الاثنين، 14 مايو 2018

زاد المعاد ج4//2 ج4//2—وهو تابع لجزء 4 //1

ج4//2—وهو تابع لجزء 4  //1  

ج4//2—وهو تابع لجزء 4  //1  وذكر ابن إسحاق الذين بنوه، وهم إثنا عشر رجلاً، منهم: ثعلبةُ بن حاطب. وذكر عثمان بن سعيد الدارمى: حدَّثنا عبد الله بن صالح، حدَّثنى معاوية بن صالح، عن علىّ بن أبى طلحة، عن ابن عباس فى قوله:
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وكُفْراً}، هم أُناس من الأنصار ابتَنوْا مسجداً فقال لهم أبو عامر: ابنُوا مسجدكم، واستمِدُّوا ما استطعتم مِن قوة ومِن سلاح، فإنى ذاهبٌ إلى قَيْصرَ ملكِ الروم، فآتى بجند من الروم، فأُخْرِجُ محمداً وأصحابه، فلما فرغوا مِن مسجدهم، أتوا النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: إنَّا قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنُحب أن تُصَلِّى فيه، وتدعو بالبركة، فأنزلَ الله عَزَّ وجَلَّ: {لا تَقُمْ فِيهِ أبَداً، لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أوَّلِ يَوْمٍ} يعنى مسجد قُبَاء {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ}[التوبة: 108] إلى قوله: {فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ}[التوبة: 109] يعنى قواعده، {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ} يعنى: الشكَ {إلا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} يعنى بالموت
فصل: [فى خروج الناس لتلقيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند مقدمه المدينة ]
فلما دنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة، خرج الناس لتلقيه، وخرج النساءُ والصبيان والولائد يقلن:
طَلَعَ البَدْرُ عَلَيْنَا ... مِنْ ثَنِيَّاتِ الوَدَاعِ
وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا ... مَا دَعَا للهِ دَاعِى
وبعضُ الرواة يَهِمُ فى هذا ويقولُ: إنما كان ذلك عند مقدَمِه إلى المدينة من مكةَ، وهو وَهْمٌ ظاهر، لأن ثنياتِ الوداع إنما هى من ناحية الشام، لا يراها القادِمُ من مكة إلى المدينة، ولا يمرُّ بها إلا إذا توجَّه إلى الشام، فلما أشرف على المدينة، قال: "هذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّه".
فلما دَخلَ قال العباسُ: يا رسول الله؛ ائذن لى أمتدِحك. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قل: لا يَفْضُض اللهُ فَاكَ" فقال:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فى الظِّلاَلِ وَفِى ... مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرقُ
ثُمَّ هَبَطْتَ البِلادَ لاَ بَشَرٌ ... أَنْتَ وَلا مُضْغَةٌ وَلاَ عَلَقُ
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ ... أَلْجَمَ نَسْراً وَأَهْلَه الغَرَقُ
تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إلى رَحِمٍ ... إذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ
حَتَّى احْتَوَى بَيْتُكَ المُهَيْمِنُ مِن ... خِنْدِفَ عَلْيَا تَحْتَها النُّطُقُ
وَأَنْتَ لمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ ال ... أرض وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الأُفُقُ
فَنَحْنُ فى ذَلِك الضياءِ وَفى النْ ... ورِ وَسُبْلَ الرَّشَادِ نَخْتَرِق
فصل
ولما دخل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينَة، بدأ بالمسجد فصلَّى فيه ركعتين، ثم جلس للنَّاس، فجاءه المخلَّفون، فطفِقُوا يعتذِرون إليه، ويحلِفُون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، وَوَكَل سَرائِرَهم إلى الله،
وجاءه كعبُ بنُ مالك، فلما سلَّم عليه، تبسم تبسُّمَ المُغْضَبِ، ثم قال له: "تعال". قال: فجئتُ أمشى حتى جلستُ بين يديه، فقال لى:"ماخَلَّفَكَ، ألم تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهرَك"؟ فقلتُ: بَلَى إنى واللهِ لو جلستُ عندَ غيرِك من أهل الدنيا، لرأيتُ أن أخرُجَ مِن سخطه بعُذرٍ، ولقد أُعطِيتُ جدلاً، ولكنى واللهِ لقد عَلِمْتُ إن حدثتُك اليومَ حديثَ كذب تَرضى به علىَّ، ليوشِكَنَّ اللهُ أَن يُسْخِطَك عَلىَّ، ولئن
حدَّثْتُكَ حَديثَ صِدقٍ، تَجِدُ علىَّ فيه، إنِّى لأرجُو فيه عفوَ اللهِ عنى، واللهِ ما كان لى مِن عذر، واللهِ ما كنتُ قَطُّ أقوى ولا أيسرَ مِنى حين تخلَّفتُ عنك. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أما هذَا فَقَدْ صَدَقَ، فقُم حتى يقضِىَ اللهُ فيك". فقمتُ، وثار رِجالٌ من بنى سلمة، فاتبعونى يُؤنِّبونى، فقالوا لى: واللهِ ما علمناكَ كنتَ أذنبتَ ذنباً قبلَ هذا، ولقد عَجَزْتَ ألا تكونَ اعتذرتَ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما اعتذر إليه المخلَّفون، فقد كان كافيَك ذنبَك استغفارُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لك. قال: فواللهِ ما زالوا يُؤنبونى حتى أردتُ أن أرجع، فأكذِبَ نفسى، ثم قلتُ لهم: هل لقى هذا معى أحدٌ؟ قالوا: نعم رَجُلانِ قالا مِثْلَ ما قلتَ، فقيل لهما مثلَ ما قيل لك، فقلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرارة بنُ الربيع العامرى، وهِلالُ بنُ أُمية الواقفى، فذكروا لى رجلين صالِحين شهدا بدراً فيهما أُسوةٌ، فمضيتُ حين ذكروهما لى.
ونهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمينَ عن كلامِنا أيُّها الثَّلاثَةُ مِن بين مَنْ تخلَّفَ عنه، فاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وتغيَّروا لنا، حتى تنكرت لى الأرضُ، فما هى بالتى أعرِفُ، فلبثنا على ذلك خمسينَ ليلةً، فأما صاحباى، فاستكانا وقعدا فى بيوتِهما يَبكيانِ، وأما أنا فكنتُ أشبَّ القوم وأجلدَهم، فكنتُ أخرج، فأشهدُ الصلاةَ مع المسلمين، وأطوفُ فى الأسواق، ولا يُكلِّمنى أحد، وآتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأُسَلِّمُ عليه وهو فى مجلسه بعد الصلاة، فأقول فى نفسى: هل حرَّك شفتيه بردِّ السلام علىَّ أم لا؟ ثم أُصَلِّى قريباً منه، فأسارِقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتى، أقبل إلىَّ، وإذا التفتُّ نحوه، أعرضَ عنى، حتى إذا طالَ علىَّ ذلك مِن جفوة المسلمين، مشيتُ حتى
تسوَّرتُ جدار حائط أبى قتادة، وهو ابنُ عمى، وأحبُّ الناسِ إلىَّ، فسلَّمتُ عليه، فواللهِ ما ردَّ علىَّ السلامَ، فقلت: يا أبا قتادة؛ أنشدُك باللهِ، هل تعلَمُنى أُحِبُّ الله ورسولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فسكت، فعُدت، فناشدتُه، فسكت، فعُدت فناشدتُه، فقال: اللهُ ورَسُولُه أعلمُ، ففاضت عيناى، وتولّيتُ حتَّى تسورتُ الجِدَار.
فبينا أنا أمشى بسوق المدينة، إذا نَبَطِى من أنباطِ الشام ممن قَدِمَ بالطعام يَبيعه بالمدينة يقولُ: مَنْ يدُلُّ على كعبِ بْنِ مالك، فطفِقَ الناسُ يُشِيرونَ لهُ حتَّى إذا جاءنى، دفع إلىَّ كتاباً من ملك غَسَّان، فإذا فيه:
أما بعدُ.. فإنه بلغنى أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نُواسِك. فَقُلْتُ لما قرأتها: وهذا أيضاً مِن البلاء، فتيممتُ بها التنور، فسجرتُها حتى إذا مضت أربعون ليلةً مِن الخمسين، إذا رسولُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتينى، فقال: إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمُرُك أن تعتزِلَ امرأتَك، فقلتُ: أُطلقها أم ماذا؟ قال: لا ولكن اعتزلها ولا تقربْها، وأرسل إلى صاحبىَّ مثل ذلك، فقلتُ لامرأتى: الحقى بأهلك، فكونى عندهم حتى يَقْضِىَ اللهُ فى هذا الأمر، فجاءت امرأةُ هلال بن أُمية، فقالت: يا رسول الله؛ إنَّ هلالَ بنَ أُمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدُمه قال: "لا ولكن لا يقرَبُك"، قالت: إنه واللهِ ما بِه حركة إلى شىء، واللهِ ما زال يبكى منذ كان مِن أمره ما كان إلى يومه هذا، قال كعب: فقال لى بعضُ أهلى: لو استأذنتَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى امرأتك كما أذن لامرأة هِلال بن أُمية أن تخدُمه، فقلت: واللهِ لا أستأذِنُ فيها رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وما يُدرينى ما يقولُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا استأذنتُه فيها، وأنا رجل شاب، ولبثتُ بعد ذلك عشرَ ليالٍ حتى كَمُلَت لنا خمسون ليلةً من حين نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كلامنا، فلما صَلَّيتُ صلاةَ الفجر صُبْحَ خمسين ليلةً على سطح بيت من بيوتنا، بينا أنا جالس على الحال التى ذكر الله تعالى، قد ضاقت علىَّ نفسى، وضاقت علىَّ الأرضُ بما رحُبت، سمعتُ صوتَ صارخ أوفى على جبل سَلْعٍ بأعلى صوتِه: يا كعبَ ابنَ مالك؛ أبشر، فخررتُ ساجداً، فعرفتُ أن قد جاء فرجٌ مِن اللهِ، وآذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتوبة الله علينا حين صَلَّى الفجر، فذهب الناسُ يُبشرونَنا، وذهب قِبَلَ صاحبىَّ مبشرون، وركضَ إلىَّ رجل فرساً، وسعى ساع مِن أسلمَ، فأوفى على ذِرْوة الجبل، وكان الصوتُ أسرعَ مِن الفرس، فلما جاءنى الذى سمعتُ صوته يبشرنى، نزعتُ له ثوبىَّ فكسوتُه إياهما ببُشراه، واللهِ ما أملك غيرهما، واستعرتُ ثوبين، فلبستُهما، فانطلقتُ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتلقانى الناسُ فوجاً فوجاً يُهنئوننى بالتوبة يقولون: لِيهْنِكَ توبةُ الله عليك، قال كعب: حتى دخلتُ المسجد، فإذا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس حولَه الناس، فقام إلىَّ طلحةُ بنُ عُبيد الله يُهروِلُ حتى صافحنى وهنَّأنى، واللهِ ما قام إلىَّ رجل من المهاجرين غيره، ولستُ أنساها لِطلحة، فلما سلَّمتُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال وهو يَبْرُقُ وجهُه من السرور: "أَبْشِرْ بِخَيْر يَوْم مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ". قال قلتُ: أمِن عندك يا رسولَ الله، أم مِن عند الله؟ قال: "لا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ"، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سُرَّ استنار وجهُه حتى كأنه قِطعةُ قمر، وكنا نعرفُ ذلك منه، فلما جلستُ بين يديه، قلت: يا رسول الله؛ إنَّ مِن توبتى أن أنخلِع مِن مالى صَدَقة إلى الله، وإلى رسوله، فقال: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ"، قلت: فإنى أُمِسكُ سهمى الذى بخَيْبرَ. فقلتُ: يا رسول الله؛ إنَّ الله إنما نجانى بالصدق، وإنَّ من توبتى ألاَّ أُحَدِّثُ إلا
صدقاً ما بقيتُ، فواللهِ ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله فى صدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومى هذا ما أبلانى، واللهِ ما تعمدتُ بعد ذلك إلى يومى هذا كذباً، وإنى لأرجو أن يحفظنى الله فيما بقيتُ، فأنزلَ الله تعالى على رسوله: {لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}[التوبة: 117 ] إلى قوله :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة: 119]، فواللهِ ما أنعم الله علىَّ نعمة قَطُّ بعد أن هدانى للإسلام، أعظمَ فى نفسى من صدقى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن لا أكون كذبته، فأهْلِكَ كما هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، فإن الله قال للذين كذَبُوا حين أنزل الوحى شر ما قال لأحد قال: {سَيَحْلِفُونَ باللهِ لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ}[التوبة:95] إلى قوله: {فَإنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الفَاسِقِينَ}[التوبة: 96].
قال كعب: وكان تخلُّفنا أيُّها الثَّلاثَةُ عن أمر أُولئك الذين قبل منهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين حلفوا له، فبايعهم، واستغفر لهم، وأرجأ أمرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال الله: {وعَلى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ}[التوبة: 118]، وليس الذى ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفُه إيَّانا، وإرجاؤُه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه فقبل منه. وقال عثمان بن سعيد الدارمى: حدَّثنا عبد الله بن صالح، حدَّثنى معاوية
بن صالح، عن علىّ بن أبى طلحة، عن ابن عباس، فى قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً}[التوبة: 102] قال: كانوا عشرةَ رهط تخلَّفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى غزوة تَبُوك، فلما حضر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوثقَ سبعةٌ منهم أنفسَهم بسوارى المسجد، وكان يَمُرُّ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رجع فى المسجد عليهم، فلما رآهم قال: "مَنْ هؤلاء المُوثِقُون أنْفُسَهُم بالسوارِى"؟ قالوا: هذا أبو لُبابة وأصحابٌ له تخلَّفوا عنك يا رسولَ الله أوثقُوا أنفسَهم حتى يُطلِقَهُم النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعذرهم. قال: "وأنَا أُقْسِمُ بِاللهِ لا أُطْلِقُهُم وَلاَ أَعْذِرُهم حَتَّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الَّذِى يُطْلِقُهُمْ، رَغِبُوا عَنِّى وتَخَلَّفُوا عَن الغَزْو مَعَ المُسْلِمِينَ"، فلما بلغهم ذلك، قالوا: ونحن لا نُطْلِقُ أنفسنا حتى يكون اللهُ هو الذى يُطلقنا، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وعسى من الله واجب {إنه هو التواب الرحيم}. فلما نزلت، أرسل إليهم النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأطلقهم، وعذرهم، فجاؤوا بأموالهم، فقالوا: يا رسول الله؛ هذه أموالنا، فتصدَّق بها عنا، واستغفر لنا، قال: "ما أُمِرْتُ أنْ آخُذَ أمْوَالَكُم" فأنزل الله: {خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}[التوبة: 103] يقول: استغفر لهم، {إنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ فأخذ} مِنهم الصدقة، واستغفر لهم، وكان ثلاثة نَفَر لم يُوثقوا أنفسهم بالسوارى، فأُرجِئوا لا يَدرونَ أيُعذَّبون أم يُتاب عليهم؟ فأنزل الله تعالى: {لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ والمُهَاجِرِينَ والأَنْصارِ} إلى قَولِه: {وعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّ
فُواْ}. إلى قوله: {إنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرًَّحِيمُ} تابعَه عطية ابن سعد.
فصل: فى الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من الفقه والفوائد
فمنها: جوازُ القتال فى الشهر الحرام إن كان خروجُه فى رجب محفوظاً على ما قاله ابن إسحاق، ولكن ههنا أمر آخر، وهو أن أهلَ الكتاب لم يكونوا يُحرِّمون الشهرَ الحرام، بخلاف العرب، فإنها كانت تُحرِّمه، وقد تقدَّم أنَّ فى نسخ تحريمِ القتال فيه قولين، وذكرنا حُجَج الفريقين.
ومنها: تصريحُ الإمام للرعية، وإعلامُهم بالأمر الذى يضرُّهم سترُه وإخفاؤُه، ليتأهبوا له، ويُعِدُّوا له عُدته، وجوازُ ستر غيره عنهم والكناية عنه للمصلحة.
ومنها: أنَّ الإمام إذا استنفر الجيش، لزمهم النفيرُ، ولم يجز لأحد التخلفُ إلا بإذنه، ولا يُشترطُ فى وجوب النفير تعيينُ كلِّ واحد منهم بعينه، بل متى استنفر الجيش، لزم كُلَّ واحد منهم الخروجُ معه، وهذا أحدُ المواضع الثلاثة التى يصير فيها الجهاد فرض عَيْن. والثانى: إذا حضر العدوُّ البلد. والثالث: إذا حضر بين الصفين.
ومنها: وجوبُ الجهاد بالمال، كما يجبُ بالنفس، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وهى الصوابُ الذى لا ريب فيه، فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيقُ الأمر بالجهاد بالنفس فى القرآن وقرينُه، بل جاء مقدَّماً على الجهاد بالنفس فى كُلِّ موضع، إلا موضعاً واحداً، وهذا يدل على أن الجهاد به أهم وآكدُ من الجهاد بالنفس، ولا ريبَ أنه أحدُ الجهادين، كما قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ جَهَّزَ غَازِياً فَقَدْ غَزَا" ، فيجب على القادر عليه، كما
يجب على القادر بالبدن، ولا يَتِمُّ الجهاد بالبدن إلا ببذله، ولا ينتصر إلا بالعدد والعُدد، فإن لم يقدر أن يكثر العَدد، وجب عليه أن يمد بالمال والعُدة، وإذا وجب الحجُّ بالمال على العاجز بالبدن، فوجوبُ الجهاد بالمال أَوْلى وأَحرى.
ومنها: ما برز به عُثمانُ بن عفان من النفقةِ العظيمة فى هذه الغزوة، وسبق به الناس، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "غَفَرَ اللهُ لَكَ يا عُثْمَانُ ما أَسْرَرْتَ، ومَا أَعْلَنْتَ، ومَا أَخْفَيْتَ، وما أبْدَيْتَ". ثم قال: "ما ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ اليَوْمِ"، وكان قد أنفق ألفَ دينار، وثلاثمائة بعير بعُدتها وأحلاسها وأقتابِها.
ومنها: أن العاجزَ بماله لا يُعذرُ حتى يَبْذُلَ جهده، ويتحقَّقَ عجزُهُ، فإن الله سبحانه إنما نفى الحَرَجَ عن هؤلاء العاجزين بعد أن أتَوْا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليحملهم، فقال:{ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}، فرجعوا يبكون لما فاتهم من الجهاد، فهذا العاجز الذى لا حَرَج عليه.
ومنها: استخلافُ الإمام إذا سافر رجلاً من الرعية على الضعفاء، والمعذورين، والنساء، والذُرِّية، ويكون نائبه مِن المجاهدين، لأنه من أكبر العون لهم. وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستخلِف ابنَ أُمِّ مكتوم، فاستخلفه بضعَ عشرة مرة، وأما فى غزوة تَبُوك.
فالمعروفُ عند أهل الأثر أنه استخلف علىَّ ابن أبى طالب، كما فى "الصحيحين" عن سعد بن أبى وقاص، قال: خلَّف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً رضى الله عنه فى غزوة تَبُوك، فقال: يا رسول الله؛ تُخَلِّفُنى مَعَ النساءِ والصبيان، فقال: "أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ
مِنِّى بِمَنْزِلَةِ هارُونَ مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ نَبِىَّ بَعْدِى". ولكن هذه كانت خلافةً خاصة على أهله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما الاستخلافُ العام، فكان لمحمد بن مسلمة الأنصارى، ويدل على هذا أن المنافقين لما أرجفُوا به، وقالوا: خلَّفه استثقالاً، أخذ سلاحه ثم لحق بالنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبره، فقال: "كَذَبُوا، ولكِنْ خَلَّفْتُكَ لِما تَرَكْتُ وَرائى، فارْجعْ فاخْلُفْنى فى أَهْلى وَأَهْلِكَ".
ومنها: جواز الخَرْصِ للرُّطَبِ على رؤوس النخل، وأنه من الشرع، والعمل بقول الخارص، وقد تقدَّم فى غزاة خَيْبَر، وأن الإمام يجوز أن يخرِصَ بنفسه، كما خرصَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديقة المرأة.
ومنها أنَّ الماء الذى بآبار ثمود، لا يجوز شُربه، ولا الطبخُ منه، ولا العجينُ به، ولا الطهارةُ به، ويجوز أن يُسقى البهائم إلا ما كان من بئر الناقة. وكانت معلومةً باقية إلى زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم استمر عِلْمُ الناسِ بها قرناً بعد قرن إلى وقتنا هذا، فلا يرِدُ الركوبُ بئراً غيرها، وهى مطويَّةٌ محكمة البناء، واسعة الأرجاء، آثار العِتق عليها بادية، لا تشتبِه بغيرها.
ومنها: أنَّ مَن مرَّ بديار المغضوب عليهم والمعذَّبين، لم ينبغ له أن يدخُلَها، ولا يُقيم بها، بل يُسرع السير، ويتقنَّع بثوبه حتى يُجاوِزَها، ولا يدخل عليهم إلا باكياً معتبراً.
ومن هذا إسراعُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السير فى وادى مُحَسِّر بين مِنَى وعَرَفة، فإنه المكانُ الذى أهلك الله فيه الفيلَ وأصحابه.
ومنها: أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجمعُ بين الصلاتين فى السفر، وقد جاء جمعُ التقديم فى هذه القصة فى حديث معاذ، كما تقدَّم، وذكرنا عِلَّة الحديث.
ومَن أنكره، ولم يجئ جمع التقديم عنه فى سفر إلا هذا، وصح عنه جمعُ التقديمِ بعَرَفة قبل دخوله إلى عَرَفة، فإنه جَمَعَ بين الظهر والعصر فى وقت الظهر، فقيل: ذلك لأجل النُّسُك، كما قال أبو حنيفة. وقيل: لأجل السفر الطويل، كما قاله الشافعى وأحمد. وقيل: لأجل الشغل، وهو اشتغالُه بالوقوف، واتصالُه إلى غروب الشمس. قال أحمد: يجمع للشغل، وهو قول جماعة من السَّلَف والخَلَف، وقد تقدَّم.
ومنها: جوازُ التَّيَمُم بالرمل، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَصحابَه، قطعوا الرمال التى بين المدينة وتَبُوك، ولم يحملوا معهم تراباً بلا شك، وتلك مفاوز مُعْطِشة شكوا فيها العطشَ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقطعاً كانوا يتيممون بالأرض التى هم فيها نازلون، هذا كُلُّه مما لا شك فيه مع قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِى الصَّلاةُ، فَعِنْدَهُ مَسْجِدُه وَطَهُورُه".
ومنها: أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقام بتَبُوك عشرين يوماً يَقْصُر الصلاة، ولم يَقل للأُمَّة: لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثرَ من ذلك، ولكن اتفقت إقامتُه هذه المدة، وهذه الإقامة فى حال السفر لا تخرج عن حكم السفر، سواءٌ طالت أو قصرت إذا كان غيرَ مستوطن، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع.
وقد اختلف السَّلَفُ والخَلَف فى ذلك اختلافاً كثيراً، ففى "صحيح البخارى" عن ابن عباس، قال: أقامَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى بعض أسفاره تسعَ عشرةَ يُصلِّى ركعتين، فنحن إذا أقمْنا تِسْعَ عشرةَ نُ
صَلِّى ركعتين، وإن زدنا على ذلك أتممنا، وظاهرُ كلام أحمد أن ابن عباس أراد مدة مقامه بمكة زمنَ الفتح، فإنه قال: أقام رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة ثمان عشرة زمنَ الفتح، لأنه أراد حُنَيْناً، ولم يكن ثَمَّ أجمعَ المُقام، وهذه إقامته التى رواها ابنُ عباس. وقال غيرُه: بل أراد ابنُ عباس مقامه بتَبُوك، كما قال جابر بن عبد الله: أقام النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتَبُوك عشرينَ يوماً يقصُر الصلاة، رواه الإمام أحمد فى "مسنده".
وقال عبد الرحمن بن المِسور بن مَخْرَمَة: أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة يقصُرُها سعد ونُتِمُّها.
وقال نافعُ: أقام ابنُ عمر بأذَربيجَانَ ستةَ أشهر يُصَلِّى ركعتين، وقد حال الثلجُ بينه وبين الدخول.
وقال حفصُ بن عُبيد الله: أقام أنسُ بنُ مالك بالشام سنتين يُصَلِّى صلاةَ
المسافر.
وقال أنسُ: أقام أصحابُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَامَهُرْمُزَ سَبعة أشهر يقصُرون الصلاة.
وقال الحسن: أقمتُ مع عبد الرحمن بن سَمُرة بكابُل سنتينِ يقصرُ الصلاة ولا يجمع.
وقال إبراهيم: كانوا يُقيمون بالرَّىِّ السنة، وأكثر من ذلك، وسجستان السنتين.
فهذا هَدْى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه كما ترى، وهو الصوابُ.
وأما مذاهبُ الناس، فقال الإمام أحمد: إذا نوى إقامةَ أربعة أيام، أتم، وإن نوى دونها، قصر، وحمل هذه الآثار على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه لم يُجمعوا الإقامة ألبتة، بل كانوا يقُولون: اليوم نخرج، غداً نخرج. وفى هذا نظر لا يخفى، فإنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتح مكة، وهى ما هى، وأقام فيها يُؤسِّسُ قواعِدَ الإسلام، ويهدِمُ قواعِدَ الشِّرك، ويُمهِّد أمر ما حولها مِن العرب، ومعلوم قطعاً أن هذا يحتاج إلى إقامة أيام لا يتأتَّى فى يوم واحد، ولا يومين، وكذلك إقامتُه بتَبُوك، فإنه أقام ينتظر العدو، ومن المعلوم قطعاً، أنه كان بينه وبينهم عِدَّةُ مراحل يحتاج قطعها إلى أيام، وهو يعلم
أنهم لا يُوافون فى أربعة أيام، وكذلك إقامة ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصُر الصلاة من أجل الثلج، ومن المعلوم أن مثل هذا الثلج لا يتحللُ ويذوب فى أربعة أيام، بحيث تنفتح الطُّرُق، وكذلك إقامة أنس بالشام سنتين يقصُر، وإقامةُ الصحابة بِرَامَهُرْمُزَ سبعة أشهر يقصُرون، ومن المعلوم أن مثل هذا الحِصار والجهاد يُعلَم أنه لا ينقضى فى أربعة أيام. وقد قال أصحاب أحمد: إنه لو أقام لجهاد عدو، أو حبس سلطان، أو مرض، قصر، سواء غلب على ظنِّه انقضاءُ الحاجة فى مدة يسيرة أو طويلة، وهذا هو الصواب، لكن شرطوا فيه شرطاً لا دليل عليه من كتاب، ولا سُنَّة، ولا إجماع، ولا عمل الصحابة. فقالُوا: شرط ذلك احتمالُ انقضاء حاجته فى المدة التى لا تقطع حكم السفر، وهى ما دُون الأربعة الأيام، فيقال: من أين لكم هذا الشرط، والنبىُّ لما أقام زيادة على أربعة أيام يقصُر الصلاة بمكة وتَبُوك لم يقل لهم شَيْئاً، ولم يُبين لهم أنه لم يَعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام، وهو يعلمُ أنهم يقتدون به فى صلاته، ويتأسَّوْنَ به فى قصرها فى مدة إقامته، فلم يقل لهم حرفاً واحداً: لا تقصروا فوق إقامة أربع ليال، وبيان هذا مِن أهم المهمات، وكذلك اقتداءُ الصحابة به بعدَه، ولم يقولوُا لمن صَلَّى معهم شيئاً من ذلك.
وقال مالك والشافعى: إنْ نوى إقامةَ أكثرَ مِن أربعة أيام أتمَّ، وإن نوى دونها قصر.
وقال أبو حنيفة: إنْ نوى إقامة خمسة عشر يوماً أتمَّ، وإن نوى دونها قصر، وهو مذهب الليث بنِ سعد، ورُوى عن ثلاثة من الصحابة: عمر، وابنه، وابن عباس. وقال سعيد بن المسيِّب: إذا أقمتَ أربعاً فصَلِّ أربعاً، وعنه: كقول أبى حنيفة.
وقال علىُّ بن أبى طالب: إنْ أقامَ عشراً، أتمَّ، وهو روايةٌ عن ابن عباس.
وقال الحسن: يقصُر ما لم يقدَم مصراً.
وقالت عائشةُ: يقصُر ما لم يضع الزاد والمزاد.
والأئمة الأربعة متفقون على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاءها يقول: اليوم أخرج، غداً أخرج، فإنه يقصر أبداً، إلا الشافعىّ فى أحد قوليه، فإنه يقصُر عنده إلى سبعة عشر، أو ثمانية عشر يوماً، ولا يقصُر بعدها. وقد قال ابن المنذر فى "إشرافه": أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يُجْمِع إقامة وإن أتى عليه سنون.
فصل
ومنها: جوازُ بلِ استحبابُ حِنْث الحالف فى يمينه إذا رأى غيرَها خيراً منها، فيكفِّرُ عن يمينه، ويفعلُ الذى هو خير، وإن شاء قدَّم الكَفَّارة على الحِنث، وإن شاء أخَّرها، وقد رُوى حديث أبى موسى هذا: "إلاَّ أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ أَخْيَرُ، وتحلَّلتُها"، وفى لفظ: "إلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينى وَأَتَيْتُ الَّذِى هُوَ أَخْيَرُ"، وفى لفظ: "إلاَّ أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينى"، وكلُّ هذه الألفاظ فى "الصحيحين"، وهى تقتضى عدم الترتيب.
وفى السنن من حديث عبد الرحمن بن سمرة، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا،. فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ ائْتِ الَّذى هُوَ خَيْرٌ ". وأصله فى "الصحيحين"، فذهب أحمد، ومالك،
والشافعى إلى جواز تقديم الكَفَّارة على الحِنث، واستثنى الشافعىُّ التكفيرَ بالصوم، فقال: لا يجوزُ التقديمُ، ومنع أبو حنيفة تقديمَ الكفَّارة مطلقاً.
فصل
ومنها: انعقادُ اليمين فى حال الغضب إذا لم يَخْرُج بصحابه إلى حد لا يعلم معه ما يقول، وكذلك ينفُذ حكمه، وتَصِحُّ عقُودُه، فلو بلغ به الغضبُ إلى حد الإغلاق، لم تنعقِدْ يمينه ولا طلاقه. قال أحمد فى رواية حنبل فى حديث عائشة: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لا طَلاَقَ وَلا عَتَاقَ فى إغْلاَقٍ"، يريد الغضبَ.
فصل
ومنها: قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أنا حملتُكم، ولكن الله حملَكم "، قد يتعلق به الجبرىُّ، ولا متعلق له به، وإنما هذا مثل قوله: "واللهِ لا أُعْطى أحَداً شَيْئاً، ولا أَمْنَعُ، وإنَّما أَنَا قَاسِمٌ، أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ"، فإنه عبد الله ورسوله،
إنما يتصرف بالأمر، فإذا أُمِرَه ربه بشىءٍ، نفذه، فالله هو المعطى، والمانع، والحامل، والرسول منفذ لما أمر به. وأما قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى}[الأنفال: 17] ، فالمرادُ به القبضةُ من الحصباء التى رمى بها وجوهَ المشركين، فوصلَت إلى عُيون جميعهم، فأثبتَ اللهُ سبحانه له الرمىَ باعتبار النبذِ والإلقاء، فإنه فعله، ونفاه عنه باعتبار الإيصال إلى جميع المشركين، وهذا فعلُ الرب تعالى لا تَصِلُ إليه قُدْرَةُ العبد، والرمىُ يُطلق على الخَذف وهو مبدؤه، وعلى الإيصال، وهو نهايتُه.
فصل
ومنها: تركُه قتل المنافقين، وقد بلغه عنهم الكفرُ الصريحُ، فاحتج به مَن قال: لا يُقْتَلُ الزنديق إذا أظهر التوبة، لأنهم حلفوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم ما قالوا، وهذا إذا لم يكن إنكاراً، فهو توبة وإقلاع، وقد قال أصحابُنا وغيرهم:ومَن شُهِدَ عليه بالرِّدَّةِ، فشهد أنْ لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله، لم يكشف عن شىء عنه بعد، وقال بعض الفقهاء: إذا جحد الرِّدَّة، كفاه جحدها. ومَن لم يقبل توبة الزنديق، قال: هؤلاء لم تَقُمْ عليهم بيِّنة، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحكمُ عليهم بعلمه، والذى بلَّغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنهم قولَهم لم يبلِّغه إياه نصابُ البيِّنة، بل شهد به عليهم واحد فقط، كما شهد زيدُ ابن أرقم وحدَه على عبد الله بن أُبَىّ، وكذلك غيرُه أيضاً، إنما شهد عليه واحد.
وفى هذا الجواب نظر، فإن نفاق عبد الله بن أُبَىّ، وأقوالَه فى النفاق كانت كثيرةً جداً، كالمتواترة عند النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وبعضهم أقرَّ بلسانه، وقال: "إنما كنا نخوضُ ونلعب"، وقد واجهه بعضُُ الخوارج
فى وجهه بقوله: إنَّك لم تَعْدِلْ. والنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قيل له: ألا تقتلهم؟ لم يقل ما قامت عليهم بيِّنةٌ، بل قال: "لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أصْحَابَه".
فالجوابُ الصحيح إذن: أنه كان فى ترك قتلهم فى حياة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصلحة تتضمن تأليفَ القلوب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجمع كلمة الناس عليه، وكان فى قتلهم تنفيرٌ، والإسلام بعدُ فى غُربة، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحرصُ شىْءٍ على تأليف الناسِ، وأتركُ شىْء لما يُنَفِّرُهم عن الدخول فى طاعته، وهذا أمر كان يختصُّ بحال حياته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك تركُ قتل مَن طعن عليه فى حكمه بقوله فى قصة الزُّبير وخصمه: أنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ. وفى قسمه بقوله: إنَّ هذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ. وقول الآخر له: إنك لم تعدِل، فإنَّ هذا محضُ حقه، له أن يستوفِيَه، وله أن يترُكَه، وليس للأُمة بعده تركُ استيفاء حقِّه، بل يتعينُ عليهم استيفاؤه، ولا بُدَّ، ولتقرير هذه المسائل موضع آخر، والغرضُ التنبيه والإشارة.
فصل
ومنها: أن أهلَ العهد والذِّمَّة إذا أحدث أحد منهم حَدَثاً فيه ضرر على
الإسلام، انتقضَ عهدُه فى ماله ونفسه، وأنه إذا لم يقدر عليه الإمام، فدمُه وماله هدر، وهو لمن أخذه، كما قال فى صلح أهل أيلة: فمَن أحدث منهم حَدَثاً، فإنه لا يحول مالُه دون نفسه، وهو لمن أخذه من الناس، وهذا لأنه بالإحداث صار محارباً، حكمه حكم أهل الحرب.
فصل
ومنها: جواز الدفن بالليل، كما دفن رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذا البِجادين ليلاً، وقد سُئل أحمد عنه، فقال: وما بأسٌ بذلك. وقال: أبُو بكر دُفِنَ ليلاً، وعلىّ دفن فاطمة ليلاً. وقالت عائشة: سمعنا صوتَ المساحِى من آخِر الليل فى دفن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. انتهى.ودفن عُثمان، وعائشةُ، وابنُ مسعود ليلاً.
وفى الترمذى عن ابن عباس، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل قبراً ليلاً، فأُسْرِجَ له سِراج، فأخذه من قِبَل القِبْلة، وقال: "رحمك الله؛ إن كُنْتَ لأَوَّاهَاً تَلاءً لِلْقُرآن". قال الترمذى: حديث حسن.
وفى البخارى: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل عن رجل فقال: "مَنْ هذَا"؟
قالُوا: فُلانٌ دُفِنَ البَارِحَةَ؛ فَصَلَّى عَلَيْهِ.
فإن قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم فى "صحيحه" أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب يوماً، فذكر رجلاً مِن أصحابِه قُبضَ فَكُفِّن فى كَفَنٍ غَيْرِ طَائِل، وَقُبِرَ لَيْلاً، فزجَرَ النَّبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يُقَبَرَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ حتَّى يُصَلَّى عليه إلا أَنْ يُضطرَّ إنْسَانٌ إلَى ذلِكَ؟ قال الإمام أحمد: إليه أذهب.
قيل: نقول بالحديثين بحمد اللهِ، ولا نرُدُّ أحدَهما بالآخر، فنكره الدفنَ بالليل، بل نزجُر عنه إلا لضرورة أو مصلحة راجحة، كميت مات مع المسافرين بالليل، ويتضرَّرون بالإقامة به إلى النهار، وكما إذا خِيف على الميت الانفجارُ، ونحو ذلك من الأسباب المرجحة للدفن ليلاً.. وبالله التوفيق.
فصل
ومنها: أن الإمام إذا بعث سَرِيَّةً، فغنِمَت غنيمة، أو أسرت أسيراً، أو فتحت حِصناً، كان ما حصل من ذلك لها بعد تخميسه، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم ما صالح عليه أُكَيْدِر من فتح دُومة الجندل بين السريَّة الذين بعثهم مع خالد، وكانوا أربعمائة وعشرين فارساً، وكانت غنائِمُهم ألفى بعير وثمانمائة رأس، فأصاب كُلَّ رجل منهم خمسُ فرائض، وهذا بخلاف ما إذا أخرجت السريةُ من الجيش فى حال الغزو، فأصابت ذلك بقوة الجيش، فإن ما أصابُوا يكون غنيمة للجميع بعد الخُمُس والنَّفلَ، وهذا كان هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فصل
ومنها: قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ بالمَدِينَةِ أقْواماً مَا سِرْتُمْ مَسيراً، وَلا قَطَعْتُمْ وَادِياً إلاَّ كَانُوا مَعَكُم"، فهذه المعية هى بقلوبهم وهممهم، لا كما يظنه طائفة من الجُهَّال أنهم معهم بأبدانهم، فهذا محال، لأنهم قالوا له: وهم بالمدينة؟ قال: "وهم بالمدينة حَبَسَهُمُ العُذْرُ"، وكانوا معه بأرواحهم، وبدار الهجرة بأشباحهم، وهذا مِن الجهاد بالقلب، وهو أحد مراتبه الأربع، وهى القلب، واللِّسان، والمال، والبدن. وفى الحديث: "جَاهِدُوا المُشْرِكينَ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَقُلُوبِكُم وأَمْوالِكُم".
فصل
ومنها: تحريقُ أمكنة المعصية التى يُعصى اللهُ ورسولُه فيها وهدمُها، كما حرقَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسجد الضِّرار، وأمر بهدمه، وهو مسجدٌ يُصلَّى فيه، ويُذكر اسمُ الله فيه، لما كان بناؤه ضِراراً وتفريقاً بين المؤمنينَ، ومأوى للمنافقين، وكُلُّ مكان هذا شأنه، فواجب على الإمام تعطيلُه، إما بهدم وتحريق، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وُضِعَ له. وإذا كان هذا شأنَ مسجد الضِّرارِ، فمشاهِدُ الشِّرْكِ التى تدعو سدنتُها إلِى اتخاذ مَنْ فيها أنداداً من دون الله أحقُّ بالهدمِ وأوجب، وكذلك محالُّ المعاصى والفسوق، كالحانات، وبُيوت الخمَّارين، وأرباب المنكرات، وقد حرق عمرُ بن الخطاب قريةً
بكمالها يُباع فيها الخمر، وحرق حانوت رُويشد الثقفى وسماه فويسقاً، وحرق قصرَ سعد عليه لما احتجب فيه عن الرعية، وهمَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحريق بيوت تَاركى حضور الجماعة والجُمُعة، وإنما منعه مَن فيها من النساء والذُرِّية الذين لا تجبُ عليهم كما أخبر هو عن ذلك.
ومنها: أن الوقف لا يصح على غير برٍّ ولا قُربة، كما لم يصحَّ وقفُ هذا المسجد، وعلى هذا: فيُهدم المسجد إذا بُنى على قبر، كما يُنبش الميتُ إذا دُفِنَ فى المسجد، نص على ذلك الإمام أحمد وغيرُه، فلا يجتمع فى دين الإسلام مسجدٌ وقبر، بل أيُّهما طرأ على الآخر. منع منه، وكان الحكم لِلسابق، فلو وُضِعا معاً، لم يجز، ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز، ولا تَصِحُّ الصلاة فى هذا المسجد لنهى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، ولعنه مَن اتخذ القبر مسجداً أو أوقد عليه سراجاً، فهذا دينُ الإسلام الذى بعث الله به رسوله ونبيه، وغربتُه بينَ الناس كما ترى.
فصل
ومنها: جواز إنشادِ الشِّعر للقادم فرحاً وسروراً به ما لم يكن معه مُحرَّم من لهو، كمزمار، وشبابة، وعود، ولم يكن غناءً يتضمن رُقية الفواحش،
وما حرَّم الله، فهذا لا يُحَرِّمُه أحد، وتَعَلُّقُ أربابِ السماع الفِسقى به كتعلق مَن يستحِلُّ شُربَ الخمر المسكر قياساً على أكل العنب، وشرب العصير الذى لا يُسْكِر، ونحو هذا من القياسات التى تشبه قياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا.
ومنها: استماعُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدحَ المادحين له، وتركُ الإنكار عليهم، ولا يَصِحُّ قياسُ غيره عليه فى هذا، لما بين المادحين والممدوحين من الفروق، وقد قال: "احْثُوا فى وُجُوه المَدَّاحِينَ التُّرابَ".
ومنها: ما اشتملت عليه قصةُ الثلاثة الذين خُلِّفُوا مِن الحِكَم والفوائد الجمَّة، فنشيرُ إلى بعضُها:
فمنها: جوازُ إخبار الرجل عن تفريطه وتقصِيرِه فى طاعة الله ورسوله، وعن سبب ذلك، وما آل إليه أمرُه، وفى ذلك مِن التحذير والنصيحة، وبيانِ طُرُقِ الخير والشر، وما يترتب عليها ما هو من أهم الأُمور.
ومنها: جوازُ مدح الإنسان نفسه بما فيه من الخير إذا لم يكن على سبيل الفخر والترفع.
ومنها: تسلية الإنسان نفسَه عما لم يُقدَّر له من الخير بِما قُدِّر له مِن نظيره أو خير منه.
ومنها: أن بَيْعةَ العَقَبَةِ كانت مِن أفضل مشاهد الصحابة، حتى إن كعباً كان لا يراها دونَ مشهد بدر.
ومنها: أن الإمام إذا رأى المصلحة فى أن يستر عن رعيته بعضَ ما يهم به ويقصِدُه من العدو، ويُورِّى به عنه، استُحِبَّ له ذلك، أو يتعين بحسب المصلحة.
ومنها أن السِّترَ والكِتمان إذا تضمن مفسدة، لم يجز.
ومنها: أن الجيشَ فى حياة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن لهم دِيوان، وأول مَن دوَّن الدِّيوان عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهذا مِن سُنَّته التى أمر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتباعها، وظهرت مصلحتُها، وحاجةُ المسلمين إليها.
ومنها: أن الرجلَ إذا حضرت له فُرصةُ القُربة والطاعة، فالحزمُ كُلُّ الحزم فى انتهازها، والمبادرة إليها، والعجزُ فى تأخيرها، والتسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها، فإن العزائم والهمم سريعةُ الانتقاض قلَّما ثبتت، والله سُبحانه يُعاقب مَنْ فتح له باباً من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بين قلبه وإرادته، فلا يُمكنه بعد من إرادته عقوبةً له، فمن لم يَستَجِبْ للهِ ورسوله إذا دعاه، حالَ بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكنه الاستجابةُ بعد ذلك. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ، وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}[الأنفال: 24] ، وقد صرَّح الله سبحانه بهذا فى قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[الأنعام: 110] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ}[الصف: 5]. وقال: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}[التوبة: 115] وهو كثير فى القرآن.
ومنها: أنه لم يكن يتخلَّفُ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أحد رجال ثلاثة: إما مغموصٌ عليه فى النفاق، أو رجلٌ من أهل الأعذار، أو من خلَّفَهُ رسولُ
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستعمله على المدينة، أو خَلَّفه لمصلحة.
ومنها: أن الإمام والمطاعَ لا ينبغى له أن يُهمِلَ مَنْ تخلَّفَ عنه فى بعض الأُمور، بل يُذكِّره ليراجع الطاعة ويتوب، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال بتبوك: "مَا فَعَلَ كَعْب"؟ ولم يذكر سِواه من المخلَّفين استصلاحاً له، ومُرعاةً وإهمالاً للقوم المنافقين.
ومنها: جوازُ الطعنِ فى الرجل بما يغلِبُ على اجتهادِ الطاعن حميةً، أو ذبّاً عن الله ورسوله، ومن هذا طعنُ أهل الحديث فيمن طعنوا فيه من الرواة، ومن هذا طعنُ ورثة الأنبياء وأهل السُّنَّة فى أهل الأهواء والبِدَع للهِ لا لحظوظهم وأغراضهم.
ومنها: جوازُ الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الرادِّ أنه وهم وغلط، كما قال معاذ للذى طعن فى كعب: بئس ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ الله ما علمنا عليه إلاَّ خيراً، ولم يُنْكِرْ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على واحد منهما.
ومنها: أن السُّنَّة للقادم من السفر أن يدخل البلَد على وضوء، وأن يبدأ ببيت الله قبل بيته، فيُصَلِّى فيه ركعتين، ثم يجلس للمسلِّمين عليه، ثم ينصرفُ إلى أهله.
ومنها: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقبل علانية مَن أظهر الإسلام من المنافقين، ويَكِلُ سريرته إلى الله، ويُجرى عليه حكم الظاهر، ولا يُعاقبه بما لم يعلم مِن سِرِّه.
ومنها: تركُ الإمام والحاكم ردَّ السلام على مَن أحدث حَدَثاً تأديباً له، وزجراً لغيره، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُنقل أنه رَدَّ على كعب، بل قابل سلامه بتبسم المُغْضَبِ.
ومنها: أن التبسم قد يكون عن الغضب، كما يكون عن التعجب
والسرور، فإن كلاّ منهما يُوجب انبساط دمِ القلب وثورانه، ولهذا تظهر حمرةُ الوجه لسرعة ثورانِ الدم فيه، فينشأ عن ذلك السرور، والغضب تعجُّبٌ يتبعهُ ضحك وتبسم، فلا يغتر المغتر بضحك القادر عليه فى وجهه، ولا سيما عند المَعتَبَةِ كما قيل:
إذا رَأَيْتَ نُيُوبَ اللَّيْثِ بَارِزَة ... فَلا تَظُّنَّنَّ أنَّ اللَّيْثَ مُبْتَسِمُ
ومنها: معاتبةُ الإمام والمطاع أصحابه، ومَن يعز عليه، ويَكْرُم عليه، فإنه عاتَب الثلاثة دونَ سائِر مَنْ تخلَّف عنه، وقد أكثر الناسُ من مدح عتاب الأحبة، واستلذاذه، والسرور به، فكيف بعتاب أحبِّ الخلق على الإطلاق إلى المعتوب عليه، ولله ما كان أحلى ذلك العتاب، وما أعظم ثمرتَه، وأجلَّ فائدتَه، ولله ما نال به الثلاثةُ مِن أنواع المسرَّات، وحلاوةِ الرضى، وخِلَعِ القبول.
ومنها: توفيقُ اللهِ لكعب وصاحبيه فيما جاؤوا به من الصدق، ولم يخذلهم حتى كذبوا واعتذروا بغير الحق، فصلُحت عاجلتهم، وفسدت عاقبتهُم كلَّ الفساد، والصادقون تعبوا فى العاجلة بعضَ التعب، فأعقبهم صلاح العاقبة، والفلاح كُلَّ الفلاح، وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة، فمراراتُ المبادى حلاوات فى العواقب، وحلاوات المبادى مرارات فى العواقب. وقول النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكعب: "أما هذا، فقد صدق"، دليلٌ ظاهر فى التمسك بمفهوم اللَّقب عند قيام قرينة تقتضى تخصيص المذكور بالحكم، كقوله تعالى: {وَداوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}[الأنبياء: 78-79]، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جُعِلت لى الأرضُ مسجداً وتُرْبَتُها طهوراً"، وقوله فى
هذا الحديث: "أما هذا فقد صدق"، وهذا مما لا يشك السامع أن المتكلم قصد تخصيصه بالحكم.
وقول كعب: هل لقى هذا معى أحد؟ فقالوا: نعم، مرارة بن الربيع، وهلال بن أُمية، فيه أن الرجل ينبغى له أن يردَّ حرَّ المصيبة بروح التأسى بمن لقى مثل ما لقى، وقد أرشد سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ، إنْ تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104]، وهذا هو الروح الذى منعه الله سبحانه أهلَ النارِ فيها بقوله: {وَلَن يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ إذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39]
وقوله: "فذكروا لى رجلين صالحين قد شهدا بدراً لى فيهما أُسوة" هذا الموضع مما عُدَّ من أوهام الزُّهْرى، فإنه لا يُحفظ عن أحد من أهل المغازى والسير البتة ذِكرُ هذين الرجلين فى أهل بدر، لا ابن إسحاق ولا موسى ابن عقبة، ولا الأموى، ولا الواقدى، ولا أحد ممن عدَّ أهل بدر، وكذلك ينبغى ألاَّ يكونا من أهل بدر، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمْ يَهْجُرْ حاطباً، ولا عاقبه وقد جسَّ عليه، وقال لعمر لما هَمَّ بقتله: "وما يُدريكَ أن الله اطلع على أَهْلِ بدرٍ فقال: اعملوا ما شِئتُم فقد غفرتُ لكم"، وأين ذنبُ التخلف من ذنب الجسِّ.
قال أبو الفرج بن الجوزى: ولم أزل حريصاً على كشف ذلك وتحقيقه حتى رأيتُ أبا بكر الأثرم قد ذكر الزُّهْرى، وذكر فضله وحفظه وإتقانه، وأنه لا يكاد يُحفظ عليه غلط إلا فى هذا الموضع، فإنه قال: إن مرارة بن الربيع، وهلال بن أُمية شهدا بدراً، وهذا لم يقله أحدٌ غيره، والغلط لا يُعصم منه إنسان.
فصل
وفى نهى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر مَن تخلَّف عنه دليلٌ على صدقهم وكذب الباقين، فأراد هجرَ الصادقين وتأديبَهم على هذا الذنب، وأما المنافِقون، فجُرمهم أعظمُ من أن يُقابَل بالهجر، فدواء هذا المرض لا يعمل فى مرض النفاق، ولا فائدةَ فيه، وهكذا يفعلُ الرب سبحانه بعباده فى عقوبات جرائمهم، فيؤدِّبُ عبده المؤمن الذى يحبُه وهو كريم عنده بأدنى زَلَّة وهفوة، فلا يزال مستيقظاً حَذِراً، وأما مَن سقط من عينه وهان عليه، فإنه يُخلَى بينَه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنباً أحدث له نِعمة، والمغرورُ يظن أن ذلك مِن كرامته عليه، ولا يعلم أن ذلك عينُ الإهانة، وأنه يُريد به العذابَ الشديد، والعقوبةَ التى لا عاقبة معها، كما فى الحديث المشهور: "إذَا أرَادَ اللهُ بَعَبْدٍ خَيْراً عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَتَهُ فى الدُّنْيَا، وإذَا أرادَ بِعَبْدٍ شَراً، أَمْسَكَ عَنْهُ عُقُوبَتَهُ فى الدُّنْيَا، فَيَرِدُ يَوْمَ القِيَامَة بذُنُوبِه".
وفيه دليل أيضاً على هِجران الإمام، والعالمِ، والمطاعِ لمن فعل ما يستوجِبُ العَتب، ويكون هِجرانه دواء له بحيث لا يضعُف عن حصولِ الشفاء به، ولا يزيدُ فى الكمية والكيفية عليه فيهلكه، إذ المرادُ تأديبُه لا إتلافُه.
وقوله: "حتى تنكرت لى الأرض، فما هِىَ بالتى أعرِفُ" هذا التنكرُ
يجده الخائفُ والحزينُ والمهمومُ فى الأرض، وفى الشجر، والنبات حتى يجدَه فيمن لا يُعلم حاله من الناس، ويجده أيضاً المذنبُ العاصى بحسب جُرمه حتى فى خُلُقِ زوجته وولده، وخادمه ودابته، ويَجِدُه فى نفسه أيضاً، فتتنكر له نفسُه حتى ما كأنَّه هو، ولا كأنَّ أهلَه وأصحابَه، ومَن يُشْفِقُ عليه بالَّذِينَ يعرِفُهم، وهذا سر من الله لا يخفى إلا على مَن هو ميتُ القلب، وعلى حسب حياة القلب، يكون إدراكُ هذا التنكر والوحشة. وما لجرح بميت إيلام.
ومن المعلوم، أن هذا التنكرَ والوحشة كانا لأهل النفاق أعظم، ولكن لموت قلوبهم لم يكونوا يشعرون به، وهكذا القلبُ إذا استحكم مرضُه، واشتد ألمُه بالذنوب والإجرام، لم يجد هذه الوحشة والتنكر، ولم يحس بها، وهذه علامةُ الشقاوة، وأنه قد أيسَ من عافية هذا المرض، وأعيا الأطباء شِفاؤه، والخوفُ والهمُّ مع الريبة، والأمنُ والسرورُ مع البراءةِ مِن الذنب.
فَمَا فى الأرْضِ أَشْجَعُ مِنْ بَرِىءٍ ... وَلا فى الأرْضِ أخْوَفُ مِنْ مُرِيبِ
وهذا القدرُ قد ينتفع به المؤمنُ البَصيرُ إذا ابتُلِىَ به ثم راجع، فإنه ينتفع به نفعاً عظيماً مِن وجوه عديدة تفوتُ الحصرَ، ولو لم يكن منها إلا استثمارُه من ذلك أعلام النبوة، وذوقُه نفس ما أخبر به الرسولُ فيصير تصديقه ضرورياً عنده، ويصيرُ ما ناله مِن الشر بمعاصيه، ومن الخير بطاعاته من أدلة صدق النبوة الذوقية التى لا تتطرقُ إليها الاحتمالات، وهذا كمن أخبرك أن فى هذه الطريق من المعاطب والمخاوف كيتَ وكيتَ على التفصيل، فخالفته وسلكتها، فرأيتَ عَيْن ما أخبرَكَ به، فإنك تَشْهَدُ صِدقَه فى نفس خِلافك لهُ، وأما إذا سلكت طريقَ الأمن وحدها، ولم تجد من تلك المخاوف
شيئاً، فإنه وإن شهد صدق المخبر بما ناله من الخير والظفر مفصلاً، فإن علمه بتلك يكون مجملاً.
فصل
منها: أن هلال بنَ أُمية ومرارة قعدا فى بيوتهما، وكانا يُصلِّيان فى بيوتهما، ولا يحضُران الجماعة، وهذا يدل على أن هِجران المسلمين للرجل عذر يُبيح له التخلف عن الجماعة، أو يقال: من تمام هجرانه أن لا يحضر جماعة المسلمين، لكن يقال: فكعب كان يحضر الجماعة ولم يمنعه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا عتب عليهما على التخلف، وعلى هذا فيُقال: لما أُمِرَ المسلمون بهجرهم تُركوا: لم يُؤمروا، ولم يُنهوا، ولم يُكلَّموا، فكان مَن حضر منهم الجماعة لم يُمنع، ومَن تركها لم يُكلَّم، أو يقال: لعلهما ضَعُفَا وعَجَزا عن الخروج، ولهذا قال كعب: وكنتُ أنا أجلدَ القوم وأشبَّهم، فكنتُ أخرج فأشهدُ الصلاة مع المسلمين.
وقوله: "وآتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأُسلِّم عليه، وهو فى مجلسه بعد الصلاة، فأقول: هل حرَّك شفتيه برد السلام علىَّ أم لا"؟ فيه دليل على أن الرد على مَن يستحق الهجرَ غيرُ واجب، إذ لو وجب الرد لم يكن بُد من إسماعه.
وقوله: "حتى إذا طال ذلك علىَّ، تسورتُ جدار حائط أبى قتادة"، فيه دليل على دخول الإنسان دارَ صاحبه وجاره إذا علم رضاه بذلك، وإن لم يستأذِنْه.
وفى قول أبى قتادة له: "الله ورسوله أعلم"، دليل على أن هذا ليس بخطاب ولا كلام له، فلو حلف لا يُكلِّمه، فقال مثلَ هذا الكلام جواباً له لم يحنث، ولا سيما إذا لم ينو به مكالمته، وهو الظاهر من حال
أبى قتادة.
وفى إشارة الناس إلى النَّبطى الذى كان يقول: مَن يدل على كعب بن مالك دون نطقهم له تحقيقٌ لمقصود الهجر، وإلا فلو قالوا له صريحاً: ذاك كعب بن مالك، لم يكن ذلك كلاماً له، فلا يكونون به مخالفين للنهى، ولكن لِفرط تحرِّيهم وتمسكهم بالأمر، لم يذكروه له بصريح اسمه. وقد يقال: إن فى الحديث عنه بحضرته وهو يسمع نوع مكالمة له، ولا سيما إذا جعل ذلك ذريعة إلى المقصود بكلامه، وهى ذريعةٌ قريبة، فالمنع من ذلك من باب منع الحيل وسد الذرائع، وهذا أفقه وأحسن.
وفى مكاتبة ملك غسَّان له بالمصير إليه ابتلاء من الله تعالى، وامتحان لإيمانه ومحبته للهِ ورسوله، وإظهار للصحابة أنه ليس ممن ضعف إيمانُه بهجر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين له، ولا هو ممن تحمِلُه الرغبة فى الجاه والملك مع هجران الرسول والمؤمنين له على مفارقة دينه، فهذا فيه من تبرئة الله له مِن النفاق، وإظهار قوة إيمانه، وصدقه لرسوله وللمسلمين ما هو من تمام نعمة الله عليه، ولطفه به، وجبره لكسره، وهذا البلاءُ يُظهر لُبَّ الرجل وسره، وما ينطوى عليه، فهو كالكِير الذى يُخرج الخبيث من الطيب.
وقوله: "فتيممتُ بالصحيفة التنورَ"، فيه المبادرة إلى إتلاف ما يُخشى منه الفساد والمضرَّة فى الدين، وأن الحازم لا ينتظر به ولا يُؤخره، وهذا كالعصير إذا تخمَّر، وكالكتاب الذى يُخشى منه الضررُ والشر، فالحزم المبادرة إلى إتلافه وإعدامه.
وكانت غسَّان إذ ذاك وهُم ملوك عرب الشام حرباً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا ينعلُون خيولَهم لمحاربته، وكان هذا لما بعث شجاع بن وهب الأسدى إلى ملكهم الحارث بن أبى شمر الغسَّانى يدعوه إلى الإسلام،
وكتب معه إليه، قال شجاع: فانتهيتُ إليه وهو فى غَوْطة دمشق، وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لِقيصر، وهو جاءٍ من حمصَ إلى إيلياء، فأقمتُ على بابه يومين أو ثلاثة، فقلتُ لِحاجبه: إنى رسول رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه، فقال: لا تَصِلُ إليه حتى يخرُجَ يومَ كذا وكذا، وجعل حاجبُه وكان رومياً اسمه مرى يسألُنى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكنتُ أُحدِّثُه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما يدعو إليه، فيرقُّ حتى يغلِبَ عليه البكاء، ويقول: إنى قرأتُ الإنجيل، فأجدُ صفة هذا النبى بعَيْنه، فأنا أُؤمن به وأُصدِّقه، فأخافُ من الحارث أن يقتلنى، وكان يُكرمنى ويُحسن ضيافتى، وخرج الحارث يوماً فجلس، فوضع التاجَ على رأسه، فأذِن لى عليه، فدفعتُ إليه كتابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقرأه، ثمَّ رمى به، قال: مَن ينتزِعُ مِنى ملكى، وقال: أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئتُه، علىَّ بالناس، فلم تزل تُعرض حتى قام، وأمر بالخيول تُنعل، ثم قال: أخبر صاحِبَكَ بما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره خبرى، وما عزم عليه، فكتب إليه قيصر: أن لا تَسِرْ، ولا تَعْبُرْ إليه، والهُ عنه، ووافنى بإيلياء، فلما جاءه جوابُ كتابه، دعانى فقال: متى تُريد أن تخرُج إلى صاحبك؟ فقلت: غداً، فأمر لى بمائةِ مثقالٍ ذهباً، ووصلنى حاجبُه بنفقة وكُسوةٍ، وقال: اقرأ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منى السلام، فقدمتُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبرته، فقال: "بَادَ مُلْكُه"، وأقرأته من حاجبه السلام، وأخبرته بما قال، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صدق"، ومات الحارث بن أبى شمر عام الفتح، ففى هذه المدة أرسل ملكُ غسَّان يدعو كعباً إلى اللحاق به، فأبت له سابقة الحسنى أن يرغب عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودِينه.
فصل
[فى أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثلاثة باعتزال نساءهم]
أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهؤلاء الثلاثة أن يعتزلوا نساءهم لما مضى لهم أربعون ليلة، كالبشارة بمقدمات الفَرَج والفتح مِن وجهين:
أحدهما: كلامُه لهم، وإرساله إليهم بعد أن كان لا يكلمهم بنفسه ولا برسوله.
الثانى: مِن خصوصية أمرهم باعتزال النساء، وفيه تنبيه وإرشاد لهم إلى الجد والاجتهاد فى العبادة، وشد المئزر، واعتزال محل اللهو واللَّذة، والتعوض عنه بالإقبال على العبادة، وفى هذا إيذان بقرب الفَرَج، وأنه قد بقى من العتب أمر يسير.
وفقه هذه القصة، أن زمن العبادات ينبغى فيه تجنبُ النساء، كزمن الإحرام، وزمن الاعتكاف، وزمن الصيام، فأراد النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكون آخرُ هذه المدة فى حق هؤلاء بمنزلة أيام الإحرام والصيام فى توفرها على العبادة، ولم يأمرهم بذلك من أول المدة رحمةً بهم، وشفقةً عليهم، إذ لعَلهم يضعف صبرهم عن نسائهم فى جميعها، فكان من اللُّطف بهم والرحمة، أن أُمروا بذلك فى آخر المدة، كما يؤمر به الحاج من حين يُحرم، لا من حين يعزم على الحج.
وقول كعب لامرأته: "الحقى بأهلك"، دليل على أنه لم يقطع بهذه اللَّفظة وأمثالها طلاق ما لم ينوه. والصحيح: أن لفظ الطلاق والعتاق والحرية كذلك إذا أراد به غير تسييب الزوجة، وإخراج الرقيق عن ملكه، لا يقع به طلاقٌ ولا عتاق، هذا هو الصواب الذى ندينُ الله به، ولا نرتابُ فيه ألبتة.
فإذا قيل له: إن غلامك فاجر أو جاريتك تزنى، فقال: ليس كذلك،
بل هو غلام عفيف حر، وجارية عفيفة حرة، ولم يُرد بذلك حرية العتق، وإنما أراد حرية العفة، فإن جاريته وعبده لا يُعتقان بهذا أبداً، وكذا إذا قيل له: كم لغلامك عندك سنة؟ فقال: هو عتيق عندى، وأراد قدم ملكه له، لم يُعتق بذلك، وكذلك إذا ضرب امرأته الطلق، فسئل عنها، فقال: هى طالق، ولم يخطر بقلبه إيقاع الطلاق، وإنما أراد أنها فى طلق الولادة، لم تُطلَّق بهذا، وليست هذه الألفاظ مع هذه القرائن صريحة إلا فيما أُريد بها، ودل السياق عليها، فدعوى أنها صريحة فى العتاق والطلاق مع هذه القرائن مكابرة، ودعوى باطلة قطعاً.
فصل
وفى سجود كعب حين سمع صوت المبشِّر دليل ظاهر أن تلك كانت عادة الصحابة، وهى سجودُ الشكر عند النعم المتجددة، والنقم المندفعة، وقد سجد أبو بكر الصِّدِّيق لما جاءه قتلُ مُسَيْلِمة الكذَّاب، وسجد علىُّ بن أبى طالب لما وجد ذا الثُّديَّةِ مقتولاً فى الخوارج، وسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بشَّره جبريلُ أنه مَن صَلَّى عليه مَرَّة صَلَّى الله عليه بها عشراً، وسجد حين شفع لأُمته، فشفعه الله فيهم ثلاث مرات، وأتاه بشير فبشَّره بظفر جند له على عدوهم ورأسه فى حَجر عائشة، فقام فخرَّ ساجداً، وقال أبو بكرة: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أتاه أمر يسُرُّه خرَّ للهِ ساجداً، وهى آثار صحيحة لا مطعن فيها.
وفى استباق صاحب الفرس والراقى على سلع ليبشِّرا كَعباً دليل على حرص القوم على الخير، واستباقهم إليه، وتنافُسهم فى مسَّرة بعضهم بعضاً.
وفى نزع كعب ثوبيه وإعطائهما للبشير، دليل على أن إعطاء المبشِّرين من مكارم الأخلاق والشيم، وعادة الأشراف، وقد أعتق العباس غلامه لما بشَّره أن عند الحجاج بن علاط من الخبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يسره.وفيه دليل على جواز إعطاء البشير جميع ثيابه.
وفيه دليل على استحباب تهنئة مَن تجدَّدت له نعمة دينية، والقيام إليه إذا أقبل، ومصافحته، فهذه سُنَّة مستحَبة، وهو جائز لمن تجددت له نِعمةٌ دنيوية، وأن الأَوْلى أن يقال له: لِيهنك ما أعطاك الله، وما مَنَّ الله به عليك، ونحو هذا الكلام، فإن فيه تولية النعمة ربَّها، والدعاء لمن نالها بالتهنى بها.
وفيه دليل على أن خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها يومُ توبته إلى الله، وقبول الله توبته، لقول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ".
فإن قيل: فكيف يكون هذا اليوم خيراً من يوم إسلامه؟ قيل: هو مكمل ليوم إسلامه، ومن تمامه، فيومُ إسلامه بداية سعادته، ويومُ توبته كمالها وتمامها.. والله المستعان.
وفى سرور رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك وفرحه به واستنارة وجهه دليل على ما جعل الله فيه من كمال الشفقة على الأُمة، والرحمة بهم والرأفة، حتى لعل فرحه كان أعظم مِن فرح كعب وصاحبيه.
وقول كعب: "يا رسول الله؛ إن من توبتى أن أنخلع من مالى"، دليل على
استحباب الصدقة عند التوبة بما قدر عليه من المال.
وقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ" ، دليل على أن مَن نذر الصدقة بكُلِّ ماله، لم يلزمه إخراجُ جميعه، بل يجوز له أن يُبقى له منه بقية، وقد اختلفت الرواية فى ذلك، ففى "الصحيحين" أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: "أمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ" ولم يُعيِّن له قدراً، بل أطلق ووكله إلى اجتهاده فى قدر الكفاية، وهذا هو الصحيح، فإن ما نقص عن كفايته وكفاية أهله لا يجوز له التصدق به، فنذره لا يكون طاعة، فلا يجب الوفاء به، وما زاد على قدر كفايته وحاجته، فإخراجه والصدقة به أفضل، فيجب إخراجُه إذا نذره، هذا قياسُ المذهب، ومقتضى قواعِد الشريعة، ولهذا تُقدَّم كفاية الرجل، وكفايةُ أهله على أداء الواجبات المالية، سواء أكانت حقاً لله كالكفَّارات والحَجِّ، أو حقاً للآدميين كأداء الديون
فإنَّا نترك للمفلس ما لا بُدَّ منه من مسكن، وخادم، وكسوة، وآلةِ حِرفة، أو ما يتَّجِرُ به لمؤنته إن فُقِدت الحرفة، ويكون حق الغرماء فيما بقى. وقد نص الإمام أحمد على أن مَن نذر الصدقة بمالِه كُلِّه، أجزأه ثُلُثه، واحتج له أصحابُه بما رُوى فى قصة كعب هذه، أنه قال: "يا رسول الله؛ إنَّ من توبتى إلى الله ورسوله أن أخرُجَ من مالى كُلِّه إلى الله ورسوله صدقة، قال: "لا"، قلت: فنصفُه؟. قال: "لا"، قلت: فثُلُثه قال: "نعم"، قلت: فإنى أمسك سهمى الذى بخيبر". رواه أبو داود. وفى ثبوت هذا ما فيه، فإن الصحيح فى قصة كعب هذه ما رواه أصحاب الصحيح من حديث الزُّهْرى، عن ولد كعب بن مالك عنه أنه قال: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِك"،
مِن غير تعيين لقدره، وهم أعلمُ بالقصة مِن غيرهم، فإنهم ولدُه، وعنه نقلوها.
فإن قيل: فما تقولون فيما رواه الإمام أحمد فى "مسنده" أن أبا لُبابةَ بن عبد المنذر لما تابَ اللهُ عليه، قال: يا رسولَ الله؛ إنَّ مِنْ تَوْبَتى أنْ أهْجُرَ دَارَ قَوْمِى وأُساكِنَكَ، وأن أنْخَلِعَ مِنْ مَالِى صَدَقَةً للهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُجْزِئُ عَنْكَ الثُّلُثُ". قيل: هذا هو الذى احتج به أحمد، لا بحديث كعب، فإنه قال فى رواية ابنه عبد الله: إذا نذر أن يتصدَّق بماله كُلِّه أو ببعضه، وعليه دَيْنٌ أكثر مما يملكه، فالذى أذهبُ إليه أنه يُجزئه من ذلك الثُلُث، لأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أبا لُبابة بالثُلُث، وأحمد أعلمُ بالحديث أن يحتج بحديث كعب هذا الذى فيه ذكر الثُلُث، إذ المحفوظ فى هذا الحديث: "أمسك عليك بعضَ مالك" وكأنّ أحمد رأى تقييد إطلاق حديثِ كعبٍ هذا بحديث أبى لبابة.
وقوله فيمن نذر أن يتصدَّق بماله كله أو ببعضه وعليه دَيْن يستغرِقه: إنه يجزئه من ذلك الثُلُث، دليل على انعقاد نذره، وعليه دَيْن يستغرِقُ ماله، ثم إذا قضى الدَّيْن، أخرج مقدار ثُلُث ماله يومَ النذر، وهكذا قال فى رواية ابنه عبد الله: إذا وهب ماله، وقضى دَيْنه، واستفاد غيره، فإنما يجبُ عليه إخراجُ ثُلُث ماله يوم حِنثه، يريد بيوم حِنثه يومَ نذره، فينظر قدر الثُلُث ذلك اليوم، فيُخرجه بعد قضاء دَيْنه.
وقوله: أو ببعضه. يُريد أنه إذا نذر الصدقة بمُعيَّن مِن ماله، أو بمقدار كألْفٍ ونحوها، فيجزئه ثُلُثه كنذر الصدقة بجميع ماله، والصحيح من مذهبه لزومُ الصدقة بجميع المُعيَّن، وفيه روايةٌ أُخرى، أن المُعيَّن إن كان ثُلُث ماله فما دونه، لزمه الصدقةُ بجميعه، وإن زاد على الثُلُث، لزمه منه بقدر الثُلُث، وهى أصحُّ عند أبى البركات.
وبعد.. فإن الحديثَ ليس فيه دليل على أن كعباً وأبا لبابة نذرا نذراً منجَّزاً، وإنما قالا: إن مِن توبتنا أن ننخلِعَ مِن أموالنا، وهذا ليس بصريح فى النذر، وإنما فيه العزمُ على الصدقة بأموالهما شكراً لله على قبول توبتهما، فأخبر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن بعضَ المال يُجزئ من ذلك، ولا يحتاجان إلى إخراجه كله، وهذا كما قال لسعد وقد استأذنه أن يُوصِىَ بماله كلِّه، فأذن له فى قدر الثُلُث.
فإن قيل: هذا يدفعُه أمران. أحدهما: قوله: "يُجزئك"، والإجزاء إنما يُستعمل فى الواجب، والثانى: أن منعه مِن الصدقة بما زاد على الثُلُث دليل على أنه ليس بقُربة، إذ الشارع لا يمنع من القُرَب، ونذر ما ليس بقُربة لا يلزم الوفاءُ به.
قيل: أما قوله: "يُجزئك"، فهو بمعنى يكفيك، فهو من الرباعى، وليس من "جزى عنه" إذا قضى عنه، يقال: أجزأنى: إذا كفانى، وجزى عنى: إذا قضى عنى، وهذا هو الذى يُستعمل فى الواجب، ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لأبى بُردة فى الأُضحية: "تَجْزِى عَنْكَ وَلَنْ تَجْزِىَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" والكفاية تُستعمل فى الواجب والمستحَب.
وأما منعُه مِن الصدقة بما زاد على الثُلُث، فهو إشارة منه عليه بالأرفق به، وما يحصل له به منفعة دينه ودنياه، فإنه لو مكَّنه من إخراج ماله كُلِّه لم يصبِرْ على الفقر والعدم، كما فعل بالذى جاءه بالصُّرة ليتصدق بها، فضربه بها، ولم يقبلها منه خوفاً عليه من الفقر، وعدم الصبر. وقد يقال وهو أرجحُ إن شاء الله تعالى: إن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامل كُلَّ واحدٍ ممن أراد الصدقة بماله بما يعلم من حاله، فمكَّن أبا بكر الصِّدِّيق من إخراج مالِه كُلِّه، وقال: "ما أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ"؟ فقال: أبقيتُ لهم اللهَ ورسوله،
فلم يُنكر عليه، وأقرَّ عمر على الصدقة بِشَطْرِ ماله، ومنع صاحب الصُّرةِ
من التصدُّق بها، وقال لكعب: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ"، وهذا ليس فيه تعيين المخرج بأنه الثُلُث، ويبعُد جداً بأن يكون الممسَك ضِعفى المُخْرَج فى هذا اللَّفظ، وقال لأبى لبابة: "يُجزئك الثُلُث"، ولا تناقض بين هذه الأخبار، وعلى هذا، فمَن نذر الصدقة بماله كُلِّه، أمسك منه ما يحتاجُ إليه هو وأهلُه، ولا يحتاجون معه إلى سؤال الناسِ مدةَ حياتِهم من رأس مال أو عَقار، أو أرض يقومُ مَغَلُّها بكفايتهم، وتصدَّق بالباقى.. والله أعلم.
وقال ربيعة بن أبى عبد الرحمن: يتصدَّقُ منه بقدر الزكاة، ويُمسك الباقى. وقال جابر بن زيد: إن كان ألفين فأكثرَ، أخرج عُشْرَهُ، وإن كان ألفاً، فما دون فسُبْعَهُ، وإن كان خمسمِائة فما دُون فَخُمْسَهُ. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يتصدَّق بكلِّ ماله الذى تجبُ فيه الزكاةُ، وما لا تجب فيه الزكاة، ففيه روايتان: أحدهما: يُخرجه، والثانية: لا يلزمه منه شيئ.
وقال الشافعى: تلزمه الصدقةُ بماله كله، وقال مالك، والزُّهرى، وأحمد: يتصدَّقُ بثُلُثه، وقالت طائفة: يلزمه كفَّارة يمين فقط.
فصل
ومنها: عِظَم مقدارِ الصِّدق، وتعليقُ سعادة الدنيا والآخرة، والنجاة مِن شرهما به، فما أنجى الله مَن أنجاه إلا بالصدق، ولا أهلك مَن أهلَكه إلا بالكذب، وقد أمر اللهُ سبحانه عِباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين، فقال: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ َآمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
وقد قسم سبحانه الخلق إلى قسمين: سعداء وأشقياء، فجعل السعداء هم أهلَ الصدق والتصديق، والأشقياء هم أهلَ الكذب والتكذيب،
وهو تقسيم حاصِر مطَّرد منعكِس. فالسعادةُ دائرة مع الصدق والتصديقِ، والشقاوةُ دائرة مع الكذب والتكذيب.
وأخبر سبحانه وتعالى: أنه لا ينفعُ العبادَ يومَ القيامة إلا صدقهم، وجعل عَلَم المنَافقين الذى تميزوا به هو الكذبَ فى أقوالهم وأفعالهم، فجميعُ ما نعاه عليهم أصلُه الكذبُ فى القول والفعل، فالصدق بريدُ الإيمان، ودليله، ومركبه، وسائقه، وقائده، وحِليته، ولباسُه، بل هو لبُّه وروحه. والكذب: بريدُ الكفر والنفاق، ودليلهُ، ومركبه، وسائقه، وقائدُه، وحليته، ولباسه، ولبُّه، فمضادة الكذبِ للإيمان كمضادة الشِّرك للتوحيد، فلا يجتمعُ الكذب والإيمان إلا ويطرُد أحدهما صاحبه، ويستقِرُّ موضعه، والله سبحانه أنجى الثلاثَةَ بصدقهم، وأهلكَ غيرَهم من المخلَّفين بكذبهم، فما أنعم اللهُ على عبدٍ بعد الإسلام بنعمة أفضل من الصدق الذى هو غِذاء الإسلام وحياتُه، ولا ابتلاه ببلية أعظمَ من الكذب الذى هو مرضُ الإسلام وفساده. والله المستعان.
وقوله تعالى: {لَقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ. إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}[التوبة: 117]، هذا من أَعظَم ما يُعَرِّفُ العبد قدرَ التوبة وفضلَها عند الله، وأنها غاية كمال المؤمن، فإنَّه سبحانه أعطاهم هذا الكمال بعد آخر الغزواتِ بعد أن قَضَوْا نحبَهم، وبذلوا نفوسهم، وأموالهم، وديارهم لله، وكان غايةَ أمرهم أن تاب عليهم، ولهذا جعل النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ توبةِ كعب خيرَ يوم مَرَّ عليه منذ ولدته أُمه، إلى ذلك اليوم، ولا يعرِفُ هذا حق معرفته إلا مَن عرف الله، وعرف حقوقَه عليه، وعرف ما ينبغى له من عُبوديته، وعرف نفسَه وصفاتِها وأفعالها، وأن الذى قام
به مِن العبودية بالنسبة إلى حق ربه عليه، كقَطْرة فى بحرٍ، هذا إذا سلم من الآفات الظاهرة والباطنة، فسُبحان مَن لا يسعُ عبادَه غيرُ عفوه ومغفرته، وتغمده لهم بمغفرته ورحمته، وليس إلا ذلك أو الهلاك، فإن وضع عليهم عدله، فعذَّب أهلَ سماواته وأرضه عذَّبهم، وهو غيرُ ظالم لهم، وإن رحمهم، فرحمتُه خير لهم من أعمالهم، ولا يُنجى أحداً منهم عملُه.
فصل
وتأمل تكريرَه سبحانه توبتَه عليهم مرتين فى أول الآية وآخِرها، فإنه تاب عليهم أولاً بتوفيقهم للتوبة، فلما تابوا، تاب عليهم ثانياً بقبولها منهم، وهو الذى وفقهم لِفعلها، وتفضَّل عليهم بقبولها، فالخير كله منه وبه، وله وفى يديه، يعطيه مَن يشاءُ إحساناً وفضلاً، ويحرمه مَن يشاء حكمةً وعدلاً.
فصل
وقوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ}[التوبة: 118]، قد فسَّرها كعبٌ بالصواب، وهو أنهم خُلِّفُوا من بين مَن حلفَ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واعتذر من المتخلفين، فخلَّف هؤلاء الثلاثة عنهم، وأرجأ أمرهم دونهم، وليس ذلك تخلُّفهم عن الغزو، لأنه لو أراد ذلك، لقال: تخلَّفوا، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللهِ}[التوبة: 120]، وذلك لأنهم تخلَّفوا بأنفسهم بخلاف تخليفهم عَن أمر المتخلِّفين سواهم، فإن الله سبحانه هو الذى خلَّفهم
عنهم، ولم يتخلَّفوا عنه بأنفسهم.. والله أعلم.
فصل: فى حَجَّة أبى بكر الصِّدِّيق رضى الله عنه سنة تسع بعد مقدمه من تَبُوك
قال ابن إسحاق: ثم أقام رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منصرَفه مِن تَبُوك بقيةَ رمضانَ وشوَّالاً وذا القَعدة، ثم بعث أبا بكر أميراً على الحج سنةَ تسع لِيقيم للمسلمين حَجَّهم، والناس من أهل الشِّرك على منازلهم من حَجِّهم، فخرج أبو بكر والمؤمنون.
قال ابن سعد: فخرج فى ثلاثمائة رجل من المدينة، وبعث معه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعشرين بدنة، قلَّدها وأشعرها بيده، عليها ناجية بن جُندب الأسلمى، وساق أبو بكر خمس بدنات.
قال ابن إسحاق: فنزلت براءة فى نقضِ ما بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المشركين مِن العهد الذى كانوا عليه، فخرج علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه على ناقة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العضباء.
قال ابن سعد: فلما كان بالعَرْج وابن عائذ يقول: بضَجَنان لحقه علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه على العضباء، فلما رآه أبو بكر، قال: أميرٌ أو مأمورٌ؟ قال: لا بل مأمور، ثم مضيا.
وقال ابن سعد: فقال له أبو بكر: أستعملك رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحج؟ قال: لا، ولكن بعثنى أقرأ براءة على الناس، وأَنبذ إلى كل ذى عَهدٍ
عهده، فأقام أبو بكر للناس حَجَّهم، حتى إذا كان يومُ النحر، قام علىُّ بن أبى طالب، فأذَّن فى الناس عند الجمرة بالذى أمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونبذ إلى كل ذى عهد عهده، وقال: أَيها الناس؛ لا يدخُلُ الجنَّة كافر، ولا يحجُّ بعد العام مشرك، ولا يطوفُ بالبيت عُريان، ومَن كان له عهد عِند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو إلى مُدَّته.
وقال الحميدى: حدَّثنا سفيان، قال: حدَّثنى أبو إسحاق الهَمْدَانى،عن زيد بن يُثَيْع، قال: سألنا علياً، بأى شئ بُعِثْتَ فى الحَجَّة؟ قال: بُعِثتُ بأربع: لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلا نفسٌ مُؤمِنة، ولا يَطُوفُ بالبيت عُريان، ولا يجتمِعُ مُسلم وكافر فى المسجد الحرام بعد عامِه هذا، ومَنْ كان بينَه وبَيْن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد، فعهده إلى مُدَّته، ومَن لم يكن له عهد، فأجلُه إلى أربعةِ أشهرِ.
وفى "الصحيحين": عن أبى هُريرة، قال: بعثنى أبو بكر فى تلك الحَجَّة فى مُؤذِّنِينَ بعثهم يومَ النحر يؤذِّنون بمِنَى: أَلاَّ يَحُجَّ بعدَ هذا العامِ مُشرِك، ولا يَطُوفَ بالبيت عُريان، ثم أردف النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بَكر بعلىِّ بنِ أبى طالب رضى الله عنهما، فأمره أن يُؤذِّن ببراءة، قال: فأذَّن معنا علىُّ فى أهل مِنَى يَوْمَ النحرِ ببراءة، وأَلاَّ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيان.
وفى هذه القصة دليل على أن يومَ الحج الأكبر يومُ النحر، واختُلِف فى حَجَّة الصِّدِّيق هذه، هل هى التى أسقطت الفرضَ، أو المسقطة هى حَجَّة الوداع مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ على قولين. أصحهما الثانى، والقولان مبنيان على أصلين: أحدُهما: هل كان الحَجُّ فُرِضَ قَبْلَ عام حَجَّة الوداع أو لا؟ والثانى: هل كانت حَجَّةُ الصِّدِّيق رضى الله عنه فى ذى الحجة، أم وقعت فى ذى القَعدَة من أجل النسئ الذى كان الجاهليةُ يؤخِّرون له الأشهر ويُقدِّمونها؟ على قولين. والثانى: قولُ مجاهد وغيره. وعلى هذا، فلم يُؤخِّر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحَجَّ بعد فرضه عاماً واحداً، بل بادر إلى الامتثال فى العام الذى فُرِض فيه، وهذا هو اللائق بهَدْيه وحاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليسَ بِيدِ مَن ادَّعى تقدُّم فرض الحَجّ سنةَ ست أو سبعٍ أو ثمانٍ أو تسع دليل واحد، وغايةُ ما احتج به مَن قال: فُرِضَ سنة ست قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ}[البقرة: 196]، وهى قد نزلت بالحُديبية سنة ست، وهذا ليس فيه ابتداءُ فرض الحَجّ، وإنما فيه الأمر بإتمامه إذا شُرِعَ فيه، فأين هذا مِن وجوب ابتدائه، وآيةُ فرض الحَجّ وهى قوله تعالى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ منِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عمران: 97]، نزلت عامَ الوفود أواخرَ سنة تسع.
فصل: فى قدوم وفود العرب وغيرهم على النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَدِم عليه وفدُ ثقيف، وقد تقدَّم مع سياق غزوة الطائف. قال موسى بن عقبة: وأقام أبو بكر لِلناس حَجَّهم، وقدم عروةُ بن مسعود
الثقفىُّ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستأذن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليرجع إلى قومه، فذكر نحوَ ما تقدم، وقال: فقدم وفدهم، وفيهم: كِنانة بن عبد ياليل، وهو رأسُهم يومئذ، وفيهم: عُثمان بنُ أبى العاص، وهو أصغرُ الوفد، فقال المغيرةُ ابن شُعْبة: يا رسولَ الله؛ أنزل قومى علىَّ فأكرمهم، فإنى حديثُ الجرح فيهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا أَمْنَعُكَ أَنْ تُكْرِمَ قَوْمَكَ، ولكِنْ أنْزِلْهُمْ حَيْثُ يَسْمَعُونَ القُرْآنَ" ، وكان من جُرح المغيرة فى قومه أنه كان أجيراً لثقيفٍ، وأنهم أقبلوا مِن مُضَرَ حتى إذا كانوا ببعض الطريق، عدا عليهم وهُمْ نيام، فقتلهم، ثم أقبل بأموالِهم حتى أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا الإسْلاَمُ فَنَقْبَلُ، وأَمَّا المَالُ فَلاَ، فإنَّا لا نَغْدِرُ" ، وأبى أن يُخَمِّسَ ما معه، وأنزل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفدَ ثقيف فى المسجد، وبنى لهم خِياماً لكى يسمعوا القرآن، ويَروا الناسَ إذا صَلَّوْا، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خطب لا يذكرُ نفسه، فلما سمعه وفدُ ثقيف، قالوا: يأمُرنا أن نشهد أنه رسول الله، ولا يشهدُ به فى خُطبته، فلما بلغه قولُهم، قال: "فإنى أول مَن شهد أنى رسولُ الله". وكانوا يغدُون إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ يوم، ويخلِّفونَ عثمان بن أبى العاص على رحالهم، لأنه أصغرُهم، فكان عثمان كلما رجع الوفد إليه وقالوا بالهاجرة، عمد إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأله عن الدين، واستقرأه القرآن، فاختلف إليه عثمان مراراً حتى فَقُه فى الدين وعلم، وكان إذا وجدَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نائماً، عَمَدَ إلى أبى بكر، وكان يكتم ذلك من أصحابه، فأعجب ذلك رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحبه، فمكث الوفد يختلِفُون إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا، فقال كِنانة بنُ عبدِ ياليل: هل أنتَ مقاضينا حتى نرجِعَ إلى قومنا؟ قال: "نعم، إن أنتم أقررتُم بالإسلام أُقاضيكم، وإلا فلا قضية، ولا صُلْحَ بينى وبينكم". قال: أفرأيت الزِّنَى، فإنَّا قوم نغترِبُ، ولا بد
لنا منه؟ قال: "هُوَ عَلَيْكُم حَرَامٌ فَإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقول: {وَلا تَقْرَبُواْ الزِّنَى، إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً}[الإسراء: 32]، قالوا: أفرأيتَ الرِّبا فإنه أموالُنا كلها؟ قال: "لَكُمْ رُؤوسُ أمْوالِكُم إن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا إن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ}[البقرة: 278] .قالوا: أفرأيتْ الخمر، فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منها؟ قال: "إنَّ الله قدْ حَرَّمَهَا، وقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوْاْ إنَّمَا الخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة: 90] فارتفع القومُ، فخلا بعضُهم ببعض، فقالوا: ويحكم، إنَّا نخاف إن خالفناه يوماً كيوم مكة، انطلِقُوا نُكاتبه على ما سألناه، فَأَتَوْا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: نعم لك ما سألتَ، أرأيت الرَّبَّة ماذا نصنعُ فيها؟ قال: "اهدِمُوها". قالوا: هيهاتَ لو تعلمُ الرَّبَّةُ أنك تُريد هدمها، لقتلت أهلها، فقال عمر بن الخطاب: ويحكَ يا ابنَ عبد ياليل، ما أجهلَك، إنما الرَّبَّة حجر. فقالوا: إنَّا لم نأتك يا ابن الخطاب، وقالوا لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَوَلَّ أنت هدمها، فأما نحن، فإنَّا لا نهدِمُها أبداً. قال: "فسَأَبْعَثُ إلَيْكُم مَنْ يَكْفِيكُم هَدْمَها" فَكاتبوه، فقال كِنانة بنُ عبد ياليل: ائذن لنا قبلَ رسولِك، ثم ابعثْ فى آثارنا، فإنَّا أعلمُ بقومنا، فأَذِنَ لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكرمهم وحبَاهم، وقالوا: يا رسولَ الله؛ أمِّر علينا رجلاً يؤمنا مِن قومنا، فأمَّر عليهم عثمانَ بن أبى العاصِ لِما رأى مِن حرصه على الإسلام، وكان قد تعلَّم سوراً مِن القرآن قبل أن يخرج، فقال كِنانة بن عبد ياليل: أنا أعلمُ الناس بثقيف، فاكتموهُمُ القضية، وخوِّفُوهم بالحرب والقتال، وأخبروهم أن محمداً سألنا أُموراً أبيناها عليه، سألنا أن نَهْدِمَ اللاتَ والعُزَّى، وأن نُحَرِّمَ الخمرَ والزِّنَى، وأن نُبْطِلَ أموالنا فى الربا.
فخرجت ثقيفٌ حين دنا منهم الوفدُ يتلقونهم، فلما رأوهم قد ساروا العَنَق، وقطروا الإبل،
وتغشَّوا ثيابهم كهيئة القوم قد حزِنُوا وكربوا، وَلم يرجعوا بخير، فقال بعضُهم لبعض: ما جاء وفدُكم بخير، ولا رجعوا به، وترجَّل الوفد، وقصدُوا اللاتَ، ونزلوا عندها واللات وثن كان بين ظهرانى الطائف، يُستر ويُهدى له الهَدْى كما يُهدى لبيت اللهِ الحرام فقال ناسٌ من ثقيف حين نزل الوفدُ إليها: إنَّهم لا عهد لهم برؤيتها، ثم رجع كُلُّ رجل منهم إلى أهله، وجاء كُلاً منهم خَاصَّتُه مِن ثقيف، فسألوهم ماذا جئتُم به وماذا رجعتم به؟ قالوا: أتينا رجلاً فظاً غليظاً يأخُذ مِن أمره ما يشاءُ، قد ظهر بالسيفِ، وداخ له العرب، ودان له الناس، فعرض علينا أُموراً شداداً: هدَم اللات والعُزَّى، وتركَ الأموال فى الربا إلا رؤوس أموالكم، وحرَّم الخمر والزِّنَى، فقالت ثقيف: واللهِ لا نقبل هذا أبداً. فقال الوفدُ: أصلحوا السلاح، وتهيؤوا للقتال، وتعبَّؤوا له، ورُمُّوا حِصنكم، فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة يُريدون القِتال، ثم ألقى الله عَزَّ وجَلَّ فى قلوبهم الرُّعبَ، وقالوا: واللهِ ما لنا به طاقة، وقد داخ له العرب كُلُّها، فارجعُوا إليه، فأعطُوه ما سأل، وصالِحُوه عليه. فلما رأى الوفد أنهم قد رغبوا، واختاروا الأمان على الخوف والحرب، قال الوفد: فإنَّا قد قاضيناه، وأعطيناه ما أحببنا، وشرطنا ما أردنا، ووجدناه أتقى الناس، وأوفاهم، وأرحمهم، وأصدقهم، وقد بُورك لنا ولكم فى مسيرنا إليه، وفيما قاضيناه عليه، فاقبلوا عافية الله، فقالت ثقيف: فلِم كتمتمُونا هذا الحديث، وغممتُمونَا أشدَّ الغم؟ قالوا: أردنا أن ينزِعَ اللهُ مِن قلوبكم نخوة الشيطان، فأسلموا مكانهم، ومكثوا أياماً. ثم قدم عليهم رُسُلُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أُمِّرَ عليهم خالدُ بن الوليد، وفيهم المغيرةُ بن شُعْبة، فلما قَدِمُوا، عَمَدُوا إلى اللات ليهدموها، واستكَفَّتْ ثقيف كُلُّها، الرِّجالُ والنساءُ والصبيانُ، حتى خرج العواتِق مِن الحِجال لا ترى عامةُ ثقيف أنها مهدومة يظنُّون أنها ممتنعة، فقام المغيرةُ بنُ
شُعْبة، فأخذ الكِرْزِين، وقال لأصحابه: واللهِ لأُضحكنَّكم من ثقيف، فضرب بالكِرْزِين، ثم سقط يركُض، فارتجَّ أهلُ الطائف بضجَّةٍ واحدة، وقالوا: أبعد اللهُ المغيرة، قتلته الرَّبَّة، وفرحوا حين رأوه ساقطاً، وقالوا: مَن شاء منكم، فليقرب، وليجتهد على هدمها، فواللهِ لا تُستطاع، فوثب المغيرة بن شُعْبة، فقال: قبَّحكم الله يا معشر ثقيف، إنما هى لكَاع حِجَارة ومَدَر، فاقبلوا عافيةَ اللهِ واعبدوه، ثم ضرب البابَ فكسره، ثم علا سورَها، وعلا الرجالُ معه، فما زالوا يهدِمُونها حجراً حجراً حتى سوَّوْها بالأرض، وجعل صاحب المفتاح يقول: ليغضبن الأساس، فليخْسِفَنَّ بهم، فلما سمع ذلك المغيرة، قال لِخالد: دعنى أحفر أساسها، فحفره حتى أخرجوا تُرابها، وانتزعوا حُليها ولباسها، فبُهِتَتْ ثقيف، فقالت عجوز منهم: أسلمها الرُّضَّاعُ، وتركوا المِصَاعَ.
وأقبل الوفدُ حتى دخلوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحُليها وكِسوتها، فقسمه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يومه، وحمد الله على نُصرة نبيه وإعزاز دينه، وقد تقدَّم أنه أعطاه لأبى سفيان بن حرب، هذا لفظ موسى بن عقبة.
وزعم ابن إسحاق أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم من تبوك فى رمضان، وقدم عليه فى ذلك الشهر وفد ثقيف.
وروينا فى "سنن أبى داود" عن جابر قال: اشترطَتْ ثقيفٌ عَلَى النَّبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلا صَدَقَة عليها ولا جِهَادَ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذلِكَ : "سَيَتَصَدَّقون ويُجَاهِدُونَ إذَا أسْلَمُوا".
وروينا فى "سنن أبى داود الطيالسى"، عن عثمان بن أبى العاص، أنَّ
النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره أن يجعل مَسْجِدَ الطائِفِ حيث كانت طاغيتُهم.
وفى "المغازى" لمعتمِر بن سليمان قال: سمعتُ عبد الله بن عبد الرحمن الطائفى يُحدِّث عن عثمان بن عبد الله، عن عمه عمرو بن أَوْس، عن عثمان بن أبى العاص، قال: استعملنى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أصغرُ السِّتَّة الذين وفدُوا عليه من ثقيف، وذلك أنى كنتُ قرأتُ سورة البقرة، فقلت: يا رسولَ الله؛ إنَّ القرآن يتفلَّتُ مِنِّى، فوضع يدَه على صدرى وقال: "يا شَيْطَانُ اخْرُجْ مِنْ صَدْرِ عُثمان" فما نسيتُ شيئاً بعده أريد حفظه.
وفى "صحيح مسلم" عن عثمان بن أبى العاص، قلتُ: يا رسول الله؛ إنَّ الشَيطَانَ قد حَالَ بينى وبَيْنَ صلاتى وقراءتى، قال: "ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقالُ لَهُ: خِنْزِبِ، فإذا أحْسَسْتهُ، فَتَعَوَّذْ باللهِ مِنْهُ، واتْفِلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلاثاً"، ففعلتُ، فأذهبَه اللهُ عنِّى.
فصل
وفى قصة هذا الوفد مِن الفقه، أنَّ الرجلَ من أهل الحرب إذا غَدَر بقومه، وأخذ أموالَهم، ثم قَدِم مسلماً، لم يتعرَّض له الإمامُ، ولا لما أخذه مِن المال، ولا يضمنُ ما أتلفه قبلَ مجيئه من نفس ولا مال، كما لم يتعرض النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أخذه المغيرةُ من أموال الثقفيين، ولا ضَمِنَ ما أتلفه
عليهم، وقال: "أما الإسلام فأقبلُ، وأما المال، فلست منه فى شىء".
ومنها: جوازُ إنزال المشرك فى المسجد، ولا سيما إذا كان يرجو إسلامه، وتمكينه من سماع القرآن، ومشاهدة أهل الإسلام، وعبادتهم.
ومنها: حسنُ سياسة الوفد، وتلطفهم حتى تمكنَّوا من إبلاغ ثقيف ما قدموا به فتصوَّروا لهم بصُورة المنكر لِما يكرهونه، الموافق لهم فيما يَهْوَوْنه حتى ركنوا إليهم، واطمأنوا، فلما علموا أنه ليس لهم بُد من الدخول فى دعوة الإسلام أذعنوا، فأعلمهم الوفدُ أنهم بذلك قد جاؤوهم، ولو فاجؤوهم به من أول وهلة لما أقرُّوا به، ولا أذعنوا، وهذا مِن أحسن الدعوة، وتمامِ التبليغ، ولا يتأتَّى إلا مع ألبَّاءِ الناس وعُقلائهم.
ومنها: أن المستحق لإمرة القوم وإمامتِهم أفضلُهم وأعلمُهم بكتاب الله، وأفقهُهم فى دينه.
ومنها: هدمُ مواضِع الشِّرك التى تُتخذ بيوتاً للطواغيت، وهدمُها أحبُّ إلى الله ورسوله، وأنفعُ للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير، وهذا حالُ المشاهد المبنية على القبور التى تُعبد مِن دون الله، ويُشْرَك بأربابها مع الله، لا يَحِلُّ إبقاؤها فى الإسلام، ويجب هدمُها، ولا يَصحُّ وقفُها، ولا الوقفُ عليها، وللإمام أن يقطِعَها وأوقافها لجند الإسلام، ويستعينَ بها على مصالح المسلمين، وكذلك ما فيها من الآلات، والمتاع، والنذور التى تُساق إليها، يُضاهىَ بها الهدايا التى تُساق إلى البيت الحرام، للإمام أخذُها كلها، وصرفها فى مصالح المسلمينَ، كما أخذ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أموال بيوت هذه الطواغيت، وصرفها فى مصالح الإسلام، وكان يفعل عندها ما يفعل عند هذه المشاهد، سواء من النذور لها، والتبركِ بها، والتمسح بها، وتقبيلها، واستلامها. هذا كان شِركَ القوم بها، ولم يكونوا يعتقِدون أنها خَلَقَتِ
السَّمواتِ والأرضَ، بل كان شِركُهم بها كشِرك أهلِ الشِّرك من أرباب المشاهِد بعينه.
ومنها: استحبابُ اتخاذِ المساجد مكانَ بيوت الطواغيت، فيُعبد اللهُ وحدَه، لا يُشْرَك به شيئاً فى الأمكنه التى كان يُشرَكُ به فيها، وهكذا الواجبُ فى مثل هذه المشاهد أن تُهدَمَ، وتُجعلَ مساجِدَ إن احتاج إليها المسلمون، وإلا أقطعها الإمامُ هى وأوقافُها للمقاتلة وغيرهم.
ومنها: أن العبدَ إذا تعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم، وتَفَلَ عن يساره، لم يضُرَّه ذلك، ولا يقطعُ صلاته، بل هذا مِن تمامها وكمالها.. والله أعلم.
فصل
قال ابن إسحاق: ولما افتتح رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضَرَبَتْ إليه وفُود العرب مِن كل وجه، فدخلوا فى دين الله أفواجاً يضربِون إليه مِن كل وجه.
فصل
وقد تقدم ذكر وفد تميم ووفد طيئ.
ذكر وفد بنى عامر، ودعاء النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عامر بن الطُّفيل
وكفاية الله شره وشر أَرْبَد بن قيس بعد أن عصم منهما نبيه
روينا فى كتاب "الدلائل" للبيهقى، عن يزيد بن عبد الله أبى العلاء، قال: وَفَدَ أبى فى وَفْدِ بنى عامر إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: أنت سيدُنا، وذُو
الطَّوْل علينا فقال: "مَهْ مَهْ، قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، وَلا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانَ، السَّيِّدُ الله".
روينا عن ابن إسحاق، قال: لما قدم على رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفدُ بنى عامر فيهم عامرُ بن الطُّفيل، وأرْبَدُ بن قيسٍ بن جزء بن خالد بن جعفر، وجَبَّارُ بن سُلْمَى ابن مالك بن جعفر، وكان هؤلاء النَّفَر رؤساءَ القوم وشياطينهم، فقدم عدوُّ الله عامرُ بنُ الطُّفيل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهُوَ يريد الغدرَ به، فقال له قومُه: يا عامر؛ إنَّ الناس قد أسلموا، فقال: واللهِ لقد كنتُ آليتُ ألا أنتهىَ حتَّى تتبع العرب عَقِبَى، وأنا أتبعُ عَقِبَ هذا الفتى مِن قريش، ثم قال لأرْبَد: إذا قَدِمنا على الرجل، فإنى شاغل عنك وجهه،
فإذا فعلتُ ذلك، فاعْلُهُ بالسِّيف، فلما قَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال عامر: يا محمد؛ خالِّنى. قال: "لا واللهِ حتى تُؤمِنَ بالله وحدّه". قال: يا محمد؛ خالِّنى. قال: "حتى تؤمنَ بالله وحده لا شريك له"، فلما أبى عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال له: أما واللهِ لأملأنها عليكَ خيلاً ورِجالاً. فلما ولَّى، قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهُمَّ اكْفِنى عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْل"، فلما خرجوا مِن عند رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال عامر لأرْبَد: ويحك يا أربد، أين ما كُنْتُ أمَرْتُك بِه؟ واللهِ ما كان على وجه الأرض أخوفُ عندى على نفسى منك، وايمُ اللهِ لا أخافُك بعد اليوم أبداً. قال: لا أبا لك، لا تَعْجَلْ علىَّ، فواللهِ ما هممتُ بالذى أمرتنى به، إلا دخلتَ بينى وبين الرجل، أفأضرِبُك بالسيف؟
ثم خرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، بعث الله على عامر بن الطُّفيل الطاعونَ فى عنقه، فقتله الله فى بيت امرأة من بنى سَلول، ثم خرج أصحابُه حين رأوه حتى قَدِمُوا أرض بنى عامر، أتاهم قومُهم فقالوا: ما وراءك يا أربَد؟ فقال: لقد دعانى إلى عبادة شىء لوددتُ أنه عندى فأرمِيَه بنبلى هذه حتى أقتُلَه، فخرج بعد مقالته بيوم أو بيومين معه جمل يتبعه، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما، وكان أربد أخا لبيد بن ربيعة لأُمه، فبكى ورثاه.
وفى "صحيح البخارى" أنَّ عامِرَ بنَ الطُّفيل أتى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: أُخيِّرُك بَيْنَ ثَلاثِ خِصال: يكونُ لك أهلُ السهلِ، ولى أهلُ المدر، أو
أكونُ خليفَتك من بعدك، أو أغزوك بغَطَفَان بألف أشقر، وألف شقراء، فطُعِنَ فى بيت امرأة فقال: أغُدَّة كَغُدَّةِ البَكْر فى بيت امرأة من بنى فلان؟ ائتونى بفرسى، فركِبَ، فمات على ظهر فرسه.
فصل: فى قدوم وفد عبد القيس [وما فى قصتهم من الفوائد]
فى "الصحيحين" مِن حديث ابنِ عباس: أنَّ وفدَ عبد القيس قَدِمُوا على النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "مِمَّنِ القَوْمُ"؟ فقالوا: مِن رَبيعة. فقال: "مَرْحَباً بِالوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى". فقالوا: يا رسول الله؛ إن بيننا وبينك هذا الحىَّ مِن كفار مُضَرَ، وإنَّا لا نِصِلُ إليك إلا فى شهرٍ حرام، فمُرنا بأَمْرٍ فَصْلٍ نأخذُ به ونأمر به مَن وراءنا، وندخُل به الجنَّة، فقال: "آمُرُكُم بأَرْبَعٍ، وأَنْهاكُم عَنْ أَرْبَع: آمُرُكُم بالإيمَانِ باللهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الإيمان بالله؟ شَهَادَةُ أَنْ لا إلَه إلا اللهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله، وإقَام الصَّلاةِ، وإيتَاء الزَّكَاةِ، وصَوْم رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعطُوا الخُمْسَ مِنَ المَغْنَم. وأَنْهَاكُمْ عَنْ أرْبَع: عَنِ الدُّبَّاءِ، والحَنْتَم، والنَّقِير، والمُزَفَّتِ، فَاحْفَظُوهُنَّ وادْعُوا إلَيْهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُم". زاد مسلم: قالوا: يا رسول الله؛ ما عِلمُكَ بِالنَّقِير؟
قال: "بلى جِذع تَنقُرُونَهُ، ثمَّ تُلْقُونَ فيه مِن التَّمْرِ، ثُمَّ تَصُبُّونَ عَلَيْهِ المَاءَ حَتَّى يَغلِىَ، فإذَا سَكَنَ، شَرِبْتُمُوهُ، فعسى أحَدُكُم أَنْ يَضْرِبَ ابْنَ عَمِّهِ بالسَّيفِ"، وفى القوم رجل به ضربة كذلك. قال: وكنت أخبؤها حَياءً من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: ففيم نشرَبُ يا رسول الله؟ قال: "اشْرَبُوا فى أسْقِيَةِ الأدَمِ التى يُلاثُ عَلَى أفْوَاهِها". قالوا: يا رسولَ الله؛ إنَّ أرضَنَا كثيرةُ الجِرذان لا تبقى فيها أسقية الأَدَم، قال: "وإن أكلها الجِرْذَانُ" مرتين أو ثلاثاً، ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأشج عبد القيس: "إنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُما الله: الحِلْمُ والأَنَاةُ".
قال ابن إسحاق: قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجارود بن بشر بن المعلَّى وكان نصرانياً، فجاء رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى وفد عبد القيس، فقال: يا رسولَ الله؛ إنى على دينٍ، وإنى تاركٌ دِينِى لِدينك، فتضمنُ لى بما فيه؟ قال: "نعم أَنا ضَامِنٌ لِذلِك، إنَّ الَّذى أدْعُوكَ إلَيْهِ خَيْرٌ مِنَ الَّذِى كُنْتَ عَلَيْهِ"، فأسلمَ وأسلمَ أصحابه، ثم قال: يا رسولَ الله؛ احملنا. فقال: "واللهِ مَا عِندى مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ" فقال: يا رسولَ الله؛ إنَّ بَيْنَنَا وبَيْنَ بلادِنا ضَوَالَّ من ضوالِّ الناس، أفنتبلغُ عليها؟ قال: "لا، تِلْكَ حَرَقُ النَّارِ".
فصل
ففى هذه القصة: أن الإيمانَ باللهِ هو مجموعُ هذه الخصالِ مِن القول والعمل، كما على ذلك أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعون، وتابعوهم كُلُّهم، ذكره الشافعى فى "المبسوط"، وعلى ذلك ما يُقارب مائة دليل مِن الكتاب والسُّنَّة.
وفيها: أنه لم يَعُدَّ الحجَّ فى هَذِهِ الخصال، وكان قدومُهم فى سنة تِسع، وهذا أحدُ ما يُحتج به على أن الحَجَّ لم يكن فُرِضَ بعد، وأنه إنما فُرِض فى العاشرة، ولو كان فُرِضَ لعدَّه من الإيمان، كما عدَّ الصوم والصلاة والزكاة.
وفيها: أنه لا يُكره أن يُقال: "رمضان" للشهر خلافاً لمن كره ذلك، وقال: لا يُقال إلا شهر رمضان.
وفى "الصحيحين ": "مَن صَامَ رمضان إيمَاناً واحْتِسَاباً، غُفِرَ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
وفيها: وجوبُ أداءِ الخُمس من الغنيمة، وأنه من الإيمان.
وفيها: النهىُ عن الانتباذ فى هذه الأوعية، وهل تحريمُه باقٍ أو منسوخ؟ على قولين، وهما روايتان عن أحمد. والأكثرون على نسخه بحديث بُرَيدة الذى رواه مسلم وقال فيه: "وكُنْتُ نَهَيْتُكُم عَن الأَوْعِيَةِ فَانْتَبِذُوا فِيمَا بَدَا لَكُمْ، ولا تَشْرَبُوا مُسْكِراً". ومَن قال: بأحكام أحاديث النهى،
وأنها غير منسوخة، قال: هى أحاديث تكادُ تبلغ التواتر فى تعددها وكثرة طُرقها، وحديثُ الإباحة فرد، فلا يبلُغْ مقاومتَها، وسر المسألة أن النَّهى عن الأوعية المذكورة من باب سدِّ الذرائع، إذ الشرابُ يُسرع إليه الإسكارُ فيها. وقيل: بل النهى عنها لصلابتها، وأن الشراب يُسكر فيها، ولا يُعلم به بخلاف الظروف غير المزفتة، فإن الشرابَ متى غلا فيها وأسكر، انشقت، فيُعلم، بأنه مسكر، فعلى هذه العِلَّة يكون الانتباذ فى الحجارة، والصُّفر أولى بالتحريم، وعلى الأول لا يحرم، إذ لا يُسرِعُ الإسكار إليه فيها، كإسراعه فى الأربعة المذكورة، وعلى كلا العِلَّتين، فهو من باب سدِّ الذريعة، كالنهى أولاً عن زيارة القبور سداً لذريعة الشِّركِ، فلما استقر التوحيدُ فى نفوسهم، وقوىَ عندهم، أذِن فى زيارتِها، غير أن لا يقولوا هُجراً. وهكذا قد يقال فى الانتباذ فى هذه الأوعية إنه فطمهم عن المسكر وأوعيته، وسدَّ الذريعة إليه إذ كانوا حديثى عهد بشربه، فلما استقر تحريمُه عندهم، واطمأنت إليه نفوسُهم، أباح لهم الأوعية كُلَّها غير أن لا يشربوا مسكراً، فهذا فِقه المسألة وسِرُّها.
وفيها: مدح صفتى الحِلم والأناة، وأنَّ الله يحبهما، وضِدهما الطيشُ والعَجَلة، وهما خُلُقَانِ مذمومانِ مفسدان للأخلاق والأعمال.
وفيه دليل على أن اللهَ يُحِبُّ من عبده ما جبله عليه من خصال الخير، كالذكاء، والشجاعة، والحِلم.
وفيه دليل على أن الخُلُقَ قد يحصل بالتخلُّق والتكلف، لقوله فى هذا الحديث: "خُلُقَيْنِ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا، أَوْ جَبَلَنى الله عَلَيْهِما"؟، فقال: "بَلْ جُبِلْتَ عَلَيْهِمَا"
وفيه دليل على أنه سُبحانه خالقُ أفعالِ العباد وأخلاقِهِم، كما هو خالقُ ذَوَاتِهِم وصفاتِهِم، فالعبدُ كُلُّه مخلوق ذاتُه وصفاتُه وأفعالُه، ومَن أخرج أفعالَه عن خلق الله، فقد جعل فيه خالقاً مع الله، ولهذا شبَّه السَّلَفُ القَدَرِيَّة النفاة بالمجوس، وقالوا: هم مجوسُ هذه الأُمَّة، صحَّ ذلك عن ابن عباس.
وفيه إثباتُ الجَبْلِ لا الجَبْرِ للهِ تعالى، وأنه يَجْبِل عبده على ما يريد، كما جبل الأشجَّ على الحِلم والأناة، وهما فِعلان ناشئان عن خُلُقين فى النفس، فهو سبحانه الذىِ جبل العبدَ على أخلاقه وأفعاله، ولهذا قال الأوزاعى وغيرُه من أئمة السَّلَف: نقول: إن الله جبلَ العبادَ على أعمالهم، ولا نقول: جَبَرَهم عليها. وهذا من كمال علم الأئمة، ودقيقِ نظرهم، فإن الجبر أن يُحْمَل العبد على خلاف مراده، كجبر البِكْر الصغيرة على النكاح، وجبر الحاكم مَن عليه الحق على أدائه، والله سبحانه أقدرُ من أن يجبر عبده بهذا المعنى، ولكنه يجبُلُه على أن يفعل ما يشاء الرب بإرادة عبده واختياره ومشيئته، فهذا لون، والجبر لون.
وفيها: أنَّ الرجلَ لا يجوزُ له أن ينتفع بالضالة التى لا يجوز التقاطُها، كالإبل، فإنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يجَوِّزْ للجارود ركوب الإبل الضالة، وقال: "ضالَّةُ المُسلْمِ حَرَقُ النَّارِ" ، وذلك لأنه إنما أُمِرَ بتركها، وأن لا يلتقطها حفظاً على ربِّها حتى يَجِدَها إذا طلبها، فلو جوَّز له ركوبَها والانتفاعَ بها، لأفضى إلى أن لا يقدر عليها ربُّها، وأيضاً تطمع فيها النفوس، وتتملكها، فمنع الشارع من ذلك.
فصل: فى قدوم وفد بنى حنيفة
قال ابن إسحاق: قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد بنى حنيفة، فيهم مُسَيْلِمةُ الكذَّاب، وكان منزلُهم فى دار امرأة من الأنصار من بنى النجَّار، فأتوا بمُسَيْلِمَةَ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْتَرُ بالثياب، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس مع أصحابه، فى يده عَسِيبٌ من سَعَفِ النخل، فلما انتهى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم يسترونه بالثياب، كلَّمه وسأله، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ سَأَلتنى هذا العَسِيبَ الَّذِى فى يدى مَا أَعْطَيْتُك".
قال ابن إسحاق: فقال لى شيخ من أهلِ اليمامة من بنى حنيفة: إنَّ حديثه كان على غير هذا، زعم أن وفد بنى حنيفة أتَوْا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وخلَّفُوا مُسَيْلِمَةَ فى رحالهم، فلما أسلموا، ذكروا له مكانه، فقالُوا: يا رسول الله؛ إنَّا قد خلَّفنا صاحباً لنا فى رحالنا وركابنا يحفظُها لنا، فأمر له رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أمر به للقوم، وقال: "أما إنه ليس بِشَرِّكُم مكاناً"، يعنى حِفظَه ضَيْعَة أصحابِه، وذلك الذى يريد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم انصرفُوا وجاؤوه بالذى أعطاه، فلما قدموا اليمامه، ارتدَّ عدوُّ اللهِ وتنبَّأ، وقال: إنى أُشْرِكْتُ فى الأمر معه، ألم يَقُلْ لكم حين ذكرتمونى له: "أما إنه ليس بشرِّكم مكاناً"؟، وما ذاك إلا لما كان يعلم أنى قد أُشركت فى الأمر معه، ثم جعل يسجع السجعات، فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم اللهُ على الحُبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صِفَاقٍ وَحَشا. ووضع عنهم الصلاةَ، وأحلَّ لهم الخمر والزِّنَى، وهو مع ذلك
يشهد لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نبىّ، فأصفقت معه بنو حنيفة على ذلك.
قال ابن إسحاق: وقد كان كتب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِن مُسَيْلِمَة رسول الله إلى محمَّد رسولِ الله، أما بعد: فإنى أُشْرِكْتُ فى الأمر معك، وإن لنا نِصفَ الأمر، ولقريشٍ نصفَ الأمر، وليس قريش قوماً يَعْدِلُون. فقدِم عليه رسولُه بهذا الكتاب، فكتب إليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بسم الله الرحمن الرحيم: مِنْ محمَّدٍ رسولِ الله، إلى مُسَيْلِمَة الكذَّاب، سلامٌ على مَن اتَّبع الهُدى. أما بعد: فإن الأرض للهِ يُورثها مَن يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين"، وكان ذلك فى آخر سنة عشر.
قال ابن إسحاق: فحدَّثنى سعدُ بنُ طارق، عن سلمة بن نُعيم بن مسعود، عن أبيه، قال: سمعتُ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين جاءه رَسُولا مُسَيْلِمَة الكذَّاب بكتابه يقولُ لهما: "وأَنْتُمَا تَقُولاَنِ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ"؟ قالا: نعم. فقال: "أمَا واللهِ لَوْلاَ أنَّ الرُّسُلَ لاَ تُقْتَلُ، لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُما".
وروينا فى "مسند أبى داود الطيالسى" عن أبى وائل، عن عبد الله، قال: جاء ابنُ النَّوَّاحة وابنُ أُثَال رسَولين لمُسَيْلِمَة الكذَّاب إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تشهدَانِ أِّنِّى رَسُول الله"؟ فقالا: نشهد أن مُسَيْلِمَةَ رسولُ الله. فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "آمَنْتُ بِاللهِ ورَسُولِهِ، وَلَوْ كُنْتُ قَاتِلاً رَسُولاَ لَقَتَلْتُكُما". قال عبد الله: فمضت السُّنَّة بأن الرُّسُل لا تُقتل.
وفى "صحيح البخارى" عن أبى رجاء العُطَارِدى، قال: لما بُعِثَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعْنَا به، لحقنا بمُسَيْلِمَة الكذَّاب، فلحقنا بالنار، وكنا نعبُدُ الحجرَ فى الجاهلية، فإذا وجدنا حجراً هو أحسنُ منه، ألقينا ذلك وأخذناه، فإذا لم نجد حجراً، جمعنا جُثْوَةً من تراب، ثم جئنا بالشاةِ فحلبناها عليه، ثم طُفنا به، وكنا إذا دخل رجب، قلنا: جاء مُنْصِلُ الأسِنَّة، فلا نَدَعُ رُمحاً فيه حديدة، ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناها وألقيناها.
قلت: وفى "الصحيحين" من حديث نافع بن جُبير، عن ابن عباس، قال: قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الكذَّابُ على عهد رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينةَ، فجعل يقولُ: إن جعل لى محمدٌ الأمرَ مِن بعده، تبعتُه، وقَدِمَها فى بَشَرٍ كثير من قومه، فأقبل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه ثابتُ بنُ قيس بن شَمَّاس، وفى يدِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِطعةُ جريد حتى وقف على مُسَيْلِمَة فى أصحابه، فقال: "إن سَأَلْتَنى هذِهِ القِطعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، ولَنْ تَعْدُوَ أمْرَ اللهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أدْبَرْتَ، ليَعْقِرَنَّكَ اللهُ، وإنِّى أُرَاكَ الَّذِى أُريتُ فيهِ ما أُريتُ، وهذا ثابت بن قيس يُجيبك عنى" ثم انصرف. قال ابنُ عباس: فسألتُ عن قول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّك الَّذِى أُريتُ فيه ما أُريتُ" فأخبرنى أبو هريرة، أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فى يَدَىَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَب، فَأَهَمَّنى شأنُهُما، فأُوحِىَ إلىَّ فى المَنامِ أَن انْفُخهُما، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأوَّلْتُهُما كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ مِنْ بَعْدِى، فَهذانِ هُما، أَحَدُهُما العَنسِى صَاحِبُ صَنْعَاءَ، والآخَرُ مُسَيْلِمَةُ الكَذَّابُ صَاحِبُ اليَمَامَةِ". وهذا أصح من حديث ابن إسحاق المتقدم.
وفى "الصحيحين" مِن حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"بَيْنَا أَنا نَائِمٌ إذ أُتيتُ بِخَزَائِنِ الأرْضِ، فوُضِعَ فى يَدَىَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَبُرَا عَلىَّ وأَهَمَّانى، فأُوْحى إلىَّ أَن انفُخْهُما، فَنَفَخْتُهُمَا فَذَهَبَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الكذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أنا بَيْنَهُمَا، صَاحِبَ صَنعَاءَ وصَاحِبَ اليَمَامَةِ".
فصل: فى فقه هذه القصة
فيها: جوازُ مكاتبةِ الإمام لأهل الرِّدَّة إذا كان لهم شَوْكة، ويكتب لهم ولإخوانهم من الكفار: سلامٌ على مَن اتبَّع الهُدَى.
ومنها: أنَّ الرسول لا يُقتل ولو كان مرتداً، هذه السُّنَّة.
ومنها: أنَّ للإمام أن يأتىَ بنفسه إلى مَن قدم يُريد لقاءه من الكفار.
ومنها: أنَّ الإمام ينبغى له أن يستعينَ برجل من أهل العلم يُجيب عنه أهلَ الاعتراض والعِناد.
ومنها: توكيلُ العالِم لبعض أصحابِه أن يتكلَّم عنه، ويُجيب عنه.
ومنها: أنَّ هذا الحديثَ من أكبرِ فضائلِ الصِّدِّيق، فإنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفخ السِّوارين بروحه فطارا، وكان الصِّدِّيق هو ذلك الرُّوح الذى نفخ مُسَيْلِمَة وأطاره.
قال الشاعر:
فَقُلْتُ لَهُ ارْفَعْهَا إلَيْكَ فَأَحْيِهَا ... بِرُوحِكَ واقْتَتْهُ لَهَا قِيتَةً قَدْرَا
ومن هاهنا دلَّ لباس الحلى للرجل على نكَدٍ يلحقه وهمٍّ يناله، وأنبأنى أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نِعمة بن سرور المقدسى المعروف بالشهاب العابِر. قال: قال لى رجل: رأيتُ فِى رجلى خِلخالاً، فقلتُ له: تتخلخل رجلك بألم، وكان كذلك.
وقال لى آخر: رأيتُ كأن فى أنفى حلقةَ ذهبٍ، وفيها حب مليح أحمر، فقلت له: يقع بك رعاف شديد، فجرى كذلك.
وقال آخر: رأيتُ كُلاباً معلقاً فى شفتى، قلت: يقع بك ألم يحتاج إلى الفصد فى شفتك، فجرى كذلك.
وقال لى آخر: رأيتُ فى يدى سِواراً والناس يُبصرونه، فقلتُ له: سوء يُبصره الناس فى يدك، فعن قليل طلع فى يده طلوع.
ورأى ذلك آخر لم يكن يُبصره الناس، فقلت له: تتزوجُ امرأةً حسنة، وتكون رقيقة.
قلتُ: عبَّر له السِّوار بالمرأة لما أخفاه، وستره عن الناس، ووصفها بالحُسن لحُسن منظر الذهب وبهجته، وبالرِّقة لشكل السوار.
والحلية للرجل تنصرف على وجوه. فربما دلَّت على تزويج العُزَّاب لكونها من آلات التزويج، وربما دلَّت على الإماء والسرارى، وعلى الغناء، وعلى البنات، وعلى الخدم، وعلى الجهاز، وذلك بحسب حال الرائى وما يليق به.
قال أبو العباس العابر: وقال لى رجل: رأيتُ كأنَّ فى يدى سواراً منفوخاً لا يراه الناس، فقلت له: عندك امرأة بها مرضُ الاستسقاء، فتأمل كيف عبَّر له السِّوار بالمرأة، ثم حكم عليها بالمرض لصُفرة السِّوار، وأنه مرض الاستسقاء الذى ينتفخ معه البطن.
قال: وقال لى آخر: رأيتُ فى يدى خلخالاً وقد أمسكه آخر، وأنا ممسك له، وأصيحُ عليه وأقول: اترك خلخالى، فتركه، فقلتُ له: فكان الخلخالُ فى يدك أملس؟ فقال: بل كان خشناً تألمتُ منه مرةً بعد مرةً، وفيه شراريف، فقلت له: أُمك وخالُك شريفان، ولستَ بشريف، واسمُك عبد القاهر، وخالك لسانه نجس ردىء يتكلم فى عِرضك، ويأخذ مما فى يدك، قال: نعم، قلت: ثم إنه يقع فى يد ظالم متعد، ويحتمى بك، فتشدُّ منه، وتقولُ: خلِّ خالى، فجرى ذلك عن قليل.
قلت: تأمل أَخْذَه الخال من لفظ "الخلخال"، ثم عاد إلى اللفظ بتمامه حتى أخذ منه، خلِّ خالى، وأخذ شرفه من شراريف الخلخال، ودلَّ على شرف أُمه، إذ هى شقيقة خاله، وحكم عليه بأنه ليس بشريف، إذ شرفات الخال الدالة على الشرف اشتقاقاً هى فى أمر خارج عن ذاته، واستدل على أن لسانَ خاله لسان ردىء يتكلم فى عِرضه بالألم الذى حصل له بخشونة الخلخال مرة بعد مرة، فهى خشونةُ لسان خاله فى حقه، واستدل على أخذ خاله ما فى يديه بتأذيه به، وبأخذه من يديه فى النوم بخشونته، واستدلَّ بإمساك الأجنبى للخلخال، ومجاذبة الرائى عليه على وقوع الخال فى يد ظالم متعد يطلب منه ما ليس له، واستدلَّ بصياحه على المجاذب له، وقوله: خلِّ خالى على أنه يعين خاله على ظالمه، ويشدٍّ منه، واستدل على قهره لذلك المجاذِب له، وأنه القاهر يده عليه على أنه اسمه عبد القاهر، وهذه كانت حالَ شيخنا هذا، ورسوخه فى علم التعبير، وسمعتُ عليهِ عدة أجزاء، ولم يتفق لى
قراءةُ هذا العلم عليه لصغر السن واخترام المنية له رحمه الله تعالى.
فصل: فى قدوم وفد طيئ على النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال ابن إسحاق: وقدم على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد طيئ، وفيهم زيدُ الخيل، وهو سيِّدُهم، فلما انتَهَوْا إليه، كلَّمهم، وعرض عليهم الإسلام، فأسلموا وحَسُن إسلامهم، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما ذُكِرَ لى رَجُلٌ مِنَ العَرَبِ بِفَضْلٍٍ ثُمَّ جَاءَنى إلاَّ رَأَيْتُه دُونَ ما يُقالُ فيه إلاَّ زَيْدَ الخَيْلِ: فَإنَّه لَمْ يَبْلُغ كُلَّ ما فِيهِ"، ثم سمَّاه: زيد الخير، وقطع له فيداً وأرضين معه، وكتب له بذلك، فخرج من عند رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راجعاً إلى قومه، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنْ يُنْجَ زَيْدٌ مِنْ حُمَّى المَدِينَةِ" فإنَّهُ قال: وقد سمَّاها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باسم غير الحُمَّى وغير أُمِّ مَلْدَم، فلم يُثبته، فلما انتهى إلى ماء مِن مياه نجد يقال له: فَرْدَة، أصابته الحُمَّى بها، فمات، فلما أحس بالموت أنشد:
أمُرْتَحِلٌ قَوْمِى المَشَارِقَ غَدْوَةً ... وَأُتْرَكُ فى بيْتٍ بفَرْدَةَ مُنجِد
ألا رُبَّ يَوْمٍ لَوْ مَرِضْتُ لَعَادَنى
... عَوَائِدُ مَنْ لَمْ يُبْرَ مِنْهُنَّ يَجْهَدِ
قال ابن عبد البر: وقيل: مات فى آخر خلافة عمر رضى الله عنه، وله
ابنان: مُكْنِف، وحُريث، أسلما، وصحبا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهدا قِتال أهل الرِّدَّة مع خالدِ بن الوليد.
فصل: فى قدوم وفد كِندة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال ابن إسحاق: حدثنى الزُّهْرى، قال: قدم الأشعثُ بنُ قيس على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ثمانين أو ستين راكباً من كِندة، فدخلُوا عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسجده قد رَجَّلُوا جُمَمَهم، وتسلَّحوا، ولبسوا جِبَابَ الحِبَرَاتِ مكفَّفة بالحرير، فلما دخلوا، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أوَلَمْ تُسْلِموا"؟ قالوا: بلى. قال: "فَما بالُ هذا الحَرير فى أعْنَاقِكُم"؟. فشقُّوهُ، ونزعوه، وألقَوْه، ثم قال الأشعث: يا رسول الله؛ نحنُ بنو آكلِ المُرار، وأنت ابنُ آكلِ المُرار، فضحك رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: "ناسِبُوا بهذا النَّسَبِ رَبِيعَةَ بن الحارث، والعَبَّاس بن عَبْد المُطَّلب".
قال الزُّهْرى وابن إسحاق: كانا تاجرين، وكانا إذا سارا فى أرض العرب، فسُئِلا مَن أنتُما؟ قالا: نحن بنو آكِلِ المُرار، يتعزَّزون بذلك فى العرب، ويدفعون به عن أنفسهم، لأن بنِى آكل المُرار من كِندة كانوا ملوكاً. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بن كِنَانَة لا نَقْفُو أُمَّنا، ولا ننْتَفِى مِنْ أبِينَا".
وفى "المسند" من حديث حمَّاد بن سلمة، عن عقيل بن طلحة، عن مسلم ابن هيضم، عن الأشعث بن قيس، قال: قدمنا على رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدَ كِندة، ولا يَرون إلا أنى أفضلُهم، قلتُ: يا رسول الله؛ ألستُم منا؟ قال: "لا، نَحْنُ بَنُو النَّضْر بن كِنَانَة، لا نَقْفُو أُمَّنا ولا نَنْتَفى مِنْ أبينا"، وكان الأشعث يقول: لا أُوتى برجل نفى رجلاً مِن قريش من النَّضْر بن كِنانة إلا جلدتُه الحد.
وفى هذا من الفقه، أنَّ مَن كان مِن ولد النَّضْر بن كِنانة، فهو من قريش.
وفيه: جوازُ إتلاف المالِ المحرَّم استعمالُه، كثياب الحرير على الرجال، وأنَّ ذلك ليس بإضاعة.
والمُرار: هو شجر من شجر البوادى، وآكل المُرار: هو الحارث بن عَمْرو ابن حِجر بن عَمْرو بن معاوية بن كندة، وللنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جدة مِن كندة مذكورة، وهى أُم كِلاب بن مُرَّة، وإياها أراد الأشعث.
وفيه: أنَّ مَن انتسب إلى غير أبيه، فقد انتفى من أبيه، وقفى أُمه، أى: رماها بالفجور.
وفيها: أنَّ كِندة ليسوا من ولد النَّضْر بن كِنانة.
وفيه: أنَّ مَن أخرج رجلاً عن نسبه المعروف، جُلِدَ حَدَّ القذف.
فصل: فى قدوم وفد الأشعريين وأهل اليمن
روى يزيد بن هارون، عن حُمَيد، عن أنس، أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"يَقْدَمُ قَوْمٌ هم أرَقُّ منكم قُلُوباً"، فقدِم الأشعريون، فجعلوا يرتجزون:
غَداً نَلْقَى الأَحِبَّة ... مُحَمَّداً وحِزْبَه
وفى "صحيح مسلم" عن أبى هريرة، قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "جَاء أَهْلُ اليَمَنِ، هُمْ أرَقُّ أَفْئِدَةً وأَضْعَفُ قلوباً، والإيمانُ يَمانٍ، والحِكْمَة يَمَانِيةٌ، والسَّكِينةُ فى أهْل الغَنَم، الفَخْرُ والخُيَلاءُ فى الفَدَّادِين مِنْ أهْلِ الوَبَر قِبَلَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ".
وروينا عن يزيد بن هارون، أنبأنا ابنُ أبى ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد ابن جُبير بن مطعم، عن أبيه، قال: كنا مَع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سفر، فقال: "أتَاكُم أهْلُ اليَمَنِ كَأَنَّهُم السَّحَابُ، هُمْ خِيَارُ مَنْ فى الأرْضِ"، فقال رجلٌ من الأنصار: إلا نحنُ يا رسولَ الله، فسكت، ثم قال: إلا نحنُ يا رسولَ الله، فسكتَ، ثم قال: "إلاَّ أنْتُم" كَلِمَةً ضَعِيفَةً.
وفى "صحيح البخارى": أنَّ نَفَراً من بنى تميم، جاؤوا إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "أَبْشِرُوا يا بنى تَمِيم"، فقالوا: بَشَّرْتَنَا فأَعطنا، فتغيَّر وجهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجاء نَفَرٌ من أهل اليمن، فقال: "اقْبَلُوا البُشْرى إذْ لَمْ يَقْبَلهَا بَنُو تَمِيم"، قالوا: قد قَبِلْنَا، ثم قالُوا: يا رسول الله؛ جئنا لنتفقه فى الدين، ونسألك عن أول هذا الأمر، فقال: "كَانَ اللهُ، ولَمْ يَكُنْ
شَىْءٌ غَيْره، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ، وكَتَبَ فى الذِّكْرِ كُلَّ شَىْء".
فصل: فى قدوم وفد الأزدِ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُرَدُ بنُ عبد الله الأزْدى، فأسلم وحَسُن إسلامُه فى وفد من الأَزْد، فأمَّره رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مَن أسلم مِن قومه، وأمره أن يُجاهد بمن أسلم مَن كان يليه مِن أهل الشِّركِ من قبائل اليمن، فخرج صُرَدُ يسيرُ بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزل بِجُرَشَ، وهى يومئذ مدينة مغلقة، وبها قبائلُ من قبائل اليمن، وقد ضوت إليهم خَثْعَمُ، فدخلوها معهم حين سمعوا بمسير المسلمين إليهم، فحاصرُوهم فيها قريباً من شهر، وامتنعوا فيها، فرجع عنهم قافلاً، حتى إذا كان فى جبل لهم يقال له: "شَكَرَ"، ظن أهلُ جُرَشَ أنه إنما ولَّى عنهم منهزماً، فخرجُوا فى طلبه حتى إذا أدركوه، عطف عليهم، فقاتلهم، فقتلهم قتلاً شديداً، وقد
كان أهلُ جُرَشَ بعثُوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلين منهم يرتادان وينظُران، فبينا هما عند رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشيةً بعدَ العصر، إذ قالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بأىِّ بلاد اللهِ شكَر"؟ فقام الجُرشيانِ، فقالا: يا رسول الله؛ ببلادنا جبل يُقال له: "كشر"، وكذلك تُسميه أهلُ جُرش، فقال: "إنَّهُ لَيْسَ بِكَشَر، ولكِنَّهُ شكر"، قالا: فما شأنُه يا رسولَ اللهِ؟ قال: فقال: "إنَّ بُدْنَ اللهِ لتُنْحَرُ عِنْدَهُ الآن"، قال: فجلس الرجلانِ إلى أبى بكر، وإلى عثمان، فقالا لهما: ويحكما، إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليَنعَى لكُما قومَكما، فقوما إليه، فاسألاه أن يدعوَ الله أن يرفَع عن قومكما، فقاما إليه، فسألاه ذلك، فقال: "اللُّهُمَّ ارْفَعْ عَنْهُمْ"، فخرجَا مِن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راجعين إلى قومهما، فوجدا قومَهما أُصيبُوا فى اليومِ الذى قال فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قال، وفى الساعة التى ذكر فيها ما ذكر، فخرج وفدُ جُرش حتى قَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسلموا، وحمى لهم حِمى حول قريتهم.
فصل: فى قدوم وفد بنى الحارث بن كعب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال ابن إسحاق: ثم بعثَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالدَ بنَ الوليد فى شهر ربيع الآخر، أو جُمَادَى الأُولى سنة عشر إلى بنى الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعُوَهم إلى الإسلام قبل أن يُقاتِلهم ثلاثاً، فإن استجابُوا، فاقبلْ منهم، وإن لم يفعلوا، فقاتِلْهم، فخرج خالدٌ حتى قَدِمَ عليهم، فبعث الرُّكبان يضرِبُون فى كُلِّ وجه، ويدعُون إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناسُ؛
أسلموا لِتسلموا، فأسلم الناسُ، ودخلُوا فيما دَعَوْا إليه، فأقام فيهم خالدٌ يُعلِّمهم الإسلامَ، وكتب إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فكتب له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُقْبِلَ ويُقْبِلَ معه وفدهم، فأقبل وأقبل معه وفدُهم، فيهم: قيسُ بنُ الحصين ذى الغَصَّة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجَّل، وعبد الله ابن قُراد، وشَدَّاد بن عبد الله، وقال لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِمَ كُنْتُم تَغْلِبُونَ مَنْ قَاتَلَكُمْ فى الجَاهِلِيَّة"؟ قالوا: لم نكن نغلِبُ أحداً. قال: "بلى". قالوا: كنا نجتمِعُ ولا نتفرَّق، ولا نبدأ أحداً بظلم. قال: "صدقتم"، وأمَّر عليهم قيسَ بن الحُصين، فرجعوا إلى قومهم فى بقيةٍ من شوَّال، أو من ذى القَعدة، فلم يمكثُوا إلا أربعة أشهر حتى توفى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فصل: فى قدوم وفد هَمْدَانَ عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وقدم عليه وفدُ هَمْدَانَ، منهم: مَالك بن النَّمَط، ومالك بن أيفع، وضِمام بن مالك، وعَمْرو بن مالك، فلقُوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرجِعَه مِن تَبُوك، وعليهم مُقَطَّعَاتُ الْحِبَرَاتِ والعمائم العَدَنية على الرواحل المَهْرِية والأَرْحَبِيَّة، ومالك بن النَّمط يرتجزُ بين يدى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقول:
إلَيْكَ جَاوَزْنَ سَوَادَ الرِّيفِ فى هَبَوَاتِ الصَّيْفِ والخَرِيفِ
مُخَطَّمَاتٍ بِحِبَالِ اللِّيفِ
وذكروا له كلاماً حسناً فصيحاً، فكتب لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاباً أقطعهم فيه ما سألوه، وأمَّر عليهم مالك بن النَّمط، واستعمله على مَن أسلم من قومه، وأمره بقتال ثَقيف، وكان لا يخرُج لهم سرحٌ إلا أغارُوا عليه.
وقد روى البيهقى بإسناد صحيح، من حديث أبى إسحاق، عن البراء،
أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث خالدَ بن الوليد إلى أهلِ اليمن يدعُوهم إلى الإسلام، قال البراء: فكنتُ فيمن خرجَ مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستةَ أشهر يدعوهم إلى الإسلام، فلم يُجيبوه، ثم إنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث علىَّ بنَ أبى طالب رضى الله عنه، فأمره أن يُقْفِلَ خالداً إلا رجلاً ممن كان مع خالد أحبَّ أن يُعقِبَ مع علىّ رضى الله عنه، فليُعقب معه، قال البَراء: فكنتُ فيمن عقب مع علىّ، فلما دنونا مِن القوم، خرجوا إلينا، فصلَّى بنا علىُّ رضى الله عنه، ثم صفَّنا صفاً واحداً، ثم تقدَّم بين أيدينا، وقرأ عليهم كتابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسلمت هَمْدَانُ جميعاً، فكتب علىٌ رضى الله عنه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسلامهم، فلما قرأ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكتاب، خَرَّ ساجِداً، ثم رفع رأسه فقال: "السَّلاَمُ عَلى هَمْدَانَ، السَّلامُ عَلى هَمْدَانَ" ، وأصل الحديث فى صحيح البخارى.
وهذا أصحُّ مما تقدَّم، ولم تكن هَمْدَانُ أن تُقاتل ثقيفاً، ولا تُغير على سرحهم، فإن هَمْدَان باليمن، وثقيفاً بالطائف.
فصل: فى قدوم وفد مُزينة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
روينا من طريق البيهقى، عن النُّعمان بن مُقَرِّن، قال: قَدِمنا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعمائة رجل من مُزينة، فلما أردنا أن ننصرف، قال: "يا عُمَرُ؛ زَوِّدِ القَوْمَ" فقال: ما عندى إلا شئٌ من تمر، ما أظنُّه يقعُ من القوم موقعاً، قال: "انطلِق فَزَوِّدْهُم" قال: فانطلق بهم عمر، فأدخلهم منزله، ثم أصعدهم إلى عُلَّيَّة، فلما دخلنا، إذا فيها مِن التمر مِثْلُ الجَمَلِ الأوْرَق، فأخذ القومُ منه حاجَتَهم، قال النُّعمان: فكنت فى آخر مَن خرج، فنظرتُ فما أفقد موضع تمرة مِن مكانها.
فصل: فى قدوم وفد دَوْس على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل ذلك بخيبر
قال ابن إسحاق: كان الطُّفيل بن عَمْرو الدُّوسى يُحدِّث أنه قَدِمَ مكة، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطُّفَيلُ رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً، قالوا له: إنك قَدِمْتَ بلادنا، وإنَّ هذا الرجلَ وهو الذى بين أظهرنا فَرَّقَ جماعتنا، وشتَّتَ أمرنا، وإنما قوله كالسِّحر يُفَرِّقُ بين المرءِ وابنه، وبينَ المرءِ وأخيه، وبين المرءِ وزوجه، وإنما نخشى عليك وعلى قومك ما قد حلَّ علينا، فلا تُكَلِّمه، ولا تَسْمَعْ منه، قال:
فواللهِ ما زالُوا بى حتى أجمعتُ أن لا أسمعَ منه شيئاً، ولا أُكَلِّمَه حتى حشوتُ فى أذنىَّ حين غدوتَ إلى المسجد كُرسُفاً فَرَقاً من أن يَبْلُغَنى شىْءٌ من قوله. قال: فغدوتُ إلى المسجد، فإذا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائمٌ يُصلِّى عند الكعبة، فقمتُ قريباً منه، فأبى اللهُ إلا أن يُسمِعَنى بعضَ قوله، فسمعتُ كلاماً حسناً، فقلتُ فى نفسى: واثكل أُمِّياه، واللهِ إنى لرجل لبيب شاعر، ما يَخفى علىَّ الحَسنُ من القبيح، فما يمنعُنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان ما يقولُ حسناً، قبلتُ، وإن كان قبيحاً، تركتُ، قال: فمكثتُ حتى انصرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيته، فتبعتُه
حتى إذا دخل بيتَه دخلتُ عليه، فقلتُ: يا محمد؛ إن قومَك قد قالُوا لى كذا وكذا، فَواللهِ ما بَرِحُوا يُخوفونى أمرَك حتى سددتُ أُذنى بِكرْسُفٍ لئلا أسمعَ قولَك، ثم أبى الله إلا أن يُسمِعَنيه، فسمعتُ قولاً حسناً، فاعرض علىَّ أمرك، فعرض علىَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإسلامَ، وتلا علىَّ القرآن، فلا واللهِ ما سمعتُ قولاً قطُّ أحسنَ منه، ولا أمراً أعدلَ منه، فأسلمتُ، وشهدتُ شهادةَ الحق، وقلتُ: يا نبى الله؛ إنى امرؤ مُطاع فى قومى، وإنى راجع إليهم، فداعيهم إلى الإسلام، فادعُ الله لى أن يجعل لى آية تكون عَوْناً لى عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: "اللهُمَّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً" قال: فخرجتُ إلى قومى حتَّى إذا كنتُ بثنية تُطلعنى على الحاضر، وقع نورٌ بين عَيْنَىَّ مثلَ المصباح، قلتُ: اللهُمَّ فى غير وجهى إنى أخشى أن يظنوا أنها مُثلة وقعت فى وجهى لِفراقى دينهم، قال: فتحوَّل، فوقع فى رأس سَوطى كالقنديل المعلَّق، وأنا أنهبطُ إليهم من الثَّنِيَّة حتى جئتُهم، وأصبحتُ فيهم، فلما نزلتُ، أتانى أبى، وكان شيخاً كبيراً، فقلتُ: إليك عنى يا أبتِ، فلستَ منى ولستُ منك، قال: لِمَ يا بُنَىّ؟ قلتُ: قد أسلمتُ، وتابعتُ دينَ محمد. قال: يا بُنَىّ فدينى دينُك. قال: فقلت: اذهب فاغتسِلْ، وطهِّرْ ثيابَك، ثم تَعالَ حتى أُعلِّمك ما
عَلِمْتُ. قال: فذهب فاغتسل، وطهَّرْ ثيابه، ثم جاء فعرضتُ عليه الإسلام فأسلم، ثم أتتنى صاحِبتى، فقلتُ لها: إليكِ عنِّى، فلستُ منكِ ولستِ منى. قالت: لِمَ بأبى أنت وأُمى؟، قلتُ: فرَّق الإسلامُ بينى وبينَكِ، أسلمتُ وتابعتُ دين محمد. قالت: فدينى دينُك، قال: قلتُ: فاذهبى فاغتسلى، ففعلت، ثم جاءت، فعرضتُ عليها الإسلام فأسلمت، ثم دعوتُ دَوْساً إلى الإسلام فأبطؤوا علىّ، فجئتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلتُ: يا رسول الله؛ إنه قد غلبنى على دَوْس الزِّنَى، فادعُ الله عليهم، فقال: " اللهُمَّ اهْدِ دَوْساً" ، ثم قال: "ارجع إلى قومِك فادعُهم إلى الله، وارفُق بهم" فرجعتُ إليهم، فلم أزل بأرض دَوْس أدعوهم إلى الله، ثم قدمتُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَر، فنزلتُ المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً مِن دَوْس، ثم لحقنا برسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخَيْبَر، فأسهم لنا مع المسلمين.
قال ابن إسحاق: فلما قُبِضَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وارتدَّت العربُ، خرج الطُّفَيلُ مع المسلمين حتى فرغوا مِن طُليحة، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامَةِ، ومعه ابنه عَمْرو بن الطُّفَيْل، فقال لأصحابه: إنى قد رأيتُ رؤيا فاعبُروها لى؛ رأيتُ أنَّ رأسى قد حُلِقَ، وأنه قد خرج مِن فمى طائر، وأن امرأة لقيتنى، فأدخلتنى فى فَرْجها، ورأيتُ أنَّ ابنى يطلبُنى طلباً حثيثاً، ثم رأيتُه حُبِسَ عنى، قالوا: خيراً رأيت. قال: أما واللهِ إنى قد أوَّلتُها. قالوا: وما أوَّلتَها؟ قال: أما حلق رأسى، فوضعُه، وأما الطائر الذى خرج من فمى، فروحى، وأما المرأة التى أدخلتنى فى فَرْجها، فالأرض تُحفر، فأغيب فيها، وأما طلب ابنى إياى وحبسُه عنى، فإنى أراه سيجاهد، لأن يصيبه من الشهادة ما أصابنى. فقُتِل الطُّفَيْل شهيداً باليمامة، وجُرِح ابنه عَمْرو جرحاً شديداً، ثم قُتِل عام اليرموك شهيداً فى زمن عمر رضى الله عنه.
فصل: في فقه هذه القصة
فيها: أنَّ عادة المسلمين كانت غُسْلَ الإسلامِ قبل دخولهم فيه، وقد صح أمرُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به، وأصح الأقوال: وجوبُه على مَن أجنب فى حال كفره ومَن لم يُجنب.
وفيها: أنَّه لا ينبغى للعاقل أن يُقَلِّد الناسَ فى المدح والذم، ولا سيما تقليدَ مَن يَمدح بهوى ويذُمُّ بهوى، فكم حَالَ هذا التقليدُ بينَ القُلُوب وبين الهُدى، ولم ينجُ منه إلا مَن سبقت له مِن الله الحُسْنَى.
ومنها: أنَّ المدد إذا لحق بالجيش قبل انقضاء الحرب، أسهم لهم.
ومنها: وقوعُ كرامات الأولياء، وأنها إنما تكون لحاجة فى الدِّين، أو لمنفعةٍ للإسلام والمسلمين، فهذه هى الأحوال الرحمانية، سببُها متابعة الرسول، ونتيجتُها إظهارُ الحق، وكسرُ الباطل، والأحوال الشيطانية ضِدُّها سبَباً ونتيجة.
ومنها: التأنى والصبرُ فى الدعوة إلى الله، وأن لا يُعجل بالعقوبةِ والدعاء على العصاة، وأما تعبيرُه حلق رأسه بوضعه، فهذا لأن حلق الرأس وضعُ شعره على الأرض، وهو لا يدُلُّ بمجرده على وضع رأسه، فإنه دال على خلاص من هم، أو مرض، أو شدة لمن يليقُ به ذلك، وعلى فقر ونَكَدٍ، وزوالِ رياسة وجاه لمن لا يليق به ذلك، ولكن فى منام الطُّفَيْل قرائن
اقتضت أنَّه وضْعُ رأسه، منها أنه كان فى الجهاد، ومقاتلة العدو ذى الشَوْكة والبأس.
ومنها: أنَّه دخل فى بطن المرأة التى رآها، وهى الأرض التى هى بمنزلة أُمه، ورأى أنَّه قد دخل فى الموضع الذى خرج منه، وهذا هو إعادته إلى الأرض، كما قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ}[طه: 55] ، فأوَّلَ المرأة بالأرض إذ كلاهما محلُ الوطء، وأوَّلَ دخولَه فى فَرْجها بعودِه إليها كما خُلِقَ منها، وأوَّلَ الطائر الذى خرج مِن فِيه بروحه، فإنها كالطائر المحبوس فى البدن، فإذا خرجت منه كانت كالطائر الذى فارق حبسه، فذهب حيثُ شاء، ولهذا أخبر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنَّ نَسْمَةَ المُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلَقُ فى شَجَرِ الجَنَّة" ، وهذا هو الطائرُ الذى رُؤى داخلاً فى قبر ابن عباس لما دُفِنَ، وسُمِعَ قارئ يقرأ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً}[الحجر: 27]. وعلى حسب بياض هذا الطائر وسواده وحُسْنِه وقُبحهِ، تكونُ الروح، ولهذا كانت أرواحُ آلِ فرعون فى صورة طيور سود تَرِدُ النارَ بكرة وعشيةً، وأوَّلَ طلبَ ابنه له باجتهاده فى أن يلحق به فى الشهادة، وحبسه عنه هو مدة حياته بين وقعة اليمامة واليرموك.. والله أعلم.
فصل: فى قدوم وفد نجران على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال ابن إسحاق: وفد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفدُ نصارى نجران بالمدينة، فحدَّثنى محمد بن جعفر بن الزبير، قال: لما قدم وفد نجرانَ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دخلُوا عليه مسجدَه بعد صلاة العصر، فحانت صلاتُهم، فقاموا يُصَلُّون فى مسجده، فأراد الناسُ منعهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعُوهُم" فاسْتَقْبَلُوا المَشْرِقَ، فَصَلَّوا صَلاَتَهُمْ.
قال: وحدَّثنى يزيدُ بنُ سفيان، عن ابن البيلمانى، عن كُرز بن علقمة، قال: قدم على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفدُ نصارى نجران ستون راكباً، منهم: أربعة وعشرون رجلاً من أشرافهم، والأربعة والعشرون، منهم ثلاثةُ نَفَر إليهم يؤول أمرُهم: العاقِبُ أميرُ القوم، وذو رأيهم، وصاحِبُ مشورتهم، والذى لا يَصْدُرون إلا عن رأيه وأمره، واسمُه عبد المسيح، والسيد: ثِمالُهم، وصاحِبُ رَحْلهم، ومجتمعهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أخو بنى بكر بن وائل أُسقُفهم وحَبْرُهم وإمامُهم، وصاحِبُ مِدْرَاسِهِم.
وكان أبو حارثة قد شَرُفَ فيهم، ودَرَسَ كتبَهم، وكانت ملوكُ الروم مِن أهل النصرانية قد شرَّفوه، وموَّلُوه، وأخدَموه، وبَنَوْا له الكنائِسَ،
وبسطوا عليه الكراماتِ لِما يبلغهم عنه مِن علمه واجتهاده فى دينهم.
فلما وجَّهوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن نجران، جلس أبو حارثة على بغلة له مُوجِّهاً إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى جنبه أخٌ له يقال له: كُرز بن علقمة يسايره، إذ عثرت بغلةُ أبى حارثة. فقال له كُرز: تعس الأبعدُ يريدُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له أبو حارثة: بل أنت تَعِسْتَ. فقال: ولِمَ يا أخى؟ فقال: واللهِ إنه النبىُّ الأُمىُّ الذى كنا ننتظرُه. فقال له كُرز: فما يمنعُك من اتِّباعه وأنت تعلمُ هذا؟ فقال: ما صنع بنا هؤلاء القومُ: شرَّفونا، وموَّلونا، وأكرمونا، وقد أبَوْا إلا خِلافَه، ولو فعلتُ نزعوا منا كُلَّ ما ترى، فأضمر عليها مِنه أخوه كُرز ابن علقمة حتى أسلم بعد ذلك.
قال ابن إسحاق: وحدَّثنى محمد بن أبى محمد مولى زيد بن ثابت، قال: حدَّثنى سعيد بن جُبير، وعِكرمة، عن ابن عباس، قال: اجتمعت نصارى نجران، وأحبارُ يهود عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتنازعُوا عنده، فقالت الأحبارُ: ما كان إبراهيمُ إلا يهودياً، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانياً، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ فيهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً ولا نَصْرَانِيّاً ولَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينْ إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ واللهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران: 65-68] فقال رجل من الأحبار: أتريد منا يا محمد أن نعبُدَك كما تعبُدُ النَّصارى عيسى ابن مريم؟ وقال رجل مِن نصارى نجران: أَوَ ذلك تريدُ يا محمد، وإليه
تدعونا؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَعَاذَ الله أنْ أعْبُدَ غَيْرَ الله، أوْ آمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنى ولا أَمَرَنى"، فأنزل اللهُ عَزَّ وجَلَّ فى ذلك: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً، أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران: 79] ، ثم ذكر ما أخذ عليهم وعلى آبائهم من الميثاق بتصديقه، وإقرارهم به على أنفسهم، فقال: {وَإذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} إ لى قوله: {مِنَ الشَّاهِدِينَ}[آل عمران: 81].
وحدَّثنى محمد بن سهل بن أبى أمامة، قال: لما قدم وفدُ نجران على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألونه عن عيسى ابن مريم، نزل فيهم فاتحةُ آل عمران إلى رأس الثمانين منها.
وروينا عن أبى عبد الله الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس ابن بكير، عن سلمة بن عبد يسوع، عن أبيه، عن جده، قال يونس وكان نصرانياً فأسلم: إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى أهل نجران: "باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أمَّا بَعْدُ.. فَإنى أدْعُوكُم إلى عِبَادَةِ الله مِنْ عِبَادَةِ العِبَادِ، وأَدْعُوكُم إلى وِلاَيَةِ اللهِ مِنْ وِلاَيَةِ العِبَادِ، فإنْ أَبَيْتُمْ فَالجِزْيَةُ، فَإنْ أَبَيْتُمْ فَقَدْ آذَنْتُكُمْ بِحَربٍ، والسَّلام". فلما أتى الأسقف الكتابُ فقرأه، فَظِعَ به، وذعر به ذعراً شديداً، فبعث إلى رجل من أهل نجرانَ يُقال له: "شُرحبيل ابن وداعة"، وكان من همدان، ولم يكن أحد يُدعى إذا نزل مُعضِلة قبله، لا الأيهم، ولا السيدُ، ولا العاقِبُ، فدفع الأسقف كِتابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه، فقرأه، فقال الأسقف: يا أبا مريم؛ ما رأيُك؟ فقال شُرحبيل: قد علمتَ ما وعد الله إبراهيم فى ذُرِّية إسماعيل من النبوة، فما
يؤمَن أن يكون هذا هو ذلك الرجل، ليس لى فى النبوة رأى، لو كان من أمر الدنيا أشرتُ عليك فيه برأى وجهدتُ لك فيه، فقال الأسقف: تنح فاجلس، فتنحَّى شُرحبيل فجلس ناحية، فبعث الأسقف إلى رجل مِن أهل نجران يقال له: "عبد الله ابن شُرحبيل"، وهو من ذى أصبح من حِمْيَر، فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرأى فيه، فقال له مثلَ قول شُرحبيل. فقال له الأسقف: تنح فاجلِس، فتنحَّى، فجلس ناحية، فبعث الأسقفُ إلى رجل من أهل نجران يقال له: "جبار بن فيض" من بنى الحارث بن كعب، فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرأى فيه، فقال له مثلَ قولِ شُرحبيل وعبد الله، فأمره الأسقف فتنحَّى، فلما اجتمع الرأىُ منهم على تلك المقالة جميعاً، أمر الأسقفُ بالناقوس، فضُرِبَ به، ورُفِعَتِ المسوحُ فى الصوامع، وكذلك كانُوا يفعلون إذا فزِعُوا بالنهار، وإذا كان فزَعُهم بالليل ضُرِبَ الناقوس، ورُفِعَت النيران فى الصوامع، فاجتمعَ حين ضُرَِبَ بالناقوس، ورُفِعَت المسوح أهلُ الوادى أعلاه وأسفله، وطولُ الوادى مسيرةُ يوم للراكب السريع، وفيه ثلاثٌ وسبعون قرية، وعشرون ومائة ألف مقاتل، فقرأ عليهم كتابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسألهم عن الرأى فيه، فاجتمع رأىُ أهلِ الوادى منهم على أن يبعثوا شُرحبيل بن وداعة الهَمْدَانى، وعبد الله بن شُرحبيل، وجبار بن فيض الحارثى، فيأتوهم بخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فانطلق الوفدُ حتى إذا كانُوا بالمدينة، وضعُوا ثيابَ السفر عنهم، ولبسوا حُللاً لهم يجرُّونها من الحِبَرَةِ، وخواتيم الذهب، ثم انطلقوا حتى أَتَوْا رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسلَّموا عليه، فلم يَرْدَّ عليهم السلامَ، وتصدَّوا لِكلامه نهاراً طويلاً، فلم يُكلِّمهم، وعليهم تِلك الحُلل والخواتيم الذهب، فانطلقوا يتبعون عثمانَ بن عفان، وعبد الرحمن بن عَوْف، وكانا معرفةً لهم، كانا
يُخرِجان العِيرَ فى الجاهلية إلى نجرانَ، فيُشترَى لهما مِن بُرِّها وثمرها وذرتها، فوجدوهما فى ناس من الأنصار والمهاجرين فى مجلس، فقالوا: يا عثمان، ويا عبدَ الرحمن؛ إن نبيكم كتب إلينا بكتاب، فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلَّمنا عليه، فلم يَرُدَّ علينا سلامنا، وتصدَّيْنَا لِكلامه نهاراً طويلاً، فأعيانا أن يُكلِّمنا، فما الرأىُ منكما، أنعود؟ فقالا لعلى بن أبى طالب وهو فى القوم: ما ترى يا أبا الحسن فى هؤلاء القوم؟ فقال علىُّ لعثمان وعبد الرحمن رضى الله عنهما: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمَهم، ويلبسوا ثيابَ سفرهم، ثم يأتوا إليه، ففعل الوفدُ ذلك، فوضعوا حُللهم وخواتيمهم، ثم عادُوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسلَّمُوا عليه، فردَّ سلامهم، ثم سألهم وسألوه، فلم تزل به وبهم المسألةُ حتى قالُوا له: ما تقولُ فى عيسى عليه السلام؟ فإنَّا نرجع إلى قومنا، ونحنُ نصارى، فيسرُّنا إن كنت نبياً أن نعلم ما تقول فيه؟ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا عِنْدِى فِيهِ شَىْءٌ يَوْمِى هذا، فَأقِيمُوا حَتى أُخْبِرَكم بِمَا يُقَالُ لى فى عِيسى عَلَيْهِ السَّلام"، فأصبح الغدُ وقد أنزل الله عَزَّ وجَلَّ: {إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ من تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْنَاءنا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا ونِسَاءكُمْ وأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 59-61] فأبوا أن يُقِرُّوا بذلك، فلما أصبح رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغَد بعدما أخبرهم الخبر، أقبل مشتملاً على الحسن والحسين رضى الله عنهما فى خميل له، وفاطمةُ رضى الله عنها تمشى عند ظهره للمُباهلة، وله يومئذ عِدةُ نِسوة، فقال شُرحبيل لصاحبيه: يا عبدَ الله بن شُرحبيل، ويا جبار ابن فيض، قد علمتما أن الوادِى إذا اجتمع أعلاه وأسفلُه لم يَرِدُوا، ولم يصدُرُوا إلا عن رأى، وإنى واللهِ أرى أمراً مقبلاً، وأرى واللهِ إن كان هذا الرجلُ
مَلكاً مبعوثاً، فكنا أولَ العرب طعن فى عينه، وردَّ عليه أمره لا يذهب لنا من صدره، ولا مِن صدور قومه حتى يُصيبونا بجائحة، وإنَّا أدنى العرب منهم جواراً، وإن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً، فلاعنَّاه، فلا يبقى على وجه الأرض منا شعرةٌ ولا ظفرٌ إلا هلَكَ، فقال له صاحباه: فما الرأىُ فقد وضعتك الأمورُ على ذِراعٍ، فهاتِ رأيك؟ فقال: رأيى أن أُحكِّمَه، فإنى أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً. فقالا له: أنتَ وذاك.
فلقى شُرحبيلُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إنى قد رأيتُ خيراً مِن مُلاعنتك، فقال: "وما هو"؟ قال شُرحبيل: حُكمك اليومَ إلى الليل وليلتك إلى الصَّباح، فمهما حكمتَ فينا، فهو جائز.
فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَلَّ وَرَاءَكَ أَحَداً يُثَرِّبُ عَلَيْكَ"؟ فقال له شُرحبيل: سل صاحبىَّ، فسألهما، فقالا: ما يَردُ الوادى، ولا يصدُر إلا عن رأى شُرحبيل. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كافر" أو قال: "جاحد مُوَفَّق".
فرجع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يُلاعنهم، حتى إذا كان من الغد أتَوْه، فكتب لهم فى الكتاب:
"بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما كتب محمد النبىُّ رسولُ اللهِ لنجرانَ إذ كان عليهم حُكمه فى كل ثمرة، وفى كل صفراء، وبيضاء، وسوداء، ورقيق، فأفضَلَ عليهم، وتركَ ذلك كُلَّه على ألفى حُلَّة، فى كل رَجَب ألفُ حُلَّة، وفى كُلِّ صَفَر ألفُ حُلَّة، وكل حُلَّة أوقية، ما زادت على الخراج أو نقصت على الأواقى، فبحساب، وما قَضَوْا مِن دروع، أو خيل، أو ركاب، أو عَرَضٍ، أُخِذَ منهم بحساب، وعلى نجران مثواةُ رسلى، ومتعتهم بها عشرين فدونه، ولا يُحبس رسول فوقَ شهر، وعليهم عاريةٌ ثلاثين
درعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً إذا كان كيدٌ باليمن ومغدرة، وما هلك مما أعارُوا رسولى مِن دروع، أو خيل، أو ركاب، فهو ضَمانٌ على رسولى حتى يؤدِّيَه إليهم، ولنجرانَ وحسبها جوارُ الله وذِمَّةُ محمد النبىِّ على أنفسهم، ومِلَّتهم، وأرضِهم، وأموالهم، وغائِبهم، وشاهِدهم، وعشيرتهم، وتبعهم، وأن لا يُغيِّروا مما كانوا عليه، ولا يُغيَّر حق من حقوقهم ولا مِلَّتهم، ولا يُغيَّرُ أسقفٌ من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا وافه عن وَفهيَّتِه وكل ما تحت أيديهم مِن قليل أو كثير، وليس عليهم ريبة ولا دمُ جاهلية، ولا يُحشَرُونَ، ولا يُعَشَّرُون، ولا يطأ أرضَهم جيش، ومَن سأل منهم حقاً فبينهم النَّصَفُ غيرَ ظالمين ولا مظلومين، وَمن أكل ربا مِن ذى قبل، فذمِّتى منه بريئة، ولا يُؤخذ رجل منهم بظلم آخر، وعلى ما فى هذه الصحيفة جوارُ الله وذِمَّةُ محمد النبى رسول الله حتى يأتى الله بأمره ما نصحُوا وأصلحُوا فيما عليهم غيرَ منقلبين بظلم". شهد أبو سفيان بن حرب، وغيلان بن عَمْرو، ومالك بن عوف، والأقرع بن حابس الحنظلى، والمغيرة بن شعبة، وكتب. حتى إذا قبضوا كتابهم، انصرفوا إلى نجران، فتلقاهم الأسقف ووجوهُ نجران على مسيرة ليلة، ومع الأسقف أخٌ له من أُمه، وهو ابنُ عمه من النسب، يقال له: بشر بن معاوية، وكنيته أبو علقمة، فدفع الوفدُ كتابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الأسقف، فبينا هو يقرؤه، وأبو علقمة معه وهما يسيران إذ كَبَتْ ببشرٍ ناقتُه، فَتَعَّسَ بِشْرٌ، غير أنه لا يكنى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له الأسقف عند ذلك: قد تَعَّسْتَ واللهِ نبِيّاً مرسلاً، فقال بشر: لا جَرَم واللهِ لا أحُلُّ عنها عقداً حتى آتيه، فضربَ وجه ناقته نحو المدينة، وثنى الأسقفُ ناقته عليه، فقال له:
افهم عنى إنما قلتُ هذا لتبلغ عنى العربَ مخافة أن يقولوا: إنَّا أُخِذْنَا حُمقة أو نخعنا لهذا الرجل بما لم تَنْخَعْ به العربُ، ونحن أعزُّهم وأجمعُهم داراً، فقال له بشر: لا واللهِ لا أقيلُك ما خرج من رأسك أبداً، فضرب بشر ناقته، وهو مُولٍّ ظهره للأسقف وهو يقول:
إلَيْكَ تَعْدُو قَلِقاً وَضِينُها مُعْتَرِضاً فى بَطْنِهَا جَنِينُها
مُخَالِفاً دِينَ النَّصارى دِينُها
حتى أتى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يزل مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى استشهد أبو علقمة بعد ذلك.
ودخل الوفد نجران، فأتى الراهب ابن أبى شمر الزبيدى، وهو فى رأس صومعة له، فقال له: إن نبياً قد بُعِث بتهامة، وإنَّه كتب إلى الأسقف، فأجمع أهلُ الوادى أن يُسَيِّروا إليه شُرحبيل بن وداعة، وعبد الله بن شُرحبيل، وجبار ابن فيض، فيأتونهم بخبره، فسارُوا حتى أتَوْه، فدعاهم إلى المباهلة، فكرهوا ملاعنته، وحكَّمه شُرحبيل فحكم عليهم حكماً، وكتب لهم كتاباً، ثم أقبل الوفدُ بالكتاب حتى دفعُوه إلى الأسقف، فبينا الأسقفُ يقرؤه وبشر معه حتى كبت ببشر ناقته فتعَّسَه، فشهد الأسقفُ أنه نبى مرسل، فانصرف أبو علقمة نحوَه يُريد الإسلام، فقال الراهب: أنزلونى وإلا رميتُ بنفسى مِن هذه الصومعة، فأنزلوه، فانطلق الراهبُ بِهَدِية إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منها هذا البُردُ الذى يَلبَسُهُ الخلفاء والقعب والعصا، وأقام الراهبُ بعد ذلك يسمع كيف ينزل الوحىُ، والسنن، والفرائض، والحدودُ، وأبى الله لِلراهب الإسلام، فلم يُسلم، واستأذنَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الرجعة إلى قومه، وقال: إنَّ لى حاجةً ومعاداً إن شاء الله تعالى، فرجع إلى قومه، فلم يعد حتى قُبِضَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإنَّ الأسقف أبا الحارث أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه السَّيد والعاقِب ووجوهُ قومه، وأقامُوا عنده يستمعون ما ينزل اللهُ عليه، فكتب للأسقف
هذا الكتاب وللأساقفة بنجران بعده: "بسْم اللهِ الرَّحْمَن الرَّحيم، منْ مُحَمَّدٍ النَّبىِّ إلى الأسقُفُ أبى الحارث وأسَاقِفَةِ نَجْرانَ وكَهَنَتِهِم، ورُهْبَانِهِمْ، وأهْلِ بِيَعِهم، ورَقيقِهم، ومِلَّتِهم، وسَوَقِتِهِم، وعَلى كُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِم مِنْ قَلِيلٍ وَكثِيرٍ، جِوارُ اللهِ ورَسُولِه، لا يُغَيَّرُ أُسْقُفٌ مِنْ أُسْقُفَتِهِ ولا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، ولا كَاهِنٌ مِنْ كَهَانَتِه، ولا يُغَيَّرُ حَقٌ مِنْ حُقُوقِهِم، ولا سُلْطَانهم، ولا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، عَلى ذلِكَ جِوَارُ اللهِ ورَسُولِه أبَداً ما نَصحوا وأَصْلَحوا عَلَيْهِم، غَيْرَ منقَلِبِين بِظَالِمٍ، ولا ظَالِمِينَ". وكتب المغيرةُ بن شعبة، فلما قبض الأسقفُ الكتاب، استأذن فى الانصراف إلى قومه ومَن معه، فأذن لهم، فانصرفوا.
وروى البيهقى بإسناد صحيح إلى ابن مسعود، أنَّ السيد والعاقب أتيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأراد أن يُلاعنهما، فقال أحدُهما لصاحبه: لا تُلاعِنْه، فواللهِ إن كان نبياً فلاعنتَه لا نُفْلِحُ نحن، ولا عَقِبُنا مِن بعدنا، قالوا له: نُعطيك ما سألتَ، فابعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعثْ معنا إلا أميناً، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لأَبْعَثَنَّ مَعَكُم رَجُلاً أميناً حَقَّ أمِينٍ"، فاستشرف لها أصحابُه، فقال: "قُمْ يا أبا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ" فلمَّا قَامَ، قال: "هذا أمِينُ هذِهِ الأُمَّة".
ورواه البخارى فى "صحيحه" من حديث حذيفة بنحوه.
وفى "صحيح مسلم" من حديث المُغيرة بن شُعبة قال: بعثنى رسولُ الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى نجران، فقالُوا فيما قالوا: أرأيتَ ما يقرؤون: {يَا أُخْتََ هَارُونَ}، وقد كان بينَ عيسى وموسى ما قد علمتم، قال: فأتيتُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبرتُه قال: "أفَلا أخْبَرْتَهُم أنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَسماءِ أَنْبِيَائِهِمْ والصَّالِحينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُم".
وروينا عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: وبعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علىَّ بن أبى طالب إلى أهل نجران ليجمع صدقاتِهم، ويَقْدَمَ عليه بجزيتهم.
فصل: فى فقه قصة وفد نجران
ففيها: جوازُ دُخولِ أهلِ الكتاب مساجدَ المسلمين.
وفيها: تمكينُ أهلِ الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفى مساجدهم أيضاً إذا كان ذلك عارضاً، ولا يُمكَّنون من اعتياد ذلك.
وفيها: أنَّ إقرارَ الكاهن الكِتابى لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه نبى لا يُدخله فى الإسلام ما لم يلتزِمْ طاعتَه ومتابعته، فإذا تمسَّك بدينه بعد هذا الإقرار لا يكونُ رِدَّة منه، ونظيرُ هذا قول قول الحَبْرينِ له، وقد سألاه ثلاث مسائل، فلما أجابهما، قالا: نشهد أنك نبى، قال: "فما يمنعُكما مِن اتباعى"؟ قالا: نخاف أن تقتُلَنا اليهودُ، ولم يُلزمهما بذلك الإسلام، ونظيرُ ذلِكَ شهادةُ عمه أبى طالب له بأنه صادق، وأنَّ دينَه مِن خير أديان البرية ديناً، ولم تُدخِلْه هذه الشهادةُ فى الإسلام.
ومَن تأمَّل ما فى السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب
والمشركين له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة، وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة فى الإسلام، علم أنَّ الإسلامَ أمرٌ وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفةُ والإقرارُ، والانقيادُ، والتزامُ طاعته ودينه ظاهراً وباطناً.
وقد اختلف أئمةُ الإسلام فى الكافر إذا قال: أشهدُ أن محمداً رسولُ اللهِ ولم يَزِدْ، هل يُحكم بإسلامه بذلك؟ على ثلاثة أقوال، وهى ثلاثُ روايات عن الإمام أحمد، إحداها: يُحكم بإسلامه بذلك، والثانية: لا يُحكم بإسلامه حتى يأتىَ بشهادة أنْ لا إله إلا الله، والثالثة: أنَّه إذا كان مقراً بالتوحيد، حُكِم بإسلامه، وإن لم يكن مقراً، لم يُحكم بإسلامه حتى يأتىَ به، وليس هذا موضعَ استيفاء هذه المسألة، وإنما أشرنا إليه إشارة، وأهلُ الكتابين مجمعون على أنَّ نبياً يخرج فى آخر الزمان، وهم ينتظرونه، ولا يَشُكُّ علماؤهم فى أنه محمدُ بنُ عبد الله بن عبد المطلب، وإنما يمنعُهم من الدخول فى الإسلام رئاستُهم على قومهم، وخضوعُهم لهم، وما ينالونه منهم مِن المال والجاه.
ومنها: جوازُ مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحبابُ ذلك، بل وجوبُه إذا ظهرت مصلحتُه من إسلام مَن يُرجى إسلامُه منهم، وإقامة الحُجَّة عليهم، ولا يهرُب من مجادلتهم إلا عاجزٌ عن إقامة الحُجَّة، فليوَلِّ ذلك إلى أهله، وليُخَلّ بَيْنَ المَطِىِّ وحَادِيها، والقوسِ وباريها، ولولا خشيةُ الإطالة لذكرنا مِن الحُجَج التى تلزمُ أهل الكتابَيْنِ الإقرارَ بأنه رسولُ الله بما فى كتبهم، وبما يعتقدونه بما لا يُمكنهم دفعُه ما يزيد على مائة طريق، ونرجو من الله سبحانه إفرادَها بمصنَّف مستقل.
ودار بينى وبين بعض علمائهم مناظرةٌ فى ذلك، فقلت له فى أثناء
الكلام: ولا يتم لكم القَدح فى نبوة نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بالطعن فى الربِّ تعالى والقدح فيه، ونسبته إلى أعظم الظلم والسفه والفساد، تعالى الله عن ذلك، فقال: كيف يلزمُنا ذلك؟ قلت: بل أبلغ مِن ذلك، لا يَتمُّ لكم ذلك إلا بجحوده وإنكار وجوده تعالى، وبيانُ ذلك أنه إذا كان محمد عندكم ليس بنبىٍّ صادق، وهو يزعمكم ملك ظالم، فقد تهيأ له أن يفترىَ على الله، ويتقوَّل عليه ما لم يقُلْه، ثم يتم له ذلك، ويستمر حتى يُحلِّل، ويُحَرِّمَ، ويفرِضَ الفرائضَ، ويشرع الشرائع، وينسخَ المِلل، ويضربَ الرِّقاب، ويقتلَ أتباعَ الرُّسل، وهم أهلُ الحق، ويسبى نساءَهم وأولادَهم، ويَغْنَم أموالهم ودِيارَهم، ويَتِمَّ له ذلك حتى يفتحَ الأرض، وينسب ذلك كله إلى أمر الله تعالى له به ومحبته له، والربُّ تعالى يُشاهده، وما يفعل بأهل الحقِّ وأتباع الرُّسُل، وهو مستمر فى الافتراء عليه ثلاثاً وعشرين سنة، وهو مع ذلك كُلِّه يُؤيده وينصُره، ويُعلى أمره، ويُمكِّن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البَشَر، وأعجَب من ذلك أنه يُجيب دعواته، ويُهلِكُ أعداءَه من غير فعل منه نفسه ولا سبب، بل تارة بدعائه، وتارة يستأصِلُهم سبحانه من غير دعاء منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك يقضى له كل حاجة سأله إياها، ويعده كل وعد جميل، ثم ينجز له وعده على أتمِّ الوجوه، وأهنئها، وأكملها، هذا وهو عندكم فى غاية الكذِب والافتراءِ والظُّلم، فإنه لا أكذبَ ممن كذبَ على اللهِ، واستمرَّ على ذلك، ولا أظلمَ ممن أبطل شرائعَ أنبيائه ورُسُله، وسعى فى رفعها من الأرض، وتبديلها بما يُريد هو، وقتل أولياءه وحزبه وأتباع رُسُله، واستمرت نصرتُه عليهم دائماً، والله تعالى فى ذلك كُلِّهِ يقره، ولا يأخُذ منه باليمين، ولا يقطَعُ منه الوتَين، وهو يُخبِرُ عن ربه أنه أُوحى إليه أنه لا: {أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قَالَ
أُوحِىَ إلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَىْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللهُ}[الأنعام: 93] ، فيلزمُكم معاشِرَ مَنْ كذَّبه أحدُ أمرين لا بد لكم منهما:
إما أن تقُولوا: لا صانِع للعالَم، ولا مُدَبِّرَ، ولو كان للعالَم صانع مدبِّرٌ قديرٌ حكيم، لأخذ على يديه، ولقابله أعظمَ مقابلة، وجعله نكالا للظالمينَ إذ لا يليقُ بالملوك غيرُ هذا، فكيف بملك السماواتِ والأرض، وأحكم الحاكمين؟
الثانى: نِسبةُ الربِّ إلى ما لا يليق به من الجور، والسفه، والظلم، وإضلال الخلق دائماً أبَد الآباد، لا بَلْ نصرة الكاذب، والتمكين له من الأرض، وإجابة دعواته، وقيام أمره مِن بعده، وإعلاء كلماته دائماً، وإظهار دعوته، والشهادة له بالنبوة قرناً بعد قرن على رؤوس الأشهاد فى كل مجمع وناد، فأين هذا من فعل أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، فلقد قدحتم فى رب العالمين أعظمَ قدح، وطعنتم فيه أشَدَّ طعن، وأنكرتموه بالكلية، ونحن لا ننكر أن كثيراً من الكذَّابين قام فى الوجود، وظهرت له شَوْكة، ولكن لم يتم له أمرُه، ولم تطل مدته، بل سَلَّط عليه رُسُله وأتباعهم، فمحقوا أثره، وقطعوا دابره، واستأصلوا شأفته. هذه سُنَّته فى عباده منذ قامت الدنيا، وإلى أن يرث الأرض ومَن عليها.
فلما سمع منى هذا الكلام، قال: معاذَ الله أن نقول: إنه ظالم أو كاذب، بل كُلُّ منصف من أهل الكتاب يُقِرُّ بأنَّ مَن سلك طريقه، واقتفى أثَره، فهو مِن أهل النجاة والسعادة فى الأُخرى، قلتُ له: فكيف يكون سالكُ طريق الكذَّاب، ومقتفى أثره بزعمكم مِن أهل النجاة والسعادة؟
فلم يجد بُداً من الاعتراف برسالته، ولكن لم يُرسَل إليهم. قلت: فقد لزمك تصديقُه ولا بد، وهو قد تواترت عنه الأخبار بأنه رسولُ رب العالَمين إلى الناس أجمعينَ، كِتَابِيهم وأُمِّيهم،
ودعا أهل الكتاب إلى دينه، وقاتل مَن لم يدخُلْ فى دينه منهم حتى أقروا بالصغار والجزية، فَبُهِتَ الكافِرُ، ونهض مِن فوره.
والمقصود: أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يزل فى جِدالِ الكفار على اختلاف مِللهم ونِحَلِهم إلى أن تُوفى، وكذلك أصحابُه من بعده، وقد أمره الله سبحانه بجدالهم بالتى هى أحسن فى السورة المكية والمدنية، وأمره أن يدعوهم بعد ظهور الحُجَّةِ إلى المُباهلة، وبهذا قام الدينُ، وإنما جُعِلَ السيفُ ناصِراً للحُجَّة، وأعدلُ السيوفِ سيفٌ ينصُرُ حُجَجَ اللهِ وبيِّناتِه، وهو سيفُ رسوله وأُمته.
فصل
ومنها: أنَّ مَن عظَّم مخلوقاً فوقَ منزلته التى يستحِقُّها، بحيثُ أخرجه عن منزلة العبودية المحضة، فقد أشرك بالله، وعَبَدَ مع الله غيره، وذلك مخالفٌ لجميع دعوة الرُّسُل، وأما قوله: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى نجران باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فلا أظن ذلك محفوظاً، وقد كتب إلى هرقل: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، وهذه كانت سُنَّته فى كُتبه إلى الملوك، كما سيأتى إن شاء الله تعالى، وقد وَقع فى هذه الرواية هذا، وقال ذلك قبل أن ينزل عليه: {طس، تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِين}[النمل: 1] وذلك غلط على غلط، فإن هذه السورة مكيَّة باتفاق، وكتابه إلى نجرانَ بعد مرجعه من تبوك.
وفيها: جواز إهانةِ رُسُل الكفار، وتركِ كلامهم إذا ظهر منهم التعاظمُ والتكبر، فإنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُكلِّم الرُّسُل، ولم يرُدَّ السلام عليهم حتى لبسوا ثياب سفرهم، وألقوا حُللهم وحُلاهم.
ومنها: أنَّ السُّنَّة فى مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حُجَّةُ اللهِ، ولم يرجعوا، بل أصرُّوا على العناد أن يدعوَهم إلى المباهلة، وقد أمر اللهُ سبحانه بذلك رسولَه، ولم يقل: إنَّ ذلك ليس لأُمتك مِن بعدك، ودعا إليه ابنُ عمِّه عبدُ الله بن عباس لمن أنكر عليه بعضَ مسائل الفروع، ولم يُنكر عليه الصحابة، ودعا إليه الأوزاعىُّ: سفيانَ الثورىَّ فى مسألة رفع اليدين، ولم يُنكر عليه ذلك، وهذا من تمام الحُجَّة.
ومنها: جواز صلح أهل الكتاب على ما يريد الإمام من الأموال ومِن الثياب وغيرها، ويجرى ذلك مجرى ضربِ الجزية عليهم، فلا يحتاج إلى أن يُفرد كل واحد منهم بجزية، بل يكون ذلك المالُ جزيةً عليهم يقتسِمُونها كما أحبوا، ولما بعث معاذاً إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً، أو عَدْله معافرياً. والفرق بين الموضعين أن أهلَ نجران لم يكن فيهم مسلم، وكانوا أهل صلح، وأما اليمن فكانت دار الإسلام، وكان فيهم يهود، فأمره أن يضرِبَ الجزية على كل واحد منهم، والفقهاء يخصون الجزية بهذا القسم دون الأول، وكلاهما جزية، فإنه مال مأخوذ من الكفار على وجه الصَغَار فى كل عام.
ومنها: جواز ثبوت الحُلل فى الذِمَّة، كما تثبت فى الدية أيضاً، وعلى هذا يجوز ثبوتُها فى الذِمَّة بعقد السَلَم وبالضَّمان وبالتَّلَفِ، كما تثبت فيها بعقد الصداق والخلع.
ومنها: أنَّه يجوز معاوضتُهم على ما صالحوا عليه من المال بغيره من أموالهم بحسابه.
ومنها: اشتراطُ الإمام على الكفار أن يُؤووا رُسُلَه ويُكرموهم، ويُضيفوهم أياماً معدودة.
ومنها: جوازُ اشتراطه عليهم عارية ما يحتاج المسلمون إليه مِن سلاح،
أو متاع، أو حيوان، وأن تلك العارية مضمونة، لكن هل هى مضمونة بالشرط أو بالشرع؟ هذا محتمل، وقد تقدَّم الكلام عليه فى غزوة حُنَيْن، وقد صرَّح هاهنا بأنها مضمونة بالرد، ولم يتعرض لضمان التلف.
ومنها: أنَّ الإمامَ لا يُقِرُّ أهلَ الكتاب على المعاملات الربوية، لأنها حرام فى دينهم، وهذا كما لا يُقِرُّهم على السّكْرِ، ولا على اللِّواط والزِّنَى، بل يحدُّهم على ذلك.
ومنها: أنَّه لا يجوزُ أن يُؤخذ رجلٌ من الكفار بظلم آخر، كما لا يجوز ذلك فى حق المسلمين، وكلاهما ظلم.
ومنها: أنَّ عقدَ العهد والذِمَّة مشروطٌ بنصح أهل العهد والذِمَّة وإصلاحهم، فإذا غشُّوا المسلمين وأفسدوا فى دينهم، فلا عهد لهم ولا ذِمَّة، وبهذا أفتينا نحن وغيرُنا فى انتقاض عهدهم لما حرقوا الحريق العظيمَ فى دمشق حتى سرى إلى الجامِع، وبانتقاض عهد مَن واطأهم وأعانهم بوجه ما، بل ومَن علم ذلك، ولم يرفعه إلى ولى الأمر، فإنَّ هذا مِن أعظم الغش والضرر بالإسلام والمسلمين.
ومنها: بعثُ الإمامُ الرجل العالِم إلى أهل الهُدنة فى مصلحة الإسلام، وأنه ينبغى أن يكون أميناً، وهو الذى لا غرض له ولا هوى، وإنما مرادُه مجردُ مرضاة الله ورسوله، لا يشوبُها بغيرها، فهذا هو الأمين حقُّ الأمين، كحال أبى عُبيدة بن الجرَّاح.
ومنها: مناظرةُ أهل الكتاب وجوابُهم عما سألوه عنه، فإن أشكل على المسؤول، سأل أهل العلم.
ومنها: أنَّ الكلام عند الإطلاق يُحمل على ظاهره حتى يقومَ دليلٌ على خلافه، وإلا لم يُشكل على المغيرة قوله تعالى: {يَا أُخْتََ هَارُونَ}،
هذا وليس فى الآية ما يدل على أنه هارون بن عمران حتى يلزم الإشكال، بل المورد ضمَّ إلى هذا أنه هارون بن عمران، ولم يكتف بذلك حتى ضم إليه أنه أخو موسى بن عمران، ومعلوم أنه لا يدل اللَّفظ على شىء من ذلك، فإيرادُه إيراد فاسد، وهو إما من سوء الفهم، أو فساد القصد.
وأما قول ابنِ إسحاق: إنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث علىَّ بن أبى طالب رضى الله عنه إلى أهل نجرانَ ليجمع صدقاتِهم، ويقدم عليه بجزيتهم، فقد يُظن أنه كلامٌ متناقضٌ، لأن الصَدَقةَ والجزية لا تجتمعان، وأشكلُ منه ما ذكره هو وغيرُه أنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث خالد بن الوليد فى شهر ربيع الآخر، أو جُمادى الأُولى سنة عشر إلى بنى الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعُوَهم إلى الإسلام قبل أن يُقاتِلَهم ثلاثاً، فإن استجابُوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم، فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركاب يضربون فى كل وجه، ويدعون إلى الإسلام، فأسلم الناسُ، ودخلوا فيما دُعُوا إليه، فأقام فيهم خالد يُعلِّمهم الإسلامَ، وكتب بذلك إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكتب إليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُقبل، ويُقبل إليه بوفدهم، وقد تقدَّم أنهم وَفدُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصالحهم على ألفى حُلَّة، وكتب لهم كتاب أمن وأن لا يُغيَّروا عن دينهم، ولا يُحشروا، ولا يُعشروا.
وجواب هذا: أنَّ أهل نجران كانوا صنفين: نصارى وأُمِّيين، فصالحَ النصارى على ما تقدَّم، وأما الأُميِّون منهم، فبعث إليهم خالدَ بن الوليد، فأسلموا وقدم وفدُهم على النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم الذين قال لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِمَ كُنْتُم تَغْلِبُونَ مَنْ قَاتَلَكُم فى الجَاهِلَيَّةِ"؟، قالوا: كنا نجتمع ولا نتفرَّق، ولا نبدأ أحداً بظلم، قال: "صدقتم"، وأمَّرَ عليهم قَيْس بن الحُصين، وهؤلاء هم بنو الحارث بن كعب، فقوله: بعث علياً إلى أهل نجران ليأتيه بصدقاتهم أو
جزيتهم، أراد به الطائفتين من أهل نجران، صدقات مَن أسلم منهم، وجزية النصارى.
فصل: فى قدوم رسول فَرْوَةَ بنِ عمرو الجُذَامى ملك عرب الروم
قال ابن إسحاق: وبعث فروة بن عَمْرو الجُذامى إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، وكان فروةُ عاملاً للروم على مَن يليهم من العرب، وكان منزِلُه مَعانَ وما حوله من أرض الشام، فلما بلغ الرومُ ذلك من إسلامه، طلبوه حتى أخذوه، فحبسوه عندهم، فلما اجتمعت الرومُ لصلبه على ماء لهم يقال له: "عفراء"، بفلسطين، قال:
أَلا هَلْ أَتَى سَلْمَى بِأَنَّ حَلِيلها ... عَلى مَاءِ عَفْرَا فَوْقَ إحْدَى الرَّوَاحِلِ
عَلى نَاقَةٍ لم يَضْرِب الفَحْلُ أُمَّها ... مُشَذَّبَةً أَطْرَافُها بِالمَنَاجِلِ
قال ابن إسحاق: وزعم الزُّهْرى أنهم لما قدَّموه، ليقتُلوه قال:
بَلِّغْ سَرَاةَ المُسْلِمِينَ بِأَنَّنِى ... سِلْمٌ لِرَبِّى أعْظُمى ومَقَامى
ثم ضربوا عنقه، وصلبوه على ذلك الماء يرحمه الله تعالى.
فصل: فى قدوم وفد بنى سعد بن بكر على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال ابن إسحاق: حدَّثنى محمد بن الوليد بن نويفع عن كُريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: بعثتْ بنو سعد بن بكر ضِمَام بن ثَعلبة وافداً إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَدِمَ عليه، فأناخ بعيرَه على باب المسجد، فعقله، ثم دخلَ على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو فى المسجد جالس فى أصحابه، فقال: أيُّكم ابنُ عَبْدِ المُطَّلِب؟ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِب"، فقال: محمد؟ فقال: "نعم"، فقال: يا ابنَ عبد المطلب؛ إنى سائِلُك ومُغْلِظٌ عليك فى المسألة، فلا تجِدَن فى نفسك. فقال: "لاَ أَجِدُ فى نَفْسِى فَسَلْ عَمَّا بدا لك" فقال: أَنْشُدُكَ اللهَ إلهك وإله أهلِك، وإله مَنْ كان قبلك، وإله مَنْ هو كائِنٌ بعدك، آللهُ بعثَك إلينا رسولاً؟ قال: "اللهُمَّ نعم"، قال: فأَنْشُدُكَ اللهَ إلهكَ، وإله مَنْ كَان قبلك، وإله مَن هو كائِنٌ بعدك. آللهُ أمَرَكَ أن نعبُدَه لا نُشرِكُ به شيئاً، وأن نخلَع هذه الأندَادَ التى كان آباؤنا يعبُدون؟ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهُمَّ نعم"، ثم جعل يذكُر فرائِضَ الإسلام فريضةً فريضةً: الصلاةَ، والزكاةَ، والصيامَ، والحَجَّ، وفرائضَ الإسلام كُلَّها، ينشُدُه عند كُلِّ فريضة كما نشدَه فى الَّتى قبلها حتى إذا فرغ قال: فإنى أشهدُ أنَّ لا إله إلا الله، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، وسأؤدى هذه الفرائضَ، وأجتنبُ ما نهيتنى عنه، لا أزيدُ ولا أنقُصُ، ثم انصرف راجعاً إلى بعيره، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين ولىَّ: "إنْ يَصْدُقْ ذُو العَقِيصَتَيْنِ، يَدْخُلِ الجَنَّة" وكان ضِمام رجلاً جلداً أشعرَ ذا غديرتين، ثم أتى بعيره، فأطلق عِقاله، ثم خرجَ حتَّى قَدِمَ على قومه،
فاجتمعوا عليه، وكان أوَّلَ ما تكلَّم به أن قال: بئستِ اللاتُ والعُزَّى، فقالُوا: مَهْ يا ضِمام، اتق البرصَ، والجنونَ، والجُذام. قال: ويلَكم، إنهما ما يَضُران ولا ينفعَانِ، إنَّ الله قد بعث رسولاً، وأنزل عليه كتاباً استنقذكم به مما كنتم فيه، وإنى أَشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً عبدُه ورسوله، وإنى قد جئتُكم مِن عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، فواللهِ ما أمسى من ذلك اليوم فى حاضِرتِه رجلٌ ولا امرأة إلا مسلماً
قال ابن إسحاق: فما سمعنا بوافد قومٍ أفضل مِن ضِمام بن ثعلبة، والقصة فى "الصحيحين" من حديث أنس بنحو هذه.
وذكر الحَجّ فى هذه القصة يدل على أن قدوم ضِمام كان بعد فرض الحَجّ، وهذا بعيد، فالظاهر أنَّ هذه اللَّفظة مدرجة من كلام بعض الرواة.. والله أعلم.
فصل: فى قدوم طارق بن عبد الله وقومه على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
روينا فى ذلك لأبى بكر البيهقى، عن جامع بن شدَّاد، قال: حدَّثنى رجل يُقال له: طارق بن عبد الله. قال: إنى لقائم بسوق المجاز، إذ أقبل
رجل عليه جُبَّة له وهو يقول: "يا أيُّها الناس؛ قولُوا: لا إله إلا اللهُ تُفْلِحُوا"، ورجل يتبعُه يَرميه بالحِجارة يقول: يا أيُّها الناسُ؛ لا تُصدِّقوه فإنه كذَّاب، فقلتُ: مَنْ هذَا؟ فقالوا: هذا غلام من بنى هاشم الذى يزعمُ أنه رسولُ الله، قال: قلتُ: مَن هذا الذى يفعل به هذا؟ قالوا: هذا عمُّه عبدُ العُزَّى، قال: فلما أسلم الناسُ، وهاجرُوا، خَرجنا من الرَّبَذَةِ نُريدُ المدينةَ نمتارُ مِن تمرها، فلما دنونا مِن حيطانها ونخلها، قلنا: لو نزلنا فلبسنا ثِياباً غيرَ هذه، فإذا رجل فى طِمرين له، فسلَّم وقال: مِن أين أقبلَ القومُ؟ قلنا: من الرَّبَذَةِ. قال: وأين تُريدون؟ قلنا: نُريدُ هَذِهِ المدِينةَ، قال: ما حاجتُكم فيها؟ قلنا: نمتارُ من تمرها. قال: ومعنا ظعينةٌ لنا، ومعنا جمل أحمر مخطوم، فقال: أتبيعون جملكم هذا؟ قالوا: نعم بكذا وكذا صاعاً من تمر، قال: فما استوضعنا مما قلنا شيئاً، فأخذ بخِطام الجمل، فانطلق، فلما توارَى عنا بحيطان المدينة ونخلها، قلنا: ما صنعنا، واللهِ ما بِعنا جملنا ممن نعرف، ولا أخذنا له ثمناً، قال: تقولُ المرأةُ التى معنا: واللهِ لقد رأيتُ رجلاً كأنَّ وجهه شِقةُ القمر ليلَةَ البدر، أنا ضامنة لثمن جملكم.
وفى رواية ابن إسحاق قالت الظعينة: فلا تَلاوموا، فلقد رأيتُ وجه رجل لا يغدِرُ بكم، ما رأيتُ شيئاً أشبَهَ بالقمر ليلةَ البدر من وجهه، فبينما هم كذلك إذ أقبل رجلٌ فقال: أنا رسولُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليكم، هذا تمرُكم، فكُلوا، واشبعوا، واكتالُوا، واستوفوا، فأكلنا حتى شبِعنا، واكتلنا واستوفينا، ثم دخلنا المدينة، فدخلنا المسجد، فإذا هو قائم على المنبر يخطبُ الناس، فأدركنا من خطبته وهو يقول : "تَصَدَّقُوا فَإنَّ الصَّدَقَةَ خَيْرٌ لَكُمْ، اليَدُ العُلْيا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، أُمَّكَ وأَبَاكَ وأُخْتَكَ وأَخَاكَ وأَدْنَاكَ أَدْنَاكَ" إذ أقبل رجل من بنى يربوع، أو قال: من الأنصار، فقال:
يا رسول الله؛ لنا فى هؤلاء دماء فى الجاهلية، فقال: "إنَّ أُمّاً لا تَجْنى عَلَى وَلَدٍ" ثلاث مرات.
فصل: فى قدوم وفد تُجيب
وقدم عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد تُجيب، وهم من السَّكُونِ ثلاثةَ عشر رجلاً قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التى فرض الله عليهم، فسُرَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهم، وأكرم منزلهم، وقالوا: يا رسول الله؛ سقنا إليك حق الله فى أموالنا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُدُّوها فَاقْسِمُوها على فُقَرَائِكُم" قالوا: يا رسول الله؛ ما قدمنا عليك إلا بما فَضَل عن فقرائنا، فقال أبو بكر: يا رسولَ الله؛ ما وفَدَ مِن العرب بمثل مَا وفد به هذا الحى من تُجيب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الهُدَى بِيَدِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فَمَنْ أرادَ بِهِ خَيْراً شَرَحَ صَدْرَهُ للإيمَان" ، وسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشياء، فكتب لهم بها، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهم رغبة، وأمر بلالاً أن يُحسن ضِيافتهم، فأقاموا أياماً، ولم يُطيلوا اللْبَث، فقيل لهم: ما يُعجبكم؟ فقالوا: نرجِعُ إلى مَن وراءنا فنخبِرُهم برؤيتنا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلامِنا إياه، وما ردَّ علينا، ثم جاؤوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُودِّعُونه،
فأرسل إليهم بلالاً، فأجازهم بأرفع ما كان يُجيزُ به الوفودَ. قال: "هَلْ بَقِىَ مِنْكُمْ أَحَدٌ"؟ قالوا: نعم، غلام خلفناه على رحالنا هو أحدثُنا سناً، قال: "أرسلوه إلينا"، فلما رجعوا إلى رِحالهم، قالوا للغلام: انطلِق إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاقضِ حاجتَك منه، فإنَّا قد قضينا حوائجنا منه وودعناه، فأقبل الغلامُ حتى أتى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله؛ إنى امرؤ مِن بنى أبْذَى، يقول: مِن الرهط الذين أتوك آنفاً، فقضيتَ حوائِجَهم، فاقض حاجتى يا رسول الله. قال: "وما حاجتُك"؟ قالَ: إنَّ حاجتى ليست كحاجة أصحابى، وإن كانوا قَدِمُوا راغبين فى الإسلام، وساقُوا ما ساقوا من صدقاتهم، وإنى واللهِ ما أعمَلنى من بلادى إلا أن تسألَ الله عزَّ وجلَّ أن يغفر لى ويرحمنى، وأن يجعل غِناى فى قلبى، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقبل إلى الغلام: "اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وارْحَمْهُ، واجْعَلْ غِناهُ فى قَلْبِهِ" ، ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافَوْا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الموسم بِمِنَى سنةَ عشر، فقالوا: نحن بنو أبْذَى، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما فَعَلَ الغُلامُ الَّذِى أتانى مَعَكُم"؟ قالوا: يا رسول الله؛ ما رأينا مثله قطُّ، ولا حُدِّثنا بأقنعَ منه بما رزقه الله، لو أن الناسَ اقتسموا الدنيا ما نظر نحوَها ولا التفتَ إليها، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الحَمْدُ للهِ إنى لأرْجُو أَنْ يَمُوتَ جَمِيعاً"، فقال رجل منهم: أوَ ليس يموتُ الرجلُ جميعاً يا رسولَ الله؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَشَعَّبُ أهْوَاؤه وهُمُومُه فى أوْدِيَةِ الدُّنْيَا، فَلَعَلَّ أجَلَهُ أَنْ يُدْرِكَهُ فى بَعْضِ تِلْكَ الأَوْدِيَةِ فلا يُبالى الله عزَّ وجَلَّ فى أيِّها هَلَك"، قالوا: فعاش ذلك الغلامُ فينا على أفضلِ حال، وأزهده فى الدنيا، وأقنعه بما رُزِقَ، فلما توفى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورجعَ مَنْ رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام فى قومه، فذكَّرهم الله والإسلام، فلم يرجع منهم أحد، وجعل أبُو بكر الصِّدِّيق يَذْكُره
ويسأل عنه حتى بلغَه حالُه، وما قام به، فكتب إلى زياد بن لبيد يوصيه به خيراً.
فصل: فى قدوم وفد بنى سَعد هُذَيْم مِن قُضاعة
قال الواقدى، عن أبى النعمان، عن أبيه من بنى سعد هُذَيْم: قدمتُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وافداً فى نَفَرٍ من قومى، وقد أوطأ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البلادَ غلبةً، وأداخَ العرب، والناسُ صِنفَانِ: إما داخل فى الإسلام راغبٌ فيه، وإما خائفٌ من السيف، فنزلنا ناحيةً من المدينة، ثم خرجنا نؤُمُّ المسجدَ حتى انتهينا إلى بابه، فنجدُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّى على جِنازة فى المسجد، فقُمنا ناحيةً، ولم ندخل مع الناس فى صلاتهم حتى نلقى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونبايعَه، ثم انصرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنظر إلينا، فدعا بنا، فقال: "مَنْ أَنْتُم"؟ فقلنا: من بنى سعد هُذَيْم، فقال: "أمسلِمُون أَنْتُم"؟ قلنا: نعم. قال: "فَهَلاَّ صَلَّيتُم عَلى أَخِيكُم"؟ قلنا: يا رسول الله؛ ظننا أنَّ ذلك لا يجوز لنا حتى نُبايعَك، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيْنَمَا أَسْلَمْتُم فَأَنْتُم مُسْلِمُون"، قالوا: فأسلمنا وبايعنا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الإسلام، ثم انصرفنا إلى رحالنا قد خلفنا عليها أصغرَنا، فبعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى طلبنا، فَأُتِىَ بنا إليه، فتقدَّم صاحبُنا إليه، فبايعه على الإسلام، فقُلنا: يا رسولَ الله؛ إنه أصغرُنا وإنه خادِمُنا، فقال: "أصْغَرُ القَوْم خَادِمُهُم، بَارَكَ اللهُ عَلَيْهِ" ، قال: فكان واللهِ خيرَنا، وأقرأَنا للقرآن لدعاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له، ثم أمَّره رسولُ
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا، فكان يَؤُمُّنا، ولما أردنا الانصراف، أمر بلالاً فأجازنا بأواقٍ من فِضَّة لكل رجل منا، فرجعنا إلى قومنا، فرزقهم اللهُ الإسلام.
فصل: فى قدوم وفد بنى فَزَارة
قال أبو الربيع بن سالم فى كتاب "الاكتفاء": ولما رجعَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن تَبُوك، قَدِمَ عليه وفدُ بنى فَزَارة بضعة عشر رجلاً، فيهم خارجةُ ابنُ حِصن، والحُرُّ بن قيس ابن أخى عُيَيْنة بنِ حصن، وهو أصغرُهم، فنزلوا فى دار رملة بنت الحارث، وجاؤوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقرِّينَ بالإسلام وهم مُسنِتُونَ على رِكاب عِجافٍ، فسألهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بلادهم، فقال أحدهُم: يا رسولَ الله؛ أسنَتَتْ بلادُنا، وَهَلَكَتْ مواشينا، وأجدب جنابُنا، وغَرِثَ عيالنا، فادعُ لنا ربك يُغيثُنا، واشفعْ لنا إلى ربك، وليشفع لنا ربُّك إليك، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سُبْحانَ الله، وَيْلَكَ يا هذا، إنَّما شَفَعْتُ إلى رَبِّى عَزَّ وجَلَّ، فَمَنِ الَّذِى يَشْفَعُ رَبُّنا إليه؟ لا إله إلاَّ هُو العَظِيمُ، وَسِعَ كُرْسِيُّه السَّمَواتِ والأرْضَ، فَهى تَئِطُّ مِنْ عَظَمَتِه وجَلاَلِهِ كَما يَئِطُّ الرَّحْلُ الجَدِيد"، وقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ ليَضْحَكُ
مِنْ شَغَفِكُمْ وأَزْلِكمْ، وقُرْبِ غِيَاثكُمْ" ، فقال الأعرابى: يا رسولَ الله؛ ويضحكُ ربُّنا عَزَّ وجَلَّ؟ قال: "نعم" فقال الأعرابى: لَنْ نَعْدَم مِنْ رَبٍّ يضحَكُ خيراً، فضحِكَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قوله، وصَعِدَ المنبرَ، فتكلَّم بكلمات، وكان لا يرفع يديه فى شىء من الدعاء إلا رفع الاستسقاء، فرفع يديه حتى رؤى بياضُ إبطيه، وكان مما حُفِظَ من دعائه : "اللهُمَّ اسْقِ بلاَدَكَ وبَهَائِمَكَ، وانْشُرْ رَحْمَتَكَ، وأحْى بَلَدَكَ المَيِّت، اللهُمَّ اسْقِنا غَيْثاً مُغيثا مَريئاً مَرِيعاً طَبَقاً واسعاً عَاجِلاً غَيْرَ آجِلٍ، نَافِعاً غَيْرَ ضارٍّ، اللهُمَّ سُقْيا رَحْمَةٍ لا سُقْياَ عَذَابٍ، ولا هَدْمٍ، ولا غَرَقٍ، ولا مَحْق، اللهُمَّ اسْقِنا الغيثَ وانْصُرنا على الأَعْدَاء".
فصل: فى قدوم وفد بنى أسَد
وقَدِم عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفدُ بنى أسد عشرةُ رهط، فيهم وابصة ابن معبد، وطلحةُ بن خُويلد، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالسٌ مع أصحابه فى المسجد، فتكلَّمُوا، فقال متكلِّمهم: يا رسولَ الله؛ إنَّا شهدنا أنَّ الله وحدَه لا شريكَ
له، وأنك عبدُه ورسوله، وجئناك يا رسولَ اللهِ، ولم تَبْعَثْ إلينا بعثاً، ونحن لمن وراءنا. قال محمد بن كعب القرظى: فأنزل الله على رسوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ، قُل لا تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسْلامَكُم، بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إن كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[الحجرات: 17]، وكان مما سألوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه يومئذ العِيَافَةُ والكَهَانَةُ وضربُ الحَصى، فنهاهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك كله، فقالوا: يا رسول الله؛ إنَّ هذه أُمُورٌ كنا نفعلها فى الجاهلية، أرأيتَ خصلةً بقيت؟ قال: "وما هِىَ"؟ قالوا: الخَطُّ. قال: "عُلِّمَهُ نَبىٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَمَنْ صَادَفَ مِثْلَ عِلْمِهِ عَلِمَ".
فصل: فى قدوم وَفدِ بَهْراء
ذكر الواقدى عن كريمةَ بنتِ المقداد قالت: سمعتُ أمى ضُباعة بنت الزُّبَيْر ابن عبد المطلب تقول: قدم وفدُ بهراءَ مِن اليمن على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وهم ثلاثةَ عشرَ رجلاً، فأقبلُوا يقودُون رواحِلهم حتى انتهوا إلى باب المقداد، ونحنُ فى منازلنا ببنى حُدَيلة، فخرج إليهم المقدادُ، فرحب بهم، فأنزلهم، وجاءهم بِجفْنَةٍ مِنْ حَيس قد كنَّا هيأناها قبل أن يَحِلُّوا لنجلس عليها، فحملها المقدادُ، وكان كريماً على الطعام، فأكلُوا منها حتى نَهِلُوا، ورُدَّتْ إلينا القَصْعةُ، وفيها أُكَلٌ، فجمعنا تلك الأُكَل فى قصعةٍ صغيرة، ثم بعثنا بها إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع سِدرة مولاتى، فوجدتْه فى بيت أُمِّ سلمة، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ضُباعة أرسلَتْ بهذا"؟ قالت سدرة: نعم يا رسولَ الله، قال: "ضَعِى" ثم قال: "ما فعل ضيفُ أبى معبد"؟ قلتُ: عندنا، قالت: فأصابَ منها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكلاً هو ومَن معه فى البيت حتى نَهِلُوا، وأكلت معهم سِدْرَةُ، ثم قال: "اذْهَبِى بِمَا بَقِىَ إلى ضَيْفِكُم"، قالت سِدرة: فرجعتُ بما بقى فى القصعة إلى مولاتى، قالت: فأكل منها الضيفُ ما أقاموا، نرددها عليهم، وما تَغِيضُ حتى جعل القومُ يقولون: يا أبا معبد إنك لتَنْهَلُنا مِن أحبِّ الطعام إلينا ما كنا نَقْدِرُ على مثل هذا إلا فى الحين، وقد ذُكِرَ لنا أنَّ الطعامَ ببلادكم إنما هو العُلقَةُ أو نحوه، ونحن عندك فى الشِّبَعِ، فأخبرهم أبو معبد بخبر رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أكل منها أكلاً، وردَّها، فهذه بركةُ أصابعِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل القومُ يقولون: نشهد أنَّه رسول الله، وازدادوا يقيناً، وذلك الذى أراد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتعلَّموا الفرائضَ، وأقاموا أياماً، ثم جاؤوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُودِّعونه، وأمر لهم بجوائزهم، وانصرفوا إلى أهليهم.
فصل: فى قدوم وفد عُذرة
وقدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد عُذرة فى صفر سنة تسعٍ اثنا عشرَ رجلاً، فيهم جمرة بن النعمان، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن القَوْم"؟ فقال متكلِّمهم: مَن لا تُنكِرُه، نحن بنو عُذرة إخوة قُصَى لأُمِّه، نحنُ الذين عضدوا قُصياً، وأزاحوا مِن بطن مكةَ خُزاعة وبنى بكر، ولنا قَراباتٌ وأرحام، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مرحباً بكم وأهلاً، مَا أعَرفَنى بكم"، فأسلموا، وبشَّرهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفتح الشام، وهرب هِرقل إلى ممتنع مِن بلاده، ونهاهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سؤال الكاهنة، وعن الذبائح التى كانوا يذبحونها، وأخبرهم أنْ ليس عليهم إلا الأُضحية، فأقاموا أياماً بدار رملة، ثم انصرفُوا وقد أُجيزوا.
فصل: فى قدوم وفد بَلِىّ
وقدم عليه وفد بَلِىٍّ فى ربيع الأول من سنة تسع، فأنزلهم رُويفع بن ثابت البَلَوى عنده، وقَدِمَ بهم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: هؤلاء قومى، فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَرْحباً بِكَ وَبِقَوْمِكَ"، فأسلموا، وقال
لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "الحَمْدُ للهِ الَّذِى هَداكمْ للإسْلاَم، فَكُلُّ مَنْ مَاتَ عَلى غَيْرِ الإسْلامِ، فَهُوَ فى النَّارِ"، فقال له أبو الضُّبَيْب شيخُ الوفد: يا رسول الله؛ إنَّ لى رغبة فى الضيافة، فهل لى فى ذَلِكَ أجْر؟ قال: "نَعَمْ، وَكُلُّ مَعْرُوفٍ صَنَعْتَه إلى غَنِىٍّ أو فَقِيرٍ، فَهُوَ صَدَقَة"، قال: يا رسول الله؛ ما وقتُ الضِّيافة؟ قال: "ثَلاثَة أيامٍ، فما كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، ولا يَحلُّ لِلْضَّيْفِ أَنْ يُقِيمَ عِنْدِكَ فَيُحْرِجَك"، قال: يا رسولََ الله؛ أرأيتَ الضَّالة من الغنم أجدها فى الفلاة من الأرض؟ قال: "هىَ لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئبِ"، قال: فالبعير؟ قال: "مَا لَكَ ولَهُ، دعه حَتَّى يَجِدَهُ صَاحِبُه"، قال رويفع: ثم قاموا فرجعُوا إلى منزلى، فإذا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتى منزلى يحمِلُ تمراً، فقال: "اسْتَعِنْ بِهذا التَّمر"، وكانوا يأكلون منه ومن غيره، فأقاموا ثلاثاً، ثم ودَّعُوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأجازهم، ورجعوا إلى بلادهم.
فصل
فى هذه القصةِ من الفقه: أنَّ للضيف حقاً على مَن نزل به، وهو ثلاثُ مراتب: حقٌ واجب، وتمامٌ مُستحَب، وصدقةٌ من الصدقات، فالحقُّ الواجب يَوْمٌ وليلة، وقد ذكر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المراتب الثلاثة فى الحديث المتفق على صحته من حديث أبى شريح الخُزاعى، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَن كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِر، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَه" ، قالوا: ومَا جائزته يا رسول الله؟ قال: "يَوْمُه ولَيْلَتُه، والضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أيَّام، فَما كَانَ وَرَاءَ ذَلكَ، فَهُوَ صَدَقَة، ولا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِىَ عِنْدَه حَتَّى يُحْرِجَه".
وفيه: جوازُ التقاط الغنم، وأنَّ الشاة إذا لم يأتِ صاحبُها، فهى ملك الملتقِط، واستدل بهذا بعضُ أصحابنا على أنَّ الشاةَ ونحوَها مما يجوزُ التقاطه يُخيَّرُ الملتقِط بين أكله فى الحال، وعليه قيمته، وبين بيعه وحفظ ثمنه، وبين تركِه والإنفاق عليه من ماله، وهل يَرجِعُ به؟ على وجهين، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلها له، إلا أن يظهر صاحبُها، وإذا كانت له، خُيِّرَ بين هذه الثلاثة، فإذا ظهر صاحبُها، دفعها إليه أو قيمتها، وأما متقدمو أصحاب أحمد، فعلى خلاف هذا، قال أبو الحسين: لا يتصرَّفُ فيها قبلَ الحَوْل رواية واحدة، قال: وإن قلنا: يأخُذُ ما لا يستقِلُّ بنفسه كالغنم، فإنه لا يتصرَّف بأكل ولا غيره رواية واحدة، وكذلك قال ابن عقيل، ونص أحمد فى رواية أبى طالب فى الشاة: يُعرِّفُها سنة، فإن جاء صاحبها رَدَّها إليه، وكذلك قال الشريفان: لا يملك الشاةَ قبل الحَوْل روايةً واحدة. وقال أبو بكر: وضالةُ الغنم إذا أخذها يُعرِّفُها سنة، وهو الواجب، فإذا مضت السنةُ ولم يَعْرِفْ صاحِبَها،كانت له، والأولُ أفقهُ وأقربُ إلى مصلحة الملتقِطِ والمالك، إذ قد يكون تعريفُها سنة مستلزماً لتغريمِ مالكها أضعافَ قيمتها إن قلنا: يرجِعُ عليه بنفقتها، وإن قلنا: لا يرجِعُ، استلزمَ تغريم الملتقِط ذلك، وإن قيل: يدعُها ولا يلتقِطُها، كانت للذئب وتَلِفَتْ، والشارع لا يأمر بضياع المال.
فإن قيل: فهذا الذى رجحتموه مخالف لنصوص أحمد وأقوالِ أصحابه، وللدليل أيضاً.
أما مخالفة نصوص أحمد، فمما تقدَّم حكايته فى رواية أبى طالب، ونص أيضاً فى روايته فى مضطرٍ وجد شاة مذبوحة وشاة ميتة، قال: يأكُلُ
من الميتة، ولا يأكل من المذبوحة، الميتةُ أُحِلَّت، والمذبوحةُ لها صاحب قد ذبحها، يُريد أن يُعَرِّفها، ويطلبَ صاحبَها، فإذا أوجب إبقاءَ المذبوحة على حالها، فإبقاءُ الشاة الحيةِ بطريق الأَوْلى، وأما مخالفةُ كلام الأصحاب فقد تقدَّم، وأما مخالفةُ الدليل، ففى حديث عبد الله بن عَمْرو: يا رسولَ الله؛ كيف ترى فى ضالة الغنم؟ فقال: "هى لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْب، احْبِسْ عَلى أَخِيكَ ضَالَّتَهُ". وفى لفظ: "رُدَّ عَلى أَخِيكَ ضَالَّتَه"، وهذا يمنع البيع والذبح.
قيل: ليس فى نص أحمد أكثرُ من التعريف، ومَن يقول: إنه مخيَّرٌ بين أكلِها وبيعِها وحفظِها، لا يقول بسقوط التعريف، بل يُعرِّفها مع ذلك، وقد عرف شِيتَها وعلامَتها، فإن ظهر صاحبُها أعطاه القيمة. فقول أحمد: يُعرِّفها أعم من تعريفها وهى باقية، أو تعريفها وهى مضمونة فى الذِمَّة لمصلحة صاحبها وملتقطها، ولا سيما إذا التقطها فى السفر، فإن فى إيجاب تعريفها سنةً من الحَرَج والمشقة ما لا يرضى به الشارعُ، وفى تركها مِن تعريضها للإضاعة والهلاك ما يُنافى أمره بأخذها، وإخبارَه أنه إن لم يأخذها كانت للذئب، فيتعينُ ولا بد: إما بيعُها وحِفْظُ ثمنها، وإما أكلُها وضمانُ قيمتها أو مثلها.
وأما مخالفة الأصحاب، فالذى اختار التخيير من أكبر أئمة الأصحاب، ومَن يُقاس بشيوخ المذهب الكبار الأجلاء، وهو أبو محمد المقدسى قدَّس الله روحه، ولقد أحسن فى اختياره التخيير كُلَّ الإحسان.
وأما مخالفة الدليل، فأين فى الدليل الشرعى المنع من التصرف فى الشاة
الملتقطة فى المفازة وفى السفر بالبيع والأكل، وإيجابِ تعريفها والإنفاقِ عليها سنة مع الرجوع بالإنفاق، أو مع عدمه؟ هذا ما لا تأتى به شريعةٌ فضلاً أن يقوم عليه دليل، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احْبِسْ عَلى أَخيكَ ضَالَّتَهُ" صريح فى أنَّ المراد به أنْ لا يستأثِرَ بها دونه، ويُزيل حقه، فإذا كان بيعها وحفظ ثمنها خيراً له من تعريفها سنة، والإنفاقِ عليها، وتغريمِ صاحبها أضعافَ قيمتها، كان حبسُها وردُّها عليه هو بالتخيير الذى يكون له فيه الحظ، والحديثُ يقتضيه بفحواه وقوته، وهذا ظاهر.. وبالله التوفيق.
ومنها: أنَّ البعيرَ لا يجوز التقاطُه، اللهُمَّ إلا أن يكون فَلُوَّاً صغيراً لا يمتنِعُ من الذئب ونحوه، فحكمه حكم الشاة بتنبيه النص ودلالته.
فصل: فى قدوم وفد ذى مُرَّة
وقدِمَ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد ذى مُرَّة ثلاثة عشر رجلاً رأسهُم الحارث بن عَوْف، فقالوا: يا رسول الله؛ إنًَّا قومُك وعشيرتُك، نحن قوم من بنى لؤى بنِ غالب، فتبسَّمَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال للحارث: أين تركت أهلَك؟ قال: بِسلاح وما والاها. قال: وكيف البلادُ؟ قال: واللهِ إنَّا لمُسْنِتُونَ، ما فى المال مخ، فادعُ الله لنا. فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهُمَّ اسْقِهِمُ الغَيْثَ " فأقاموا أياماً، ثم أرادوا الانصراف إلى بلادهم، فجاؤوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَدِّعين له، فأمر بلالا أن يُجيزهم، فأجازهم بعشر أواق فِضَّة، وفضَّل الحارث بن عوف أعطاه اثنتى عشرة أُوقية،
ورجعوا إلى بلادهم، فوجدُوا البلاد مطيرة، فسألوا: متى مُطِرْتُم؟ فإذا هو ذلك اليوم الذى دعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه، وأخصبَتْ بعد ذلك بلادُهم.
فصل: فى قدوم وفد خَوْلان
وقدِمَ عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى شهر شعبان سنة عشر وفدُ خَوْلان، وهم عشرة، فقالوا: يا رسول الله؛ نحن على مَن وَرَاءَنَا مِن قومنا، ونحن مؤمنون بالله عَزَّ وَجَّل، ومصدِّقون برسوله، وقد ضربنا إليك آباطَ الإبل، وركبنا حُزُونَ الأرض وسهولَها، والمنة لله ولِرسوله علينا، وقدمنا زائرين لك، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ مَسِيرِكُم إلىَّ فَإنَّ لَكُم بِكُلِّ خَطْوَة خَطاهَا بَعِيرُ أحَدِكُم حَسَنَة، وأما قولُكم: زائِرِينَ لك، فإنه مَنْ زَارَنى بِالمَدِينَةِ، كَانَ فى جِوارى يَوْمَ القِيَامَةِ"، قالوا: يَا رسول الله؛ هذا السفرُ الذى لا تَوَى عَلَيْهِ، ثم قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا فَعَلَ عَم أنَسٍ"؟ وهو صنم خَوْلان الذى كانوا يعبدونه قالوا: أبشِرْ، بدَّلنا اللهُ به ما جئتَ به، وقد بقيت منا بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسِّكون به، ولو قدمنا عليه، لهدمناه إن شاء الله، فقد كنا منه فى غُرور وفِتنة. فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ومَا أَعْظَمَ مَا رَأَيْتُم مِنْ فِتْنَتِه"؟ قالوا: لقد رأيتنا أَسْنَتْنَا حَتَّى أكلنا الرِّمة، فجمعنا ما قَدَرْنا عليه، وابتعنا به مِائة ثور، ونحرناها ل "عم أنس" قُرباناً فى غَداةٍ واحدةٍ، وتركناها تَردُها السباع، ونحن أحوَجُ
إليها من السباع، فجاءنا الغيثُ مِن ساعتنا، ولقد رأينا العُشْبَ يُوارى الرجالَ، ويقول قائِلُنا: أنعم علينا "عم أنس"، وذكروا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كانوا يَقسِمُون لصنمهم هذا من أنعامهم وحُروثهم، وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزءاً له، وجزءاً لله بِزعمهم، قالوا: كنا نزرعُ الزرعَ، فنجعلُ له وسطَه، فنسميه له، ونسمى زرعاً آخر حجرة لله، فإذا مالت الريحُ فالذى سميناه لله جعلناه ل "عم أنس"، وإذا مالت الريح، فالذى جعلناه، لم نجعله لله، فذكر لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الله أنزل علىَّ فى ذلك: {وَجَعَلُواْ للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً}[الأنعام: 136]، قالوا: وكنا نتحاكم إليه فيتكلم، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تِلْكَ الشَّيَاطِينُ تُكَلِّمُكُم"، وسألوه عن فرائض الدين، فأخبرهم، وأمرهم بالوفاء بالعهد، وأداءِ الأمانةِ، وحُسنِ الجوار لمن جاورُوا، وأن لا يظلِمُوا أحداً. قال: "فإن الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ"، ثم ودَّعوه بعد أيام، وأجازهم، فرجعُوا إلى قومهم، فلم يَحُلُّوا عقدة حتى هدموا "عم أنس".
فصل: فى قدوم وفد محارب
وقَدِمَ على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفدُ محارب عامَ حَجَّة الوداع، وهم كانوا أغلظَ العرب، وأفظَّهم على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تلك المواسم أيامَ عَرْضِهِ نَفْسَهُ على القبائل يدعوهم إلى الله، فجاء رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم عشرة نائبين عمن وراءَهم مِن قومهم، فأسلموا، وكان بِلالٌ يأتيهم بِغَداء وعَشاء
إلى أن جلسُوا مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً من الظهر إلى العصر، فعرف رجلاً منهم، فأمدَّه النظر، فلما رآه المحاربى يُديمُ النظرَ إليه، قال: كأنك يا رسولَ الله توهمنى؟ قال: "لقد رأيتُك"، قال المحاربىُّ: أى واللهِ، لقد رأيتنى وكلَّمتنى، وكلَّمتُك بأقبح الكلام، ورددتُك بأقبح الرد بعُكاظ، وأنت تطُوفُ على الناس، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نعم"، ثم قال المحاربىُّ: يا رسولَ الله؛ ما كان فى أصحابى أشدُّ عليكَ يومئذ، ولا أبعدُ عن الإسلام منى، فأحمد الله الذى أبقانى حتى صدَّقتُ بك، ولقد مات أُولئك النَفَرُ الذين كانوا معى على دينهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ هذِهِ القُلُوبَ بِيَدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ"، فقال المحاربىُّ: يا رسولَ اللهِ؛ استغفر لى مِن مراجعتى إيَّاك، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الإسْلامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الكُفْر"، ثم انصرفُوا إلى أهليهم.
فصل: فى قدوم وفد صُدَاء فى سنة ثمان
وقَدِمَ عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد صُداء، وذلك أنه لما انصرف من الجِعْرَانَةِ، بعث بعوثاً، وهيأ بعثاً، استعمل عليه قيسَ بنَ سعدِ بن عبادة، وعقد له لواءً أبيض، ودفع إليه رايةً سوداء، وعسكر بناحية قناة فى أربعمائةٍ مِن المسلمين، وأمره أن يطأ ناحيةً من اليمن كان فيها صُداء، فقدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل منهم، وعلم بالجيش، فأتى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ؛ جئتُك وافداً على مَن ورائى فاردُدِ الجيشَ، وأنا لك بقومى، فردَّ رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيسَ بن سعد من صَدْرِ قَنَاة، وخرج الصُّدائى إلى قومه، فقدِم على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسة عشر رجلاً منهم، فقال سعدُ بن عُبادة: يا رسولَ اللهِ؛ دعهم ينزِلوا علىَّ، فنزلُوا عليه، فحيَّاهم وأكرمهم، وكساهم، ثم راح بهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبايعُوه على الإسلام، فقالوا: نحنُ لك على مَن وراءنا من قومنا، فرجعوا إلى قومهم، ففشا فيهم الإسلام، فوافى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم مائةُ رجل فى حَجَّة الوداع، ذكر هذا الواقدى عن بعض بنى المُصْطَلِقِ، وذكر من حديث زياد بن الحارث الصُّدائى، أنه الذى قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: اردُدِ الجيشَ وأنا لك بقومى، فردَّهم، قال: وقدم وفدُ قومى عليه، فقال لى: "يا أخا صُداءٍ، إنَّكَ لَمُطَاعٌ فى قَوْمِكَ"؟ قالَ: قلتُ: بلى يا رسولَ الله مِن الله عَزَّ وجَلَّ، ومن رسوله، وكان زيادٌ هذا مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى بعض أسفاره، قال: فاعتَشى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أى سار ليلاً واعتشينا معه، وكنت رجلاً قوياً، قال: فجعل أصحابُه يتفرَّقون عنه، ولزِمْتُ غَرْزَهُ، فلما كان فى السَّحَر، قال: "أذِّن يا أخا صُداء" فأذَّنْتُ على راحلتى، ثم سرنا حتى ذهبنا، فنزل لحاجته، ثم رجع، فقال: يا أخا صُداء؛ هل معك ماء؟ قلت: معى شىء فى إداوتى، فقال: "هاته" فجئت به، فقال: "صُبَّ" فصببتُ ما فى الإداوة فى القعب، فجعل أصحابُه يتلاحقون، ثم وضع كفَّه على الإناء، فرأيتُ بين كل أصبعين من أصابعه عَيْناً تفورُ، ثم قال: "يا أخا صُدَاء؛ لولا أنى أستحيى من ربِّى عَزَّ وجَلَّ، لسقينا واستقينا" ثم توضأ وقال: "أذِّن فى أصحابى: مَن كانت له حاجة بالوضوء فَلْيَرِدْ" قال: فوردُوا من آخرهم، ثم جاء بلال يُقيم، فقال: "إنَّ أخَا صُدَاءٍ أذَّنَ، ومَنْ أَذَّنَ، فَهُوَ يُقِيمُ" فأقمتُ، ثم تقدَّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلَّى بنا، وكنتُ سألتُه قَبْلُ أَن يؤمِّرَنى على قومى، ويكتُبَ لى بذلك كتاباً، ففعل، فلما فرغ مِن
صلاته، قام رجل يتشكى من عامله، فقال: يا رسول الله؛ إنه أخذنا بذُحُولٍ كانت بيننا وبينه فى الجاهلية، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا خَيْرَ فى الإمَارَةِ لِرَجُلٍ مُسلِم" ، ثم قام آخر، فقال: يا رسولَ الله؛ أعْطنى مِن الصِّدَقة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللهَ لم يَكِلْ قِسْمَتَهَا إلى مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، ولا نَبِىٍّ مُرْسَل، حتَّى جَزَّأََهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فإنْ كُنْتَ جُزْءاً منها أَعْطَيْتُكَ، وإنْ كُنْتَ غَنِيّاً عنها، فإنَّما هِىَ صُداعٌ فى الرَّأْسِ، ودَاءٌ فى البَطْن "، فقُلتُ فى نفسى: هاتان خصلتان حين سألت الإمارة، وأنا رجل مسلم، وسألتُه مِن الصدقة، وأنا غنى عنها، فقلتُ: يا رسولَ الله؛ هذان كتاباك فاقبلْهُما، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلِمَ"؟ فقلت: إنى سمعتك تقولُ: "لا خَيْرَ فى الإمَارَةِ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ" ، وأنا مسلم، وسمعتُك تقول: "مَنْ سَأَلَ مِنَ الصَّدَقةِ، وَهُوَ غَنِىٌ عنها، فإنَّما هِىَ صُداعٌ فى الرَّأسِ، ودَاءٌ فى البَطْنِ" وأنا غَنِىٌ، فقالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا إنَّ الَّذِى قلتُ كَمَا قُلتُ"، فقبلهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال لى: "دُلَّنى على رَجُلٍ مِنْ قَوْمِكَ أَسْتَعْمِلُه"، فدللتُه على رجل منهم، فاستعملَه، قلتُ: يا رسول الله؛ إنَّ لنا بئراً إذا كان الشتاءُ، كفانا ماؤها، وإذا كان الصيفُ، قَلَّ علينا، فتفرقنا على المياه، والإسلامُ اليومَ فينا قليل، ونحن نخاف، فادعُ الله عَزَّ وجَلَّ لنا فى بئرنا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ناوِلنى سَبْعَ حَصَيَاتٍ"، فناولتُه، فَعَرَكَهُنَّ بيده، ثم دفعهن إلىَّ وقال: "إذا انتهيتَ إليها، فألقِ فيها حصاةً حصاةً، وسمِّ الله" قال: ففعلت، فما أدركنا لهَا قعراً حتَّى الساعة.
فصل: فى فقه هذه القصة
ففيها: استحبابُ عقد الألوية والرايات للجيش، واستحبابُ كونِ اللِّواء أبيض، وجواز كونِ الراية سوداء مِن غير كراهة.
وفيها: قبولُ خبرِ الواحد، فإن النَّبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردَّ الجيش من أجل خبر الصُّدَائى وحده.
وفيها: جوازُ سير اللَّيل كُلِّه فى السفر إلى الأذان، فإنَّ قوله: "اعتشى" أى: سار عشية، ولا يُقال لما بعد نصف الليل.
وفيها: جوازُ الأذان على الراحلة.
وفيها: طلبُ الإمام الماءَ من أحد رعيته للوضوء، وليس ذلك من السؤال.
وفيها: أنه لا يتيممُ حتى يَطلُبَ الماء فيُعْوِزه.
وفيها: المعجزةُ الظاهرة بفورانِ الماء من بين أصابعه، لما وضعها فيه، أمدَّه الله به وكثَّره، حتى جعل يفورُ مِن خلال الأصابع الكريمة، والجهال تَظُنُّ أنه كان يشق الأصابع، ويخرج من خلال اللَّحم والدم، وليس كذلك، وإنما بوضعه أصابعه فيه حلَّت فيه البركة من الله والمدد، فجعل يفور حتى خرج من بين الأصابع، وقد جرى له هذا مراراً عديدة بمشهد أصحابه.
وفيها: أن السُّنة أن يتولَّى الإقامة مَن تولَّى الأذان، ويجوزُ أن يُؤذِّن واحد، ويُقيم آخر، كما ثبت فى قصة عبد الله بن زيد أنه لما رأى الأذان، وأخبر به النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ألْقِهِ على بلالٍ"، فألقاه عليه، ثم أراد بلال
أن يُقيم، فقال عبد الله بن زيد: يا رسولَ الله؛ أنا رأيتُ، أريد أن أقيم، قال: "فأقم"، فأقام هو، وأذَّن بلال، ذكره الإمام أحمد رحمه الله.
وفيها: جوازُ تأمير الإمام وتوليته لمن سأله ذلك إذا رآه كفئاً، ولا يكون سؤاله مانعاً من توليته، ولا يُناقِض هذا قوله فى الحديث الآخر: "إنَّا لَنْ نُوَلِّىَ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أرَادَهُ"، فإن الصُّدائى إنما سأله أن يؤمِّره على قومه خاصة، وكان مطاعاً فيهم، محبَّباً إليهم، وكان مقصودُه إصلاحَهم، ودُعاءهم إلى الإسلام، فرأى النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن مصلحة قومِه فى توليته، فأجابه إليها، ورأى أن ذلك السائل إنما سأله الولاية لحظِّ نفسه ومصلحته هو، فمنعه منها، فولَّى للمصلحة، ومنع للمصلحة، فكانت توليتُه للهِ، ومنعه لله.
وفيها: جواز شِكاية العمال الظَلَمة، ورفعهم إلى الإمام، والقدح فيهم بظلمهم، وأنَّ تركَ الولاية خيرٌ للمسلم مِن الدخول فيها، وأنَّ الرجل إذا ذكر أنه من أهل الصدقة، أُعطَى منها بقوله ما لم يظهر منه خلافُه.
ومنها: أنَّ الشخصَ الواحد يجوز أن يكون وحده صنفاً من الأصناف لقوله: " إنَّ الله جَزَّأَها ثَمانِيَة أَجْزاءٍ، فَإنْ كُنتَ جُزْءاً منها أعْطَيْتُكَ".
ومنها: جوازُ إقالةِ الإمامِ لولاية مَن ولاَّهُ إذا سأله ذلك.
ومنها: استشارةُ الإمام لذى الرأى مِن أصحابه فيمن يُولِّيه.
ومنها: جوازُ الوضوء بالماء المبارَك، وأن بركته لا تُوجب كراهةَ الوضوء منه، وعلى هذا فلا يُكره الوضوء مِن ماء زمزم، ولا مِن الماء الذى يجرى على ظهر الكعبة.. والله أعلم.
فصل: فى قدوم وفد غسَّان
وقدموا فى شهر رمضانَ سنةَ عشر، وهم ثلاثةُ نَفَر، فأسلمُوا وقالُوا: لا ندرى أيتبعُنا قومُنا أم لا؟ وهم يُحبُّون بقاءَ ملكهم، وقربَ قيصر، فأجازهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجوائز، وانصرفوا راجعين، فقدِمُوا على قومهم، فلم يستجيبُوا لهم، وكتمُوا إسلامهم حتى مات منهم رجلان على الإسلام، وأدرك الثالث منهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه عام اليرموك، فلقى أبا عبيدة، فأخبره بإسلامه، فكان يُكرمه.
فصل: فى قدوم وفد سَلامان
وقَدِمَ عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد سَلامان سبعة نَفَر، فيهم حبيبُ ابن عمرو،
فأسلموا. قال حبيب: فقلت: أى رسول الله؛ ما أفضلُ الأعمالِ؟ قال: "الصَّلاةُ فى وَقْتِهَا". ثم ذكر حديثاً طويلاً، وصلُّوا معه يومئذ الظهر والعصر، قال: فكانت صلاةُ العصر أخفَّ مِن القيام فى الظهر، ثم شَكَوْا إليه جَدْبَ بِلادهم، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده: "اللهُمَّ اسْقِهِمُ الغَيْثَ فى دَارِهم"، فقلتُ: يا رسول الله؛ ارفع يديك، فإنَّه أكثرُ وأطيبُ، فتبسَّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورفع يديه حتى رأيتُ بياض إبطيه، ثم قام وقُمنا عنه، فأقمنا ثلاثاً، وضِيافتُه تجرى علينا، ثم ودعناه، وأمر لنا بجوائز، فأعطينا خمسَ أواقٍ لكل رجل منا، واعتذر إلينا بلال، وقال: ليس عندنا اليوم مال، فقلنا: ما أكثرَ هذا وأطيَبه، ثم رحلنا إلى بلادنا، فوجدناها قد مُطِرَت فى اليومِ الَّذى دعا فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تلك الساعة.
قال الواقدى: وكان مقدمُهم فى شوَّال سنة عشر.
فصل: فى قدوم وفد بنى عَبْس
وقَدِمَ عليه وفدُ بنى عَبْس، فقالوا: يا رسولَ اللهِ؛ قَدِمَ علينا قُرَّاؤنا، فأخبرونا أنه لا إسلامَ لمن لا هِجرة له، ولنا أموالٌ ومواشٍ، وهى معايشنا، فإن كان لا إسلامَ لمن لا هِجرة له، فلا خيرَ فى أموالنا، بعناها وهاجَرْنا من آخرنا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اتَّقُوا اللهَ حَيْثُ كُنْتُم، فَلَن يَلَتِكُمُ اللهُ مِنْ أعْمَالِكُم شَيْئاً" وسألهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن خالد بن سنان، هل له عَقِبٌ؟ فأخبروه أنه لا عَقِبَ له، كانت له ابنة فانقرضت، وأنشأ رسول
---------------------يتبع ان شاء الله بجزء 4//3  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق