذِي بَعْدَهُ هُوَ مَفْعُولُ تَرَى ، وَهَذَا نَحْوٌ مِمّا يُتَوَهّمُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { فَانْطَلَقَا حَتّى إِذَا رَكِبَا فِي السّفِينَةِ خَرَقَهَا } [ الْكَهْفَ : 71 ] فَيُتَوَهّمُ أَنّ إذَا [ ص 297 ] جَازَ أَنْ يُقَالَ إلّا انْطَلَقَا إذْ رَكِبَا ، وَلَكِنّ مَعْنَى الْغَايَةِ فِي حَتّى دَلّ عَلَى أَنّ الرّكُوبَ كَانَ بَعْدَ الِانْطِلَاقِ وَإِذَا كَانَ بَعْدَهُ فَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ مَسْأَلَتُنَا الْحُزْنُ وَسُوءُ الْحَالِ الّذِي هُوَ مَفْعُولٌ لِتَرَى ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي اللّفْظِ فَهُوَ بَعْدَ وَقْتِ الْوُقُوفِ فَوَقَفَ الْوُقُوفُ مَاضٍ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ حَذْفٍ فَكَذَلِكَ نُقَدّرُ حَذْفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ } [ الْأَحْقَافَ : 11 ] وَنَحْوِهِ لِأَنّهَا وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى أَنْ فَلَا بُدّ لَهَا مِنْ تَعَلّقٍ كَأَنّهُ قَالَ جُزِيتُمْ بِهَذَا مِنْ أَجْلِ أَنْ ظَلَمْتُمْ أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ ضَلّوا . وَذَكَرَ فِي نِسَاءِ بَنِي جَحْشٍ جُذَامَةَ بِنْتَ جَنْدَلٍ وَأَحْسَبُهُ أَرَادَ جُذَامَةَ بِنْتَ وَهْبِ بْنِ مِحْصَنٍ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ الرّضَاعِ فِي الْمُوَطّأِ وَقَالَ فِيهَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزّارُ : جُذَامَةُ بِالذّالِ الْمَنْقُوطَةِ هَكَذَا ذَكَرَ عَنْهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجّاجِ ، وَالْمَعْرُوفُ جُدَامَةُ بِالدّالِ وَقَدْ يُقَالُ فِيهَا جُدّامَةُ بِالتّشْدِيدِ وَالْجُدَامَةُ قَصَبُ الزّرْعِ وَأَمْلَى عَلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ وَكَتَبْت عَنْهُ بِخَطّ يَدِي قَالَ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبّارِ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الْبَرْمَكِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ زَكَرِيّا بْنِ حِبَوَيْهِ عَنْ أَبِي عُمَرَ الزّاهِدِ الْمُطَرّزِ قَالَ الْجُدّامَةُ بِتَشْدِيدِ الدّالِ طَرَفُ السّعَفَةِ وَبِهِ سُمّيَتْ الْمَرْأَةُ وَكَانَتْ جُدَامَةُ بِنْتُ وَهْبٍ تَحْتَ أُنَيْسِ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ وَأَمّا جُدَامَةُ بِنْتُ جَنْدَلٍ فَلَا تُعْرَفُ فِي آلِ جَحْشٍ الْأَسَدِيّينَ وَلَا فِي غَيْرِهِمْ وَلَعَلّهُ وَهْمٌ وَقَعَ فِي الْكِتَابِ وَأَنّهَا بِنْتُ وَهْبِ بْنِ مِحْصَنٍ بِنْتُ أَخِي عُكّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ كَمَا قَدّمْنَا وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَذَكَرَ فِي بَنِي أَسَدٍ ثَقْفَ بْنَ عَمْرٍو ، وَيُقَالُ فِيهِ ثِقَافٌ شَهِدَ هُوَ وَأَخُوهُ مِدْلَاجٌ [ أَوْ مُدْلِجٌ ] بَدْرًا وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ قَتَلَهُ أُسَيْرُ [ بْنُ رِزَامٍ ] الْيَهُودِيّ . وَذَكَرَ فِيهِمْ أُمّ حَبِيبِ بِنْتَ ثُمَامَةَ وَهِيَ مِمّا أَغْفَلَهُ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِهِ وَأَغْفَلَ أَيْضًا ذِكْرَ ثُمَامِ بْنِ عُبَيْدَةَ وَهُوَ مِمّنْ ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ . وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَرْبَدَ بْنَ جُمَيْرَةَ الْأَسَدِيّ بِالْجِيمِ وَقَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ : حُمَيْرَةُ بِالْحَاءِ وَرَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ بِخِلَافِ مَا رَوَاهُ الْبَكّائِيّ وَابْنُ هِشَامٍ ، فَقَالَ فِيهِ ابْنُ حُمَيّرٍ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ كَأَنّهُ تَصْغِيرُ حِمَارٍ . وَذَكَرَ فِيهِمْ مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ وَلَمْ يَرْفَعْ نَسَبَهُ وَهُوَ ابْنُ نَضْلَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُرّةَ بْنِ [ ص 298 ] دُودَانَ بْنِ أَسَدِ [ بْنِ خُزَيْمَةَ ] قُتِلَ فِي غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ شَهِيدًا ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَكَانَ يُعْرَفُ بِالْأَخْرَمِ وَيُلَقّبُ فُهَيْرَةَ وَقَالَ فِيهِ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ بْنِ مُحْرِزِ بْنِ وَهْبٍ وَلَمْ يَقُلْ ابْنَ نَضْلَةَ . وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَيْضًا يَزِيدَ بْنَ رُقَيْشٍ ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهِ أَرْبَدُ وَلَا يَصِحّ ، وَهُوَ ابْنُ رُقَيْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ كُبَيْرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ وَذَكَرَ فِيهِمْ رَبِيعَةَ بْنَ أَكْثَمَ وَلَمْ يَنْسُبْهُ وَهُوَ ابْنُ أَكْثَمَ بْنِ سَخْبَرَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدٍ يُكَنّى : أَبَا يَزِيدَ وَكَانَ قَصِيرًا دَحْدَحًا قُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ بِالنّطَاةِ قَتَلَهُ الْحَارِثُ الْيَهُودِيّ .
هِجْرَةُ عُمَرَ وَقِصّةُ عَيّاشٍ مَعَهُ
[ ص 298 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 299 ] ثُمّ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيّ حَتّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ . فَحَدّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ أَبِيهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ، قَالَ اتّعَدْت ، لَمّا أَرَدْنَا الْهِجْرَةَ إلَى الْمَدِينَةِ ، أَنَا وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ [ وَاسْمُهُ عَمْرٌو وَيُلَقّبُ ذَا الرّمْحَيْنِ ] ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السّهْمِيّ التّنَاضِبَ مِنْ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ ، فَوْقَ سَرِفَ ، وَقُلْنَا : أَيّنَا لَمْ يُصْبِحْ عِنْدَهَا فَقَدْ حُبِسَ فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ . قَالَ فَأَصْبَحْت أَنَا وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ عِنْدَ التّنَاضِبِ ، وَحُبِسَ عَنّا هِشَامٌ وَفُتِنَ فَافْتُتِنَ . فَلَمّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ نَزَلْنَا فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ وَخَرَجَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ إلَى عَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَكَانَ ابْنَ عَمّهِمَا وَأَخَاهُمَا لِأُمّهِمَا ، حَتّى قَدِمَا عَلَيْنَا الْمَدِينَةَ ، وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ فَكَلّمَاهُ وَقَالَا : إنّ أُمّك قَدْ نَدَرَتْ أَنْ لَا يَمَسّ رَأْسَهَا مُشْطٌ حَتّى تَرَاك ، وَلَا تَسْتَظِلّ مِنْ شَمْسٍ حَتّى تَرَاك ، فَرَقّ لَهَا ، فَقُلْت لَهُ يَا عَيّاشُ إنّهُ وَاَللّهِ إنْ يُرِيدُك الْقَوْمُ إلّا لِيَفْتِنُوك عَنْ دِينِك فَاحْذَرْهُمْ فَوَاَللّهِ لَوْ قَدْ آذَى أُمّك الْقَمْلُ لَامْتَشَطَتْ وَلَوْ قَدْ اشْتَدّ عَلَيْهَا حَرّ مَكّةَ لَاسْتَظَلّتْ . قَالَ فَقَالَ أُبِرّ قَسَمَ أُمّي ، وَلِي هُنَالِكَ مَالٌ فَآخُذُهُ قَالَ فَقُلْت : وَاَللّهِ إنّك لَتَعْلَمُ أَنّي لَمِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا ، فَلَك نِصْفُ مَالِي وَلَا تَذْهَبْ مَعَهُمَا . قَالَ فَأَبَى عَلَيّ إلّا أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمَا ؛ فَلَمّا أَبَى إلّا ذَلِكَ قَالَ قُلْت لَهُ أَمّا إذْ قَدْ فَعَلْت مَا فَعَلْت ، فَخُذْ نَاقَتِي هَذِهِ فَإِنّهُ نَاقَةٌ نَجِيبَةٌ ذَلُولٌ فَالْزَمْ ظَهْرَهَا ، فَإِنْ رَابَك مِنْ الْقَوْمِ رَيْبٌ فَانْجُ عَلَيْهَا : فَخَرَجَ عَلَيْهَا مَعَهُمَا ، حَتّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطّرِيقِ قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ يَا ابْنَ أَخِي ، وَاَللّهِ لَقَدْ اسْتَغْلَظْت بَعِيرِي هَذَا ، أَفَلَا تُعْقِبُنِي عَلَى نَاقَتِك هَذِهِ ؟ قَالَ بَلَى . قَالَ فَأَنَاخَ وَأَنَاخَا لِيَتَحَوّلَ عَلَيْهَا ، فَلَمّا اسْتَوَوْا بِالْأَرْضِ عَدَوْا عَلَيْهِ فَأَوْثَقَاهُ وَرَبَطَاهُ ثُمّ دَخَلَا بِهِ مَكّةَ ، وَفَتَنَاهُ فَافْتُتِنَ [ ص 300 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بِهِ بَعْضُ آلِ عَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ : أَنّهُمَا حِينَ دَخَلَا بِهِ مَكّةَ دَخَلَا بِهِ نَهَارًا مُوثَقًا ، ثُمّ قَالَا : يَا أَهْلَ مَكّةَ ، هَكَذَا فَافْعَلُوا بِسُفَهَائِكُمْ كَمَا فَعَلْنَا بِسَفِيهِنَا هَذَاSهِجْرَةُ عُمَرَ وَعَيّاشٍ
ذَكَرَ فِيهَا تَوَاعُدَهُمْ التّنَاضِبَ بِكَسْرِ الضّادِ كَأَنّهُ جَمْعُ تَنْضُبٍ [ وَاحِدَتُهُ تَنْضُبَةٌ ] وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الشّجَرِ تَأْلَفُهُ الْحِرْبَاءُ . قَالَ الشّاعِرُ
إنّي أُتِيحَ لَهُ حِرْبَاءُ تَنْضُبَةٍ ... لَا يُرْسِلُ السّاقَ إلّا مُمْسِكًا سَاقَا
وَيُقَالُ لِثَمَرِهِ الْمُمَتّعُ وَهُوَ فُنَعْلِلٌ أُدْغِمَتْ النّونُ فِي الْمِيمِ وَظَاهِرُ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ : أَنّهُ فَعْلُلٌ وَأَنّهُ مِمّا لَحِقَتْهُ الزّيَادَةُ بِالتّضْعِيفِ وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ يُقَوّيهِ أَنّ مِثْلَهُ الْهُنْدَلِعُ وَهُوَ نَبْتٌ وَتُتّخَذُ مِنْ هَذَا الشّجَرِ الْقِسِيّ كَمَا تُتّخَذُ مِنْ النّبْعِ وَالشّوْطِ وَالشّرْيَانِ وَالسّرَاءِ وَالْأَشْكَلِ وَدُخَانِ التّنْضُبِ ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النّبَاتِ . وَقَالَ الْجَعْدِيّ :
كَأَنّ الْغُبَارَ الّذِي غَادَرَتْ ... ضُحَيّا دَوَاخِنُ مِنْ تَنْضُبِ
شَبّهَ الْغُبَارَ بِدُخَانِ التّنْضُبِ لِبَيَاضِهِ . وَقَالَ آخَرُ [ عُقَيْلُ بْنُ عُلْقَةَ الْمُرّيّ ] :
وَهَلْ أَشْهَدَنْ خَيْلًا كَأَنّ غُبَارَهَا ... بِأَسْفَلَ عَلْكَدّ دَوَاخِنُ تَنْضُبِ
[ ص 299 ] وَأَضَاةُ بَنِي غِفَارٍ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكّةَ ، وَالْأَضَاةُ الْغَدِيرُ ، كَأَنّهَا مَقْلُوبٌ مِنْ وَضْأَةٍ عَلَى وَزْنِ فَعْلَةٍ وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْوَضَاءَةِ بِالْمَدّ وَهِيَ النّظَافَةُ لِأَنّ الْمَاءَ يُنَظّفُ وَجَمْعُ الْأَضَاةِ إضَاءٌ وَقَالَ النّابِغَةُ [ فِي صِفَةِ الدّرُوعِ ] :
عُلِينَ بِكَدْيَوْنٍ وَأُبْطِنّ كُرّةً ... وَهُنّ إضَاءٌ صَافِيَاتُ الْغَلَائِلِ
[ وَأَضَيَاتٌ وَأَضَوَاتٌ وَأَضًا وَإِضُونَ ] . وَهَذَا الْجَمْعُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقْلُوبٍ فَتَكُونَ الْهَمْزَةُ بَدَلًا مِنْ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ فِي وِضَاءٍ وَقِيَاسُ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ تَقْتَضِي الْهَمْزَ عَلَى أَصْلِ الِاشْتِقَاقِ وَيَكُونُ الْوَاحِدُ مَقْلُوبًا لِأَنّ الْوَاوَ الْمَفْتُوحَةَ لَا تُهْمَزُ مَعَ أَنّ لَامَ الْفِعْلِ غَيْرُ هَمْزَةٍ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ مَحْمُولًا عَلَى الْوَاحِدِ فَيَكُونَ مَقْلُوبًا مِثْلَهُ وَيُقَالُ أَضَاءَةٌ بِالْمَدّ وَقَدْ يُجْمَعُ أَضَاةٌ عَلَى إضِينَ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَنْشَدَ مَحَافِرُ كَأَسْرِيَةِ الْإِضِينَا الْأَسْرِيَةُ جَمْعُ سَرِيّ وَهُوَ الْجَدْوَلُ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا : السّعِيدُ .
كِتَابُ عُمَرَ إلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِي
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي نَافِعٌ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ قَالَ فَكُنّا نَقُولُ مَا اللّهُ بِقَابِلِ مِمّنْ اُفْتُتِنَ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَلَا تَوْبَةً قَوْمٌ عَرَفُوا اللّهَ ثُمّ رَجَعُوا إلَى الْكُفْرِ لِبَلَاءِ أَصَابَهُمْ قَالَ وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ . فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي قَوْلِنَا وَقَوْلِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ { قُلْ يَا عِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعًا إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمّ لَا تُنْصَرُونَ وَاتّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [ الزّمَرَ 53 - 55 ] . قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : فَكَتَبْتهَا بِيَدِي فِي صَحِيفَةٍ وَبَعَثْت بِهَا إلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِي قَالَ فَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِي : فَلَمّا أَتَتْنِي جَعَلْت أَقْرَؤُهَا بِذِي طُوًى ، أُصَعّدُ بِهَا فِيهِ وَأُصَوّبُ وَلَا أَفْهَمُهَا ، حَتّى قُلْت اللّهُمّ فَهّمْنِيهَا . قَالَ فَأَلْقَى اللّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِي أَنّهَا إنّمَا أُنْزِلَتْ فِينَا ، وَفِيمَا كُنّا نَقُولُ فِي أَنْفُسِنَا وَيُقَالُ فِينَا . قَالَ فَرَجَعْت إلَى بَعِيرِي ، فَجَلَسْت عَلَيْهِ فَلَحِقْت بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ [ ص 301 ]
الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَيّاشٌ وَهِشَامٌ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ " مَنْ لِي بِعَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَهِشَامِ بْنِ الْعَاصِي " ؟ فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ : أَنَا لَك يَا رَسُولَ اللّهِ بِهِمَا ، فَخَرَجَ إلَى مَكّةَ ، فَقَدِمَهَا مُسْتَخْفِيًا ، فَلَقِيَ امْرَأَةً تَحْمِلُ طَعَامًا ، فَقَالَ لَهَا : أَيْنَ تُرِيدِينَ يَا أَمَةَ اللّهِ ؟ قَالَتْ أُرِيدُ هَذَيْنِ الْمَحْبُوسَيْنِ - تَعْنِيهِمَا - فَتَبِعَهَا حَتّى عَرَفَ مَوْضِعَهُمَا ، وَكَانَا مَحْبُوسَيْنِ فِي بَيْتٍ لَا سَقْفَ لَهُ فَلَمّا أَمْسَى تَسَوّرَ عَلَيْهِمَا ، ثُمّ أَخَذَ مَرْوَة . فَوَضَعَهَا تَحْتَ قَيْدَيْهِمَا ، ثُمّ ضَرَبَهُمَا بِسَيْفِهِ فَقَطَعَهُمَا فَكَانَ يُقَالُ لِسَيْفِهِ " ذُو الْمَرْوَةِ " . لِذَلِكَ ثُمّ حَمَلَهُمَا عَلَى بَعِيرِهِ وَسَاقَ بِهِمَا ، فَعَثَرَ فَدَمِيَتْ أُصْبُعُهُ فَقَالَ
وَفِي سَبِيلِ اللّهِ مَا لَقِيت ... هل أنت إلا أصبع دميت
ثُمّ قَدِمَ بِهِمَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَSقَوْلُ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ
فَصْلٌ [ ص 300 ] { قُلْ يَا عِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ } [ الزّمَرَ 53 ] الْآيَةُ فِي الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكّةَ وَقَوْلُ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ فَفَاجَأَتْنِي وَأَنَا بِذِي طُوَى . طُوَى : مَقْصُورٌ مَوْضِعٌ بِأَسْفَلَ مَكّةَ ، ذُكِرَ أَنّ آدَمَ لَمّا أُهْبِطَ إلَى الْهِنْدِ ، وَمَشَى إلَى مَكّةَ ، وَجَعَلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْتَظِرُهُ بِذِي طُوَى ، وَأَنّهُمْ قَالُوا لَهُ يَا آدَمُ مَا زِلْنَا نَنْتَظِرُك هَاهُنَا مُنْذُ أَلْفَيْ سَنَةٍ وَرُوِيَ أَنّ آدَمَ كَانَ إذَا أَتَى الْبَيْتَ خَلَعَ نَعْلَيْهِ بِذِي طُوَى ، وَأَمّا ذُو طُوَاءٍ بِالْمَدّ فَمَوْضِعٌ آخَرُ بَيْنَ مَكّةَ وَالطّائِفِ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ ، وَأَمّا طُوَى بِضَمّ الطّاءِ وَالْقَصْرِ الْمَذْكُورُ فِي التّنْزِيلِ فَهُوَ بِالشّامِ اسْمٌ لِلْوَادِي الْمُقَدّسِ وَقَدْ قِيلَ لَيْسَ بِاسْمِ لَهُ وَإِنّمَا هُوَ مِنْ صِفَةِ التّقْدِيسِ أَيْ الْمُقَدّسِ مَرّتَيْنِ .
مَنَازِلُ الْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَنَزَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، وَمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ وَأَخُوهُ زَيْدُ بْنُ الْخَطّابِ ، وَعَمْرٌو وَعَبْدُ اللّهِ ابْنَا سُرَاقَةَ بْنِ الْمُعْتَمِرِ وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ السّهْمِيّ - وَكَانَ صِهْرَهُ عَلَى ابْنَتِهِ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَخَلّفَ عَلَيْهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَهُ - وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ التّمِيمِيّ ، حَلِيفٌ لَهُمْ وَخَوْلِيّ بْنُ أَبِي خَوْلِيّ وَمَالِكُ بْنُ أَبِي خَوْلِيّ حَلِيفَانِ لَهُمْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَبُو خَوْلِيّ مِنْ بَنِي عِجْلِ بْنِ لُجَيْم بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَنُو الْبُكَيْرِ أَرْبَعَةٌ هُمْ إيَاسُ بْنُ الْبُكَيْرِ ، وَعَاقِلُ بْنُ الْبُكَيْرِ ، وَعَامِرُ بْنُ الْبُكَيْرِ ، وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ وَحَلْفَاؤُهُمْ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ عَلَى رِفَاعَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زَنْبَرٍ ، فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْف ٍ بِقُبَاءَ وَقَدْ كَانَ مَنْزِلُ عَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ مَعَهُ عَلَيْهِ حِينَ قَدِمَا الْمَدِينَةَ . ثُمّ تَتَابَعَ الْمُهَاجِرُونَ ، فَنَزَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُثْمَانَ ، وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إسَافٍ أَخِي بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بِالسّنْحِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ يَسَافٌ فِيمَا [ ص 302 ] ابْنُ إسْحَاقَ . وَيُقَالُ بَلْ نَزَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ عَلَى أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ أَخِي بَنِي النّجّارِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذُكِرَ لِي عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النّهْدِيّ أَنّهُ قَالَ بَلَغَنِي أَنّ صُهَيْبًا حِينَ أَرَادَ الْهِجْرَةَ قَالَ لَهُ كُفّارُ قُرَيْشٍ : أَتَيْتنَا صُعْلُوكًا حَقِيرًا ، فَكَثُرَ مَالُك عِنْدَنَا ، وَبَلَغْت الّذِي بَلَغْت ، ثُمّ تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ بِمَالِك وَنَفْسِك ، وَاَللّهِ لَا يَكُونُ ذَلِك ، فَقَالَ لَهُمْ صُهَيْبٌ أَرَأَيْتُمْ إنْ جَعَلْت لَكُمْ مَالِي أَتُخَلّونَ سَبِيلِي ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ فَإِنّي جَعَلْت لَكُمْ مَالِي . قَالَ فَبَلَغَ ذَلِك رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " رَبِحَ صُهَيْبٌ رَبِحَ صُهَيْبٌ " .Sنُزُولُ طَلْحَةَ وَصُهَيْبٍ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إسَافٍ
فَصْلٌ [ ص 301 ] وَذَكَرَ نُزُولَ طَلْحَةَ وَصُهَيْبٍ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إسَافٍ وَيُقَالُ فِيهِ يَسَافٌ بِيَاءِ مَفْتُوحَةٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْكِتَابِ وَهُوَ إسَافُ بْنُ عِنَبَةَ وَلَمْ يَكُنْ حِينَ نُزُولِ الْمُهَاجِرِينَ عَلَيْهِ مُسْلِمًا فِي [ ص 302 ] الْوَاقِدِيّ بَلْ تَأَخّرَ إسْلَامُهُ حَتّى خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى بَدْرٍ قَالَ خُبَيْبٌ فَخَرَجْت مَعَهُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِي ، وَقُلْنَا لَهُ نَكْرَهُ أَنْ يَشْهَدَ قَوْمُنَا مَشْهَدًا لَا نَشْهَدُهُ مَعَهُمْ فَقَالَ أَسْلَمْتُمَا ؟ فَقُلْنَا : لَا ، فَقَالَ ارْجِعَا ، فَإِنّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكِ وَخُبَيْبٌ هُوَ الّذِي خُلّفَ عَلَى بِنْتِ خَارِجَةَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ وَاسْمُهَا : حَبِيبَةُ وَهِيَ الّتِي يَقُولُ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ وَفَاتِهِ ذُو بَطْنٍ بِنْتُ خَارِجَةَ أَرَاهَا جَارِيَةً وَهِيَ بِنْتُ خَارِجَةَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ وَالْجَارِيَةُ أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ مَاتَ خُبَيْبٌ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَهُوَ جَدّ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ الّذِي يَرْوِي عَنْهُ مَالِكٌ فِي مُوَطّئِهِ .
مَنْزِلُ حَمْزَةَ وَزَيْدٍ وَأَبِي مَرْثَدٍ وَابْنِهِ وَأَنَسَةَ وَأَبِي كَبْشَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَنَزَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ، وَأَبُو مَرْثَدٍ كَنّازُ بْنُ حِصْنٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ ابْنُ حُصَيْنٍ - وَابْنُهُ مَرْثَدٌ الْغَنَوِيّانِ حَلِيفَا حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَأَنَسَةُ وَأَبُو كَبْشَةَ ، مَوْلَيَا رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ أَخِي بَنِي [ ص 303 ] بِقُبَاءَ وَيُقَالُ بَلْ نَزَلُوا عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ ؛ وَيُقَالُ بَلْ نَزَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ عَلَى أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ أَخِي بَنِي النّجّارِ . كُلّ ذَلِكَ يُقَالُ وَنَزَلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطّلِبِ ، وَأَخُوهُ الطّفَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ الْحَارِثِ وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبّادِ بْنِ الْمُطّلِبِ وَسُوَيْبِطُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حُرَيْمِلَةَ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدّارِ وَطُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيّ ، وَخَبّابٌ مَوْلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ ، عَلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَلَمَةَ ، أَخِي بَلْعَجْلَانَ بِقُبَاءَ . وَنَزَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي رِجَالٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ أَخِي بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، فِي دَارِ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ . [ ص 304 ] وَنَزَلَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ ، وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ، عَلَى مُنْذِرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بِالْعَصَبَةِ دَارِ بَنِي جَحْجَبِىّ . وَنَزَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدّارِ عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ النّعْمَامِ أَخِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَل ِ فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ . وَنَزَلَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ سَائِبَةً لِثُبَيْتَةَ [ أَوْ نُبَيْتَةَ ] بِنْتِ يَعَارِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ ، سَيّبَتْهُ فَانْقَطَعَ إلَى أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَتَبَنّاهُ فَقِيلَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَيُقَالُ كَانَتْ ثُبَيْتَةُ بِنْتُ يَعَارٍ تَحْتَ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ فَأَعْتَقَتْ سَالِمًا سَائِبَةً . فَقِيلَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ . [ ص 305 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَنَزَلَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرٍ عَلَى عَبّادِ بْنِ بِشْرِ بْنِ وَقّشٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فِي دَارِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ . وَنَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ عَلَى أَوْسِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَخِي حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ فِي دَارِ بَنِي النّجّارِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ حَسّانُ يُحِبّ عُثْمَانَ وَيَبْكِيهِ حِينَ قُتِلَ . وَكَانَ يُقَالُ نَزَلَ الْأَعْزَابُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ ، وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ عَزَبًا ، فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ .Sأَبُو كَبْشَةَ
وَذَكَرَ أَنَسَةَ وَأَبَا كَبْشَةَ فِي الّذِينَ نَزَلُوا عَلَى كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ ، فَأَمّا أَنَسَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَهُوَ مِنْ مَوْلِدِي السّرَاةِ ، وَيُكَنّى : أَبَا مَسْرُوحٍ ، وَقِيلَ أَبَا مِشْرَحٍ شَهِدَ بَدْرًا ، وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ ، وَأَبُو كَبْشَةَ اسْمُهُ سُلَيْمٌ يُقَالُ إنّهُ مِنْ فَارِسَ ، وَيُقَالُ مِنْ مَوْلِدِي أَرْضِ دَوْسٍ ، شَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فِي الْيَوْمِ الّذِي وُلِدَ فِيهِ عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ ، وَأَمّا الّذِي كَانَتْ [ ص 303 ] قُرَيْشٍ تَذْكُرُهُ وَتَنْسُبُ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ إلَيْهِ وَتَقُولُ قَالَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ وَفَعَلَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ ، فَقِيلَ فِيهِ أَقْوَالٌ قِيلَ إنّهَا كُنْيَةُ أَبِيهِ لِأُمّهِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَقِيلَ كُنْيَةُ أَبِيهِ مِنْ الرّضَاعَةِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ، وَقِيلَ إنّ سَلْمَى أُخْتَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ كَانَ يُكَنّى أَبُوهَا أَبَا كَبْشَةَ ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ لَبِيَدٍ وَأَشْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلّهَا عِنْدَ النّاسِ أَنّهُمْ شَبّهُوهُ بِرَجُلِ كَانَ يَعْبُدُ الشّعْرَى وَحْدَهُ دُونَ الْعَرَبِ ، فَنَسَبُوهُ إلَيْهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ دِينِ قَوْمِهِ . وَذَكَرَ الدّارَقُطْنِيّ اسْمَ أَبِي كَبْشَةَ هَذَا فِي الْمُؤْتَلَفِ وَالْمُخْتَلَفِ فَقَالَ اسْمُهُ وَجْزُ بْنُ غَالِبٍ وَهُوَ خُزَاعِيّ ، وَهُوَ مِنْ بَنِي غُبْشَانَ . وَذَكَرَ نُزُولَهُمْ بِقُبَاءَ وَهُوَ مَسْكَنُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَهُوَ يُمَدّ وَيُقْصَرُ وَيُؤَنّثُ وَيُذَكّرُ وَيُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ وَأَنْشَدَ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَرْفِهِ
وَلَأَبْغِيَنّكُمْ قُبًا [ وَ ] عَوَارِضًا ... وَلَأُقْبِلَنّ الْخَيْلَ لَابَةَ ضَرْغَدِ
وَكَذَلِكَ أَنْشَدَهُ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ قُبًا بِضَمّ الْقَافِ و [ فَتْحِ ] الْبَاءِ وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيّةِ تَصْحِيفٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا ، وَإِنّمَا هُوَ كَمَا أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ : قُنًا وَعَوَارِضَا ، لِأَنّ قُنًا جَبَلٌ عِنْدَ عَوَارِضَ يُقَالُ لَهُ وَلِجَبَلِ آخَرَ مَعَهُ قَنَوَانِ وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ قُبَاءَ مَسَافَاتٌ وَبِلَادٌ فَلَا يَصِحّ أَنْ يُقْرَنَ قُبَاءٌ الّذِي عِنْدَ الْمَدِينَةِ مَعَ عَوَارِضَ وَقِنْوَيْنِ وَكَذَا قَالَ الْبَكْرِيّ فِي مُعْجَمِ مَا اُسْتُعْجِمَ وَأَنْشَدَ [ لِمَعْقِلِ بْنِ ضِرَارِ بْنِ سِنَانٍ الْمُلَقّبِ بِالشّمّاخِ ] .
كَأَنّهَا لَمّا بَدَا عُوَارِضُ ... وَاللّيْلُ بَيْنَ قَنَوَيْنِ رَابِضُ
وَقُبَاءُ : مَأْخُوذٌ مِنْ الْقَبْوِ وَهُوَ الضّمّ وَالْجَمْعُ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الْقَوَابِي : هُنّ اللّوَاتِي يَجْمَعْنَ الْعُصْفُرَ وَاحِدَتُهُنّ قَابِيَةٌ . قَالَ وَأَهْلُ الْعَرَبِيّةِ يُسَمّونَ الضّمّةَ مِنْ الْحَرَكَاتِ قَبْوًا ، وَأَمّا قَوْلُهُمْ لَا وَاَلّذِي أَخْرَجَ قُوبًا مِنْ قَابِيَةٍ يَعْنُونَ الْفَرْخَ مِنْ الْبَيْضَةِ فَمَنْ قَالَ فِيهِ [ ص 304 ] قَالَ فِيهِ قَابِيَةٌ فَهُوَ مِنْ لَفْظِ الْقُوبِ لِأَنّهَا تَتَقَوّبُ عَنْهُ أَيْ تَتَقَشّرُ قَالَ الْكُمَيْتُ يَصِفُ النّسَاءَ
لَهُنّ وَلِلْمَشِيبِ وَمَنْ عَلَاهُ ... مِنْ الْأَمْثَالِ قَابِيَةٌ وُقُوبٌ
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ فَكَانَتْ قَابِيَةَ قُوبٍ عَامَهَا ، يَعْنِي : الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ وَقَدْ ذَكَرَ أَنّ قُبَاءَ اسْمُ بِئْرٍ عُرِفَتْ الْقَرْيَةُ بِهَا .
سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ الّذِي كَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ قَدْ تَبَنّاهُ كَمَا تَبَنّى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - زَيْدًا ، وَكَانَ سَائِبَةً أَيْ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِأَحَدِ وَذَكَرَ الْمَرْأَةَ الّتِي أَعْتَقَتْهُ سَائِبَةً وَهِيَ ثُبَيْتَةُ بِنْتُ يَعَارٍ وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِهَا بُثَيْنَةُ ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ وَذَكَرَ عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ فِيهَا : بِنْتُ تَعَارٍ وَقَالَ ابْنُ شَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ اسْمُهَا سَلْمَى [ وَقَالَ ابْنُ حِبّانَ : يُقَالُ لَهَا : لَيْلَمَةُ ] وَيُقَالُ فِي اسْمِهَا أَيْضًا : عَمْرَةُ وَقَدْ أَبْطَلَ التّسْبِيبَ فِي الْعِتْقِ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَجَعَلُوا الْوَلَاءَ لِكُلّ مَنْ أَعْتَقَ أَخْذًا بِحَدِيثِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذَلِكَ وَحَمْلًا لَهُ عَلَى الْعُمُومِ وَلِمَا رُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنّهُ قَالَ لَا سَائِبَةَ فِي الْإِسْلَامِ وَرَأَى مَالِكٌ مِيرَاثَ السّائِبَةِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَرَ وَلَاءَهُ لِمَنْ سَيّبَهُ فَكَانَ لِلتّسْيِيبِ وَالْعِتْقِ عِنْدَهُ حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ وَسَالِمٌ هَذَا هُوَ الّذِي أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ أَنْ تُرْضِعَهُ لِيَحْرُمَ عَلَيْهَا ، فَأَرْضَعَتْهُ وَهُوَ ذُو لِحْيَةٍ . [ ص 305 ] قِيلَ كَيْفَ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ثَدْيِهَا ، فَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَنّهَا حَلَبَتْ لَهُ فِي مِسْعَطٍ وَشَرِبَ اللّبَنَ ذَكَرَ ذَلِكَ مُحَمّدُ بْنُ حَبِيبٍ .
خَبَرُ النّدْوَةِ وَهِجْرَةِ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 306 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ بَعْدَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ وَلَمْ يَتَخَلّفْ مَعَهُ بِمَكّةَ أَحَدٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلّا مَنْ حُبِسَ أَوْ فُتِنَ إلّا عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ كَثِيرًا مَا يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْهِجْرَةِ فَيَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَا تَعْجَلْ لَعَلّ اللّهَ يَجْعَلُ لَك صَاحِبًا " ، فَيَطْمَعُ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَكُونَهُ .
الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ يَتَشَاوَرُونَ فِي أَمْرِ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ صَارَتْ لَهُ شِيعَةٌ وَأَصْحَابٌ مِنْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ بَلَدِهِمْ وَرَأَوْا خُرُوجَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهِمْ عَرَفُوا أَنّهُمْ قَدْ نَزَلُوا دَارًا ، وَأَصَابُوا مِنْهُمْ مَنَعَةً فَحَذِرُوا خُرُوجَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِمْ وَعَرَفُوا أَنّهُمْ قَدْ أُجْمِعَ لِحَرْبِهِمْ . فَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ النّدْوَةِ - وَهِيَ دَارُ قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ الّتِي كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَقْضِي أَمْرًا إلّا فِيهَا - يَتَشَاوَرُونَ فِيهَا مَا يَصْنَعُونَ فِي أَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ خَافُوهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ أَبِي الْحَجّاجِ وَغَيْرِهِ مِمّنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمّا أَجْمَعُوا لِذَلِكَ وَاتّعَدُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِي دَارِ النّدْوَةِ لِيَتَشَاوَرُوا فِيهَا فِي أَمْرِ [ ص 307 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - غَدَوْا فِي الْيَوْمِ الّذِي اتّعَدُوا لَهُ وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ يُسَمّى يَوْمَ الرّحْمَةِ فَاعْتَرَضَهُمْ إبْلِيسُ فِي هَيْئَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ ، عَلَيْهِ بِتَلّةِ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الدّارِ فَلَمّا رَأَوْهُ وَاقِفًا عَلَى بَابِهَا ، قَالُوا : مَنْ الشّيْخُ ؟ قَالَ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ سَمِعَ بِاَلّذِي اتّعَدْتُمْ لَهُ فَحَضَرَ مَعَكُمْ لِيَسْمَعَ مَا تَقُولُونَ وَعَسَى أَنْ لَا يَعْدَمَكُمْ مِنْهُ رَأْيًا وَنُصْحًا ، قَالُوا : أَجَلْ فَادْخُلْ فَدَخَلَ مَعَهُمْ وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهَا أَشْرَافُ قُرَيْشٍ ، مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ : عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ . وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَاف ٍ طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيّ ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَارِمِ بْنِ نَوْفَلٍ وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ : النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ . وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى : أَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هِشَامٍ وَزَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ . وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ : أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ . وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ : نَبِيهٌ وَمُنَبّهٌ ابْنَا الْحَجّاجِ ، وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ : أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ وَغَيْرُهُمْ مِمّنْ لَا يُعَدّ مِنْ قُرَيْشٍ . [ ص 308 ] فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ إنّ هَذَا الرّجُلَ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ فَإِنّا وَاَللّهِ مَا نَأْمَنُهُ عَلَى الْوُثُوبِ عَلَيْنَا فِيمَنْ قَدْ اتّبَعَهُ مِنْ غَيْرِنَا ، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا . قَالَ فَتَشَاوَرُوا ثُمّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ احْبِسُوهُ فِي الْحَدِيدِ وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا ، ثُمّ تَرَبّصُوا بِهِ مَا أَصَابَ أَشْبَاهَهُ مِنْ الشّعَرَاءِ الّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ زُهَيْرًا وَالنّابِغَةَ وَمَنْ مَضَى مِنْهُمْ مِنْ هَذَا الْمَوْتِ حَتّى يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ . فَقَالَ الشّيْخُ النّجْدِيّ : لَا وَاَللّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيِ . وَاَللّهِ لَئِنْ حَبَسْتُمُوهُ كَمَا تَقُولُونَ لَيَخْرُجَنّ أَمْرُهُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ الّذِي أَغْلَقْتُمْ دُونَهُ إلَى أَصْحَابِهِ فَلَأَوْشَكُوا أَنْ يَثِبُوا عَلَيْكُمْ فَيَنْزِعُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ ثُمّ يُكَاثِرُوكُمْ بِهِ حَتّى يَغْلِبُوكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيِ فَانْظُرُوا فِي غَيْرِهِ فَتَشَاوَرُوا ، ثُمّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ نُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا ، فَنَنْفِيهِ مِنْ بِلَادِنَا ، فَإِذَا أُخْرِجَ عَنّا فَوَاَللّهِ مَا نُبَالِي أَيْنَ ذَهَبَ وَلَا حَيْثُ وَقَعَ إذَا غَابَ عَنّا وَفَرَغْنَا مِنْهُ فَأَصْلَحْنَا أَمْرَنَا وَأُلْفَتَنَا كَمَا كَانَتْ . فَقَالَ الشّيْخُ النّجْدِيّ : لَا وَاَللّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيِ أَلَمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ وَحَلَاوَةَ مَنْطِقِهِ وَغَلَبَتَهُ عَلَى قُلُوبِ الرّجَالِ بِمَا يَأْتِي بِهِ وَاَللّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ مَا أَمِنْتُمْ أَنْ يَحِلّ عَلَى حَيّ مِنْ الْعَرَبِ ، فَيَغْلِبُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَحَدِيثِهِ حَتّى يُتَابِعُوهُ عَلَيْهِ ثُمّ يَسِيرُ بِهِمْ إلَيْكُمْ حَتّى يَطَأَكُمْ بِهِمْ فِي بِلَادِكُمْ فَيَأْخُذُ أَمْرَكُمْ مِنْ أَيْدِيكُمْ ثُمّ يَفْعَلُ بِكُمْ مَا أَرَادَ دَبّرُوا فِيهِ رَأْيًا غَيْرَ هَذَا . قَالَ فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَاَللّهِ إنّ لِي فِيهِ لَرَأْيًا مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ قَالُوا : وَمَا هُوَ يَا أَبَا الْحَكَمِ ؟ قَالَ أَرَى أَنّ نَأْخُذَ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابّا جَلِيدًا نَسِيبًا وَسِيطًا فَيْنًا ، ثُمّ نُعْطِي كُلّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا ، ثُمّ يَعْمِدُوا إلَيْهِ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَقْتُلُوهُ فَنَسْتَرِيحُ مِنْهُ . فَإِنّهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ جَمِيعًا ، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا ، فَرَضُوا مِنّا بِالْعَقْلِ فَعَقَلْنَاهُ لَهُمْ . قَالَ فَقَالَ الشّيْخُ النّجْدِيّ : الْقَوْلُ مَا قَالَ الرّجُلُ هَذَا الرّأْيُ الّذِي لَا رَأْيَ غَيْرَهُ فَتَفَرّقَ الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ .Sاجْتِمَاعُ قُرَيْشٍ لِلتّشَاوُرِ فِي أَمْرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 306 ] ذَكَرَ فِيهِ تَمَثّلَ إبْلِيسَ - حِينَ أَتَاهُمْ - فِي صُورَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ وَانْتِسَابِهِ إلَى أَهْلِ نَجْدٍ . [ ص 307 ] جَلِيلٍ يَقُولُ جَلّ الرّجُلُ وَجَلّتْ الْمَرْأَةُ إذَا أَسَنّتْ قَالَ الشّاعِرُ وَمَا حَظّهَا أَنْ قِيلَ عَزّتْ وَجَلّتْ وَيُقَالُ مِنْهُ جَلَلْت يَا رَجُلُ بِفَتْحِ اللّامِ وَقِيَاسُهُ جَلَلْت لِأَنّ اسْمَ الْفَاعِلِ مِنْهُ جَلِيلٌ ، وَلَكِنْ تَرَكُوا الضّمّ فِي الْمُضَاعَفِ كُلّهِ اسْتِثْقَالًا لَهُ مَعَ التّضْعِيفِ إلّا فِي لَبُبْت ، فَأَنْت لَبِيبٌ حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ بِالضّمّ عَلَى الْأَصْلِ . وَإِنّمَا قَالَ لَهُمْ إنّي مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السّيرَةِ لِأَنّهُمْ قَالُوا : لَا يَدْخُلَنّ مَعَكُمْ فِي الْمُشَاوَرَةِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ لِأَنّ هَوَاهُمْ مَعَ مُحَمّدٍ فَلِذَلِكَ تَمَثّلَ لَهُمْ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيّ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي خَبَرِ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ أَنّهُ تَمَثّلَ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيّ أَيْضًا ، حِينَ حَكّمُوا رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي أَمْرِ الرّكْنِ مَنْ يَرْفَعُهُ " ، فَصَاحَ الشّيْخُ النّجْدِيّ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ : أَقَدْ رَضِيتُمْ أَنْ يَلِيَهُ هَذَا الْغُلَامُ دُونَ أَشْرَافِكُمْ وَذَوِي أَسْنَانِكُمْ فَإِنْ صَحّ هَذَا الْخَبَرُ فَلِمَعْنًى آخَرَ تَمَثّلَ نَجْدِيّا ، وَذَلِكَ أَنّ نَجْدًا مِنْهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَانِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ قِيلَ لَهُ وَفِي نَجْدِنَا يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ " هُنَالِكَ الزّلَازِلُ وَالْفِتَنُ وَمِنْهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَان " ، فَلَمْ يُبَارِكْ عَلَيْهَا ، كَمَا بَارَكَ عَلَى الْيَمَنِ وَالشّامِ وَغَيْرِهَا ، وَحَدِيثُهُ الْآخَرُ أَنّهُ نَظَرَ إلَى الْمَشْرِقِ فَقَالَ إنّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَانِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنّهُ حِينَ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ وَوَقَفَ عِنْدَ بَابِ عَائِشَةَ وَنَظَرَ إلَى الْمَشْرِقِ فَقَالَهُ وَفِي [ ص 308 ] عَائِشَةَ نَاظِرًا إلَى الْمَشْرِقِ يُحَذّرُ مِنْ الْفِتَنِ وَفَكّرَ فِي خُرُوجِهَا إلَى الْمَشْرِقِ عِنْدَ وُقُوعِ الْفِتْنَةِ تُفْهَمُ مِنْ الْإِشَارَةِ وَاضْمُمْ إلَى هَذَا قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ ذَكَرَ نُزُولَ الْفِتَنِ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجَرِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَذَكَرَ تَشَاوُرَهُمْ فِي أَمْرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنّ بَعْضَهُمْ أَشَارَ بِأَنْ يُحْبَسَ فِي بَيْتٍ وَبَعْضَهُمْ بِإِخْرَاجِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَنَفْيِهِ وَلَمْ يُسِئْ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ الّذِي أَشَارَ بِحَبْسِهِ هُوَ أَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هِشَامٍ وَاَلّذِي أَشَارَ بِإِخْرَاجِهِ وَنَفْيِهِ هُوَ أَبُو الْأَسْوَدِ رَبِيعَةُ بْنُ عَمْرٍو ، أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، وَقَوْلُ أَبِي جَهْلٍ نَسِيبًا وَسِيطًا ، هُوَ مِنْ السّطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي بَابِ تَزْوِيجِهِ خَدِيجَةَ مَعْنَى الْوَسِيطِ وَأَيْنَ يَكُونُ مَدْحًا .
مِمّا يُقَالُ عَنْ لَيْلَةِ الْهِجْرَةِ
فَأَتَى [ ص 309 ] جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَا تَبِتْ هَذِهِ اللّيْلَةَ عَلَى فِرَاشِك الّذِي كُنْت تَبِيتُ عَلَيْهِ . قَالَ فَلَمّا كَانَتْ عَتَمَةٌ مِنْ اللّيْلِ اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ يَرْصُدُونَهُ مَتَى يَنَامُ فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكَانَهُمْ قَالَ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ " نَمْ عَلَى فِرَاشِي وَتَسَجّ بِبُرْدِي هَذَا الْحَضْرَمِيّ الْأَخْضَرَ ، فَنَمْ فِيهِ فَإِنّهُ لَنْ يَخْلُصَ إلَيْك شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ " ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنَامُ فِي بُرْدِهِ ذَلِكَ إذَا نَامَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ قَالَ لَمّا اجْتَمَعُوا لَهُ وَفِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فَقَالَ وَهُمْ عَلَى بَابِهِ إنّ مُحَمّدًا يَزْعُمُ أَنّكُمْ إنْ تَابَعْتُمُوهُ عَلَى أَمْرِهِ كُنْتُمْ مُلُوكَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ، ثُمّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فَجُعِلَتْ لَكُمْ جِنَانٌ كَجِنَانِ الْأُرْدُنّ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ لَهُ فِيكُمْ ذَبْحٌ ثُمّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ثُمّ جُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ تُحَرّقُونَ فِيهَا . قَالَ وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ ثُمّ قَالَ " أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ أَنْت أَحَدُهُمْ " ، وَأَخَذَ اللّهُ تَعَالَى عَلَى أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ فَلَا يَرَوْنَهُ فَجَعَلَ يَنْثُرُ ذَلِكَ التّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَهُوَ يَتْلُو هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ مِنْ يس : { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرّحِيمِ } إلَى قَوْلِهِ { فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ } حَتّى فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إلّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا ، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى حَيْثُ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ فَأَتَاهُمْ آتٍ مِمّنْ لَمْ [ ص 310 ] مُحَمّدًا ، قَالَ خَيّبَكُمْ اللّهُ قَدْ وَاَللّهِ خَرَجَ عَلَيْكُمْ مُحَمّدٌ ، ثُمّ مَا تَرَكَ مِنْكُمْ رَجُلًا إلّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا ، وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ أَفَمَا تَرَوْنَ مَا بِكُمْ ؟ قَالَ فَوَضَعَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَإِذَا عَلَيْهِ تُرَابٌ ثُمّ جَعَلُوا يَتَطَلّعُونَ فَيَرَوْنَ عَلِيّا عَلَى الْفِرَاشِ مُتَسَجّيًا بِبُرْدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَقُولُونَ وَاَللّهِ إنّ هَذَا لَمُحَمّدٌ نَائِمًا ، عَلَيْهِ بُرْدُهُ . فَلَمْ يَبْرَحُوا كَذَلِكَ حَتّى أَصْبَحُوا فَقَامَ عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - عَنْ الْفِرَاشِ فَقَالُوا : وَاَللّهِ لَقَدْ كَانَ صَدَقَنَا الّذِي حَدّثَنَا .S[ ص 309 ] عَلِيّا وَعَلَيْهِ بُرْدُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَظُنّونَهُ إيّاهُ فَلَمْ يَزَالُوا قِيَامًا حَتّى أَصْبَحُوا ، فَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التّفْسِيرِ السّبَبَ الْمَانِعَ لَهُمْ مِنْ التّقَحّمِ عَلَيْهِ فِي الدّارِ مَعَ قِصَرِ الْجِدَارِ وَأَنّهُمْ إنّمَا جَاءُوا لِقَتْلِهِ فَذَكَرَ فِي الْخَبَرِ أَنّهُمْ هَمّوا بِالْوُلُوجِ عَلَيْهِ فَصَاحَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الدّارِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ وَاَللّهِ إنّهَا لَلسّبّةُ فِي الْعَرَبِ أَنْ يُتَحَدّثَ عَنّا أَنّا تَسَوّرْنَا الْحِيطَانَ عَلَى بَنَاتِ الْعَمّ وَهَتَكْنَا سِتْرَ حُرْمَتِنَا ، فَهَذَا هُوَ الّذِي أَقَامَهُمْ بِالْبَابِ حَتّى أَصْبَحُوا يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ ثُمّ طُمِسَتْ أَبْصَارُهُمْ عَنْهُ حِينَ خَرَجَ وَفِي قِرَاءَةِ الْآيَاتِ الْأُوَلِ مِنْ سُورَةِ يس مِنْ الْفِقْهِ التّذْكِرَةُ بِقِرَاءَةِ الْخَائِفِينَ لَهَا اقْتِدَاءً بِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَدْ رَوَى الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذِكْرِ فَضْلِ يس أَنّهَا إنْ قَرَأَهَا خَائِفٌ أَمِنَ أَوْ جَائِعٌ شَبِعَ أَوْ عَارٍ كُسِيَ أَوْ عَاطِشٌ سُقِيَ حَتّى ذَكَرَ خِلَالًا كَثِيرَةً
الْآيَاتُ الّتِي نَزَلَتْ فِي تَرَبّصِ الْمُشْرِكِينَ بِالنّبِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ مِمّا أَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ مِنْ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا كَانُوا أَجْمَعُوا لَهُ { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ الْأَنْفَالُ 30ْ ] ، وَقَوْلُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبّصُوا فَإِنّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبّصِينَ } [ الطّورُ : 30ْ ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْمَنُونُ الْمَوْتُ . وَرَيْبُ الْمَنُونِ مَا يُرِيبُ وَيَعْرِضُ مِنْهَا . قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيّ :
أَمِنْ الْمَنُونِ وَرَيْبِهَا تَتَوَجّعُ ... وَالدّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبِ مَنْ يَجْزَعُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . [ ص 311 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَذِنَ اللّهُ تَعَالَى لِنَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ ذَلِكَ فِي الْهِجْرَةِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ رَجُلًا ذَا مَالٍ فَكَانَ حِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْهِجْرَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَا تَعْجَلْ لَعَلّ اللّهَ يَجِدُ لَك صَاحِبًا " ، قَدْ طَمِعَ بِأَنْ يَكُونَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا يَعْنِي نَفْسَهُ حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ فَابْتَاعَ رَاحِلَتَيْنِ فَاحْتَبَسَهُمَا فِي دَارِهِ يَعْلِفُهُمَا إعْدَادًا لِذَلِك .S[ ص 310 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ فِي ذَلِكَ وَشَرَحَ ابْنُ هِشَامٍ رَيْبَ الْمَنُونِ وَأَنْشَدَ قَوْلَ أَبِي ذُؤَيْبٍ : أَمِنْ الْمَنُونِ وَرَيْبِهِ تَتَفَجّعُ وَالْمَنُونُ يُذَكّرُ وَيُؤَنّثُ فَمَنْ جَعَلَهَا عِبَارَةً عَنْ الْمَنِيّةِ أَوْ حَوَادِثِ الدّهْرِ أَنّثَ وَمَنْ جَعَلَهَا عِبَارَةً عَنْ الدّهْرِ ذَكّرَ وَرَيْبُ الْمَنُونِ مَا يَرِيبُك مِنْ تَغَيّرِ الْأَحْوَالِ فِيهِ سُمّيَتْ الْمَنُونَ لِنَزْعِهَا مِنَنَ الْأَشْيَاءِ أَيْ قُوَاهَا ، وَقِيلَ بَلْ سُمّيَتْ مَنُونًا لِقَطْعِهَا دُونَ الْآمَالِ مِنْ قَوْلِهِمْ جَبَلٌ مُنَيْنٌ أَيْ مَقْطُوعٌ وَفِي التّنْزِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [ التّينُ 6 ] أَيْ غَيْرُ مَقْطُوعٍ . [ ص 311 ]
الْهِجْرَةُ إلَى الْمَدِينَةِ
[ ص 312 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَنّهَا قَالَتْ كَانَ لَا يُخْطِئُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيْ النّهَارِ إمّا بُكْرَةً وَإِمّا عَشِيّةً حَتّى إذَا كَانَ الْيَوْمُ الّذِي أَذِنَ فِيهِ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْهِجْرَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْ مَكّةَ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَيْ قَوْمِهِ أَتَانَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْهَاجِرَةِ فِي سَاعَةٍ كَانَ لَا يَأْتِي فِيهَا . [ ص 313 ] قَالَتْ فَلَمّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ مَا جَاءَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذِهِ السّاعَةَ إلّا لِأَمْرِ حَدَثَ . قَالَتْ فَلَمّا دَخَلَ تَأَخّرَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ سَرِيرِهِ فَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ إلّا أَنَا وَأُخْتِي أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْرِجْ عَنّي مَنْ عِنْدَك ؛ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّمَا هُمَا ابْنَتَايَ وَمَا ذَاكَ ؟ فِدَاك أَبِي وَأُمّي فَقَالَ " إنّ اللّهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ وَالْهِجْرَةِ " . قَالَتْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ " الصّحْبَةَ " . [ ص 314 ] قَالَتْ فَوَاَللّهِ مَا شَعَرْت قَطّ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنّ أَحَدًا يَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ حَتّى رَأَيْت أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي يَوْمَئِذٍ ثُمّ قَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ إنّ هَاتَيْنِ رَاحِلَتَانِ قَدْ كُنْت أَعْدَدْتهمَا لِهَذَا ، فَاسْتَأْجَرَا عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَرْقَطَ - رَجُلًا مِنْ بَنِي الدّيلِ بْنِ بَكْرٍ [ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيّ - هَادِيًا خِرّيتًا - وَالْخِرّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السّهْمِيّ - عَنْ الْبُخَارِيّ ] ، وَكَانَتْ أُمّهُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو ، وَكَانَ مُشْرِكًا - يَدُلّهُمَا عَلَى الطّرِيقِ فَدَفَعَا إلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا ، فَكَانَتَا عِنْدَهُ يَرْعَاهُمَا لِمِيعَادِهِمَا .Sإذْنُ اللّهِ سُبْحَانَهُ لِنَبِيّهِ بِالْهِجْرَةِ
[ ص 312 ] ذَكَرَ فِيهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَى بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ فِي الظّهِيرَةِ قَالَتْ عَائِشَةُ وَفِي الْبَيْتِ أَنَا وَأُخْتِي أَسْمَاءُ فَقَالَ أَخْرِجْ مَنْ مَعَك ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إنّمَا هُمَا بِنْتَايَ يَا رَسُولَ اللّهِ . وَقَالَ فِي جَامِعِ الْبُخَارِيّ : إنّمَا هُمْ أَهْلُك يَا رَسُولَ اللّهِ وَذَلِكَ أَنّ عَائِشَةَ قَدْ كَانَ أَبُوهَا أَنْكَحَهَا مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أُمّهَا أُمّ رُومَانَ بِنْتِ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمِرٍ وَيُقَالُ فِي اسْمِ أَبِيهَا : رَوْمَانُ بِفَتْحِ الرّاءِ أَيْضًا ، فَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ ثَابِتٍ اخْتَصَرْته : إنّ أَبَا بَكْرٍ حِينَ هَاجَرَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَلّفَ بَنَاتِهِ بِمَكّةَ فَلَمّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ أَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَأَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ وَأَرْسَلَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدَ اللّه بْنَ أُرَيْقِطٍ [ الدّيلِيّ ] ، وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَوْا بِهَا ظَفَرًا بِقُدَيْدٍ ثُمّ قَدِمُوا مَكّةَ فَخَرَجُوا بِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ وَبِفَاطِمَةَ وَبِأُمّ كُلْثُومٍ . قَالَتْ عَائِشَةُ وَخَرَجَتْ أُمّي مَعَهُمْ وَمَعَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ مُصْطَحِبِينَ فَلَمّا كُنّا بِقُدَيْدٍ نَفَرَ الْبَعِيرُ الّذِي كُنْت عَلَيْهِ أَنَا وَأُمّي : أُمّ رُومَانَ فِي مِحَفّةٍ فَجَعَلَتْ أُمّي تُنَادِي : وَابُنَيّتَاهُ وَاعَرُوسَاه وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَفِيهِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَسَمِعْت قَائِلًا يَقُولُ - وَلَا أَرَى أَحَدًا - أَلْقَى خِطَامَهُ فَأَلْقَيْته [ ص 313 ] يَدِي ، فَقَامَ الْبَعِيرُ يَسْتَدِيرُ بِهِ كَأَنّ إنْسَانًا تَحْتَهُ يُمْسِكُهُ حَتّى هَبَطَ الْبَعِيرُ مِنْ الثّنِيّةِ ، فَسَلّمَ اللّهُ فَقَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ يَبْنِي الْمَسْجِدَ وَأَبْيَاتًا لَهُ فَنَزَلْت مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَنَزَلَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ فِي بَيْتِهَا ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَلَا تَبْنِي بِأَهْلِك يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ " لَوْلَا الصّدَاقُ " ، قَالَتْ فَدَفَعَ إلَيْهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّةً وَنَشّا ، وَالنّشّ : عُشْرُونَ دِرْهَمًا وَذَكَرْت الْحَدِيثَ . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ .
لِمَ اشْتَرَيْت الرّاحِلَةَ ؟
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ أَعَدّ رَاحِلَتَيْنِ فَقَدّمَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاحِدَةً وَهِيَ أَفَضْلُهُمَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّي لَا أَرْكَبُ بَعِيرًا لَيْسَ لِي ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " بِالثّمَنِ " ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بِالثّمَنِ يَا رَسُولَ اللّهِ فَرَكِبَهَا فَسُئِلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِمَ لَمْ يَقْبَلْهَا إلّا بِالثّمَنِ وَقَدْ أَنْفَقَ أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا فَقَبِلَ ؟ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ " لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ أَمَنّ عَلَيّ فِي أَهْلٍ وَمَالٍ مِنْ أَبِي بَكْرٍ " ، وَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِ حِينَ بَنَى بِعَائِشَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّةً وَنَشّا ، فَلَمْ يَأْبَ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ الْمَسْئُولُ إنّمَا ذَلِكَ لِتَكُونَ هِجْرَتُهُ إلَى اللّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ رَغْبَةً مِنْهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي اسْتِكْمَالِ فَضْلِ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ عَلَى أَتَمّ أَحْوَالِهِمَا ، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ حَدّثَنِي بِهَذَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ الْفَقِيهِ الزّاهِدِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ اللّوّانِ رَحِمَهُ اللّهُ . ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ :
ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ
أَنّ النّاقَةَ الّتِي ابْتَاعَهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ هِيَ نَاقَتُهُ الّتِي تُسَمّى بِالْجَدْعَاءِ وَهِيَ غَيْرُ الْعَضْبَاءِ الّتِي جَاءَ فِيهَا الْحَدِيثُ حِينَ ذَكَرَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَاقَةَ صَالِحٍ وَأَنّهَا تُحْشَرُ مَعَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَأَنْتَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْعَضْبَاءِ يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ " لَا . ابْنَتِي فَاطِمَةُ تُحْشَرُ عَلَى الْعَضْبَاءِ وَأُحْشَرُ أَنَا عَلَى الْبُرَاقِ وَيُحْشَرُ هَذَا عَلَى نَاقَةٍ مِنْ نُوقِ الْجَنّةِ " وَأَشَارَ إلَى بِلَالٍ . [ ص 314 ] وَذَكَرَ أَذَانَهُ فِي الْمَوْقِفِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ يَرْوِيهِ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَعَبْدُ الْحَمِيدِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُمْ . وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْعَضْبَاءِ وَلَيْسَتْ بِالْجَدْعَاءِ فَهَذَا مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ إنّهَا غَيْرُ الْجَدْعَاءِ وَهُوَ الصّحِيحُ لِأَنّهَا غُنِمَتْ وَأُخِذَ صَاحِبُهَا الْعَقِيلِيّ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ بِمَ أَخَذْتنِي يَا مُحَمّدُ وَأَخَذْت سَابِقَةَ الْحَاجّ يَعْنِي : الْعَضْبَاءَ فَقَالَ أَخَذْتُك بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك .
بُكَاءُ الْفَرَجِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - مَا كُنْت أَرَى أَحَدًا يَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ حَتّى رَأَيْت أَبَا بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ يَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ . قَالَتْ ذَلِكَ لِصِغَرِ سِنّهَا ، وَأَنّهَا لَمْ تَكُنْ عَلِمَتْ بِذَلِكَ قَبْلُ وَقَدْ تَطَرّقَتْ الشّعَرَاءُ لِهَذَا الْمَعْنَى ، فَأَخَذَتْهُ اسْتِحْسَانًا لَهُ فَقَالَ الطّائِيّ يَصِفُ السّحَابَ
دُهْمٌ إذَا وَكَفَتْ فِي رَوْضِهِ طَفِقَتْ ... عُيُونُ أَزْهَارِهَا تَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ
وَقَالَ أَبُو الطّيّبِ وَزَادَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى :
فَلَا تُنْكِرْنَ لَهَا صَرْعَةً ... فَمِنْ فَرَحِ النّفْسِ مَا يَقْتُلُ
وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَدّثِينَ
وَرَدَ الْكِتَابُ مِنْ الْحَبِيبِ بِأَنّهُ ... سَيَزُورُنِي فَاسْتَعْبَرَتْ أَجْفَانِي
غَلَبَ السّرُورُ عَلَيّ حَتّى إنّهُ ... مِنْ فَرْطِ مَا قَدْ سَرّنِي أَبْكَانِي
يَا عَيْنُ صَارَ الدّمْعُ عِنْدَك عَادَةً ... تَبْكِينَ فِي فَرَحٍ وَفِي أَحْزَانِ
الّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ بِالْهِجْرَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 315 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحَدٌ ، حِينَ خَرَجَ إلّا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ ، وَآلُ أَبِي بَكْرٍ . أَمّا عَلِيّ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - أَخْبَرَهُ بِخُرُوجِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَخَلّفَ بَعْدَهُ بِمَكّةَ حَتّى يُؤَدّيَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْوَدَائِعَ الّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنّاسِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْسَ بِمَكّةَ أَحَدٌ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَخْشَى عَلَيْهِ إلّا وَضَعَهُ عِنْدَهُ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .Sمَكّةُ وَالْمَدِينَةُ
فَصْلٌ [ ص 315 ] خَرَجَ مِنْ مَكّةَ ، وَوَقَفَ عَلَى الْحَزْوَرَةِ ، وَنَظَرَ إلَى الْبَيْتِ فَقَالَ " وَاَللّهِ إنّك لَأَحَبّ أَرْضِ اللّهِ إلَيّ وَإِنّك لَأَحَبّ أَرْضِ اللّهِ إلَى اللّهِ وَلَوْلَا أَنّ أَهْلَك أَخْرَجُونِي مِنْك مَا خَرَجْت " . يَرْوِيهِ الزّهْرِيّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَدِيّ بْنِ الْحَمْرَاءِ يَرْفَعُهُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهِ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ مِنْ أَصَحّ مَا يُحْتَجّ بِهِ فِي تَفْضِيلِ مَكّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ مَرْفُوعًا : " إنّ صَلَاةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ " فَإِذَا كَانَتْ الْأَعْمَالُ تَبَعًا لِلصّلَاةِ فَكُلّ حَسَنَةٍ تُعْمَلُ فِي الْحَرَمِ ، فَهِيَ بِمِائَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَقَدْ جَاءَ هَذَا مَنْصُوصًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ " مَنْ حَجّ مَاشِيًا كُتِبَ لَهُ بِكُلّ خُطْوَةٍ سَبْعُمِائَةِ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ " ، قِيلَ وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ ؟ قَالَ " الْحَسَنَةُ فِيهِ بِمِائَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ " [ قَالَ عَطَاءٌ وَلَا أَحْسَبُ السّيّئَةَ إلّا مِثْلَهَا ] أَسْنَدَهُ الْبَزّارُ .
الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْغَارِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 316 ] فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخُرُوجَ أَتَى أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَخَرَجَا مِنْ خَوْخَةٍ لِأَبِي بَكْرٍ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ ثُمّ عَمَدَا إلَى غَارٍ بِثَوْرِ - جَبَلٌ بِأَسْفَلِ مَكّةَ فَدَخَلَاهُ وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ ابْنَهُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَسَمّعَ لَهُمَا مَا يَقُولُ النّاسُ فِيهِمَا نَهَارَهُ ثُمّ يَأْتِيهِمَا إذَا أَمْسَى بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْخَبَرِ ، وَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ أَنْ يَرْعَى غَنَمَهُ نَهَارَهُ ثُمّ يُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا ، يَأْتِيهِمَا إذَا أَمْسَى فِي الْغَارِ . وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ تَأْتِيهِمَا مِنْ الطّعَامِ إذَا أَمْسَتْ بِمَا يُصْلِحُهُمَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ قَالَ انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَكْرٍ إلَى الْغَارِ لَيْلًا ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَبْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتَلَمّسَ الْغَارَ لِيَنْظُرَ أَفِيهِ سَبُعٌ أَوْ حَيّةٌ يَقِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِنَفْسِهِ [ ص 317 ]
الّذِينَ قَامُوا بِشُؤُونِ الرّسُولِ فِي الْغَارِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْغَارِ ثَلَاثًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ فِيهِ حِينَ فَقَدُوهُ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ يَرُدّهُ عَلَيْهِمْ . وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَكُونُ فِي قُرَيْشٍ نَهَارَهُ مَعَهُمْ يَسْمَعُ مَا يَأْتَمِرُونَ بِهِ وَمَا يَقُولُونَ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ ثُمّ يَأْتِيهِمَا إذَا أَمْسَى فَيُخْبِرُهُمَا الْخَبَرَ . وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَرْعَى فِي رِعْيَانِ أَهْلِ مَكّةَ ، فَإِذَا أَمْسَى أَرَاحَ عَلَيْهِمَا غَنَمَ أَبِي بَكْرٍ فَاحْتَلَبَا وَذَبَحَا ، فَإِذَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ غَدَا مِنْ عِنْدِهِمَا إلَى مَكّةَ ، اتّبَعَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ أَثَرَهُ بِالْغَنَمِ حَتّى يُعْفِيَ عَلَيْهِ حَتّى إذَا مَضَتْ الثّلَاثُ وَسَكَنَ عَنْهُمَا النّاسُ أَتَاهُمَا صَاحِبُهُمَا الّذِي اسْتَأْجَرَاهُ بِبَعِيرَيْهِمَا وَبَعِيرٍ لَهُ وَأَتَتْهُمَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا بِسُفْرَتِهِمَا ، وَنَسِيَتْ أَنْ تَجْعَلَ لَهَا عِصَامًا فَلَمّا ارْتَحَلَا ذَهَبَتْ لِتُعَلّقَ السّفْرَةَ فَإِذَا لَيْسَ لَهَا عِصَامٌ فَتَحِلّ نِطَاقَهَا فَتَجْعَلُهُ عِصَامًا ، ثُمّ عَلّقَتْهَا بِهِ [ ص 318 ]
لِمَ سُمّيَتْ أَسْمَاءُ بِذَاتِ النّطَاقَيْنِ
فَكَانَ يُقَالُ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ذَاتُ النّطَاقِ لِذَلِكَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَسَمِعْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ ذَاتُ النّطَاقَيْنِ . وَتَفْسِيرُهُ أَنّهَا لَمّا أَرَادَتْ أَنْ تُعَلّقَ السّفْرَةَ شَقّتْ نِطَاقَهَا بِاثْنَيْنِ فَعَلّقَتْ السّفْرَةَ بِوَاحِدِ وَانْتَطَقَتْ بِالْآخَرِ . [ ص 319 ]
رَاحِلَةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا قَرّبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ الرّاحِلَتَيْنِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدّمَ لَهُ أَفْضَلَهُمَا ، ثُمّ قَالَ ارْكَبْ فِدَاك أَبِي وَأُمّي ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّي لَا أَرْكَبُ بَعِيرًا لَيْسَ لِي " . قَالَ فَهِيَ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ بِأَبِي أَنْت وَأُمّي ، قَالَ " لَا ، وَلَكِنْ مَا الثّمَنُ الّذِي ابْتَعْتهَا بِهِ " ؟ قَالَ كَذَا وَكَذَا ، قَالَ " قَدْ أَخَذْتهَا بِهِ " ، قَالَ هِيَ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ . فَرَكِبَا وَانْطَلَقَا . وَأَرْدَفَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ خَلْفَهُ لِيَخْدُمَهُمَا فِي الطّرِيقِ .Sحَدِيثُ الْغَارِ
وَهُوَ غَارٌ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ ، وَهُوَ الْجَبَلُ الّذِي ذَكَرَهُ فِي تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ ، وَأَنّهَا حَرَامٌ مَا بَيْنَ [ ص 316 ] جِبَالِ مَكّةَ ، وَإِنّمَا لَفْظُ الْحَدِيثِ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إلَى كَذَا ، كَانَ الْمُحَدّثُ قَدْ نَسِيَ اسْمَ الْمَكَانِ فَكَنّى عَنْهُ بِكَذَا . وَذَكَرَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ فِيمَا شَرَحَ مِنْ الْحَدِيثِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَمّا دَخَلَهُ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ أَنْبَتَ اللّهُ عَلَى بَابِهِ الرّاءَةَ قَالَ قَاسِمٌ وَهِيَ شَجَرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فَحَجَبَتْ عَنْ الْغَارِ أَعْيُنَ الْكُفّارِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الرّاءَةُ مِنْ أَغْلَاثِ الشّجَرِ وَتَكُونُ مِثْلَ قَامَةِ الْإِنْسَانِ وَلَهَا خِيطَانٌ وَزَهْرٌ أَبْيَضُ تُحْشَى بِهِ الْمَخَادّ ، فَيَكُونُ كَالرّيشِ لِخِفّتِهِ وَلِينِهِ لِأَنّهُ كَالْقُطْنِ أَنْشَدَ
تَرَى وَدَكَ الشّرِيفِ عَلَى لِحَاهُمْ ... كَمِثْلِ الرّاءِ لَبّدَهُ الصّقِيعُ
وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ : أَنّ اللّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ عَلَى وَجْهِ الْغَارِ وَأَرْسَلَ حَمَامَتَيْنِ وَخْشِيّتَيْنِ فَوَقَعَتَا عَلَى وَجْهِ الْغَارِ وَأَنّ ذَلِكَ مِمّا صَدّ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ وَأَنّ حَمَامَ الْحَرَمِ مِنْ نَسْلِ تَيْنِك الْحَمَامَتَيْنِ وَرُوِيَ أَنّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حِينَ دَخَلَهُ وَتَقَدّمَ إلَى دُخُولِهِ - قَبْلَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِيَقِيَهُ بِنَفْسِهِ رَأَى فِيهِ جُحْرًا فَأَلْقَمَهُ عَقِبَهُ لِئَلّا يَخْرُجَ مِنْهُ مَا يُؤْذِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفِي الصّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُمَا فِي الْغَارِ لَوْ أَنّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إلَى قَدَمِهِ لَرَآنَا ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مَا ظَنّك بِاثْنَيْنِ اللّهُ ثَالِثُهُما [ ص 317 ] عَمِيَ عَلَيْهِمْ الْأَثَرُ جَاءُوا بِالْقَافَةِ فَجَعَلُوا يَقْفُونَ الْأَثَرَ حَتّى انْتَهَوْا إلَى بَابِ الْغَارِ وَقَدْ أَنْبَتَ اللّهُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ قَبْلَ هَذَا ، فَعِنْدَمَا رَأَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ الْقَافَةَ اشْتَدّ حُزْنُهُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقَالَ إنْ قُتِلْت فَإِنّمَا ، أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَإِنْ قُتِلْت أَنْت هَلَكَتْ الْأُمّةُ فَعِنْدَهَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَا تَحْزَنْ إنّ اللّهَ مَعَنَا " ، أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ لَا تَحْزَنْ وَلَمْ يَقُلْ لَا تَخَفْ ؟ لِأَنّ حُزْنَهُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَغَلَهُ عَنْ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلِأَنّهُ أَيْضًا رَأَى مَا نَزَلَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ النّصَبِ وَكَوْنَهُ فِي ضِيقَةِ الْغَارِ مَعَ فُرْقَةِ الْأَهْلِ وَوَحْشَةِ الْغُرْبَةِ وَكَانَ أَرَقّ النّاسِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَشْفَقَهُمْ عَلَيْهِ فَحَزِنَ لِذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ قَالَ نَظَرْت إلَى قَدَمَيْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْغَارِ وَقَدْ تَفَطّرَتَا دَمًا ، فَاسْتَبْكَيْت ، وَعَلِمْت أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَمْ يَكُنْ تَعَوّدَ الْحِفَاءَ وَالْجَفْوَةَ وَأَمّا الْخَوْفُ فَقَدْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْيَقِينِ بِوَعْدِ اللّهِ بِالنّصْرِ لِنَبِيّهِ . مَا يُسَكّنُ خَوْفَهُ وَقَوْلُ اللّهِ تَعَالَى : فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التّفْسِيرِ يُرِيدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَأَمّا الرّسُولُ فَقَدْ كَانَتْ السّكِينَةُ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ { وَأَيّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } الْهَاءُ فِي أَيّدَهُ رَاجِعَةٌ عَلَى النّبِيّ وَالْجُنُودُ الْمَلَائِكَةُ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ فِي الْغَارِ فَبَشّرُوهُ بِالنّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِ فَأَيّدَهُ ذَلِكَ وَقَوّاهُ عَلَى الصّبْرِ [ و ] قِيلَ أَيّدَهُ بِجُنُودِ لَمْ تَرَوْهَا ، يَعْنِي : يَوْمَ بَدْرٍ وَحُنَيْنٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ مَشَاهِدِهِ وَقَدْ قِيلَ الْهَاءُ رَاجِعَةٌ عَلَى النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا وَأَبُو بَكْرٍ تَبَعٌ [ ص 318 ] فَدَخَلَ فِي حُكْمِ السّكِينَةِ بِالْمَعْنَى ، وَكَانَ فِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِمَا ، وَقِيلَ إنّ حُزْنَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ عِنْدَمَا رَأَى بَعْضَ الْكُفّارِ يَبُولُ عِنْدَ الْغَارِ فَأَشْفَقَ أَنْ يَكُونُوا قَدْ رَأَوْهُمَا ، فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَا تَحْزَنْ فَإِنّهُمْ لَوْ رَأَوْنَا لَمْ يَسْتَقْبِلُونَا بِفُرُوجِهِمْ عِنْدَ الْبَوْلِ وَلَا تَشَاغَلُوا بِشَيْءِ عَنْ أَخْذِنَا " ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
الرّدّ عَلَى الرّافِضَةِ فِيمَا بَهَتُوا بِهِ أَبَا بَكْرٍ
فَصْلٌ وَزَعَمَتْ الرّافِضَةُ أَنّ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأَبِي بَكْرٍ لَا تَحْزَنْ غَضّا مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَذَمّا لَهُ فَإِنّ حُزْنَهُ ذَلِكَ إنْ كَانَ طَاعَةً فَالرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا يَنْهَى عَنْ الطّاعَةِ فَلَمْ يَبْقَ إلّا أَنّهُ مَعْصِيَةٌ فَيُقَالُ لَهُمْ عَلَى جِهَةِ الْجَدَلِ قَدْ قَالَ اللّهُ لِمُحَمّدِ عَلَيْهِ السّلَامُ فَلَا يَحْزُنْك قَوْلُهُمْ [ يس : 76 ] وَقَالَ { وَلَا يَحْزُنْكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } [ آلُ عِمْرَانَ : 176 ] وَقَالَ لِمُوسَى : { خُذْهَا وَلَا تَخَفْ } [ طَه : 21 ] وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ لِلُوطِ لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنّ الْأَنْبِيَاءَ حِينَ قِيلَ لَهُمْ هَذَا كَانُوا فِي حَالِ مَعْصِيَةٍ فَقَدْ كَفَرْتُمْ وَنَقَضْتُمْ أَصْلَكُمْ فِي وُجُوبِ الْعِصْمَةِ لِلْإِمَامِ الْمَعْصُومِ فِي زَعْمِكُمْ فَإِنّ الْأَنْبِيَاءَ هُمْ الْأَئِمّةُ الْمَعْصُومُونَ بِإِجْمَاعِ وَإِنّمَا قَوْلُهُ لَا تَحْزَنْ وَقَوْلُ اللّهِ لِمُحَمّدِ لَا يَحْزُنْك ، وَقَوْلُهُ لِأَنْبِيَائِهِ مِثْلَ هَذَا تَسْكِينٌ لِجَأْشِهِمْ وَتَبْشِيرٌ لَهُمْ وَتَأْنِيسٌ عَلَى جِهَةِ النّهْيِ الّذِي زَعَمُوا ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ { تَتَنَزّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا } [ فُصّلَتْ 30ْ ] وَهَذَا الْقَوْلُ إنّمَا يُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ وَلَيْسَ إذْ ذَاكَ أَمْرٌ بِطَاعَةِ وَلَا نَهْيٌ عَنْ مَعْصِيَةٍ . [ ص 319 ] نَهَى اللّهُ نَبِيّهُ عَنْ أَشْيَاءَ وَنَهَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ أَنّهُمْ كَانُوا فَاعِلِينَ لِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي حَالِ النّهْيِ لِأَنّ فِعْلَ النّهْيِ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِأَبِي بَكْرٍ لَا تَحْزَنْ لَوْ كَانَ الْحُزْنُ كَمَا زَعَمُوا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - مَا ادّعَوْا مِنْ الْغَضّ وَأَمّا مَا ذَكَرْنَاهُ نَحْنُ مِنْ حُزْنِهِ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنْ كَانَ طَاعَةً فَلَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ الرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ إلّا رِفْقًا بِهِ وَتَبْشِيرًا لَهُ لَا كَرَاهِيَةً لِعَمَلِ وَإِذَا نَظَرْت الْمَعَانِيَ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ لَا بِعَيْنِ الشّهْوَةِ وَالتّعَصّبِ لِلْمَذَاهِبِ لَاحَتْ الْحَقَائِقُ وَاتّضَحَتْ الطّرَائِقُ وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ لِلصّوَابِ .
مَعِيّةُ اللّهِ مَعَ رَسُولِهِ وَصَاحِبِهِ
وَانْتَبِهْ أَيّهَا الْعَبْدُ الْمَأْمُورُ بِتَدَبّرِ كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ مَعَنَا } [ التّوْبَةُ 40 ] كَيْفَ كَانَ مَعَهُمَا بِالْمَعْنَى ، وَبِاللّفْظِ أَمّا الْمَعْنَى فَكَانَ مَعَهُمَا بِالنّصْرِ وَالْإِرْفَادِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ وَأَمّا اللّفْظُ فَإِنّ اسْمَ اللّهِ تَعَالَى كَانَ يُذْكَرُ إذَا ذُكِرَ رَسُولُهُ وَإِذَا [ ص 320 ] فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَوْ فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ثُمّ كَانَ لِصَاحِبِهِ كَذَلِكَ يُقَالُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللّهِ وَفَعَلَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللّهِ فَكَانَ يَذْكُرُ مَعَهُمَا ، بِالرّسَالَةِ وَبِالْخِلَافَةِ ثُمّ ارْتَفَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَلَا يَكُونُ .
أَبُو جَهْلٍ يَضْرِبُ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ
[ ص 320 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحُدّثْت عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنّهَا قَالَتْ لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ فَخَرَجْت إلَيْهِمْ فَقَالُوا : أَيْنَ أَبُوك يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ ؟ قَالَتْ قُلْت : لَا أَدْرِي وَاَللّهِ أَيْنَ أَبِي . قَالَتْ فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يَدَهُ وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا ، فَلَطَمَ خَدّي لَطْمَةً طُرِحَ مِنْهَا قُرْطِي .
خَبَرُ الْجِنّيّ الّذِي تَغَنّى بِمَقْدَمِ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَتْ ثُمّ انْصَرَفُوا . فَمَكَثْنَا ثَلَاثَ لَيَالٍ وَمَا نَدْرِي أَيْ وَجْهُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْجِنّ مِنْ أَسْفَلِ مَكّةَ ، يَتَغَنّى بِأَبْيَاتِ مِنْ شِعْرٍ غِنَاءَ الْعَرَبِ ، وَإِنّ النّاسَ لَيَتّبِعُونَهُ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَمَا يَرَوْنَهُ حَتّى خَرَجَ مِنْ أَعْلَى مَكّةَ وَهُوَ يَقُولُ
جَزَى اللّهُ رَبّ النّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ حَلّا خَيْمَتَيْ أُمّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلَا بِالْبِرّ ثُمّ تَرَوّحَا ... فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمّدِ
لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانَ فَتَاتِهِمْ ... وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ
نَسَبُ أُمّ مَعْبَدٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أُمّ مَعْبَدٍ بِنْتُ كَعْبٍ ، امْرَأَةُ مِنْ بَنِي كَعْبٍ ، مِنْ خُزَاعَةَ . وَقَوْلُهُ " حَلّا خَيْمَتَيْ " وَ " هُمَا نَزَلَا بِالْبِرّ ثُمّ تَرَوّحَا " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : فَلَمّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرَفْنَا حَيْثُ وَجّهَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنّ وَجْهَهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَكَانُوا أَرْبَعَةً رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَرْقَطَ دَلِيلُهُمَا . [ ص 321 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُرَيْقِط ٍ .
آلُ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ هِجْرَتِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ أَنّ أَبَاهُ عَبّادًا حَدّثَهُ عَنْ جَدّتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَتْ لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَهُ احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلّهُ وَمَعَهُ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتّةُ آلَافٍ فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ . قَالَتْ فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدّي أَبُو قُحَافَةَ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ فَقَالَ وَاَللّهِ إنّي لَأَرَاهُ قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ . قَالَتْ قُلْت : كَلّا يَا أَبَتِ إنّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا . قَالَتْ فَأَخَذْت أَحْجَارًا فَوَضَعْتهَا فِي كُوّةٍ فِي الْبَيْتِ الّذِي كَانَ أَبِي يَضَعُ مَالَهُ فِيهَا ، ثُمّ وَضَعْت عَلَيْهَا ثَوْبًا ، ثُمّ أَخَذْت بِيَدِهِ فَقُلْت : يَا أَبَتِ ضَعْ يَدَك عَلَى هَذَا الْمَالِ . قَالَتْ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَا بَأْسَ إذَا كَانَ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا فَقَدْ أَحْسَنَ وَفِي هَذَا بَلَاغٌ لَكُمْ . وَلَا وَاَللّهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا وَلَكِنّي أَرَدْت أَنْ أُسْكِنَ الشّيْخَ بِذَلِكَ .
خَبَرُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ أَنّ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ حَدّثَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمّهِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ ، قَالَ لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مَكّةَ مُهَاجِرًا إلَى الْمَدِينَةِ ، جَعَلَتْ قُرَيْشٌ فِيهِ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ رَدّهُ عَلَيْهِمْ . قَالَ فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِي نَادِي قَوْمِي إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنّا ، حَتّى وَقَفَ عَلَيْنَا ، فَقَالَ وَاَللّهِ لَقَدْ رَأَيْت رَكَبَةً ثَلَاثَةً مَرّوا عَلَيّ آنِفًا ، إنّي لَأَرَاهُمْ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ قَالَ فَأَوْمَأْت إلَيْهِ بِعَيْنِي : أَنْ اُسْكُتْ ثُمّ قُلْت : قَلِيلًا ، إنّمَا هُمْ بَنُو فُلَانٍ يَبْتَغُونَ ضَالّةً لَهُمْ قَالَ لَعَلّهُ ثُمّ سَكَتَ . قَالَ ثُمّ مَكَثْت ثُمّ قُمْت فَدَخَلْت بَيْتِي ، ثُمّ أَمَرْت بِفَرَسِي ، فَقِيدَ لِي إلَى بَطْنِ الْوَادِي ، وَأَمَرْت بِسِلَاحِي ، فَأُخْرِجَ لِي مِنْ دُبُرِ حُجْرَتِي ، ثُمّ أَخَذْت قِدَاحِي الّتِي أَسْتَقْسِمُ بِهَا ، ثُمّ انْطَلَقْت ، فَلَبِسْت لَامَتِي ثُمّ [ ص 322 ] فَخَرَجَ السّهْمُ الّذِي أَكْرَهُ " لَا يَضُرّهُ " قَالَ وَكُنْت أَرْجُو أَنْ أَرُدّهُ عَلَى قُرَيْشٍ ، فَآخُذَ الْمِائَةَ النّاقَةَ . قَالَ فَرَكِبْت عَلَى أَثَرِهِ فَبَيْنَمَا فَرَسِي يَشْتَدّ بِي عَثَرَ بِي ، فَسَقَطْت عَنْهُ . قَالَ فَقُلْت : مَا هَذَا ؟ قَالَ ثُمّ أَخْرَجْت قِدَاحِي فَاسْتَقْسَمْت بِهَا فَخَرَجَ السّهْمُ الّذِي أَكْرَهُ " لَا يَضُرّهُ " . قَالَ فَأَبَيْت إلّا أَنْ أَتّبِعَهُ . قَالَ فَرَكِبْت فِي أَثَرِهِ فَبَيْنَا فَرَسِي يَشْتَدّ بِي ، عَثَرَ بِي ، فَسَقَطْت عَنْهُ . قَالَ فَقُلْت : مَا هَذَا ؟ ، قَالَ ثُمّ أَخْرَجْت قِدَاحِي فَاسْتَقْسَمْت بِهَا فَخَرَجَ السّهْمُ الّذِي أَكْرَهُ " لَا يَضُرّهُ " قَالَ فَأَبَيْت إلّا أَنْ أَتّبِعَهُ فَرَكِبْت فِي أَثَرِهِ . فَلَمّا بَدَا لِي الْقَوْمُ وَرَأَيْتهمْ عَثَرَ بِي فَرَسِي ، فَذَهَبَتْ يَدَاهُ فِي الْأَرْضِ وَسَقَطْت عَنْهُ ثُمّ انْتَزَعَ يَدَيْهِ مِنْ الْأَرْضِ وَتَبِعَهُمَا دُخَانٌ كَالْإِعْصَارِ . قَالَ فَعَرَفْت حِينَ رَأَيْت ذَلِكَ أَنّهُ قَدْ مُنِعَ مِنّي ، وَأَنّهُ ظَاهِرٌ . قَالَ فَنَادَيْت الْقَوْمَ فَقُلْت : أَنَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ : أَنْظِرُونِي أُكَلّمْكُمْ فَوَاَللّهِ لَا أُرِيبُكُمْ وَلَا يَأْتِيكُمْ مَعِي شَيْءٌ تَكْرَهُونَهُ . قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَبِي بَكْرٍ : قُلْ لَهُ وَمَا تَبْتَغِي مِنّا ؟ قَالَ فَقَالَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ ، قَالَ قُلْت : تَكْتُبُ لِي كِتَابًا يَكُونُ آيَةً بَيْنِي وَبَيْنَك . قَالَ اُكْتُبْ لَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ فَكَتَبَ لِي كِتَابًا فِي عَظْمٍ أَوْ فِي رُقْعَةٍ أَوْ فِي خَزَفَةٍ ثُمّ أَلْقَاهُ إلَيّ فَأَخَذْته ، فَجَعَلْته فِي كِنَانَتِي ، ثُمّ رَجَعْت ، فَسَكَتّ فَلَمْ أَذْكُرْ شَيْئًا مِمّا كَانَ حَتّى إذَا فُتِحَتْ مَكّةُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفَرَغَ مِنْ حُنَيْنٍ وَالطّائِفِ ، خَرَجْت وَمَعِي الْكِتَابُ لِأَلْقَاهُ فَلَقِيته بِالْجِعْرَانَةِ . قَالَ فَدَخَلْت فِي كَتِيبَةٍ مِنْ خَيْلِ الْأَنْصَارِ . قَالَ فَجَعَلُوا يَقْرَعُونَنِي بِالرّمَاحِ وَيَقُولُونَ إلَيْك إلَيْك ، مَاذَا تُرِيدُ ؟ قَالَ فَدَنَوْت مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ وَاَللّهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى سَاقِهِ فِي غَرْزِهِ كَأَنّهَا جُمّارَةٌ . قَالَ فَرَفَعْت يَدِي بِالْكِتَابِ ثُمّ قُلْت [ ص 323 ] قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرّ اُدْنُهُ قَالَ فَدَنَوْت مِنْهُ فَأَسْلَمَ . ثُمّ تَذَكّرْت شَيْئًا أَسْأَلُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَمَا أَذْكُرُهُ إلّا أَنّي قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ الضّالّةُ مِنْ الْإِبِلِ تَغْشَى حِيَاضِي ، وَقَدْ مَلَأْتهَا لِإِبِلِي ، هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ فِي أَنْ أُسْقِيَهَا ؟ قَالَ نَعَمْ فِي كُلّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ . قَالَ ثُمّ رَجَعْت إلَى قَوْمِي ، فَسُقْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَدَقَتِي . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ . [ ص 324 ]Sحَدِيثُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْكِنَانِي ّ
[ ص 321 ] أَحَدِ بَنِي مُدْلِجِ بْنِ مُرّةَ بْنِ تَمِيمِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَهُ حِينَ بَذَلَتْ قُرَيْشٌ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ رَدّ عَلَيْهِمْ مُحَمّدًا عَلَيْهِ السّلَامُ وَأَنّ سُرَاقَةَ اسْتَقْسَمَ بِالْأَزْلَامِ فَخَرَجَ السّهْمُ الّذِي يَكْرَهُ وَهُوَ الّذِي كَانَ فِيهِ مَكْتُوبًا لَا تَضُرّهُ إلَى آخِرِ [ ص 322 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَاخَتْ فِي الْأَرْضِ وَتَبِعَهَا عُثَانٌ وَهُوَ الدّخَانُ وَجَمْعُهُ عَوَاثِنُ . وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ أَبَا جَهْلٍ لَامَهُ حِينَ رَجَعَ بِلَا شَيْءٍ فَقَالَ وَكَانَ شَاعِرًا [ ص 323 ]
أَبَا حَكَمٍ وَاَللّهِ لَوْ كُنْت شَاهِدًا ... لِأَمْرِ جَوَادِي إذْ تَسُوخُ قَوَائِمُهْ
عَلِمْت وَلَمْ تَشْكُكْ بِأَنّ مُحَمّدًا ... رَسُولٌ بِبُرْهَانِ فَمَنْ ذَا يُقَاوِمُهْ ؟
عَلَيْك بِكَفّ الْقَوْمِ عَنْهُ فَإِنّنِي ... أَرَى أَمْرَهُ يَوْمًا سَتَبْدُو مَعَالِمُهْ
بِأَمْرِ يَوَدّ النّاسُ فِيهِ بِأَسْرِهِمْ
بِأَنّ جَمِيعَ النّاسِ طَرّا يُسَالِمُهْ
وَقَدْ قَدّمْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ كِسْرَى مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ حِينَ أُتِيَ بِتَاجِ كِسْرَى ، وَسِوَارَيْهِ وَمِنْطَقَتِهِ وَأَنّهُ دَعَا بِسُرَاقَةَ ، وَكَانَ أَزَبّ الذّرَاعَيْنِ فَحَلّاهُ حِلْيَةَ كِسْرَى ، وَقَالَ لَهُ ارْفَعْ يَدَيْك ، وَقُلْ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي سَلَبَ هَذَا كِسْرَى الْمَلِكَ الّذِي كَانَ يَزْعُمُ أَنّهُ رَبّ النّاسِ وَكَسَاهَا أَعْرَابِيّا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ . فَقَالَ ذَلِكَ سُرَاقَةُ وَإِنّمَا فَعَلَهَا عُمَرُ لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ قَدْ بَشّرَ بِهَا سُرَاقَةَ حِينَ أَسْلَمَ ، وَأَخْبَرَهُ أَنّ اللّهَ سَيَفْتَحُ عَلَيْهِ بِلَادَ فَارِسٍ ، وَيُغَنّمُهُ مُلْكَ كِسْرَى ، فَاسْتَبْعَدَ ذَلِكَ سُرَاقَةُ فِي نَفْسِهِ وَقَالَ أَكِسْرَى مَلِكُ الْمُلُوكِ ؟ فَأَخْبَرَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّ حِلْيَتَهُ سَتُجْعَلُ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِلْوَعْدِ وَإِنْ كَانَ أَعْرَابِيّا بَوّالًا عَلَى عَقِبَيْهِ وَلَكِنّ اللّهَ يُعِزّ بِالْإِسْلَامِ أَهْلَهُ وَيُسْبِغُ عَلَى مُحَمّدٍ وَأُمّتِهِ نِعْمَتَهُ وَفَضْلَهُ .
وَفِي السّيَرِ مِنْ رِوَايَةُ يُونُسَ شِعْرٌ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي قِصّةِ الْغَارِ [ ص 324 ] [ ص 324 ]
قَالَ النّبِيّ وَلَمْ يَزَلْ يُوَقّرُنِي ... وَنَحْنُ فِي سَدَفٍ مِنْ ظُلْمَةِ الْغَارِ
لَا تَخْشَ شَيْئًا ؛ فَإِنّ اللّهَ ثَالِثُنَا ... وَقَدْ تَوَكّلَ لِي مِنْهُ بِإِظْهَارِ
وَإِنّمَا كَيْدُ مَنْ تَخْشَى بَوَادِرَهُ ... كَيْدُ الشّيَاطِينَ كَادَتْهُ لِكُفّارِ
وَاَللّهُ مُهْلِكُهُمْ طَرّا بِمَا كَسَبُوا ... وَجَاعِلُ الْمُنْتَهَى مِنْهُمْ إلَى النّارِ
وَأَنْتَ مُرْتَحِلٌ عَنْهُمْ وَتَارِكُهُمْ ... إمّا عَدُوّا وَإِمّا مُدْلِجٌ سَارِي
وَهَاجِرٌ أَرْضَهُمْ حَتّى يَكُونَ لَنَا ... قَوْمٌ عَلَيْهِمْ ذَوُو عِزّ وَأَنْصَارِ
حَتّى إذَا اللّيْلُ وَارَتْنَا جَوَانِبُهُ ... وَسَدّ مِنْ دُونِ مَنْ تَخْشَى بِأَسْتَارِ
سَارَ الْأُرَيْقِطُ يَهْدِينَا وَأَيْنُقُهُ ... يَنْعَبْنَ بِالْقَرْمِ نَعْبًا تَحْتَ أَكْوَارِ
يَعْسِفْنَ عَرْضَ الثّنَايَا بَعْدَ أَطْوُلِهَا ... وَكُلّ سَهْبٍ رِقَاقٍ التّرْبِ مَوّارِ
حَتّى إذَا قُلْت : قَدْ أَنْجَدْنَ عَارِضَهَا ... مِنْ مُدْلِجٍ فَارِسٍ فِي مَنْصِبٍ وَارِ
يُرْدِي بِهِ مُشْرِفَ الْأَقْطَارِ مُعْتَزَمٌ ... كَالسّيدِ ذِي اللّبْدَةِ الْمُسْتَأْسِدِ الضّارِي
فَقَالَ كُرّوا فَقُلْت : إنّ كَرّتَنَا ... مِنْ دُونِهَا لَك نَصْرُ الْخَالِقِ الْبَارِي
أَنْ يَخْسِفَ الْأَرْضَ بِالْأَحْوَى وَفَارِسِهِ ... فَانْظُرْ إلَى أَرْبُعٍ فِي الْأَرْضِ غُوّارِ
فَهِيلَ لَمّا رَأَى أَرْسَاغَ مَقْرَبِهِ ... قَدْ سُخْنَ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَحْفِرْ بِمِحْفَارِ
فَقَالَ هَلْ لَكُمْ أَنْ تُطْلِقُوا فَرَسِي ... وَتَأْخُذُوا مَوْثِقِي فِي نُصْحِ أَسْرَارِ
وَأَصْرِفُ الْحَيّ عَنْكُمْ إنْ لَقِيتُهُمْ ... وَأَنْ أُعَوّرَ مِنْهُمْ عَيْنَ عُوّارِ
فَادْعُوَا الّذِي هُوَ عَنْكُمْ كَفّ عَوْرَتَنَا ... يُطْلِقْ جَوَادِي وَأَنْتُمْ خَيْرُ أَبْرَارِ
فَقَالَ قَوْلًا رَسُولُ اللّهِ مُبْتَهِلًا ... يَا رَبّ إنْ كَانَ مِنْهُ غَيْرُ إخْفَارِ
فَنَجّهِ سَالِمًا مِنْ شَرّ دَعْوَتِنَا ... وَمُهْرَهُ مُطْلَقًا مِنْ كَلْمِ آثَارِ
فَأَظْهَرَ اللّهُ إذْ يَدْعُو حَوَافِرَهُ ... وَفَازَ فَارِسُهُ مِنْ هَوْلِ أَخْطَارِ
حَدِيثُ أُمّ مَعْبَدٍ
وَذَكَرَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ [ ص 325 ] [ ص 326 ] خَفِيَ عَلَيْهَا ، وَعَلَى مَنْ مَعَهَا أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يَدْرُوا أَيْنَ تَوَجّهَ حَتّى أَتَى رَجُلٌ مِنْ الْجِنّ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنَهُ فَمَرّ عَلَى مَكّةَ وَالنّاسُ يَتّبِعُونَهُ وَهُوَ يُنْشِدُ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ
جَزَى اللّهُ رَبّ النّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ حَلّا خَيْمَتَيْ أُمّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلَا بِالْبِرّ ثُمّ تَرَحّلَا ... فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمّدِ
لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَقَامَ فَتَاتِهِمْ ... وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ
فَيَالَقُصِيّ مَا زَوَى اللّهُ عَنْكُمْ ... بِهِ مِنْ فِعَالٍ لَا يُجَازِي وَسُوْدُدِ
سَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا ... فَإِنّكُمْ إنْ تَسْأَلُوا الشّاةَ تَشْهَدْ
دَعَاهَا بِشَاةِ حَائِلٍ فَتَحَلّبَتْ ... لَهُ بِصَرِيحِ ضَرّةُ الشّاةِ مُزْبِدِ
فَغَادَرَهَا رَهْنًا لَدَيْهَا بِحَالِبِ ... يُرَدّدُهَا فِي مَصْدَرٍ ثُمّ مَوْرِدِ
[ ص 325 ] حَسّانَ بْنَ ثَابِتٍ لَمّا بَلَغَهُ شِعْرُ الْجِنّيّ وَمَا هَتَفَ بِهِ فِي مَكّةَ قَالَ يُجِيبُهُ
لَقَدْ خَابَ قَوْمٌ عَنّهُمْ نَبِيّهُمْ ... وَقَدْ سُرّ مَنْ يَسْرِي إلَيْهِمْ وَيَغْتَدِي
تَرَحّلَ عَنْ قَوْمٍ فَضَلّتْ عُقُولُهُمْ ... وَحَلّ عَلَى قَوْمٍ بِنُورِ مُجَدّدِ
هَدَاهُمْ بِهِ بَعْدَ الضّلَالَةِ رَبّهُمْ ... وَأَرْشَدَهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الْحَقّ يَرْشُدْ
وَهَلْ يَسْتَوِي ضُلّالُ قَوْمٍ تَسَفّهُوا ... عِمَايَتَهُمْ هَادٍ بِهَا كُلّ مُهْتَدِ
لَقَدْ نَزَلَتْ مِنْهُ إلَى أَهْلِ يَثْرِبِ ... رِكَابُ هُدًى حَلّتْ عَلَيْهِمْ بِأَسْعَدِ
نَبِيّ يَرَى مَا لَا يَرَى النّاسُ حَوْلَهُ ... وَيَتْلُو كِتَابَ اللّهِ فِي كُلّ مَشْهَدِ
وَإِنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مَقَالَةَ غَائِبٍ ... فَتَصْدِيقُهُ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ
لِيَهْنِ أَبَا بَكْرٍ سَعَادَةَ جَدّهِ ... بِصُحْبَتِهِ مَنْ يُسْعِدُ اللّهَ يَسْعَدْ
وَزَادَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ أَنّ قُرَيْشًا لَمّا سَمِعَتْ الْهَاتِفَ مِنْ الْجِنّ أَرْسَلُوا إلَى أُمّ مَعْبَدٍ وَهِيَ بِخَيْمَتِهَا ، فَقَالُوا : هَلْ مَرّ بِك مُحَمّدٌ الّذِي مِنْ حِلْيَتِهِ كَذَا ، فَقَالَتْ لَا أَدْرِي مَا تَقُولُونَ وَإِنّمَا ضَافَنِي حَالِبُ الشّاةِ الْحَائِلِ وَكَانُوا أَرْبَعَةً رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَقَدْ تَقَدّمَ التّعْرِيفُ بِهِ وَطَرَفٌ مِنْ ذِكْرِ فَضَائِلِهِ فِي هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ ، وَالرّابِعُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ اللّيْثِيّ وَلَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ مُسْلِمًا ، وَلَا وَجَدْنَا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ أَنّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنّهُمْ اسْتَأْجَرُوهُ وَكَانَ هَادِيًا خِرّيتًا ، وَالْخِرّيتُ الْمَاهِرُ بِالطّرِيقِ الّذِي يَهْتَدِي بِمِثْلِ خَرْتِ الْإِبْرَةِ وَيُقَالُ لَهُ الْخَوْتَعُ أَيْضًا قَالَ الرّاجِزُ يَضِلّ فِيهَا الْخَوْتَعُ الْمُشَهّرُ
نَسَبُ أُمّ مَعْبَدٍ وَزَوْجِهَا
وَأَمّا أُمّ مَعْبَدٍ الّتِي مَرّ بِخَيْمَتِهَا ، فَاسْمُهَا : عَاتِكَةُ بِنْتُ خَالِدٍ إحْدَى بَنِي كَعْبٍ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَهِيَ أُخْتُ حُبَيْشِ بْنِ خَالِدٍ وَلَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ وَيُقَالُ لَهُ الْأَشْعَرُ وَأَخُوهَا : حُبَيْشُ بْنُ خَالِدٍ سَيَأْتِي ذِكْرُهُ وَالْخِلَافُ فِي اسْمِهِ وَخَالِدٌ الْأَشْعَرُ أَبُوهُمَا ، هُوَ ابْنُ حُنَيْفِ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَم بْنِ ضُبَيْسِ بْنِ حَرَامِ بْنِ حُبْشِيّةِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ أَبُو خُزَاعَةَ . وَزَوْجُهَا أَبُو مَعْبَدٍ يُقَالُ إنّ لَهُ رِوَايَةً أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - تُوُفّيَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يُعْرَفُ اسْمُهُ وَكَانَ مَنْزِلُ أُمّ مَعْبَدٍ بِقُدَيْدٍ ، وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُهَا بِأَلْفَاظِ مُخْتَلِفَةٍ مُتَقَارِبَةِ الْمَعَانِي ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَتَقَصّى شَرْحَ أَلْفَاظِهِ وَفِيهِ أَنّ [ ص 326 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِأُمّ مَعْبَدٍ وَكَانَ الْقَوْمُ مُرْمِلِينَ مُسْنِتِينَ فَطَلَبُوا لَبَنًا أَوْ لَحْمًا يَشْتَرُونَهُ فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهَا شَيْئًا ، فَنَظَرَ إلَى شَاةٍ فِي كِسْرِ الْخَيْمَةِ خَلّفَهَا الْجَهْدُ عَنْ الْغَنَمِ فَسَأَلَهَا : هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ ؟ فَقَالَتْ هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا ، فَقَالَتْ بِأَبِي أَنْت وَأُمّي ، إنْ رَأَيْت بِهَا حَلْبًا فَاحْلِبْهَا ، فَدَعَا بِالشّاةِ فَاعْتَقَلَهَا ، وَمَسَحَ ضَرْعَهَا ، فَتَفَاجّتْ وَدَرّتْ وَاجْتَرّتْ وَدَعَا بِإِنَاءِ يُرْبِضُ الرّهْطَ أَيْ يُشْبِعُ الْجَمَاعَةَ حَتّى يُرْبَضُوا فَحَلَبَ فِيهِ حَتّى مَلَأَهُ وَسَقَى الْقَوْمَ حَتّى رُوُوا ثُمّ شَرِبَ آخِرُهُمْ ثُمّ حَلَبَ فِيهِ مَرّةً أُخْرَى عَلَلًا بَعْدَ نَهْلٍ ثُمّ غَادَرَهُ عِنْدَهَا ، وَذَهَبُوا فَجَاءَ أَبُو مَعْبَدٍ وَكَانَ غَائِبًا فَلَمّا رَأَى اللّبَنَ قَالَ مَا هَذَا يَا أُمّ مَعْبَدٍ أَنّى لَك هَذَا وَالشّاءُ عَازِبٌ حِيَالٌ وَلَا حَلُوبَةَ بِالْبَيْتِ فَقَالَتْ لَا وَاَللّهِ إلّا أَنّهُ مَرّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ فَقَالَ صِفِيهِ يَا أُمّ مَعْبَدٍ فَوَصَفَتْهُ بِمَا ذَكَرَ الْقُتَبِيّ وَغَيْرُهُ فِي الْحَدِيثِ وَمِمّا ذَكَرَهُ الْقُتَبِيّ فَشَرِبُوا حَتّى أَرَاضُوا جَعَلَهُ الْقُتَبِيّ مِنْ اسْتَرَاضَ الْوَادِي : إذَا اسْتَنْقَعَ وَمِنْ الرّوْضَةِ وَهِيَ بَقِيّةُ الْمَاءِ فِي الْحَوْضِ وَأَنْشَدَ وَرَوْضَةٍ سَقَيْت فِيهِ نِضْوِي
وَرَوَاهُ الْهَرَوِيّ حَتّى آرَضُوا عَلَى وَزْنِ آمَنُوا ، أَيْ ضَرَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ إلَى الْأَرْضِ مِنْ الرّيّ ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّ آلَ أَبِي مَعْبَدٍ كَانُوا يُؤَرّخُونَ بِذَلِكَ الْيَوْمَ وَيُسَمّونَهُ يَوْمَ الرّجُلِ الْمُبَارَكِ يَقُولُونَ فَعَلْنَا كَيْتُ وَكَيْتُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَنَا الرّجُلُ الْمُبَارَكُ أَوْ بَعْدَمَا جَاءَ الرّجُلُ الْمُبَارَكُ ثُمّ إنّهَا أَتَتْ الْمَدِينَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا شَاءَ اللّهُ وَمَعَهَا ابْنٌ صَغِيرٌ قَدْ بَلَغَ السّعْيَ فَمَرّ بِالْمَدِينَةِ عَلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ يُكَلّمُ النّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَانْطَلَقَ إلَى أُمّهِ يَشْتَدّ ، فَقَالَ لَهَا : يَا أُمّتَاهُ إنّي رَأَيْت الْيَوْمَ الرّجُلَ الْمُبَارَكَ فَقَالَتْ لَهُ يَا بُنَيّ وَيْحَك هُوَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَمِمّا يُسْأَلُ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يُقَالَ هَلْ اسْتَمَرّتْ تِلْكَ الْبَرَكَةُ فِي شَاةِ أُمّ مَعْبَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَمْ عَادَتْ إلَى حَالِهَا ؟ وَفِي الْخَبَرِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حُبَيْشٍ الْكَعْبِيّ قَالَ أَنَا رَأَيْت تِلْكَ الشّاةَ وَإِنّهَا لَتَأْدِمُ أُمّ مَعْبَدٍ وَجَمِيعَ صِرْمِهَا ، أَيْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَاءِ وَفِي الْحَدِيثِ [ ص 327 ] قَالَ مَا كَانَ فِيهَا بُصْرَةٌ وَهِيَ النّقَطُ مِنْ اللّبَنِ تُبْصَرُ بِالْعَيْنِ .
طَرِيقُ الْهِجْرَةِ
[ ص 327 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا خَرَجَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَرْقَطَ ، سَلَكَ بِهِمَا أَسْفَلَ مَكّةَ ، ثُمّ مَضَى بِهِمَا عَلَى السّاحِلِ ، حَتّى عَارَضَ الطّرِيقَ أَسْفَلَ مِنْ عُسْفَانَ ، ثُمّ سَلَكَ بِهِمَا عَلَى أَسْفَلِ أَمَجَ ، ثُمّ اسْتَجَازَ بِهِمَا ، حَتّى عَارَضَ بِهِمَا الطّرِيقَ بَعْدَ أَنْ أَجَازَ قُدَيْدًا ، ثُمّ أَجَازَ بِهِمَا مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ فَسَلَكَ بِهِمَا الْخَرّارَ ، ثُمّ سَلَكَ بِهِمَا ثَنِيّةَ الْمُرّةِ ، ثُمّ سَلَكَ بِهِمَا لِقْفًا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ لَفْتًا . قَالَ مَعْقِلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْهُذَلِيّ328 -
نَزِيعًا مُحْلِبًا مِنْ أَهْلِ لَفْتٍ ... لَحَيّ بَيْنَ أَثْلَةَ وَالنّجَامِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَجَازَ بِهِمَا مَدْلَجَةَ لَقْفٍ ثُمّ اسْتَبْطَنَ بِهِمَا مَدْلَجَةَ مَحَاجٍ - وَيُقَالُ مُجَاحٌ ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - ثُمّ سَلَكَ بِهِمَا مَرْجِحَ مُجَاحٍ ، ثُمّ تَبَطّنَ بِهِمَا مَرْجِحَ مِنْ ذِي الْغَضَوَيْن ِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ الْعَضَوَيْنِ - ثُمّ بَطْنَ ذِي كَشْرٍ ، ثُمّ أَخَذَ بِهِمَا عَلَى الْجَدَاجِدِ ، ثُمّ عَلَى الْأَجْرَدِ ، ثُمّ سَلَكَ بِهِمَا ذَا سَلَمٍ مِنْ بَطْنِ أَعْدَاءٍ [ ص 329 ] تِعْهِنَ ، ثُمّ عَلَى الْعَبَابِيدِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ الْعَبَابِيبُ وَيُقَالُ الْعِثْيَانَةُ . يُرِيدُ الْعَبَابِيبَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَجَازَ بِهِمَا الْفَاجّةَ ، وَيُقَالُ الْقَاحّةَ ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ .Sبِلَادٌ فِي طَرِيقِ الْهِجْرَةِ
وَذَكَرَ أَنّ دَلِيلَهُمَا سَلَكَ بِهِمَا عُسْفَانَ . قَالَ الْمُؤَلّفُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ أَنّهُ قَالَ سُمّيَ عُسْفَانَ لِتَعَسّفِ السّيُولِ فِيهِ وَسُئِلَ عَنْ الْأَبْوَاءِ الّذِي فِيهِ قَبْرُ آمِنَةَ أُمّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ : لِمَ سُمّيَ الْأَبْوَاءَ ؟ فَقَالَ لِأَنّ السّيُولَ تَتَبَوّأُهُ أَيْ تَحِلّ بِهِ وَبِعُسْفَانَ فِيمَا رُوِيَ كَانَ مَسْكَنُ الْجُذَمَاءِ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْمُسْنَدَاتِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّ بِعْسْفَانَ وَبِهِ الْجُذَمَاءُ فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ وَلَمْ يَنْظُرْ الْيَهَم ، وَقَالَ إنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الْعِلَلِ يُعْدِي فَهُوَ هَذَا وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ مِنْ رِوَايَتِي ، لِأَنّهُ فِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْن أَبِي أُسَامَةَ ، وَقَدْ تَقَدّمَ اتّصَالُ سَنَدِي بِهِ وَكُنْت رَأَيْته قَبْلُ فِي مُسْنَدِ وَكِيعِ بْنِ الْجَرّاحِ وَلَيْسَ فِيهِ إسْنَادٌ .
فَصْلٌ
وَذَكَرَ أَنّ دَلِيلَهُمْ سَلَكَ بِهِمْ أَمَجَ ثُمّ ثَنِيّةَ الْمُرّةِ ، كَذَا وَجَدْته مُخَفّفَ الرّاءِ مُقَيّدًا ، كَأَنّهُ مُسَهّلُ الْهَمْزَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ . وَذَكَرَ لَقْفًا بِفَتْحِ اللّامِ مُقَيّدًا فِي قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ : لَفْتًا ، وَاسْتَشْهَدَ ابْنُ هِشَامٍ بِقَوْلِ مَعْقِلِ [ بْنِ خُوَيْلِدٍ ] الْهُذَلِيّ
نَزِيعًا مُحْلَبًا مِنْ أَهْلِ لَفْتٍ ... لِحَيّ بَيْنَ أَثْلَةَ فَالنّجَامِ
وَأَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ لِفْتٌ بِكَسْرِ اللّامِ أَلْفَيْته فِي شِعْرِ مَعْقِلٍ هَذَا فِي أَشْعَارِ هُذَيْلٍ فِي نُسْخَتِي ، وَهِيَ نُسْخَةٌ صَحِيحَةٌ جِدّا ، وَكَذَلِكَ أَلْفَاهُ مَنْ وَثِقْته وَكَلّفْته [ ص 328 ] هُذَيْلٍ مَكْسُورُ اللّامِ فِي نُسْخَةِ أَبِي عَلِيّ الْقَالِيّ الْمَقْرُوءَةِ عَلَى الزّيَادِيّ ثُمّ عَلَى الْأَحْوَلِ ثُمّ قَرَأْتهَا عَلَى ابْنِ دُرَيْدٍ رَحِمَهُ اللّهُ وَفِيهَا صَرِيحًا مُحْلِبًا ، وَكَذَلِكَ كَانَ الضّبْطُ فِي هَذَا الْكِتَابِ قَدِيمًا ، حَتّى ضَبَطَهُ بِالْفَتْحِ عَنْ الْقَاضِي ، وَعَلَى مَا وَقَعَ فِي غَيْرِهَا . انْتَهَى كَلَامُ أَبِي بَحْرٍ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيّ : لَفْتًا ، فَقَيّدَهُ بِكَسْرِ اللّامِ كَمَا ذَكَرَ أَبُو بَحْرٍ وَأَنْشَدَ قَبْلَهُ
لَعَمْرُك مَا خَشِيت ، وَقَدْ بَلَغْنَا ... جِبَالَ الْجَوْزِ مِنْ بَلَدٍ تَهَامِ
صَرِيحًا مُحْلِبًا الْبَيْتُ . وَذَكَرَ الْمَوَاضِعَ الّتِي سَلَكَ عَلَيْهَا ، وَذَكَرَ فِيهَا مِجَاجًا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَجِيمَيْنِ وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ فِيهَا : مَجَاجٌ بِالْفَتْحِ وَقَدْ أَلْفَيْت شَاهِدًا لِرِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ فِي لِقْفٍ ، وَفِيهِ ذَكَرَ مِجَاحًا بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَ الْجِيمِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمّدِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ :
لَعَنَ اللّهُ بَطْنَ لِقْفٍ مَسِيلًا ... وَجَاحًا وَمَا أُحِبّ مَجَاحًا
لَقِيت نَاقَتِي بِهِ وَبِلِقْفٍ ... بَلَدًا مُجْدِبًا وَأَرْضًا شَحَاحًا
هَكَذَا ذَكَرَهُ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَلِقْفٌ آخَرُ غَيْرُ لَفْتٍ فِيمَا قَالَ الْبَكْرِيّ . وَذَكَرَ مُرَجّحَ الْجِيمِ عَلَى الْحَاءِ وَذَكَرَ مُدْلِجَةَ تِعْهِنَ بِكَسْرِ التّاءِ وَالْهَاءِ وَالتّاءُ فِيهِ أَصْلِيّةٌ عَلَى قِيَاسِ النّحْوِ فَوَزْنُهُ فِعْلِلٌ إلّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ مِنْ اشْتِقَاقٍ عَلَى زِيَادَةِ التّاءِ أَوْ تَصِحّ رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ تُعْهِنُ بِضَمّ التّاءِ فَإِنْ صَحّتْ فَالتّاءُ زَائِدَةٌ كُسِرَتْ أَوْ ضُمّتْ وَبِتِعْهِنَ صَخْرَةٌ يُقَالُ لَهَا : أُمّ عِقْيٍ عُرِفَتْ بِامْرَأَةِ كَانَتْ تَسْكُنُ هُنَاكَ فَمَرّ بِهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاسْتَسْقَاهَا فَلَمْ تَسْقِهِ فَدَعَا عَلَيْهَا فَمُسِخَتْ صَخْرَةً فَهِيَ تِلْكَ الصّخْرَةُ فِيمَا يَذْكُرُونَ . وَذَكَرَ الْجَدَاجِدَ بِجِيمَيْنِ وَدَالَيْنِ كَأَنّهَا جَمْعُ جُدْجُدٍ وَأَحْسَبُهَا آبَارًا فَفِي الْحَدِيثِ أَتَيْنَا عَلَى بِئْرِ جُدْجُدٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الصّوَابُ بِئْرٌ جُدّ أَيْ قَدِيمَةٌ وَقَالَ الْهَرَوِيّ عَنْ الْيَزِيدِيّ وَقَدْ يُقَالُ بِئْرٌ جُدْجُدٍ قَالَ وَهُوَ كَمَا يُقَالُ فِي الْكُمّ كُمْكُمٌ وَفِي الرّفّ رَفْرَفٌ . [ ص 329 ] وَذَكَرَ الْعَبَابِيدَ كَأَنّهُ جَمْعُ عَبّادٍ وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هِيَ الْعَبَابِيبُ كَأَنّهَا جَمْعُ : عُبَابٍ مِنْ عَبَبْت الْمَاءَ عَبّا ، فَكَأَنّهَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - مِيَاهٌ تُعَبّ عُبَابًا أَوْ تُعَبّ عَبّا . وَذَكَرَ الْفَاجّةَ بِفَاءِ وَجِيمٍ وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هِيَ الْقَاحّةُ بِالْقَافِ وَالِحَاءِ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : ثُمّ هَبَطَ بِهِمَا الْعَرْجَ ، وَقَدْ أَبْطَأَ عَلَيْهِمَا بَعْضُ ظُهْرِهِمْ فَحَمَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ ، يُقَالُ لَهُ أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ عَلَى جَمَلٍ لَهُ - يُقَالُ لَهُ ابْنُ الرّدَاءِ - إلَى الْمَدِينَةِ ، وَبَعَثَ مَعَهُ غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ مَسْعُودُ بْنُ هُنَيْدَةَ ثُمّ خَرَجَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا مِنْ الْعَرْجِ ، فَسَلَكَ بِهِمَا ثَنِيّةَ الْعَائِرِ ، عَنْ يَمِينِ رَكُوبَةَ - وَيُقَالُ ثَنِيّةُ الْغَائِرِ ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [ ص 330 ] رِئْمٍ ، ثُمّ قَدِمَ بِهِمَا قُبَاءً ، عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ حِينَ اشْتَدّ الضّحَاءُ وَكَادَتْ الشّمْسُ تَعْتَدِلُ .Sقِصّةُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ
وَذَكَرَ قُدُومَهُمْ عَلَى أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ وَهُوَ أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حَجَرٍ الْأَسْلَمِيّ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ وَهُوَ قَوْلُ الدّارَقُطْنِيّ ، وَالْمَعْرُوفُ ابْنُ حُجْرٍ بِضَمّ الْحَاءِ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي الْمَبْعَثِ ذِكْرُ مَنْ اسْمُهُ حُجْرٌ فِي أَنْسَابِ قُرَيْشٍ ، وَمَنْ يُسَمّى : حُجْرًا مِنْ غَيْرِهِمْ بِسُكُونِ الْجِيمِ وَمَنْ يُسَمّى الْحِجْرَ بِكَسْرِ الْحَاءِ فَانْظُرْهُ هُنَالِكَ عِنْدَ ذِكْرِ خَدِيجَةَ وَأُمّهَا ، وَلَا يُخْتَلَفُ فِي أَوْسِ بْنِ حُجْرٍ أَنّهُ بِفَتْحَتَيْنِ . وَذَكَرَ أَنّ أَوْسًا حَمَلَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى جَمَلٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الرّدّاءِ وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرِ بْنِ إسْحَاقَ يُقَالُ لَهُ الرّدّاحُ وَفِي الْخَطّابِيّ أَنّهُ قَالَ لِغُلَامِهِ مَسْعُودٍ وَهُوَ مَسْعُودُ بْنُ هُنَيْدَةَ اُسْلُكْ بِهِمْ الْمَخَارِقَ بِالْقَافِ قَالَ وَالصّحِيحُ الْمَخَارِمَ يَعْنِي : مَخَارِمَ الطّرِيقِ وَفِي النّسَوِيّ أَنّ مَسْعُودًا هَذَا قَالَ فَكُنْت آخُذُ بِهِمْ أَخْفَاءَ الطّرِيقِ . وَفِقْهُ هَذَا أَنّهُمْ كَانُوا خَائِفِينَ فَلِذَلِكَ كَانَ يَأْخُذُ بِهِمْ أَخْفَاءَ الطّرِيقِ وَمَخَارِقَهُ وَذَكَرَ النّسَوِيّ فِي حَدِيثِ مَسْعُودٍ هَذَا : أَنّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لَهُ ائْتِ أَبَا تَمِيمٍ فَقُلْ لَهُ يَحْمِلُنِي عَلَى بَعِيرٍ وَيَبْعَثُ إلَيْنَا بِزَادِ وَدَلِيلٍ يَدُلّنَا ، فَفِي هَذَا أَنّ أَوْسًا كَانَ يُكَنّى أَبَا تَمِيمٍ وَأَنّ مَسْعُودًا هَذَا قَدْ رَوَى عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَحَفِظَ عَنْهُ حَدِيثًا فِي الْخَمْسِ وَحَدِيثًا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ ذَكَرَهُ النّسَوِيّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرَ أَنّهُ قَالَ فِي مَسْعُودٍ هَذَا : غُلَامُ فَرْوَةَ الْأَسْلَمِيّ . وَقَالَ أَبُو عُمَرَ قَدْ قِيلَ فِي أَوْسٍ هَذَا إنّ اسْمَهُ تَمِيمٌ وَيُكَنّى أَبَا أَوْسٍ فَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 330 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِمَسْعُودِ حِينَ انْصَرَفَ إلَى سَيّدِهِ مُرْ سَيّدَك أَنْ يَسِمَ الْإِبِلَ فِي أَعْنَاقِهَا قَيْدَ الْفَرَسِ فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ سِمَتُهُمْ فِي إبِلِهِمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي شَرْحِ قَصِيدَةِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ قَوْلِهِ مُوَسّمَةُ الْأَعْضَادِ أَسْمَاءَ السّمَاتِ كَالْعِرَاضِ وَالْخِبَاطِ وَالْهِلَالِ وَذَكَرْنَا قَيْدَ الْفَرَسِ ، وَأَنّهُ سِمَةٌ فِي أَعْنَاقِهَا ، وَقَوْلِ الرّاجِزِ
كُومٌ عَلَى أَعْنَاقِهَا قَيْدُ الْفَرَسْ ... تَنْجُو إذَا اللّيْلُ تَدَانَى وَالْتَبَسْ
النّزُولَ بِقُبَاءٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عُوَيْمِرِ بْنِ سَاعِدَةَ قَالَ حَدّثَنِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالُوا : لَمّا سَمِعْنَا بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مَكّةَ ، وَتَوَكّفْنَا قُدُومَهُ كُنّا نَخْرُجُ إذَا صَلّيْنَا الصّبْحَ إلَى ظَاهِرِ حَرّتِنَا نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَوَاَللّهِ مَا نَبْرَحُ حَتّى تَغْلِبَنَا الشّمْسُ عَلَى الظّلَالِ فَإِذَا لَمْ نَجِدْ ظِلّا دَخَلْنَا ، وَذَلِكَ فِي أَيّامٍ حَارّةٍ . حَتّى إذَا كَانَ الْيَوْمُ الّذِي قَدِمَ فِيهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَلَسْنَا كَمَا كُنّا نَجْلِسُ حَتّى إذَا لَمْ يَبْقَ ظِلّ دَخَلْنَا بُيُوتَنَا ، وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ دَخَلْنَا الْبُيُوتَ فَكَانَ أَوّلَ مَنْ رَآهُ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ ، وَقَدْ رَأَى مَا كُنّا نَصْنَعُ وَأَنّا نَنْتَظِرُ قُدُومَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَيْنَا ، فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا بَنِي قَيْبَلَةَ هَذَا جَدّكُمْ قَدْ جَاءَ . قَالَ فَخَرَجْنَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ فِي ظِلّ نَخْلَةٍ ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي مِثْلِ سِنّهِ وَأَكْثَرُنَا لَمْ يَكُنْ رَأَى رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَبْلَ ذَلِكَ وَرَكِبَهُ النّاسُ وَمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ ، حَتّى زَالَ الظّلّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَأَظَلّهُ بِرِدَائِهِ فَعَرَفْنَاهُ عِنْدَ ذَلِكَ .Sمَتَى قَدِمَ الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ؟
كَانَ قُدُومُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ وَفِي شَهْرِ أَيْلُولَ مِنْ شُهُورِ الْعَجَمِ ، وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ قَدِمَهَا لِثَمَانِ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيّ خَرَجَ مِنْ الْغَارِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ أَوّلَ يَوْمٍ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ أَوْسَطَ أَيّامِ التّشْرِيقِ .
الْمَنَازِلُ الّتِي نُزِلَتْ بِقُبَاءٍ
[ ص 331 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا يَذْكُرُونَ - عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هِدْم ٍ أَخِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، ثُمّ أَحَدِ بَنِي عُبَيْدٍ : وَيُقَالُ بَلْ نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ . وَيَقُولُ مَنْ يَذْكُرُ أَنّهُ نَزَلَ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ : إنّمَا كَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِ كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ جَلَسَ لِلنّاسِ فِي بَيْتِ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ . وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ عَزَبًا لَا أَهْلَ لَهُ وَكَانَ مَنْزِلُ الْعُزّابِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ ، فَمِنْ هُنَالِكَ يُقَالُ نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ ، وَكَانَ يُقَالُ لِبَيْتِ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ : بَيْتُ الْعُزّابِ . فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ كُلّا قَدْ سَمِعْنَا . وَنَزَلَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إسَافٍ ، أَحَدِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بِالسّنْحِ . وَيَقُولُ قَائِلٌ كَانَ مَنْزِلُهُ عَلَى خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ أَخِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ . وَأَقَامَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ بِمَكّةَ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَأَيّامَهَا ، حَتّى أَدّى عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْوَدَائِعَ الّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنّاسِ حَتّى إذَا فَرَغَ مِنْهَا لَحِقَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَزَلَ مَعَهُ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ .
سُهَيْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَامْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ
فَكَانَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَإِنّمَا كَانَتْ إقَامَتُهُ بِقُبَاءٍ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ يَقُولُ كَانَتْ بِقُبَاءٍ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا ، مُسْلِمَةٌ . قَالَ فَرَأَيْت إنْسَانًا يَأْتِيهَا مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ فَيَضْرِبُ عَلَيْهَا [ ص 332 ] بَابَهَا ، فَتَخْرُجُ إلَيْهِ فَيُعْطِيهَا شَيْئًا مَعَهُ فَتَأْخُذُهُ . قَالَ فَاسْتَرَبْت بِشَأْنِهِ فَقُلْت لَهَا : يَا أَمَةَ اللّهِ مَنْ هَذَا الرّجُلُ الّذِي يَضْرِبُ عَلَيْك بَابَك كُلّ لَيْلَةٍ فَتَخْرُجِينَ إلَيْهِ فَيُعْطِيك شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ وَأَنْتِ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ لَا زَوْجَ لَك ؟ قَالَتْ هَذَا سَهْلُ بْنُ حُنَيْفِ بْنِ وَاهِبٍ ، قَدْ عَرَفَ أَنّي امْرَأَةٌ لَا أَحَدَ لِي ، فَإِذَا أَمْسَى عَدَا عَلَى أَوْثَانِ قَوْمِهِ فَكَسّرَهَا ، ثُمّ جَاءَنِي بِهَا ، فَقَالَ احْتَطِبِي بِهَذَا ، فَكَانَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَأْثُرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، حَتّى هَلَكَ عِنْدَهُ بِالْعِرَاقِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي هَذَا ، مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ هِنْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ .Sكُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ
فَصْلٌ
[ ص 331 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ نُزُولَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ ، وَكُلْثُومٌ هَذَا كُنْيَتُهُ أَبُو قَيْسٍ ، وَهُوَ كُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا مَاتَ بَعْدَ قُدُومِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْمَدِينَةَ بِيَسِيرِ هُوَ أَوّلُ مَنْ مَاتَ مِنْ الْأَنْصَارِ بَعْدَ قُدُومِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ مَاتَ بَعْدَهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بِأَيّامِ وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ ، وَأَنّهُ كَانَ يُقَالُ لِبَيْتِهِ بَيْتُ الْعُزّابِ هَكَذَا رُوِيَ وَصَوَابُهُ الْأَعْزَبُ لِأَنّهُ جَمْعُ عَزَبٍ يُقَالُ رَجُلٌ عَزَبٌ وَامْرَأَةٌ عَزَبّ ، وَقَدْ قِيلَ امْرَأَةٌ عَزَبَةٌ بِالتّاءِ .
بِنَاءُ مَسْجِدِ قُبَاءَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقُبَاءٍ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الثّلَاثَاءِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ وَأَسّسَ مَسْجِدَهُ . ثُمّ أَخْرَجَهُ اللّهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ . وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَزْعُمُونَ أَنّهُ مَكَثَ فِيهِمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ . فَأَدْرَكَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْجُمُعَةَ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فَصَلّاهَا فِي الْمَسْجِدِ الّذِي فِي بَطْنِ الْوَادِي ، وَادِي رَانُونَاءَ ، فَكَانَتْ أَوّلَ جُمُعَةٍ صَلّاهَا بِالْمَدِينَةِ . [ ص 333 ]Sتَأْسِيسُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ
[ ص 332 ] وَذَكَرَ تَأْسِيسَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ ، وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَسّسَهُ لِبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ثُمّ انْتَقَلَ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ أَسّسَهُ كَانَ هُوَ أَوّلَ مَنْ وَضَعَ حَجَرًا فِي قِبْلَتِهِ ثُمّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِحَجَرِ فَوَضَعَهُ ثُمّ جَاءَ عُمَرُ بِحَجَرِ فَوَضَعَهُ إلَى حَجَرِ أَبِي بَكْرٍ ثُمّ أَخَذَ النّاسُ فِي الْبُنْيَانِ . فِي الْخَطّابِيّ عَنْ الشّمُوسِ بِنْتِ النّعْمَانِ [ بْنِ عَامِرِ بْنِ مُجْمِعٍ الْأَنْصَارِيّةِ ] قَالَتْ كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ يَأْتِي بِالْحَجَرِ قَدْ صَهَرَهُ إلَى بَطْنِهِ فَيَضَعُهُ فَيَأْتِي الرّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُقِلّهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ حَتّى يَأْمُرَهُ أَنْ يَدَعَهُ وَيَأْخُذَ غَيْرَهُ يُقَالُ صَهَرَهُ وَأَصْهَرَهُ إذَا أَلْصَقَهُ بِالشّيْءِ وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ الصّهْرِ فِي الْقَرَابَةِ وَهَذَا الْمَسْجِدُ أَوّلُ مَسْجِدٍ بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ وَفِي أَهْلِهِ نَزَلَتْ { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبّونَ أَنْ يَتَطَهّرُوا } [ التّوْبَةُ 108 ] فَهُوَ عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الّذِي أُسّسَ عَلَى التّقْوَى ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُئِلَ عَنْ الْمَسْجِدِ الّذِي أُسّسَ عَلَى التّقْوَى ، فَقَالَ هُوَ مَسْجِدِي هَذَا وَفِي رِوَايَةٍ [ ص 333 ] قَالَ وَفِي الْآخَرِ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَقَدْ قَالَ لِبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ حِينَ نَزَلَتْ لَمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التّقْوَى ، مَا الطّهُورُ الّذِي أَثْنَى اللّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ ؟ فَذَكَرُوا لَهُ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ بَعْدَ الِاسْتِجْمَارِ بِالْحَجَرِ فَقَالَ هُوَ ذَاكُمْ فَعَلَيْكُمُوهُ وَلَيْسَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ تَعَارُضٌ كِلَاهُمَا أُسّسَ عَلَى التّقْوَى ، غَيْرَ أَنّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ { مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ } يَقْتَضِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ لِأَنّ تَأْسِيسَهُ كَانَ فِي أَوّلِ يَوْمٍ مِنْ حُلُولِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - دَارُ مُعْجِزَتِهِ وَالْبَلَدُ الّذِي هُوَ مُهَاجَرُهُ .
التّارِيخُ الْعَرَبِيّ
وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ } وَقَدْ عُلِمَ أَنّهُ لَيْسَ أَوّلَ الْأَيّامِ كُلّهَا ، وَلَا أَضَافَهُ إلَى شَيْءٍ فِي اللّفْظِ الظّاهِرِ [ فَتَعَيّنَ أَنّهُ أُضِيفَ إلَى شَيْءٍ مُضْمَرٍ ] فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ صِحّةُ مَا اتّفَقَ عَلَيْهِ الصّحَابَةُ مَعَ عُمَرَ حِينَ شَاوَرَهُمْ فِي التّارِيخِ فَاتّفَقَ رَأْيُهُمْ أَنْ يَكُونَ التّارِيخُ مِنْ عَامِ الْهِجْرَةِ لِأَنّهُ الْوَقْتُ الّذِي عَزّ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَاَلّذِي أُمّرَ فِيهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَسّسَ الْمَسَاجِدَ . وَعَبَدَ اللّهَ آمِنًا كَمَا يُحِبّ ، فَوَافَقَ رَأْيَهُمْ هَذَا ظَاهِرُ التّنْزِيلِ وَفَهِمْنَا الْآنَ بِفِعْلِهِمْ أَنّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ { مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ } أَنّ ذَلِكَ الْيَوْمَ هُوَ أَوّلُ أَيّامِ التّارِيخِ الّذِي يُؤَرّخُ بِهِ الْآنَ فَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذُوا هَذَا مِنْ الْآيَةِ فَهُوَ الظّنّ بِأَفْهَامِهِمْ فَهُمْ أَعْلَمُ النّاسِ بِكِتَابِ اللّهِ وَتَأْوِيلِهِ وَأَفْهَمُهُمْ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ إشَارَاتٍ وَإِفْصَاحٍ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ فَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَكُونُوا وَأَشَارَ إلَى صِحّتِهِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ إذْ لَا يُعْقَلُ قَوْلُ الْقَائِلِ فَعَلْته أَوّلَ يَوْمٍ إلّا بِإِضَافَةِ إلَى عَامٍ مَعْلُومٍ أَوْ شَهْرٍ مَعْلُومٍ أَوْ تَارِيخٍ مَعْلُومٍ وَلَيْسَ هَاهُنَا إضَافَةٌ فِي الْمَعْنَى إلّا إلَى هَذَا التّارِيخِ الْمَعْلُومِ لِعَدَمِ الْقَرَائِنِ الدّالّةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ قَرِينَةِ لَفْظٍ أَوْ قَرِينَةِ حَالٍ فَتَدَبّرْهُ فَفِيهِ مُعْتَبَرٌ لِمَنْ اذّكّرَ وَعِلْمٌ لِمَنْ رَأَى بِعَيْنِ فُؤَادِهِ وَاسْتَبْصَرَ وَالْحَمْدُ لِلّهِ .
مِنْ وَدُخُولُهَا عَلَى الزّمَانِ
وَلَيْسَ يَحْتَاجُ فِي قَوْلِهِ مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ إلَى إضْمَارٍ كَمَا قَرّرَهُ بَعْضُ النّحَاةِ مِنْ تَأْسِيسِ أَوّلِ يَوْمٍ فِرَارًا مِنْ دُخُولِ مِنْ عَلَى الزّمَانِ وَلَوْ لَفَظَ بِالتّأْسِيسِ لَكَانَ مَعْنَاهُ مِنْ وَقْتِ تَأْسِيسِ أَوّلِ يَوْمٍ فَإِضْمَارُهُ لِلتّأْسِيسِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا ، وَمِنْ تَدْخُلُ عَلَى الزّمَانِ وَغَيْرِهِ فَفِي التّنْزِيلِ [ ص 334 ] { مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ } وَالْقَبْلُ وَالْبَعْدُ زَمَانٌ وَفِي الْحَدِيثِ مَا مِنْ دَابّةٍ إلّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ تَطْلُعُ الشّمْسُ إلَى أَنْ تَغْرُبَ وَفِي شِعْرِ النّابِغَةِ [ فِي وَصْفِ سُيُوفٍ ] :
تُوُرّثْنَ مِنْ أَزْمَانِ يَوْمِ حَلِيمَةَ
إلَى الْيَوْمِ قَدْ جَرّبْنَ كُلّ التّجَارِبِ
[ تَقُدّ السّلُوقِيّ الْمُضَاعَفَ نَسْجُهُ
وَيُوقِدْنَ بِالصّفّاحِ نَارَ الْحُبَاحِبِ ]
وَيُوقِدْنَ بِالصّفّاحِ نَارَ الْحُبَاحِبِ ] وَبَيْنَ مِنْ الدّاخِلَةِ عَلَى الزّمَانِ وَبَيْنَ مُنْذُ فَرْقٌ بَدِيعٌ قَدْ بَيّنّاهُ فِي شَرْحِ آيَةِ الْوَصِيّةِ .
الْقَبَائِلُ تَعْتَرِضُهُ لِيَنْزِلَ عِنْدَهَا
[ ص 334 ] فَأَتَاهُ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ ، وَعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ . أَقِمْ عِنْدَنَا فِي الْعَدَدِ وَالْعُدّةِ وَالْمَنَعَةِ قَالَ خَلّوا سَبِيلَهَا ، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ ، لِنَاقَتِهِ فَخَلّوْا سَبِيلَهَا ، فَانْطَلَقَتْ حَتّى إذَا وَازَنَتْ دَارَ بَنِي بَيَاضَةَ ، تَلَقّاهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيَدٍ ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو ، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنَى بَيَاضَةَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هَلُمّ إلَيْنَا ، إلَى الْعَدَدِ وَالْعُدّةِ وَالْمَنَعَةِ قَالَ خَلّوا سَبِيلَهَا ، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ ، فَخَلّوْا سَبِيلَهَا . فَانْطَلَقَتْ حَتّى إذَا مَرّتْ بِدَارِ بَنِي سَاعِدَةَ اعْتَرَضَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو ، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هَلُمّ إلَيْنَا إلَى الْعَدَدِ وَالْعُدّةِ وَالْمَنَعَةِ قَالَ خَلّوا سَبِيلَهَا ، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ ، فَخَلّوْا سَبِيلَهَا ، فَانْطَلَقَتْ حَتّى إذَا وَازَنَتْ دَارَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، اعْتَرَضَهُ سَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هَلُمّ إلَيْنَا إلَى الْعَدَدِ وَالْعُدّةِ وَالْمَنَعَةِ قَالَ خَلّوا سَبِيلَهَا ، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ ، فَخَلّوْا سَبِيلَهَا . فَانْطَلَقَتْ حَتّى إذَا مَرّتْ بِدَارِ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ وَهُمْ أَخْوَالُهُ دُنْيَا - أُمّ عَبْدِ الْمُطّلِبِ سَلْمَى بِنْتُ عَمْرٍو ، إحْدَى نِسَائِهِمْ - اعْتَرَضَهُ سَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ ، وَأَبُو سَلِيطٍ أَسِيرَةُ بْنُ أَبِي خَارِجَةَ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي [ ص 335 ] فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هَلُمّ إلَى أَخْوَالِك ، إلَى الْعَدَدِ وَالْعُدّةِ وَالْمَنَعَةِ قَالَ خَلّوا سَبِيلَهَا ، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ ، فَخَلّوْا سَبِيلَهَا ، فَانْطَلَقَتْ
مَبْرَكَ النّاقَةِ بِدَارِ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ
حَتّى إذَا أَتَتْ دَارَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ ، بَرَكَتْ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مِرْبَدٌ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي النّجّارِ ثُمّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ وَهُمَا فِي حِجْرِ مُعَاذِ ابْنِ عَفْرَاءَ ، سَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو . فَلَمّا بَرَكَتْ - وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَيْهَا - لَمْ يَنْزِلْ وَثَبَتَ فَسَارَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاضِعٌ لَهَا زِمَامَهَا لَا يُثْنِيهَا بِهِ ثُمّ الْتَفَتَتْ إلَى خَلْفِهَا فَرَجَعَتْ إلَى مَبْرَكِهَا أَوّلَ مَرّةٍ فَبَرَكَتْ فِيهِ ثُمّ تَحَلْحَلَتْ وَرَزَمَتْ وَوَضَعَتْ جِرَانَهَا ، فَنَزَلَ عَنْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاحْتَمَلَ أَبُو أَيّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ رَحْلَهُ فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ وَنَزَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَأَلَ عَنْ الْمِرْبَدِ لِمَنْ هُوَ ؟ فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ : [ ص 336 ] يَتِيمَانِ لِي ، وَسَأُرْضِيهِمَا مِنْهُ فَاِتّخَذَهُ مَسْجِدًاSتَحَلْحَلَ وَتَلَحْلَحَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ لِقَاءَ كُلّ قَبِيلَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ لَهُ يَقُولُونَ هَلُمّ إلَيْنَا يَا رَسُولَ اللّهِ إلَى الْعَدَدِ وَالْعُدّةِ فَيَقُولُ خَلّوا سَبِيلَهَا فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ حَتّى بَرَكَتْ بِمَوْضِعِ مَسْجِدِهِ وَقَالَ [ ص 335 ] ابْنُ قُتَيْبَةَ عَلَى تَلَحْلَحَ أَيْ لَزِمَ مَكَانَهُ . وَلَمْ يَبْرَحْ وَأَنْشَدَ
أُنَاسٌ إذَا قِيلَ انْفِرُوا قَدْ أَتَيْتُمْ ... أَقَامُوا عَلَى أَثْقَالِهِمْ وَتَلَحْلَحُوا
قَالَ وَأَمّا تَحَلْحَلَ بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ عَلَى اللّامِ فَمَعْنَاهُ زَالَ عَنْ مَوْضِعِهِ وَهَذَا الّذِي قَالَهُ قَوِيّ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِقَاقِ فَإِنّ التّلَحْلُحَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ لَحِحَتْ عَيْنُهُ إذَا الْتَصَقَتْ وَهُوَ ابْنُ عَمّي لَحّا . وَأَمّا التّحَلْحُلُ فَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْحَلّ وَالِانْحِلَالِ بَيّنٌ لِأَنّهُ انْفِكَاكُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنّ الرّوَايَةَ فِي سِيرَةِ ابْنِ إسْحَاقَ : تَحَلْحَلَتْ بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ عَلَى اللّامِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْنَى إلّا أَنْ يَكُونَ مَقْلُوبًا مِنْ تَلَحْلَحَتْ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ لُصِقَتْ بِمَوْضِعِهَا ، وَأَقَامَتْ عَلَى الْمَعْنَى الّذِي فَسّرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي تَلَحْلَحَتْ . وَأَمّا قَوْلُهُ وَرَزَمَتْ فَيُقَالُ رَزَمَتْ النّاقَةُ رُزُومًا إذَا أَقَامَتْ مِنْ الْكَلَالِ وَنُوقٌ رَزْمَى ، وَأَمّا أَرْزَمَتْ بِالْأَلِفِ فَمَعْنَاهُ رَغَتْ وَرَجَعَتْ فِي رُغَائِهَا ، وَيُقَالُ مِنْهُ أَرْزَمَ الرّعْدُ وَأَرْزَمْت الرّيحُ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ السّيرَةِ أَنّهَا لَمّا أَلْقَتْ بِجِرَانِهَا فِي دَارِ بَنِي النّجّارِ جَعَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ وَهُوَ جَبّارُ بْنُ صَخْرٍ يَنْخُسُهَا رَجَاءَ أَنْ تَقُومَ فَتَبْرُكَ فِي دَارِ بَنِي سَلِمَةَ ، فَلَمْ تَفْعَلْ .
الْمِرْبَدُ وَصَاحِبَاهُ
وَقَوْلُهُ كَانَ الْمَسْجِدُ مِرْبَدًا . الْمِرْبَدُ وَالْجَرِينُ [ وَالْجُرْنُ وَالْمِجْرَنُ ] وَالْمِسْطَحُ وَهُوَ [ ص 336 ] مِشْطَاحٌ وَالْجُوخَارُ وَالْبَيْدَرُ وَالْأَنْدَرُ لُغَاتٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ لِلْمَوْضِعِ الّذِي يُجْعَلُ فِيهِ الزّرْعُ وَالتّمْرُ لِلتّيْبِيسِ وَأَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمِسْطَحِ [ لِتَمِيمِ بْنِ مُقْبِلٍ ] :
تَرَى الْأَمْعَزَ الْمَحْزُوّ فِيهِ كَأَنّهُ ... مِنْ الْحَرّ فِي نَحْرِ الظّهِيرَةِ مِسْطَحُ
قَالَ وَالْمَحْزُوّ مِنْ حَزَوْت الشّيْءَ إذَا أَظْهَرْته . وَالْمِسْطَحُ هُوَ بِالْفَارِسِيّةِ مِشْطَحٌ وَأَمّا الْمِسْطَحُ الّذِي ، هُوَ عُودُ الْخِبَاءِ فَعَرَبِيّةٌ . وَذَكَرَ أَنّ ذَلِكَ الْمِرْبَدَ كَانَ لِسَهْلِ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ مُعَاذِ ابْنِ عَفْرَاءَ وَلَمْ يَعْرِفْهُمَا بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا ، وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ : كَانَا يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ وَهُمَا ابْنَا رَافِعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ شَهِدَ سُهَيْلٌ مِنْهُمَا بَدْرًا ، وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا ، وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ يَشْهَدُ سَهْلٌ بَدْرًا ، وَشَهِدَ غَيْرَهَا وَمَاتَ قَبْلَ أَخِيهِ سُهَيْلٍ .
الْمَسْجِدُ وَالْمَسْكَنُ
قَالَ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُبْنَى مَسْجِدًا ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَبِي أَيّوبَ حَتّى بَنَى مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ فَعَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيُرَغّبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَمَلِ فِيهِ فَعَمِلَ فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ ، وَدَأَبُوا فِيهِ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنّبِيّ يَعْمَلُ ... لَذَاكَ مِنّا الْعَمَلُ الْمُضَلّلُ
[ ص 337 ]
لَا عَيْشَ إلّا عَيْشَ الْآخِرَهْ ... اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا كَلَامٌ وَلَيْسَ بِرَجَزِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَيَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا عَيْشَ إلّا عَيْشَ الْآخِرَةِ ، اللّهُمّ ارْحَمْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَSحَوْلَ بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ بُنْيَانَ الْمَسْجِدِ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ وَفِي الصّحِيحِ أَنّهُ قَالَ يَا بَنِي النّجّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ [ هَذَا ] حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتّخِذَهُ مَسْجِدًا ، [ فَقَالُوا : لَا ، وَاَللّهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إلّا إلَى اللّهِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصّحِيحِ أَيْضًا : ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتّخِذَهُ مَسْجِدًا ، فَقَالَا : بَلْ نَهَبُهُ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ ثُمّ بَنَاهُ مَسْجِدًا وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِفِقْهِ وَهُوَ أَنّ الْبَائِعَ أَوْلَى بِتَسْمِيَةِ الثّمَنِ الّذِي يَطْلُبُهُ [ ص 337 ] قَالَ أَنَسٌ وَكَانَ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ نَخْلٌ وَخِرَبٌ وَمَقَابِرُ مُشْرِكِينَ فَأَمَرَ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ وَبِالْخِرَبِ فَسُوّيَتْ وَبِالنّخْلِ فَقُطِعَتْ وَيُرْوَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَخْلٌ وَحَرْثٌ مَكَانَ قَوْلِهِ وَخِرَبٌ وَرُوِيَ عَنْ الشّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْأَنْصَارِيّةِ قَالَتْ كَانَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ بَنَى الْمَسْجِدَ يَؤُمّهُ جِبْرِيلُ إلَى الْكَعْبَةِ وَيُقِيمُ لَهُ الْقِبْلَةَ
عَمّارٌ وَالْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ
قَالَ [ ص 338 ] فَدَخَلَ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، وَقَدْ أَثْقَلُوهُ بِاللّبِنِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَتَلُونِي ، يَحْمِلُونَ عَلَيّ مَا لَا يَحْمِلُونَ . قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَأَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْفُضُ وَفْرَتَهُ بِيَدِهِ كَانَ رَجُلًا جَعْدًا ، وَهُوَ يَقُولُ وَيْحُ ابْنِ سُمَيّةَ ، لَيْسُوا بِاَلّذِينَ يَقْتُلُونَك ، إنّمَا تَقْتُلُك الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ
ارْتِجَازُ عَلِيّ
وَارْتَجَزَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ
لَا يَسْتَوِي مَنْ يَعْمُرُ الْمَسَاجِدَا ... يَدْأَبُ فِيهِ قَائِمًا وَقَاعِدَا
وَمَنْ يُرَى عَنْ الْغُبَارِ حَائِدَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : سَأَلْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ عَنْ هَذَا الرّجَزِ فَقَالُوا : بَلَغَنَا أَنّ عَلَيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ارْتَجَزَ بِهِ فَلَا يُدْرَى : أَهُوَ قَائِلُهُ أَمْ غَيْرُهُ .
مُشَادّةُ عَمّارٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَخَذَهَا عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، فَجَعَلَ يَرْتَجِزُ بِهَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَلَمّا أَكْثَرَ ظَنّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ إنّمَا يُعَرّضُ بِهِ فِيمَا حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ ، عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَقَدْ سَمّى ابْنُ إسْحَاقَ الرّجُلَ .
الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُوصِي بِعَمّارِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 339 ] فَقَالَ قَدْ سَمِعْت مَا تَقُولُ مُنْذُ الْيَوْمَ يَا ابْنَ سُمَيّةَ ، وَاَللّهِ إنّي لَأَرَانِي سَأَعْرِضُ هَذِهِ الْعَصَا لِأَنْفَكّ . قَالَ وَفِي يَدِهِ عَصًا . قَالَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ " مَا لَهُمْ وَلِعَمّارِ يَدْعُوهُمْ إلَى الْجَنّةِ وَيَدْعُونَهُ إلَى النّارِ إنّ عَمّارًا جِلْدَةُ مَا بَيْنَ عَيْنِي وَأَنْفِي ، فَإِذَا بُلّ ذَلِكَ مِنْ الرّجُلِ فَلَمْ يُسْتَبَقْ فَاجْتَنِبُوهُSوَذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ الرّجُلِ لِعَمّارِ قَدْ سَمِعْت مَا تَقُولُ يَا ابْنَ سُمَيّةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَدْ سَمّى ابْنُ إسْحَاقَ الرّجُلَ وَكَرِهَ ابْنُ هِشَامٍ أَنّ يُسَمّيَهُ كَيْ لَا يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَكْرُوهِ فَلَا يَنْبَغِي إذًا الْبَحْثُ عَلَى اسْمِهِ .
سُمَيّةُ أُمّ عَمّارٍ
وَسُمَيّةُ أُمّ عَمّارٍ وَقَدْ تَقَدّمَ التّعْرِيفُ بِهَا فِي الْهِجْرَةِ الْأُولَى وَنَبّهْنَا عَلَى غَلَطِ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِيهَا فَإِنّهُ جَعَلَهَا وَسُمَيّةَ أُمّ زِيَادٍ وَاحِدَةً وَسُمَيّةُ أُمّ زِيَادٍ كَانَتْ لِلْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ الْمُتَطَبّبِ وَالْأُولَى : مَوْلَاةٌ لِبَنِي مَخْزُومٍ وَهِيَ سُمَيّةُ بِنْتُ خِبَاط ، كَمَا تَقَدّمَ وَكَانَ أَهْدَى سُمَيّةَ [ ص 338 ] مُلُوكِ الْيَمَنِ : يُقَالُ لَهُ أَبُو جَبْرٍ وَذَلِكَ أَنّهُ عَالَجَهُ مِنْ دَاءٍ كَانَ بِهِ فَبَرِئَ فَوَهَبَهَا لَهُ وَكَانَتْ قَبْلَ أَبِي جَبْرٍ لِمَلِكِ مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ وَفَدَ عَلَيْهِ أَبُو جَبْرٍ فَأَهْدَاهَا إلَيْهِ الْمَلِكُ ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَفِي جَامِعِ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ أَنّ عَمّارًا كَانَ يَنْقُلُ فِي بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَةً عَنْهُ وَلَبِنَةً عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَالنّاسُ يَنْقُلُونَ لَبِنَةً وَاحِدَةً فَقَالَ لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِلنّاسِ أَجْرٌ وَلَك أَجْرَانِ وَآخِرُ زَادِك مِنْ الدّنْيَا شَرْبَةُ لَبَنٍ وَتَقْتُلُك الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فَلَمّا قُتِلَ يَوْمَ صِفّينَ دَخَلَ عَمْرٌو عَلَى مُعَاوِيَةَ فَزِعًا ، فَقَالَ قُتِلَ عَمّارٌ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ فَمَاذَا ؟ فَقَالَ عَمْرٌو : سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَقُولُ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ دُحِضْت فِي بَوْلِك ، أَنَحْنُ قَتَلْنَاهُ ؟ إنّمَا قَتَلَهُ مَنْ أَخْرَجَهُ ؟
إضَافَةُ بِنَاءِ أَوّلِ مَسْجِدٍ إلَى عَمّارٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ زَكَرِيّا ، عَنْ الشّعْبِيّ ، قَالَ إنّ أَوّلَ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ .Sإضَافَةُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ إلَى عَمّارٍ
[ ص 339 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي عَمّارٍ وَهُوَ أَوّلُ مَنْ بَنَى لِلّهِ مَسْجِدًا عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، فَيُقَالُ كَيْفَ أَضَافَ إلَى عَمّارٍ بُنْيَانَ الْمَسْجِدِ وَقَدْ بَنَاهُ مَعَهُ النّاسُ ؟ فَيَقُولُ إنّمَا عَنَى بِهَذَا الْحَدِيثِ مَسْجِدَ قُبَاءٍ ، لِأَنّ عَمّارًا هُوَ الّذِي أَشَارَ عَلَى النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِبُنْيَانِهِ وَهُوَ جَمَعَ الْحِجَارَةَ لَهُ فَلَمّا أَسّسَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْتَتَمّ بُنْيَانَهُ عَمّارٌ .
أَطْوَارُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ
كَذَلِكَ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْهُ وَبُنِيَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَسُقِفَ بِالْجَرِيدِ وَجُعِلَتْ قِبْلَتُهُ مِنْ اللّبِنِ وَيُقَالُ بَلْ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْضُودَةٍ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَجُعِلَتْ عُمُدُهُ مِنْ جُذُوعِ النّخْلِ فَنُخِرَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فَجَرّدَهَا ، فَلَمّا كَانَ عُثْمَانُ بَنَاهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ بِالْقَصّةِ وَسَقَفَهُ بِالسّاجِ وَجَعَلَ قِبْلَتَهُ مِنْ الْحِجَارَةِ فَلَمّا كَانَتْ أَيّامُ بَنِي الْعَبّاسِ بَنَاهُ مُحَمّدُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمُتَسَمّي بِالْمَهْدِيّ وَوَسّعَهُ وَزَادَ فِيهِ وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتّينَ وَمِائَةٍ ثُمّ زَادَ فِيهِ الْمَأْمُونُ بْنُ الرّشِيدِ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ وَأَتْقَنَ بُنْيَانَهُ وَنَقَشَ فِيهِ هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللّهِ الْمَأْمُونُ فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ كَرِهْت الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهِ . ثُمّ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنّ أَحَدًا غَيّرَ مِنْهُ شَيْئًا ، وَلَا أَحْدَثَ فِيهِ عَمَلًا .
بُيُوتُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَأَمّا بُيُوتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَكَانَتْ تِسْعَةً بَعْضُهَا مِنْ جَرِيدٍ مُطَيّنٍ بِالطّينِ وَسَقْفُهَا جَرِيدٌ [ ص 340 ] وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ كُنْت أَدْخُلُ بُيُوتَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ وَأَنَا غُلَامٌ مُرَاهِقٌ فَأَنَالُ السّقْفَ بِيَدِي ، وَكَانَتْ حُجَرُهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - أَكْسِيَةٌ مِنْ شَعْرٍ مَرْبُوطَةٌ فِي خَشَبٍ عَرْعَرٍ وَفِي تَارِيخِ الْبُخَارِيّ أَنّ بَابَهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - كَانَ يُقْرَعُ بِالْأَظَافِرِ أَيْ لَا حِلَقَ لَهُ وَلَمّا تُوُفّيَ أَزْوَاجُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ خُلِطَتْ الْبُيُوتُ وَالْحُجَرُ بِالْمَسْجِدِ وَذَلِكَ فِي زَمَنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمّا وَرَدَ كِتَابُهُ بِذَلِكَ ضَجّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِالْبُكَاءِ كَيَوْمِ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ وَكَانَ سَرِيرُهُ خَشَبَاتٌ مَشْدُودَةٌ بِاللّيفِ بِيعَتْ زَمَنَ بَنِي أُمَيّةَ فَاشْتَرَاهَا رَجُلٌ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ بُيُوتَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ إذَا أُضِيفَتْ إلَيْهِ فَهِيَ إضَافَةُ مِلْكٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النّبِيّ } [ الْأَحْزَابُ : 53 ] وَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى أَزْوَاجِهِ كَقَوْلِهِ { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ } [ الْأَحْزَابُ : 33 ] فَلَيْسَتْ بِإِضَافَةِ مِلْكٍ وَذَلِكَ أَنّ مَا كَانَ مِلْكًا لَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَلَيْسَ بِمَوْرُوثِ عَنْهُ .
الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِ أَبِي أَيّوبَ
[ ص 340 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِ أَبِي أَيّوبَ حَتّى بُنِيَ لَهُ مَسْجِدُهُ [ ص 341 ] أَبِي أَيّوبَ رَحْمَةُ اللّهِ عَلَيْهِ وَرِضْوَانُهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْيَزَنِيّ عَنْ أَبِي رُهْمٍ السّمّاعِيّ قَالَ حَدّثَنِي أَبُو أَيّوبَ قَالَ لَمّا نَزَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِي ، نَزَلَ فِي السّفْلِ وَأَنَا وَأُمّ أَيّوبَ فِي الْعُلُوّ فَقُلْت لَهُ يَا نَبِيّ اللّهِ بِأَبِي أَنْت وَأُمّي ، إنّي لَأَكْرَهُ وَأُعْظِمُ أَنْ أَكُونَ فَوْقَك ، وَتَكُونَ تَحْتِي ، فَاظْهَرْ أَنْتَ فَكُنْ فِي الْعُلُوّ وَنَنْزِلُ نَحْنُ فَنَكُونُ فِي السّفْلِ فَقَالَ يَا أَبَا أَيّوبَ إنّ أَرْفَقَ بِنَا وَبِمَنْ يَغْشَانَا ، أَنْ نَكُونَ فِي سُفْلِ الْبَيْتِ . قَالَ فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سُفْلِهِ وَكُنّا فَوْقَهُ فِي الْمَسْكَنِ فَلَقَدْ انْكَسَرَ حُبّ لَنَا فِيهِ مَاءٌ فَقُمْت أَنَا وَأُمّ أَيّوبَ بِقَطِيفَةِ لَنَا ، مَا لَنَا لِحَافٌ غَيْرَهَا ، نُنَشّفُ بِهَا الْمَاءَ تَخَوّفًا أَنْ يَقْطُرَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْهُ شَيْءٌ فَيُؤْذِيهِ . قَالَ وَكُنّا نَصْنَعُ لَهُ الْعَشَاءَ ثُمّ نَبْعَثُ بِهِ إلَيْهِ فَإِذَا رَدّ عَلَيْنَا فَضْلَهُ تَيَمّمْت أَنَا وَأُمّ أَيّوبَ مَوْضِعَ يَدِهِ فَأَكَلْنَا مِنْهُ نَبْتَغِي بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ ، حَتّى بَعَثْنَا إلَيْهِ لَيْلَةً بِعَشَائِهِ وَقَدْ جَعَلْنَا لَهُ بَصَلًا أَوْ ثُومًا ، فَرَدّهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ أَرَ لِيَدِهِ فِيهِ أَثَرًا قَالَ فَجِئْته فَزِعًا ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي رَدَدْت عَشَاءَك وَلَمْ أَرَ فِيهِ مَوْضِعَ يَدِك ، وَكُنْت إذَا رَدَدْته عَلَيْنَا ، تَيَمّمْت أَنَا وَأُمّ أَيّوبَ مَوْضِعَ يَدِك ، نَبْتَغِي بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ ؛ قَالَ إنّي وَجَدْت فِيهِ رِيحَ هَذِهِ الشّجَرَةِ ، وَأَنَا رَجُلٌ أُنَاجِي ، فَأَمّا أَنْتُمْ فَكُلُوهُ . قَالَ فَأَكَلْنَاهُ وَلَمْ نَصْنَعْ لَهُ تِلْكَ الشّجَرَةَ بَعْدُSحُبّ حَبّابٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ أُمّ أَيّوبَ وَقَوْلَهَا : انْكَسَرَ حُبّ لَنَا . الْحُبّ جَرّةٌ كَبِيرَةٌ جَمْعُهُ [ أُحْبٌ وَحِبَابٌ ] حِبَبَةٌ مِثْلُ جُحْرٍ وَجِحَرَةٌ [ وَأَجْحَارٌ وَجُحْرٌ ] وَكَأَنّهُ أَخَذَ لَفْظَهُ مِنْ حِبَابِ الْمَاءِ أَوْ مِنْ حَبَبِهِ وَحَبَابِهِ بِالْأَلِفِ تَرَافُعُهُ . قَالَ الشّاعِرُ
كَأَنّ صَلَا جَهِيزَةَ حِينَ تَمْشِي ... حَبَابَ الْمَاءِ يَتّبِعُ الْحَبَابَا
وَالْحَبَبُ بِغَيْرِ أَلِفٍ نُفّاخَاتٌ بِيضٌ صِغَارٌ تَكُونُ عَلَى وَجْهِ الشّرَابِ قَالَهُ ابْنُ ثَابِتٍ .
الثّومُ
وَذَكَرَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأُمّ أَيّوبَ - حِينَ رَدّ عَلَيْهَا الثّرِيدَ مِنْ أَجْلِ الثّومِ أَنَا رَجُلٌ أُنَاجِي وَرَوَى غَيْرُهُ حَدِيثَ أُمّ أَيّوبَ وَقَالَ فِيهِ إنّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذّى بِمَا يَتَأَذّى بِهِ الْإِنْسُ وَرُوِيَ أَنّ خُصَيْفَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَنَامِ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ الْحَدِيثُ الّذِي تَرْوِيهِ عَنْك أُمّ أَيّوبَ أَنّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذّى بِمَا يَتَأَذّى بِهِ الْإِنْسُ أَصَحِيحٌ هُوَ ؟ قَالَ نَعَمْ
مَصِيرُ مَنْزِلِ أَبِي أَيّوبَ
وَمَنْزِلُ أَبِي أَيّوبَ الّذِي نَزَلَ فِيهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - تَصِيرُ بَعْدَهُ إلَى أَفْلَحَ مَوْلَى أَبِي أَيّوبَ [ ص 341 ] خَرِبَ وَتَثَلّمَتْ حِيطَانُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ بَعْدَ حِيلَةٍ احْتَالَهَا عَلَيْهِ الْمُغِيرَةُ ذَكَرَهَا الزّبَيْرُ ثُمّ أَصْلَحَ الْمُغِيرَةُ مَا وَهَى مِنْهُ وَتَصَدّقَ بِهِ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ فُقَرَاءِ الْمَدِينَةِ ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ ابْنُ أَفْلَحَ يَقُولُ لِلْمُغِيرَةِ خَدَعْتنِي ، فَيَقُولُ لَهُ الْمُغِيرَةُ لَا أَفْلَحَ مَنْ نَدِمَ . هَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ .
تَلَاحُقُ الْمُهَاجِرِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَتَلَاحَقَ الْمُهَاجِرُونَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ يَبْقَ بِمَكّةَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، إلّا مَفْتُونٌ أَوْ مَحْبُوسٌ وَلَمْ يُوعِبْ أَهْلُ هِجْرَةٍ مِنْ مَكّةَ بِأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إلَى اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَإِلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا أَهْلَ دُورٍ مُسَمّوْنَ بَنُو مَظْعُونٍ مِنْ جُمَحٍ [ ص 342 ] وَبَنُو جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ ، حُلَفَاءُ بَنِي أُمَيّةَ وَبَنُو الْبُكَيْرِ ، مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ حُلَفَاءُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ ، فَإِنّ دُورَهُمْ غُلّقَتْ بِمَكّةَ هِجْرَةً لَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ .
قِصّةُ أَبِي سُفْيَانَ مَعَ بَنِي جَحْشٍ
وَلَمّا خَرَجَ بَنُو جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ مِنْ دَارِهِمْ عَدَا عَلَيْهَا أَبُو سُفْيَانَ بْن حَرْبٍ فَبَاعَهَا مِنْ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ أَخِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ؛ فَلَمّا بَلَغَ بَنِي جَحْشٍ . مَا صَنَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِدَارِهِمْ ذَكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا تَرْضَى يَا عَبْدَ اللّهِ أَنْ يُعْطِيَك اللّهُ بِهَا دَارًا خَيْرًا مِنْهَا فِي الْجَنّةِ ؟ قَالَ بَلَى ؛ قَالَ فَذَلِكَ لَك فَلَمّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ كَلّمَهُ أَبُو أَحْمَدَ فِي دَارِهِمْ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ النّاسُ لِأَبِي أَحْمَدَ يَا أَبَا أَحْمَدَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَكْرَهُ أَنْ تَرْجِعُوا فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِكُمْ أُصِيبَ مِنْكُمْ فِي اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَأَمْسَكَ عَنْ كَلَامِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ
أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنْ ... أَمْرٍ عَوَاقِبُهُ نَدَامَهْ
دَارُ ابْنِ عَمّك بِعْتهَا ... تَقْضِي بِهَا عَنْك الْغَرَامَهْ
وَحَلِيفُكُمْ بِاَللّهِ رَبّ ... النّاسِ مُجْتَهِدُ الْقَسَامَهْ
اذْهَبْ بِهَا ، اذْهَبْ بِهَا ... طُوّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْ
. [ ص 343 ]
انْتِشَارُ الْإِسْلَامِ وَمَنْ بَقِيَ عَلَى شِرْكِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ إذْ قَدِمَهَا شَهْرَ رَبِيعٍ الْأَوّلِ إلَى صَفَرٍ مِنْ السّنَةِ الدّاخِلَةِ حَتّى بُنِيَ لَهُ فِيهَا مَسْجِدُهُ وَمَسَاكِنُهُ وَاسْتُجْمِعَ لَهُ إسْلَامُ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إلّا أَسْلَمَ أَهْلُهَا ، إلّا مَا كَانَ مِنْ خَطْمَةَ وَوَاقِفٍ وَوَائِلٍ وَأُمَيّةَ وَتِلْكَ أَوْسُ اللّهِ وَهُمْ حَيّ مِنْ الْأَوْسِ ، فَإِنّهُمْ أَقَامُوا عَلَى شِرْكِهِمْ .Sمِنْ قِصّةِ أَبِي سُفْيَانَ مَعَ بَنِي جَحْشٍ
[ ص 342 ] وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ لِأَبِي سُفْيَانَ
دَارُ ابْنِ عَمّك بِعْتهَا ... تَقْضِي بِهَا عَنْك الْغَرَامَهْ
اذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا ... طُوّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْ
أَبُو أَحْمَدَ هَذَا اسْمُهُ عَبْدٌ وَقِيلَ ثُمَامَةُ وَالْأَوّلُ أَصَحّ ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ الْفَارِعَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ وَبِهَذَا السّبَبِ تَطَرّقَ أَبُو سُفْيَانَ إلَى بَيْعِ دَارِ بَنِي جَحْشٍ إذْ كَانَتْ بِنْتُهُ فِيهِمْ . مَاتَ أَبُو أَحْمَدَ بَعْدَ أُخْتِهِ زَيْنَبَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ . وَقَوْلُهُ لِأَبِي سُفْيَانَ طُوّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْ مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ وَقَالَ طَوْقَ الْحَمَامَهْ لِأَنّ طَوْقَهَا لَا يُفَارِقُهَا [ ص 343 ] تُلْقِيهِ عَنْ نَفْسِهَا أَبَدًا ، كَمَا يَفْعَلُ مَنْ لَبِسَ طَوْقًا مِنْ الْآدَمِيّينَ فَفِي هَذَا الْبَيْتِ مِنْ السّمَانَةِ وَحَلَاوَةِ الْإِشَارَةِ وَمَلَاحَةِ الِاسْتِعَارَةِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ وَفِي قَوْلِهِ طَوْقَ الْحَمَامَةِ رَدّ عَلَى مَنْ تَأَوّلَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ طُوّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ أَنّهُ مِنْ الطّاقَةِ لَا مِنْ الطّوْقِ فِي الْعُنُقِ وَقَالَهُ الْخَطّابِيّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ مَعَ أَنّ الْبُخَارِيّ قَدْ رَوَاهُ فَقَالَ فِي بَعْضِ رِوَايَتِهِ لَهُ خُسِفَ بِهِ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ وَفِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ : مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ جَاءَ بِهِ إسْطَامًا فِي عُنُقِهِ وَالْأَسْطَامُ كَالْحِلَقِ مِنْ الْحَدِيدِ وَسِطَامُ السّيْفِ حَدّهُ .
الْخُطْبَةُ الْأُولَى
وَكَانَتْ أَوّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ - نَعُوذُ بِاَللّهِ أَنْ نَقُولَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا لَمْ يَقُلْ - أَنّهُ قَامَ فِيهِمْ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ [ ص 344 ] أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَقَدّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ تَعَلّمُنّ وَاَللّهِ لَيُصْعَقَنّ أَحَدُكُمْ ثُمّ لَيَدَعَنّ غَنَمَهُ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ . ثُمّ لَيَقُولَنّ لَهُ رَبّهُ وَلَيْسَ لَهُ تُرْجُمَانٌ وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ دُونَهُ أَلَمْ يَأْتِك رَسُولِي فَبَلّغَك ، وَآتَيْتُك مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْك ؟ فَمَا قَدّمْت لِنَفْسِك ؟ فَلَيَنْظُرَنّ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَا يَرَى شَيْئًا ، ثُمّ لَيَنْظُرَنّ قُدّامَهُ فَلَا يَرَى غَيْرَ جَهَنّمَ فَمَن اسْتَطَاعَ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ مِنْ النّارِ وَلَوْ بِشِقّ مِنْ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةِ طَيّبَةٍ ، فَإِنّ بِهَا تُجْزَى الْحَسَنَةُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا ، إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُSالْخُطْبَةُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِيهَا يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِعَبْدِهِ أَلَمْ أُوتِكَ مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْك ، فَمَاذَا قَدّمْت وَفِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ زِيَادَةٌ وَهِيَ أَلَمْ أُوتِكَ مَالًا ، وَجَعَلْتُك تَرْبَعُ وَتَدْسَعُ ؟ وَفَسّرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ فَقَالَ هُوَ مَثَلٌ وَأَصْلُهُ أَنّ الرّئِيسَ مِنْ الْعَرَبِ كَانَ يَرْبَعُ قَوْمَهُ أَيْ يَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ إذَا غَزَا وَيَدْسَعُ أَيْ يُعْطِي وَيَدْفَعُ مِنْ الْمَالِ لِمَنْ شَاءَ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فُلَانٌ ضَخْمُ الدّسِيعَةِ .
الْخُطْبَةُ الثّانِيَةُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ خَطَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ مَرّةً أُخْرَى ، فَقَالَ إنّ الْحَمْدَ لِلّهِ أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ ، نَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَسَيّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللّهُ فَلَا مُضِلّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . إنّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَيّنَهُ اللّهُ فِي قَلْبِهِ وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ وَاخْتَارَهُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ أَحَادِيثِ النّاسِ إنّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَأَبْلَغُهُ أَحِبّوا ، مَا أَحَبّ اللّهُ أَحِبّوا اللّهَ مِنْ كُلّ قُلُوبِكُمْ وَلَا تَمَلّوا كَلَامَ اللّهِ وَذِكْرَهُ وَلَا تَقْسُ عَنْهُ قُلُوبُكُمْ فَإِنّهُ مِنْ كُلّ مَا يَخْلُقُ اللّهُ يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي ، قَدْ سَمّاهُ اللّهُ خِيرَتَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ وَمُصْطَفَاهُ مِنْ الْعِبَادِ الصّالِحَ الْحَدِيثَ وَمِنْ كُلّ مَا أُوتِيَ النّاسُ مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَاعْبُدُوا اللّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَاتّقُوهُ حَقّ تُقَاتِهِ وَاصْدُقُوا اللّهَ صَالِحَ مَا تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ وَتَحَابّوا بِرُوحِ اللّهِ بَيْنَكُمْ إنّ اللّهَ يَغْضَبُ أَنْ يُنْكَثَ عَهْدُهُ وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ [ ص 345 ]Sالْحُبّ
[ ص 344 ] وَذَكَرَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الثّانِيَةَ وَفِيهَا : أَحِبّوا اللّهَ مِنْ كُلّ قُلُوبِكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَغْرِقَ حُبّ اللّهِ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْقَلْبِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ وَعَمَلُهُ خَارِجًا مِنْ قَلْبِهِ خَالِصًا لِلّهِ وَإِضَافَةُ الْحُبّ إلَى اللّهِ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ مَجَازٌ حَسَنٌ لِأَنّ حَقِيقَةَ الْمَحَبّةِ إرَادَةٌ يُقَارِنُهَا اسْتِدْعَاءٌ لِلْمَحْبُوبِ إمّا بِالطّبْعِ وَإِمّا بِالشّرْعِ وَقَدْ كَشَفْنَا مَعْنَاهَا بِغَايَةِ الْبَيَانِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ إنّ اللّهَ [ تَعَالَى ] جَمِيلٌ يُحِبّ الْجَمَالَ وَنَبّهْنَا هُنَالِكَ عَلَى تَقْصِيرِ أَبِي الْمَعَالِي رَحِمَهُ اللّهُ فِي شَرْحِ الْمَحَبّةِ فِي كِتَابِ الْإِرَادَةِ مِنْ كِتَابِ الشّامِلِ فَلْتَنْظُرْ هُنَالِكَ .
مِنْ شَرْحِ الْخُطْبَةِ
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا تَمَلّوا كَلَامَ اللّهِ وَذِكْرَهُ فَإِنّهُ مِنْ كُلّ مَا يَخْلُقُ اللّهُ يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي . الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ فَإِنّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً عَلَى كَلَامِ اللّهِ سُبْحَانَهُ وَلَكِنّهَا [ ص 345 ] قَالَ إنّ الْحَدِيثَ مِنْ كُلّ مَا يَخْلُقُ اللّهُ يَخْتَارُ فَالْأَعْمَالُ إذًا كُلّهَا مِنْ خَلْقِ اللّهِ قَدْ اخْتَارَ مِنْهَا مَا شَاءَ قَالَ سُبْحَانَهُ { وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } [ الْقَصَصُ 68 ] ، وَقَوْلُهُ قَدْ سَمّاهُ خِيرَتَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ يَعْنِي : الذّكْرَ وَتِلَاوَةَ الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَيَخْتَارُ } فَقَدْ اخْتَارَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ . وَقَوْلُهُ وَالْمُصْطَفَى مِنْ عِبَادِه أَيْ وَسُمّيَ الْمُصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ بِقَوْلِهِ { اللّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النّاسِ } [ الْحَجّ : 75 ] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْمُصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ أَيْ الْعَمَلُ الّذِي اصْطَفَاهُ مِنْهُمْ وَاخْتَارَهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ فَلَا تَكُونُ مِنْ عَلَى هَذَا لِلتّبْعِيضِ إنّمَا تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ لِأَنّهُ عَمَلٌ اسْتَخْرَجَهُ مِنْهُمْ بِتَوْفِيقِهِ إيّاهُمْ . وَالتّأْوِيلُ الْأَوّلُ أَقْرَبُ مَأْخَذًا وَاَللّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ رَسُولَهُ . وَقَوْلُهُ فِي أَوّلِ الْخُطْبَةِ إنّ الْحَمْدَ لِلّهِ أَحْمَدُهُ هَكَذَا بِرَفْعِ الدّالِ مِنْ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَجَدْته مُقَيّدًا مُصَحّحًا عَلَيْهِ وَإِعْرَابُهُ لَيْسَ عَلَى الْحِكَايَةِ وَلَكِنْ عَلَى إضْمَارِ الْأَمْرِ كَأَنّهُ قَالَ إنّ الْأَمْرَ الّذِي أَذْكُرُهُ وَحَذَفَ الْهَاءَ الْعَائِدَةَ عَلَى الْأَمْرِ كَيْ لَا يُقَدّمَ شَيْئًا فِي اللّفْظِ مِنْ الْأَسْمَاءِ عَلَى قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَلَيْسَ تَقْدِيمُ إنّ فِي اللّفْظِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْأَسْمَاءِ لِأَنّهَا حَرْفٌ مُؤَكّدٌ لِمَا بَعْدَهُ مَعَ مَا فِي اللّفْظِ مِنْ التّحَرّي لِلَفْظِ الْقُرْآنِ وَالتّيَمّنِ بِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَكَانَتْ خُطْبَتُهُ فِي تِلْكَ الْأَيّامِ عَلَى جِذْعٍ فَلَمّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ ، وَصَنَعَهُ لَهُ عَبْدٌ لِامْرَأَةِ مِنْ الْأَنْصَارِ اسْمُهُ بَاقُومٌ خَارَ الْجِذْعُ خُوَارَ النّاقَةِ الْخَلُوجِ حَتّى نَزَلَ عَلَيْهِ السّلَامُ فَالْتَزَمَهُ وَقَالَ لَوْ لَمْ أَلْتَزِمْهُ مَا زَالَ يَخُورُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمّ دَفَنَهُ وَإِنّمَا دَفَنَهُ لِأَنّهُ قَدْ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُؤْمِنِ لَحُبّهِ وَحَنِينِهِ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهَذَا يُنْظَرُ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { كَشَجَرَةٍ طَيّبَةٍ } [ إبْرَاهِيمُ 24 ] الْآيَةُ وَإِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي النّخْلَةِ مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُؤْمِنِ وَحَدِيثُ خُوَارِ الْجِذْعِ وَحَنِينِهِ مَنْقُولٌ نَقْلَ التّوَاتُرِ لِكَثْرَةِ مَنْ شَاهَدَ خُوَارَهُ مِنْ الْخَلْقِ وَكُلّهُمْ نَقَلَ ذَلِكَ أَوْ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ .
كِتَابُ الْمُوَادَعَةِ لِلْيَهُودِ
[ ص 346 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَادَعَ فِيهِ يَهُودَ وَعَاهَدَهُمْ وَأَقَرّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَشَرَطَ لَهُمْ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ إنّهُمْ أُمّةٌ وَاحِدَةٌ [ ص 347 ] الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ وَهُمْ يَفْدُونَ عَانِيهمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، كُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو سَاعِدَةَ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ [ ص 348 ] الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ نَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وبنو الْحَارِثِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو جُشَمٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو النّجّارِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو النّبِيتِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو الْأَوْسِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْمُفْرَحُ الْمُثْقَلُ بِالدّيْنِ وَالْكَثِيرُ الْعِيَالِ . قَالَ الشّاعِرُ
إذا أَنْتَ لَمْ تَبْرَحْ تُؤَدّي أَمَانَةً
وَتَحْمِلُ أُخْرَى أَفْرَحَتْك الْوَدَائِعُ
وَأَنْ لَا يُحَالِفَ مُؤْمِنٌ مَوْلَى مُؤْمِنٍ دُونَهُ وَأَنّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ أَوْ ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمٍ أَوْ إثْمٍ أَوْ عُدْوَانٍ ، أَوْ فَسَادٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا ، وَلَوْ [ ص 349 ] كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ وَلَا يَقْتُلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا فِي كَافِرٍ وَلَا يَنْصُرُ كَافِرًا عَلَى مُؤْمِنٍ وَإِنّ ذِمّةَ اللّهِ وَاحِدَةٌ يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ مَوَالِي بَعْضٍ دُونَ النّاسِ وَإِنّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنّ لَهُ النّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصِرِينَ عَلَيْهِمْ وَإِنّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ لَا يُسَالَمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ . فِي سَبِيلِ اللّهِ إلّا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ وَإِنّ كُلّ غَازِيَةٍ غَزَتْ مَعَنَا يَعْقُبُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ يُبِيءُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا نَالَ دِمَاءَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتّقِينَ عَلَى أَحْسَنِ هَدْيٍ وَأَقْوَمِهِ وَإِنّهُ لَا يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالًا لِقُرَيْشِ وَلَا نَفْسًا ، وَلَا يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ وَإِنّهُ مَنْ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيّنَةٍ فَإِنّهُ قُوّدَ بِهِ إلّا أَنْ يَرْضَى وَلِيّ الْمَقْتُولِ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ كَافّةً وَلَا يَحِلّ لَهُمْ إلّا قِيَامٌ عَلَيْهِ وَإِنّهُ لَا يَحِلّ لِمُؤْمِنِ أَقَرّ بِمَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَآمَنَ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَنْصُرَ مُحْدِثًا ، وَلَا يُؤْوِيهِ وَأَنّهُ مَنْ نَصَرَهُ أَوْ آوَاهُ فَإِنّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللّهِ وَغَضَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ وَإِنّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ مَوَالِيهمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي النّجّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَإِنّ جَفْنَةَ بَطْنٍ مِنْ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّ لِبَنِي الشّطَيْبَةِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ الْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ وَإِنّ مَوَالِيَ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّ بِطَانَةَ يَهُودَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا بِإِذْنِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّهُ لَا يَنْحَجِزُ عَلَى ثَأْرِ جُرْحٍ وَإِنّهُ مَنْ فَتَكَ فَبِنَفْسِهِ فَتَكَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَبَرّ هَذَا ، وَإِنّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتَهُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتَهُمْ وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْحَ وَالنّصِيحَةَ وَالْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ وَإِنّهُ لَمْ يَأْثَمْ امْرِئِ بِحَلِيفِهِ وَإِنّ النّصْرَ لِلْمَظْلُومِ وَإِنّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ وَإِنّ يَثْرِبَ حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَإِنّ الْجَارَ كَالنّفْسِ غَيْرُ مُضَارٍ وَلَا آثِمٌ وَإِنّهُ لَا يُجَارُ حُرْمَةٌ إلّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا ، وَإِنّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ فَإِنّ مَرَدّهُ [ ص 350 ] عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ وَإِنّهُ لَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا ، وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ ، وَإِذَا دُعُوا إلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ فَإِنّهُمْ يُصْلِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ وَإِنّهُمْ إذَا دُعُوا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إلّا مَنْ حَارَبَ فِي الدّينِ عَلَى كُلّ أُنَاسٍ حِصّتُهُمْ مِنْ جَانِبِهِمْ الّذِي قَبْلَهُمْ وَإِنّ يَهُودَ الْأَوْسِ ، مَوَالِيهمْ وَأَنْفُسُهُمْ عَلَى مِثْلِ مَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مَعَ الْبِرّ الْمَحْضِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ مَعَ الْبِرّ الْمُحَسّنِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وإَنّ الْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ لَا يَكْسِبُ كَاسِبٌ إلّا عَلَى نَفْسِهِ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَصْدَقِ مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ وَإِنّهُ لَا يَحُولُ هَذَا الْكِتَابُ دُونَ ظَالِمٍ وَآثِمٍ وَإِنّهُ مَنْ خَرَجَ آمِنٌ وَمَنْ قَعَدَ آمِنٌ بِالْمَدِينَةِ إلّا مَنْ ظَلَمَ أَوْ أَثِمَ وَإِنّ اللّهَ جَارٌ لِمَنْ بَرّ وَاتّقَى ، وَمُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَSكِتَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ
[ ص 346 ] شَرَطَ لَهُمْ فِيهِ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ وَأَمّنَهُمْ فِيهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَكَانَتْ أَرْضُ يَثْرِبَ لَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْأَنْصَارِ بِهَا ، فَلَمّا كَانَ سَيْلُ الْعَرِمِ ، وَتَفَرّقَتْ سَبَأٌ نَزَلَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ بِأَمْرِ طَرِيفَةَ الْكَاهِنَةِ وَأَمْرِ عِمْرَانَ بْنِ عَامِرٍ فَإِنّهُ كَانَ كَاهِنًا أَيْضًا وَبِمَا سَجَعَتْ بِهِ لِكُلّ قَبِيلَةٍ مِنْ سَبَأٍ ، فَسَجَعَتْ لِبَنِي حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ . وَهُمْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَنْ يَنْزِلُوا يَثْرِبَ ذَاتَ النّخْلِ فَنَزَلُوهَا عَلَى يَهُودَ وَحَالَفُوهُمْ وَأَقَامُوا مَعَهُمْ فَكَانَتْ الدّارُ وَاحِدَةً .
مَتَى دَخَلَ الْيَهُودُ يَثْرِبَ ؟
وَالسّبَبُ فِي كَوْنِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ وَسَطَ أَرْضِ الْعَرَبِ مَعَ أَنّ الْيَهُودَ أَصْلُهُمْ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ أَنّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَتْ تُغِيرُ عَلَيْهِمْ الْعَمَالِيقُ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ ، وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ يَثْرِبَ وَالْجُحْفَةَ إلَى مَكّةَ ، فَشَكَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ ذَلِكَ إلَى مُوسَى ، فَوَجّهَ إلَيْهِمْ جَيْشًا ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ وَلَا يُبْقُوا مِنْهُمْ أَحَدًا ، فَفَعَلُوا وَتَرَكُوا مِنْهُمْ ابْنَ مَلِكٍ لَهُمْ كَانَ غُلَامًا حَسَنًا ، فَرَقّوا لَهُ وَيُقَالُ لِلْمَلِكِ الْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ فِيمَا ذَكَرَ الزّبَيْرُ ثُمّ رَجَعُوا إلَى الشّامِ وَمُوسَى قَدْ مَاتَ فَقَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لَهُمْ قَدْ عَصَيْتُمْ وَخَالَفْتُمْ فَلَا نُئْوِيكُمْ فَقَالُوا : نَرْجِعُ إلَى الْبِلَادِ الّتِي غَلَبْنَا عَلَيْهَا فَنَكُونُ بِهَا ، فَرَجَعُوا إلَى يَثْرِبَ ، فَاسْتَوْطَنُوهَا وَتَنَاسَلُوا بِهَا إلَى أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ بَعْدَ سَيْلِ الْعَرِمِ . هَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ الْمَعْرُوفِ بِكِتَابِ الْأَغَانِي ، وَإِنْ كَانَ الزّبَيْرُ قَدْ ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا صَحِيحًا لِبُعْدِ عُمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ وَاَلّذِي قَالَ غَيْرُهُ إنّ طَائِفَةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ لَحِقَتْ بِأَرْضِ الْحِجَازِ حِينَ دَوّخَ بُخْتُ نَصّرَ الْبَابِلِيّ فِي بِلَادهمْ وَجَاسَ خِلَالَ دِيَارِهِمْ فَحِينَئِذٍ لَحِقَ مَنْ لَحِقَ مِنْهُمْ بِالْحِجَازِ كَقُرَيْظَةَ وَالنّضِيرِ وَسَكَنُوا خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةَ ، وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
اسْمُ يَثْرِبَ
[ ص 347 ] يَثْرِبُ فَاسْمُ رَجُلٍ نَزَلَ بِهَا أَوّلَ مِنْ الْعَمَالِيقِ فَعُرِفَتْ بِاسْمِهِ وَهُوَ يَثْرِبُ بْنُ قاين بْن عِبِيلِ بْنِ مهلايل بْنِ عَوَصِ بْنِ عِمْلَاقِ بْنِ لَاوَذِ بْنِ إرَمَ ، وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ اخْتِلَافٌ وَبَنُو عِبِيلٍ هُمْ الّذِينَ سَكَنُوا الْجُحْفَةَ فَأَجْحَفَتْ بِهِمْ السّيُولُ وَبِذَلِكَ سُمّيَتْ الْجُحْفَةَ ، فَلَمّا احْتَلّهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَرِهَ لَهَا هَذَا الِاسْمَ أَعْنِي : يَثْرِبَ لِمَا فِيهِ مِنْ لَفْظِ التّثْرِيبِ وَسَمّاهَا طِيبَةَ وَالْمَدِينَةَ . فَإِنْ قُلْت : وَكَيْفَ كَرِهَ اسْمًا ذَكَرَهَا اللّهُ فِي الْقُرْآنِ بِهِ وَهُوَ الْمُقْتَدِي بِكِتَابِ اللّهِ وَأَهْلٌ أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْ تَسْمِيَةِ اللّهِ ؟ قُلْنَا : إنّ اللّهَ - سُبْحَانَهُ - إنّمَا ذَكَرَهَا بِهَذَا الِاسْمِ حَاكِيًا عَنْ الْمُنَافِقِينَ إذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ { يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ } [ الْأَحْزَابُ : 13 ] فَنَبّهَهُ بِمَا حَكَى عَنْهُمْ أَنّهُمْ قَدْ رَغِبُوا عَنْ اسْمٍ سَمّاهَا اللّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَأَبَوْا إلّا مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي جَاهِلِيّتِهِمْ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ سَمّاهَا : الْمَدِينَةَ ، فَقَالَ غَيْرَ حَاكٍ عَنْ أَحَدٍ : { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ } [ التّوْبَةُ 120 ] ، وَفِي الْخَبَرِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ إنّا نَجِدُ فِي التّوْرَاةِ يَقُولُ اللّهُ لِلْمَدِينَةِ يَا طَابَةُ يَا طَيْبَةُ يَا مِسْكِينَةُ لَا تَقْبَلِي الْكُنُوزَ أَرْفَعْ أَجَاجِيرَكِ عَلَى أَجَاجِيرِ الْقُرَى وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَرْفَعُهُ وَرُوِيَ أَيْضًا أَنّ لَهَا فِي التّوْرَاةِ أَحَدَ عَشَرَ اسْمًا : الْمَدِينَةُ وَطَابَةُ وَطِيبَةُ وَالْمِسْكِينَةُ وَالْجَابِرَةُ وَالْمُحِبّةُ وَالْمَحْبُوبَةُ وَالْقَاصِمَةُ وَالْمَجْبُورَةُ وَالْعَذْرَاءُ وَالْمَرْحُومَةُ وَرُوِيَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ { وَقُلْ رَبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } [ الْإِسْرَاءُ 80 ] أَنّهَا الْمَدِينَةُ ، وَأَنّ مُخْرَجَ صِدْقٍ مَكّةُ وَ { سُلْطَانًا نَصِيرًا } الْأَنْصَارُ .
تَفْسِيرُ عَلَى رِبْعَاتِهِمْ
وَفِي الْكِتَابِ بَنُو فُلَانٍ عَلَى رِبْعَاتِهِمْ . هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ ابْنِ بُكَيْرٍ عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ [ مِنْ عُقَيْلٍ الْأَبْلِيّ ] عَنْ الزّهْرِيّ وَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ صَالِحٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَ رِبَاعَتِهِمْ . الْأَلِفُ بَعْدَ الْبَاءِ ثُمّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : يُقَالُ فُلَانٌ عَلَى رِبَاعِهِ قَوْمُهُ إذَا كَانَ نَقِيبَهُمْ وَوَافِدَهُمْ . [ ص 348 ] قَالَ الْمُؤَلّفُ وَكَسْرُ الرّاءِ فِيهِ الْقِيَاسُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ، لِأَنّهَا وِلَايَةٌ وَإِنْ جَعَلَ الرّبَاعَةَ مَصْدَرًا فَالْقِيَاسُ فَتْحُ الرّاءِ أَيْ عَلَى شَأْنِهِمْ وَعَادَتِهِمْ مِنْ أَحْكَامِ الدّيَاتِ وَالدّمَاءِ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى : جَمْعُ : مَعْقَلَةٍ وَمَعْقَلَةٌ مِنْ الْعَقْلِ وَهُوَ الدّيَةُ .
مِنْ كَلِمَاتِ الْكِتَابِ
وَقَالَ فِي الْكِتَابِ وَأَلّا يُتْرَكَ مُفْرَحٌ وَفَسّرَهُ ابْنُ هِشَامٍ كَمَا فَسّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَنّهُ الّذِي أَثْقَلَهُ الدّيْنُ وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ الّذِي أَنْشَدَهُ أَبُو عُبَيْدٍ :
إذَا أَنْتَ لَمْ تَبْرَحْ تُؤَدّي أَمَانَةً
وَتَحْمِلُ أُخْرَى أَفْرَحَتْك الْوَدَائِعُ
أَيْ أَثْقَلَتْك يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَفْعَالِ السّلْبِ أَيْ سَلَبَتْك الْفَرَحَ كَمَا قِيلَ أَقْسَطَ الرّجُلُ إذَا عَدَلَ أَيْ أَزَالَ الْقِسْطَ وَهُوَ الِاعْوِجَاجُ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ مُبْدَلَةً مِنْ بَاءٍ فَيَكُونُ مِنْ الْبَرْحِ وَهُوَ الشّدّةُ تَقُولُ لَقِيت مِنْ فُلَانٍ بَرْحًا أَيْ شِدّةً وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ رِوَايَةً أُخْرَى مُفْرَجٌ بِالْجِيمِ وَذَكَرَ فِي مَعْنَاهُ أَقْوَالًا ، مِنْهَا أَنّهُ الّذِي لَا دِيوَانَ لَهُ وَمِنْهَا : أَنّهُ الْقَتِيلُ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ لَا يُدْرَى مَنْ قَتَلَهُ وَمِنْهَا أَنّهُ فِي مَعْنَى الْمُقْرَحِ بِالْحَاءِ أَيْ الّذِي لَا شَيْءَ لَهُ وَقَدْ أَثْقَلَهُ الدّيْنُ أَوْ نَحْوَ هَذَا فَيُقْضَى عَنْهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ . [ ص 349 ] يُقَالُ وَتِغَ الرّجُلُ وَأَوْتَغَهُ غَيْرُهُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ . وَمَعْنَى قَوْلِهِ يُبِيءُ هُوَ مِنْ الْبَوَاءِ أَيْ الْمُسَاوَاةُ وَمِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهَلٍ حِينَ قَتَلَ ابْنًا لِلْحَارِثِ بْنِ عَبّادٍ بُؤْبِشِسْعِ نَعْلِ كُلَيْبٍ . [ ص 350 ] إنّ الْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ أَيْ إنّ الْبِرّ وَالْوَفَاءَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَاجِزًا عَنْ الْإِثْمِ . وَقَوْلُهُ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ أَيْ إنّ اللّهَ وَحِزْبَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الرّضَى بِهِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ إنّمَا كَتَبَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - هَذَا الْكِتَابَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الْجِزْيَةُ وَإِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ ضَعِيفًا . قَالَ وَكَانَ لِلْيَهُودِ إذْ ذَاكَ نَصِيبٌ فِي الْمَغْنَمِ إذَا قَاتَلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ النّفَقَةَ مَعَهُمْ فِي الْحُرُوبِ .
الْمُؤَاخَاةُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَآخَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، فَقَالَ - فِيمَا بَلَغَنَا ، وَنَعُوذُ بِاَللّهِ أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ تَآخَوْا فِي اللّهِ أَخَوَيْنِ أَخَوَيْنِ ثُمّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ هَذَا أَخِي فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَيّدَ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامَ [ ص 351 ] وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَخَوَيْنِ وَكَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، أَسَدُ اللّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ، مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَوَيْنِ وَإِلَيْهِ أَوْصَى حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُد ٍ حِينَ حَضَرَهُ الْقِتَالُ إنْ حَدَثَ بِهِ حَادِثُ الْمَوْتِ وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ذُو الْجَنَاحَيْنِ الطّيّارُ فِي الْجَنّةِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ أَخَوَيْنِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَئِذٍ غَائِبًا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَخَارِجَةُ بْنُ زُهَيْرٍ ، أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، أَخَوَيْنِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَعِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ أَخَوَيْنِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْجَرّاحِ وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذِ بْنِ النّعْمَانِ ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ، أَخَوَيْنِ . وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَسَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ ، أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، أَخَوَيْنِ . وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ ، وَسَلَامَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقّشٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَخَوَيْنِ . وَيُقَالُ بَلْ الزّبَيْرُ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ أَخَوَيْنِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ ، وَأَوْسُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَخُو بَنِي النّجّارِ أَخَوَيْنِ [ ص 352 ] وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، أَخُو بَنِي سَلَمَةَ ، أَخَوَيْنِ . وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ ، وَأُبَيّ بْنُ كَعْبٍ ، أَخُو بَنِي النّجّارِ : أَخَوَيْنِ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ ، وَأَبُو أَيّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ ، أَخُو بَنِي النّجّارِ أَخَوَيْنِ وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنُ رَبِيعَةَ وَعَبّادُ بْنُ بِشْرِ بْنِ وَقّشٍ ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَخَوَيْنِ . وَعَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ ، أَخُو بَنِي عَبْدِ عَبْسٍ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَخَوَيْنِ وَيُقَالُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشّمّاسِ أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، خَطِيبُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ : أَخَوَيْنِ . وَأَبُو ذَرّ وَهُوَ بُرَيْرُ بْنُ جُنَادَةَ الْغِفَارِيّ وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو ، الْمُعْنِقُ لِيَمُوتَ أَخُو بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ : أَخَوَيْنِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَسَمِعْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ أَبُو ذَرّ جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بُلْتُعَةَ ، حَلِيفَ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أَخَوَيْنِ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيّ ، وَأَبُو الدّرْدَاءِ ، عُوَيْمِرُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، أَخَوَيْنِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عُوَيْمِرُ بْنُ عَامِرٍ وَيُقَالُ عُوَيْمِرُ بْنُ زَيْدٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبِلَالٌ ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، مُؤَذّنُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو رُوَيْحَةَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْخَثْعَمِيّ ، ثُمّ أَحَدُ الْفَزَعِ أَخَوَيْنِ . فَهَؤُلَاءِ مَنْ سُمّيَ لَنَا ، مِمّنْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ آخَى بَيْنَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ .
بِلَالٌ يُوصِي بِدِيوَانِهِ لِأَبِي رُوَيْحَةَ
فَلَمّا دَوّنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ الدّوَاوِينَ بِالشّامِ وَكَانَ بِلَالٌ قَدْ خَرَجَ إلَى الشّامِ ، فَأَقَامَ بِهَا مُجَاهِدًا ، فَقَالَ عُمَرُ لِبِلَالِ إلَى مَنْ تَجْعَلُ دِيوَانَك يَا بِلَالُ ؟ قَالَ مَعَ أَبِي رُوَيْحَةَ لَا أُفَارِقُهُ أَبَدًا ، لِلْأُخُوّةِ الّتِي كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَقَدَ بَيْنَهُ وَبَيْنِي ، فَضُمّ إلَيْهِ وَضُمّ دِيوَانُ الْحَبَشَةِ إلَى خَثْعَمٍ ، لِمَكَانِ بِلَالٍ مِنْهُمْ فَهُوَ فِي خَثْعَمٍ إلَى هَذَا الْيَوْمِ بِالشّامِ . أَبُو أُمَامَةَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَهَلَكَ فِي تِلْكَ الْأَشْهُرِ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ ، وَالْمَسْجِدُ يُبْنَى ، أَخَذَتْهُ الذّبْحَةُ أَوْ الشّهْقَةُ . [ ص 353 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ " بِئْسَ الْمَيّتُ أَبُو أُمَامَةَ لَيَهُودُ وَمُنَافِقُو الْعَرَبِ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ نَبِيّا لَمْ يَمُتْ صَاحِبُهُ وَلَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي وَلَا لِصَاحِبَيّ مِنْ اللّهِ شَيْئًا " . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ : أَنّهُ لَمّا مَاتَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ ، اجْتَمَعَتْ بَنُو النّجّارِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ أَبُو أُمَامَةَ نَقِيبَهُمْ فَقَالُوا لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هَذَا قَدْ كَانَ مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْت ، فَاجْعَلْ مِنّا رَجُلًا مَكَانَهُ يُقِيمُ مِنْ أَمْرِنَا مَا كَانَ يُقِيمُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُمْ " أَنْتُمْ أَخْوَالِي ، وَأَنَا بِمَا فِيكُمْ ، وَأَنَا نَقِيبُكُمْ " وَكَرِهَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَخُصّ بِهَا بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ . فَكَانَ مِنْ فَضْلِ بَنِي النّجّارِ الّذِي يَعُدّونَ عَلَى قَوْمِهِمْ أَنْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَقِيبَهُمْ .Sالْمُؤَاخَاةُ بَيْنَ الصّحَابَةِ
فَصْلٌ [ ص 354 ] الْمَدِينَةَ ، لِيُذْهِبَ عَنْهُمْ وَحْشَةَ الْغُرْبَةِ وَيُؤْنِسَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْعَشِيرَةِ وَيَشُدّ أَزْرَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ [ ص 351 ] عَزّ الْإِسْلَامُ وَاجْتَمَعَ الشّمْلُ وَذَهَبَتْ الْوَحْشَةُ أَنْزَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ } [ الْأَنْفَالُ 75 ] أَعْنِي فِي الْمِيرَاثِ ثُمّ جَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ كُلّهُمْ إخْوَةً فَقَالَ { إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } يَعْنِي فِي التّوَادّ وَشُمُولِ الدّعْوَةِ . وَذَكَرَ مُؤَاخَاتَهُ بَيْنَ أَبِي ذَرّ وَالسّنْذِرِ بْنِ عَمْرٍو ، وَقَدْ ذَكَرْنَا إنْكَارَ الْوَاقِدِيّ لِذَلِكَ فِي آخِرِ حَدِيثِ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ .
نَسَبَ أَبِي الدّرْدَاءِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ مُؤَاخَاةَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدّرْدَاءِ وَأَبُو الدّرْدَاءِ اسْمُهُ عُوَيْمِرُ بْنُ عَامِرٍ وَقِيلَ عُوَيْمِرُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَقِيلَ عُوَيْمِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ أُمَيّةَ مِنْ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، أُمّهُ تَحِبّةُ بِنْتُ وَقْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْإِطَنَابَةِ وَامْرَأَتُهُ أُمّ الدّرْدَاءِ اسْمُهَا : خَيْرَةُ بِنْتُ أَبِي حَدْرَدٍ وَأُمّ الدّرْدَاءِ الصّغْرَى ، اسْمُهَا : جُمَانَةُ مَاتَ أَبُو الدّرْدَاءِ بِدِمَشْقَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ . [ ص 352 ] [ ص 353 ]
نَسَبُ الْفَزَعِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ مُؤَاخَاةَ أَبِي رُوَيْحَةَ وَبِلَالٍ وَسَمّاهُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ ، وَقَالَ هُوَ أَحَدُ الْفَزَعِ لَمْ يُبَيّنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا ، وَالْفَزَعُ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ هُوَ ابْنُ شَهْرَانَ بْنِ عِفْرِسِ بْنِ حُلْفِ بْنِ أَفْتَلَ وَأَفْتَلُ هُوَ خَثْعَمٌ . وَقَدْ تَقَدّمَ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ لِمَ سُمّيَ خَثْعَمًا وَهُوَ ابْنُ أَنْمَارٍ ، وَقَدْ تَقَدّمَ خِلَافُ النّسّابِينَ فِيمَا بَعْدَ أَنْمَارٍ . وَالْفَزَعُ هَذَا بِفَتْحِ الزّايِ وَأَمّا الْفَزْعُ بِسُكُونِهَا ، فَهُوَ الْفَزْعُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَبِيعَةَ [ بْنِ جَنْدَلٍ ] ، وَكَذَلِكَ الْفَزْعُ فِي خُزَاعَةَ ، وَفِي كَلْبٍ هُمَا سَاكِنَانِ أَيْضًا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَقَالَ الدّارَقُطْنِيّ : الْفَزَعُ بِفَتْحِ الزّايِ رَجُلٌ يَرْوِي عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَذُكِرَ آخَرُ فِي الرّوَاةِ أَيْضًا بِفَتْحِ الزّايِ يَرْوِي حَدِيثًا فِي الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَرْوِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَقَدَ لِأَبِي رُوَيْحَةَ الْخَثْعَمِيّ لِوَاءً عَامَ الْفَتْحِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ " مَنْ دَخَلَ تَحْتَ لِوَاءِ أَبِي رُوَيْحَةَ فَهُوَ آمِنٌ " .
مُؤَاخَاةُ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بُلْتُعَةَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ مُؤَاخَاةَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بُلْتُعَةَ وَعُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ وَقَالَ فِي حَاطِبٍ حَلِيفُ [ ص 354 ] بَنِي أَسَدٍ ، وَقَالَ غَيْرُهُ كَانَ عَبْدًا لِعُبَيْدِ اللّهِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ، وَقِيلَ كَانَ مِنْ مَذْحِجَ ، وَالْأَشْهَرُ أَنّهُ مِنْ لَخْمِ بْنِ عَدِيّ وَاسْمُ أَبِي بُلْتُعَةَ عَمْرُو بْنُ أَشَدّ بْنِ مُعَاذٍ . وَالْبُلْتُعَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ تَبَلْتَعَ الرّجُلُ إذَا تَظَرّفَ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبِ الْمُصَنّفِ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق