الرحيق
المختوم للمباراكفوري ج8: غزوة الأحزاب
خرج عشرون رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش، وكانت قريش قد أخلفت موعدها في الخروج إلى بدر، فرأت في ذلك إنقاذا لسمعتها والبر بكلمتها. تابع كتاب الرحيق المختوم – صفي الدين المباراكفوري غزوة الأحزاب
عاد الأمن والسلام، وهدأت الجزيرة العربية بعد الحروب
والبعوث التي استغرقت أكثر من سنة كاملة، إلا أن اليهود ـ الذين كانوا قد ذاقوا
ألواناً من الذلة والهوان نتيجة غدرهم وخيانتهم ومؤامراتهم ودسائسهم ـ لم يفيقوا
من غيهم، ولم يستكينوا، ولم يتعظوا بما أصابهم من نتيجة الغدر والتآمر. فهم
بعد نفيهم إلى خيبر ظلوا ينتظرون ما يحل بالمسلمين من خلال المناوشات التي كانت قائمة
بين المسلمين والوثنيين، ولما تحول مجري الأيام لصالح المسلمين، وتمخضت الليإلى
والأيام عن بسط نفوذهم، وتوطد سلطانهم ـ تحرق هؤلاء اليهود أي تحرق.
وشرعوا في التآمر من جديد على المسلمين، وأخذوا يعدون العدة، لتصويب ضربة إلى المسلمين تكون قاتلة لا حياة بعدها. ولما لم يكونوا يجدون في أنفسهم جرأة على قتال المسلمين مباشرة، خططوا لهذا الغرض خطة رهيبة. خرج عشرون رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش، وكانت قريش قد أخلفت موعدها في الخروج إلى بدر، فرأت في ذلك إنقاذا لسمعتها والبر بكلمتها. ثم خرج هذا الوفد إلى غَطَفَان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشاً فاستجابوا لذلك، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك فاستجاب له من استجاب، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. وعلى إثر ذلك خرجت من الجنوب قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة ـ وقائدهم أبو سفيان ـ في أربعة آلاف، ووافاهم بنو سليم بمَرِّ الظَّهْرَان، وخرجت من الشرق قبائل غطفان: بنو فَزَارة، يقودهم عُيينَة بن حِصْن، وبنو مُرَّة، يقودهم الحارث بن عوف، وبنو أشجع، يقودهم مِسْعَر بن رُحَيلَةِ، كما خرجت بنو أسد وغيرها. واتجهت هذه الأحزاب وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه. وبعد أيام تجمع حول المدينة جيش عَرَمْرَم يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل، جيش ربما يزيد عدده على جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ. ولو بلغت هذه الأحزاب والمحزبة والجنود المجندة إلى أسوار المدينة بغتة لكانت أعظم خطراً على كيان المسلمين مما يقاس، وربما تبلغ إلى استئصال الشأفة وإبادة الخضراء، ولكن قيادة المدينة كانت قيادة متيقظة، لم تزل واضعة أناملها على العروق النابضة، تتجسس الظروف، وتقدر ما يتمخض عن مجراها، فلم تكد تتحرك هذه الجيوش عن مواضعها حتى نقلت استخبارات المدينة إلى قيادتها فيها بهذا الزحف الخطير. وسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عقد مجلس استشاري أعلي، تناول فيه موضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة، وبعد مناقشات جرت بين القادة وأهل الشوري اتفقوا على قرار قدمه الصحابي النبيل سلمان الفارسي ضي الله عنه. قال سلمان: يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خَنْدَقْنَا علينا. وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك. وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تنفيذ هذه الحظة، فوكل إلى كل عشرة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعاً، وقام المسلمون بجد ونشاط يحفرون الخندق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحثهم ويساهمهم في عملهم هذا. ففي البخاري عن سهل بن سعد، قال: كنا مع رسول الله في الخندق، وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا عَيشَ إلا عيشُ الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار). وعن أنس: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرين والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأي ما بهم من النصب والجوع قال: اللهم إن العيش عيش الآخرة ** فاغفـر للأنصـار والمهـاجرة فقالوا مجيبين له: نحـن الذيـن بايعـوا محمـداً ** على الجهـاد ما بقيـنا أبداً وفيه عن البراء بن عازب قال: رأيته صلى الله عليه وسلم ينقل من تراب الخندق حتى واري عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل من التراب ويقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ** ولا تصـدقنـا ولا صلينــا فأنزلن سكينـة علينـا ** وثبت الأقـدام إن لاقينــا إن الألى رغبوا علينـا ** وإن أرادوا فتـنـة أبينـــا قال: ثم يمد بها صوته بآخرها، وفي رواية: إن الألى قـد بغـوا علينـا ** وإن أرادوا فـتنـة أبينـا كان المسلمون يعملون بهذا النشاط وهم يقاسون من شدة الجوع ما يفتت الأكباد، قال أنس: كان أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير، فيصنع لهم بإهَالَةٍ سنخة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح. وقال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين. وبهذه المناسبة وقعت أثناء حفر الخندق آيات من أعلام النبوة، رأي جابر بن عبد الله في النبي صلى الله عليه وسلم خمصاً شديدًا فذبح بهيمة، وطحنت امرأته صاعاً من شعير، ثم التمس من رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً أن يأتي في نفر من أصحابه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بجميع أهل الخندق، وهم ألف، فأكلوا من ذلك الطعام وشبعوا، وبقيت بُرْمَة اللحم تغط به كما هي، وبقي العجين يخبز كما هو. وجاءت أخت النعمان بن بشير بحَفْنَة من تمر إلى الخندق ليتغدي به أبوه وخاله، فمرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب منها التمر، وبدده فوق ثوب، ثم دعا أهل الخندق، فجعلوا يأكلون منه وجعل التمر يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه يسقط من أطراف الثواب. وأعظم من هذين ما رواه البخاري عن جابرقال: إنا يوم خندق نحفر، فعرضت كُدْية شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال: (أنا نازل)، ثم قام وبطنه معصوب بحجر ـ ولبثنا ثلاثة لا نذوق ذواقاً ـ فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المِعْوَل، فضرب فعاد كثيباً أهْيل أو أهْيم ، أي صار رملاً لا يتماسك. وقال البراء: لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءة وأخذ المعول فقال: (بسم الله)، ثم ضرب ضربة، وقال: (الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة)، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: (الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن)، ثم ضرب الثالثة، فقال: (بسم الله)، فقطع بقية الحجر، فقال: (الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني). وروي ابن إسحاق مثل ذلك عن سلمان الفارسي رضي الله عنه. ولما كانت المدينة تحيط بها الحرات والجبال وبساتين من النخيل من كل جانب سوي الشمال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن زحف مثل هذا الجيش الكبير، ومهاجمته المدينة لا يمكن إلا من جهة الشمال، اتخذ الخندق في هذا الجانب. وواصل المسلمون عملهم في حفره، فكانوا يحفرونه طول النهار، ويرجعون إلى أهليهم في المساء، حتى تكامل الخندق حسب الخطة المنشودة، قبل أن يصل الجيش الوثني العرمرم إلى أسوار المدينة. وأقبلت قريش في أربعة آلاف، حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رُومَة بين الجُرْف وزَغَابَة، وأقبلت غَطَفَان ومن تبعهم من أهل نجد في ستة آلاف حتى نزلوا بذَنَبِ نَقْمَي إلى جانب أحد. {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]. وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذا الجيش {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}[ الأحزاب: 12]. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سَلْع فتحصنوا به، والخندق بينهم وبين الكفار.وكان شعارهم: [حم لا ينصرون]، واستحلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة. ولما أراد المشركون مهاجمة المسلمين واقتحام المدينة، وجدوا خندقاً عريضاً يحول بينهم وبينها، فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين، بينما لم يكونوا مستعدين له حين خرجوا من ديارهم، إذ كانت هذه الخطة ـ كما قالوا ـ مكيدة ما عرفتها العرب، فلم يكونوا أدخلوها في حسابهم رأساً. وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضاباً، يتحسسون نقطة ضعيفة ؛ لينحدروا منها، وأخذ المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين، يرشقونهم بالنبل، حتى لا يجترئوا على الاقتراب منه، ولا يستطيعوا أن يقتحموه، أو يهيلوا عليه التراب، ليبنوا به طريقاً يمكنهم من العبور. وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الخندق من غير جدوي في ترقب نتائج الحصار، فإن ذلك لم يكن من شيمهم، فخرجت منها جماعة فيها عمرو بن عبد وُدّ وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيرهم، فتيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فاقتحموه، وجالت بهم خيلهم في السَّبْخة بين الخندق وسَلْع، وخرج على بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، ودعا عمرو إلى المبارزة، فانتدب له على بن أبي طالب، وقال كلمة حمي لأجلها ـ وكان من شجعان المشركين وأبطالهم ـ فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي، فتجاولا وتصاولا حتى قتله علي رضي الله عنه، وانهزم الباقون حتى اقتحموا الخندق هاربين، وقد بلغ بهم الرعب إلى أن ترك عكرمة رمحه وهو منهزم عن عمرو. وقد حاول المشركون في بعض الأيام محاولة بليغة لاقتحام الخندق، أو لبناء الطرق فيها، ولكن المسلمين كافحوا مكافحة مجيدة، ورشقوهم بالنبل، وناضلوهم أشد النضال حتى فشل المشركون في محاولتهم. ولأجل الاشتغال بمثل هذه المكافحة الشديدة فات بعض الصلوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ففي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق، فجعل يسب كفار قريش. فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا والله ما صليتها)، فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بُطْحَان، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلي بعدها المغرب. وقد استاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لفوات هذه الصلاة حتى دعا على المشركين، ففي البخاري عن على عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الخندق: (ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً، كما شغلونا عن الصلاة الوسطي حتى غابت الشمس). وفي مسند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعاً. قال النووي: وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أياماً فكان هذا في بعض الأيام، وهذا في بعضها. انتهي. ومن هنا يؤخذ أن محاولة العبور من المشركين، والمكافحة المتواصلة من المسلمين، دامت أياماً، إلا أن الخندق لما كان حائلاً بين الجيشين لم يجر بينهما قتال مباشر أو حرب دامية، بل اقتصروا على المراماة والمناضلة. وفي هذه المراماة قتل رجال من الجيشين، يعدون على الأصابع: ستة من المسلمين، وعشرة من المشركين، بينما كان قتل واحد أو اثنين منهم بالسيف. وفي هذه المراماة رمي سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم فقطع منه الأكْحَل، رماه رجل من قريش يقال له: حَبَّان بن العَرِقَة، فدعا سعد: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلى أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها. وقال في آخر دعائه: ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة المعركة كانت أفاعي الدس والتآمر تتقلب في جحورها، تريد إيصال السم داخل أجسادهم: انطلق كبير مجرمي بني النضير حيي بن أخطب إلى ديار بني قريظة فأتي كعب بن أسد القرظي ـ سيد بني قريظة وصاحب عقدهم وعهدهم، وكان قد عاقد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ينصره إذا أصابته حرب، كما تقدم ـ فضرب عليه حيي الباب فأغلقه كعب دونه، فما زال يكلمه حتى فتح له بابه، فقال حيي: إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر وببحر طَامٍ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال من رُومَة، وبغطفان على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بذَنَب نَقْمَي إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه. فقال له كعب: جئتني والله بذُلِّ الدهر وبجَهَامٍ قد هَرَاق ماؤه، فهو يرْعِد ويبْرِق، ليس فيه شيء. ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل حيي بكعب يفْتِلُه في الذِّرْوَة والغَارِب، حتى سمح له على أن أعطاه عهداً من الله وميثاقاً: لئن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك، حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان بينه وبين المسلمين، ودخل مع المشركين في المحاربة ضد المسلمين. وفعلاً قامت يهود بني قريظة بعمليات الحرب. قال ابن إسحاق: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت، وكان حسان فيه مع النساء والصبيان، قالت صفية: فمر بنا رجل من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في غور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إن أتانا آت، قالت: فقلت: يا حسان، إن هذا اليهودي كما تري يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا مَنْ وراءنا مِنْ يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانزل إليه فاقتله. قال: والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت: فاحتجزت ثم أخذت عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصن وقلت: يا حسان، انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سبله إلا أنه رجل، قال: ما لي بسلبه من حاجة. وقد كان لهذا الفعل المجيد من عمة الرسول صلى الله عليه وسلم أثر عميق في حفظ ذراري المسلمين ونسائهم، ويبدو أن اليهود ظنوا أن هذه الآطام والحصون في منعة من الجيش الإسلامي ـ مع أنها كانت خالية عنهم تماماً ـ فلم يجترئوا مرة ثانية للقيام بمثل هذا العمل، إلا أنهم أخذوا يمدون الغزاة الوثنيين بالمؤن، كدليل عملي على انضمامهم إليهم ضد المسلمين، حتى أخذ المسلمون من مؤنهم عشرين جملاً. وانتهي الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين فبادر إلى تحقيقه، حتى يستجلي موقف قريظة، فيواجهه بما يجب من الوجهة العسكرية، وبعث لتحقيق الخبر السعدين؛ سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة وخَوَّات بن جبير، وقال: (انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تَفُتُّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس). فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون، فقد جاهروهم بالسب والعداوة، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالوا: من رسول الله ؟ لا عهد بيننا وبين محمد، ولا عقد. فانصرفوا عنهم، فلما أقبلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لحنوا له، وقالوا: عَضَل وقَارَة ؛ أي إنهم على غدر كغدر عضل وقارة بأصحاب الرَّجِيع. وعلى رغم محاولتهم إخفاء الحقيقة تفطن الناس لجلية الأمر، فتجسد أمامهم خطر رهيب. وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون، فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ، وصاروا كما قال الله تعالي: {وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[ الأحزاب:10، 11] ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسري وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. وحتى قال بعض آخر في ملأ من رجال قومه: إن بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا أن نخرج، فنرجع إلى دارنا فإنها خارج المدينة. وحتى همت بنو سلمة بالفشل، وفي هؤلاء أنزل الله تعالي: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 12، 13]. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقنع بثوبه حين أتاه غَدْر قريظة، فاضطجع ومكث طويلاً حتى اشتد على الناس البلاء، ثم نهض مبشراً يقول: (الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره)، ثم أخذ يخطط لمجابهة الظرف الراهن، وكجزء من هذه الخطة كان يبعث الحرس إلى المدينة؛ لئلا يؤتي الذراري والنساء على غرة، ولكن كان لابد من إقدام حاسم، يفضي إلى تخاذل الأحزاب، وتحقيـقاً لهــذا الهـدف أراد أن يصالـح عُيينَة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة، حتى ينصرفا بقومهما، ويخلو المسلمون لإلحاق الهزيمة الساحقة العاجلة بقريش التي اختبروا مدي قوتها وبأسها مراراً، وجرت المراودة على ذلك، فاستشار السعدين في ذلك، فقالا: يا رسول الله، إن كان الله أمرك بهذا فسمعاً وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرًي أو بيعاً، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ؟ والله لا نعطيهم إلا السيف، فَصَوَّبَ رأيهما وقال: (إنما هو شيء أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة). ثم إن الله عز وجل ـ وله الحمد ـ صنع أمراً من عنده خذل به العدو وهزم جموعهم، وفَلَّ حدهم، فكان مما هيأ من ذلك أن رجلاً من غطفان يقال له: نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي رضي الله عنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنت رجل واحد، فَخذِّلْ عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة)، فذهب من فوره إلى بني قريظة ـ وكان عشيراً لهم في الجاهلية ـ فدخل عليهم وقال: قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت. قال: فإن قريشاً ليسوا مثلكم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمداً فانتقم منكم، قالوا: فما العمل يا نعيم ؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي. ثم مضي نعيم على وجهه إلى قريش وقال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم؟ قالوا: نعم، قال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان، فقال لهم مثل ذلك. فلما كانت ليلة السبت من شوال ـ سنة 5هـ ـ بعثوا إلى يهود: أنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكُرَاع والخف ، فانهضوا بنا حتى نناجز محمداً، فأرسل إليهم اليهود أن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن، فلما جاءتهم رسلهم بذلك قالت قريش وغطفان: صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى يهود إنا والله لا نرسل إليكم أحداً، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً، فقالت قريظة: صدقكم والله نعيم. فتخاذل الفريقان، ودبت الفرقة بين صفوفهم، وخارت عزائمهم. وكان المسلمون يدعون الله تعإلى: (اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا)، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فقال: (اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم). وقد سمع الله دعاء رسوله والمسلمين، فبعد أن دبت الفرقة في صفوف المشركين وسري بينهم التخاذل أرسل الله عليهم جنداً من الريح فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قِدْرًا إلا كفأتها، ولا طُنُبًا إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار، وأرسل جنداً من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف. وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة الباردة القارسة حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحالة، وقد تهيأوا للرحيل، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره برحيل القوم، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رد الله عدوه بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفاه الله قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فرجع إلى المدينة. وكانت غزوة الخندق سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين، وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين شهراً أو نحو شهر. ويبدو بعد الجمع بين المصادر أن بداية فرض الحصار كانت في شوال ونهايته في ذي القعدة، وعند ابن سعد أن انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق كان يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة. إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر، بل كانت معركة أعصاب، لم يجر فيها قتال مرير، إلا أنها كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام، تمخضت عن تخاذل المشركين، وأفادت أن أية قوة من قوات العرب لا تستطيع استئصال القوة الصغيرة التي تنمو في المدينة ؛ لأن العرب لم تكن تستطيع أن تأتي بجمع أقوي مما أتت به في الأحزاب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجلي الله الأحزاب: (الآن نغزوهم، ولا يغزونا، نحن نسير إليهم). غزوة بني قريظة غزوة بني قريظة مقتل سَلاَّم بن أبي الحُقَيْق سرية محمد بن مسلمة غزوة بني لَحْيَان متابعة البعوث والسرايا غزوة بني قريظة وفي اليوم الذي رجع فيه رسول الله إلى المدينة، جاءه جبريل عند الظهر، وهو يغتسل في بيت أم سلمة، فقال: أو قد وضعت السلاح؟ فإن الملائكة لم تضع أسلحتهم، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، فانهض بمن معك إلى بني قريظة، فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم، وأقذف في قلوبهم الرعب، فسار جبريل في موكبه من الملائكة. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً فأذن في الناس: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصَلِّينَّ العصر إلا ببني قريظة، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وأعطي الراية على بن أبي طالب، وقدّمه إلى بني قريظة، فسار على حتى إذا دنا من حصونهم سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في موكبه من المهاجرين والأنصار، حتى نزل على بئر من آبار قريظة يقال لها: بئر أنَّا. وبادر المسلمون إلى امتثال أمره، ونهضوا من فورهم، وتحركوا نحو قريظة، وأدركتهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصليها إلا في بني قريظة كما أمرنا، حتى إن رجالاً منهم صلوا العصر بعد العشاء الآخرة، وقال بعضهم: لم يرد منا ذلك، وإنما أراد سرعة الخروج، فصلوها في الطريق، فلم يعنف واحدة من الطائفتين. هكذا تحرك الجيش الإسلامي نحو بني قريظة أرسالاً حتى تلاحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهم ثلاثة آلاف، والخيل ثلاثون فرساً، فنازلوا حصون بني قريظة، وفرضوا عليهم الحصار. ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال: إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد صلى الله عليه وسلم في دينه، فيأمنوا على دمائهم وأموالهم وأبنائهم ونسائهم ـ وقد قال لهم: والله، لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم ـ وإما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم بأيديهم، ويخرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالسيوف مُصْلِِتِين، يناجزونه حتى يظفروا بهم، أو يقتلوا عن آخرهم، وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويكبسوهم يوم السبت ؛ لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه، فأبوا أن يجيبوه إلى واحدة من هذه الخصال الثلاث، وحينئذ قال سيدهم كعب بن أسد ـ في انزعاج وغضب: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازماً. ولم يبق لقريظة بعد رد هذه الخصال الثلاث إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم أرادوا أن يتصلوا ببعض حلفائهم من المسلمين، لعلهم يتعرفون ماذا سيحل بهم إذا نزلوا على حكمه، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرسل إلينا أبا لُبَابة نستشيره، وكان حليفاً لهم، وكانت أمواله وولده في منطقتهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجَهَشَ النساء والصبيان يبكون في وجهه، فَرَقَّ لهم، وقالوا: يا أبا لبابة، أتري أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم ؛ وأشار بيده إلى حلقه، يقول: إنه الذبح، ثم علم من فوره أنه خان الله ورسوله فمضي على وجهه، ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتي المسجد النبوي بالمدينة، فربط نفسه بسارية المسجد، وحلف ألا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبداً. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره ـ وكان قد استبطأه ـ قال: (أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه). وبرغم ما أشار إليه أبو لبابة قررت قريظة النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كان باستطاعة اليهود أن يتحملوا الحصار الطويل ؛ لتوفر المواد الغذائية والمياه والآبار ومناعة الحصون؛ ولأن المسلمين كانوا يقاسون البرد القارس والجوع الشديد وهم في العراء، مع شدة التعب الذي اعتراهم ؛ لمواصلة الأعمال الحربية من قبل بداية معركة الأحزاب، إلا أن حرب قريظة كانت حرب أعصاب، فقد قذف الله في قلوبهم الرعب، وأخذت معنوياتهم تنهار، وبلغ هذا الانهيار إلى نهايته أن تقدم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، وصاح علي: يا كتيبة الإيمان، والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم. وحينئذ بادروا إلى النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتقال الرجال، فوضعت القيود في أيديهم تحت إشراف محمد بن مسلمة الأنصاري، وجعلت النساء والذراري بمعزل عن الرجال في ناحية، وقامت الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت، وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا، فأحسن فيهم، فقال: (ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟) قالوا: بلي. قال: (فذاك إلى سعد بن معاذ). قالوا: قد رضينا. فأرسل إلى سعد بن معاذ، وكان في المدينة لم يخرج معهم للجرح الذي كان قد أصاب أكْحُلَه في معركة الأحزاب. فأُركب حماراً، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يقولون، وهم كَنَفَيْهِ: يا سعد، أجمل في مواليك، فأحسن فيهم، فإن رسول الله قد حكمك لتحسن فيهم، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئاً، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم، فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنعي إليهم القوم. ولما انتهى سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة: (قوموا إلى سيدكم)، فلما أنزلوه قالوا: يا سعد، إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك. قال: وحكمي نافذ عليهم؟ قالوا: نعم. قال: وعلى المسلمين؟ قالوا: نعم، قال: وعلى من هاهنا؟ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له وتعظيمًا. قال: (نعم، وعلي). قال: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتسبي الذرية، وتقسم الأموال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات). وكان حكم سعد في غاية العدل والإنصاف، فإن بني قريظة، بالإضافة إلى ما ارتكبوا من الغدر الشنيع، كانوا قد جمعوا لإبادة المسلمين ألفاً وخمسمائة سيف، وألفين من الرماح، وثلاثمائة درع، وخمسمائة ترس، وحَجَفَة ، حصل عليها المسلمون بعد فتح ديارهم. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبست بنو قريظة في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار، وحفرت لهم خنادق في سوق المدينة، ثم أمر بهم، فجعل يذهب بهم إلى الخنادق أرسالاً أرسالاً، وتضرب في تلك الخنادق أعناقهم. فقال من كان بعد في الحبس لرئيسهم كعب بن أسد: ما تراه يصنع بنا؟ فقال: أفي كل موطن لا تعقلون؟ أما ترون الداعي لا ينزع؟ والذاهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل ـ وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة، فضربت أعناقهم. وهكذا تم استئصال أفاعي الغدر والخيانة، الذين كانوا قد نقضوا الميثاق المؤكد، وعاونوا الأحزاب على إبادة المسلمين في أحرج ساعة كانوا يمرون بها في حياتهم، وكانوا قد صاروا بعملهم هذا من أكابر مجرمي الحروب الذين يستحقون المحاكمة والإعدام. وقتل مع هؤلاء شيطان بني النضير، وأحد أكابر مجرمي معركة الأحزاب حيي بن أخطب والد صفية أم المؤمنين رضي الله عنها كان قد دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان ؛ وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه حينما جاء يثيره على الغدر والخيانة أيام غزوة الأحزاب، فلما أتي به ـ وعليه حُلَّة قد شقها من كل ناحية بقدر أنملة لئلا يُسْلَبَها ـ مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله ما لمت نفسي في معاداتك، ولكن من يُغالب الله يُغْلَب. ثم قال: أيها الناس، لا بأس بأمر الله، كتاب وقَدَر ومَلْحَمَة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس، فضربت عنقه. وقتل من نسائهم امرأة واحدة كانت قد طرحت الرحى على خَلاَّد بن سُوَيْد فقتلته، فقتلت لأجل ذلك. وكان قد أمر رسول الله بقتل من أنْبَتَ، وترك من لم ينبت، فكان ممن لم ينبت عطية القُرَظِي، فترك حياً فأسلم، وله صحبة. واستوهب ثابت بن قيس، الزبير بن باطا وأهله وماله ـ وكانت للزبير يد عند ثابت ـ فوهبهم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ثابت بن قيس: قد وهبك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ، ووهب لي مالك وأهلك فهم لك. فقال الزبير بعد أن علم بمقتل قومه: سألتك بيدي عندك يا ثابت إلا ألحقتني بالأحبة، فضرب عنقه، وألحقه بالأحبة من اليهود، واستحيا ثابت من ولد الزبير بن باطا عبد الرحمن بن الزبير، فأسلم وله صحبة. واستوهبت أم المنذر سلمي بنت قيس النجارية رفاعة بن سموأل القرظي، فوهبه لها فاستحيته، فأسلم وله صحبة. وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول، فحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم. وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدي ـ وكان رجلاً لم يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فرآه محمد بن مسلمة قائد الحرس النبوي، فخلي سبيله حين عرفه، فلم يعلم أين ذهب. وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة بعد أن أخرج منها الخمس، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم؛ سهمان للفرس وسهم للفارس، وأسهم للراجل سهماً واحداً، وبعث من السبايا إلى نجد تحت إشراف سعد بن زيد الأنصاري فابتاع بها خيلاً وسلاحاً. واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه من نسائهم رَيْحَانة بنت عمرو بن خُنَافة، فكانت عنده حتى توفي عنها وهي في ملكه، هذا ما قاله ابن إسحاق.وقــال الكلبي: إنه صلى الله عليه وسلم أعتقها، وتزوجها سنة 6 هـ، وماتت مرجعـه مـن حجة الـوداع، فدفنها بالبقيـع. ولما تم أمر قريظة أجيبت دعوة العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه ـ التي قدمنا ذكرها في غزوة الأحزاب ـ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلما تم أمر قريظة انتقضت جراحته. قالت عائشة: فانفجرت من لَبَّتِهِ فلم يَرُعْهُمْ ـ وفي المسجد خيمة من بني غفار ـ إلا والدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم، فإذا سعد يغذو جرحه دماً، فمات منها. وفي الصحيحين عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ). وصحح الترمذي من حديث أنس قال: لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة كانت تحمله). قتل في حصار بني قريظة رجل واحد من المسلمين، وهو خلاد بن سُوَيْد الذي طرحت عليه الرحى امرأة من قريظة. ومات في الحصار أبو سِنان بن مِحْصَن أخو عُكَّاشَة. وأما أبو لُبابة، فأقام مرتبطاً بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع، ثم نزلت توبته على رسول الله صلى الله عليه وسلم سَحَرًا وهو في بيت أم سلمة، فقامت على باب حجرتها، وقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك، فثار الناس ليطلقوه، فأبي أن يطلقه أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه. وقعت هــذه الغــزوة فـي ذي القعدة سنـة 5 هـ، ودام الحصار خمساً وعشريـن ليلة. وأنزل الله تعإلى في غزوة الأحزاب وبني قريظة آيات من سورة الأحزاب، ذكر فيها أهم جزئيات الوقعة، وبين حال المؤمنين والمنافقين، ثم تخذيل الأحزاب، ونتائج الغدر من أهل الكتاب. النشاط العسكري بعد هذه الغزوة مقتل سَلاَّم بن أبي الحُقَيْق كان سلام بن أبي الحقيق ـ وكنيته أبو رافع ـ من أكابر مجرمي اليهود الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأعانهم بالمؤن والأموال الكثيرة ، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ المسلمون من أمر قريظة استأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله. وكان قتل كعب بن الأشرف على أيدي رجال من الأوس، فرغبت الخزرج في إحراز فضيلة مثل فضيلتهم، فلذلك أسرعوا إلى هذا الاستئذان. وأذن رسول الله في قتله ونهي عن قتل النساء والصبيان، فخرجت مفرزة قوامها خمسة رجال، كلهم من بني سلمة من الخزرج، قائدهم عبد الله بن عَتِيك. خرجت هذه المفرزة، واتجهت نحو خيبر ؛ إذ كان هناك حصن أبي رافع، فلما دنوا منه، وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم، قال عبد الله بن عتيك لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإني منطلق ومتلطف للبواب، لعلى أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله، إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب. قال عبد الله بن عَتِيك: فدخلت فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على وَدٍّ. قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علإلى له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت على من داخل. قلت: إن القوم لو نَذِروا بي لم يخلصوا إلى حتى أقتله، فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت. قلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش، فما أغنيت شيئاً، وصاح، فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه، فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل، إن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله. ثم وضعت ضَبِيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً، حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي، وأنا أري أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب. فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته؟ فلما صاح الديك قام الناعي على السور، فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع. فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثته فقال: (ابسط رجلك)، فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم أشتكها. هذه رواية البخاري، وعند ابن إسحاق أن جميع النفر دخلوا على أبي رافع واشتركوا في قتله، وأن الذي تحامل عليه بالسيف حتى قتله هو عبد الله بن أنيس، وفيه: أنهم لما قتلوه ليلاً، وانكسرت ساق عبد الله بن عتيك حملوه، وأتوا مَنْهَرًا من عيونهم فدخلوا فيه، وأوقد اليهود النيران واشتدوا في كل وجه، حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم، وأنهم حين رجعوا احتملوا عبد الله بن عتيك حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان مبعث هذه السرية في ذي القعدة أو ذي الحجة سنة 5 هـ. ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحزاب وقريظة أخذ يوجه حملات تأديبية إلى القبائل والأعراب، الذين لم يكونوا يستكينون للأمن والسلام إلا بالقوة القاهرة. سرية محمد بن مسلمة وكانت أول سرية بعد الفراغ من الأحزاب وقريظة، وكان عدد قوات هذه السرية ثلاثين راكباً. تحركت هذه السرية إلى القرطاء بناحية ضَرِيَّة بالبَكَرات من أرض نجد، وبين ضرية والمدينة سبع ليال، تحركت لعشر ليال خلون من المحرم سنة 6 هـ إلى بطن بني بكر بن كلاب. فلما أغارت عليهم هربوا، فاستاق المسلمون نعما وشاء، وقدموا المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعهم ثُمَامَة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، كان قد خرج متنكراً لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم بأمر مسيلمة الكذاب ، فأخذه المسلمون، فلما جاءوا به ربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما ذا عندك يا ثمامة؟) فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تعط منه ماشئت، فتركه، ثم مرّ به مرة أخري ؛ فقال له مثل ذلك، فرد عليه كما رد عليه أولاً ، ثم مر مرة ثالثة فقال ـ بعد ما دار بينهما الكلام السابق: (أطلقوا ثمامة)، فأطلقوه، فذهب إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم جاءه فأسلم، وقال: والله، ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلى من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى، والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إلى من دينك، فقد أصبح دينك أحب الأديان إلى، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم على قريش قالوا: صبأت يا ثمامة، قال: لا والله، ولكني أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت يمامة ريف مكة، فانصرف إلى بلاده، ومنع الحمل إلى مكة، حتى جهدت قريش، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامـة يخلي إليـه حمل الطعـام، ففعـل رسـول الله صلى الله عليه وسلم. غزوة بني لَحْيَان بنو لحيان هم الذين كانوا قد غدروا بعشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرَّجِيع، وتسببوا في إعدامهم، ولكن لما كانت ديارهم متوغلة في الحجاز إلى حدود مكة. والتارات الشديدة قائمة بين المسلمين وقريش والأعراب، لم يكن يري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوغل في البلاد بمقربة من العدو الأكبر، فلما تخاذلت الأحزاب، واستوهنت عزائمهم، واستكانوا للظروف الراهنة إلى حد ما، رأي أن الوقت قد آن لأن يأخذ من بني لحيان ثأر أصحابه المقتولين بالرجيع، فخرج إليهم في ربيع الأول أو جمادي الأولي سنة 6 هـ في مائتين من أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأظهر أنه يريد الشام، ثم أسرع السير حتى انتهي إلى بطن غُرَان ـ واد بين أمَجَ وعُسْفَان ـ حيث كان مصاب أصحابه، فترحم عليهم ودعا لهم، وسمعت به بنو لحيان فهربوا في رءوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يقدروا عليهم، فسار إلى عسفان، فبعث عشرة فوارس إلى كُرَاع الغَمِيم لتسمع به قريش، ثم رجع إلى المدينة. وكانت غيبته عنها أربع عشرة ليلة. متابعة البعوث والسرايا ثم تابع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إرسال البعوث والسرايا، وهاك صورة مصغرة منها: 1 ـ سرية عُكَّاشَة بن مِحْصَن إلى الغَمْر في ربيع الأول أو الآخر سنة 6هـ. خرج عكاشة في أربعين رجلاً إلى الغمْر، ماء لبني أسد، ففر القوم، وأصاب المسلمون مائتي بعير ساقوها إلى المدينة. 2 ـ سرية محمد بن مَسْلَمَة إلى ذي القَصَّة في ربيع الأول أو الآخر سنة 6 هـ. خرج ابن مسلمة في عشرة رجال إلى ذي القصة في ديار بني ثعلبة، فكمن القوم لهم ـ وهم مائة ـ فلما ناموا قتلوهم إلا ابن مسلمة فإنه أفلت منهم جريحاً. 3 ـ سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة في ربيع الآخر سنة 6 هـ، وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على إثر مقتل أصحاب محمد بن مسلمة، فخرج ومعه أربعون رجلاً إلى مصارعهم، فساروا ليلتهم مشاة، ووافوا بني ثعلبة مع الصبح فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هرباً في الجبال، وأصابوا رجلاً واحداً فأسلم، وغنموا نَعَما وشاء. 4 ـ سرية زيد بن حارثة إلى الجَمُوم في ربيع الآخر سنة 6هـ ـ والجموم ماء لبني سليم في مَرِّ الظَّهْرَان ـ خرج إليهم زيد فأصاب امرأة من مُزَيْنَة يقال لها: حليمة، فدلتهم على محلة من بني سليم أصابوا فيها نعما وشاء وأسري، فلما قفل زيد بما أصاب وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزينية نفسها وزوجها. 5 ـ سرية زيد إلى العِيص في جمادي الأولي سنة 6 هـ في سبعين ومائة راكب، وفيها أخذت أموال عير لقريش كان قائدها أبو العاص خَتَن رسول الله صلى الله عليه وسلم.وأفلت أبو العاص، فأتي زينب فاستجار بها، وسألها أن تطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم رد أموال العير عليه ففعلت، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس برد الأموال من غير أن يكرههم، فردوا الكثير والقليل والكبير والصغير حتى رجع أبو العاص إلى مكة، وأدي الودائع إلى أهلها، ثم أسلم وهاجر، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بالنكاح الأول بعد ثلاث سنين ونيف، كما ثبت في الحديث الصحيح ردهــا بالنـكاح الأول ؛ لأن آيــة تحريم المسلمات على الكفار لم تكن نزلت إذ ذاك، وأما ما ورد من الحديث من أنه رد عليه بنكاح جديد، أو رد عليه بعد ست سنين فلا يصح معني، كما أنـــه ليـس بصحـيح سنداً. والعجب ممن يتمسكون بهذا الحديث الضعيف فإنهم يقولون: إن أبا العاص أسلم في أواخر سنة ثمان قبيل الفتح. ثم يناقضون أنفسهم، فيقولون: إن زينب ماتت في أوائل سنة ثمان، وقد بسطنا الكلام شيئاً في تعليقنا على بلوغ المرام. وجنح موسي بن عقبة إلى أن هذا الحادث وقع في سنة 7هـ من قبل أبي بصير وأصحابه، ولكن ذلك لا يطابق الحديث الصحيح ولا الضعيف. 6 ـ سرية زيد أيضاً إلى الطَّرِف أو الطَّرِق في جمادي الآخر سنة 6 هـ. خرج زيد في خمسة عشر رجلاً إلى بني ثعلبة فهربت الأعراب، وخافوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إليهم، فأصاب من نَعَمِهِم عشرين بعيراً، وغاب أربع ليال. 7 ـ سرية زيد أيضاً إلى وادي القري في رجب سنة 6 هـ. خرج زيد في اثني عشر رجلاً إلى وادي القري؛ لاستكشاف حركات العدو إن كانت هناك، فهجم عليهم سكان وادي القري ؛ فقتلوا تسعة، وأفلتت ثلاثة فيهم زيد بن حارثة. 8 ـ سرية الخَبَط ـ تذكر هذه السرية في رجب سنة 8 هـ، ولكن السياق يدل على أنها كانت قبل الحديبية ـ قال جابر: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة راكب، أميرنا أبو عبيدة بن الجراح، نرصد عيراً لقريش، فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط، فسمي جيش الخبط، فنحر رجل ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه، فألقي إلينا البحر دابة يقال لها: العَنْبَر، فأكلنا منه نصف شهر، وادَّهَنَّا منه حتى ثابت منه أجسامنا، وصلحت، وأخذ أبو عبيدة ضلعاً من أضلاعه، فنظر إلى أطول رجل في الجيش وأطول جمل، فحمل عليه، ومر تحته، وتزودنا من لحمة وَشَائِق، فلما قدمنا المدينة، أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك، فقال: (هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمة شيء تطعمونا؟) فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه. وإنما قلنا: إن سياق هذه السرية يدل على أنها كانت قبل الحديبية؛ لأن المسلمين لم يكونوا يتعرضون لعير قريش بعد صلح الحديبية. غزوة بني المُصطلق أو غزوة المريسيع في شعبان سنة 5 أو 6 هـ غزوة بني المُصطلق أو غزوة المريسيع دور المنافقين قبل غزوة بني المصطلق دور المنافقين في غزوة بني المصطلق غزوة بني المُصطلق أو غزوة المريسيع وهذه الغزوة وإن لم تكن طويلة الذيل، عريضة الأطراف من حيث الوجهة العسكريـة، إلا أنها وقعـت فيـها وقـائـع أحدثـت البلبلـة والاضطـراب فـي المجتمـع الإسلامي، وتمخضت عن افتضاح المنافقين، والتشريعات التعزيرية التي أعطت المجتمع الإسلامي صورة خاصة من النبل والكرامة وطهارة النفوس. ونسرد الغزوة أولاً، ثم نذكر تلك الوقائع. كانت هذه الغزوة في شعبان سنة خمس عند عامة أهل المغازي، وسنة ست على قول ابن إسحاق. وسببها أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن رئيس بني المصطلق الحارث بن أبي ضِرَار سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث بُرَيْدَة بن الحصيب الأسلمي لتحقيق الخبر، فأتاهم، ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر. وبعد أن تأكد لديه صلى الله عليه وسلم صحة الخبر ندب الصحابة، وأسرع في الخروج، وكان خروجه لليلتين خلتا من شعبان، وخرج معه جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قبلها، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وقيل: أبا ذر، وقيل: نُمَيْلَة بن عبد الله الليثي، وكان الحارث بن أبي ضرار قد وجه عينًا ؛ ليأتيه بخبر الجيش الإسلامي، فألقي المسلمون عليه القبض وقتلوه. ولما بلغ الحارث بن أبي ضرار ومن معه مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتله عينه، خافوا خوفاً شديداً وتفرق عنهم من كان معهم من العرب، وانتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المُرَيْسِيع ـ بالضم فالفتح مصغراً، اسم لماء من مياههم في ناحية قُدَيْد إلى الساحل ـ فتهيأوا للقتال. وَصَفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وراية المهاجرين مع أبي بكر الصديق، وراية الأنصار مع سعد بن عبادة، فتراموا بالنبل ساعة، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملوا حملة رجل واحد، فكانت النصرة وانهزم المشركون، وقتل من قتل، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء والذراري والنعم والشاء، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد، قتله رجل من الأنصار ظناً منه أنه من العدو. كذا قال أهل المغازي والسير، قال ابن القيم: هو وَهْم، فإنه لم يكن بينهم قتال، وإنما أغار عليهم على الماء فسبي ذراريهم وأموالهم، كما في الصحيح أغار رسول صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وذكر الحديث. انتهي. وكان من جملة السبي: جُوَيْرِيَة بنت الحارث سيد القوم، وقعت في سهم ثابت ابن قيس، فكاتبها، فـأدي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجهـا، فأعـتق المسلـمون بسبـب هـذا التزويـج مـائـة أهـل بيـت مـن بنـي المصطلق قـد أسلمـوا، وقـالـوا: أصهـار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الوقائع التي حدثت في هذه الغزوة، فلأجل أن مبعثها كان هو رأس النفاق عبد الله بن أبي وأصحابه، نري أن نورد أولاً شيئاً من أفعالهم في المجتمع الإسلامي. دور المنافقين قبل غزوة بني المصطلق قدمنا مراراً أن عبد الله بن أبي كان يَحْنَقُ على الإسلام والمسلمين، ولاسيما على رسول الله صلى الله عليه وسلم حَنَقًا شديداً ؛ لأن الأوس والخزرج كانوا قد اتفقوا على سيادته، وكانوا ينظمون له الخَرَزَ ليتوجوه إذ دخل فيهم الإسلام، فصرفهم عن ابن أبي، فكان يري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي استلبه ملكه. وقد ظهر حنقه هذا وتحرقه منذ بداية الهجرة قبل أن يتظاهر بالإسلام، وبعد أن تظاهر به. ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة على حمار ليعود سعد بن عبادة، فمر بمجلس فيه عبد الله بن أبي فخَمَّرَ ابن أبي أنفه، وقال: لا تُغَبِّرُوا علينا. ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المجلس القرآن، قال: اجلس في بيتك، ولا تؤذنا في مجالسنا. وهذا قبل أن يتظاهر بالإسلام، ولما تظاهر به بعد بدر لم يزل إلا عدوًا لله ولرسوله وللمؤمنين، ولم يكن يفكر إلا في تشتيت المجتمع الإسلامي وتوهين كلمة الإسلام. وكان يوإلى أعداءه، وقد تدخل في أمر بني قينقاع كما ذكرنا، وكذلك جاء في غزوة أحد من الشر والغدر والتفريق بين المسلمين، وإثارة الارتباك والفوضي في صفوفهم بما مضي. وكان من شدة مكر هذا المنافق وخداعه بالمؤمنين أنه كان بعد التظاهر بالإسلام، يقوم كل جمعة حين يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم للخطبة، فيقول: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعـوا لــه وأطيعوا، ثم يجلس، فيقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخطب. وكان من وقاحة هذا المنافق أنه قام في يوم الجمعة التي بعد أحد ـ مع ما ارتكبه من الشر والغدر الشنيع ـ قام ليقول ما كان يقوله من قبل، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا له: اجلس أي عدو الله، لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطي رقاب الناس، وهو يقول: والله لكأنما قلت بُجْرًا أن قمت أشدد أمره، فلقيه رجل من الأنصار بباب المسجد... فقال: ويلك، ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي. وكانت له اتصالات ببني النضير يؤامر معهم ضد المسلمين حتى قال لهم: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} [ الحشر: 11]. وكذلك فعل هو وأصحابه في غزوة الأحزاب من إثارة القلق والاضطراب وإلقاء الرعب والدهشة في قلوب المؤمنين ما قصه الله تعالى في سورة الأحزاب: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} إلى قوله: { يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 12: 20]. بيد أن جميع أعداء الإسلام من اليهود والمنافقين والمشركين كانوا يعرفون جيداً أن سبب غلبة الإسلام ليس هو التفوق المادي وكثرة السلاح والجيوش والعدد، وإنما السبب هي القيم والأخلاق والمثل التي يتمتع بها المجتمع الإسلامي وكل من يمت بصلة إلى هذا الدين، وكانوا يعرفون أن منبع هذا الفيض إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو المثل الأعلى ـ إلى حد الإعجاز ـ لهذه القيم، كما عرفوا بعد إدارة دفة الحروب طيلة خمس سنين، أن القضاء على هذا الدين وأهله لا يمكن عن طريق استخدام السلاح، فقرروا أن يشنوا حرباً دعائية واسعة ضد الدين من ناحية الأخلاق والتقاليد، وأن يجعلوا شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم أول هدف لهذه الدعاية الكاذبة الخاطئة. ولما كان المنافقون هم الطابور الخامس في صفوف المسلمين، ولكونهم سكان المدينة، كان يمكن لهم الاتصال بالمسلمين واستفزاز مشاعرهم كل حين. تحمل فريضة الدعاية هؤلاء المنافقون، وعلى رأسهم ابن أبي. وقد ظهرت خطتهم هذه جلية حينما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش، بعد أن طلقها زيد بن حارثة، فقد كان من تقاليد العرب أنهم كانوا يعتبرون المتبني مثل الابن الصلبي، فكانوا يعتقدون حرمة حليلة المتبني على الرجل الذي تبناه، فلما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب وجد المنافقون ثُلْمَتَيْن ـ حسب زعمهم ـ لإثارة المشاغب ضد النبي صلى الله عليه وسلم. الأولى: أن زوجته هذه كانت زوجة خامسة، والقرآن لم يكن أذن في الزواج بأكثر من أربع نسوة، فكيف صح له هذا الزواج؟ الثانية: أن زينب كانت زوجة ابنه ـ مُتَبَنَّاه ـ فالزواج بها من أكبر الكبائر، حسب تقاليد العرب. وأكثروا من الدعاية في هذا السبيل، واختلقوا قصصاً وأساطير، قالوا: إن محمداً رآها بغتة، فتأثر بحسنها وشغفته حباً، وعلقت بقلبه، وعلم بذلك ابنه زيد فخلي سبيلها لمحمد، وقد نشروا هذه الدعاية المختلقة نشراً بقيت آثاره في كتب التفسير والحديث إلى هذا الزمان، وقد أثرت تلك الدعاية أثراً قوياً في صفوف الضعفاء حتى نزل القرآن بالآيات البينات فيها شفاء لما في الصدور، وينبئ عن سعة نشر هذه الدعاية أن الله استفتح سورة الأحزاب بقوله: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًاَ} [الأحزاب: 1]. وهذه إشارات عابرة، وصور مصغرة لما اقترفه المنافقون قبل غزوة بني المصطلق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكابد كل ذلك بالصبر واللين والتلطف، وكان عامة المسلمين يحترزون عن شرهم، أو يتحملونه بالصبر ؛ إذ كانوا قد عرفوهم بافتضاحهم مرة بعد أخري حسب قوله تعالى: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة :126]. دور المنافقين في غزوة بني المصطلق ولما كانت غزوة بني المصطلق وخرج فيها المنافقون مثلوا قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] فقد وجدوا متنفسين للتنفس بالشر، فأثاروا الارتباك الشديد في صفوف المسلمين، والدعاية الشنيعة ضد النبي صلى الله عليه وسلم، وهاك بعض التفصيل عنها: 1 ـ قول المنافقين: [لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل] كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الغزوة مقيماً على المُرَيْسِيع، ووردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير يقال له: جَهْجَاه الغفاري، فازدحم هو وسِنَان بن وَبَر الجهني على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها مُنْتِنَة)، وبلغ ذلك عبد الله بن أبي بن سلول فغضب ـ وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث ـ وقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فأخبر زيد بن أرقم عمه بالخبر، فأخبر عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عمر، فقال عمر: مُرْ عَبَّاد بن بشر فليقتله. فقال: (فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا ولكن أَذِّنْ بالرحيل)، وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فارتحل الناس، فلقيه أسيد بن حضير فحياه، وقال: لقد رحت في ساعة منكرة؟ فقال له: (أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟) يريد ابن أبي، فقال: وما قال؟ قال: (زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)، قال: فأنت يا رسول الله، تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخَرَز ليتوجوه، فإنه يري أنك استلبته ملكاً. ثم مشي بالناس يومهم ذلك حتى أمسي، وليلتهم حتى أصبح، وصَدْر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مَـسَّ الأرض فوقعوا نياماً. فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث. أما ابن أبي فلما علم أن زيد بن أرقم بلغ الخبر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحلف بالله ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، فقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله عسي أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل. فصدقه، قال زيد: فأصابني هَمٌّ لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي، فأنزل الله: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} إلى {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 1 ـ 8]، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها علي. ثم قال: (إن الله قد صدقك). وكان ابن هذا المنافق ـ وهو عبد الله بن عبد الله بن أبي ـ رجلاً صالحاً من الصحابة الأخيار، فتبرأ من أبيه، ووقف له على باب المدينة، واستل سيفه، فلما جاء ابن أبي قال له: والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أذن له فخلي سبيله، وكان قد قال عبد الله ابن عبد الله بن أبي: يا رسول الله، إن أردت قتله فمرني بذلك، فأنا والله أحمل إليك رأسه. 2 ـ حديث الإفك وفي هذه الغزوة كانت قصة الإفك، وملخصها: أن عائشة رضي الله عنها كانت قد خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها، وكانت تلك عادته مع نسائه، فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشة لحاجتها، ففقدت عقداً لأختها كانت أعارتها إياه، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هَوْدَجَها فظنوها فيه فحملوا الهودج، ولا ينكرون خِفَّتَه؛ لأنها رضي الله عنها كانت فَتِيَّةَ السن لم يَغْشَهَا اللحم الذي كان يثقلها، وأيضاً فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج لم ينكروا خفته، ولو كان الذي حمله واحداً أو اثنين لم يخف عليهما الحال، فرجعت عائشة إلى منازلهم، وقد أصابت العقد، فإذا ليس به داع ولا مجيب، فقعدت في المنزل، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها، والله غالب على أمره، يدبر الأمر من فوق عرشه كما يشاء، فغلبتها عيناها، فنامت، فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المُعَطَّل: إنا لله وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكان صفوان قد عَرَس في أخريات الجيش ؛ لأنه كان كثير النوم، فلما رآها عرفها، وكان يراها قبل نزول الحجاب، فاسترجع وأناخ راحلته، فقربها إليها، فركبتها، وما كلمها كلمة واحدة، ولم تسمع منه إلا استرجاعه، ثم سار بها يقودها، حتى قدم بها، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة، فلما رأي ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته، وما يليق به، ووجد الخبيث عدو الله ابن أبي متنفساً، فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه، فجعل يستحكي الإفك، ويستوشيه، ويشيعه، ويذيعه، ويجمعه ويفرقه، وكان أصحابه يتقربون به إليه، فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لايتكلم، ثم استشار أصحابه ـ لما استلبث الوحي طويلاً ـ في فراقها، فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يفارقها، ويأخذ غيرها، تلويحاً لاتصريحاً، وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها، وألا يلتفت إلى كلام الأعداء. فقام على المنبر يستعذر من عبد الله ابن أبي، فأظهر أسيد بن حضير سيد الأوس رغبته في قتله فأخذت سعد بن عبادة ـ سيد الخزرج، وهي قبيلة ابن أبي ـ الحمية القبلية، فجري بينهما كلام تثاور له الحيان، فخفضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سكتوا وسكت. أما عائشة فلما رجعت مرضت شهراً، وهي لاتعلم عن حديث الإفك شيئاً، سوي أنها كانت لا تعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كانت تعرفه حين تشتكي، فلما نَقِهَتْ خرجت مع أم مِسْطَح إلى البَرَاز ليلاً، فعثرت أم مسطح في مِرْطِها، فدعت على ابنها، فاستنكرت ذلك عائشة منها، فأخبرتها الخبر، فرجعت عائشة واستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لتأتي أبويها وتستيقن الخبر، ثم أتتهما بعد الإذن حتى عرفت جلية الأمر، فجعلت تبكي، فبكت ليلتين ويوماً، لم تكن تكتحل بنوم، ولا يرقأ لها دمع، حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فتشهد وقال: (أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى الله تاب الله عليه). وحينئذ قَلَص دمعها، وقالت لكل من أبويها أن يجيبا، فلم يدريا ما يقولان. فقالت: والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة ـ والله يعلم أني بريئة ـ لا تصدقونني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر ـ والله يعلم أني منه بريئة ـ لتُصَدِّقنِّي، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف، قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]. ثم تحولت واضطجعت، ونزل الوحي ساعته، فَسُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك. فكانت أول كلمة تكلم بها: (يا عائشة، أما الله فقد برأك)، فقالت لها أمها: قومي إليه.. فقالت عائشة ـ إدلالاً ببراءة ساحتها، وثقة بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله. والذي أنزله الله بشأن الإفك هو قوله تعالي: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ...} [ النور: 11: 20]. العشر الآيات. وجُلِد من أهل الإفك مِسْطَح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحَمْنَة بنت جحش، جلدوا ثمانين ثمانين، ولم يُحَدّ الخبيث عبد الله بن أبي مع أنه رأس أهل الإفك، والذي تولي كبره ؛ إما لأن الحدود تخفيف لأهلها، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، وإما للمصلحة التي ترك لأجلها قتله. وهكذا وبعد شهر أقشعت سحابة الشك والارتياب والقلق والاضطراب عن جو المدينة، وافتضح رأس المنافقين افتضاحاً لم يستطع أن يرفع رأسه بعد ذلك، قال ابن إسحاق: وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: (كيف ترى يا عمر؟ أما والله لوقتلته يوم قلت لي: اقتله، لأرعدت له آنف، ولو أمرتها اليوم بقتله لقتلته). قال عمر: قد والله علمتُ، لأمْر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري. البعوث والسرايا بعد غزوة المُرَيْسِيع 1 ـ سرية عبد الرحمن بن عوف إلى ديار بني كلب بدَوْمَة الجَنْدَل، في شعبان سنة 6 هـ. أقعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه وعممه بيده، وأوصاه بأحسن الأمور في الحرب، وقال له: (إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم)، فمكث عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم القوم وتزوج عبد الرحمن تُمَاضِر بنت الأصبغ، وهي أم أبي سلمة، وكان أبوها رأسهم وملكهم. 2 ـ سرية على بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفَدَك، في شعبان سنة 6 هـ. وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بها جمعاً يريدون أن يمدوا اليهود. فبعث إليهم علياً في مائتي رجل، وكان يسير الليل ويكمن النهار، فأصاب عيناً لهم، فأقر أنهم بعثوه إلى خيبر يعرضون عليهم نصرتهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر. ودل العين على موضع تجمع بني سعد، فأغار عليهم علي، فأخذ خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد بالظُّعنُ، وكان رئيسهم وَبَر بن عُلَيْم. 3 ـ سرية أبي بكر الصديق أو زيد بن حارثة إلى وادي القري، في رمضان سنة 6هـ. كان بطن من فَزَارة يريد اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق. قال سَلَمَة بن الأكْوَع: وخرجت معه حتى إذا صلينا الصبح أمرنا فشننا الغارة، فوردنا الماء، فقتل أبو بكر من قتل، ورأيت طائفة وفيهم الذراري، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فأدركتهم، ورميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا، وفيهم امرأة هي أم قِرْفَة، عليها قَشْعٌ من أدِيم، معها ابنتها من أحسن العرب، فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر، فنفلني أبو بكر ابنتها، فلم أكشف لها ثوبا، وقد سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أم قِرْفَة، فبعث بها إلى مكة، وفدي بها أسري من المسلمين هناك. وكانت أم قرفة شيطانة تحاول اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، وجهزت ثلاثين فارساً من أهل بيتها لذلك، فلاقت جزاءها، وقتل الثلاثون. 4 ـ سرية كُرْز بن جابر الفهري إلى العُرَنِيِّين، في شوال سنة 6 هـ، وذلك أن رهطاً من عُكَل وعُرَينَة أظهروا الإسلام، وأقاموا بالمدينة فاستوخموها، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذود في المراعي، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل، وكفروا بعد إسلامهم، فبعث في طلبهم كرزاً الفهري في عشرين من الصحابة، ودعا على العرنيين: (اللّهم أعم عليهم الطريق، واجعلها عليهم أضيق من مَسَك)، فعمي الله عليهم السبيل فأدركوا، فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسَمُلَتْ أعينهم، جزاء وقصاصاً بما فعلوا، ثم تركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا ، وحديثهم في الصحيح عن أنس. ويذكر أهل السير بعد ذلك سرية عمرو بن أمية الضَّمْرِي مع سلمة بن أبي سلمة، في شوال سنة 6 هـ. أنه ذهب إلى مكة لاغتيال أبي سفيان ؛ لأن أبا سفيان كان أرسل أعرابياً لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، بيد أن المبعوثين لم ينجحا في الاغتيال، لاهذا، ولا ذاك. ويذكرون أن عمرا قتل في الطريق ثلاثة رجال، ويقولون: إن عمرا أخذ جثة الشهيد خُبَيْب في هذا السفر، والمعروف أن خبيباً استشهد بعد الرَّجِيع بأيام أو أشهر، ووقعة الرجيع كانت في صفر سنة 4 هـ، فلا أدري هل اختلط السفران على أهل السير، أو كان الأمران في سفر واحد في السنة الرابعة، وقد أنكر العلامة المنصورفوري أن تكون هذه السرية سرية حرب أو مناوشة. والله أعلم. هذه هي السرايا والغزوات بعد الأحزاب، وبني قريظة، لم يجر في واحدة منها قتال مرير، وإنما وقعت فيما وقعت مصادمة خفيفة، فليست هذه البعوث إلا دوريات استطلاعية، أو تحركات تأديبية ؛ لإرهاب الأعراب والأعداء الذين لم يستكينوا بعد. ويظهر بعد التأمل في الظروف أن مجري الأيام كان قد أخذ في التطور بعد غزوة الأحزاب، وأن أعداء الإسلام كانت معنوياتهم في انهيار متواصل، ولم يكن بقي لهم أمل في نجاح كسر الدعوة الإسلامية وخَضْد شوكتها، إلا أن هذا التطور ظهر جلياً بصلح الحديبية، فلم تكن الهدنة إلا الاعتراف بقوة الإسلام، والتسجيل على بقائها في ربوع الجزيرة العربية. |
الجمعة، 18 مايو 2018
الرحيق المختوم للمباراكفوري ج8: غزوة الأحزاب
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق