الاثنين، 14 مايو 2018

زاد المعاد ج6//3

ج6//3 من كتاب زاد المعاد ثم ...يتبع ان شاء الله بجزء 7//1 من كتاب زاد المعاد لابن قيم الجوزية
أولا جزء 6//3 من زاد المعاد 

قلت المدون: جزء 6// 3. من زاد المعاد
تغريم من خرجت له القرعة ثلثي دية ولده لصاحبيه. وأما القرعة، فقد تستعمل عند فقدان مرجح سواها من بينة أو إقرار، أو قافة، وليس ببعيد تعيين المستحق بالقرعة في هذه الحال، إذ هي غاية المقدور عليه من أسباب ترجيح الدعوى، ولها دخول في دعوى الإملاك المرسلة التي لا تثبت بقرينة ولا أمارة، فدخولها في النسب الذي يثبت بمجرد الشبه الخفي المستند إلى قول القائف أولى وأحرى. وأما أمر الدية فمشكل جدا، فإن هذا ليس بموجب الآية، وإنما هو تفويت نسبه بخروج القرعة، فيقال: وطء كل واحد صالح لجعل الولد له، فقد فوته كل واحد منهم على صاحبيه بوطئه، ولكن لم يتحقق من كان له الولد منهم، فلما أخرجته القرعة لأحدهم، صار مفوِّتا لنسبه عن صاحبيه، فأجري ذلك مجرى إتلاف الولد، ونزل الثلاثة منزلة أب واحد، فخصة المتلف منه ثلث الدية، إذ قد عاد الولد له، فيغرم لكل من صاحبيه ما يخصه، وهوثلث الدية.
ووجه آخر أحسن من هذا، أنه لما أتلفه عليهما بوطئه ولحوق الولد به، وجب عليه ضمان قيمته، وقيمة الولد شرعا هي ديته، فلزمه لهما ثلثا قيمته، وهي ثلثا الدية، وصار هذا كمن أتلف عبدا بينه وبين شريكين له، فإنه يجب عليه ثلثا القيمة لشريكيه، فإتلاف الولد الحر عليهما بحكم القرعة، كإتلاف الرقيق الذي بينهم.
ونظير هذا تضمين الصحابة المغرور بحرية الأمة قيمة أولاده لسيد الأمة لما فات رقهم على السيد لحريتهم، وكانوا بصدد أن يكونوا أرقاء، وهذا ألطف ما يكون من القياس وأدقه، وأنت إذا تأملت كثيرا من أقيسة الفقهاء وتشبيهاتهم، وجدت هذا أقوى منها، وألطف مسلكا، وأدق
مأخذا، ولم يضحك منه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سدى. وقد يقال: لا تعارض بين هذا وبين حديث القافة، بل إن وجدت القافة تعين العمل بها، وإن لم توجد قافة، أو أشكل عليهم، تعين العمل بهذا الطريق، والله أعلم.
فصل: ذكر حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الولد من أحق به في الحضانة
روى أبو داود في "سننه": من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديى له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباهُ طلقني، فأراد أن ينتزعه منى، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنت أحق به ما لم تنكحي" وفي "الصحيحين": من حديث البراء بن عازب، أن ابنة حمزة اختصم فيها على وجعفر، وزيد. فقال على: أنا أحق بها وهي ابنة عمى، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال: زيد: ابنة أخي، فقضى بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالتها، وقال: "الخالة بمنزلة الأم ".
وروى أهل السنن: من حديث أبى هريرة رضىالله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير غلاما بين أبيه وأمه. قال الترمذي: حديث صحيح.
وروى أهل السنن أيضا: عنه، أن امرأة جاءت، فقالت يا رسول الله ! إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبى عنبة وقد نفعني، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "استهما عليه "، فقال زوجها من يحاقني في ولدي، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هذا أبوك وهذه أمك خذ بيد أيهما شئت "، فأخذ بيد أمه، فانطلقت به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي "سنن النسائي": عن عبد الحميد بن سلمة الأنصاري، عن أبيه، عن جده، أن جدَّه أسلم وأبت امرأتُه أن تسلم، فجاء بابن له صغير لم يَبلغ، قال فأجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأب هاهنا والأم هاهنا، ثم خير وقال "اللهُمَّ اهدِهِ" فذهب إلى أبيه.
ورواه أبو داود عنه وقال: أخبرنى جدي رافع بن سنان، أنه أسلم
وأبت امرأته أن تسلم، فأتت النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: ابنتى وهي فطيم أو شبهه، وقال رافع: ابنتي، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقعد ناحية"، وقال لها: "اقعدي ناحية"، فأقعد الصبية بينهما، ثم قال: "ادعواها"، فمالت إلى أمها، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم اهدها "، فمالت إلى أبيها، فأخذها.
الكلام على هذه الأحكام
أما الحديث الأول، فهو حديث احتاج الناس فيه إلى عمرو بن شعيب، ولم يجدوا بدا من الاحتجاج هنا به، ومدار الحديث عليه، وليس عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثٌ في سقوط الحضانة بالتزويج غير هذا، وقد ذهب إليه الأئمةُ الأربعة وغيرُهم، وقد صرح بأن الجد هو عبد الله بن عمرو، فبطل قولُ مَنْ يقولُ: لعله محمد والدُ شعيب، فيكون الحديثُ مرسلاً. وقد صحَّ سماعُ شعيب من جَدّه عبد الله بن عمرو، فبطل قولُ من قال: إنه منقطع، وقد احتج به البخاريُّ خارجَ صحيحه، ونص على صحة حديثه، وقال: كان عبدُ الله بن الزُّبير الحميدي، وأحمد وإسحاق وعلي بن عبد الله يحتجُّون بحديثه، فَمَن النَّاسُ بَعْدَهُم؟! هذا لفظه. وقال إسحاق بن راهويه: هو عندنا، كأيوب عن نافع، عن ابن عمر. وحكى الحاكم في "علوم الحديث" له الاتفاق على صحة حديثه، وقال أحمد بن صالح: لايختلف على عبد الله أنها صحيفة.
وقولها: كان بطني وعاء إلى آخره، إدلاءٌ منها، وتوسُّل إلى
اختصاصها به، كما اختصَّ بها في هذه المواطنِ الثلاثة، والأبُ لم يُشاركها في ذلك، فنبهت في هذا الاختصاص الذي لم يُشارِكْها فيه الأبُ على الاختصاص الذي طلبته بالاستفتاء والمخاصمة.
وفي هذا دليل على اعتبار المعاني والعِلل، وتأثيرها في الأحكام، وإناطتها بها، وأن ذلك أمر مستقر في الفِطَرِ السَّليمةِ حتى فِطَر النساء، وهذا الوصفُ الذيَ أدلت به المرأةُ وجعلته سبباً لتعليق الحكم به، قد قرَّرهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورتَّب عليه أثره، ولو كان باطلاً ألغاه، بل ترتيبُه الحكمَ عقيبَه دليل على تأثيره فيه، وأنه سببه.
واستدل بالحديث على القضاء على الغائب، فإن الأبَ لم يذكر له حضورولا مخاصمة، ولا دلالة فيه لأنها واقعةُ عين، فإن كان الأبُ حاضراً، فظاهر، وإن كان غائباً، فالمرأة إنما جاءت مستفتية أفتاها النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمقتضى مسألتها، وإلا فلا يُفبل قولُها على الزوج: إنه طلقها حتى يُحكم لها بالولد بمجرَّدِ قولها.
فصل
ودلّ الحديث على أنه إذا افترق الأبوانِ، وبينهما ولد، فالأمّ أحقُّ به من الأب ما لم يقم بالأمِّ ما يمنعُ تقديمَها، أو بالولد وصفٌ يقتضي تخييرَه، وهذا ما لا يُعرف فيه نزاعٌ، وقد قضى به خليفةُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر على عمر بن الخطاب، ولم يُنْكِرْ عليهِ مُنْكِر. فلما وَليَ عمرُ قضى بمثله، فروى مالك في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد أنه قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: كانت عند عمرَ بن الخطاب رضي الله
عنه امرأةٌ من الأنصار، فولدت له عاصمَ بن عمر، ثم إن عمرَ فارقها، فجاء عُمَرُ قُبَاء، فوجد ابنه عاصماً يلعب بفناء المسجد، فأخذ بعضدهِ، فوضعه بين يديه على الدابة، فأدركته جدةُ الغلام، فنازعته إيَّاه، حتَّى أتيا أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فقال عمر: ابني. وقالت المرأة: ابني، فقال أبو بكر رضي الله عنه: خَلِّ بينها وبينه، فما راجعه عُمَرُ الكَلاَم قال ابن عبد البر: هذا خبر مشهور من وجوه منقطعة ومتصلة، تلقاه أهل العلم بالقبول والعمل، وزوجة عمر أمُّ ابنه عاصم: هي جميلة ابنة عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري.
قال: وفيه دليل على أن عمر كان مذهبُه في ذلك خلافَ أبي بكر، ولكنه سلم للقضاء ممن له الحكمُ والإِمضاء، ثم كانَ بعْدُ في خلافته يقضي به ويُفتي، ولم يُخالف أبا بكر في شيء منه ما دام الصبيُّ صغيراً لا يُميز، ولا مخالف لهما مِن الصحابة.
وذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج، أنه أخبره عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: طلق عمرُ بنُ الخطاب امرأتَه الأنصارية أمَّ ابنه عاصم، فلقيها تَحمِلُه بمحسر، وقد فُطِمَ ومشى، فأخذ بيده لينتزعهُ منها، ونازعها إياه حتَّى أوجعَ الغلام وبكى، وقال:أنا أحقُّ بإبني مِنْكِ، فاختصما إلى أبي بكر، فقضى لها بِهِ وقال: ريحُها وفِراشُها وحجرُهَا خيرٌ له منك حتى يَشِبَّ ويختارَ لنفسه، ومحسر: سوق بين قباء والمدينة.
وذكر عن الثوري، عن عاصم، عن عكرمة قال: خاصمتِ امرأةُ عُمَرَ عُمَرَ إلى أبي بكر رضي الله عنه، وكان طلّقها، فقالَ أبو بكر رضي الله عنه: الأم أعطفُ، وألطفُ، وأرحمُ، وأحنى، وأرأف، هي أحقُّ بولدها ما لم تتزوج.
وذكر عن معمر قال: سمعتُ الزهريَّ يقول: إن أبا بكر قضَى على عُمَرَ في ابنه مع أمِّه، وقال: أمُّهُ أحقُّ به ما لم تتزوج.فإن قيل: فقد اختلفت الروايةُ: هل كانت المنازعةُ وقعت بينَه وبينَ الأم أولاً،ثم بينه وبين الجدة،أو وقعت مرة واحدة بينه وبين إحداهما.
قيل:الأمر فى ذلك قريب،لأنها إن كانت من الأم فواضح،وإن كانت من الجدة،فقضاء الصديق رضى الله عنه لها يدل على أن الأم أولى.
فصل
والولاية على الطفل نوعان: نوع يقدم فيه الأبُ على الأم ومن في جهتها، وهي ولاية المال والنكاح، ونوعٌ تُقدَّم فيه الأم على الأب، وهي ولايةُ الحضانة والرضاع، وقُدِّمَ كُلٌّ من الأبوين فيما جعل له من ذلك لتمام مصلحة الولد، وتوقف مصلحته على من يلي ذلك من أبويه، وتحصل به كفايته.
ولما كان النساءُ أعرفَ بالتربية، وأقدرَ عليها، وأصبَر وأرأفَ وأفرغ لها،لذلك قُدِّمَتِ الأم فيها على الأب.
ولما كان الرجالُ أقومَ بتحصيل مصلحةالولدوالاحتياط له في البضع، قُدِّمَ
الأبُ فيها على الأم، فتقديمُ الأم في الحضانة مِن محاسن الشريعة والاحتياط للأطفال، والنظر لهم، وتقديمُ الأب في ولاية المال والتزويج كذلك.
إذا عُرِفَ هذا، فهل قُدِّمتِ الأُمُّ لكون جهتها مقدمةً على جهة الأبوة في الحضانة، فقدمت لأجل الأمومة، أو قُدِّمت على الأب، لكون النساء أقوم بمقاصد الحضانة والتربية من الذكور، فيكون تقديمُها لأجل الأنوثة؟ ففي هذا للناس قولان وهما في مذهب أحمد يظهر أثرهُما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم أو بالعكس، كأم الأم، وأم الأب، والأخت من الأب، والأخت من الأم، والخالة، والعمة، وخالة الأم، وخالة الأب، ومن يُدلي من الخالات والعمات بأم، ومن يُدلي منهن بأب، ففيه روايتان عن الإِمام أحمد. إحداهما تقديمُ أقاربِ الأم على أقاربِ الأبِ. والثانية وهيَ أصحُّ دليلاً، واختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية: تقديمُ أقارب الأب وهذا هو الذي ذكره الخرقي في "مختصره" فقال والأختُ من الأب أحقُّ من الأخت من الأم وأحقُّ من الخالة، وخالة الأب أحقُّ مِن خالة الأم، وعلى هذا فأمُّ الأبِ مقدَّمة على أمِّ الأم كما نصَّ عليه أحمد في إحدى الروايتين عنه..
وعلى هذه الرواية: فأقاربُ الأب من الرجال مقدَّمون على أقارب الأم، والأخ للأب أحق من الأخ للأم،والعم أولى من الخال،هذا إن قلنا:إن لأقارب الأم من الرجال مدخلاً في الحضانة، وفي ذلك وجهان في
مذهب أحمد والشافعي. أحدهما: أنه لا حضانة إلا لرجل مِن العصبة مَحْرَمٍ، أو لامرأة وارثة،أو مُدلية بعصبة، أو وارث..
والثاني: أن لهم الحضانة والتفريع على هذا الوجه، وهو قولُ أبي حنيفة،
وهذا يدل على رجحان جهة الأبوة على جهة الأمومة في الحضانة، وأن الأم إنما قدِّمت لكونها أنثى لا لتقديم جهتها، إذ لو كان جهتها راجحةً لترجَّحَ رجالها
ونساؤها على الرجالِ والنساءِ من جهة الأب، ولما لم يترجَّح رجالُها اتفاقاًفكذلك النساء، وما الفرقُ المؤثر؟وأيضاً فإن أصولَ الشرع وقواعِدَهُ شاهدةٌ بتقديم أقارب الأب في الميراث، وولاية النكاح، وولاية الموت وغير ذلك، ولم يُعهد في الشرع تقديمُ قرابة الأم على قرابة الأب في حكم من الأحكام، فمن قدَّمها في الحضانة، فقد خرج عن موجب الدليل.
فالصوابُ في المأخذ هو أن الأم إنما قُدِّمت، لأن النساءَ أرفقُ بالطفل، وأخبرُ بتربيته، وأصبرُ على ذلك، وعلى هذا فالجدَّةُ أم الأب أولى من أمِّ الأم، والأخت للأب أولى مِن الأخت للأم، والعمةُ أولى من الخالة، كما نصَّ عليه أحمد في إحدى الروايتين، وعلى هذا فتقدَمُ أتمُ الأب على أب الأب، كما تُقدَّم الأم على الأب.
وإذا تقرر هذا الأصل، فهو أصل مطَّرِد منضبط لا تتناقض فروعُه، بل إن اتفقت القرابةُ والدرجةُ واحدة قُدِّمت الأنثى على الذكر، فتُقدَّم الأخت على الأخ، والعمة على العم، والخالة على الخال، والجدةُ على الجد، وأصلُه تقديم الأم على الأب.
وإن اختلفت القرابةُ، قُدِّمت قرابةُ الأب على قرابة الأم، فتقدم
الأخت للأب على الأخت للأم، والعمة على الخالة، وعمةُ الأب على خالته، وهلم جراً.
وهذا هو الاعتبارُ الصحيح، والقياسُ المطرد، وهذا هو الذي قضى به سيِّدُ قُضاةِ الإِسلام شريح، كما روى وكيع في "مصنفه" عن الحسن بن عقبة، عن سعيد بن الحارث قال: اختصم عمُّ وخالٌ إلى شُريح في طفل، فقضى به للعم، فقال الخال: أنا أُنفق عليه من مالي، فدفعه إليه شريح.
ومن سلكَ غيرَ هذا المسلك لم يجد بداً من التناقض، مثاله: أن الثلاثة وأحمد في إحدى روايتيه، يُقدِّمُون أم الأم على أم الأب، ثم قال الشافعي في ظاهر مذهبه، وأحمد في المنصوص عنه: تُقدَّم الأخت للأب على الأخت للأم، فتركوا القياسَ، وطرَّده أبو حنيفة، والمزني، وابن سريج، فقالوا: تُقدَّم الأختُ للأم على الأخت للأب. قالوا: لأنها تُدلي بالأم، والأخت للأب بالأب، فلما قُدِّمَت الأم على الأب، قُدِّمَ من يُدلي بها على من يُدلي به، ولكن هذا أشدُّ تناقضاً من الأول لأن أصحاب القول الأول جَرَوْا على القياس والأصول في تقديمِ قرابة الأب على قرابة الأم، وخالفوا ذلك في أم الأم وأم الأب، وهؤلاء تركوا القياسَ في الموضعينِ، وقدَّموا القرابةَ التي أخَّرها الشرعُ، وأخَّروا القرابةَ التي قدَّمها، ولم يمكنهم تقديمُها في كُلِّ موضع، فقدَّموها في موضع، وأخَرُوها في غيرهِ مع تساويهما، ومن ذلك تقديمُ الشافعي في الجديد الخالةَ على العمة مع تقديمه الأخت للأب على الأخت للأم، وطرَّد قياسه في تقديم أم الأم على أم الأب، فوجب تقديمُ الأخت للأم، والخالة على الأخت للأب والعمة، وكذلكَ مَنْ قَدَّمَ مِن أصحاب أحمد الخالَة على العمة، وقدَّمَ الأخت للأب على الأخت للأم، كقول القاضي وأصحابه،وصاحب "المغني"
فقد تناقضوا.
فإن قيل: الخالةُ تُدلي بالأم، والعمة تُدلي بالأب، فكما قدِّمتِ الأم على الأب، قُدِّم من يُدلي بها، ويزيدُه بياناً كونُ الخالة أمّاً كما قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالعمةُ بمنزلة الأب. قيل: قد بينا أنه لم يقدم الأم على الأب لقوة الأمومة، وتقديم هذه الجهة، بل لكونها أنثى، فإذا وُجِدَ عمةٌ وخالة، فالمعنى الذي قُدِّمَتْ له الأم موجود فيهما، وامتازت العمةُ بأنها تُدلي بأقوى القرابتين، وهي قرابةُ الأب، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بابنة حمزة لخالتها، وقال: "الخَالةُ أُم"حيث لم يكن لها مزاحم مِن أقارب الأب تُساويها في درجتها.
فإن قيل: فقد كان لها عمة وهى صفيةُ بنت عبد المطلب أختُ حمزة، وكانت إذ ذاك موجودة في المدينة، فإنها هاجرت، وشهدت الخندقَ، وقتلت رجلاً مِن اليهود كان يطوفُ بالحِصن الذي هي فيه، وهي أوَّل امرأة قتلت رجلاً من المشركين، وبقيت إلى خلافة عمر رضي الله عنه، فقدَّم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخالة عليها، وهذا يدلُّ على تقديم من في جهة الأم على من في جهة الأب.
قيل: إنما يدلُّ هذا إذا كانت صفية قد نازعت معهم، وطلبت الحضانة،
فلم يقض لها بها بعد طلبها، وقدَّم عليها الخالة، هذا إذا كانت لم تمنع منها لعجزها عنها، فإنها تُوفيت سنة عشرين عن ثلاث وسبعين سنة، فيكون لها وقتَ هذه الحكومة بِضعٌ وخمسون سنة، فيحتمِلُ أنها تركتها لعجزها عنها، ولم تطلبها مع قدرتها، والحضانةُ حقّ للمرأة، فإذا تركتها، انتقلت إلى غيرها.
وبالجملة: فإنما يدل الحديث على تقديم الخالة على العمة إذا ثبت
أن صفيةَ خاصمت في ابنة أخيها، وطلبت كفالَتها، فقدَّم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخالة، وهذا لا سبيلَ إليه.
فصل
ومن ذلك أن مالكاً لما قدَّم أمَّ الأم على أمِّ الأب، قدم الخالةَ بعدها على الأب وأمه، واختلف أصحابه في تقديم خالة الخالة على هؤلاء، على وجهين، فأحدُ الوجهين: تقديم خالة الخالة على الأب نفسِه، وعلى أمه، وهذا في غاية البعد، فكيف تُقدم قرابةُ الأم وإن بعدت على الأب نفسه، وعلى قرابته مع أن الأبَ وأقاربه أشفقُ على الطفل، وأرعى لمصلحة من قرابة الأم؟ فإنه ليس إليهم بحال، ولا يُنسب إليهم، بل هو أجنبيٌّ منهم، وإنما نسبه وولاؤه إلى أقاربِ أبيه، وهم أولى به، يعقِلُون عنه، وينفقون عليه عند الجمهور، ويتوارثون بالتعصيب وإن بعدتِ القرابةَ بينهم بخلاف قرابةِ الأم، فإنه لا يثبتُ فيها ذلك، ولا توارُثَ فيها إلا في أمهاتها، وأول درجة مِن فروعها، وهم ولدُها، فكيف تقدم هذه القرابة على الأب، ومن في جهته، ولا سيما إذا قيل بتقديم خالة الخالة على الأب نفسه وعلى أمه، فهذا القولُ مما تأباه أصولُ الشريعة وقواعِدُها.
وهذا نظيرُ إحدى الروايتين عن أحمد في تقديم الأخت على الأم، والخالة على الأب، وهذا أيضاً في غاية البعد، ومخالفة القياس..وحجة هذا القول: أن كلتيهما تُدليان بالأم المقدمة على الأب، فتُقدمان
عليه، وهذا ليس بصحيح، فإن الأم لما ساوت الأب في الدرجة، وامتازت عليه بكونها أقومَ بالحضانة، وأقدرَ عليها وأصبرَ، قُدِّمَتْ عليه، وليس كذلك الأختُ من الأم، والخالةُ مع الأب، فإنهما لا
يُساويانه، وليس أحدٌ أقربَ إلى ولده منه، فكيف تُقَدَّمُ عليه بنتُ امرأته، أو أختها؟ وهل جعل الله الشفقة فيهما أكمل منه؟
ثم اختلف أصحاب الإِمام أحمد في فهم نصه هذا على ثلاثة أوجه.
أحدها: إنما قدمها على الأب لأنوثتها، فعلى هذا تُقدَّمُ نساء الحضانة علىكل رجل، فتُقدَّمُ خالة الخالة وإن علت، وبنت الأخت على الأب.
الثاني: أن الخالةَ والأخت للأم لم تدليا بالأب، وهما من أهل الحضانة،
فَتُقدَّمُ نساءُ الحضانة على كل رجلٍ إلا على من أدلين به، فلا تُقدمن عليه، لأنهن فرعه، فعلى هذا الوجه لا تُقَدَّم أمُّ الأب على الأب، ولا الأخت والعمة عليه، وتقدم عليه أم الأم، والخالة، والأخت للأم، وهذا أيضاً ضعيف جداً، إذ يستلزِمُ تقديم قرابة الأم البعيدة على الأب وأمه، ومعلوم أن الأبَ إذا قُدِّمَ على الأخت للأب فتقديمُه على الأخت للأم أولى، لأن الأخت للأب مقدمة عليها، فكيف تُقدَّم على الأب نفسه؟ هذا تناقض بيِّن..
الثالث: تقديمُ نساء الأم على الأب وأمهاته وسائر مَن في جهته، قالوا:.
فعلى هذا، فكل امرأة في درجة رجل تُقَدَّمُ عليه، ويُقدَّم من أدلى بها على من أدلى بالرجل، فلما قُدِّمَتِ الأمُّ على الأب وهي في درجته قدمت الأخت من الأم على الأخت من الأب، وقُدِّمَتِ الخالة على العمة. هذا تقرير ما ذكره أبو البركات بن تيمية في "محرره" من تنزيل نص أحمد على هذه المحامل الثلاث، وهو مخالف لعامة نصوصه في تقديمِ الأخت للأب على الأخت للأم، وعلى الخالة، وتقديم خالة الأب على خالة الأم، وهو الذي لم يذكر الخرقي فى"مختصره" غيره، وهو الصحيحُ، وخرجها ابنُ عقيل على الروايتين في أم الأم، وأم الأب، ولكن نصه ما ذكره الخرقي، وهذه الرواية التي حكاها صاحب "المحرر"
ضعيفة مرجوحة، فلهذا جاءت فروعُها ولوازِمُها أضعفَ منها بخلاف سائر نصوصه في جادة مذهبه.
فصل
وقد ضبط بعض أصحابه هذا البابَ بضابط، فقال: كُلُّ عصبة، فإنه يقدَّمُ على كل امرأة هي أبعدُ منه، ويتأخر عمن هي أقربُ منه، وإذا تساويا، فعلى وجهين. فعلى هذا الضابط يُقدَّمُ الأب على أمه، وعلى أم الأم ومن معها، ويُقدَّم الأخ على ابنته وعلى العمة، والعم على عمة الأب، وتقدَّم أمُ الأب على جد الأب، في تقديمها على أب الأب وجهان. وفي تقديم الأخت للأب على الأخ للأب وجهان، وفي تقديم العمة على العم وجهان.
والصواب: تقديم الأنثى مع التساوي، كما قُدِّمَتِ الأمُّ على الأب لما استويا، فلا وجه لتقديم الذكر على الأنثى مع مساواتها له، وامتيازِها بقوة أسباب الحضانة والتربية فيها.واختُلفَ في بنات الإخوة والأخوات، هل يُقدمن على الخالات والعمات،أو تقدم الخالاتُ والعماتُ عليهن؟ على وجهين مأخذهُما: أن الخالة والعمة تُدليان بأخوة الأم والأب، وبنات الإخوة والأخوات يُدلين ببنوة الأب، فمن قدَّم بنات الإِخوة، راعى قوة البنوة على الأخوة، وليس ذلك بجديد، بل الصوابُ تقديم العمة والخالة لوجهين.
أحدهما: أنها أقرب إلى الطفل من بنات أخيه، فإن العمة أخت أبيه، وابنةالأخ ابنة ابن أبيه، وكذلك الخالةُ أخت أمه، وبنت الأخت من
الأم، أو لأب بنت بنت أمه أو أبيه، ولا ريبَ أن العمة والخالة أقرب إليه من هذه القرابة.
الثاني: أن صاحبَ هذا القول إن طرَّد أصله، لزمه ما لا قبل له به من تقديم بنت بنت الأخت وإن نزلت على الخالة التي هي أم، وهذا فاسدٌ من القول، وإن خصَّ ذلك ببنت الأخت دون من سفل منها، تناقض.
واختلف أصحابُ أحمد أيضاً في الجد والأخت للأب أيهما أولى؟ فالمذهب: أن الجدَّ أولى منها وحكى القاضي في"المجرد" وجهاً: أنها أولى منه، وهذا يجيء على أحد التأويلات التي تأوَّل عليها الأصحابُ نص أحمد، وقد تقدمت.
فصل
ومما يُبين صحة الأصل المتقدِّم أنهم قالوا: إذا عَدِمَ الأمهات، ومن في جِهَتِهِنَّ، انتقلت الحَضَانةُ إلى العصبات، وقُدِّمَ الأقربُ فالأقربُ منهم، كما في الميراث، فهذا جارٍ على القياس، فيقال لهم: هَلاَّ راعيتُم هذا في جنس القرابة، فقدمتم القرابة القوية الراجحةَ على الضعيفة المرجوحة كما فعلتم في العصبات؟
وأيضاً فإن الصحيح في الأخوات عندكم أنه يُقدَّم منهن من كانت لأبوين،ثم من كانت لأب، ثم من كانت لأم، وهذا صحيح موافق للأصول والقياس، لكن إذا ضمَّ هذا إلى قولهم بتقديم قرابة الأم على قرابة الأب جاء التناقضُ، وتلك الفروعُ المشكلة المتناقضة.
وأيضاً فقد قالوا بتقديم أمهاتِ الأبِ والجدِّ على الخالات والأخواتِ
للأم،وهو الصوابُ الموافقُ لأصول الشرع، لكنه مناقض لِتقديمهم أمهاتِ الأم على أمهاتِ الأب، ويُناقض تقديم الخالة والأخت للأم على الأب، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله، والقول القديم للشافعي. ولا ريب أن القول به أطردُ للأصل، لكنه في غاية البُعد من قياس الأصول كما تقدم، ويلزمهم من طَرْده أيضاً تقديمُ من كان من الأخوات لأم على من كان منهن لأب، وقد التزمه أبو حنيفة، والمزني، وابنُ سريج، ويلزمهم مِن طَرْدهِ أيضاً تقديمُ بنت الخالة على الأخت للأب، وقد التزمه زفر، وهو رواية عن أبي حنيفة، ولكن أبو يوسف استشنع ذلك، فقدَّم الأخت للأب كقول الجمهور، ورواه عن أبي حنيفة.
ويلزمهم أيضاً من طرده تقديم الخالة والأخت للأم على الجدة أم الأب،
وهذا في غاية البعد والوهن، وقد التزمه زفر، ومثلُ هذا من المقاييس التي حذر منها أبو حنيفة أصحابه، وقال لا تأخذوا بمقاييس زفر، فإنكم إن أخذتم بمقاييس زفر حرَّمْتُمُ الحَلاَلَ، وحلَّلتمُ الحَرَامَ..
فصل
وقد رام بعضُ أصحاب أحمد ضبط هذا الباب بضابط زعم أنه يتخلَّص بِه مِن التناقض، فقال: الاعتبارُ في الحضانة بالولادة المتحققة وهي الأمومة، ثم الولادة الظاهرة وهي الأبوة، ثم الميراث. قال: ولذلك تُقدَّمُ الأخت من الأب على الأخت من الأم، وعلى الخالة، لأنها أقوى إرثاً منهما. قال: ثم الإِدلاء، فتقدَّم الخالة على العمة لأن الخالة تدلي بالأم، والعمة تدلي بالأب، فذكر أربع أسباب للحضانة مرتبة: الأمومة، ثم بعدها الأبوة، ثم بعدها الميراث، ثم الإِدلاء، وهذه طريقة صاحب "المستوعب"،
وما زادتهُ هذه الطريقةُ إلا تناقضاًوبعداً عن قواعد الشَّريعة، وهي من أفسد الطرق، وإنما يتبينُ فسادُها بلوازمها الباطلة، فإنه إن أراد بتقديم الأمومة على الأبوة تقديمَ من في جهتها على الأب ومَنْ في جهته، كانت تلك اللوازم الباطلة المتقدمة من تقديم الأخت للأم، وبنت الخالة على الأب وأمه، وتقديم الخالة على العمة، وتقديم خالة الأم على الأب وأمه، وتقديم بنات الأخت من الأم على أم الأب، وهذا مع مخالفته لِنصوص إمامه، فهو مخالفٌ لأصول الشرع وقواعده.
وإن أراد أن الأم نفسها تُقَدَّمُ على الأب، فهذا حق لكن الشأن في مناط هذا التقديم: هل هو لكون الأم ومن في جهتها تقدم على الأب ومن في جهته، أو لكونها أنثى في درجة ذكر، وكل أنثى كانت في درجة ذكر قُدِّمَتْ عليه مع تقديم قرابة الأب على قرابة الأم؟ وهذا هو الصواب كما تقدم، وكذلك قولُه "ثم الميراث" إن أراد به أن المقدَم في الميراث مقدم في الحضانة فصحيح، وطرده تقديمُ قرابة الأب على قرابة الأم، لأنها مقدَّمة عليها في الميراث، فتقدم الأختُ على العمة والخالة. وقوله وكذلك تقديمُ الأخت للأب على الأخت للأم، والخالة، لأنها أقوى إرثاً منهما، فيقال:لم يكن تقديمُها لأجل الإِرث وقوته، ولو كان لأجل ذلك، لكان العصبات أحقَّ بالحضانة من النساء، فيكون العمُّ أولى مِن الخالة والعمة، وهذا باطل..
فصل
وقد ضبط الشيخ في "المغني" هذا الباب بضابط آخر فقال: فصل في بيان الأولى فالأولى من أهل الحضانة عند اجتماع الرجال والنساء
وأولى الكلّ بها: الأمُّ، ثم أمهاتُها وإن علون يُقدَّم منهن الأقرب فالأقرب لأنهن نساء ولادتهن متحققة، فهن في معنى الأم: وعن أحمد، أن أم الأب وأمهاتِها يُقدّمن على أم الأم، فعلى هذه الرواية يكون الأب أولى بالتقديم، لأنَّهنَّ يُدلين به، فيكون الأب بعد الأم، ثم أمهاته، والأولى هي المشهورة عند أصحابنا، فإن المقدَّم الأم، ثم أمهاتها، ثم الأب، ثم أمهاتُه، ثم الجدُّ، ثم أمهاتُه، ثم جدُّ الأب، ثم أمهاتُه، وإن كن غيرَ وارثات لأنهن يُدلين بعصبةٍ مِن أهل الحضانة، بخلاف أمِّ أب الأم. وحُكي عن أحمد رواية أخرى: أن الأختَ من الأم والخالة أحقّ من الأب، فتكون الأختُ من الأبوين أحقَّ منه، ومنهما، ومن جميع العصبات، والأولى هي المشهورة من المذهب، فإذا انقرض الآباء والأمهات، انتقلت الحضانة إلى الأخوات وتُقدّمُ الأختُ من الأبوين، ثم الأختُ من الأب، ثم الأختُ من الأم، وتقدَّمُ الأخت على الأخ لأنها امرأة من أهل الحضانة، فَقُدِّمَتْ على مَن في درجتها من الرجال، كالأم تُقدَّمُ على الأب، وأمُّ الأب على أب الأب، وكُل جدة في درجة جد تُقدَّمُ عليه لأنها تلي الحَضانة بنفسها، والرجلُ لا يليها بنفسه..
وفيه وجه آخر: أنه يقدم عليها لأنه عصبة بنفسه، والأول أولى، وفي تقديم الأخت من الأبوين، أو من الأب على الجد وجهان، وإذا لم تكن أخت فالأخ للأبوين أولى، ثم الأخُ للأب، ثم ابناهما، ولا حَضانة للأخ من الأمِّ لما ذكرنا..
فإذا عدموا، صارت الحضانةُ للخالات على الصحيح، وترتيبُهن فيها كترتيبِ الأخوات، ولا حضانةَ للأخوال، فإذا عدموا، صارت للعمات ويقدَّمن على الأعمام كتقديمِ الأخوات على الإِخوة، ثم للعم للأبوين،
ثم للعم للأب، ولا حضانة للعم من الأم، ثم ابناهما، ثم إلى خالاتِ الأب على قول الخرقي، وعلى القول الآخر: إلى خالات الأم، ثم إلى عمات الأب، ولا حَضانة لعمات الأم، لأنهن يُدلين بأب الأم، ولا حضانة له. وإن اجتمع شخصانِ أو أكثر مِن أهل الحضانة في درجة قدِّمَ المستحق منهم بالقرعة، انتهى كلامه..
وهذا خيرٌ مما قبله من الضوابط، ولكن فيه تقديمُ أم الأم وإن علت علىالأب وأمهاته، فإن طَرَّدَ تقديم من في جهة الأم على من في جهة الأب جاءت تلك اللوازمُ الباطلة، وهو لم يُطرده، وإن قَدَّمَ بعضَ من في جهة الأب على بعض من في جهة الأم كما فعل، طولِبَ بالفرق، وبمَنَاط التقديم.وفيه إثباتُ الحضانة للأخت من الأم دون الأخِ مِن الأم، وهو في درجتها ومساوٍ لها من كل وجه، فإن كان ذلك لأنوثتها وهو ذكر، انتقض برجال العصبة كلهم، وإن كان ذلك لكونه ليس مِن العصبة، والحضانة لا تكون لرجل إلا أن يكون مِن العصبةِ. قيل: فكيف جعلتمُوها لِنساء ذوىَ الأرحام مع مساواتِ قرابتهن لقرابة مَنْ في درجتهن من الذكورِ من كل وجه؟ فإما أن تعتبِرُوا الأنوثة فلا تجعلُوها للذكر، أو الميراثَ فلا تجعلُوها لغير وارث، أو القرابة فلا تمنعوا منها الأخَ من الأم والخال وأبا الأم، أو التعصيبَ، فلا تعطوها لغير عصبة.
فإن قلتم: بقي قسم آخر وهو قولنا، وهو اعتبار التعصيب في الذكور والقرابة في النساء.
قيل: هذا مخالف لباب الولايات، وباب الميراث، والحضانة وِلاية على الطفل، فإن سلكتم بها مسلكَ الولايات، فخصُّوها بالأب والجد،
وإن سلكتم بها مسلكَ الميراث، فلا تُعطوها لغير وارث، وكلاهما خلاف قولكم وقولِ الناس أجمعين..
وفي كلامه أيضاً: تقديمُ ابن الأخ وإن نزلت درجتُه على الخالة التي هي أم،وهو في غاية البعد، وجمهورُ الأصحاب إنما جعلوا أولاد الإِخوة بعد أب الأب والعمات وهو الصحيح، فإن الخالة أختُ الأم، وبها تُدلي، والأمُّ مقدَّمة على الأب، وابنُ الأخ إنما يُدلي بالأخ الذي يُدلي بالأب، فكيف يقدَّمُ على الخالة، وكذا العمةُ أختُ الأب وشقيقتُه، فكيف يقدمُ ابنُ ابنه عليها.
وقد ضبط هذا البابَ شيخُنا شيخُ الإِسلام ابن تيمية بضابط آخر. فقال:أقربُ ما يُضبط به بابُ الحضانة أن يقال: لما كانت الحضانة ولايةً تعتمد الشفقة والتربية والملاطفة كان أحق الناس بها أقومَهم بهذه الصفات وهم أقاربُه يقدَّم منهم أقربهم إليه وأقومُهم بصفات الحضانة. فإن إجتمع منهم اثنان فصاعداً، فإن استوت درجتهم قُدِّم الأنثى على الذكر، فتُقدَّم الأمُّ على الأب، والجدة علىالجد، والخالة على الخال، والعمة على العم، والأخت على الأخ. فإن كانا ذكرين أو انْثَيَيْن، قُدِّمَ أحدهما بالقرعة يعني مع استواء درجتهما، وإن اختلفت درجتُهُما من الطفل، فإن كانوا من جهة واحدة، قُدمَ الأقرب إليه، فتقدَّمُ الأخت على ابنتها، والخالةُ على خالة الأبوين، وخالةُ الأبوين على خالة الجد والجدة، والجد أبو الأم على الأخ للأم، هذا هو الصحيحُ لأن جهة الأبوة والأمومة في الحضانة أقوى مِن جهة الأخوة فيها. وقيل: يقدم الأخ للأم لأنه أقوى من أب الأم في الميراث. والوجهان في مذهب أحمد.
وفيه وجه ثالث: أنه لا حضانة للأخ من الأم بحال، لأنه ليس من العصبات،
ولا من نساء الحضانة، وكذلك الخالُ أيضاً، فإن صاحب هذا الوجه يقولُ: لا حضانة له، ولا نِزاع أن أبا الأم وأمهاته أولى مِن الخال وإن كانوا من جهتين، كقرابة الأم وقرابة الأب مثل العمة والخالة، والأخت للأب، والأخت للأم، وأم الأب، وأم الأم، وخالة الأب، وخالة الأم قدِّم من في جهة الأب في ذلك كله على إحدى الروايتين فيه. هذا كلهُ إذا استوت درجتهم، أو كانت جهة الأب أقربَ إلى الطفل، وأما إذا كانت جِهةُ الأم أقرب، وقرابة الأب أبعد، كأم الأم، وأم أب الأب، وكخالة الطفل، وعمة أبيه، فقد تقابل الترجيحان، ولكن يُقدّمُ الأقربُ إلى الطفل لقوة شفقته وحنِّوه على شفقة الأبعد، ومن قَدَّم قرابةَ الأب، فإنما يُقدِّمها مع مساواةِ قرابة الأم لها، فأما إذا كانت أبعدَ منها، قُدمت قرابةُ الأم القريبة، وإلا لزم مِن تقديم القرابة البعيدة لوازم باطلة لا يقولُ بها أحد، فبهذا الضابِطِ يُمكن حصرُ جميع مسائل هذا الباب وجريها على القياس الشرعي، واطرادها وموافقتها لأصول الشرع، فأي مسألة وردت عليك أمكَن أخذُها من هذا الضابط مع كونه مقتضى الدليل، ومع سلامتِهِ من التناقض ومناقضة قياس ا لأصول، وبالله التوفيق.
فصل
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أنتِ أحق به ما لم تنكحي" فيه دليل على أن الحَضانة حقّ للأم، وقد اختلف الفقهاءُ، هل هي للحاضن أم عليه؟ على قولين في مذهب أحمد ومالك، وينبني عليهما هل لمن له الحَضانة أن يُسقِطَها فينزل عنها؟ على قولين.. وأنه لا يجب عليه خدمةُ الولد أيامَ حَضانته
إلا بالأجرة إن قلنا:الحق له، وإن قلنا الحق عليه، وجب خدمته مجاناً. وإن كان الحاضن فقيراً، فله الأجرةُ على القولين.
وإذا وهبت الحضانة للأب، وقلنا: الحق لها، لزمت الهبة ولم ترجع فيها،وإن قلنا: الحق عليها، فلها العود إلى طلبها.والفرق بين هذه المسألة وبين ما لم يثبت بعد كهبة الشفعة قبل البيع حيث لاتلز م في أحد القولين: أن الهبة في الحضانة قد وُجِدَ سببُها، فصار بمنزلة ما قد وجد، وكذلك إذا وهبت المرأةُ نفقتها لزوجها شهراً ألزمت الهبة، ولم ترجع فيها. هذا كلهُ كلام أصحابِ مالك وتفريعهم، والصحيحُ أن الحضانة حق لها، وعليها إذا احتاج الطفل إليها، ولم يُوجد غيرُها، وإن اتفقت هي، وولي الطفل على نقلها إليه جاز، والمقصودُ أن في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"أنت أحق به"، دليلاً على أن الحضانة حقّ لها.
فصل
وقوله "ما لم تنكحي"، اختلف فيه: هل هو تعليل أو توقيت، على قولين ينبغي عليهما: ما لو تزوَّجت وسقطت حضانتها، ثم طُلِّقت، فهل تعودُ الحضانة؟ فإن قيل: اللفظُ تعليل، عادت الحضانة بالطلاق، لأن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، وعلة سقوط الحضانة التزويج، فإن طلقت، زالت العلة، فزال حكمها، وهذا قولُ الأكثرين، منهم: الشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة.
ثم اختلفوا فيما إذا كان الطلاق رجعياً، هل يعودُ حقُّها بمجرده، أو يتوقف عودُها على انقضاء العدة؟ على قولين، وهما في مذهب أحمد
والشافعي، أحدهما: تعود بمجرده، وهو ظاهر مذهب الشافعي. والثاني: لا تعود حتى تنقضيَ العدةِ، وهو قول أبي جنيفة والمزني، وهذا كله تفريع على أن قوله: ما لم تنكحي " تعليل، وهو قولُ الأكثرين. وقال مالك في المشهور من مذهبه: إذا تزوجت ودخل بها، لم يَعُد حقها من الحضانة، وإن طلقت، قال بعضُ أصحابه: وهذا بناء على أن قوله: "ما لم تنكحي "، للتوقيت أي: حقك من الحضانة مُوقّت إلى حين نكاحك، فإذا نكحت، انقضى وقت الحضانة، فلا تعودُ بعد انقضاء وقتها، كما لو انقضى وقتُها ببلوغ الطفل واستغنائه عنها. وقال بعض أصحابه: يعودُ حقها إذا فارقها زوجُها، كقول الجمهور، وهو قول المغيرة، وابن أبي حازم. قالُوا: لأن المقتضي لحقها من الحضانة هو قرابتُها الخاصة، وإنما عارضها مانع النكاح لما يُوجبه من إضاعة الطفل، واشتغالها بحقوقِ الزوج الأجنبي منه عن مصالحه، ولما فيه من تغذيته وتربيته في نعمة غير أقاربه، وعليهم في ذلك مِنَّةٌ وغَضَاضَة، فإذا انقطع النكاحُ بموتٍ، أو فُرقةٍ، زال المانع، والمقتضي قائم، فترتب عليه أثره، وهكذا كُلُّ من قام به من أهل الحضانة مانع منها، ككفر، أورِق، أو فسق، أو بدو، فإنه لا حضانة له، فإن زالت الموانعُ، عاد حقُّهم من الحضانة، فهكذا النكاح والفرقة.
وأما النزاعُ في عود الحضانة بمجرد الطلاق الرجعي، أو بوقفه على انقضاء العدة، فمأخذُه كون الرجعية زوجة في عامة الأحكام، فإنه يثبت بينهما التوارثُ والنفقة، ويَصِحُّ منها الظهارُ والإيلاء: ويحرم أن يَنكحَ عليها أختها، أو عمتها، أو خالتها، أو أربعاً سواها، وهي زوجة، فمن راعى ذلك، لم تعد إليها الحضانة بمجرد الطلاق الرجعي حتى تنقضي العدة، فتبينُ حينئذ، ومن أعاد الحضانة بمجرد الطلاق، قال:
قد عزلها عن فِراشه، ولم يبق لها عليه قَسْمّ، ولا لها به شغل، والعِلة التي سقطت الحضانة لأجلها قد زالت بالطلاق، وهذا هو الذي رجحه الشيخ في "المغني " وهو ظاهر كلام الخرقي، فإنه قال: وإذا أخذ الولد من الأم إذا تزوجت ثم طلقت، رجعت على حقها من كفالته..
فصل
وقوله "ما لم تنكحي"، اختُلِفَ فيه: هل المراد به مجرد العقد، أو العقد مع الدخول؟ وفي ذلك وجهان. أحدهما: أن بمجرد العقد تزول حضانتها، وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة، لأنه بالعقد يَملِكُ الزوج منافع الاستمتاع بها، ويَملِك نفعها من حضانة الولد. والثاني: أنها لا تزول إلا بالدخول، وهو قولُ مالك، فإن بالدخول يتحقق اشتغالها عن الحضانة، والحديث يحتمل الأمرين، والأشبه سقوطُ حضانتها بالعقد، لأنها حينئذ صارت في مظنة الاشتغال عن، الولد والتهيؤ للدخول، وأخذها حينئذ في أسبابه، وهذا قولُ الجمهور.
فصل
واختلف الناسُ في سقوط الحضانة بالنكاح، على أربعة أقوال.
أحدُها: سقوطها به مطلقاً، سواء كان المحضون ذكراً، أو أنثى، وهذا مذهب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كلُ من أحفظ عنه من أهل العلم، وقضى به شريح..
والقولُ الثاني: أنها لا تسقطُ بالتزويج بحال، ولا فرق في الحضانة بين الأيِّم وذوات البعل، وحُكي هذا المذهبُ عن الحسن البصري، وهو قول أبي محمد ابن حزم.
القول الثالث: أن الطفل إن كان بنتاً لم تسقط الحضانة بنكاح أمها، وإن كان ذكراً سقطت، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله نص عليه في رواية مهنا بن يحي الشامي، فقال: إذا تزوجت الأمُّ وابنُها صغير، أُخذَ منها. قيل له: والجارية مثل الصبي؟ قال: لا، الجاريةُ تكون مع أمها إلى سبع سنين. وعلى هذه الرواية: فهل تكون عندها إلى سبع سنين أو إلى أن تبلغ؟ على روايتين. قال ابنُ أبي موسى: وعن أحمد، أن الأم أحقُّ بحضانة البنت وإن تزوجت إلى أن تبلغ.والقول الرابع: أنها إذا تزوجت بنسيب من الطفل لم تسقط حضانتها، ثم اختلف أصحاب هذا القول، على ثلاثة أقوال. أحدها: أن المشترط أن يكون الزوج نسيباً للطفل فقط، وهذا ظاهرُ قولِ أصحاب أحمد. الثاني: أنه يشترط أن يكون مع ذلك ذا رحم محرم، وهو قولُ أصحاب أبي حنيفة. الثالث: أنه يشترط أن يكون بين الزوج وبين الطفل إيلاد، بأن يكون جداً للطفل، وهذا قولُ مالك، وبعض أصحاب أحمد، فهدا تحرير المذاهب في هذه المسألة.
فأما حُجةُ مَنْ أسقط الحضانة بالتزويج مطلقاً، فثلاث حجج:إحداها، حديث عمرو بن شعيب المتقدم ذكره. الثانية: اتفاق الصحابة على ذلك، وقدُ تقدَّم قول الصدِّيق لعمر: هي أحق به ما لم تتزوج، وموافقة عمر له على ذلك، ولا مخالف لهما من الصحابة ألبتة، وقضى به شريح، والقضاة بعده إلى اليوم في سائر الأعصار والأمصار.
الثالثة: ما رواه عبد الرزاق: حدثنا ابن جريج، حدثنا أبو الزبير، عن رجل صالح من أهل المدينة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: كانت امرأةٌ من الأنصار تحتَ رجل من الأنصار، فقُتِلَ عنها يومَ أحد وله منها ولد، فخطبها عمُّ ولدها وَرَجُلٌ آخر إلى أبيها، فأنكح الآخرَ، فجاءت إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: أنكحني أبي رجلاً لا أريدُه، وترك عمَّ ولدي، فيؤخذ مني ولدي، فدعا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أباها، فقال: أنكحت فلاناً فلانة؟ قال: نعم، قال "أَنتَ الذي لا نِكَاحَ لَكَ، اذْهَبِي فَانْكِحِي عمَّ وَلَدِكِ"، فلم ينكر أخذَ الولد منها لما تزوجت، بل أنكحها عم الولد لتبقى لها الحضانة، ففيه دليل على سقوط الحضانة بالنكاح، وبقائها إذا تزوجت بنسيب من الطفل.
واعترض أبو محمد بن حزم على هذا الاستدلال، بأن حديث عمرو بن شعيب صحيفة، وحديث أبي سلمة هذا مرسل، وفيه مجهول. وهذان الاعتراضان ضعيفان، فقد بينا احتجاجَ الأئمة بعمرو في تصحيحهم حديثه، وإذا تعارض معنا في الاحتجاج برجل قولُ ابن حزم، وقولُ البخاري، وأحمد، وابن المديني، والحميدي وإسحاق بن راهويه وأمثالهم، لم تلتفت إلى سواهم.
وأما حديث أبي سلمة هذا، فإن أبا سلمة مِن كبار التابعين، وقد حكى القِصة عن الأنصارية، ولا يُنكر لقاؤه لها، فلا يتحقق الإِرسال، ولو تحقق، فمرسل جيد، له شواهد مرفوعة وموقوفة، وليس الاعتمادُ عليه وحدَه، وعنى بالمجهول الرجل الصالح الذي شهد له أبو الزبير بالصلاح، ولا رَيبَ أن هذه الشهادة لا تُعرِّفُ به، ولكن المجهول إذا عدَّله الراوي عنه الثقة ثبتت عدالته وإن كان واحداً على أصح القولين، فإن التعديلَ من باب
الإِخبار والحكم لا من باب الشهادة،؟ لا سيما التعديل في الرواية، فإنهُ يكتفى فيه بالواحد، ولا يزيد على أصل نصاب الرواية، هذا مع أن أحد القولين: إن مجرد رواية العدل عن غيره تعديل له وإن لم يصرح بالتعديل، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد، وأما إذا روى عنه وصرحِ بتعديله، فقد خرج عن الجهالة التي ترد لأجلها روايته لا سيَّما إذا لم يكن معروفاَ بالرواية عن الضعفاء والمتهمين، وأبو الزبير وإن كان فيه تدليس، فليس معروفاً بالتدليس عن المتهمين والضعفاء، بل تدليسُه من جنس تدليس السلف، لم يكونوا يُدلِّسون عن متهم ولا مجروح، وإنما كثر هذا النوعُ من التدليس في المتأخرين.
واحتج أبو محمد على قوله، بما رواه من طريق البخاري، عن عبد العزيز بن صُهيب، عن أنس قال: قَدِمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي، وانطلق بي إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله! إن أنساً غلامٌ كيِّسٌ، فَلْيَخْدُمْك. قال: فخدمتُه في السفر والحضر. وذكر الخبر.
قال أبو محمد: فهذا أنس في حضانة أمه، ولها زوج، وهو أبو طلحة بعلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا الاحتجاجُ في غاية السقوط، والخبرُ في غاية الصحة، فإن أحداً من أقارب أنس لم يُنَازعْ أمه فيه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو طفل صغير لم يَثَّغِز، ولم يأكل وحدَه، ولم يشرب وحدَه، ولم يميز، وأمه مزوجة، فحكم به لأمه، وإنما يَتمُّ الاستدلال بهذه المقدمات كلها، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قَدِمَ المدينة كان لأنس
من العمر عشرُ سنين، فكان عند أمه، فلما تزوَّجت أبا طلحة لم يأت أحدٌ من أقارب أنس يُنازعها في ولدها ويقول: قد تزوجتِ فلا حضانةَ لكِ، وأنا أطلبُ انتزاعَه مِنْكِ، ولا ريبَ أنه لا يحرم على المرأة المزوجة حضانةُ ابنها إذا اتفقت هي والزوجُ وأقارب الطفل على ذلك، ولا ريبَ أنه لا يجب، بل لا يجوزَ أن يفرّق بين الأم وولدها إذا تزوجت من غير أن يُخاصمها مَنْ له الحضانة، ويَطْلُب انتزاع الولد، فالاحتجاجُ بهذه القصة من أبعدِ الاحتجاج وأبرده.
ونظيرُ هذا أيضاً، احتجاجُهم بأن أمَّ سلمة لما تزوجت برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تسقط كفالتها لابنها، بل استمرت على حضانتها، فيا عجبا من الذى نازع أمَّ سلمة في ولدها، ورغب عن أن يكون في حجر النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
واحتج لهذا القول أيضاً بأن رسولَ الله ِصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قض بابنة حمزة لخالتها وهي مزوَّجة بجعفر، فلا ريب أن للناسِ في قصة ابنة حمزة ثلاثَ مآخذ.
أحدها: أن النكاحَ لا يُسقط الحضانة. الثاني: أن المحضونةَ إذا كانت بنتاً، فنكاحُ أمهَا لا يُسقِطُ حضانتها، ويسقِطُها إذا كان ذكراً. الثالث: أن الزوج إذا كان نسيباً من الطفل، لم تسقط حضانتها، وإلا سقطت، فالاحتجاجُ بالقصة على أن النكاحَ لا يُسقط الحضانَة مطلقاً لا يَتِمُّ إلا بعدَ إبطال ذينك الاحتمالين الآخرين.
فصل
وقضاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالولد لأمه، وقوله "أنْتِ أحَقُ بِهِ ما لَم تَنْكِحي" ، لا يُستفاد منه عمومُ القضاء لكل أمٍّ حتّى يقضِي به للأم. وإن كانت كافرة،
أو رقيقة، أو فاسقة، أو مسافِرة، فلا يَصحُّ الاحتجاج به على ذلك، ولا نفيُه، فإذا دلّ دليلٌ منفصِلٌ على اعتبار الإِسلام والحرية والديانة والإِقامة، لم يكن ذلك تخصيصاً ولا مخالفة لِظاهر الحديث.
وقد اشترط في الحاضن ستة شروط:
اتفاقهما في الدِّين، فلا حضانة لكافر على مسلم لوجهين.
أحدهما: أن الحاضن حريصٌ على تربيةِ الطفل على دينه، وأن ينشأَ عليه، ويتربَّى عليه، فيصعبُ بعد كِبره وعقله انتقاله عنه، وقد يُغيره عن فطرة الله التي فطر عليها عبادَه، فلا يُراجعها أبداً، كما قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كُلُّ مَوْلُود يولَدُ عَلى الفِطرَةِ فَأَبَواه يَهَوِّدَانِهِ أو يُنَصِّرَانِهِ، أو يُمَجِّسَانِه" فلا يُؤمن تهويدُ الحاضن وتنصيرُه للطفل المسلم.
فإن قيل: الحديثُ إنما جاء في الأبوين خاصة. قيل:الحديث خرجَ مخرج الغالِب إذ الغالب المعتادُ نشوء الطفل بين أبويه، فإن فُقِدَ الأبوانِ أو أحدُهما قامَ ولي الطفل مِن أقاربه مقامهما.
الوجه الثاني:أن اللهَ سبحانه قطعَ الموالاة بين المسلمين والكفار، وجعلَ المسلمين بعضهم أولياءَ بعض، والكفارَ بعضَهم مِن بعض، والحضانةُ مِن أقوى أسباب الموالاة التي قطعها الله بين الفريقين. وقال أهلُ الرأي، وابنُ القاسم، وأبو ثور: تثبتُ الحضانة لها مع كُفرها وإسلام الولد، واحتجُّوا بما روى النسائي في سننه، من حديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه، عن جدِّه رافع بن سنان، أنه أسلم وأبت امرأتُه أن تُسلم،
فأتت النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،فقالت: ابنتي وهي فطيمٌ أو يشبهُه، وقال رافع: ابنتي، فقال النبيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اقْعُدْ ناحِيَةً"، وقال لها:"اقْعُدِي نَاحِيَةً"،وقال لهما"ادْعُواها"، فمالت الصبيةُ إلى أمها، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،"اللهم إهدها" فمالت إلى أبيها فأخذها
قالوا: ولأن الحضانة لأمرين: الرضاعِ، وخدمةِ الطفل، وكلاهما يجوزُ من الكافرة.
قال الآخرون: هذا الحديثُ مِن رواية عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع بن سنان الأنصاري الأوسي، وقد ضعفه إمامُ العلل يحيى بن سعيد القطان، وكان سفيان الثوري يَحمِلُ عليه، وضعف ابنُ المنذر الحديث، وضعفه غيرُه، وقد اضطرب في القصة، فروَى أن المخيَّر كان بنتاً، وروَى أنه كان ابناً. وقال الشيخ في "المغنى"وأما الحديث، فقد روي على غير هذا الوجه، ولا يثبته أهل النقل. وفي إسناده مقال، قاله ابن المنذر..
ثم إن الحديث قد يحتج به على صحة مذهب من اشترط الإِسلام، فإن الصبيَّة لما مالت إلى أمها دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها بالهداية، فمالت إلى أبيها، وهذا يدل على أن كونَها مع الكافر خلافُ هُدى الله الذي أرادهُ مِن عبادِه، ولو استنكر جعلها مع أمها، لكان فيه حجة، بل أبطله الله سبحانه
بدعوة رسوله.
ومن العجب أنهم يقولون:لا حضانةَ للفاسقِ، فأيَُّ فِسق أكبر مِن الكفر؟ وأينَ الضّررُ المتوقع من الفاسق بنشوء الطفل على طريقته إلى الضرر المتوقَّع من الكافر، مع أن الصوابَ أنه لا تشترط العدالة في الحاضن قطعاً، وإن شرطها أصحاب أحمد والشافعي وغيرهم، واشتراطها في غاية البعد.
ولو اشترط في الحاضن العدالة لضاع أطفال العالم، ولعظمت المشقة على الأمة، واشتد العنتُ، ولم يزل من حين قام الإِسلام إلى أن تقومَ الساعة أطفال الفساق بينهم لا يتعرض لهم أحدٌ في الدنيا، مع كونهم الأكثرين. ومتى وقع في الإِسلام انتزاع الطفل من أبويه أو أحدهما بفسقه؟ وهذا في الحرج والعسر -واستمرارُ العمل المتصل في سائر الأمصار والأعصار على خلافه بمنزلة اشتراط العدالة في ولاية النكاح، فإنه دائمُ الوقوع في الأمصار والأعصار، والقرى والبوادي، مع أن أكثر الأولياء الذين يلون ذلك، فساق، ولم يزل الفسقُ في الناس، ولم يمنع النبيِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أحدٌ من الصحابة فاسقاً من تربية ابنه وحضانته له، ولا مِن تزويجه مولِّيته، والعادةُ شاهدة بأن الرجل ولو كان من الفساق، فإنه يحتاط لابنته، ولا يُضيعها، ويحرص على الخير لها بجهده، وإن قُدِّرَ خلاف ذلك، فهو قليل بالنسبة إلى المعتاد، والشارع يكتفي في ذلك بالباعث الطبيعي، ولو كان الفاسق مسلوبَ الحضانة، وولاية النكاح، لكان بيانُ هذا للأمة من أهم الأمور، واعتناء الأمة بنقله، وتوارث العملِ به مقدّماً على كثير مما نقلوه، وتوارثوا العمل به، فكيف يجوز عليهم تضييعُه واتصالُ العمل بخلافه. ولو كان الفِسق !ينافي الحضانة، لكان من زنى أو شرب خمراً، أو أتى كبيرةً، فرق بينه وبين أولاده الصغار، والتمِسَ لهم غيره والله أعلم.
نعم، العقل مشترط في الحضانة، فلا حضَانة لمجنون ولا معتوه ولا طفل، لأن هؤلاء يحتاجون إلى من يحضنُهم ويكفُلُهم، فكيف يكونون كافلين لغيرِهم.
وأما اشتراطُ الحرية، فلا ينتهِضُ عليه دليلٌ يَركَنُ القلب إليه، وقد اشترطه أصحابُ الأئمه الثلاثة. وقال مالك في حُرٍّ له ولد مِن أمة:إن الأم أحقُ به إلا أن تباع، فتنتقل، فيكون الأب أحق بها، وهذا هو الصحيح، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال "لا تُوَلَّهُ والدَةٌ عن وَلِدِهَا" ,وقال "مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الوالدة وَوَلَدِهَا، فَرقَ اللهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ أحِبَّتِهِ يَوْمَ القِيامَةِ" وقد قالوا: لا يجوزُ التفريقُ في البيع بين الأمِّ وولدها الصغير فكيف يُفرِّقون بينهما في الحضانة؟ وعمومُ الأحاديث تمنعُ مِن التفريق مطلقاً في الحضانة والبيع، واستدلاَلُهم بكون منافِعها مملوكةً للسيد، فهي مستغرِقَة في خدمته، فلا تَفرُغُ لِحَضانةِ الولد ممنوع، بل حَقُّ الحَضانةِ لها، تُقدَّم به في أوقات حاجة الولد على حقِّ السيد، كما في البيع سواء. وأما اشتراطُ خلوها من النكاح، فقد تقدم.
وهاهنا مسألة ينبغي التنبيهُ عليها وهي أنا إذا أسقطنا حقَّها مِن الحضانة بالنكاح، ونقلناها إلى غيرها فاتُّفِق أنه لم يكن له سِواها، لم يَسقُطْ حقُها من الحضانة، وهي أحقُّ به من الأجنبي الذي يدفعه القاضي إليه، وتربيته في حجر أمه ورأيه أصلحُ مِن تربيته في بيتِ أجنبي محض
لا قرابة بينهما توجِب شفقته ورحمته وحنُوّه، ومنَ المحالِ أن تأتيَ الشريعة بدفع مفسدة بمفسدة أعظمَ منها بكثير، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يحكم حكماً عاماً كلياً: أن كل امرأة تزوجت سقطت حضانتُها في جمِيع الأحوال حتى يكونَ إثباتُ الحضانة للأم في هذه الحالة مخالفة للنص.
وأما اتحاد الدار، فإن كان سفرُ أحدهما لحاجة، ثم يعود والآخر مقيم، فهو أحقُّ به، لأن السفر بالولد الطفل ولا سيما إن كان رضيعاً إضرارٌ به وتضييعٌ له، هكذا أطلقوه، ولم يستثنوا سفرَ الحج من غيره، وإن كان أحدهما منتقلاً عن بلد الآخر للإِقامة، والبلدُ وطريقُه مخوفان، أو أحدهُما، فالمقيمُ أحقُّ، وإن كان هو وطريقُه آمنين، ففيه قولانِ، وهما روايتان عن أحمد، إحداهما أن الحضانةَ للأب ليتمكن من تربية الولد وتأديبه وتعليمِه، وهو قولُ مالك والشافعي، وقضى به شريح. والثانية: أن الأم أحقُّ. وفيها قول ثالث: أن المنتقل إن كان هو الأب، فالأمُّ أحقُّ به، وإن كان الأم، فإن انتقلت إلى البلد الذي كان فيه أصلُ النكاح فهي أحقُّ به، وإن انتقلت إلى غيره، فالأبُ أحق، وهو قول الحنفية.وحكوا عن أبي حنيفة رواية أخرى أن نقلها إن كان من بلد إلى قرية، فالأبُ أحق، وإن كان من بلدٍ إلى بلد، فهي أحق، وهذه أقوالٌ كُلها كما ترى لا يقوم عليها دليلٌ يسكن القلبُ إليه، فالصوابُ النظر والاحتياط للطفل في الأصلح له والأنفع مِن الإِقامة أو النقلة، فأيُّهما كان أنفعَ له وأصونَ وأحفظَ، روعي، ولا تأثيرَ لإِقامة ولا نقلة، هذا كلُّهُ ما لم يُرِدْ أحدُهما بالنقلة مضارةَ الآَخر، وانتزاعَ الولد منه. فإن أراد ذلك، لم يُجب إليه، والله الموفق.
فصل
وقوله "أنتِ أحق به ما لم تَنكحي"، قيل: فيه إضمارٌ تقديره: ما لم تنكحي، ويدخلْ بك الزوج، ويحكم الحاكم بسقوط الحضانة. وهذا تعسف بعيد لا يُشعرُ به اللفظ، ولا يدل عليه بوجه، ولا هو من دلالة الاقتضاء التي تتوقف صحةُ المعنى عليها، والدخولُ داخل في قوله"تنكحي"، عند من اعتبره، فهو كقوله"حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهً"، ومن لم يعتبره، فالمراد بالنكاح عنده العقد.
وأما حكمُ الحاكم بسقوط الحضانة، فذاك إنما يحتاجُ إليه عند التنازع والخصومة بين المتنازعين، فيكون منفذاً لِحكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوقفَ سقوطَ الحضانة على حكمه، بل قد حكم هو بسقوطها، حَكَمَ به الحُكَّام بعده أو لم يحكمُوا. والذي دل عليه هذا الحكمُ النبوي، أن الأمَّ أحقُّ بالطفل ما لم يُوجد منها النكاحُ، فإذا نكحت، زال ذلك الاستحقاقُ، وانتقل الحقُّ إلى غيرها. فأما إذا طلبه من له الحق، وجب على خصمه أن يبذله له، فإن امتنع، أجبره الحاكمُ عليه، وإن أسقط حقَّه، أو لم يطالب به، بقي على ما كان عليه أولاً، فهذه قاعدة عامة مستفادَة من غير هذا الحديث.
فصل
وقد احتج من لا يرى التخييرَ بين الأبوين بظاهر هذا الحديثِ، ووجهُ الاستدلال أنه قال "أنت أحق به"، ولو خُيِّرَ الطفل لم تكن
هي أحقَّ به إلا إذا اختارها، كما أن الأبَ لا يكون أحقَّ به إلا إذا اختاره، فإن قدر: أنت أحقّ به إن اختارك، قُدِّرَ ذلكَ في جانب الأب، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلها أحقَّ به مطلقاً عند المنازعة، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك. ونحن نذكر هذه المسألة:ومذاهب الناس فيها، والاحتجاج لأقوالهم، ونرجح ما وافق حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذكر قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأته، فذكر الأثرَ المتقدم، وقال فيه: ريحُها وفراشُها خير له منك حتى يَشِبَّ ويختار لنفسه، فحكم به لأمِّه حين لم يكن له تمييزٌ إلى أن يَشبَّ ويُميز ويخير حينئذ.
ذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال الشافعي:حدثنا ابن عيينة، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن إسماعيل بن عُبيد الله بن أبي المهاجر، عن عبد الرحمن بن غَنم، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.خَيَّرَ غلاماً بين أبيه وأمه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج،عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال:خيرَ عمر رضي الله عنه غلاماً ما بينَ أبيه وأمه، فاختار أمّه، فانطلقت به.
وذكر عبد الرزاق أيضاً:عن معمر، عن أيوب، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن عبد الرحمن بن غنم، قال: اختُصمَ إلى عمرَ بنِ الخطاب في غلام، فقال: هو مع أمه حتى يُعْرِبَ عنه لِسانُه ليختار.
وذكر سعيد بن منصور عن هشيم، عن خالد، عن الوليد بن مسلم، قال: اختصموا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في يتيم فخيَّره، فاختار أمه على عمه، فقال عمر: إنَّ لُطْفَ أمك خيرٌ مِن خِصب عمِّكَ.
ذكر قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: أنبأنا ابن عيينة، عن يونس بن عبد الله الجَرْمي، عن عمارة الجرمي، قال:خيرني علي بين أمي وعَمّي، ثم قال لأخ لي أصغر مني: وهذا أيضاً لو بلغ مبلغ هذا لخيرتُه.
قال الشافعي رحمه الله.قال إبراهيم:عن يونس عن عمارة عن علي مثله قاله في الحديث: وكنتُ ابن سبع سنين، أو ثمانِ سنين.
قال يحيى القطان: حدثنا يونس بنُ عبدِ الله الجرمي، حدثني عُمارة ابن رويبة، أنه تخاصمَتْ فيه أمُّه وعمُّه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: فخيرني علي ثلاثاً، كُلَّهُنَّ أختارُ أمي، ومعي أخٌ لي صغير، فقال علي: هذا إذا بلغ مبلغ هذا خُيِّر.
ذكر قول أبي هريرة رضي الله عنه
قال أبو خيثمة زهير بن حرب: حدثنا سفيانُ بنُ عيينة، عن زياد بن سعد، عن هِلال بن أبي ميمونة قال: شهدت أبا هريرة خيَّر غلاماً بين أبيه وأمه، وقال:إنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ غُلاماً بينَ أبيه وأمه.
فهذا ما ظفرت به عن الصحابة.وأما الأئمة، فقال حرب بن
إسماعيل: سألت إسحاق بن راهويه، إلى متى يكون الصبيُّ والصبية مع الأم إذا طلِّقت؟ قال أحَبُّ إليَّ أن يكونَ مع الأم إلى سبع سنين، ثم يُخيَّر. قلت له: أترى التخيير؟ قال شديداً.قلت: فأقلّ مِن سبع سنين لا يُخير؟ قال: قد قال بعضهم: إلى خمس، وأنا أحَبُّ إليَّ سبع.
وأما مذهب الإِمام أحمد، فإما أن يكونَ الطفلُ ذكراً أو أنثى، فإن كان ذكراً، فإما أن يكونَ ابنَ سبع أو دونَها، فإن كان له دون السبع، فأمُّه أحقُّ بحضانته من غير تخيير، وإن كان له سبعٌ، ففيه ثلاث روايات.
إحداها- وهي الصحيحة المشهورة من مذهبه- أنه يخير، وهي اختيار أصحابِه، فإن لم يختر واحداً منهما، أقرع بينهما، وكانَ لمن قرع، وإذا اختار أحدَهما، ثم عاد فاختار الآخر، نقل إليه، وهكذا أبداً.
والثانية: أن الأبَ أحقُّ بهِ مِن غير تخيير.
والثالثة: أن الأم أحق به كما قبل السبع. وأما إذا كان أنثى، فإن كان لها دونَ سبع سنين، فأمّها أحقُّ بها من غير تخيير، وإن بلغت سبعاً، فالمشهورُ من مذهبه، أن الأمّ أحقُّ بها إلى تسع سنين، فإذا بلغت تسعاً، فالأبُ أحقُّ بها من غير تخيير.
وعنه رواية رابعة: أن الأمّ أحقٌ بها حتى تبلغ، ولو تزوجت الأم.
وعنه رواية خامسة: أنها تخير بعد السبع كالغلام، نصَّ عليها، وأكثر أصحابه إنما حكوا ذلك وجهاً في المذهب، هذا تلخيصُ مذهبه وتحريرُه.
وقال الشافعي: الأمُّ أحقُ بالطفل ذكراً كان أو أنثى إلى أن يبلُغا سبع سنين، فإذا بلغا سبعاً وهما يعقِلان عقل مثلهما، خيِّرَ كُلّ منهما بينَ أبيه وأمه، وكان مع من اختار.
وقال مالك وأبو حنيفة لا تخيير بحال، ثم اختلفا فقال أبو حنيفة، الأمّ أحق بالجارية حتى تبلغ، وبالغلام حتى يأكل وحده، ويشربَ وحدَه، ويلبسَ وحده، ثم يكونان عند الأب، ومن سوى الأبوين أحقُّ بهما حتى يستغنيا، ولا يُعتبر البلوغ، وقال مالك: الأمُّ أحقُ بالولد ذكراً كان أو أنثى حتى يثَّغِر،هذه رواية ابن وهب، وروى ابنُ القاسم: حتى يَبْلُغَ، ولا يُخيَّرُ بحال.
وقال الليثُ بن سعد: الأمُّ أحقُّ بالابن حتى يَبْلُغَ ثمان سنين، وبالبنت حتى تبلغ، ثم الأبُ أحقُّ بهما بعد ذلك.
وقال الحسنُ بن حَي: الأمُ أولى بالبنت حتى يَكْعُبَ ثدياها، وبالغلام حَتَى يَيْفَعَ، فيُخيران بعدَ ذلك بين أبويهما، الذكرُ والأنثى سواء.
قال المخيِّرون في الغلام دون الجارية: قد ثبت التخييرُ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغلام، من حديث أبي هريرة:وثبت عن الخلفاء الراشدين، وأبي هريرة، ولا يُعرف لهم مخالفٌ في الصحابة ألبتة، ولا أنكره منك. قالوا: وهذا غايةٌ في العدل الممكن، فإن الأمَّ إنما قُدِّمتْ في حال الصغر لحاجة الولد إلى التربية والحمل والرضاع والمداراة التي لا تتهيأ لِغير النساء، وإلا فالأمُّ أحد الأبوين، فكيف تُقدَّم عليه؟ فإذا بلغ الغلام حداً يُعْرِبُ فيه عن نفسه، ويستغني عن الحمل والوضع وما تُعانيه النساء، تساوى الأبوانِ، وزال السببُ الموجبُ لتقديم الأم، والأبوانِ متساويانِ فيه، فلا يُقَدَّمُ أحدُهما إلا بمرجِّح، والمرجِّحُ إما من خارج، وهو القرعةُ، وإما من جهة الولد، وهو اختيارُه، وقد جاءت السنةُ بهذا وهذا، وقد جمعهما حديثُ أبي هريرة، فاعتبرناهما جميعاَ، ولم ندفع أحدهما بالآخر.
وقدمنا ما قدمه النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخّرنا ما أخره، فقدم التخييرُ، لأن القُرعة
إنما يُصار إليها إذا تساوت الحقوقُ مِن كل وجه، ولم يبق مرجِّحٌ سواها، وهكذا فعلنا هاهنا قدمنا أحدَهما بالاختيار، فإن لم يختر، أو اختارهما جميعاً، عدلنا إلى القُرعة، فهذا لو لم يكن فيه موافقة السنة، لكان مِن أحسن الأحكام، وأعدلها، وأقطعها للنزاع بتراضي المتنازعين. وفيه وجه آخر في مذهب أحمد والشافعي: أنه إذا لم يختر واحداً منهما كان عند الأم بلا قُرعة، لأن الحضانة كانت لها، وإنما ننقلُه عنها باختياره، فإذا لم يختر، بقي عندها على ما كان.
فإن قيل: فقد قدمتُمُ التخييرَ على القُرعة، والحديث فيه تقديمُ القُرعة أولاً، ثم التخيير، وهذا أولى، لأن القرعة طريق شرعي للتقديم عند تساوي المستحقين، وقد تساوى الأبوانِ، فالقياسُ تقديمُ أحدهما بالقُرعة، فإن أبيا القُرعة، لم يبق إلا اختيارُ الصبي، فيُرجح به، فما بالُ أصحابِ أحمد والشافعي قدَّموا التخييرَ على القرعة.
قيل: إنما قُدّمَ التخيير، لاتفاق ألفاظِ الحديث عليه، وعملِ الخلفاء الراشدين به، وأما القُرعة، فبعضُ الرواة ذكرها في الحديث، وبعضُهم لم يذكرها، وإنما كانت في بعضِ طُرق أبي هريرة رضي الله عنه وحده، فَقُدِّمَ التخييرُ عليها، فإذا تعذر القضاء بالتخيير، تعينت القُرعة طريقاً للترجيح إذ لم يبق سواها.
ثمَّ قال المخيرون للغلام والجارية: روى النسائي في "سننه"، والإِمام أحمد في "مسنده" من حديث رافع بن سنان رضي الله عنه أنه تنازع هو وأمٌّ في ابنتهما، وأن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقعَده ناحية، وأقعد المرأة ناحية، وأقعد الصبيةَ بينهما، وقال: "ادْعُوَاها" ، فمالَت إلى أُمِّها فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"اللهُمَّ اهْدِهَا" فمَالَت إلى أَبِيهَا فَأَخَذَهَا قالُوا: ولو لم يَرِدْ هذا الحديثُ لكان حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه، والآثار المتقدمة حجةً في تخيير الأنثى، لأن كون الطفل ذكراً لا تأثير له في الحكم، بل هي كالذكر في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ وَجَدَ مَتَاعه، عِنْدَ رَجُل قَدْ أَفْلَسَ" وفي قوله "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً لَهُ في عَبْدٍ"، بل حديثُ الحَضَانة أولى بعدم اشتراط الذكورية فيه، لأن لَفظ الصَبي ليس مِن كلام الشارع، إنما الصحابيُّ حكى القِصة، وأنها كانت في صبي، فإذا نُقِّحَ المناطُ تبين أنه لا تأثير، لكونه ذكراً.
قالت الحنابلة: الكلامُ معكم في مقامين، أحد هما: استدلالُكم بحديثِ رافع، والثاني: إلغاؤكم وصفَ الذكورية في أحاديث التخيير.
فأما الأول، فالحديثُ قد ضعّفه ابنُ المنذر وغيرُه، وضعف يحيى بن سعيد والثوري عبدَ الحميد بن جعفر، وأيضاً لقد اختلف فيه على قولين. أحدهما: أن المخيَّر كان بنتاً، وروي: أنه كان ابناً. فقال عبد الرزاق: أخبرنا سفيان، عن عثمان البتي، عن عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه، عن جده، أن أبويه اختصما إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحدهما مسلم، والآخرُ،كافر، فتوجه إلى الكافر، فقال النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اللهُمَّ اهْدِهِ "، فتوجه إلى المسلم، فقضى، له به.
قال أبو الفرج ابن الجوزي: ورواية من روى أنه كان غلاماً أصحُّ.. قالوا: ولو سلم لكم أنه كان أنثى، فأنتم لا تقولون به، فإن فيه أن أحدهما كان مسلماً،
والآخر كافراً، فكيف تحتجون بما لا تقولون به.
قالوا: وأيضاً فلو كانا مسلمين، ففي الحديث أن الطفل كان فطيماً، وهذا قطعاً دون السبع، والظاهر أنّه دون الخمس، وأنتم لا تُخيرون من له دون السبع، فظهر أنه لا يُمكنكم الاستدلالُ بحديث رافع هذا على كل تقدير.
فبقي المقام الثاني، وهو إلغاء وصف الذكورة في أحاديث التخيير وغيرها، فنقول. لاريب أن مِن الأحكام ما يكفي فيها وصفُ الذكورة، أو وصفُ الأنوثة قطعاً، ومنها ما لا يكفي فيه، بل يُعتبر فيه إمّا هذا وإمّا هذا، فيُلغى الوصف في كل حكم تعلَّق بالنوع الإِنساني المشترك بين الأفراد، ويُعتبر وصفُ الذكورة في كل موضع كان له تأثير فيه، كالشهادة والميراث، والولاية في النكاح، ويعتبر وصفُ الأنوثة في كلِّ موضع يختصُّ بالإناث، أو يُقدمن فيه على الذكور، كالحضانة، إذا استوى في الدرجة الذكرُ والأنَثى، قُدِّمت الأنثى.بقي النظر فيما نحن فيه من شأن التخيير، هل لِوصف الذكورة تأثيرٌ في ذلك فيُلحق بالقسم الذي تعتبر فيه، أو لا تأثير له فيلحق بالقسم الذي يلغى فيه؟ ولا سبيل إلى جعلها من القسم الملغى فيه وصفُ الذكورة، لأن التخيير هاهنا تخيير شهوة، لا تخيير رأي ومصلحة، ولهذا إذا اختار غيرَ مَن اختاره أولاً، نقل إليه، فلو خيرت البنت، أفضى ذلك إلى أن تكونَ
عند الأب تارة، وعند الأم أخرى، فإنها كلما شاءت الانتقال، أجيبت إليه، وذلك عكسُ ما شرع للإِناث مِن لزوم البيوت، وعدمِ البروز، ولزوم الخدور وراء الأستار، فلا يليقُ بها أن تمكن مِن خلاف ذلك. وإذا كان هذا الوصفُ معتبراً قد شهد له الشرعُ بالاعتبار لم يمكن إلغاؤه.
قالوا: وأيضاً فإن ذلك يُفضي إلى ألا يبقى الأبُ موكّلاً بحفظها، ولا الأم لتنقُّلِها بينهما، وقد عُرِفَ بالعادة أن ما يتناوبُ الناسُ على حفظه، ويتواكلون فيه، فهو آيل إلى ضياع، ومن الأمثال السائرة "لا يصلُحُ القِدْرُ بَيْنَ طَبَّاخَيْنِ".
قالوا: وأيضاً فالعادة شاهدة بأن اختيار أحدهما يُضعف رغبة الآخر فيه بالإِحسان إليه وصيانته، فإذا اختار أحدَهما، ثم انتقل إلى الآخر لم يبق أحدُهما تامَ الرغبة في حفظه والإِحسان إليه.
فإن قلتم: فهذا بعينه موجودٌ في الصبي، ولم يمنع ذلك تخييره. قلنا: صدقتم لكن عارضَه كونُ القلوب مجبولةً على حُبِّ البنين، واختيارِهم على البناتِ، فإذا اجتمع نقصُ الرغبة،. ونقصُ الأنوثة، وكراهةُ البنات في الغالب، ضاعت الطِّفلَةُ، وصارت إلى فسَاد يَعْسُرُ تلافِيه، والواقعُ شاهِدٌ بهذا، والفقه تنزيل المشروع على الواقع، وسِرّ الفرق أن البنتَ تحتاجُ مِن الحفظ والصيانةِ فوقَ ما يحتاجُ إليه الصبيُّ، ولهذا شُرِعَ في حق الإِناثِ مِنَ الستر والخَفَرِ ما لم يُشرع مثلُه للذكور في اللباس وإرخاء الذيل شِبراً أو أكثر، وجمع نفسِها في الركوع والسجود دونَ التجافي، ولا ترفعُ صوتَها بقراءة القرآن، ولا تَرْمُلُ في الطواف، ولا تتجرَّدُ في الإِحرام عن المخيط، ولا تكشِفُ رأسها، ولا تُسافِرُ وحدَها، هذا كلّهُ مع كبرها ومعرفتها، فكيف إذا كانت في سنِّ الصغر. وضعفِ العقل الذي
يقبل فيه الانخداع؟ ولا ريب أن تردّدَها بين الأبوينِ مما يعودُ على المقصود بالإِبطال، أو يُخِلُّ به، أو يَنْقُصُه لأنها لا تستقِر في مكان معين، فكان الأصلحُ لها أن تجعل عند أحد الأبوين من غير تخيير، كما قاله الجمهور: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، فتخييرُها ليس منصوصاً عليه، ولا هو في معناه فيلحق به.
ثم هاهنا حصل الاجتهادُ في تعيينِ أحدِ الأبوين لمقامها عنده، وأيهما أصلحُ لها، فمالك، وأبو حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين عنه: عيَّنوا الأم، وهو الصحيحُ دليلاً، وأحمد رحمه الله في المشهور عنه، واختيارُ عامة أصحابه عيَّنوا الأبَ.قال مَن رجَّح الأم: قد جرت العادةُ بأن الأبَ يتصرَّف في المعاش، والخروج، ولقاءِ الناسِ، والأمُّ في خِدرها مقصورة في بيتها، فالبنت عندها أصونُ وأحفظ بلا شك، وعينُها عليها دائماً بخلاف الأبِ، فإنه في غالب الأوقات غائبٌ عن البنت، أو في مَظِنَّةِ ذلك، فجعلُها عند أمها أصونُ لها وأحفظ.
قالوا: وكل مفسدة يعرِضُ وجودُها عند الأم، فإنها تَعرِضُ أو أكثرُ منها عند الأب، فإنه إذا تركها في البيت وحدَها لم يأمن عليها، وإن ترك عندها امرأته أو غيرها، فالأم أشفَقُ عليها وأصونُ لها من الأجنبية.
قالوا: وأيضاً فهي محتاجة إلى تعلُم ما يصلُح للنساء من الغزل والقيامِ بمصالحِ البيت، وهذا إنما تقوم به النساءُ لا الرجال، فهي أحوجُ إلى أمها لتعلمها ما يصلح للمرأة، وفي دفعها إلى أبيها تعطيلُ هذه المصلحة، وإسلامها إلى امرأة أجنبية تُعلِّمها ذلك، وترديدها بين الأم وبينه، وفي ذلك تمرين لها على البروز والخروج، فمصلحةُ البنت والأم والأبِ أن تكونَ
عند أمها، وهذا القولُ هو الذي لا نختار سواه.
قال من رجح الأب: الرجالُ أغيرُ على البنات مِن النِساء، فلا تستوي غيرةُ الرجل على ابنته، وغيرةُ الأم أبداً، وكم مِن أمٍّ تُساعِدُ ابنتها على ما تهواه، ويحملُها على ذلك ضعفُ عقلها، وسُرعةُ انخداعها، وضعفُ داعي الغيرةِ في طبعها، بخلافِ الأب، ولهذا المعنى وغيرِه جعل الشارعُ تزويجَها إلى أبيها دونَ أمها، ولم يجعل لأمها ولاية على بُضعها البتة، ولا على مالها، فكان مِن محاسن الشريعة أن تكون عند أمِّها ما دامت محتاجةً إلى الحضانة والتربية، فإذا بلغت حداً تُشتهى فيه، وتصلحُ للرجالِ، فَمِنْ محاسِن الشريعة أن تكونَ عند من هو أغيرُ عليها، وأحرصُ على مصلحتها، وأصونُ لها من الأم.قالوا: ونحن نرى في طبيعة الأب وغيره من الرجال من الغَيْرَةِ، ولو مع فسقه وفجوره ما يحمله على قتل ابنته وأخته وموليته إذا رأى منها ما يُريبه لِشدة الغيرة، ونرى في طبيعة النساء من الانحلال والانخداع ضدَّ ذلك، قالوا: فهذا هو الغالبُ على النوعين، ولا عبرة بما خرج عن الغالب، على أنا إذا قدمنا أحد ا الأبوين فلا بد أن نُراعي صيانته وحفظَه للطفل، ولهذا قال مالك والليث: إذا لم تحن الأم في موضع حرزٍ وتحصين، أو كانَتْ غيرَ مرضية، فللأب أخذُ البنت منها، وكذلك الإِمامُ أحمد رحمه الله في الرواية المشهورة عنه، فإنه يعتبر قدرتَه على الحفظ والصيانة. فإن كان مهملاً لذلك، أو عاجزاً عنه، أو غيرَ مرضي، أو ذا دِياثة والأم بخلافه، فهي أحقُّ بالبنتِ بلا ريب، فمن قدمناه بتخيير أو قرُعة أو بنفسه، فإنما نُقدِّمه إذا حصلت به مصلحة الولد، ولو كانت الأم أصون مِن الأب وأغيرَ منه قدمت عليه، ولا التفات إلى قرعة ولا اختيار الصبي في هذه الحالة، فإنه ضعيفُ العقل يؤثِرُ البطالة واللعب، فإذا اختار
من يُساعِدُهُ على ذلك، لم يُلتفت إلى اختياره، وكان عند من هو أنفعُ له وأخيرُ، ولا تحتمِلُ الشريعة غيرَ هذا، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قال : "مُرُوهُم بِالصَّلاةِ لِسَبْعٍ واضْرِبُوهُم عَلى تَرْكِها لِعَشْرٍ وفَرِّقُوا بَينَهُم في المَضَاجِع"
والله تعالى يقول: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفسُكُم وأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارَةُ} [التحريم: 6]. وقال الحسن: علِّموهُم وأدبوهم وفقهوهم، فإذا كانت الأم تتركُه في المكتب، وتعلمه القرآن والصبيُّ يؤثر اللعب ومعاشرةَ أقرانه، وأبوهُ يُمكنه مِن ذلك، فإنه أحق به بلا تخيير، ولا قرعة، وكذلك العكسُ، ومتى أخل أحدُ الأبوين بأمر الله ورسوله في الصبي وعطَّله، والآخر مُراعٍ له، فهو أحق وأولى به.
وسمعت شيخنا رحمه الله يقول: تنازع أبوان صبياً عند بعض الحكام، فخيَّرَهُ بينهما، فاختار أباه، فقالت له أمه: سَلْهُ لأي شيء يختار أباه، فسأله، فقال: أمي تبعثني كل يوم للكتاب، والفقيه يضربني، وأبي يتركني للعب مع الصبيان، فقضى به للأم. قال: أنتِ أحق به.
قال شيخنا: وإذا ترك أحدُ الأبوين تعليم الصبي، وأمره الذي أوجبه الله عليه، فهو عاصٍ، ولا وِلاية له عليه، بل كُلُّ من لم يقم بالواجب في ولايته، فلا ولاية له، بل إما أن تُرفع يدُه عن الولاية ويُقام من يفعل الواجب، وإما أن يُضم إليه مَنْ يقومُ معه بالواجب، إذ المقصودُ طاعةُ الله ورسوله بحسب الإِمكان. قال شيخنا: وليس هذا الحقُّ من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم، والنكاح، والولاء، سواء كان الوارث فاسقاً أو صالحاً، بل هذا مِن جنس الولاية التي لا بُدَّ فيها من القدرة على الواجب والعلم به، وفعله بحسب الإِمكان. قال: فلو قدر أن الأب تزوج
امرأة لا تراعي مصلحة ابنته، ولا تقوم بها وأمها أقوم بمصلحتها من تلك الضرة، فالحضانة للأم قطعاً، قال: ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس عنه نص عام في تقديم أحد الأبوين مطلقاً، ولا تخيير الولد بين الأبوين مطلقاً، والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقاً، بل لا يقدم ذو العُدوان والتفريط على البَرِّ العادل المحسن، والله أعلم.
قالت الحنفية والمالكية: الكلامُ معكم في مقامين، أحدهما: بيان الدليل الدال على بطلان التخيير، والثاني: بيانُ عدم الدلالة في الأحاديث التي استدللتم بها على التخيير، فأما الأول: فيدُل عليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أنت أحق به" ، ولم يُخيره. وأما المقامُ الثاني: فما رويتُم مِن أحاديث التخيير مطلقة لا تقييد فيها، وأنتم لا تقولون بها على إطلاقها، بل قيدتم التخيير بالسبع، فما فوقها، وليس في شيء من الأحاديث مَا يدُلُّ على ذلك، ونحن نقول: إذا صار للغلام اختيار معتبر، خيَرَ بين أبويه، وإنما يعتبر اختيارُه إذا اعتبر قوله، وذلك بعد البلوغ، وليس تقييدكم وقتَ التخيير بالسبع أولى مِن تقييدنا بالبلوغ، بل الترجيحُ مِن جانبنا، لأنه حينئذ يعتبَرُ قولُه ويدل عليه قولها "وقد سقاني من بئر أبي عنبة"، وهي على أميال من المدينة، وغيرُ البالغ لا يتأتى منه عادةً أن يَحْمِلَ الماءَ مِن هذهِ المسافة ويستقي من البئر، سلمنا أنه ليس في الحديث ما يدل على البلوغ، فليس فيه ما ينفيه، والواقعةُ واقعة عين، وليس عن الشارع نص عام في تخيير من هو دونَ البلوغ حتى يجبَ المصيرُ إليه، سلمنا أنه فيه ما ينفي البلوغ، فمن أين فيه ما يقتضي التقييدَ بسبع كما قلتم؟
قالت الشافعية والحنابلة ومن قال بالتخيير: لا يتأتَّى لكم الاحتجاجُ بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أنتِ أحقُ به ما لم تَنكِحي"، بوجه من الوجوه، فإن منكم
من يقول: إذا استغنى بنفسه، وأكل بنفسه، وشرب بنفسه، فالأبُ أحقُّ به بغير تخيير، ومنكم من يقول: إذا اثَغَرَ، فالأبُ أحق به.
فنقول: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حكم لها به ما لم تنكح، ولم يفرق بين أن تَنْكِحَ قبل بلوغ الصبيِّ السِّنَّ الذي يكون عنده أو بعده، وحينئذ فالجوابُ يكون مشتركاً بيننا وبينكم، ونحن فيه على سواء، فما أجبتُم به، أجاب به منازعوكم سواء، فإن أضمرتُم أضمرُوا، وإن قيَدتُم قيَّدوا، وإن خَصَّصْتُمْ خصَّصُوا. وإذا تبين هذا، فنقول: الحديث اقتضى أمرين.
أحدهما: أنها لا حقَّ لها في الولد بعد النكاح. والثاني: أنها أحق به ما لم تنكح، وكونها أحق به له حالتان، إحداهما: أن يكون الولدُ صغيراً لم يميز، فهي أحق به مطلقاً مِن غير تخيير. الثاني: أن يبلغ سِنَّ التمييز، فهي أحقُّ به أيضاً، ولكن هذه الأولوية مشروطة بشرط، والحكم إذا عُلقَ بشرطٍ صدق إطلاقُه اعتماداً على تقدير الشرط، وحينئذ فهي أحقُّ به بشرط اختياره لها، وغايةُ هذا أنه تقييد للمطلق بالأدلة الدالةِ على تخييره. ولو حمل على إطلاقه، وليس بممكن ألبتة، لاستلزم ذلك إبطالَ أحاديث التخيير، وأيضاً فإذا كنتم قيدتموه بأنها أحق به إذا كانت مقيمة وكانت حرة ورشيدة وغير ذلك من القيود التي لا ذكر لشيء منها في الأحاديث ألبتة، فتقييدُه بالاختيار الذي دلت عليه السنة، واتفق عليه الصحابةُ أولى.
وأما حملكم أحاديث التخيير على ما بعد البلوغ، فلا يصح لخمسة أوجه.
أحدها: أن لفظ الحديث أنه خيَّر غلاماً بين أبويه، وحقيقةُ
الغلام من لم يبلُغ، فحمله على البالغ إخراج له عن حقيقته إلى مجازه بغير موجب، ولا قرينة صارفة.
الثاني: أن البالغَ لا حضانة عليه، فكيف يَصِحُّ أن يخير ابنُ أربعين سنة بين أبوين؟ هذا مِن الممتنع شرعاً وعادة، فلا يجوز حملُ الحديث عليه.
الثالث: أنه لم يفهم أحدٌ من السامعين أنهم تنازعُوا في رجل كبير بالغ عاقل، وأنه خُيِّر بين أبويه، ولا يسبق إلى هذا فهمُ أحد ألبتة، ولو فرض تخييرُه، لكان بين ثلاثة أشياء: الأبوين، والانفراد بنفسه.
الرابع: أنه لا يُعقل في العادة ولا العرف ولا الشرع أن تنازع الأبوان في رجل كبير بالغٍ عاقل، كما لا يعقلُ في الشرع تخييرُ من هذه حاله بين أبويه.
الخامس: أن في بعض ألفاظِ الحديث أن الولد كان صغيراً لم يبلغ ذكره النسائي، وهو حديثُ رافع بن سنان، وفيه: فجاء ابن لها صغير لم يبلغ، فأجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأب هاهنا، والأم هاهنا ثم خيَّره.
وأما قولكم: إن بئر أبي عنبة على أميال من المدينة، فجوابُه مطالبتكم أولاً: بصحة هذا الحديث ومَن ذكره، وثانياً: بأن مسكن هذه المرأة كان بعيداً مِن هذه البئر، وثالثاً، بأن من له نحو العشر سنين لا يمكنه أن يستقي من البئر المذكور عادة، وكُلُ هذا مما لا سبيل إليه، فإن العرب وأهلَ البوادي يستقي أولادُهم الصغار مِن آبار هي أبعدُ من ذلك.
وأما تقييدنا له بالسبع، فلا ريب أن الحديث لا يقتضي ذلك، ولا هو أمرٌ مجمع عليه، فإن لِلمخيِّرين قولين، أحدهما: أنه يخيَّرُ لخمس، حكاه إسحاق بن راهويه، ذكره عنه حرب في"مسائله"، ويحتج لهؤلا
بأن الخمس هي السن التي يَصح فيها سماعُ الصبي، ويمكن أن يعقل فيها، وقد قال محمود بن الربيع:
عقلتُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجة مجَّها في فيَّ وأنا ابن خمس سنين او القول الثاني: أنه إنما يُخيَّر لسبع، وهو قول الشافعي، وأحمد وإسحاق رحمهم الله، واحتج لهذا القول بأن التخييرَ يستدعي التمييزَ والفهم، ولا ضابطَ له في الأطفال، فضبط بمَظنَّتهه وهي السبعُ، فإنها أول سن التمييز، ولهذا جعلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حداً للوقت الذي يُؤمر فيه الصَّبِى بالصلاة. وقولكم: إن الأحاديثَ وقائعُ أعيان، فنعم هي كذلك، ولكن يمتنع حملُها على تخيير الرجال البالغين، كما تقدم. وفي بعضها لفظ: غلام، وفي بعضها لفظ: صغير لم يبلغ، وبالله التوفيق.
فصل
وأما قصة بنت حمزة، واختصام علي، وزيد، وجعفر رضي الله عنهم فيها، وحكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها لجعفر، فإنّ هذه الحكومَة كانت عَقِيبَ فراغهم من عُمرة القضاء، فإنهم لما خرجُوا مِن مكة تبعتهم ابنة حمزة تنادي يا عم يا عم، فأخذ علي بيدها، ثم تنازع فيها هو وجعفرٌ وزيدٌ، وذكر كُلّ واحد من الثلاثة ترجيحاً، فذكر زيد أنها ابنة أخيه للمؤاخاة التي عقدها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينَه وبينَ حمزة، وذكر علي كونها ابنةَ عمّه، وذكر جعفر مرجِّحين: القرابة، وكونَ خالتها عنده، فتكون
غد خالتها، فاعتبر النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرجِّحَ جعفر دون مرجِّح الآخرين، فحكم له، وجبر كلَّ وَاحد منهم وطيَّب قلبَه بما هو أحبُّ إليه من أخذ البنت.
فأما مرجح المؤاخاة، فليس بمقتض للحضانة، ولكنَّ زيداً كان وصي حمزة، وكان الإِخاء حينئذ يثبُتُ به التوارثُ، فظن زيدٌ أنه أحقُّ بها لذلك.
وأمَّا مرجِّحُ القرابة هاهنا وهي بنوة العم، فهل يُستحق بها الحضانة؟ على قولين. أحدهما: يُستحق بها وهو منصوص الشافعي، وقول مالك، وأحمد، وغيرهم، لأنه عصبة، وله وِلاية بالقرابة، فقدم على الأجانب، كما يُقدَّمُ عليهم في الميراث، وولاية النكاح، وولاية الموت، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنكر على جعفر وعلي ادِّعاءَهما حضانتها، ولو لم يكن لهما ذلك، لأنكر عليهما الدعوى الباطلة، فإنها دعوى ما ليس لهما، وهو لا يُقِرُّ على، باطل. والقول الثاني: أنه لا حضانة لأحد من الرجال سوى الآباء والأجداد، هذا قولُ بعضِ أصحابِ الشافعي، وهو مخالف لنصه، وللدليل. فعلى قول الجمهور- وهو الصواب- إذا كان الطفل أنثى، وكان ابنُ العم محرماً لها برضاع أو نحوه، كان له حضانتُها وإن جاوزت السبعَ، وإن لم يكن محرماً، فله حضانتها صغيرةً حتى تبلُغ سبعاً، فلا يبقى له حضانتُها، بل تُسَلَّم إلى محرمها، أو امرأة ثقة. وقال أبو البركات في "محرره": لا حضانة له ما لم يكن محرماً برضاع أو نحوه.
فإن قيل: فالحكمُ بالحضانة مِن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه القصة، هل وقع للخالة؟ أو لجعفر؟
قيل: هذا مما اختُلِفَ فيهِ على قولين، منشؤهما اختلافُ ألفاظ الحديث
في ذلك، ففي "صحيح البخاري"، من حديث البراء: فقضى بها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالتها.
وعن أبي داود: من حديث رافع بن عجير، عن أبيه، عن علي في هذه القصة "وأما الجاريةُ، فأقضي بها لجعفر، تكونُ مع خالتها، وإنما الخالةُ أم" ثم ساقه من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى وقال: قضى بها لجعفر، لأن خالتها عنده، ثم ساقه من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن هانىء بن هانىء، وهبيرة بن يَريم، وقال: "فقضى بها النبيُّ لخالتها، وقال الخَالَةُ بمَنْزِلَةِ ا لأُمِّ"
واستشكل كثير من الفقهاء هذا وهذا، فإن القضاءَ إن كان لجعفر، فليس محرما لها، وهو وعلي في القرابة منها سواء، وإن كان للخالة، فهي مزوجه، والحاضنة إذا تزوَّجت، سقطت حضانتُها.
ولما ضاق هذا على ابن حزم، في القصة بجميع طرقها، وقال: أما حديثُ البخاري، فمن رواية إسرائيل، هو ضعيف، وأما حديث هانىءِ وهبيرة، فمجهولان، وأما حديث ابن أبي ليلى، فمرسل، وأبو فروة الراوي عنه هو مسلم بن سالم الجهني ليس بالمعروف، وأما حديث نافع ابن عجير، فهو وأبوه مجهولان، ولا حُجة في مجهول، قال: إلا أن هذا الخبرَ بكل وجه حجة على الحنفية والمالكية والشافعية، لأن خالتها كانت مزوَّجة بجعفر، وهو أجملُ شاب في قريش، وليس هو ذا رحم محرم مِن بنت حمزة. قال: ونحن لا نُنكرُ قضاءَه بها لجعفر مِن أجل خالتها، لأن ذلك أحفظُ لها.
قلت: وهذا من تهورِهِ رحمه الله، وإقدامِه على تضعيف ما اتفقت الناس على صحته، فخالفهم وحده، فإن هذِه القصةَ شهرتُها في الصحاح، والسنن، والمسانيد، والسير، والتواريخ تغني عن إسنادها، فكيف وقد اتفق عليها صاحب الصحيح، ولم يحفظ عن أحد قبله الطعنُ فيها ألبتة، وقوله: إسرائيل ضعيف، فالذي غره في ذلك تضعيفُ علي بن المديني له، ولكن أبى ذلك سائرُ أهلِ الحديث، واحتجوا به، ووثَّقوه وثبتوه. قال أحمد: ثقة وتعجَّب مِن حفظه، وقال أبو حاتم. وهو من أتقن أصحاب أبي إسحاق ولا سيما وقد روى هذا الحديثَ عن أبي إسحاق، وكان يحفظ حديثَه كما يحفظ السورة من القرآن. وروى له الجماعة كلهم محتجين به.وأما قوله: إن هانئاً وهبيرة مجهولان، فنعم مجهولان عنده، معروفان عند أهل السنن، وثَّقهما الحفاظ، فقال النسائي. هانىء بن هانىء ليس به بأس، وهُبيرة روى له أهل السنن الأربعة، وقد وثق.
وأما قوله: حديث ابن أبي ليلى، وأبو فروة الراوي عنه مسلم بن مسلم الجهني ليس بالمعروف، فالتعليلان باطلان، فإن عبد الرحمن بن أبي ليلى روى عن علي غير حديث، وعن عمر، ومعاذ رضي الله عنهما. والذي غر أبا محمد أن أبا داود قال: حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا سفيان عن أبي فروة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى بهذا الخبر، وظن أبو محمد، أن عبد الرحمن لم يذكر علياً في الرواية، فرماه بالإِرسال، وذلك من وهمه، فإن ابن أبي ليلى روى القصة عن علي، فاختصرها أبو داود، وذكر مكان الاحتجاج، وأحال على العلم المشهور برواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي، وهذه القصة قد رواها علي، وسمعها منه أصحابه: هانىء بن هانىء، وهُبيرة بن يَرِيم، وعجير بن عبد يزيد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، فذكر أبو داود حديثَ الثلاثة الأولين لسياقهم لها بتمامها، وأشار إلى
حديثِ ابن أبي ليلى، لأنه لم يتمه، وذكر السند منه إليه، فبطل الإِرسال، ثم رأيتُ أبا بكر الإِسماعيلي قد روى هذا الحديث في مسند علي مصرحاً فيه بالاتصال، فقال: أخبرنا الهيثم بن خلف، حدثنا عثمانُ بنُ سعيد المقري، حدثنا يوسفُ بن عدي، حدثنا سفيانُ، عن أبي فروة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي، أنه اختصم هو وجعفر وزيد، وذكر الحديث.
وأما قوله: إن أبا فروة ليس بالمعروف، فقد عرفه سفيانُ بن عيينة وغيره، وخرجا له في "الصحيحين".
وأما رميه نافع بن عجير وأباه بالجهالة: فنعم، ولا يُعرف حالهما، وليسا مِن المشهورين بنقل العلم، وإن كان نافع أشهرَ مِن أبيه لرواية ثقتين عنه: محمد بن إبراهيم التميمي، وعبد الله بن علي، فليس الاعتمادُ على روايتهما، وبالله التوفيق، فثبتت صحة الحديث.
وأما الجواب عن استشكال من استشكله، فنقول وبالله التوفيق: لا إشكال،سواء كان القضاء لجعفر أو للخالة، فإن ابنة العم إذا لم يكن لها قرابة سوى ابن عمها، جاز أن تجعل مع امرأته في بيته، بل يتعيّن ذلك وهو أولى من الأجنبي لا سيما إن كان ابنُ العم مبرزاً في الديانة، والعِفة، والصِّيانة، فإنه في هذه الحال أولى من الأجانب بلا ريب.
فإن قيل: فالنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ابنَ عمها، وكان محرماً لها، لأن حمزة كان أخاه مِن الرضاعة، فهلا أَخَذَهَا هو؟
قيل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في شُغل شاغل بأعباء الرسالة، وتبليغ الوحي، والدعوة إلى الله، وجهادِ أعداء الله عن فراغه للحضانة، فلو أخذها، لدفعها إلى بعض نسائه، فخالتُها أمسُّ بها رحماً وأقربُ.
وأيضاً فإن المرأة من نسائه لم تكن تجيئُها النوبةُ إلا بعد تسع ليال، فإن دارت الصبيةُ معه حيث دار، كان مشقةً عليها، وكان فيه مِن بروزها وظهورِها كُلَّ وقت ما لا يخفى، وإن جلست في بيت إحداهن كانت لها الحضانة وهي أجنبيةٌ. هذا إن كان القضاءُ لجعفر، وإن كان للخالة-وهو الصحيح وعليه يدل الحديث الصحيح الصريح - فلا إشكال لوجوه. أحدها: أن نكاح الحاضنة لايُسْقِطُ حضانة البنت كما هو إحدى الروايتين عن أحمد وأحدُ قولي العلماء، وحجةُ هذا القول الحديثُ، وقد تقدم سِرُّ الفرقِ بين الذكر والأنثى. الثاني: أن نكاحَها قريباً من الطفل لا يُسْقِطُ حضانَتها، وجعفر ابن عمها.
الثالث: أن الزوج إذا رضي بالحَضانة، وآثر كونَ الطفل عنده في حجره، لم تسقط الحضانة، هذا هو الصحيحُ، وهو مبني على أصل، وهو أن سقوطَ الحضانة بالنكاح هو مراعاةٌ لحقِّ الزوج، فإنه يتنغص عليه الاستمتاعُ المطلوبُ من المرأة لحضانتها لولد غيره، ويتنكَّدُ عليه عيشُه مع المرأة، لا يُؤمن أن يَحصلَ بينهما خلاف المودة والرحمة، ولهذا كان للزوج أَن يمنعها مِن هذا مع اشتغالها هي بحقوقِ الزوج، فتضيغ،مصلحة الطفل، فإذا آثر الزوجُ ذلك وطلبه، وحَرَص عليه، زالت المفسدةُ التي لأجلها سقطت الحضانة، والمقتضي قائم، فيترتب عليه أثُره، يوضّحه أن سقوطَ الحضانة بالنكاح ليست حقاً للّه، وإنما هي حقّ للزوج وللطفل وأقاربه، فإذا رضيَ من له الحق جاز، فزال الإِشكال على كل تقدير،،ظهر أن هذا الحكمَ مِن رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحسن الأحكام وأوضحِها وأشدِّها موافقة للمصلحة، والحكمة، والرحمة، والعدل، وبالله التوفيق.
فهذه ثلاثة مدارك في الحديث للفقهاء. أحدها: أن نكاح الحاضنة لا يُسْقطُ حضانتها، كما قاله الحسن البصري، وقضى به يحي بن حمزة، وهو مذهبُ أبي محمد بن حزمٍ. والثاني: أن نكاحَها لا يُسقِطُ حضانة البنت، ويسقط حضانة الابن، كما قاله أحمد في إحدى روايتيه.
والثالث: أن نِكاحَها لقريب الطِفل لا يُسقط للأجنبي يسقطها، كما هو المشهور من مذهب أحمد.
وفيه مدرك رابع لمحمد بن جرير الطبري، وهو أن الحاضنة إن كانت أمّاً والمنازعُ لها الأب، سقطت حضانتها بالتزويج، وإن كانت خالةً أو غيرَها مِن نساء الحضانة، لم تسقط حضانتُها بالتزويج، وكذلك إن كانت أمّاً، والمنازعُ لها غيرُ الأب من أقارب الطفل لم تسقط حضانتُها.
ونحن نذكر كلامه، وما له وعليه فيه، قال في "تهذيب الآثار"بعد ذكر حديث ابنة حمزة: فيه الدلالةُ الواضحة على أن قيِّمَ الصبية الصغيرة، والطفل الصغير من قرابتهما من قبل أمهاتهما من النساء أحقُ بحضانتهما مِن عصباتهما من قبل الأب، وإن كُنَّ ذواتِ أزواج غير الأب الذي هما منه، وذلك أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بابنة حمزةَ لخالتها في الحضانة، وقد تنازع فيها ابنا عمها عليّ وجعفر ومولاها وأخو أبيها الذي كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخى بينَه وبينَه، وخالتها يومئذ لها زوج غير أبيها وذلك بعد مقتل حمزة، وكان معلوماً بذلك صحة قول من قال: لا حق لعصبة الصغير والصغيرة من قبل الأب في حضانته ما لم تبلغ حد الاختيار، بل قرابتُهُما من النساء مِن قبل أمهما أحقُ، وإن كن ذوات أزواج.
فإن قال قائل: فإن كان الأمر في ذلك عندك على ما وصفت من أن
أمَّ الصغير والصغيرة وقرابتهما من النساء من قبل أمهاتهما أحقُّ بحضانتهما، وإن كُنَّ ذوات أزواج من قرابتهما من قبل الأب من الرجال الذين هم عصبتهما، فهلاَّ كانت الأمُّ ذات الزوج كذلك مع والدهما الأدنى والأبعد، كما كانت الخالة أحق بهما؟ وإن كان لها زوج غير أبيهما، وإلا فما الفرق؟
قيل: الفرقُ بينهما واضح، وذلك لقيام الحجة بالنقل المستفيض روايته عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الأم أحقُ بحضانة الأطفال إذا كانت بانت من والدهم ما لَمْ تَنكِحْ زوجاً غيره، ولم يُخالف في ذلك من يجوز الاعتراضُ به على الحجة فيما نعلمه. وقد روي في ذلك خبر، وإن كان في إسناده نظر، فإن النقل الذي وصفتُ أمره دال على صحته، وإن كان واهيَ السند. ثم ساق حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أَنْتِ أَحَقُّ به مَا لَم تَنكِحِي" من طريق المثنى بن الصباح عنه.ثم قال: وأما إذا نازعها فيه عصبةُ أبيه، فصحة الخبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي ذكرناه أنه جعل الخالة ذات الزوج غير أبي الصبية أحقَّ بها من بني عمها وهم عصبتُها، فكانت الأمُّ أحقَّ بأن تكون أولى منهم وإن كان لها زوج غير أبيها، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما جعل الخالة أولى منهم لقرابتها من الأم، وإذا كان ذلك كالذي وصفنا، تبيَن أن القول الذي قُلناه في المسألتين أصلُ إحداهما من جهة النقل المستفيض، والأخرى من جهة نقل الآحاد العدول، فإذا كان كذلك، فغيرُ جائز رَدُّ حكمِ إحداهما إلى حكم الأخرى، إذ القياسُ إنما يجوز استعمالُه فيما لا نص فيه من الأحكام، فأما ما فيه نص من كتاب الله، أو خبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقي، فلا حظَ فيه للقياس.
فإن قال قائل: زعمتَ أنك إنما أبطلت حق الأم من الحضانة إذا نكحت زوجاً غير أبي الطفل، وجعلت الأب أولى بحضانتها منها بالنقل المستفيض، فكيف يكونُ ذلك كما قلت؟ وقد علمتَ أن الحسن البصري كان يقول: المرأةُ أحقُ بولدها، وإن تزوجت، وقضى بذلك يحيى بن حمزة.
قيل: إن النقل المستفيض الذي تلزمُ به الحجةُ في الدين عندنا ليس صفته ألا يكونَ له مخالف، ولكن صفته أن ينقلَه قولاً وعملاً من علماء الأمة مَنْ يَنْتَفي عنه أسبابُ الكذب والخطأ، وقد نَقَلَ مَنْ صِفَتُه ذلِك من علماء الأمة، أن المرأة إذا نكحت بعد بينونتها من زوجها زوجاً غيره، أن الأبَ أولى بحضانة ابنتها منها، فكان ذلك حجًة لازمة غيرَ جائز الاعتراض عليها بالرأي، وهو قول من يجوز عليه الغلط في قوله، انتهى كلامه.
ذكر ما في هذا الكلام من مقبول ومردود
فأما قوله: إن فيه الدلالة على أن قرابة الطفلِ من قبل أمهاته من النساء أحقُ بحضانته مِن عصباته من قبل الأب وإن كن ذواتِ أزواجٍ، فلا دلالة فيه على ذلك ألبتة، بل أحدُ ألفاظِ الحديثِ صريحٌ في خلافه، وهو قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وأما الابنة فإني أقضي بها لجعفر، وأما اللفظ الآخر، "فقضى بها لخالتها، وقال: هي أم" وهو اللفظ الذي احتج به أبو جعفر، فلا دليل على أن قرابة الأم مطلقاً أَحَقُ من قرابة الأب، بل إقرارُ النبي علياً وجعفراً على دعوى الحضانة يدل على أن لِقرابة الأب مدخلاً فيها، وإنما قدم الخالة لكونها أنثى من أهل الحضانة، فتقديمُها على قرابة الأب كتقديم الأم على الأب، والحديث ليس فيه لفظ عام يدل على ما ادّعاه،
لا من أن من كان من قرابة الأم أحقُّ بالحضانة من العصبةِ مِن قِبَلِ الأب، حتى تكونَ بنتُ الأخت للأم أحقَّ من العم، وبنت الخالة أحقَّ من العم، والعمة، فأين في الحديث دلالة على هذا فضلاً عن أن تكونَ واضحة. قوله: وكان معلوماً بذلك صحة قول من قال: لا حق لعصبة الصغير والصغيرة مِن قبل الأبِ في حضانته ما لم يبلغ حد الاختيار، يعني: فيخيَّر بين قرابة أبيه وأمه، فيقال: ليس ذلك معلوماً من الحديث، ولا مظنوناً، وإنما دل الحديثُ على أن ابن العم المزوَّج بالخالة أولى من ابن العم الذي ليس تحته خالة الطفل، ويبقى تحقيقُ المناط: هل كانت جهةُ التعصيب مقتضيةً للحضانة فاستوت في شخصين؟ فرجح أحدهما بكون خالة الطفل عنده وهي من أهل الحضانة، كما فهما طائفةٌ من أهل الحديث، أو أن قرابةَ الأم وهي الخالة أولى بحضانة الطفل مِن عصبة الأب، ولم تسقط حضانتُها بالتزويج إما لكون الزوج لا يُسقِطُ الحضانة مطلقاً، كقول الحسن ومن وأفقه، وإما لكون المحضونة بنتاً كما قاله أحمد في رواية، وإما لكون الزوج قرابةَ الطفل كالمشهورِ من مذهب أحمد، وإما لكون الحاضِنةِ غير أمٍّ نازعها الأبُ، كما قاله أبو جعفر، فهذه أربعة مدارك، ولكن المدرك الذي اختاره أبو جعفر ضعيف جداً، فإن المعنى الذي أسقط حضانة الأم بتزويجها هو بعينه موجود في سائر نساء الحضانة، والخالة غايتُها أن تقومَ مقام الأم، وتُشبّه بها، فلا تكون أقوى منها، وكذلك سائرُ قرابة الأم، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يحكم حكماً عاماً أن سائر أقارب الأم من كن لا تسقط حضانتهن بالتزويج، وإنما حكم حكماً معيناً لخالة ابنةِ حمزة بالحضانة مع كونها مزوجةً بقريب من الطفل، والطفل ابنة.
وأما الفرق الذي فرق بين الأم وغيرها بالنقل المستفيض إلى آخره، فيريد به الإِجماعَ الذي لاَ ينقضه عنده مخالفة الواحد والاثنين، وهذا أصل تفرد به، ونازعه فيه الناسُ.
وأما حكمه على حديث عمرو بن شعيب بأنه واهٍ، فمبني على ما وصل إليه مِن طريقه، فإن فيه المثنى بن الصبَّاح، وهو ضعيف أو متروك، ولكن الحديث قد رواه الأوزاعي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده رواه أبو داود في "سننه".
فصل
وفي الحديث مسلك خامس وهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بها لخالتها وإن كانت ذاتَ زوج، لأن البنتَ تحرُم على الزوج تحريمَ الجمعِ بين المرأة وخالتها، وقد نبه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذا بعينه في حديث داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكر الحديث بطوله، وقال فيه: "وَأَنْتَ يَا جَعْفَرُ أَوْلَى بِهَا: تَحتَكَ خَالَتُهَا، وَلاَ تُنْكَحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، ولاَ عَلَى خَالَتِهَا" ، وليس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصٌ يقتضي أن يكون الحاضن ذا رحم تحرم عليه البنتُ على التأبيد حتى يُعترض به على هذا المسلك، بل هذا مما لا تأباه قواعدُ الفقه وأصول الشريعة، فإن الخالة ما دامت في عصمة الحاضن، فبنتُ أختها محرمة عليه، فإذا فارقها، فهي مع خالتها، فلا محذورَ في ذلك أصلاً، ولا ريبَ أن القولَ بهذا أخير وأصلحُ للبنتِ مِن رفعها إلى الحاكم يدفعُها إلى أجنبي تكون عنده، إذ الحاكمُ غير متصد للحضانة بنفسه، فهل يشكُّ أحد أن ما حكم به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الواقعة هو عينُ المصلحة والحكمة والعدل، وغايةُ الاحتياط للبنت والنظر لها،
وأن كُلَّ حكم خالفه لا ينفك عن جَوْرٍ أو فسادٍ لا تأتي به الشريعةُ، فلا إشكالَ في حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والإِشكالُ كُلُّ الإِشكالِ فيما خالفه، والله المستعان، وعليه التكلان.
ذكر حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النفقة على الزوجات

وأنه لم يُقدِّرها، ولا ورد عنه ما يَدُلَّ على تقديرها، وإنما ردَّ الأزواج فيها إلى العرف.
ثبت عنه في "صحيح مسلم": "أنه قال في خطبة حَجة الوداع بمحضر الجمع العظيم قبل وفاته ببضعة وثمانين يوماً " واتَّقُوا اللهَ في النِّسَاءِ فَإنَكُم أخَذْتُمُوهُنَّ بأَمَانَة الله، واسْتَحلَلْتُمْ فُرُوجَهُنّ َبكَلمَة ِالله. ولَهنَّ عَلَيْكُم رِزقُهن.ولهنَّ عليكم رزقُهُنَّ وكسوتُهُنَّ بالمعروفِ"
وثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في "الصحيحين": أن هنداً امرأة أبي سفيان قالت له: إن أبا سُفيان رجلٌ شحيحٌ ليس يُعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذتُ منه وهو لا يعلم، فقال: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ ". وفي "سنن أبي داود": من حديث حكيم بن معاوية، عن أبيه رضي الله عنه، قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلتُ: يا رسول الله ! ما تقولُ في نسائنا؟ قال: "أَطْعِمُوهُنَّ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُنَّ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلاَ تَضْرِبُوهُنَّ وَلاَ تُقَبِّحُوهُنَّ".
وهذا الحكمُ من رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مطابق لكتابِ الله عز وجل حيث يقول: {وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَولَيْنِ كَامِلَينِ لِمَن أَرَادَ أَن يتِمَّ الرَضَاعَةَ وَعَلى المَوْلُودِ لَه رِزْقُهنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروفِ} [البقرة: 233]. والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل نفقَةَ المَرأة مثل نفقة الخَادم، وسوَّى بينهما في عدم التقدير، وردَهما إلى المعروف، فقال: "لِلْمَمْلوكِ طَعَامُهُ وكِسْوَتُه بِالمَعْرُوفِ". فجعل نفقتهما بالمعروفِ، ولا ريب أن نفقة الخادم غيرُ مقدَّرة، ولم يقل أحد بتقديرها. وصح عنه في الرقيق أنه قال: "أَطْعِمُوهُم مِمَّا تَأكُلُونَ، وأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ". رواه مسلم، كما قال في الزوجة سواء.
وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: امرأتُك تقولُ: إما أن تُطعِمَنى، وإما أن تُطَلِّقَني، ويقول العبد: أَطْعمني واستعملني. ويقول الابن أطعمني إلى مَنْ تَدَعُني. فجعل نفقة الزوجة والرقيق والولد كلَّها الإِطعام لا التمليك.وروى النسائي هذا مرفوعاً إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما سيأتي. وقال تعالى: {مِنْ أوسَطِ مَا تطْعِمُونَ أَهْلِيكُم أَو كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] ، وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الخبز والزيت، وصح عن ابن عمر رضي الله عنه: الخبز والسمن، والخبز والتمر، ومِن أفضل
ما تطعمون الخبز واللحم. ففسر الصحابة إطعامَ الأهلِ بالخبز مع غيره من الأدم، والله ورسولُه ذكرا الإِنفاق مطلقاً من غير تحديد، ولا تقدير، ولا تقييد، فوجب رَدُّه إلى العُرفِ لو لم يرده إليه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف وهو الذي رد ذلك إلى العرف، وأرشد أمته إليه؟ ومن المعلوم أن أهلَ العُرف إنما يتعارفون بينهم في الإِنفاق على أهليهم حتى من يُوجب التقدير: الخبز والإِدام دون الحَبِّ، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه إنما كانوا يُنفقون على أزواجهم، كذلك دون تمليك الحب وتقديره، ولأنها نفقة واجبة بالشرع، فلم تقدر بالحب كنفقة الرقيق، ولو كانت مقدرة، لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هنداً أن تأخذ المقدَّرَ لها شرعاً، ولما أمرها أن تأخذ ما يكفيها مِن غير تقدير، وردَّ الاجتهادَ في ذلك إليها، ومن المعلوم أن قدر كفايتها لا ينحصر في مُدَّين، ولا في رطلين بحيث لا يزيد عليهما ولا يَنْقُص، ولفظه لم يدل على ذلك بوجه، ولا إيماء، ولا إشارة، وإيجاب مدَّين أو رطلين خبزاً قد يكون أقلّ من الكفاية، فيكون تركاً للمعروف، وإيجابُ قدر الكفاية مما يأكل الرجل وولده ورقيقه وإن كان أقلَّ من مد أو من رطلي خبز، إنفاق بالمعروف، فيكون هذا هو الواجبَ بالكتاب والسنة، ولأن الحب يحتاجُ إلى طحنه وخبزه وتوابع ذلك، فإن أخرجت ذلك من مالها، لم تحصل الكفاية بنفقة الزوج، وإن فرض عليه ذلك لها من ماله كان الواجب حباً ودراهم، ولو طلبت مكان الخبز دراهم أو حباً أو دقيقاً أو غيرَه، لم يلزمه بذلُه، ولو عرض عليها ذلك أيضاً، لم يلزمها قبولُه لأن ذلك معاوضة، فلا يُجبر أحدُهما على قبولها، ويجوز تراضيهما على ما اتفقا عليه.
والذين قدّروا النفقة اختلفوا، فمنهم من قدَّرها بالحب وهو الشافعي، فقال: نفقة الفقير مدٌ بمد النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن أقل ما يدفع في الكفارة إلى الواحد مُدٌّ، والله سبحانه اعتبر الكفارة بالنفقة على الأهل، فقال: {فكَفَّارتُه إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُم أَو كِسْوَتُهُم} [المائدة: 89] قال: وعلى المُوسِرِ مُدَّانِ، لأن أكثر ما أوجب الله سبحانه للواحد مُدَّانِ في كفارة الأذى، وعلى المتوسط مُدٌ ونِصفٌ، نِصف نَفَقَة الموسِر، ونصف نفقة الفقير.
وقال القاضي أبو يعلى: مقدرة بمقدارٍ لا يختلِفُ في القِلة والكثرة، والواجب رِطلانِ من الخبز في كل يوم في حق المُوسِرِ والمُعْسِرِ اعتباراً بالكفارات، وإنما يختلفان في صفته وجودته، لأن المُوسِرَ والمُعْسِرَ سواء في قدر المأكول، وما تقُومُ به البنيةُ، وإنما يختلفان في جودته، فكذلك النفقة الواجبة.
والجمهور قالوا: لا يُحفظ عن أحد من الصحابة قطُّ تقديرُ النفقة، لا بمُدٍّ، ولا برطل، والمحفوظ عنهم، بل الذي اتصل به العملُ في كل عصر ومصر ما ذكرناه.
قالوا: ومن الذي سلَّم لكم التقدير بالمُد والرطل في الكفارة، والذي دلَّ عليه القرآن والسنة أن الواجبَ في الكفارة الإِطعامُ فقط لا التمليك، قال تعالى في كفارة اليمين: {فكفَّارتُهُ إطعامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُم} [المائدة: 89]، وقال في كفارة الظهار: {فَمنَ لَمْ يَسْتَطعْ فَإطْعَامُ سِتِّينَ مسْكِينا} [المجادلة: 4]، وقال في فدية الأذى:{فَفِدْيةٌ مِنْ صيَامٍ أوْ صدَقَةٍ أَو نُسُكٍ} [البقرة: 196]، وليس في القرآن في إطعام الكفارات غيرُ هذا، وليس في موضع واحد منها تقدير ذلك بمد ولا رطل،
وصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لمن وطىء في نهار رمضان : "أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً". وكذلك قال للمظاهرِ، ولم يَحُدَّ ذلك بمد ولا رطل.
فالذي دل عليه القراَن والسنة، أن الواجب في الكفارات والنفقات هو الإِطعامُ لا التمليكُ، وهذا هو الثابتُ عن الصحابة رضي الله عنهم. قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو خالد، عن حجاج، عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي: يُغدِّيهم، ويُعشِّيهم خبزاً وزيتاً.
وقال إسحاق، عن الحارث كان عليّ يقول في إطعام المساكين في كفارة اليمين: يُغدِّيهم ويُعشيهم خبزاً وزيتاً، أو خبزاً وسمناً.
وقال ابن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن يعلى، عن ليث، قال: كان عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه يقول:{ مِن أوسطِ ما تطعِمُون أهليكم} [المائدة: 89] قال: الخبز والسمن، والخبز والزيت، والخبز واللحم.
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أوسط ما يُطعم الرجل أهله:الخبز واللبن،والخبز والزيت،والخبز والسمن، ومن أفضل ما
يطعم الرجل أهله:الخبز واللحم.
وقال يزيد بن زريع: حدثنا يونس، عن محمد بن سيرين، أن أبا موسى الأشعري كفَّر عن يمين له مرة، فأمر بجيراً أو جبيراً يُطعم عنه عشرة مساكين خبزاً ولحماً وأمر لهم بثوب مُعقَد أو ظهراني.
وقال ابن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا يحيى بن أيوب، عن حميد، أن أنساً رضي الله عنه مرض قبلَ أن يموتَ، فلم يستطعْ أن يصوم، وكان يجمعُ ثلاثين مسكيناً فيطعمهم خبزاً ولحماً أكلة واحدة.
وأما التابعون،فثبت ذلك عن الأسود بن يزيد، وأبي رزين، وعبيدةَ، ومحمد بن سيرين، والحسن البصري، وسعيد بن جُبير، وشُريح، وجابر بن زيد، وطاووس، والشعبي، وابن بريدة،والضحاك،والقاسم، وسالم، ومحمد بن إبراهيم، ومحمد بن كعب، وقتادة،وإبراهيم النخعي، والأسانيد عنهم بذلك في أحكام القرآن لإِسماعيل بن إسحاق، منهم من يقول: يغذَي المساكينَ ويُعشِّيهم، ومنهم من يقول: أكلة واحدة، ومنهم من يقول: خبز ولحمٌ، خبز وزيت، خبز وسمن، وهذا مذهب أهل المدينة، وأهل العراق، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، والرواية الأخرى: أن طعامَ الكفارة مقدَّر دون نفقة الزوجات.
فالأقوال ثلاثة: التقدير فيهما، كقول الشافعي وحدَه، وعدمُ التقدير فيهما، كقول مالك وأبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين. والتقديرُ في الكفارة دون النفقة، كالرواية الأخرى عنه.
قال من نصر هذا القول: الفرقُ بين النفقة والكفارة: أن الكفارة لا تختلِفُ باليسار والإِعسار، ولا هي مقدَّرة بالكفاية، ولا أوجبها الشارعُ بالمعروف، كنفقةِ الزوجة والخادم، والإِطعامُ فيها حق للّه تعالى لا لآَدمي معين، فيُرضى بالعوض عنه، ولهذا لو أخرج القيمة لم يُجْزِه، ورُوي التقديرُ فيها عن الصحابة، فقال القاضي إسماعيل: حدثنا حجَّاج بن المنهال، حدثنا أبو عَوانة، عن منصور، عن أبي وائل، عن يسار بن نمير، قال: قال عمر: إن ناساً يأتوني يسألوني، فأَحلِفُ أني لا أُعطيهم، ثم يبدو لي أن أُعْطيهم، فإذا أمرتُك أن تكَفِّرَ، فأطعم عنِّي عشرة مساكين، لِكُلِّ مسكينٍ صاعاً من تمر أو شعير، أو نصف صاع من بر.
حدثنا حجاج بن المنهال وسليمان بن حرب، قالا حدثنا حمادُ بن سلمة، عن سلمة بن كهَيْل، عن يحيى بن عباد، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يَايَرْفا! إذا حلفتُ فحنثتُ، فأطعم عني ليميني خمسة أصْوُعٍ عشرة مساكين.
وقال ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن عُمر بن أبي مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي قال: كفارةُ اليمين: إطعام عشرةِ مساكين لِكل مسكين نصفُ صاع.
حدثنا عبد الرحيم، وأبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن قُرط،
عن جدته، عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنا نُطعِمُ نصفَ صاعٍ مِن بُر، أو صاعاً من تمر في كفارة اليمين. وقال إسماعيل: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام بن أبي عبد الله، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن زيد بن ثابت، قال: يُجزىء في كفارة اليمينِ لِكل مسكين مُدُّ حِنطة. حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن يزيد، عن أيوب، عن نافع، أن ابن عمر رضي الله عنه كان إذا ذكر اليمين، أعتق، وإذا لم يذْكُرْها، أطعم عشرةَ مساكين، لكل مسكين مُدٌّ مُدّ.
وصحَّ عن ابن عباس رضي الله عنهما: في كفارة اليمين مُدّ، ومعه أدمُهُ.
وأما التابعون، فثبت ذلك عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقال: كل طعام ذكر في القرآن للمساكين، فهو نصف صاع، وكان يقولُ في كفارة الأَيمان كلها: مُدَانِ لِكُلِّ مسكين.
وقال حمادُ بن زيد عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار: أدركتُ الناسَ وهم يُعطون في كفارة اليمين مداً بالمدِّ الأول. وقال القاسم، وسالم، وأبو سلمة، مُدٌّ مُدّ من بر، وقال عطاء: فرقاً بين عشرة، ومرة قال: مُدٌّ مدٌ.
قالوا: وقد ثبت في "الصحيحين" أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لِكَعْب بن غجْرَةَ في كفارة فدية الأذى: أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ نِصْفَ صاعٍ نِصْفَ صَاعٍ طَعَاماً لِكُلِّ مِسْكينٍ. فقدَّر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِدية الأذى، فجعلنا
تقديرها أصلاً، وعدَّيناها إلى سائر الكفارات،ثم قال من قدّر طعام الزوجة: ثم رأينا النفقاتِ والكفاراتِ قد اشتركا في الوجوب، فاعتبرنا إطعامَ النفقة بإطعام الكفارة، ورأينا الله سبحانه قد قال في جزاء الصيد: {أَو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95]، وما أجمعت الأمة أن الطعام مقدَّر فيها، ولهذا لو عَدِمَ الطعام، صام عن كل مدٍّ يوماً، كما أفتى به ابنُ عباس والناسُ بعده، فهذا ما احتجت به هذه الطائفةُ على تقدير طعام الكفارة.
قال الآخرون: لا حُجة في أحد دونَ الله ورسوله وإجماع الأمة، وقد أمرنا تعالى أن نَرُدَّ ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله، وذلك خيرٌ لنا حالاً وعاقبةً، ورأينا اللهَ سبحانه إنما قال في الكفارة: {إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] ، {فإِطْعَام سِتَينَ مسكِيناً} [المجادلة: 4] ، فعلق الأمر بالمصدر الذي هو الإِطعام، ولم يحد لنا جنسَ الطعام ولا قدره، وحدَّ لنا جنس المطعمين وقدرَهم، فأطلق الطعام وقيَّدَ المطعومين، ورأيناه سبحانه حيث ذكر إطعامَ المسكين في كتابه، فإنما أراد به الإِطعامَ المعهود المتعارفَ، كقوله تعالى:{ ومَا أَدراكَ مَا العَقَبَةُ * فَك رَقَبَةٍ * أَو إِطْعَامٌ في يَومٍ ذي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً} [البلد: 12-15]. وقال: {ويُطعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حبِّهِ مِسكِيناً ويَتِيماً وأَسيراً}[الإِنسان: 8] وكان من المعلوم يقيناً، أنهم لو غدَّوهم أو عشَّوهم أو أطعمُوهم خبزاً ولحماً أو خبزاً ومرقاً ونحوه لكانوا ممدوحين داخلين فيمن أثنى عليهم، وهو سبحانه عَدَلَ عن الطعام الذي هو اسم للمأكول إلى الإِطعام الذي هو مصدرٌ صريح، وهذا نصّ في أنه إذا أطعم المساكينَ، ولم يُملكهم، فقد امتثل ما أمر به، وصحَّ في كل لغة وعرف: أنه أطعمهم.
قالوا: وفي أي لغة لا يصدق لفظُ الإِطعام إلا بالتمليك؟ ولِما قال أنس رضي الله عنه: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أطعَمَ الصحابة في وليمة زينب خبزاً ولحماً. كان قد اتخذ طعاماً، ودعاهم إليه على عادة الولائم، وكذلك قولُه في وليمة صفية: "أطْعَمَهُم حَيْساً"، وهذا أظهر من أن نذكر شواهدَه، قالوا: وقد زاد ذلك إيضاحاً وبياناً بقوله : {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُم} [المائدة: 89] ، ومعلوم يقيناً، أن الرجل إنما يُطعم أهله الخبزَ واللحمَ، والمرق واللبنَ، ونحو ذلك، فإذا أطعم المساكينَ مِن ذلك، فقد أطعمهم مِن أوسط ما يُطعم أهلَه بلا شك، ولهذا اتفق الصحابةُ رضي الله عنهم في إطعامِ الأهلِ على أنه غيرُ مقدر، كما تقدَّمَ، والله سبحانه جعله أصلاً لطعام الكفارة، فدلَّ بطريق الأولى على أن طعام الكفارة غيرُ مقدَّر.
وأما من قدَّر طعام الأهل، فإنما أخذ من تقدير طعام الكفارة، فيُقال: هذا خلافُ مقتضى النص، فإن الله أطلق طعامَ الأهل، وجعله أصلاً لطعام الكفارة، فعُلِمَ أن طعام الكفارة لا يتقدَّر كما لا يتقدَرُ أصله، ولا يُعرف عن صحابي البتة تقديرُ طعام الزوجة مع عموم هذه الواقعة في كل وقت.
قالوا: فأما الفروق التي ذكرتمُوها، فليس فيها ما يستلزِمُ تقديرَ طعام الكفارة، وحاصلُها خمسةُ فروق، أنها لا تختلِفُ باليَسار والإِعسار، وأنها لا تتقدَّر بالكِفاية، ولا أوجبها الشارعُ بالمعروف، ولا يجوز إخراجُ العِوَضِ عنها، وهي حقّ للّه لا تسقُط بالإِسقاط بخلاف نفقة الزوجة، فيقال: نعم لا شك في صحة هذه الفروق، ولكن من أين يستلزم وجوب تقديرها بمد ومدين؟ بل هي إطعامٌ واجب من جنس ما يُطْعِمُ أهله، ومع ثبوت هذه الأحكام لا يدل على تَقديرها بوجه.
وأما ما ذكرتم عن الصحابة من تقديرها، فجوابه من وجهين.
أحدهما: أنا قد ذكرنا عن جماعة، منهم علي، وأنس، وأبو موسى، وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم قالوا: يُجزىء أن يغدِّيَهم ويعشِّيَهم.
الثاني: أن مَنْ رُوي عنهم المد والمدان لم يذكروا ذلك تقديراً وتحديداً، بل تمثيلاً، فإن منهم من رُويَ عنه المد، ورُوي عنه مدان، ورُوي عنه مكّوك، وروي عنه جوازُ التغدية والتعشية، ورُوي عنه أكلة، ورُوي عنه رغيفٌ أو رغيفانِ، فإن كان هذا اختلافاً، فلا حجة فيه، وإن كان بحسب حال المستفتي وبحسب حال الحالف والمكفِّر، فظاهر، وإن كان ذلك على سبيل التمثيل، فكذلك. فعلى كُلِّ تقدير لا حجة فيه على التقديرين.
قالوا: وأما الإِطعامُ في فِدية الأذى، فليس من هذا الباب، فإن الله سبحانه:{ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، واللهُ سبحانه أطلق هذه الثلاثة ولم يقيدها. وصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقييدُ الصيام بثلاثة أيام، وتقييد النسك بذبح شاة، وتقييدُ الإِطعام بستة مساكين، لكل مسكين نِصفُ صاع، ولم يقل سبحانه في فدية الأذى: فإطعام ستة مساكين،
ولكن أوجب صدقة مطلقة، وصوماً مطلقاً، ودماً مطلقاً، فعيَّنه النبيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفَرْقِ، والثلاثة الأيام، والشاة.
وأما جزاءُ الصيد، فإنه مِن غير هذا الباب، فإن المُخْرِجَ إنما يُخرج قيمة الصيد من الطعام، وهي تختلف بالقلة والكثرة، فإنها بَدَل مُتْلَفٍ لا يُنظر فيها إلى عدد المساكين، وإنما تنظر فيها إلى مبلغ الطعام، فيُطعمه المساكين على ما يرى من إطعامهم وتفضيل بعضهم على بعض، فتقديرُ الطعام فيها على حسب المتلف، وهو يَقِلُّ ويكثُر، وليس ما يُعطاه كلُّ مسكين مقدراً.
ثم إن التقدير بالحَبِّ يستلزِمُ أمراً باطلاً بيِّنَ البُطلان، فإنه إذا كان الواجبُ لها عليه شرعاً الحب، وأكثر الناس إنما يطعم أهله الخبز، فإن جعلتم هذا معاوضة كان رباً ظاهراً، وإن لم تجعلوه معاوضة، فالحبُّ ثابت لها في ذمته، ولم تَعْتَضْ عنه، فلم تبرأ ذمتُه منه إلا بإسقاطها وإبرائها، فإذا لم تُبرئه طالبته بالحب مدةً طويلة مع إنفاقه عليها كلَّ يومٍ حاجتها من الخبز والأدم،و إن مات أحدُهما كان الحب ديناً له أو عليه، يُؤخذ من التركة مع سعة الإِنفاق عليها كُلَّ يوم.ومعلوم أن الشريعة الكاملة المشتمِلَةَ على العدل والحكمة والمصلحة تأبى ذلك كُلَّ الإِباء، وتدفعُه كُلَّ الدفع كما يدفعُه العقل والعُرف، ولا يُمكِنُ أن يُقال: إن النفقة التي في ذمته تسقُط بالذي له عليها من الخبز والأدم لوجهين، أحدهما: أنه لم يبعه إياها، ولا اقترضه منها حتى يثبت في ذمتها، بل هي معه فيه على حكم الضيف، لامتناع المعاوضة عن الحب بذلك شرعاً. ولو قدِّرَ ثبوتُه في ذمتها، لما أمكنت المقاصة، لاختلاف الدينين جنساً، والمقاصة تعتمِدُ اتفاقهما. هذا وإن قيل بأحد الوجهين:
إنه لا يجوزُ المعاوضة على النفقة مطلقاً لا بدراهم ولا بغيرها لأنه معاوضة عما لم يستقر، ولم يجب، فإنها إنما تجب شيئاً فشيئاً، فإنه لا تَصِحُّ المعاوضةُ عليها حتى تستقر بمُضي الزمان، فيعاوض عنها كما يُعاوض عما هو مستقر في الذمة من الديون، ولما لم يجد بعضُ أصحاب الشافعي من هذا الإِشكال مخلصاً قال: الصحيح أنها إذا أكلت، سقطت نفقتها. قال الرافعي في "محرره": أولى الوجهين السقوطُ، وصححه النووي لجريان الناس عليه في كل عصر ومصر، واكتفاء الزوجة به. وقال الرافعي في "الشرح الكبير"، و"الأوسط": فيه وجهان. أقيسهُما: أنها لا تسقط، لأنه لم يوفِ الواجب، وتطوع بما ليس بواجب، وصرَّحوا بأن هذين الوجهين في الرشيدة التي أذن لها قَيِّمُها، فإن لم يأذن لها، لم تسقط وجهاً واحداً.
فصل
وفي حديث هند: دليل على جواز قول الرجل في غريمه ما فيه من العيوب عند شكواه، وأن ذلك ليسر بغيبة، ونظيرُ ذلك قول الآخر في خصمه: يا رسول الله ! إنه فاجر لا يُبالي ما حلف عليه.
وفيه دليل على تفرد الأب بنفقة أولاده، ولا تُشارِكُه فيها الأم، وهذا إجماع من العلماء إلا قول شاذ لا يلتفت إليه، أن على الأم من النفقة بقدر ميراثها، وزعم صاحبُ هذا القول: أنه طرَّدَ القياس على كل من له ذكر وأنثى في درجة واحدة، وهما وارثان، فإن النفقة عليهما، كما لو كان له أخٌ وأخت، أو أم وجد، أو ابن وبنت، فالنفقةُ عليهما على قدر ميراثهما، فكذلك الأبُ والأمُّ.
والصحيح: انفرادُ العصبة بالنفقة، وهذا كُلهُ كما ينفرد الأب دون الأم بالإِنفاق، وهذا هو مقتضى قواعد الشرع، فإن العصبة تنفردُ بحمل العقل، وولاية النكاح، وولاية الموت والميراث بالولاء، وقد نص الشافعيُّ على أنه إذا اجتمع أم وجد أو أب، فالنفقةُ على الجد وحده، وهو إحدى الروايات عن أحمد، وهي الصحيحة في الدليل، وكذلك إن اجتمع ابن وبنت، أو أم وابن، أو بنت وابن ابن، فقال الشافعي: النفقةُ في هذه المسائل الثلاث على الابن لأنه العصبة، وهي إحدى الروايات عن أحمد. والثانية: أنها على قدر الميراث في المسائل الثلاث، وقال أبو حنيفة: النفقة في مسألة الابن والبنت عليهما نصفان لتساويهما في القرب، وفي مسألة بنت وابن ابن: النفقة على البنت لأنها أقرب، وفي مسألة أم وبنت على الأم الربع، والباقي على البنت، وهو قولُ أحمد، وقال الشافعي: تنفرد بها البنتُ، لأنها تكون عصبةً مع أخيها، والصحيحُ: انفراد العصبة بالإِنفاق، لأنه الوارث المطلق.
وفيه دليلٌ على أن نفقة الزوجة، والأقارب مقدَّرة بالكفاية، وأن ذلك بالمعروف، وأن لِمَن له النفقة له أن يأخذها بنفسه إذا منعه إياها مَنْ هي عليه.
وقد احتجَّ بهذا على جواز الحكم على الغائب، ولا دليل فيه، لأن أبا سفيان كان حاضراً في البلد لم يكن مسافراً، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسألها البينَة، ولا يُعطى المدَّعي بمجرد دعواه، وإنما كان هذا فتوى منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد احتج به على مسألة الظَّفر، وأن للإِنسان أن يأخذ من مال غريمه إذا ظفر به بقدر حقه الذي جحده إياه، ولا يدل لثلاثة أوجه، أحدُها: أن سببَ الحق هاهنا ظاهر، وهو الزوجية، فلا يكون الأخذُ
خيانةً في الظاهر، فلا يتناولُه قول النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَدِّ الأمَانَةَ إلى من ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ" . ولهذا نص أحمد على المسألتين مفرقاً بينهما، فمنع من الأخذ في مسألة الظفر، وجوَّز للزوجة الأخذَ، وعمل بكلا الحديثين.
الثاني: أنه يشق على الزوجة أن ترفعَه إلى الحاكم، فيلزمه بالإِنفاق أو الفراق، وفي ذلك مضرَّة عليها مع تمكنها من أخذ حقها. الثالث: أن حقها يتجددُ كُلَّ يوم فليس هو حقاً واحداً مستقراً يُمكن أن تستدينَ عليه، أو ترفعه إلى الحاكم بخلاف حق الدين.
فصل
وقد احتج بقصة هند هذه على أن نفقة الزوجة تَسْقُطُ بمضي الزمان، لأنه لم يُمكنها من أخذ ما مضى لها مِن قدر الكفاية مع قولها: إنه لا يُعطيها ما يكفيها، ولا دليلَ فيها، لأنها لم تدع به ولا طلبته، وإنما استفتته: هل تأخذ في المستقبل ما يكفيها؟ فأفتاها بذلك. وبعد، فقد اختلف الناسُ في نفقة الزوجات والأقارب، هل يسقُطانِ بمضى الزمان كلاهما، أو لا يسقطان، أو تسقُطُ نفقةُ الأقارب دون الزوجات؟ على ثلاثة أقوال.
أحدها: أنهما يسقطان بمضي الزمان، وهذا مذهب أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد.
والثاني: أنهما لا يسقُطان إذا كان القريبُ طفلاً، وهذا وجه للشافعية.
والثالث: تسقُط نفقةُ القريب دون نفقة الزوجة، وهذا هو المشهورُ من مذهب الشافعي وأحمد ومالك. ثم الذين أسقطوه بمضي الزمان، منهم من قال: إذا كان الحاكمُ قد فرضها لم تسقط، وهذا قولُ بعض الشافعية والحنابلة. ومنهم من قال: لا يُؤثِّر فرضُ الحاكم في وجوبها شَيْئاً إذا سقطت بمضى الزمان، والذي ذكره أبو البركات في "محرَّرِهِ"، الفرق بين نفقة الزوجة ونفقة القريب في ذلك، فقال: وإذا غاب مُدةً ولم يُنفق، لزمه نفقةُ الماضي، وعنه: لا يلزمه إلا أن يكون الحاكمُ قد فرضها.
وأما نفقةُ أقاربه، فلا تلزمه لِما مضى وإن فرضت إلا أن يستدان عليه بإذن الحاكم وهذا هو الصوابُ، وأنه لا تأثير لفرض الحاكم في وجوب نفقة القريب لما مضى من الزمان نقلاً وتوجيهاً، أما النقلُ، فإنه لا يُعرف عن أحمد، ولا عن قدماء أصحابه استقرارُ نفقة القريب بمضي الزمان إذا فرضها الحاكم، ولا عن الشافعي، وقدماء أصحابه والمحققين لمذهبه منهم، كصاحب "المهذب"، و"الحاوي"، و"الشامل"، و"النهاية"، و"التهذيب"، و"البيان"، و"الذخائر" وليس في هذه الكتب إلا السقوطُ بدون استثناء فرض، وإنما يُوجد استقرارُها
إذا فَرَضَها الحاكم في "الوسيط" و"الوجيز"، وشرح الرافعي وفروعه، وقد صرح نصر المقدسي في "تهذيبه"، والمحاملي في "العدة"، ومحمد بن عثمان في "التمهيد"، والبندنيجي في "المعتمد" بأنها لا تستقر ولو فرضها الحاكم، وعلَّلوا السقوط بأنها تجِبُ على وجه المواساة لإِحياء النفس، ولهذا لا تجب مع يسار المنفق عليه، وهذا التعليلُ يُوجب سقوطَها فرضت أو لم تفرض. وقال أبو المعالي: ومما يدل على ذلك أن نفقة القريب إمتاع لا تمليك، وما لا يجب فيه التمليك، وانتهى إلى الكفاية، استحال مصيرُه ديناً في الذمة، واستبعد لهذا التعليل قول من يقول: إن نفقةَ الصغير تستقِرُّ بمضي الزمان، وبالغ في تضعيفه من جهة أن إيجابَ الكفاية مع إيجاب عوض ما مضى متناقض، ثم اعتذر عن تقديرها في صورة الحمل على الأصح. إذا قلنا: إن النفقة له بأن الحامل مستحقة لها أو منتفعة بها فهي كنفقة الزوجة. قال:ولهذا قُلنا: تتقدر،ثم قال: هذا في الحمل والولد الصغير، أما نفقة غيرهما، فلا تصير ديناً أصلاً. انتهى.
وهذا الذي قاله هؤلاء هو الصوابُ، فإن في تصورِ فرض الحاكم نظرا، لأنه إما أن يعتقد سقوطَها بمضي الزمان أو لا، فإن كان يعتقده، لم يسغ له الحكم بخلافه، وإلزام ما يعتقد أنه غيرُ لازم، وإن كان لا يعتقد سقوطَها مع أنه لا يعرف بهِ قائل إلا في الطفل الصغير على وجه لأصحاب الشافعي. فإما أن يعني بالفرض الإِيجاب، أو إثباتَ الواجب، أو تقديرَه أو أمراً رابعاً فإن أُريدَ به الإِيجابُ، فهو تحصيلُ الحاصل ولا أثرَ لفرضه، وكذلك إن أريد به إثباتُ الواجب، ففرضُه وعَدَمُهُ سِيّان، وإن أريد به تقديرُ الواجب،، فالتقديرُ إنما يُؤَثِّر في صفة الواجب من الزيادة والنقصان،
لا في سقوطِه ولا ثبوتِه، فلا أثر لفرضه في الواجب البتة، هذا مع ما في التقدير مِن مُصادمة الأدلةِ التي تقدمت، على أن الواجبَ النفقةُ بالمعروف، فيُطعمهم مما يأكل، ويكسوهم مما يلبس،. وإن أريد به أمرٌ رابع، فلا بد من بيانه لينظر فيه.
فإن قيل: الأمرُ الرابع المرادُ هو عدمُ السقوط بمضي الزمان، فهذا هو محلُّ الحكم، وهو الذي أثر فيه حكمُ الحاكم، وتعلَّق به. قيل: فكيف يُمكنُ أن يعتقِدَ السقوط، ثم يُلزم ويقضي بخلافه؟ وإن اعتقد عدمَ السقوط، فخلاف الإِجماع، ومعلومٌ أن حكم الحاكم لا يزيلُ الشيءَ عن صفته، فإذا كانت صفة هذا الواجِب سقوطه بمضي الزمان شرعاً لم يُزله حكم الحاكم عن صفته. فإن قيل: بقي قسم آخر، وهو أن يعتقد الحاكمُ السقوطَ بمضي الزمان ما لم يفرِضْ، فإن فُرِضَت، استقرت فهو يحكم باستقرارها لأجل الفرض لا بنفس مضي الزمان. قيل: هذا لا يُجدي شيئاً، فإنه إذا اعتقد سقوطها بمضي الزمان، وإن هذا هو الحقُّ والشرع، لم يَجُز له أن يلزم بما يعتقد سقوطه وعدم ثبوته، وما هذا إلا بمثابة ما لو ترافع إليه مضطر، وصاحبُ طعام غير مضطر، فقضي به للمضطر بعوضه، فلم يتفق أَخْذُهُ حتى زال الاضطرارُ، ولم يعط صاحبه العوضَ أنه يلزمه بالعوض، ويُلْزَمُ صاحِبُ الطعام ببذله له، والقريبُ يستحق النفقة لإِحياء مُهجته، فإذا مضى زمنُ الوجوب، حصل مقصودُ الشارع من إحيائه، فلا فائدة في الرجوع بما فات من سبب الإِحياء، ووسيلته مع حصول المقصود والاستغناء عن السبب بسبب آخر.
فإن قيل: فهذا ينتقِضُ عليكم بنفقةِ الزوجة، فإنها تستقِرُّ بمضي
الزمان، ولو لم تُفرض مع حصول هذا المعنى الذي ذكرتموه بعينه. قيل: النقضُ لا بُد أن يكون بمعلومِ الحكم بالنص أو الإِجماع، وسقوطُ نفقة الزوجة بمضي الزمان مسألة نزاع، فأبو حنيفة وأحمد في رواية يُسقطانها، والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى لا يُسقطانها، والذين لا يُسقطونها فرَّقوا بينها وبين نفقة القريب بفروق.
أحدها: أن نفقة القريب صلة.
الثاني: أن نفقة الزوجة تجب مع اليسار والإِعسار بخلاف نفقة القريب. الثالث: أن نفقة الزوجة تجب مع استغنائها بمالها، ونفقة القريب لا تجب إلا مع إعساره وحاجته.
الرابع: أن الصحابة رضي الله عنهم أوجبوا للزوجة نفقة ما مضى، ولا يُعرف عن أحد منهم قط أنه أوجب للقريب نفقة ما مضى، فصح عن عمر
رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم بأن يُنفقوا أو يُطلقوا، فإن طلقوا، بعثوا بنفقة ما مضى، ولم يُخالف عمر رضي الله عنه في ذلك منهم مخالف. قال ابن المنذر رحمه الله: هذه نفقةٌ وجبت بالكتاب والسنة والإِجماع، ولا يزول ما وجب بهذه الحجج إلا بمثلها.
قال المسقطون: قد شكت هند إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أبا سفيان لا يُعطيها كفايتها، فأباح لها أن تأخذ في المستقبل قدر الكفاية، ولم يُجَوِّز لها أخذ ما مضى، وقولُكم: إنها نفقة معاوضة، فالمعاوضة إنما هي بالصداق، وإنما النفقة لكونها في حبسه، فهي عانِيةٌ عنده كالأسير، فهى من جملة
عياله، ونفقتها مواساة، وإلا فكل من الزوجين يحصُلُ له من الاستمتاع مثلُ ما يحصل للآخر، وقد عاوضها على المهر، فإذا استغنت عن نفقة ما مضى فلا وجه لإِلزام الزوج به، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل نفقة الزوجة كنفقة القريب بالمعروف، وكنفقة الرقيق فالأنواع الثلاثة إنما وجبت بالمعروف مواساة لإِحياء نفس من هو في ملكه وحبسه، ومن بينه وبينه رحم وقرابة، فإذا استغنى عنها بمضي الزمان، فلا وجه لإِلزام الزوج بها، وأيُّ معروف في إلزامه نفقة ما مضى وحبسه على ذلك، والتضييق عليه، وتعذيبه بطول الحبس، وتعريض الزوجة لقضاء أوطارها مِن الدخول والخروج وعُشرةِ الأخدان بانقطاع زوجها عنها، وغيبةِ نظره عليها، كما هو الواقع، وفي ذلك من الفساد المنتشر ما لا يعلمه إلا الله، حتى إن الفروج لَتَعُجُّ إلى الله من حبس حماتها ومن يصونها عنها، وتسييبها في أوطارها، ومعاذ الله أن يأتي شرع الله لهذا الفساد الذي قد استطار شرارُه، واستعرت نارُه، وإنما أمر عمرُ بن الخطاب الأزواجَ إذا طلقوا أن يبعثوا بنفقة ما مضى، ولم يأمرهم إذا قَدِموا أن يفرضوا نفقَة ما مضى، ولا يُعْرَفُ ذلك عن صحابي البتة، ولا يلزم من الإِلزم بالنفقة الماضية بعدَ الطلاق وانقطاعها بالكُلية الإِلزامُ بها إذا عاد الزوج إلى النفقة والإِقامة، واستقبل الزوجةَ بكل ما تحتاج إليه، فاعتبارُ أحدهما بالآخر غيرُ صحيح، ونفقة الزوجة تجب يوماً بيوم، فهي كنفقةِ القريب، وما مضى فقد استغنت عنه بمضي وقته، فلا وجهَ لإِلزام الزوج به، وذلك منشأ العداوة والبغضاء بين الزوجين، وهو ضِدُّ ما جعله الله بينهما من المودة والرحمة، وهذا القولُ هو الصحيحُ المختارُ الذي لا تقتضي الشريعةُ غيره، وقد صرح أصحابُ الشافعي، بأن كسوة الزوجة وسكنها يسقُطان بمضى الزمان إذا قيل: إنهما إمتاع لا تمليك، فإن لهم في ذلك وجهين.
فصل
وأما فرضُ الدراهم، فلا أصل له في كتاب الله تعالى، ولا سنة رسولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم البتة، ولا التابعين، ولا تابعيهم، ولا نصَّ عليه أحدّ من الأئمة الأربعة، ولا غيرُهم من أئمة الإِسلام، وهذه كتبُ الآثار والسنن، وكلامُ الأئمة بين أظهرنا، فأوجِدُونا من ذكر فرضَ الدراهم. والله سبحانه أوجب نفقة الأقارب والزوجات والرقيق بالمعروف، وليس مِن المعروف فرضُ الدراهم، بل المعروف الذي نص عليه صاحبُ الشرع أن يُطعمهم مما يأكل، ويكسوهم مما يَلْبَسُ، ليس المعروف سوى هذا، وفرضُ الدراهم على المنفق من المنكر، وليست الدراهمُ من الواجب ولا عوضه، ولا يَصِحُّ الاعتياضُ عما لم يستقر ولم يملك، فإن نفقة الأقارِب والزوجات إنما تجب يوماً فيوماً، ولو كانت مستقرة لم تصح المعاوضةُ عنها بغير رضى الزوج والقريب، فإن الدراهم تجعلُ عوضاً عن الواجب الأصلي، وهو إما البرُّ عند الشافعي، أو الطعامُ المعتاد عند الجمهور، فكيف يُجبر على المعاوضة على ذلك بدراهم مِن غير رِضاه، ولا إجبار صاحب الشرع له على ذلك، فهذا مخالف لقواعد الشرع، ونصوص الأئمة، ومصالح العباد، ولكن إن اتفق المنفِقُ والمنفق عليه على ذلك جاز باتفاقهما، هذا مع أنه في جواز اعتياضِ الزوجة عن النفقة الواجبة لها نزاع معروف في مذهب الشافعي وغيره، فقيل: لا تعتاض، لأن نفقتها طعام ثبت في الذمة عوضاً، فلا تعتاضُ عنه قبل القبض، كالمسلم فيه، وعلى هذا فلا يجوزُ الاعتياضُ لا بدارهم ولا ثياب، ولا شيء البتة، وقيل: تعتاضُ بغير الخبز والدقيق، فإن الاعتياضَ بهما رباً، هذا إذا كان الاعتياضُ عن الماضي، فإن كان عن
المستقبل، لم يصح عندهم وجهاً واحداً، لأنها بصدد السقوط، فلا يُعلم استقرارها.
ذكر ما روي من حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تمكين المرأة من فراق زوجها إذا أعسر بنفقتها.
روى البخاري في "صحيحه"، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللهِ: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنىً "، وفي لفظ: " ما كان عَنْ ظَهْرِ غِنىً، واليَدُ العلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلَى، وابْدَأْ بِمن تَعُولُ "، تقول المرأةُ: إما أن تُطعِمَنى،وإما أن تُطَلّقَني، ويقول العبدُ: أطعمني واستَعمِلني، ويقول الولدُ: أطعمني، إلى من تدعني؟ قالوا: يا أبا هريرة سمعتَ هذا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: لا. هذا مِنْ كِيسِ أبي هريرة. وذكر النسائي هذا الحديث في كتابه وقال فيه: "وابْدَأ بِمن تَعُولُ"، فقيل: من أعولُ يا رسول الله؟ قال: "امْرَأتُكَ تَقُولُ: أَطْعِمْني وإلاّ فَارِقني، خَادِمكَ يَقُولُ: أَطْعِمْني واسْتَعْمِلْني، وَلَدُكَ يَقُولُ: أَطْعِمْني إلى مَن تَترُكني؟ ". وهذا في جميع نسخ كتاب النسائي، هكذا، وهو عنده من حديث سعيد بن أيوب، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وسعيد ومحمد ثقتان.
وقال الدارقطني: حدثنا أبو بكر الشافعي، حدثنا محمد بن بشر بن مطر، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " المَرْأَةُ تَقُولُ لِزَوْجِهَا: أَطْعِمْني أَوْطَلِّقْني"الحديث.
وقال الدارقطني: حدثنا عثمانُ بن أحمد بن السماك، وعبدُ الباقي ابن قانع، وإسماعيل بن علي، قالوا: أخبرنا أحمد بن علي الخزاز، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الباوردي،حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب،في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته، قال: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وبهذا الإِسناد إلى حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله.
وقال سعيد بن منصور في "سننه": حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، قال: سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يَجِدُ ما يُنْفِقُ على امرأته، أَيُفرَّقُ بينهما؟ قال: نعم. قلت سنة؟ قال: سنة. وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فغايتُه أن يكون من مراسيل سعيد بن المسيب.
واختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على أقوال.
أحدها: أنه يُجبر على أن يُنْفِقَ أو يُطلِّقَ، روى سفيان عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن ابن المسيب، قال: إذا لم يجد الرجلُ ما يُنفق على امرأته، أُجْبِرَ على طلاقها.
الثاني: إنما يُطلِّقها عليه الحاكمُ، وهذا قولُ مالك، لكنه قال: يؤجل في عدم النفقة شهرا ونحوه، فإن انقضى الأجلُ وهي حائضٌ، أُخِّرَ حتى تطهر، وفي الصداقة عامين، ثم يُطلقها عليه الحاكمُ طلقة رجعية، فإن أيسر في العدة، فله ارتجاعُها، وللشافعي قولان. أحدهما: أن الزوجة تخير إن شاءت أقامت معه، وتبقى نفقة المُعْسِرِ ديناً لها في ذمته. قال أصحابه: هذا إذا أمكنته مِن نفسها، وإن لم تُمكنه، سقطت نفقتها، وإن شاءت، فسخت النكاح.
والقول الثاني: ليس لها أن تفسخ، لكن يرفع الزوجُ يدَه عنها لتكتسِبَ، والمذهب أنها تملِكُ الفسخ.
قالوا: وهل هو طلاقٌ أو فسخ؟ فيه وجهان.
أحدهما: أنه طلاق، فلا بُدَّ من الرفع إلى القاضي حتى يُلزمه أن يطلِّقَها أو ينفق، فإن أبى طلق الحاكم عليه طلقةً رجعيةً، فإن راجعها، طلَّقَ عليه ثانية، فإن راجعها، طلق عليه ثالثة.
والثاني: أنه فسخ، فلا بد من الرفع إلى الحاكم ليثبتَ الإِعسارُ، ثم تفسخ هي، وإن اختارت المقام، ثم أرادت الفسخَ، ملكته، لأن النفقة يتجدد وجوبُها كل يوم، وهل تملك الفسخَ في الحال أولا تملِكُه إلا بعد مضي ثلاثة أيام؟ وفيه قولان. الصحيح عندهم: الثاني. قالوا: فلو وجد في اليوم الثالث نفقتها وتعذَّر عليه نفقةُ اليوم الرابع، فهل يجب استئنافُ هذا الإِمهال؟ فيه وجهان. وقال حماد بن أبي سليمان: يؤجل سنة ثم يفسخ قياساً على العِنِّين. وقال عمر بن عبد العزيز: يُضرب له شهر أو شهران. وقال مالك: الشهرُ ونحوه. وعن أحمد روايتان. إحداهما،
وهي ظاهر مذهبه: أن المرأة تخيَّرُ بين المقام معه وبين الفسخ. فإن اختارت الفسخ رفعته إلى الحاكم، فيُخيَّر الحاكم بين أن يفسخ عليه أو يجبره على الطلاق، أو يأذنَ لها في الفسخ، فإن فسخ أو أذن في الفسخ، فهو فسخ لا طلاق ولا رجعة له، وإن أيسر في العدة. وإن أجبره على الطلاق، فطلق رجعياً، فله رجعتُها، فإن راجعها وهو مُعْسِرٌ، أو امتنع من الإِنفاق عليها، فطلبت الفسخ، فسخ عليه ثانياً وثالثاً، وإن رضيت المقام معه مع عُسرته، ثم بدا لها الفسخُ، أو تزوجته عالمة بعُسرته، ثم اختارت الفسخ، فلها ذلك.
قال القاضي: وظاهرُ كلام أحمد: أنه ليس لها الفسخُ في الموضعين، ويبطل خيارُها، وهو قول مالك لأنها رضيت بعيبه، ودخلت في العقد عالمةً به، فلم تملك الفسخَ، كما لو تزوَّجَت عِنِّينا عالمةً بعنَّته. وقالت بعد العقد: قد رضيت به عِنِّيناَ. وهذا الذي قاله القاضي: هو مقتضى المذهب والحجة.
والذين قالوا: لها الفسخُ - وإن رضيت بالمقام - قالوا: حقُّها متجدِّد كل يوم، فيتجدَّدُ لها الفسخُ بتجدُّدِ حقها، قالوا: ولأن رضاها يتضمَّن إسقاطَ حقها فيما لم يجب فجهِ مِن الزمان، فلم يسقط كإسقاط الشفعة قبل البيع. قالوا: وكذلك لو أسقطت النفقة المستقبلة، لم تسقط، وكذلك لو أسقطتها قبل العقد جملة ورضيت بلا نفقة، وكذلك لو أسقطت المهر قبله، لم يسقط، وإذا لم يسقط وجوبُها لم يسقط الفسخ الثابت به. والذين قالوا بالسقوط أجابُوا عن ذلك بأن حقها في الجماع يتجدَّد، ومع هذا إذا أسقطت حقها من الفسخ بالعُنَّة سقط، ولم تَمْلِكِ الرجوعَ فيه.
قالوا: وقياسُكم ذلكَ على إسقاط نفقتها قياسٌ على أصلٍ غيرِ متفق عليه، ولا ثابت بالدليل، بل الدليلُ يدلُ على سقوطِ الشفعة بإسقاطها
قبل البيع، كما صحَّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا يَحِلُّ له أن يبيعَ حتى يُؤذِنَ شَرِيكَهُ، فإن باعه ولَمْ يُؤذِه، فَهوَ أَحَقُّ بِالبَيْعِ"، وهذا صريحٌ في أنه إذا أسقطها قبل البيع لم يملِكْ طلبَها بعده، وحينئذ فيجعل هذا أصلاً لسقوط حقها مِن النفقة بالإِسقاط، ونقول: خيارٌ لدفع الضررِ، فسقط بإسقاطه قبل ثبوته، كالشفعة، ثم ينتقضُ هذا بالعيب في العين المؤجرة، فإن المستأجرَ إذا دخلَ عليه، أو علِمَ به، ثم اختار ترك الفسخ، لم يكن له الفسخُ بعد هذا، وتجدّد حقِّه بالانتفاع كُلَّ وقت، كتجدد حق المرأة من النفقة سواء ولا فرق، وأما قوله: لو أسقطها قبل النكاح، أو أسقط المهرَ قبلُه، لم يسقط، فليس إسقاط الحقِّ قبل انعقاد سببه بالكليَة كإسقاطه بعد انعقاد سببه، هذا إن كان في المسألة إجماع، وإن كان فيها خلاف، فلا فرق بين الإِسقاطين، وسوينا بين الحُكمين، وإن كان بينهما فرق امتنع القياس. وعنه رواية أخرى: ليس لها الفسخ، وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه. وعلى هذا لا يلزمُها تمكينُه مِن الاستمتاعِ، لأنه لم يُسلم إليها عوضه، فلم يلزمها تسليمُه، كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع، لم يجب تسليمُه إليه، وعليه تخليةُ سبيلها لِتكتسِبَ لها، وتحصل ماتُنفقه على نفسها، لأن في حبسها بغير نفقة إضراراً بها.
فإن قيل: فلو كانت موسِرةً، فهلاَّ يملك حبسها؟ قيل قد قالُوا أيضاً: لا يملِكُ حبسها، لأنه إنما يملِكهُ إذا كفاها المؤنة، وأغناها عمَّا لا بُدَّ لها منه مِن النفقة والكسوة، ولحاجته إلى الاستمتاع الواجب له عليها،
فإذا انتفى هذا وهذا لم يَمْلِكْ حبسَها، وهذا قولُ جماعة من السلف والخلف.
ذكر عبد الرزاق عن ابن جُريج قال: سألتُ عطاء عمن لا يجد ما يصلحُ امرأته مِن النفقة؟ قال: ليس لها إلا ما وجدت، ليس لها أن يُطلقها. وروى حماد بن سلمة، عن جماعة، عن الحسن البصري أنه قال في الرجل يَعجِزُ عن نفقة امرأته: قال: تُواسيه وتتَّقي الله وتصبِرُ، ويُنفق عليها ما استطاع. وذكر عبد الرزاق، عن معمر، قال: سألتُ الزهري عن رجل لا يجد ما يُنفق على امرأته، أيفرَّقُ بينهما؟ قال: تستأني به ولا يفرَّق بينهما، وتلا: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إلاَّ مَا آتاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بعد عُسْر يُسْراً} [الطلاق: 7] . قال معمر: وبلغني عن عمر بن عبد العزيز مثلُ قول الزهري سواء. وذكر عبدُ الرزاق، عن سفيان الثوري، في المرأة يُعْسِرُ زوجُها بنفقتها: قال: هي امرأة ابتُليَت، فلتصبر ولا تأخذ بقول من فرَّق بينهما.
قلتُ: عن عُمر بن عبد العزيز ثلاثُ روايات، هذه إحداها.
والثانية: روى ابنُ وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن أبيه، قال: شهدتُ عمر بن عبد العزيز يقول لزوج امرأة شكت إليه أنه لا يُنفِقُ عليها: أضربوا له أجلاً شهراً أو شهرين، فإن لم يُنفق عليها إلى ذلك الأجل، فرقوا بينه وبينها.
والثالثة: ذكر ابن وهب، عن ابن لهيعة،عن محمد بن عبد الرحمن، أن رجلاً شكى إلى عمر بن عبد العزيز بأنه أنكح ابنته رجلاً لا يُنفق عليها، فأرسل إلى الزوج، فأتى، فقال: أنكحني وهو يَعْلَمُ أنه ليس لي شيء، فقال عمر: أنكحته وأنت تَعرِفُه؟ قال: نعم. قال:
فما الذي أصنع؟ اذهب بأهلك.
والقول بعدم التفريق مذهبُ أهل الظاهر كُلِّهم، وقد تناظر فيها مالك وغيرُهُ، فقال مالك: أدركتُ الناسَ يقولون: إذا لم يُنفق الرجل على امرأته فُرِّقَ بينهما. فقيل له: قد كانت الصحابة رضي الله عنهم يُعسِرُون ويحتاجون، فقال مالك: ليس الناسُ اليوم كذلك، إنما تزوجته رجاءً.
ومعنى كلامه: أن نساء الصحابة رضي الله عنهم كُنَّ يُرِدْنَ الدارَ الآَخرة، وما عند الله، ولم يكن مرادُهُنَّ الدنيا، فلم يكنَّ يُبالين بعُسر أزواجهن، لأن أزواجهن كانوا كذلك. وأما النساء اليوم، فإنما يتزوجن رجاء دنيا الأزواج ونفقتهم وكسوتهم، فالمرأة إنما تدخل اليوم على رجاء الدنيا، فصار هذا المعروفُ كالمشروط في العقد، وكان عرفُ الصحابة ونسائهم كالمشروط في العقد، والشرط العرفيّ في أصل مذهبه، كاللفظي، وإنما أنكر على مالك كلامَه هذا من لم يفهمه ويفهم غورَه.
وفي المسألة مذهب آخر، وهو أن الزوج إذا أعسر بالنفقة، حُبِسَ حتى يجدَ ما يُنفقه، وهذا مذهب حكاه الناس عن ابن حزم،وصاحب"المغني"وغيرهما عن عُبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة. ويالله العجب! لأي شيء يُسجن ويُجمع عليه بين عذاب السجن وعذاب الفقر، وعذاب البعد عن أهلِه؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، وما أظن من شمَّ رائحة العلم يقول هذا.
وفي المسألة مذهب آخر، وهو أن المرأةَ تكَلَّفُ الإِنفاق عليه إذا كان عاجزاً عن نفقة نفسه، وهذا مذهبُ أبي محمد بن حزم، وهو خيرٌ بلا شك من مذهب العنبري. قال في "المحلى": فإن عجز الزوج عن نفقة نفسه، وامرأتُه غنيةٌ،كُلِّفت النفقة عليه، ولا ترجع بشيء من ذلك، إن أيسر،
برهانُ ذلك قولُ الله عز وجل {وَعَلَى الموْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالمعْرُوف لا تكلَفُ نَفْسٌ إلاًّ وُسْعَها لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بولَدهَا ولاَ مَولُودٌ لَهُ بِوَلدِهِ وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} [البقرة: 233] فالزوجةُ وارثة، فعليها النفقةُ بنص القرآن.
ويا عجباً لأبي محمد! لو تأمل سياقَ الآية، لتبين له منها خلافُ ما فهمه، فإن الله سبحانه قال: {وعَلَى المَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وهذا ضميرُ الزوجات بلا شك، ثم قال: {وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} [البقرة: 233]، فجعل سُبحانه على وارث المولود له، أو وارثِ الولد من رزق الوالدات وكسوتهن بالمعروف مثل ما على المَوروث، فأين في الآية نفقة على غير الزوجات؟ حتى يحمل عمومها على ما ذهب إليه.
واحتج من لَم ير الفسخ بالإِعسار بقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلا مَا أتاهَا} [الطلاق: 7] قالوا: وإذا لم يُكلفه الله النفقة في هذه الحال، فقد ترك ما لا يجب عليه، ولم يأثم بتركه، فلا يكون سبباً للتفريق بينه وبين حبِّه وسكَنه وتعذيبه بذلك. قالوا: وقد روى مسلم في "صحيحه": من حديث أبي الزبير، عن جابر، دخل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجداه جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً، فقالَ أبو بكر: يا رسول الله! لو رأيتَ بنت خارجة سألتني النفقة فقمتُ إليها، فوجأتُ عنقها، فضَحِكَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: هُنَّ حَوْلِي كما ترى يَسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأُ عُنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقولُ: تسألنَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ليس عنده، فقلن: والله لا نسأَلُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً أبداً ما ليس عنده، ثم اعتزلهُنّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً
وذكر الحديث.
قالوا: فهذا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يضربان ابنتيْهما بحضرة رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ سألاه نفقةً لا يجِدُها. ومن المحال أن يضرِبا طالبتين للحق، ويُقرَّهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك، فدلَّ على أنه لا حقَّ لهما فيما طلبتاه من النفقة في حال الإِعسار، وإذا كان طلبُهما لها باطلاً، فكيف تمكن المرأةُ من فسخ النكاح بعدم ما ليس لها طلبُه، ولا يحلُّ لها، وقد أمر الله سبحانه صاحب الدَّين أن يُنْظِرَ المُعْسِرَ إلى الميسرة، وغايةُ النفقة أن تكون ديناً، والمرأةُ مأمورة بإنظار الزوج إلى الميْسَرَةِ بنص القرآن هذا إن قيل: تثبت في ذمة الزوج، وإن قيل: تسقط بمضي الزمان، فالفسخ أبعد وأبعد.
قالوا: فالله تعالى أوجب على صاحب الحقِّ الصبرُ على المعسر، وندبه إلى الصَّدَقَةِ بترك حقه، وما عدا هذين الأمرين، فجورٌ لم يُبحه له، ونحن نقولُ لهذِهِ المرأة كما قال الله تعالى لها سواءً بسواءٍ؟ إما أن تُنظريه إلى الميسرة، وإما أن تَصَدَّقي، ولا حقَ لَكِ فيما عدا هذين الأمرين.
قالوا ولم يزل في الصحابة المُعْسِرُ والموسِرُ، وكان مُعسِرُوهم أضعافَ أضعافِ موسريهم، فما مكَّن النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطُ امرأةً واحدة من الفسخ بإعسار زوجها، ولا أعلمها أن الفسخَ حق لها فإن شاءت، صبرت، وإن شاءت، فَسَخَتْ، وهو يشرعُ الأحكام عن الله تعالى بأمره، فهبْ أن الأزواج تركن حقهن، أفما كان فيهن امرأةٌ واحدةٌ تُطالِبُ بحقها، وهؤلاء نساؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيرُ نساء العالمين يُطالبنه بالنفقة حتى أغضبنه، وحلفَ ألا يدخُلَ عليهن شهراً مِن شدة مَوْجِدَتِهِ عليهن، فلو كان مِن المستقر في شرْعِهِ أن المرأة تملِكُ الفسخَ بإعسار زوجها لرفع إليه ذلك، ولو مِن امرأة واحدة،
وقد رُفع إليه ما ضرورتُه دون ضرورة فقد النفقة من فقد النكاح، وقالت له امرأة رِفاعة: إني نكحتُ بعد رِفاعة عبد الرحمن بن الزبير، وإن ما معه مِثْلُ هُدْبَةِ الثوب. تُريد أن يُفَرّقَ بينه وبينها. ومن المعلوم أن هذا كان فيهم في
غاية النُّدرة بالنسبة إلى الإِعسار، فما طلبت منه امرأة واحدة أن يفرِّقَ بينه وبينها بالإِعسار.
قالوا: وقد جعل الله الفقر والغنى مطيَّتينِ للعباد، فيفتقِرُ الرجل الوقت ويستغني الوقتَ، فلو كان كُلُّ من افتقر، فسخت عليه امرأته، لعم البلاءُ، وتفاقم الشرُّ، وفسخت أنكحة أكثرِ العالم، وكان الفراق بيدِ أكثر النِساء، فمن الذي لم تُصِبْهُ عُسْرةٌ، ويعوز النفقة أحياناً.
قالوا: ولو تعذَّر من المرأةِ الاستمتاع بمرض متطاول، وأعسرت بالجماع، لم يمكن الزوجُ مِن فسخ النكاح، بل يُوجبون عليه النفقة كاملة مع إعسار زوجته بالوطء، فكيف يُمكنونها مِن الفسح بإعساره عن النفقة التي غايتُها أن تكون عوضاً عن الاستمتاع؟
قالوا: وأما حديثُ أبي هريرة، فقد صرَّحَ فيه بأن قوله: امرأتك تقول: أنفق عليَّ وإلا طلقني، من كِيسه، لا مِن كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا في "الصحيح" عنه. ورواه عنه سعيد بن أبي سعيد، وقال: ثم يقول أبو هريرة. إذا حدث بهذا الحديث: امرأتُك تقول، فذكر الزيادة.
وأما حديثُ حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثله، فأشار إلى حديث يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته. قال: يُفرق بينهما، فحديثٌ منكر لا يحتمِلُ أن يكونَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصلاً، وأحسنُ أحواله أن يكون عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً، والظاهر: أنه
رُوي بالمعنى، وأراد قوله أبي هريرة رضي الله عنه: امرأتك تقول: أطعمني أو طلقني، وأما أن يكونَ عند أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه سئل عن الرجل لا يجد ما يُنفِقُ على امرأتِه، فقال: يُفرق بينهما، فواللهِ ما قال هذا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا سمعه أبو هريرة، ولا حدَّث به، كيف وأبو هريرة لا يستجيزُ أن يَرويَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "امرأتُك تقول: أطعمني وإلا طلقني"،
ويقول: هذا من كيس أبي هريرة لئلا يتوهم نسبته إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.والذي تقتضيه أصولُ الشريعة وقواعدها في هذه المسألة أن الرجل إذا غرَّ المرأة بأنه ذو مال، فتزوجته على ذلك، فظهر مُعْدماً لا شيء له، أو كان ذا مالٍ، وترك الإِنفاق على امرأته، ولم تَقدرْ على أخذ كفايتها من ماله بنفسها، ولا بالحاكم أن لها الفَسخ، وإن تزوجته عالمةً بعُسرته، أو كان موسِراً، ثم أصابته جائحةٌ اجتاحت مالَه، فلا فسخَ لها في ذلك، ولم تزل الناس تصيبهم الفاقة بعد اليسار، ولم ترفعهم أزواجُهم إلى الحكام ليفرقوا بينهم وبينهن، وبالله التوفيق.
وقد قال جمهورُ الفقهاء: لا يثبت لها الفسخُ بالإِعسار بالصداق، وهذا قولُ أبي حنيفة وأصحابه، وهو الصحيحُ من مذهب أحمد رحمه الله، اختاره عامة أصحابه، وهو قولُ كثير من أصحاب الشافعي. وفصل الشيخ أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة، فقالا: إن كان قبلَ الدخول، ثبت به الفسخُ، وبعده لا يثبت، وهو أحدُ الوجوه من مذهب أحمد هذا مع أنه عِوض محضٌ، وهو أحق أن يوفى من ثمن المبيع، كما دل عليه النص، كلُّ ما تقرر في عدم الفسخ به، فمثله في النفقة وأولى.
فإن قيل: في الإِعسار بالنفقةِ مِن الضرر اللاحق بالزوجة ما ليس
في الإِعسار بالصَّداق، فإن البِنية تقوم بدونه بخلاف النفقة. قيل: والبِنية قد تقوم بدون نفقته بأن تُنفِقَ من مالها، أو يُنفِق عليها ذو قرابتها، أو تأكل من غزلها، وبالجملة، فتعيشُ بما تعيشُ به زمن العدة، وتُقدر زمن عُسرة الزوج كله عدَّة.
ثم الذين يُجوزون لها الفسخ يقولُون: لها أن تفسخ ولو كان معها القناطيرُ المقنطرة مِن الذهب والفضة إذا عجز الزوجُ عن نفقتها، وبإزاء هذا القول قولُ مِنجنيق الغرب أبي محمد بن حزم: إنه يجب عليها أن تُنفِقَ عليه في هذه الحال، فتُعطيه مالها، وتُمكِّنُه من نفسها، ومن العجب قولُ العنبري بأنه يُحبس.
وإذا تأملت أصولَ الشريعة وقواعدَها، وما اشتملت عليه من المصالح ودرء المفاسد، ودفعِ أعلى المفسدتين باحتمالِ أدناهما، وتفويتِ أدنى المصلحتين لتحصل أعلاهما، تبَين لكَ القولُ الراجحُ مِن هذه الأقوال، وبالله التوفيق.
فصل: في حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموافق لكتابِ الله أنه لا نفقة للمبتوتة ولا سكنى
روى مسلم في "صحيحه"، عن فاطمة بنت قيس، أن أبا عمرو بن حفص طلَّقها ألبتةَ وهو غائب، فأرسلَ إليها وكيلُه بشعير، فسخِطَتْهُ فقال: واللهِ مالَكِ علينا مِن شيء، فجاءت رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك له وما قَالَ، فقال: "لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ" ، فأمرها أن تعتد في بيت أمِّ شريك، ثم قال: " تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصحَابي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابنِ أُمِّ مَكْتُوم،
فإنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكِ، فَإذا حَلَلْتِ فآذِنيني ". قالت: فلما حللتُ، ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني،فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عاتِقِهِ، وأمَّا مُعاويةُ فصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ" فكرهته، ثم قال: "انْكِحي أسامة بنَ زَيْدٍ" فنكحته، فجعلَ اللهُ فيه خيراً واغتبطتُ. وفي "صحيحه" أيضاً: عنها أنها طَلقها زوجها في عهدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أنفقَ عليها نفقةً دوناً فلما رأت ذلك، قالت: والله لأُعْلِمَنَّ رَسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن كانت لي نفقةٌ أخذتُ الذي يُصلِحُني،وإن لم تكُن لي نفقةٌ،لم آخذْ منه شيئاً، قالت: فذكرتُ ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَ: "لاَ نَفَقَةَ لكِ وَلاَ سُكْنى".
وفي "صحيحه" أيضاً عنها، أن أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلَّقها ثلاثاً، ثم انطلق إلى اليمن، فقال لها أهلُه: ليس لَكِ عَلَيْنَا نفقة، فانطلق خالدُ بن الوليد في نفرٍ، فأتوْا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت ميمونة، فقالوا: إن أبا حَفْصٍ طلَّق
امرأته ثلاثاً، فهل لها مِن نفقة؟ فقال رسولُ اللَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْست لَهَا نَفَقَةّ وعَلَيهَا العِدَّةُ "، وأرسل إليها: "أَنْ لا تَسْبِقيني بِنَفْسِكِ" ، وأمرها أن تنتقِلَ إلى أمَّ شريك، ثم أرسل إليها: "أَنَّ أُمَّ شرِيكٍ يأتيها المهاجِرونَ الأَوَّلونَ، فانْطِلقي إلى ابْنِ أُمِّ مَكتُومٍ الأَعْمَى فَإنَّكِ إِذَا وَضعْتِ خِمَارَكِ لَم يَرَكِ"، فانطلَقَت إليه، فلما انقضت عدَّتُها أنكحَهَا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسامَة بن زيد بن حارثة.
وفي "صحيحه" أيضاً، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها، وأمر لها الحارث بن هشام، وعياشُ بن أبي ربيعة بنفقة، فقالا لها: والله ما لَكِ نفقةٌ إلا أن تكوني حاملاً، فأتت النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمََ، فذكرت له قولهما، فقال: "لا نَفَقَةَ لَكِ"، فاستأذنته في الانتقال، فأذنَ لها، فقالت: أين يا رسولَ اللهِ؟ قال : "إلى ابنِ أمِّ مَكتوم"، وكان أعمى تَضَعُ ثيابَها عندهُ ولا يَراهَا، فلما مضت عِدَّتها، أنكحها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسامة بن زيد، فأرسلَ إليهَا مروانُ قَبيصَةَ بنَ ذُؤيب يسألُهَا عن الحديث، فحدثته به، فقال مروان لم نسمع هذا الحديثَ إلا مِن امرأة، سنأخُذ بالعِصمة التي وجدنا النَاسَ عليها، فقالت فاطمة حين بلغها قولُ مروان: بيني وبينكم القرآنُ، قال الله عز وجلَّ : {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بيوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبيَنةٍ} إلى قوله: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً}[الطلاق: 1]، قالت: هذا لمن كان له مراجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟! فكيف تقولون: لا نفقة لها إذا لم تكن حاملاً، فعلام تحبسونها؟!.
وروى أبو داود في هذا الحديث بإسناد مسلم عقيب قولِ عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام: لا نفقة لك إلا أن تكوني حَاملاً، فاتتِ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "لا نَفَقَةَ لَكِ إلاَّ أَنْ تكوني حَاملاً".
وفي "صحيحه" أيضاً عن الشعبي قال: دخلتُ على فاطمة بنتِ
قيس، فسألتُها عن قضاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليها، فقالت: طلَّقها زوجُها البتة، فخاصمته إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السُّكنى والنفقة، قالت: فلم يجعل لي سُكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتدَّ في بيت ابن أم مكتوم.
وفي "صحيحه" عن أبي بكر بن أبي الجهم العدوي، قال: سمعتُ فاطمة بنت قيس تقولُ: طلقها زوجُها ثلاثاً، فلم يجعل لها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُكنَى ولا نفقة، قالت: قال لي رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا حَلَلْتِ فآذِنيني" ، فآذنته، فخطبها معاويةُ، وأبُو جهم، وأسامةُ بن زيد، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أمَا معاوية فرجُل ترِب لا مال لهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضرّابٌ لِلنِّساءِ، ولكِنْ أُسامةُ بنُ زيْد" ، فقالت بيدها هكذا: أسامة! أسامة! فقال لها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "طَاعَةُ اللهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ خَيرٌ لَكِ "، فتزوجتُه، فاغتبطتُ.
وفي "صحيحه" أيضاً عنها قالت: أرسل إلي زوجي أبو عمرو بن حفص بن المغيرة عياشَ بن أبي ربيعة بطلاقي، فأرسل معه بخمسة آصُع تمرٍ، وخمسة آصعِ شعير، فقلتُ: أما لي نفقة إلا هذا؟ ولا أعتَدُّ في منزلكم؟ قال: لا، فشددتُ عليَّ ثيابي، وأتيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "كَمْ طَلَّقَكِ؟"قلتُ: ثلاثاً. قال : "صَدَقَ، لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ، اعْتدِّي في بَيْتِ ابن عَمِّكِ ابنِ أُمِّ مَكْتُوم، فإنه ضَريرُ البَصَرِ تَضَعِينَ ثَوْبَكِ عِندَهُ، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُكِ فآذِنيني".
وروى النسائي في "سننه" هذَا الحَديثَ بطرقه وألفاظه، وفي
بعضِها بإسناد صحيح لا مطعن فيه، فقال لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّما النَّفَقَةُ والسُّكْنى لِلْمرأةِ إذا كان لِزوجِها عَليْها الرّجْعةُ"، ورواه الدارقطني وقال: فأتت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكَرَتْ ذلك له، قالت: فلم يَجْعَلْ لي سكنى ولا نفقة، وقال: "إِنَّمَا السكنى والنَّفَقَة لِمَنْ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ". وروى النسائي أيضاً هذا اللفظ، وإسنادهما صحيح.
ذكر موافقة هذا الحكم لكتاب الله عزَّ وجل
قال الله تعالى: { يَأَيُّهَا النَّبيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النَسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا العِدَّةَ واتَّقُوا اللهَ رَبّكُم لا تُخْرِجُوهنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إلاَّ أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبيَّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدًودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَم نفْسَهُ لا تدْرِي لعلَ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِكَ أَمْراً * فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بمعروفٍ أَوْ فَارقُوهُنَّ بمَعْرُوفٍ وأَشهِدوا ذوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمُ وَأَقِيمُوا الشّهَادَةَ للّهِ}، إلى قوله: {قدْ جعل اللهُ لِكُلّ شيءَ قَدْراً} [الطلاق: 1-3] فأمر الله سبحانه الأزواج الذين لهم عند بلوغ الأجلِ الإِمساكُ والتسريحُ بأن لا يُخرجوا أزواجهم مِن بيوتهم، وأمر أزواجَهن أن لا يَخْرُجْنَ، فدلَّ على جواز إخراج من ليس لزوجها إمساكُها بعدَ الطلاق، فإنه سبحانه ذكر لهؤلاء المطلقات أحكاماً متلازمة لا ينفكُّ بعضُها عن بعض.
أحدها: أن الأزواج لا يُخرجوهن مِن بيوتهن
والثاني: أنهن لا يَخْرُجْنَ مِن بيوت أزواجهن.
والثالث: أن لأزواجهن إمساكَهن بالمعروف قبلَ انقضاء الأجل، وترك الإِمساك، فيُسرِّحوهن بإحسان.
والرابع: إشهاد ذَويْ عدل، وهو إشهادٌ على الرجعة إما وجوباً، وإما استحباباً، وأشار سُبحانه إلى حكمة ذلك، وأنه في الرجعيات خاصة بقوله: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1] والأمر الذي يُرجَى إحداثُه هاهنا: هو المراجعة. هكذا قال السلف ومن بعدهم. قال ابنُ أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية، عن داود الأودي، عن الشعبي:{ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1]، قال: لعلك تَنْدَمُ، فيكون لك سبيلٌ إلى الرجعة، وقال الضحاك: {لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1] قال: لعله أن يُراجِعَها في العِدَّةِ، وقاله عطاء، وقتادة، والحسن، وقد تقدَّم قول فاطمة بنت قيس: أي أمر يحدُثُ بعد الثلاث؟ فهذا يدل على أن الطلاقَ المذكور: هو الرجعيُّ الذي ثبتت فيه هذه الأحكامُ، وأن حِكمة أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، اقتضته لعل الزوج أن يَندَمَ، ويزولَ الشَّرُّ الذى نَزَغَهُ الشيطانُ بينهما، فتتبعها نفسه، فيُراجعَها، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لو أنَّ الناسَ أخذوا بأمر الله في الطًّلاقِ، ما تتبع رجل نفسه امرأة يُطلِّقها أبداً.
ثم ذكر سبحانه الأمر بإسكان هؤلاء المطلقاتِ، فقال: {أَسْكِنوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتم منْ وُجْدِكُم} [الطلاق: 6] فالضمائر كلّهَا يَتَّحِدُ مفسرها، وأحكامها كلها متلازمة، وكان قولُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إنَّما النَّفَقَةُ والسّكْنَى لِلْمَرأَةِ إذَا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيهَا رَجْعَةٌ"، مشتقاً من كتابِ اللهِ
عز وجل، ومفسِّراً له، وبياناً لمراد المتكلِّم به منه، فقد تبين اتحادُ قضاءِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكتابِ الله عز وجل، والميزانُ العادل معهما أيضاً لا يُخَالفهما، فإن النفقَةَ إنما تكونُ للزوجة، فإذا بانت منه، صارت أجنبيةً حكمُها حكمُ سائر الأجنبيات، ولم يبق إلا مجردُ اعتدادها منه، وذلك لا يُوجِبُ لها نفقة، كالموطوءة بشُبهة أو زنى، ولأن النفقة إنما تجب في مقابلة التمكنِ من الاستمتاع، وهذا لا يُمكِنُ استمتاعُه بها بعد بينونتها، ولأن النفقة لو وجبت لها عليه لأجلِ عدتها، لوجبت للمتوفَّى عنها من ماله، ولا فَرْقَ بينهما البتة، فإن كُلَّ واحد منهما قد بانت عنه، وهي معتدة منه، قد تعذَّر منهما الاستمتاعُ، ولأنها لو وجبت لها السكنى، لوجبت لها النفقةُ، كما يقوله من يوجبها. فأما أن تجب لها السكنى دون النفقة، فالنصُّ والقياسُ يدفعه، وهذا قولُ عبد الله بن عباس وأصحابه، وجابر بن عبد الله، وفاطمة بنت قيس إحدى فقهاء نساء الصحابة وكانت فاطمة تُناظر عليه، وبه يقول أحمد بن حنبل وأصحابه، وإسحاق بن راهويه وأصحابه، وداود بن علي وأصحابُه، وسائر أهل الحديث. وللفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال، وهي ثلاث روايات عن أحمد: أحدها: هذا. والثاني: أن لها النفقةَ والسكنى، وهو قولُ عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وفقهاء الكوفة. والثالث: أن لها السكنى دون النفقة، وهذا مذهب أهل المدينة، وبه يقول مالك والشافعي.
ذكر المطاعن التي طعن بها على حديث فاطمة بنت قيس قديماً وحديثاً
فأولها طعنُ أميرِ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فروى مسلم في "صحيحه": عن أبي إسحاق،قال: كنت مع الأسود بن يزيد
جالساً في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فحدَّث الشعبيُّ بحديث فاطمة بنت قيسٍ، أن رسولَ الله ِصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كفأ مِن حصى، فحصبه به، فقال: وَيْلَكَ تُحدِّث بمثل هذا؟ قال عمر: لاَ نَتْرُكُ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نبيِّنا! لِقول امرأة لا نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ؟ لَهَا السُّكْنَى والنَّفَقَةُ قال الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبيًنَةٍ} [الطلاق: 1] قالوا: فهذا عمرُ يخبر أن سنةَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لها النفقةَ والسكنى، ولا ريبَ أن هذا مرفوعٌ، فإن الصحابيَّ إذا قال: من السنة كذا، كان مرفوعاً، فكيف إذا قال: مِن سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكيف إذا كان القائلُ عمر بن الخطاب؟ وإذا تعارضت رواية عمر رضي الله عنه، وروايةُ فاطمة، فرواية عمر رضي الله عنه أولى لا سيما ومعها ظاهر القرآن، كما سنذكر. وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية،حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، قال: كان عُمر بن الخطاب إذا ذُكِرَ عنده حديثُ فاطمة بنتِ قيس قال: ما كنا نغير في ديننا بِشَهادَةِ امرأة.
ذكر طعن عائشة رضي الله عنها في خبر فاطمة بنتِ قيس
في "الصحيحين": من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، قال: تزوَّجَ يحيى بنُ سعيد بن العاص بنتَ عبد الرحمن بن الحكم فطلقها، فأخرجها مِن عنده، فعابَ ذلك عليهم عروةُ، فقالوا: إن فاطمةَ قد خرجت، قال عروةُ: فأتيت عائشة رضي الله عنها، فأخبرتها بذلك، فقالت:
ما لِفاطمة بنتِ قيس خيْرٌ أن تذكرَ هذَا الحديثَ. وقال البخاري: فانتقلها عبدُ الرحمن، فأرسلت عائشةُ إلى مروان وهو أميرُ المدينة، اتّقِ اللهَ واردُدْها إلى بيتها. قال مروان: إن عبدَ الرحمن بن الحكم غلبني، وقال القاسم بن محمد: أو ما بلغك شأنُ فاطمة بنت قيس؟ قالت: لا يضرك ألا تذكر حديثَ فاطمة، فقال مروان: إن كان بِك شرٌ، فحسبُك ما بينَ هذينِ من الشر.
ومعنى كلامه: إن كان خروجُ فاطمة لما يُقال من شر كان في لسانها،فيكفيك ما بين يحيى بن سعيد بن العاص وبين امرأتِهِ مِن الشر.
وفي "الصحيحين": عن عروة، أنه قال لعائشة رضي الله عنها: أَلَم تَرَيْ إلى فُلانَة بنتِ الحكم طلَّقها زوجُها البتة فخرجت، فقالت: بِئْسَ مَا صَنَعَتْ، فقلتُ: أَلَمْ تسمعي إلى قولِ فاطمة، فقالت: أما إنَّه لا خَيْرَ لها في ذكر ذلك.
وفي حديث القاسم، عن عائشة رضي الله عنها يعني: في قولها: لا سكنى لها ولا نفقة. وفي "صحيح البخاري": عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لفاطمة: ألا نتقي الله، تعني في قولها لا سكنى لها ولا نفقة وفي "صحيحه" أيضاً: عنها قالت: إن فاطمةَ كانَتْ في مكانِ وَحْشٍ، فَخِيفَ على ناحِيتها، فلذلكَ أرخصَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها
وقال عبد الرزاق: عن ابن جريج، أخبرني ابن شهاب، عن عُروة، أن عائشةَ رضي الله عنها أنكرت ذلك على فاطمة بنتِ قيس، تعني: "انتقالَ المطلقة ثلاثاً".
وذكر القاضي إسماعيل حدثنا نصر بن علي، حدثني أبي، عن هارون عن محمد بن إسحاق، قال: أحسِبُه عن محمد بن إبراهيم، أن عائشة رضي الله عنها قالت لفاطمة بنت قيس: إنما أخرجَكِ هذا اللسان.
ذكر طعن أسامة بنِ زيدٍ حبِّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابنِ حبه على حديث فاطمة
روى عبد الله بن صالح كاتب الليث، قال: حدثني الليثُ بن سعد، حدثني جعفر، عن ابن هرمز، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: كان محمد بنُ أسامة بن زيد يقول: كان أسامةُ إذا ذكرت فاطمة شيئاً مِن ذلك يعنى انتقالها في عدتها رماها بما في يده.
ذكرُ طعن مروان على حديث فاطمة
روى مسلم في "صحيحه": من حديث الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة حديثَ فاطمة هذا: أنه حدَّث به مروان،فقال مروان، لم نسمع هذا إلا من امرأة سنأخذ بالعِصمة التي وجدنا الناس عليها.
ذكرُ طعنِ سعيدِ بن المسيَّب
روى أبو داود في "سننه": من حديث ميمون بن مِهران، قال: قدمتُ المدينةَ، فَدُفِعْتُ إلى سعيدِ بن المسيبِ، فقلتُ: فاطمة بنت قيس طلِّقت، فخَرجَت مِن بيتها، فقال سعيد: تلك امرأة فَتنَتِ الناسَ إنها كانت امرأةً لَسِنَة، فَوُضِعَتْ عَلَى يدي ابنِ أمِّ مكتوم الأعمى.
ذكر طعن سليمان بن يسار
روى أبو داود في "سننه" أيضاً، قال في خروج فاطمة: إنما كان مِن سُوءِ الخُلُقِ.
ذكر طعن الأسود بن يزيد
تقدَّمَ حديث مسلم: أن الشعبي حدَّث بحديث فاطمة، فأخذ الأسود كفاً مِن حصباء فحصبه به، وقال: ويلك تحدث بمثل هذا؟! وقال النسائي: ويلك لِمَ تُفتي بمثل هذا؟ قال عمر لها: إن جئتِ بشاهدين يشهدانِ أنهما سمعاه من رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا لم نترُكْ كِتَابَ رَبِّنَا لِقَولِ امرأة.
ذكر طعن أبي سلمة بن عبد الرحمن
قال الليث: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، فذكر حديث فاطمة ثم قال: فأنكر الناسُ عليها ما كانت تُحدِّث من خروجها قبل أن تَحِلَّ، قالوا: وقد عارض رواية فاطمة صريحُ رواية عُمر في إيجاب النفقة والسكنى، فروى حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، أنه أخبر إبراهيم النخعي بحديث الشعبي عن فاطمة بنت قيس، فقال له إبراهيمُ: إن عمر أُخْبِرَ بقولهَا، فقال: لسنا بتاركي آية من كتاب الله وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقول امرأة لعلَّها أوهمت، سمعت النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لَهَا السُّكْنَى والنَفَقَةُ" ذكره أبو محمد في "المحلى"، فهذا نص صريح يجب تقديمُه على حديث فاطمة لِجلالة رواته، وتركِ إنكارِ الصحابةِ عليه وموافقته لِكتاب الله.
ذكر الأجوبة عن هذه المطاعن وبيان بطلانها
وحاصلها أربعة.
أحدُها: أن راويتها امرأة لم تأتِ بشاهدينِ يتابعانها على حديثها.
الثاني: أن روايتها تضمَّنت مخالفةَ القرآن.
الثالث: أن خروجَها من المنزل لم يكن لأنه لا حقَّ لها في السكنى، بلا لأذاها أهلَ زوجها بلسانها.
الرابع: معارضة روايتِها برواية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
ونحن نبين ما في كل واحد من هذه الأمور الأربعة بحول الله وقوته، هذا مع أن في بعضها مِن الانقطاع، وفي بعضها مِن الضعف، وفي بعضها من البُطلان ما سَنُنَبهُ عليه، وبعضُها صحيح عمن نسب إليه بلا شك.
فأما المطعنُ الأول: وهو كونُ الراوي امرأة، فمطعن باطلٌ بلا شك، والعلماء قاطبة على خلافة، والمحتجُّ بهذا من أتباع الأئمة أوَّلُ مبطل له ومخالف له، فإنهم لا يختلفون في أن السننَ تُؤخذ عن المرأة كما تُؤخذ عن الرجل، هذا وكم مِن سنة تلقاها الأئمة بالقبولِ عن امرأة واحدة من الصحابة، وهذه مسانيد نساءِ الصحابة بأيدي الناس لا تشاءُ أن ترى فيها سنةً تفرَّدت بها امرأةّ منهن إلا رأيتَها، فما ذنبُ فاطمةَ بنتِ قيس دون نساء العالمين، وقد أخذ الناس بحديث فُريعة بنت مالِك بن سنان أختِ أبي سعيد في اعتدادِ المتوفَّى عنها في بيت زوجها وليست فاطمةُ بدونها علماً وجلالةً وثقةً وأمانةً، بل هي أفقهُ منها بلا شك، فإن فُريعة لا تُعرف إلا في هذا الخبر وأما شهرةُ فاطمة، ودعاؤها من نازعها مِن الصحابة إلى كتاب الله، ومناظرتها على ذلك، فأمر مشهور، وكانت أسعدَ بهذه المناظرة ممن خالفها كما مضى تقريرُه، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يختلِفونَ في الشيء، فتروي لهم إحدى أمهات المؤمنين عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً، فيأخذون به، ويرجعون إليه، ويتركون ما عندهم له، وإنما فُضِّلْنَ على فاطمة بنت قيس بكونهن أزواجَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا فهي مِن المهاجرات الأول، وقد رضيها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِبِّه
وابنِ حِبِّه أسامة بن زيد، وكان الذي خطبها له. وإذا شئتَ أن تعرف مقدارَ حفظها وعلمها، فاعرفه مِن حديث الدَّجَالِ الطويلِ الذي حدث به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر، فوعته فاطمةُ وحفظته، وأدته كما سمعته، ولم ينكره عليها أحد مع طوله وغرابته، فكيف بقصة جرت لها وهي سببها، وخاصمت فيها، وحكم فيها بكلمتين: وهى لا نفقة ولا سكنى، والعادة تُوجبُ حفظ مثل هذا وذكره، واحتمال النسيان فيه أمر مشترك بينها وبين من أنكر عليها، فهذا عمرُ قد نسي تيمُّمَ الجنب، وذكرهُ عمار بن ياسر أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهما بالتيمم من الجنابة،فلم يذكره عمر رضي الله عنه، وأقام على أن الجنب لا يصلي حتى يجد الماء.
ونسي قولَه تعالى: {وإِنْ أَرَدْتُم استِبْدَالَ زَوجٍ مَكَانَ زَوجٍ وَآْتيتُم إحْدَاهن قِنْطَاراً فَلاَ تَأخُذُوا مِنهُ شَيئا} [النساء: 20].
حتى ذكَّرته به امرأَة، فرجعَ إلى قولها
ونسي قوله: {إنَّكَ ميِّتٌ وَإنَّهُمْ مَيّتونَ} [الزمر: 30] حتى ذُكر بهِ، فإن كان جوازُ النسيان على الراوي يُوجب سقوطَ روايته، سقطت روايةُ عمر التي عارضتم بها خبر فاطمة، وإن كان لا يُوجب سقوطَ روايته، بطلت المعارضةُ بذلك، فهي باطلة على التقديرين، ولو رُدَّتِ السُّننُ بمثل هذا، لم يبق بأيدي الأمة منها إلا اليسير، ثم كيف
يُعارِضُ خَبر فاطمة، ويَطْعَنُ فيهِ بمثل هذا مَنْ يرى قبولَ خبرِ الواحد العدل، ولا يشترطُ للرواية نِصاباً، وعمر رضي الله عنه أصابه في مثل هذا ما أصابه في رد خبر أبي موسى في الاستئذان حتى شهد له أبو سعيد، وردَّ خبرَ المغيرة بنِ شُعبة في إملاصِ المرأةِ حتى شَهِدَ له مُحمَّدُ بن مسلمة، وهذا كان تثبيتاً منه رضي الله عنه حتى لا يركب الناس الصَّعبَ والذَّلُولَ في الرواية عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا فقد قَبِلَ خبرَ الضحاك بن سفيان الكلابي وحده وهو أعرابي، وقبل لعائشة رضي الله عنها عدةَ أخبار تفرَّدت بها، وبالجملة، فلا يقول أحد: إنه لا يقبل قولُ الراوي الثقة العدل حتى يشهد له شاهدان لا سيما إن كان من ا لصحابة.
فصل
وأما المطعن الثاني: وهو أن روايتها مخالفة للقرآن، فنجيب بجوابين: مجملٍ، ومفصلٍ، أما المُجمل: فنقولُ: لو كانت مخالفة كما ذكرتم، لكانت
مخالفةً لعمومه،فتكون تخصيصاً للعام، فحكمُها حكمُ تخصيص قوله: {يُوصِيكُم اللهُ في أَوْلاَدِكُم} [النساء: 11] ، بالكافر، والرقيق، والقاتل، وتخصيصِ قولِه :{وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذلِكُم} [النساء: 24] بتحريم الجمعِ بينَ المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها ونظائره، فإن القرآنَ لم يخُصَّ البائن بأنها لا تَخْرُج ولا تُخْرَجُ، وبأنها تسكن من حيث
يسكنُ زوجها، بل إما أن يَعُمَّها ويَعُمَّ الرجعية، وإما أن يخُصَّ الرجعيةَ.
فإن عمَّ النوعينِ، فالحديثُ مخصِّصٌ لعمومه، وإن خص الرجعيات وهو الصواب للسياق الذي مَنْ تدبَّره وتأمله قطع بأنه في الرجعيات من عدة أوجه قد أشرنا إليها، فالحديث ليس مخالفاً لكتاب الله، بل موافق له، ولو ذُكِّرَ أميرُ المؤمنين رضي الله عنه بذلك، لكان أوَّل راجع إليه، فإن الرجل كما يذهَلُ عن النص يذهَلُ عن دلالته وسياقه وما يقترن به مما يتبين المراد منه وكثيرا ما يذهل عن دخول الواقعة المعينة تحتَ النصِّ العام واندراجِه تحتها، فهذا كثيرٌ جداً، والتفطُنُ له من الفهم الذي يُؤتيه الله مَنْ يشاء من عباده، ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مِن ذلك بالمنزلة التي لا تُجهل، ولا تستغرقها عبارةٌ، غيرَ أن الغسيان والذُّهولَ عُرضةٌ للإِنسان، وإنما الفاضلُ العالمُ من إذا ذُكِّرَ ذَكَرَ وَرَجَعَ.
فحديثُ فاطمة رضي الله عنها مع كتاب الله على ثلاثة أطباق لا يخرُج عن واحد منها، إما أن يكون تخصيصاً لعامه. الثاني: أن يكون بياناَ لما لم يتناوله، بل سكت عنه. الثالث: أن يكون بياناً لما أريد به وموافِقاً لما أرشد إليه سياقه وتعليله وتنبيهه، وهذا هو الصوابُ، فهو إذن موافق له لا مخالف، وهكذا ينبغي قطعاً، ومعاذَ اللهِ أن يحكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يُخالف كتاب الله تعالى أو يعارضه، وقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله هذا مِن قول عمر رضي الله عنه، وجعل يتبسَّمُ ويقول: أين في كتاب الله إيجاب السكنى والنفقة للمطلقة ثلاثاً، وأنكرته قبله الفقيهة الفاضلة فاطمة، وقالت: بيني وبينكم كتابُ الله، قال الله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِك أَمْراً} [الطلاق: 1] وأي أمر يحدث بعد الثلاث، وقد تقدم أن قوله: {فإِذَا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَأمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2]،
يشهد بأن الآيات كلها في الرجعيات.
فصل
وأما المطعن الثالث: وهو أن خروجها لم يكن إلا لِفحش من لسانها، فما أبردَه من تأويل وأسمجَه، فإن المرأة مِن خيار الصحابةِ رضي الله عنهم وفُضلائهم، ومِن المهاجرات الأول، وممن لا يحملها رِقّةُ الدين وقلة التقوىَ على فُحش يُوجب إخراجَها من دارها، وأن يمنع حقها الذي جعله الله لها، ونهى عن إضاعته، فيا عجباً! كيف لم يُنْكِرْ عليها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الفُحْشَ؟ ويقول لها: اتقي الله، وكُفِّي لسانَك عن أذى أهل زوجك، واستقري في مسكنكِ؟ وكَيفَ يَعْدِلُ عن هذا إلى قوله: "لا نفقة لك ولا سكنى" ، إلى قوله: " إنَّمَا السُّكنَى والنَّفَقةُ لِلمَرْأَةِ إذا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا رَجْعَةٌ؟!" فيا عجباً! كيف يُترك هذا المانع الصريح الذي خرج من بين شفتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويُعلَّل بأَمرٍ موهوم لم يعلل به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،البتة ولا أشار إليه، ولا نبه عليه؟ هذا من المحال البيَن. ثم لو كانت فاحشة اللسان وقد أعاذها اللهُ من ذلك، لقال لها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسمعت وأطاعتْ: كفي لِسانَك حتى تنقضيَ عِدَّتُكِ، وكان من دونها يسمع ويطيع لئلا تخرج من سكنه.
فصل
وأما المطعنُ الرابع: وهو معارضةُ روايتِها برواية عمر رضي الله عنه، فهذه المعارضةُ تُورد مِن وجهين. أحدهما: قوله: لا نَدَعُ كتابَ ربنا
وسنةَ نبينَا، وأن هذا مِن حكم المرفوع. الثاني: قوله: سمعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لَهَا السُّكْنَى والنَّفَقَةُ" . ونحن نقول: قد أعاذ الله أميرَ المؤمنين مِن هذا الكلام الباطل الذي لا يَصِحُّ عنه أبداً. قال الإِمام أحمد: لا يَصِحُّ ذلك عن عمر. وقال أبو الحسن الدارقطني:
بل السنةُ بيد فاطمة بنت قيس قطعاً، ومن له إلمام بسنة رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشهدُ شهادة الله أنه لم يكن عند عمر رضي الله عنه سنة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن للمطلقة ثلاثاً، السكنى والنفقة، وعمر كان أتقى للّه، وأحرصَ في تبليغ سننِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أن تكونَ هذه السنةُ عنده، ثم لا يرويها أصلاً، ولا تبينها ولا يُبلغها عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما حديثُ حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن عمر رضي الله عنه، رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لَهَا السُّكْنَى والنَّفَقَةُ"، فنحن نشهَدُ باللهِ شهادةً نُسألُ عنها إذا لقيناه، أن هذا كذبٌ على عُمَرَ رضي الله عنه، وكذب على رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وينبغي أن لا يَحمِلَ الإِنسانَ فرطُ الانتصارِ للمذاهب والتعصب لها على معارضةِ سننِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحيحةِ الصريحةِ بالكذب البحت، فلو يكونُ هذا عند عمر رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لخرستَ فاطمة وذووها، ولم يَنْبِسوا بكلمة، ولا دَعَتْ فاطمة إلى المناظرة، ولا احتِيجَ إلى ذكر إخراجها لبَذاء لسانها، ولما فات هذا الحديث أئمةَ الحديثِ والمصنفين في السنن والأحكام المنتصرين للسنن فقط لا لِمذهب، ولا لرجل، هذا قبل أن نَصِلَ به إلى إبراهيم، ولو قدر؟وصولُنا بالحديث إلى إبراهيم لا نقطع نخَاعُهُ، فإن إبراهيم لم يُولد إلا بعد موت عمر رضي الله عنه بسنين، فإن كان مخبرٌ أخبر به إبراهيم عن عمر رضي الله عنه، وحسنَّا به الظن،
كان قد روى له قول عمر رضي الله عنه بالمعنى، وظنَّ أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي حكم بثبوت النفقة والسكنى للمطلقة، حتى قال عمُر رضي الله عنه: لا ندع كتابَ ربنا لِقول امرأة، فقد يكون الرجل صالحاً ويكون مغفَّلاً، ليس تَحمُّلُ الحديثِ وحفظُه وروايتُه مِن شأنِهِ، وباللهِ التوفيق.
وقد تناظر في هذه المسألة ميمونُ بن مهران، وسعيدُ بن المسيِّب، فذكر له ميمون خبر فاطمة، فقال سعيد: تلك امرأة فتنتِ الناسَ، فقال له ميمون: لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما فَتَنَتِ الناسَ، وإن لنا في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوةً حسنة، مع أنها أحرمُ الناس عليه ليس لها عليه رجعة، ولا بينهما ميراث. انتهى.
ولا يعلم أحدٌ من الفقهاء رحمهم الله إلا وقد احتجَّ بحديث فاطمة بنت قيس هذا، وأخذ به في بعض الأحكام كمالك، والشافعي. وجمهورُ الأمة يحتجون به في سقوط نفقة المبتوتة إذا كانت حائلاً، والشافعي نفسُه احتج به على جواز جمع الثلاث، لأن في بعض، ألفاظه: فطلقني ثلاثاً، وقد بيَّنا أنه إنما طلقها آخرَ ثلاثٍ كما أخبرت به عن نفسها. واحتجَّ به من يرى جوازَ نظر المرأة إلى الرجال، واحتج به الأئمة كُلُّهُم على، جوازِ خِطبة الرجل على خِطبة أخيه إذا لم تكن المرأةُ قد سكنت إلى الخاطب الأول، واحتجوا به على جواز بيان ما في الرجل إذا كان على وجه النصيحةِ لمن استشاره أن يزوِّجه، أو يُعامِلَه، أو تسافِرَ معه، وأن ذلك ليس بغيبة، واحتجوا به على جواز نكاحِ القرشية من غير القرشي، واحتجوا به على وقوعِ الطلاق في حال غيبة أحدِ الزوجين عن الآخر، وأنه لا يُشترط حضورُه ومواجهتُه به، واحتجوا به على جواز التعريض بخطبة المعتدة البائن، وكانت هذه الأحكامُ كُلُها حاصلةً ببركة روايتها، وصدقِ حديثها، فاستنْبَطَتْها الأمةُ منها، وعملت بها، فما بالُ روايتها
ترد في حكم واحدٍ من أحكام هذا الحديث، وتُقبل فيما عداه؟! فإن كانت حفظته، قبلت في جميعه، وإن لم تكن حفظته وجب أن لا يقبل في شيِء من أحكامه وبالله التوفيق.
فإن قيل: بقي عليكم شيء واحد، وهو أن قوله سبحانه: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُم مِنْ وُجْدِكُم} [الطلاق: 6]، إنما هو في البوائن لا في الرجعيات، بدليل قوله عقيبه: {ولا تُضارُوهُنَ لِتُضَيِّقوا عَلَيْهِن وَإِنْ كُن أولاتِ حَمْلٍ فَأنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَى يَضَعْنَ حَملَهُنَ} [الطلاق: 6] ، فهذا في البائن، إذ لو كانت رجعية، لما قيد النفقة عليها بالحمل، ولكان عديم التأثير، فإنها تستحِقُها حائلاً كانت أو حاملاً، والظاهر: أن الضمير في "أسكنوهن" هو، والضمير في قوله: {وإنْ كُنَ أولاتِ حَمْل فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ}، واحد.
فالجواب: أن مُوْرِدَ هذا السؤالِ إما أن يكونَ من الموجبين النفقةَ
والسكنى، أو ممن يُوجب السُّكنى دون النفقة، فإن كان الأولُ، فالآيةُ على زعمه حجة عليه، لأنه سبحانه شرط في إيجاب النفقة عليهن كونهن حواملَ، والحكم المعلَّق على الشرط ينتفي عند انتفائه، فدل على أن البائنَ الحائلَ لا نفقة لها.
فإن قيل: فهذه دلالة على المفهوم، ولا يقولُ بها.
قيل: ليس ذلك مِن دلالة المفهوم، بل مِن انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه، فلو بقي الحكم بعد انتفائه، لم يكن شرطاً، وإن كان فمن يُوجب السكنى وحدها فيقال له: ليس في الآية ضمير واحد يخصُّ البائن، بل ضمائرها نوعان: نوع يخص الرجعية قطعاً، كقوله: {فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهنَّ بمَعْروفٍ} [الطلاق: 2]
ونوع يحَتمِلُ أن يكون للبائن، وأن يَكون للرجعيةِ، وأن يَكون لهما، وهو قوله: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1]، وقوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حيثُ سكنتُمْ مِنْ وجْدِكُم} [الطلاق: 6] فحمله على الرجعية هو المتعين لِتتحد الضمائرُ ومفسرها، فلو حمل على غيرها لزم اختلاف الضمائر ومفسرها وهو خلافُ الأصل، والحمل على الأصل أولى.
فإن قيل: فما الفائدة في تخصيص، نفقة الرجعية بكونها حاملاً؟
قيل: ليس في الآَية ما يقتضي أنه، لا نفقة للرجعية الحائل، بل الرجعيةُ نوعان، قد بيَّن اللهُ حكمهما في كتابه: حائل، فلها النفقة بعقد الزوجية، إذ حكمُها حكم الأزواج، أو حامل، فلها النفقة بهذه الآية إلى أن تضع حملها، فتصير النفقهُ بعد الوضع نفقةَ قريب لا نفقة زوج، فيخالف حالها قبل الوضع حالها بعده، فإن الزوج يُنفق عليها وحدَه إذا كانت حاملاً، فإذا وضعت، صارت نفقتها على من تجِبُ عليه نفقة الطفل، ولا يكون حالها في حال حملها كذلك، بحيث تجب نفقتُها على من تجب عليه نفقة الطفل، فإنه في حال حملها جزء من أجزائها، فإذا انفصل، كان له حكم آخر، وانتقلت النفقةُ مِن حكم إلى حكم، فظهرت فائدة التقييد وسر الاشتراط والله أعلم بما أراد من كلامه.
ذكر حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموافق لكتاب الله تعالى من وجوب النفقة للأقارب
روى أبو داود في "سننه": عن كليب بن منفعة، عن جده، أنه أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله ! من أبَرُّ؟ قال "أُمَّك وأَبَاكَ وأُخْتَكَ
وَأَخَاكَ وَمَوْلاَكَ الَّذِي يَلي ذاك، حَقّ وَاجِب ورَحِمٌ مَوْصُولَةٌ"
وروى النسائي عن طارِق المحاربي قال: قدمتُ المدينة، فإذا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائمٌ على المنبر يخطُب،الناسَ وهو يقول: "يَدُ المُعْطي العُلْيَا، وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ"
وفي "الصحيحين": عن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسولَ اللهِ ! من أحقُّ الناسِ بحُسن صَحَابتي؟ قال " أُمُكَّ"، قال: ثم من؟ قال: "أُمُّكَ"، قال: ثم من؟ قال: "أُمُّكَ"، قال: ثم من؟ قال: "أَبُوكَ ثُمَ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ".
وفي الترمذي، عن معاوية القُشيري رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسولَ الله ! مَنْ أَبَرُ؟ قال : "أُمَّكَ"، قلتُ: ثم مَنْ؟ قال: "أُمَّكَ"، قلت: ثم من؟ قال: "أُمَّك"، قلت: ثم مَن؟ قال: "أَبَاكَ ثُمَّ الأَقْرَبَ فَالأَقرَبَ".
وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهند: "خُذي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَك بِالمَعْرُوفِ".
وفي "سنن أبي داود"، من حديث عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتم مِنْ كَسْبِكُمْ، وإِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ كَسبِكُم فَكُلُوهُ هنيئاً". ورواه أيضاً من حديث،عائشة رضي الله عنها مرفوعاً.
وروى النسائي من حديث جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتصَدَّقْ عَلَيْهَا فَإِنْ فَضَلَ شَيءٌ، فَلأهْلِكَ، فَإنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيءٌ، فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابتكَ، فهكَذَا وهكَذَا".
وهذا كله تفسير لقوله تعالى: { وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وبِالوَالِدَينِ إحْسَاناً وبذِي القُرْبَى} [النساء: 36] وقوله تعالى: {وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ} [الإسراء: 26] فجعل سبحانه حق ذى القربى يلي حق الوالدين، كما جعله النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواءً بسواء، وأخبر سبحانه؟ أن لذي القربى حقاً على قرابته، وأمر بإتيانه إياه، فإن لم يكن ذلك حقَّ النفقةِ، فلا نَدْرِي أيَّ حقٍّ هُوَ. وأمر تعالى بالإِحسان إلى ذي القربى. ومن أعظم الإِساءَةَ أن يراه، يموت جوعاً وعُرْياً، وهو قادر على سد خَلَّته وستر عَوْرَتِهِ، ولا يطعمه لُقمة، ولا يَسْتُر له عَوْرَة إلا بأن يقرضه ذلك في ذِمَّتِهِ، وهذَا الحكم من، النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مطابق لكتاب الله تعالى حيث يقول: {وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَولَيْنِ كامِلَيْنِ لِمنَ أَرَادَ أَنْ يتُمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقهنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ لا نكَلِّفُ نَفْسٌ
إلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِها وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدهِ وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] فأوجب سبحانه وتعالى على الوارثِ مثل ما أوجب على المولود له، وبمثلِ هذا الحكم حكم أميرُ المؤمنين عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه. فروى سفيان بن عُيَيْةً، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسِّيب، أن عمر رضي الله عنه حَبَسَ عَصَبَةَ صبيٍّ على أن يُنْفقوا عليه، الرجال دون النِّساء. وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن شعيب، أن ابن المسيِّب أخبره، أن عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه، وقف بني عم على مَنْفُوسٍ كَلالة بالنفقة عليه مثل العاقلة، فقالوا: لا مال له، فقال: ولَوْ، وقوفُهم بالنفقة عليه كهيئة العقل، قال ابن المديني: قوله: ولو، أي: ولو لم يكن له مال. وذكر ابن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر، عن حجاج، عن عمرو، عن سعيد بن المسيب، قال: جاء ولي يتيم إلى عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه، فقال: أَنْفِق عليه، ثم قال: لو لم أجدْ إلا أقصى عشيرته لَفَرَضْتُ عليهم. وحكم بمثل ذلك أيضاً زيدُ بن ثابت.
قال ابن أبي شيبة: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن، عن مطرف،عن إسماعيل، عن الحسن، عن زيد بن ثابت، قال: إذا كان أُمّ وَعَمّ، فعلى الأم بقدر مِيراثها، وعلى العم بقدر مِيراثه، ولا يعرفُ
لعمر، وزيد مخالف في الصحابة البتَّةَ.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: {وعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} [البقرة: 233]، قال: على ورثة اليتيم أن ينفقوا عليه كما يرثونه. قلت له: أيحْبسُ وارث المولود إن لم يكن للمولود مال؟ قال: أفيدعُه يموت؟ وقال الحسن: {وعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} [البقرة: 233] قال: على الرجلِ الذي يَرِثُ أن ينفق عليه حتى يستغنيَ. وبهذا فسَّرَ الآية جمهورُ السلف، منهم: قتادة، ومجاهد، والضحاك، وزيدُ بن أسلم، وشريح القاضي، وقَبِيصةُ بنُ ذؤيب، وعبدُ الله بن عتبة بن مسعود، وإبراهيم النخعي، والشعبي، وأصحابُ ابن مسعود، ومن بعدهم: سفيان الثوري، وعبد الرزاق، وأبو حنيفة وأصحابه، ومن بعدهم: أحمد، وإسحاق، وداود وأصحابهم.
وقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على عدة أقوال.
أحدُها أنه لا يُجْبَرُ أحدٌ على نفقةِ أحدٍ من أقاربه، وإنما ذلك بِرٌ وصِلَة، وهذا مذهب يُعَزى إلى الشعبي. قال عبدُ بنُ حميدٍ الكَشِّي: حدثنا قَبِيصةُ، عن سفيان الثوري، عن أشعث، عن الشعبى، قال: ما رأيت أحداً أجبرَ أحداً على أحدٍ، يعني على نفقته. وفي إثبات هذا المذهب بهذا الكلام نظر، والشعبي أفقه من هذا، والظاهر أنه أراد: أن الناسَ كانوا أتقى للّه من أن يحتاج الغنيُّ أن يجبرَهُ الحاكم على الإِنفاق على قريبه المحتاج، فكان الناس يكتفون بإيجاب الشرع عن إيجاب الحاكم أو إجباره.
المذهب الثاني: انه يجب عليه النفقةُ على أبيه الأدنى، وأمِّه التي
ولدته خاصة، فهذان الأبوان يجبر الذكر والأنثى من الولد على النفقة عليهما إذا كانا فقيرين، فأما نفقةُ الأولادِ، فالرجل يُجْبرُ على نفقة ابنهِ الأدنى حتى يبلغ فقط، وعلى نفقة بنته الدنيا حتى تُزَوَّجَ، ولا يجبر على نفقة ابن ابنه، ولا بنت ابنه وإن سفلا، ولا تُجْبرُ الأُمُ على نفقة ابنها وابنتها ولو كانا في غاية الحاجة والأم في غاية الغنى، ولا تجب على أحد النفقةُ على ابن ابن، ولا جدٍّ، ولا أخٍ، ولا أختٍ، ولا عمٍّ،ولا عمةٍ ولا خالٍ ولا خالةٍ ولا أحد من الأقارب البتة سوى ما ذكرنا. وتجب النفقةُ مع اتحادِ الدِّين واختلافه حيث وجبت، وهذا مذهب مالك، وهو أضيقُ المذاهب في النفقات.
المذهب الثالث: أنه تجبُ نفقةُ عمودي النسب خاصة، دون مَنْ عداهم، مع اتفاق الدِّين، ويَسَارِ المنفِقِ، وقدرته، وحاجة المُنْفَقِ عليه، وعجزه عن الكسب بصغرٍ أو جنونٍ أو زمانةٍ إن كان من العمود الأسفل. وإن كانَ من العمود الأعلى: فهل يشترط عَجْزهُم عن الكسبِ؟ على قولين. ومنهم من طرَّد القولين أيضاً في العمود الأسفل. فإذا بلغ الولد صحيحاً، سقطت نفقته ذكراً كان أو أنثى، وهذا مذهب الشافعي، وهو أوسع من مذهب مالك.
المذهب الرابع: أن النفقة تَجِبُ على كل ذي رحم مَحْرَمٍ لذي رحمه فإن كان من الأولاد وأولادهم، أو الآباء والأجداد، وجبت نفقتُهم مع اتحاد الدَين واختلافه. وإن كان من غيرهم، لم تجب إلا مع اتحاد الدِّين، فلا يجب على المسلم أن ينفق على ذي رحمه الكافر، ثم إنما تجب النفقة بشرط قدرة المنفِق وحاجة المنفَقِ عليه. فإن كان صغيراً اعْتُبِرَ فَقْرُهُ فَقَط، وإن كان كبيراً، فإن كان أنثى، فكذلك، وإن كان
ذَكَراً، فلا بُدَّ مع فقره من عَمَاهُ أو زَمَانَتِهِ، فإن كان صحيحاً بصيرا لم تجب نفقته، وهي مرتَّبة عنده على الميراث إلا في نفقة الولد، فإنها على أبيه، خاصة على المشهور من مذهبه.
وروي عن الحسن بن زياد اللؤلؤي: أنها على أبويه خاصة بقدر ميراثهما طرداً للقياس، وهذا مذهب أبي حنيفة، وهو أوسعُ من مذهب الشافعي،
المذهب الخامس: أن القريب إن كان من عمودي النسب وجبتْ نفقته مطلقاً، سواءً كان وارثاً أو غير وارث، وهل يشترط اتحادُ الدِّين بينهم؟ على روايتين وعنه رواية أخرى: أنه لا تجبُ نفقتُهم إلا بشرط أن يرثهم بِفَرْضٍ أو تَعْصيب كسائر الأقارب. وإن كان من غير عمودي النسب، وجبت نفقتهم بشرط.
أن يكون بينه وبينهم توارث. ثم هل يشترط أن يكون التوارث من الجانبين، أو يكفي أن يكون من أحدهما؟ على روايتين. وهل يشترط ثبوت التَّوارُثِ في الحال، أو أن يكون من أهل الميراث في الجملة؟ على روايتين: فإن كان الأقارب من ذوي الأرحام الذين لا يرثون، فلا نفقةَ لهم على المنصوص عنه، وخرَّج بعض أصحابه وجوبَها عليهم من مذهبه من توارثهم، ولا بد عنده من اتِّحاد الدِّين بين المنفِق والمنفَقِ عليه حيث وجبت النفقة إلا في عمودي النسب في إحدى الروايتين. فإن كان الميراث بغير القرابة، كالولاء وجبت النفقة به في ظاهر مذهبه على الوارث دون الموروث، وإذا لزمتْه نفقةُ رجلٍ لزمته نفقةُ زوجتِهِ في ظاهر مذهبه. وعنه: لا تلزمه. وعنه: تلزمه في عمودي النسب خاصة دون مَنْ عداهم. وعنه: تلزمه لزوجة الأب خاصة، ويلزمه إعفاف عمودي نسبه بتزويج أو تَسَرٍّ إذا طلبوا ذلك.
قال القاضي أبو يعلى: وكذلك يجيءُ في كل مَنْ لزمته نفقتُه: أخ، أو عم، أو غيرهما يلزمُه إعفافُه، لأن أحمد رحمه الله قد نص في العبد يلزمه أن يزوجه إذا طلب ذلك، وإلا بيع عليه، وإذا لزمه إعفافُ رجل لزمه نفقة زوجته، لأنه لا تُمَكَّنُ من الإِعفاف إلا بذلك، وهذه غير المسألة المتقدمة، وهو وجوب الإِنفاق على زوجة المنفَق عليه، ولهذه مأخذ، ولتلك مأخذ، وهذا مذهب الإِمام أحمد، وهو أوسع من مذهب أبي حنيفة، وإن كان مذهب أبي حنيفة أوسعَ منه من وجه آخر حيثُ يُوجِبُ النفقةَ على ذوي الأرحام وهو الصحيح في الدليل، وهو الذي تقتضيه أصولُ أحمد ونصوصُه وقواعد الشرع، وصلةُ الرحم التي أمر الله أن تُوصَلَ، وحرَّمَ الجنة على كل قاطع رحم، فالنفقةُ تُسْتَحَقّ بشيئين: بالميراث بكتاب الله، وبالرحم بسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد تقدَمَ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حبس عَصَبَةَ صبيٍّ أن ينفقوا عليه، وكانوا بني عمه، وتقدَّمَ قولُ زيد بن ثابت: إذا كان عَمٌّ وأمٌّ فعلى العم بقدر ميراثه، وعلى الأم بقدر ميراثها، فإنه لا مخالف لهما في الصحابة البتة، وهو قولُ جمهورِ السلف، وعليه يدل قوله تعالى :{وآتِ ذا القُرْبَى حَقَّه} [الإسراء: 26]، وقوله تعالى: {وَبالْوَالدَيْن إحْسَاناً وَبذي القُرْبَى} [النساء: 36].
وقد أوجب النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأقارب، العطية وصرَّح بأنسابهم، فقال: " وأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ فأدناكَ، حَقٌّ وَاجِبٌ وَرَحِمٌ مَوْصُولَةٌ".
فإن قيل: فالمراد بذلك البِرُّ والصِّلةُ دون الوجوب.
قيل: يَرُدُّ هذا أنه سبحانه أمر به وسمَّاهُ حقاً، وأضافه إليه بقوله: "حَقَّهُ"، وأخبر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه حقٌّ، وأنه واجبٌ، وبعض هذا ينادى
على الوجوب جهاراً.
فإن قيل: المراد بحقه ترك قطيعته.
فالجواب: من وجهين. أحدهما: أن يقال: فأى قطيعة أعظم من أن يراه يتلظَّى جُوعاً وعَطَشاً، ويتأذَّى غاية الأذى بالحر والبرد،ولا يطعمه لقمة ولا يسقيه جرعة ولا يكسوه ما يستر عَوْرَتَهُ ويقيهِ الحرَّ والبردَ، ويُسْكِنُهُ تحت سقف يُظله، هذا وهو أخوه ابن أمه وأبيه، أو عمه صِنْو أبيه، أو خالته التى هى أمه، إنما يجب عليه من ذلك ما يجب بَدْلُهُ للأجنبىِّ البعيد، بأن يعاوضه على ذلك فى الذِّمَّةِ إلى أن يُوسر، ثم يسترجع به عليه، هذا مع كونه فى غاية اليَسَارِ والجِدَةِ، وسَعَةِ الأموال. فإن لم تكن هذه قطيعة، فإنا لا ندرى ما هى القطيعة المحرمة، والصِّلَةُ التى أمر الله بها، وحرَّمَ الجنة على قاطعها.
الوجه الثانى: أن يقال: فما هذه الصلة الواجبة التى نادت عليها النصوصُ، وبالغت فى إيجابها، وذَمَّتْ قاطعها؟ فأىُّ قَدْرٍ زائدٍ فيها على حق الاجنبىِّ حتى تَعْقِلَهُ القلوب، وتُخْبِرَ به الألسنة، وتَعْمَلَ به الجوارحُ؟ أهو السلامُ عليه إذا لقيه، وعيادتُه إذا مرض، وتشميتُه إذا عطس، وإجابتُه إذا دعاهُ، وإنكم لا تُوجبون شيئاً من ذلك إلا ما يجبُ نظيرُه للأجنبىِّ على الأجنبىِّ؟ وإن كانت هذه الصِّلةُ ترك ضربِه وسبه وأذاه والإزراء به، ونحو ذلك، فهذا حق يجبُ لكل مسلم على كُلِّ مسلم، بل للذمِّى البعيد على المسلم، فما خصوصيةُ صلةِ الواجبة؟ ولهذا كان بعضُ فضلاء المتأخِّرين يقول: أعيانى أن أعرف صلةَ الرحم الواجبة. ولما أَوْرَدَ الناسُ هذا على أصحابِ مالك، وقالوا لهم: ما معنى صلةِ الرحم عندكم؟ صَنَّفَ بعضُهم فى صلة الرحم كتاباً كبيراً، وأوعب فيه من
الآثارِ المرفوعةِ والموقوفة، وذكر جنسَ الصلة وأنواعها وأقسامها، ومع هذا فلم يتخلَّص من هذا الإلزام، فإن الصلة معروفة يعرفُها الخاصُّ والعام، والآثارُ فيها أشهر من العلم، ولكن ما الصِّلةُ التى تختَصُّ بها الرحمُ، وتجب له الرحمة، ولا يُشاركه فيها الأجنبى؟ فلا يُمكنكم أن تُعَيِّنوا وجوب شىءٍ إلا وكانت النفقةُ أوجبَ منه، ولا يمكنكم أن تَذْكُروا مُسْقِطاً لوجوب النَّفقة إلا وكان ما عداها أولى بالسقوط منه، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قَرَنَ حَقَّ الأخ والأخت بالأب والأم، فقال :"أُمَّكَ وأَبَاكَ، وأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ فَأَدْنَاكَ"، فما الذى نسخ هذا، وما الذى جعل أَوَّلَهُ للوجوب، وآخِرَهُ للاستحبابِ؟ وإذا عُرِفَ هذا، فليس من بِرِّ الوالدينِ أن يَدَعَ الرجلُ أباهُ يَكْنُسُ الكُنُفَ، ويُكارى على الحُمر، ويُوقِدُ فى أَتوُّنِ الحَمَّامِ، ويَحْمِلُ للناس على رأسه ما يَتَقَوَّتُ بأُجْرَتِهِ، وهو فى غاية الغِنى واليَسَار، وسَعَةِ ذاتِ اليدِ، وليس مِن بِرِّ أُمِّهِ أن يَدَعَهَا تَخْدُمُ النَّاسَ، وتغسلُ ثيابهم، وتسقى لهم الماء ونحو ذلك، ولا يصُونُها بما يُنْفِقهُ عليها، ويقول: الأبوان مُكْتَسِبَانِ صحيحانِ، وليسا بِزَمِنَيْنِ ولا أَعْمَيَيْنِ، فباللهِ العجبُ: أين شرطُ الله ورسولهِ فى برِّ الوالدين، وصِلَةِ الرَّحمِ أن يكون أحدُهم زَمِناً أو أعمى، وليست صِلَةُ الرَّحمِ ولا بِرُّ الوالدين موقوفةً على ذلك شرعاً ولا لغةً ولا عرفاً، وبالله التوفيق.
ذِكْرُ حكم رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الرضاعة وما يحرم بها، وما لا يحرم، وحُكمه فى القَدْرِ المحرِّم منها وحُكمه فى إرضاع الكبير، هل له تأثير، أم لا؟

ثبت فى "الصحيحين": من حديث عائشة رضى الله عنها، عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ الولاَدَة". وثبت فيهما: من حديث ابن عباس رضى الله عنهما أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُريد على ابنة حمزَة، فقال:
"إِنَّهَا لا تَحِلُّ لى، إنَّهَا ابنةُ أخى مِن الرَّضاَعَةِ وَيَحْرُمُ مِن الرَّضَاعَةِ ما يَحْرُمُ من الرَّحِم ".وثبت فيهما: أنه قال لعائشة رضى الله عنها: "ائذَنى لأَفْلَحَ أخى أبى القُعَيْسِ، فَإِنَّهُ عَمُّكِ" وكانَت امرأَتُه أرضعت عائشةَ رضى الله عنها.وبهذا أجاب ابنُ عباس لما سئل عن رجل له جاريتان، أرضعت إحداهما جاريةً، والأخرى غُلاماً: أَيحِلُّ للغلام أن يتزوجَ الجارية؟ قال: لا اللِّقَاحُ واحِدُ.
وثبت فى "صحيح مسلم" عن عائشة رضىالله عنها، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تُحَرِّمُ المَصَّةُ والمَصَّتانِ".
وفى رواية: "لاَ تُحَرِّمُ الإملاجَةُ والإملاجَتَانِ".
وفى لفظ له: أن رجلاً قال: يا رسولَ الله هل تحرِّم الرضعةُ الواحِدَةُ؟ قال: لا.
وثبت فى "صحيحه" أيضاً: عن عائشة رضى الله عنها قالت: كَانَ فيما نَزَلَ مِنَ القُرآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثم نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فتوفِّىَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهُنَّ فيما يقرأ مِن القرآن.
وثبت فى "الصحيحين": من حديث عائشة رضى الله عنها، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنَّمَا الرَّضَاعَةُ من المَجَاعَة".
وثبت فى "جامع الترمذى": من حديث أم سلمة رضى الله عنها، أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إلا ما فَتَقَ الأمْعَاء فى الثَّدْى وكَانَ قَبْل الفِطَام" ، وقال الترمذى: حديث صحيح.
وفى سنن الدارقطنى بإسناد صحيح، عن ابن عباسٍ يرفعه: "لا رضاع إلا ما كان فى الحولين".
وفى سنن أبى داود: من حديث ابن مسعود يرفعه: "لا يحرم مِن الرضَاع إلا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَرَ العَظْمَ".
وثبت فى "صحيح مسلم": عن عائشة رضى الله عنها قالت: جاءت سَهْلَة بنتُ سُهَيْل إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسول الله، إنى أرَى فى وجه أبى حُذَيْفَةَ مِن دُخُولِ سالمٍ وهو حَلِيفُهُ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "أَرْضِعيهِ تَحْرُمى عَلَيْهِ". وفى رواية له عنها قالت: جاءت سَهْلَةُ بنتُ سُهَيْل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسول الله، إنى أرى فى وجه أبى حُذَيْفَة من دخول سالم وهو حليفُه، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أرضعيهِ" ، فقالت: وكيف أُرضِعُهُ وهو رَجُلٌ كبير، فتبسَّم رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: "قد عَلِمْتُ أنه كبير".
وفى لفظ لمسلم: أن أم سلمةَ رضى الله عنها قالت لعائشةَ رضى الله عنها: إنه يدخُل عليك الغلامُ الأيْفَعُ الذى ما أُحِبُّ أن يدخلَ علىَّ، فقالت عائشةُ رضى الله عنها: أما لَكِ فى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوةٌ؟ إن امرأة أبى حُذيفة قالت: يا رسولَ الله، إن سالماً يدخلُ علىَّ وهو رَجُل، وفى نفس
أبى حُذيفَة منه شىءٌ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَرْضِعيهِ حَتّى يَدْخُل عَلَيْكِ".
وساقه أبو داود فى "سننه" سياقه تامة مطولة، فرواه من حديث الزهرى، عن عروة، عن عائشة وأم سلمة رضى الله عنهما، أن أبا حذيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان تبنَّى سالماً، وأنكَحَهُ ابنةَ أخيه هنداً بنتَ الوليد بن عتبة، وهو مولىً لامرأة من الأنصار، كما تَبَنَّى رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيداً، وكان مَنْ تَبَنَّى رجلاً فى الجاهلية، دعاهُ النَّاسُ إليه، وَوَرِثَ ميراثَه، حتى أنزل الله تعالى فى ذلك: { ادْعُوهُم لآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهم فَإخْوانُكم فى الدِّينِ ومَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] فردوا إلى آبائهم فمن لم يُعْلمْ له أبٌ كان مولىً وأخاً فى الدِّين، فجاءت سَهْلَة بنتُ سُهَيْل بن عَمْرو القرشى، ثم العامرى، وهى امرأةُ أبى حذيفة، فقالت: يا رسول اللهِ، إنا كُنَّا نرى سالِماً ولداً، وكان يأوى معى ومع أبى حذيفة فى بيتٍ واحدٍ، ويرانى فُضُلاً، وقد أنزلَ اللهُ تعالى فيهم ما قد عَلِمْتَ، فكيف تَرَى فيه؟ فقال رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أرضعيه" فأرْضعَتْهُ خمس رضعاتٍ، فكان بمنزلةِ ولدِها من الرَّضَاعَةِ، فبذلك كانت عائشةُ رضى الله عنها تأمُرُ بناتِ إخوتِها، وبناتِ أخواتهَا أَن يُرضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ عائشةُ رضى الله عنها أن يَرَاهَا ويدخلَ عليها، وإن كان كبيراً خَمْسَ رضعاتٍ، ثُمَّ يدْخُلُ عليها، وأَبَتْ ذلك أُمُّ سَلَمَةَ وسائرُ أزواجِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُدْخِلْنَ عليهنَّ أحداً بتلك الرِضاعةِ مِن الناس حتى يرضع فى المهد، وقلن لعائشة: والله ما ندرى لعلَّها كانت رُخْصَةً من النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسالم دُونَ الناس.
فتضمنت هذه السُّنَنُ الثابتةُ أحكاماً عديدةً، بعضها متفق عليه بين الأُمَّة، وفى بعضها نِزاع.
الحكم الأول: قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ ما تُحَرِّمُ الوِلادَةُ" ، وهذا الحكم متفقٌ عليه بين الأمَّةِ حتى عِند من قال: إن الزيادة على النص نسخ، والقرآنُ لا يُنْسخُ بالسُّنَّةِ، فإنه اضْطُر إلى قبولِ هذا الحكم وإن كان زائداً على ما فى القرآن، سواء سماه نسخاً أو لم يُسمه، كما اضطُر إلى تحريم الجمع بين المرأة وعمَّتِهَا، وبينَها وبينَ خالتها، مع أنه زيادةٌ على نص القرآن، وذكرها هذا مع حديث أبى القُعَيس فى تحريم لبن الفَحْل على أنَّ المرضعةَ والزوج صاحبَ اللَّبَن قد صارا أبوين للطفل، وصار الطفلُ ولداً لهما، فانتشرتِ الحُرْمة مِن هذِهِ الجهات الثلاثِ، فأولادُ الطفلِ وإن نزلوا أولادُ ولدِهما، وأولادُ كُلِّ واحد من المرضعة والزوج من الآخر ومن غيره، إخوتهُ وأَخواته من الجهات الثلاث. فأولادُ أحدهما من الآخر إخوتُه وأَخواته لأبيه وأمه، وأولاد الزوج من غيرها إخوته وأخواته من أبيه، وأولادُ المرضعة من غيره إخوتُه وأخواتُه لأمه، وصار آباؤها أجدَادَهُ وجَدَّاتِه، وصارَ إخوة المرأة وأخواتُها أَخوالَه وخالاتِه، وإخوةُ صاحب اللبن وأخَواتُه أعمامه وعَمَّاتِه، فَحُرْمَةُ الرَّضَاعِ تنتشر من هذه الجهات الثلاث فقط.
ولا يتعدَّى التحريمُ إلى غير المرتضع ممن هو فى درجته من إخوته وأَخَواتِهِ، فيُباح لأخيه نِكَاحُ مَنْ أرضعتْ أخاهُ وبناتِهَا وأمهاتِهَا، ويُباحُ لأُختِه نكاحُ صَاحِبِ اللبن وأباهُ وبنيه، وكذلك لا ينتشِرُ إلى مَنْ فوقه من آبائِهِ وأمهاتِهِ، ومَنْ فى درجتهِ مِن أعمامِهِ وعَمَّاتِهِ وأخوالِهِ وخالاتِهِ، فلأبى المرتضعِ مِن النسب، وأجدادهِ أن يَنْكِحُوا أُمَّ الطِّفْل من الرضاع
وأمهاتِها وأخَواتِهَا وبناتِهَا وبناتِهَا، وأن يَنْكِحُوا أُمَّهاتِ صاحبِ اللبن وأخواتِهِ وبناتِهِ، إذ نظيرُ هذا من النسب حلال، فللأخ من الأب أن يتزَوَّج أختَ أخيه من الأُمِّ، وللأْخ من الأم أن يَنْكِحَ أختَ أخيه من الأب، وكذلك يَنكِحُ الرجل أم ابنه من النسب وأختها، وأما أمُّها وبنتُها، فإنما حرمتا بالمصاهرة.
وهل يحرمُ نظيرُ المصاهرة بالرضاع، فيحرمُ عليه أمُّ امرأتِه مِن الرضاع، وبنتُها من الرَّضَاعة، وامرأةُ ابنه من الرَّضاعة، أو يحرمُ الجمعُ بين الأختين من الرَّضاعة، أو بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها من الرضاعة؟ فحرَّمه الأئمة الأربعة وأتباعهم، وتوقف فيه شيخُنا وقال: إن كان قد قال أحد بعدم التحريم، فهو أقوى.
قال المحرِّمون: تحريمُ هذا يدخلُ فى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاع مَا يَحْرُمُ من النَّسَبِ" فأجرى الرَّضاعة مجرى النسب، وشبَّهها به، فثبت تنزيلُ ولد الرضاعة وأبى الرضاعة منزلةَ ولد النسب وأبيه، فما ثبت للنسب من التحريم، ثبت للرَّضاعة، فإذا حَرُمَت امرأة الأب والابن، وأُمُّ المرأة، وابنتُها من النسب، حَرُمْنَ بالرَّضاعة. وإذا حَرُمَ الجمع بين أُختى النسب، حَرُمَ بين أُختى الرضاعة، هذا تقدير احتجاجهم على التحريم. قال شيخ الإسلام: الله سبحانه حَرَّمَ سبعاً بالنسب، وسبعاً بالصِّهْر، كذا قال ابن عباس. قال: ومعلوم أن تحريمَ الرضاعة لا يُسمَّى صِهْراً، إنما يَحْرُم منه ما يَحْرُمُ من النسب، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعةِ ما يَحْرُمُ من الولادة". وفى رواية: "ما يَحْرُم من
النَّسَبِ". ولم يقل: وما يَحْرُم بالمصاهرة، ولا ذكره اللهُ سبحانه فى كتابه، كما ذكر تحريم الصِّهرِ، ولا ذَكَر تحريمَ الجمع فى الرَّضَاعِ كما ذكره فى النسب، والصِّهْر قسيمُ النسب، وشقيقُه، قال الله تعالى: {وهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَراً فَجَعَلهُ نَسَباً وصِهْراً} [الفرقان: 54] فالعلاقةُ بين الناس بالنسب والصِّهْر، وهما سببا التحريم، والرَّضاع فرع على النسب، ولا تُعْقَلُ المصاهرة إلا بين الأنساب، واللهُ تعالى إنما حَرَّمَ الجمعَ بين الأُختين، وبين المرأة وعَمَّتِهَا، وبينها وبين خالتها، لئلا يُفضى إلى قطيعةِ الرَّحمِ المحرَّمة. ومعلوم أن الأختين من الرَّضاع ليس بينهما رَحِمٌ محرَّمة فى غير النكاح، ولا ترتب على ما بينهما من أخوة الرضاع حكمٌ قطُّ غير تحريم أحدهما على الآخر، فلا يعتق عليه بالملك، ولا يرِثُهُ، ولا يستحق النفقة عليه، ولا يثبتُ له عليه ولايةُ النكاح ولا الموتُ، ولا يَعْقِلُ عنه، ولا يدخلُ فى الوصية والوقف على أقاربه وذوى رحمه، ولا يَحْرُم التفريق بين الأم وولدها الصغير من الرضاعة، ويَحْرُم من النسب، والتفريقُ بينهما فى الملك كالجمع بينهما فى النكاح سواء، ولو ملك شيئاً من المحرَّمات بالرضاع، لم يعتق عليه بالملك، وإذا حُرُمَتْ على الرجل أُمُّه وبنتُهُ وأُخْتُه وعَمَّتُه وخالتُه من الرضاعة، لم يلزم أن يحرم عليه أمُّ امرأته التى أرضعت امرأته، فإنه لا نسبَ بينه وبينها، ولا مصاهرة، ولا رضاع، والرضاعة إذا جعلت كالنسب فى حكم لا يلزم أن تكون مثله فى كل حكم، بل ما افترقا فيه من الأحكام أضعافُ ما اجتمعا فيه منها، وقد ثبت جوازُ الجمع بين اللتين بينهما مُصاهرة محرَّمة، كما جمع عبدُ الله بن جعفر بين امرأةِ علىٍّ وابنتِه من غيرِهَا. وإن كان بينهما تحريمٌ يمنع جواز نكاح أحدها للآخر لو كان ذكراً، فهذا نظيرُ الأختين من الرضاعة سواء، لأن سبب تحريم النكاح بينهما فى أنفسهما، ليس بينهما وبين
الأجنبى منهما الذى لا رضاعَ بينه وبينهما ولا صِهْر، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم.واحتجَّ أحمد بأن عبد الله بن جعفر جمع بين امرأةِ علىٍّ وابنتِهِ، ولم ينكر ذلك أحدٌ، قال البخارى: وجمع الحسنُ بنُ الحسن بن على، بين بنتى عم فى ليلة، وجمع عبدُ الله بن جعفر بين امرأة علىٍّ وابنته، وقال ابنُ شُبْرُمَة: لا بأس به، وكرهه الحَسَنُ مرة ثم قال: لا بأس به. وكرهه جابرُ بن زيد للقطيعة، وليس فيه تحريم، لقوله عز وجل: {وَأُحِلَّ لَكُم مَا وَرَاءَ ذلِكُم} [النساء: 24] هذا كلام البخارى.
وبالجملة: فثبوتُ أحكام النسب من وجهٍ لا يستلزمُ ثُبوتَها من كل وجه، أو من وجه آخر، فهؤلاء نساءُ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَّ أُمَّهاتُ المؤمنين فى التحريم والحُرْمة فقط، لا فى المحرمية، فليس لأحد أن يخلوَ بهنَّ ولا ينظرَ إليهن، بل قد أمرهُنَّ الله بالاحتجابِ عَمَّن حرم عليه نكاحهن من غير أقاربهن، ومَنْ بينهن وبينه رضاع، فقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْألُوهُنَّ مِنْ وراءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] ثم هذا الحكم لا يتعدَّى إلى أقاربهنَّ البتة، فليس بناتُهُنَّ أخوات المؤمنين يَحْرُمن على رجالهم، ولا بنوهُنَّ إخوة لهم يحرم عَليْهنَّ بناتُهُنَّ، ولا أخواتُهُنَّ وإِخوتهنَّ خالاتٍ وأخوالاً، بل هن حلال للمسلمين بإتفاق المسلمين، وقد كانت أُمُّ الفضل أختُ ميمونَة زوج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت العباس، وكانت
أسماء بنتُ أبى بكر أختُ عائشة رضى الله عنها تحتَ الزبير، وكانت أم عائشة رضى الله عنها تحتَ أبى بكر، وأمُّ حفصةَ تحت عمر رضى الله عنه، وليس لرجل يتزوج أُمَّة، وقد تزوَّجَ عبدُ الله بن عمر وإخوته، وأولاد أبى بكر، وأولاد أبى سفيان من المؤمنات، ولو كانوا أخوالاً لهن، لم يجْز أن ينكحوهن، فلم تنتشر الحُرمة من أمّهات المؤمنين إلى أقاربهنّ، وإلا لزم من ثبوت حكم من أحكام النسب بين الأُمة وبينهنَّ ثبوتُ غيره من الأحكام.
ومما يدلُّ على ذلِكَ أيضاً قولُه تعالى فى المحرَّمات: {وحَلاَئِلُ أَبْنَائكُمُ الَّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ} [النساء: 23] ومعلوم أن لفظ الابن إذا أطلق لم يدخل فيه ابن الرَّضاع، فكيف إذا قُيِّدَ بكونه ابنَ صُلْب، وقصْدُ إخراجِ ابن التَّبنِّى بهذا لا يمنع إخراجَ ابن الرضاع، ويوجب دخلوه، وقد ثبت فى "الصحيح": أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر سَهْلَة بنتَ سُهَيْل أن تُرْضِعَ سالماً مولَى أبى حذيفة ليصير مَحْرَماً لها، فأرضعتهُ بلبن أبى حذيفة زوجها، وصار ابنَها ومحرَمَها بنصِّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سواء كان هذا الحكم مختصاً بسالم أو عاماً كما قالته أمُّ المؤمنين عائشة رضى الله عنها، فبقى سالم مَحْرَماً لها، لكونها أرضعتْهُ وصارت أُمَّهُ، ولم يَصِرْ مَحْرماً لها، لكونها امرأة أبيه من الرَّضاعة، فإن هذا لا تأثيرَ فيه لرضاعة سَهْلَة له، بل لو أرضعَتْهُ جاريةٌ له، أو امرأة أُخرَى، صارت سهلةُ امرأة أبيه، وإنما التأثيرُ لِكونه ولدَها نفسِها وقد عُلِّل بهذا فى الحديث نفسِهِ ولفظه: فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرْضِعِيه"، فأرضعتهُ خمس رَضَعَات، وكان بمنزلة ولدِها من الرضاعة، ولا يُمكِنُ دعوى الإجماع فى هذه المسألة، ومن ادعاه فهو كاذب، فإن سعيد بن
المسيب، وأبا سلمةَ بن عبد الرحمن، وسليمانَ بن يسار، وعطاءَ بن يسار، وأبا قِلابة، لم يكونوا يُثْبِتُون التحريمَ بلبن الفحل، وهو مروىٌّ عن الزبير، وجماعة من الصحابة، كما سيأتى إن شاء الله تعالى، وكانوا يرون أن التحريمَ إنما هو من قِبَلِ الأُمهات فقط، فهؤلاء إذا لم يجعلوا المرتضِع من لبن الفحل ولداً له، فأن لا يُحرِّموا عليه امرأته، ولا على الرضيع امرأةَ الفحل بطريق الأولى، فعلى قول هؤلاء فلا يَحْرُمُ على المرأة أبو زوجها من الرَّضاعة، ولا ابنُه من الرضاعة.
فإن قيل: هؤلاء لم يُثْبِتُوا البُنُوَّة بين المرتضِع وبين الفحل، فلم تثبتِ المصاهرةُ، لأنها فرع ثبوتِ بُنُوَّةِ الرَّضاع، فإذا لم تثبت له، لم يثبت فَرْعُهَا، وأما من أَثَبَتَ بُنُوَّةَ الرضاعِ من جهة الفحل كما دلت عليه السُّنَّة الصحيحة الصريحة، وقال به جمهور أهل الإسلام، فإنه تَثْبُتُ المصاهرة بهذه البنوة، فهل قال أحد ممن ذهب إلى التحريم بلبن الفحل: إن زوجة أبيه وابنهِ من الرضاعة لا تحرم؟
قيل: المقصود أن فى تحريم هذه نزاعاً، وأنه ليس مجمعاً عليه، وبقى النظرُ فى مأخذه، هل هو إلغاء لبن الفحل، وأنه لا تأثير له، أو إلغاء المصاهرة من جهة الرَّضاع، وأنه لا تأثير لها، وإنما التأثير لمصاهرة النسب؟
ولا شك أن المأخذ الأول باطل، لثبوت السُّنَّة الصريحة بالتحريم بلبن الفحل، وقد بينا أنه لا يلزم من القول بالتحريم به إثباتُ المصاهرة به إلا بالقياس، وقد تقدَّمَ أن الفارق بين الأصل والفرع أضعاف أضعافِ الجامع، وأنه لا يلزم من ثبوت حكم من أحكام النسب، ثبوت حكم آخر.
ويدل على هذا أيضاً أنه سبحانه لم يجعل أُمَّ الرَّضاع، وأخت الرَّضاعة داخلةً تحت أُمَّهاتنا وأخوَاتنا، فإنه سبحانه قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم وبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23]، ثم قال: {وأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتى أَرْضَعْنَكُم وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرّضَاعَةِ} [النساء: 23] فدل على أن لفظ أمَّهاتِنَا عند الإطلاق: إنما يراد بها الأم من النسب، وإذا ثبت هذا، فقوله تعالى: {وأُمَّهَاتُ نِسَائِكُم} [النساء: 23] مثل قوله: {وأمهاتُكُم} [النساء: 23]، إنما هن أمهات نسائنا من النسب، فلا يتناول أمهَّاتهن من الرضاعة، ولو أريد تحريمهنَّ لقال: وأمهاتهنّ اللاتي أرضعنهن، كما ذكر ذلك فى أُمهاتنا وقد بينا أن قوله: "يَحْرُمُ من الرضَاعَةِ ما يَحْرُم من النَّسَبِ"، إنما يدل على أن من حرم على الرجل من النسب حرم عليه نظيره من الرضاعة، ولا يدل على أن من حرم عليه بالصِّهر أو بالجمعِ، حَرُم عليه نظيره من الرضاعة، بل يدل مفهومه علي خلاف ذلك، مع عموم قوله: {وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} [النساء: 24].
ومما يدل على أن تحريم امرأةِ أبيه وابنه مِنَ الرَّضاعةِ ليس مسألةَ إجماع، أنه قد ثبت عن جماعة من السلف جوازُ نِكاح بنتِ امرأتهِ إذا لم تكن فى حجْرِهِ، كما صحَّ عن مالك بن أوس بن الحدثان النَّصْرى، قال: كانت عندى امرأة، وقد ولدت لى، فتوفيتْ، فَوَجِدْتُ عليها، فَلَقِيتُ علىَّ بنَ أبى طالب رضى الله عنه، قال لى: مالك؟ قلتُ: توفيت المرأةُ، قال: لها ابنةٌ؟ قلت: نعم، قال: كانت فى حَجْرِك؟ قلت: لا، هى فى الطائف. قال: فانكحها، قلت: فأين قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُم اللاَّتى فى حُجُورِكُم مِنْ نِسَائِكُم} [النساء: 23]، قال: إنها لم تكن فى حجرك، وإنما ذلك إذا كانت فى حَجْرِك
.وصح عن إبراهيم بن ميسرة، أن رجلاً من بنى سواءة يقال له: عُبيد الله بن معبد، أثنى عليه خيراً، أخبره أنَّ أباه أو جَدَّه كان قد نكح امرأةً ذاتَ ولدٍ من غيرهِ، ثم اصطحبا ما شاء الله، ثم نكح امرأة شابة، فقال: أحدُ بنى الأُولى قد نَكَحْتَ على أمِّنَا وكَبرت واستغنيتَ عنها بامرأةٍ شابة، فطلِّقْهَا، قال: لا واللهِ إلا أن تُنْكحَنى ابنتَك، قال: فطلَّقها وأنكحه ابنته، ولم تكن فى حَجره هى ولا أبوها. قال: فجئت سفيانَ ابنَ عبد الله، فقلت: استفتِ لى عمرَ بنَ الخطاب رضى الله عنه. قال: لتَحُجَّنَّ معى، فأدخلنى على عمرَ رضى الله عنه بمنى، فقصصتُ عليه الخَبَر، فقال عمرُ: لا بأس بذلك، فاذهب فسل فلاناً، ثم تعالَ فأخبرنى. قال: ولا أراهُ إلا علياً قال: فسألتُه، فقال: لا بأس بذلك، وهذا مذهب أهل الظاهر. فإذا كان عمر وعلى رضى الله عنهما ومن يقول بقولهما قد أباحا الربيبة إذا لم تكن فى حَجْر الزوج، مع أنها ابنةُ امرأته من النسب، فكيف يُحرمان عليه ابنَتها من الرضاع، وهذه ثلاثة قيود ذكرها الله سبحانه وتعالى فى تحريمها. أن تكون فى حَجْرهِ، وأن تكون من امرأتِهِ، وأن يكون قد دخل بأمِّها. فكيف يحرم عليه مجرد ابنتها من الرَّضاعة، وليست فى حجْرِهِ، ولا هى ربيبته لغة، فإن الربيبةَ بنتُ الزوجة، والربيبُ ابنُها بإتفاق الناس، وسُمِّيَا ربيباً وربيبةً لأن زوج أمِّهما يَرُبُّهما فى العادة، وأمَّا مَنْ أرضعتهما امرأتُه بغير لبنه، ولم يَرُبَّها قَطُّ، ولا كانت فى حَجْرهِ، فدخولها فى هذا النص فى غاية البعد لفظاً ومعنىً، وقد أشار النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحريم الربيبة بكونها فى الحَجْر. ففى "صحيح البخارى" من حديث الزهرى، عن عروة، أن زينبَ بنتَ أم سلمةَ أخبرتهُ أن أمّ حبيبة بنت
أبى سفيان قالت: يا رسول الله، أُخبِرْتُ أنك تخطُب بنتَ أبى سلمة، فقال: بنتَ أمِّ سلمة؟ قالت: نعم، فقال: "إنَّهَا لَوْ تَكُنْ رَبيبَتى فى حَجْرى لَمَا حَلَّتْ لى". وهذا يدل على اعتباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القيدَ الذى قيَّده الله فى التحريم، وهو أن تكون فى حَجْر الزوج. ونظير هذا سواء، أن يقال فى زوجة ابنِ الصُّلب إذا كانت مُحرَّمة برضاع: لو لم تكن حليلة ابنى الذى لصلبى، لما حلَّت لى سواء، ولا فرق بينهما، وبالله التوفيق.
فصل
الحكم الثانى: المستفاد من هذه السُّنَّة، أَنَّ لبن الفحل يُحَرِّم، وأن التحريمَ ينتشِرُ مِنه كما ينتشِر من المرأة، وهذا هو الحقُّ الذى لا يجوز أن يُقال بغيره، وإن خالف فيه مَنْ خالفَ من الصحابة ومَنْ بَعْدَهُم، فَسُنَّةُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحَقُّ أن تُتَّبَعَ، ويتركَ ما خالفها لأجلها، ولا تُتْرَكُ هى لأجل قولِ أحد كائناً مَنْ كان. ولو تُركت السُّنَنُ لخلاف من خالفها لعدم بلوغها له، أو لتأويلها، أو غير ذلك، لَتُرِكَ سُنَنٌ كثيرة جداً، وتُركت الحجَّةُ إلى غيرها، وقولُ من يجب اتّباعه إلى قول من لا يجب اتِّباعه، وقولُ المعصوم إلى قولِ غيرِ المعصوم، وهذه بلية، نسأل الله العافية منها، وأن لا نلقاه بها يوم القيامة.
قال الأعمش: كان عِمارة، وإبراهيم، وأصحابُنا لا يَرَوْنَ بلبن
الفحل بأساً حتى أتاهم الحكم بنُ عُتَيْبَة بخبر أبى القُعَيس، يعنى: فتركوا قولَهم، ورجعوا عنه، وهكذا يَصْنَعُ أهلُ العلم إذا أتَتْهُم السُّنَّةُ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رجعوا إليها، وتركوا قولَهم بغيرها.
قال الذين لا يحرِّمون بلبن الفحل: إنما ذكر اللهُ سبحانه فى كتابه التحريم بالرضاعة مِنَ جهة الأم، فقال {وأمَّهَاتُكُم اللاَّتى أَرْضَعْنكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] واللام: للعهد ترجع إلى الرَّضاعة المذكورة، وهى رَضاعة الأم، وقد قال الله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} [النساء: 24] فلو أثبتنا التحريمَ بالحديث لَكُنَّا قد نسخنا القرآن بالسُّنَّة، وهذا - على أصل من يقول: الزيادة على النص نسخ _ ألزمُ، قالوا: وهؤلاء أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم أعلمُ الأُمَّة بِسُنَّتِهِ، وكانوا لا يرون التحريمَ به، فصح عن أبى عُبيدة بن عبد الله بن زَمْعَةَ أن أمَّهُ زينبَ بنتَ أمِّ سلمةَ أمِّ المؤمنين أرضعتها أسماءُ بنتُ أبى بكر الصِّدِّيق رضى الله عنه امرأةُ الزبير بن العوام، قالت زينب: وكان الزبيرُ يدخل علىَّ وأنا أَمْتَشِطُ فيأخذ بقَرْنٍ من قرون رأسى، ويقول: أقبلى علىَّ فحدِّثينى أرى أنه أبى، وما ولَدَ منه: فهم إخوتي، ثم إن عبدَ اللهِ بنَ الزبير أرسل إلىَّ يخطُبُ أمَّ كلثوم ابنتى على حمزة بن الزبير، وكان حمزةُ للكلبية، فقالت لرسوله: وهَل تَحِلُّ له؟ وإنما هى ابنةُ أخته، فقال عبد الله: إنما أردتِ بهذا المنعَ من قِبَلكِ. أمَّا ما ولدتْ أسماءُ، فهم إخوتك، وما كان من غير أسماءَ فليسوا لك بإخوةٍ، فأرسلى فاسألى عن هذا، فأرسلتْ فسألتْ، وأصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوافِرون، فقالوا لها، إن الرضاعة من قبلِ الرَّجُل لا تحرِّم شيئاً، فأنكحيها إياه، فلم تزل عنده حتى هلك عنها.
قالوا: ولم ينكر ذلك الصحابةُ رضى الله عنهم، قالوا: ومن المعلوم أن الرضاعة من جهة المرأة لا من الرجل.
قال الجمهور: ليس فيما ذكرتم ما يُعارضُ السُّنَّة الصحيحة الصريحة، فلا يجوزُ العدولُ عنها. أمَّا القرآن، فإنه بينَ أمرين: إما أن يتناولَ الأخت من الأب من الرضاعة فيكون دالاً على تحريمها، وإما أن لا يتناولَها فيكون ساكتاً عنها، فيكون تحريمُ السُّنَّة لها تحريماً مبتدءاً ومخصصاً لعموم قوله :{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] والظاهرُ يتناولُ لفظ الأختِ لها، فإنه سبحانه عمم لفظ الأخوات من الرَّضاعة، فدخل فيه كُلُّ مَنْ أطلق عليها أخته، ولا يجوزُ أن يُقال: إن أخته من أبيه من الرّضاعة ليست أختاً له، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعائشة رضى الله عنها: ائذنى لأفلح، فإنه عَمُّك، فأثْبتَ العمومةَ بينها وبينه بلبنِ الفحل وحده، فإذا ثبتت العُمُومة بين المرتضعة، وبين أخى صاحب اللبن، فثبوتُ الأُخوة بينها وبين ابنه بطريق الأولى أو مثله.
فالسُّنَّة بينتْ مرادَ الكتاب، لا أنها خالفته، وغايتُها أن تكونَ أثبتتْ تحريمَ ما سكت عنه، أو تَخصيص ما لم يرد عمومه.
وأما قولكم: إن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرون التحريمَ بذلك، فدعوى باطلة على جميع الصحابة، فقد صح عن على رضى الله عنه إثبات التحريمِ به، وذكر البخارى فى "صحيحه" أن ابن عباس سئل عن رجل كانت له امرأتانِ أرضعت إحداهما جاريةً، والأخرى غلاماً، أيحِلُّ أن يَنْكَحَهَا؟ فقال ابنُ عباس: لا، اللقاحُ واحد، وهذا الأثر الذى استدللتم به صريح عن الزبير أنه كان يعتقدُ أن زينبَ ابنته بتلك الرضاعة، وهذه
عائشةُ أُمُّ المؤمنين رضى الله عنها كانت تُفتى: أن لبن الفحل ينشُرُ الحرمة، فلم يَبْقَ بأيديكم إلا عبدُ الله بنُ الزبير، وأين يَقَعُ من هؤلاء.
وأما الذين سَألتهُم فأفتوها بالحل، فمجهولون غيرُ مَسَمَّين، ولم يقلِ الراوى: فسألت أصحابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم متوافرون، بل لعلها أرسلتْ فسألت من لم تَبْلُغْهُ السُّنَّةُ الصحيحة منهم، فأفتاها بما أفتاها به عبد الله بن الزبير، ولم يكن الصحابة إذ ذاك متوافرين بالمدينة، بل كان معظمهم وأكابرُهم بالشام والعراق ومصر.
وأما قولكم: إن الرَّضاعة إنما هى من جهة الأم، فالجواب أن يقال: إنما اللبنُ للأب الذى ثار بوطئه، والأم وعاء له، وبالله التوفيق.
فإن قيل: فهل تَثْبت أبُوَّةُ صاحب اللبن وإن لم تثبت أمومة المرضعة، أو ثبوتُ أُبُوَّتهِ فرع على ثبوت أمومة المرضعة؟
قيل: هذا الأصلُ فيه قولان للفقهاء، وهما وجهان فى مذهب أحمد والشافعى، وعليه مسألة من له أربعُ زوجات، فأرضعنَ طفلةً كُلُّ واحدةٍ منهن رَضْعتين، فإنهن لا يَصِرْنَ أماً لها، لأن كل واحدة منهن لم تُرضِعْها خمس رَضَعَات. وهل يصير الزوج أباً للطفلة؟ فيه وجهان. أحدهما: لا يصير أباً، كما لم تَصِر المرضعاتُ أُمَّهاتٍ، والثانى وهو الأصح: يصير أباً، لكون الولد ارتضع من لبنه خمس رَضَعَات، ولبنُ الفَحْل أصلٌ بنفسه، غير متفرِّع على أمومة المرضعة، فإن الأبوةَ إنما تثبُت بحصول الارتضاع من لبنه، لا لِكون المرضعة أمه، ولا يجىءُ على أَصْلَىْ أبى حنيفة ومالك، فإن عندهما قليل الرضاع وكثيره محرِّم، فالزوجاتُ الأربع أمهات للمرتضِع، فإذا قلنا بثبوت الأُبُوَّةِ وهو الصحيح، حَرُمَتِ المرضعاتُ على الطفل، لأنه ربيبُهنَّ، وهُنَّ موطوءات أبيه، فهو ابنُ
بَعْلهِنَّ. وإن قلنا: لا تثُبت الأْبُوَّةُ لم يَحْرُمْنَ عليه بهذا الرضاع.
وعلى هذه المسألة: ما لو كان لِرجل خمسُ بناتٍ، فأرضعنَ طفْلاً، كلُّ واحدة رَضْعَة، لم يَصِرْنَ أمهاتٍ له. وهل يصير الرجل جداً له، وأولاده الذين هم إخوةُ المرضِعات أخوالاً له وخالات؟ على وجهين، احدهما: يصير جداً، وأخوهن خالاً، لأنه قد كَملَ المرتضِع خمسَ رَضَعَاتٍ من لبن بناته، فصار جَدّاً، كما لو كان المرتضِع بنتاً واحدة. وإذا صار جَدّاً كان أولادُه الذين هُم إخوةُ البنات أخوالاً وخالات، لأنهن إخوةُ من كمل له منهن خمسُ رَضَعتَات، فنزلوا بالنسبة إليه منزلةَ أم واحدة، والآخر لا يصيرُ جَداً، ولا أخواتُهن خالاتٍ، لأن كونَه جداً فرعٌ على كونِ ابنته أمَّاً، وكونُ أخيها خالاً فرع على كون أُخته أمّاً، ولم يثبتِ الأصل، فلا يثُبت فرعُه، وهذا الوجه أصحُّ فى هذه المسألة، بخلاف التى قبلَها، فإن ثبوت الأُبُوَّةِ فيها لا يستلزم ثبوت الأمومة على الصحيح. والفرقُ بينهما: أن الفرعية متحققة فى هذه المسألة بين المرضعات وأبيهن، فإنهنَّ بناتُه، واللبن ليس له، فالتحريم هنا بين المرضعة وابنها، فإذا لم تكن أُمًّا، لم يكن أبوها جَدَّاً، بخلافِ تلك، فإن التحريم بينَ المرتضِع وبينَ صاحب اللبن، فسواءٌ ثبتت أمومةُ المرضعة أولا، فعلى هذا إذا قلنا: يصير أَخُوهنَّ خالاً، فهل تكون كل واحدة منهن خالةً له؟ فيه وجهان. أحدهما: لا تكون خالةً، لأنه لم يرتضِعْ من لبن أخواتِهَا خمس رضعات، فلا تثبت الخؤولة. والثانى: تثبت، لأنه قد اجتمع من اللبن المحرِّم خمس رضعات، وكان ما ارتضع منها ومن أخواتها مثبتاً للخؤولة، ولا تثبت أمومة واحدة منهن إذ لم يرتضع منها خمس رضعات، ولا يستبعدُ ثبوت خؤولة بلا أمومة، كما ثبت فى لبن الفحل أبوة بلا أمومة، وهذا ضعيف
. والفرق بينهما. أن الخؤولة فرع محض على الأمومة، فإذا لم يثبت الأصل، فكيف يثُبت فرعُه؟ بخلاف الأبوة والأُمومة، فإنهما أصلان لا يلزم من انتفاه أحدهما انتفاء الآخر.
وعلى هذا مسألة، ما لو كان لرجل أُم، وأخت، وابنة، وزوجةُ ابن، فأرضعن طِفْلَةً كُلُّ واحدة منهن رَضْعَة، لم تَصِرْ واحدةٌ منهن أمها، وهل تحرم على الرجل؟ على وجهين. أوجههما: ما تقدم. والتحريمُ ههنا بعيد، فإن هذا اللبن الذى كمل للطفل لا يجعل الرجل أباً له، ولا جداً، ولا أخاً، ولا خالاً، والله أعلم.
فصل
وقد دلّ التحريم بلبن الفحل على تحريم المخلوقة مِن ماء الزانى دلالةَ الأولى والأحْرى، لأنه إذا حرم عليه أن ينكِحَ من قد تغذَّت بلبن ثار بوطئه، فكيف يَحِلُّ له أن ينكِحَ من قد خُلِقَ مِن نفس مائة بوطئه؟ وكيف يحرِّم الشارعُ بنته من الرضاع لما فيها من لبن كان وطء الرجل سبباً فيه، ثم يُبيح له نكاحَ مَنْ خُلِقَتْ بنفسِ وطئه ومائة؟ هذا من المستحيل، فإن البَعْضِيَّةَ التى بينه وبينَ المخلوقة مِن مائة أكملُ وأتمُّ مِن البَعْضِيَّة التى بينَه وبين من تغذَّت بلبنه، فإن بنت الرضاع فيها جزء ما من البعضية، والمخلوقة من مائة كاسمها مخلوقة مِن مائة، فنصفُها أو أكثرها بعضُه قطعاً، والشطرُ الآخر للأم، وهذا قولُ جمهورِ المسلمين، ولا يُعرف فى الصحابة من أباحها، ونص الإمام أحمد رحمه الله، على أن من تزوَّجها، قُتِلَ بالسيف محصناً كان أو غيره. وإذا كانت بنتُه من الرضاعة بنتاً فى حكمين فقط:
الحرمة، والمحرمية، وتخلف سائر أحكام البنت عنها لم تُخرجها عن التحريم، وتُوجب حِلها، فكذا بنتُه مِن الزنى تكون بنتاً فى التحريم. وتخلُّفُ أحكامِ البنت عنها لا يُوجب حلها، والله سبحانه خاطب العرب بما تعقِلُه فى لغاتِها، ولفظ البنت لفظ لغوى لم ينقلْه الشارع عن موضعه الأصلى، كلفظ الصلاة والإيمان ونحوهما، فَيُجملُ على موضوعه اللغوى حتى يثبت نقل الشارع له عنه إلى غيره، فلفظُ البنتِ كلفظِ الأخ والعم والخال ألفاظٌ باقية على موضوعاتها اللغوية. وقد ثبت فى "الصحيح" أن الله تعالى أنطق ابنَ الراعى الزانى بقوله: "أبى فُلانٌ الرَّاعى"، وهذا الإنطاقُ لا يحتمِلُ الكذب، وأجمعت الأمةُ على تحريم أمِّه عليه. وخلقُه من مائها، وماء الزانى خلقٌ واحد، وإثمهُما فيه سواء، وكونه بعضاً له مثلُ كونه بعضاً لها، وإنقطاع الإرث بين الزانى والبنت لا يُوجب جوازَ نكاحها، ثم مِن العجب كيف يُحَرِّمُ صاحبُ هذا القول أن يستمنىَ الإنسان بيده، ويقول: هو نكاحٌ لِيده، ويُجوِّزُ للإنسان أن ينكحَ بعضَه، ثم يُجوِّزُ له أن يستفرِشَ بعضه الذى خَلَقَهُ الله مِن مائه، وأخرجَهُ مِن صُلبه،كما يستفرش الأجنبية.
فصل
والحكم الثالث: أنه لا تُحرم المصةُ والمصَّتَانِ، كما نص عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يُحرِّمُ إلا خمسُ رضعات، وهذا موضع اختلف فيه العلماء. فأثبتت طائفة من السلف والخلف التحريم بقليل الرضاع
وكثيرة، وهذا يروى عن على وابن عباس، وهو قولُ سعيد بن المسيب، والحسن والزهرى، وقتادة، والحكم، وحماد، والأوزاعى، والثورى، وهو مذهبُ مالك، وأبى حنيفة، وزعم الليثُ بنُ سعد أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيرة يُحرِّم فى المهد ما يُفْطِرُ به الصائم، وهذا رواية عن الإمام أحمد رحمه الله. وقالت طائفة أخرى: لا يثبُت التحريمُ بأقلَّ مِن ثلاث رضعات، وهذا قولُ أبى ثور، وأبى عبيد، وابن المنذر، وداود بن على، وهو روايةٌ ثانية عن أحمد.
وقالت طائفة أخرى: لا يثُبت بأقلَّ مِن خمس رضعات، وهذا قول عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن الزبير، وعطاء، وطاووس، وهو إحدى الروايات الثلاث عن عائشة رضى الله عنها، والرواية الثانية عنها: أنه لا يحرم أقل من سبع، والثالثة: لا يحرم أقل من عشر. والقول بالخمس مذهب الشافعى، وأحمد فى ظاهر مذهبه، وهو قولُ ابن حزم، وخالف داود فى هذه المسألة.
فحجةُ الأولين أنه سبحانه علَّقَ التحريم باسم الرضاعة، فحيث وجد اسمُها وُجدَ حكمُها، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَة مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" وهذا موافق لإطلاق القرآن.
وثبت فى "الصحيحين"، عن عقبة بن الحارث، أنه تزوج أمّ يحيى بنت أبى إهاب، فجاءت أمةٌ سوداء، فقالت: قدأرضعتُكما، فذكر ذلك للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعرض عنى، قال: فتنحيت فذكرت ذلك له، قال: "وكيْف وقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُما فنهاهُ عنها"، ولم يسأل
عن عدد الرضاع، قالوا: ولأنه فعل يتعلق به التحريم، فاستوى قليلهُ وكثيره، كالوطء الموجب له، قالوا: ولأن إنشاز العظم، وإنبات اللحم يحصُل بقليله وكثيره. قالُوا: ولأن أصحابَ العدد قد اختلفت أقوالهم فى الرضعة وحقيقتها، واضطربت أشدَّ الاضطراب، وما كان هكذا لم يجعله الشارعُ نصاباً لِعدم ضبطه والعلم به.
قال أصحابُ الثلاث: قد ثبت عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا تُحرِّمُ المصَّةُ والمصَّتان"، وعن أم الفضل بنتِ الحارث قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تُحَرِّمُ الإمْلاجَةُ والإمْلاَجَتَانِ ". وفى حديث آخر: أن رجلاً قال: يا رسولَ الله، هل تُحَرِّمُ الرضعةُ الواحِدة؟ قال: "لا". وهذه أحاديث صحيحة صريحة، رواها مسلم فى "صحيحه"، فلا يجوز العدولُ عنها فأثبتنا التحريمَ بالثلاث لِعموم الآية، ونفينا التحريمَ بما دونها بصريحِ السنة قالُوا: ولأن ما يُعتبر فيه العدد والتكرارُ يُعتبر فيه الثلاث. قالوا: ولأنها أولُ مراتب الجمع، وقد اعتبرها الشارعُ فى مواضع كثيرة جداً.
قال أصحابُ الخمسِ: الحجةُ لنا ما تقدَّم فى أول الفصل من الأحاديث الصحيحة الصريحة، وقد أخبرت عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفى والأمرُ على ذلك، قالُوا: ويكفى فى هذا قولُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسهلة بنت سهيل: "أَرضِعِى سَالِماً خَمْسَ رَضَعَاتٍ تَحْرُمِى عَلَيْهِ". قالُوا: وعائشة أعلمُ الأمة بحكم هذه المسألة هى ونساءُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وكانت عائشةُ رضى الله عنها إذا أرادت أن يدْخُلَ عليها أحد أمرت إحدى بَنَاتِ إخوتِها أو أخواتِها فأرضعتهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ. قالوا: ونفىُ التحريم بالرضعة والرضعتين صريحٌ فى عدم تعليق التحريم بقليل الرضاع وكثيرة، وهى ثلاثةُ أحاديث صحيحة صريحة بعضُها خرج جواباً للسائل، وبعضُها تأسيسُ حكم مبتدأ. قالُوا: وإذا علقنا التحريمَ بالخمس، لم نكن قد خالفنا شيئاً من النصوص التى استدللتُم بها، وإنما نكونُ قد قيدنا مطلقها بالخمس، وتقييدُ المطلقِ بيانٌ لا نسخ ولا تخصيصٌ.
وأما من علَّق التحريمَ بالقليل والكثير، فإنه يُخالف أحاديثَ نفى التحريم بالرضعة والرضعتين، وأما صاحبُ الثلاث، فإنه وإن لم يُخالفها، فهو مخالفٌ لأحاديث الخمس.
قال من لم يُقيده بالخمس: حديثُ الخمس لم تنقله عائشةُ رضى الله عنها نقلَ الأخبار، فيحتج به، وإنما نقلته نقل القرآن، والقرآن إنما يثُبت بالتواتر، والأمة لم تنقل ذلك قرآناً، فلا يكون قرآناً، وإذا لم يكن قرآناً ولا خبراً، امتنع إثباتُ الحكم به.
قال أصحابُ الخمس: الكلامُ فيما نقل مِن القرآن آحاداً فى فصلين، أحدهما: كونُه من القرآن، والثانى: وجوبُ العمل به، ولا ريبَ أنهما حكمان متغايران، فإن الأول يُوجب انعقادَ الصلاة به، وتحريمَ مسه على المحدث، وقراءتهِ على الجنبِ، وغير ذلك من أحكام القرآن، فإذا انتفت هذه الأحكامُ لعدم التواتر، لم يلزم انتفاءُ العمل به، فإنه يكفى فيه الظَّنُّ، وقد احتجًَّ كُلُّ واحد من الأئمةِ الأربعة به فى موضع، فاحتج به الشافعى وأحمد فى هذا الموضع، واحتج به أبو حنيفة فى وجوب التتابع فى صيام الكفارة بقراءة ابن مسعود "فصيامُ ثلاثة أيام متتابعات".
واحتج به مالك والصحابة قبله فى فرض الواحد من ولد الأم أنه السدس بقراءة أبى، "وإن كان رجل يُورث كلالة، أو امرأة وله أخ، أو أخت من أم، فلكل واحد منهما السدس"، فالناسُ كلهم احتجُّوا بهذه القراءة، ولا مستند للإجماع سواها.
قالوا: وأما قولُكم إما أن يكون نقله قرآناً أو خبراً، قلنا: بل قرآناً صريحاً. قولُكم: فكان يجب نقله متواتراً، قلنا: حتى إذا نسخ لفظُه أو بقى، أما الأول، فممنوع، والثانى، مسلَّم، وغايةُ ما فى الأمر أنه قرآن نُسِخَ لفظُه، وبقى حكمه، فيكونُ له حكمُ قوله: "الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا فارجمُوهما" مما اكتفىَ بنقله آحاداً، وحكمُه ثابت، وهذا مما لا جواب عنه. وفى المسألة مذهبان آخران ضعيفان.
أحدهما: أن التحريم لا يثبت بأقلَّ مِن سبع، كما سئل طاووس عن قول من يقول: لا يحرم من الرضاع دون سبع رضعات، فقال: قد كان ذلك، ثم حدث بعد ذلك أمر جاء بالتحريم، المرة الواحدة تُحرِّمُ، وهذا المذهب لا دليل عليه.
الثانى: التحريمُ إنما يثبتُ بعشر رضعات، وهذا يُروى عن حفصة وعائشة رضى الله عنهما.
وفيها مذهب آخر، وهو الفرق بين أزواج النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرهن قال طاووس: كان لأزواج النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رضعات محرمات، ولسائر الناس رضعات معلومات، ثم تُرِكَ ذلك بعد، وقد تبين الصحيحُ من هذه الأقوال، وبالله التوفيق.
فصل
فإن قيل: ما هى الرضعةُ التى تنفصلُ من أختها، وما حدُّها؟ قيل: الرضعةُ فعلة مِن الرضاع، فهى مرة منه بلا شك، كضربة وجلسة وأكلة، فمتى التقم الثدىَ، فامتصَّ منه ثم تركه باختياره مِن غير عارض كان ذلك رضعة، لأن الشرع ورد بذلك مطلقاً، فحُملَ على العُرف، والعُرف هذا، والقطعُ العارضُ لتنفس أو استراحة يسيرة، أو لشىء يلهيه ثم يعودُ عن قرب لا يخرجه عن كونه رضعة واحدة، كما أن الآكل إذا قطع أكلته بذلك، ثم عاد عن قريب لم يكن ذلك أكلتين بل واحدة، هذا مذهب الشافعى، ولهم فيما إذا قطعت المرضعةُ عليه، ثم أعادته وجهان. أحدهما: أنها رضعة واحدة ولو قطعته مراراً حتى يقطع بإختياره، قالُوا: لأن الاعتبار بفعله لا بفعل المرضعة، ولهذا لو ارْتَضَع منها وهى نائمة حُسِبَت رضعة، فإذا قطعت عليه، لم يُعتد به، كما لو شرع فى أكلة واحدة أمره بها الطبيبُ، فجاء شخص فقطعها عليه، ثم عاد، فإنها أكلة واحدة.
والوجه الثانى: أنها رضعة أخرى، لأن الرضاعَ يَصِحُّ من المرتضع، ومن المرضعة، ولهذا لو أَوْجَرَتْهُ وهو نائم احتسِبَ رضعة.
ولهم فيما إذا انتقل من ثدى المرأة إلى ثدى غيرها وجهان. أحدهما: لا يعتد بواحد منهما لأنه انتقل من إحداهما إلى الأخرى قبل تمام الرضعة، فلم تتم الرضعة من إحداهما. ولهذا لو انتقل من ثدى المرأة إلى ثديها الآخر كانا رضعةً واحدةً.
والثانى: أنه يحتسب من كل واحد منهما رضعة، لأنه ارتضع،
وقطعه بإختياره من شخصين.
وأما مذهبُ الإمام أحمد رحمه الله، فقال صاحب "المغنى": إذا قطع قطعاً بيناً بإختيارهِ، كان ذلك رضعة، فإن عاد كان رضعةً أخرى، فأما إن قطع لِضيق نفس، أو للانتقال من ثدى إلى ثدى، أو لشىء يُلهيه، أو قطعت عليه المرضعة، نظرنا، فإن لم يَعُدْ قريباً، فهى رضعة وإن عاد فى الحال، ففيه وجهان، أحدهما: أن الأولى رضعة، فإذا عاد فهى رضعة أخرى، قال: وهذا اختيار أبى بكر، وظاهر كلام أحمد فى رواية حنبل، فإنه قال: أما ترى الصبى يرتضع من الثدى، فإذا أدركه النَّفسُ، أمسكَ عن الثدى ليتنفس، أو ليستريح، فإذا فعل ذلك، فهى رضعة، قال الشيخ: وذلك أن الأولى رضعةٌ لو لم يعد، فكانت رضعة، وإن عاد، كما لو قطع بإختياره. والوجه الآخر أن جميع ذلك رضعة، وهو مذهب الشافعى إلا فيما إذا قطعت عليه المرضعة، ففيه وجهان، لأنه لو حلف: لا أكلتُ اليومَ إلا أكلةً واحدةً، فاستدام الأكلُ زمناً، أو انقطع لشرب ماء أو انتقال من لون إلى لون، أو انتظار لما يُحمل إليه من الطعام لم يُعدّ إلا أكلة واحدة فكذا ههنا، والأول أصح، لأن اليسير من السعوط والوَجُور رضعة، فكذا هذا.
قلتُ، وكلامُ أحمد يحتملُ أمرين، أحدهما: ما ذكره الشيخ، ويكون قوله: "فهى رضعة"، عائداً إلى الرضعة الثانية. الثانى: أن يكون المجموعُ رضعة، فيكون قوله: "فهى رضعة" عائداً إلى الأول، والثانى، وهذا أظهر محتمليه، لأنه استدل بقطعه للتنفس، أو الاستراحة على كونها رضعة واحدة. ومعلوم أن هذا الاستدلال أليقُ بكون الثانية مع الأولى
واحدة من كون الثانية رضعةً مستقلة، فتأمله.
وأما قياسُ الشيخ له على يسير السَّعوط والوَجور، فالفرقُ بينهما أن ذلك مستقل ليس تابعاً لرضعة قبله، ولا هو مِن تمامها، فيقال: رضعة بخلاف مسألتنا، فإن الثانية تابعة للأولى، وهى من تمامها فافترقا.
فصل
والحكم الرابع: أن الرضاع الذى يتعلَّق به التحريمُ ما كان قبل الفطام فى زمن الارتضاع المعتاد، وقد اختلف الفقهاء فى ذلك، فقال الشافعى، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد: هو ما كان فى الحولين، ولا يُحَرَّمُ ما كان بعدهما، وصح ذلك عن عمر، وابنِ مسعود، وأبى هريرة، وابن عباس، وابن عمر، ورُوى عن سعيد بن المسيِّب، والشعبى وابن شُبْرُمَةَ، وهو قولُ سفيان. وإسحاق وأبى عُبيد، وابنِ حزم، وابنِ المنذر، وداود، وجمهور أصحابه.
وقالت طائفة: الرضاعُ المحرم ما كان قبل الفطام، ولم يحدوه بزمن، صحَّ ذلك عن أم سلمة، وابن عباس ورُوى عن على، ولم يصح عنه، وهو قولُ الزهرى، والحسن، وقتادة، وعِكرمة، والأوزاعى. قال الأوزاعى: إن فُطمَ وله عام واحد واستمر فِطامُه، ثم رضع فى الحولين، لم يُحَرِّم هذا الرضاعُ شيئاً، فإن تمادى رضاعُه ولم يُفطم، فما كان فى الحولين فإنه يُحرِّمُ. وما كان بعدهما، فإنه لا يُحرِّمُ، وإن تمادى الرضاعُ. وقالت طائفة: الرضاعُ المحرِّمُ ما كان فى الصغر، ولم يوقته هؤلاء بوقت، وروى هذا عن ابن عمر، وابن المسيِّب، وأزواج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلا
عائشة رضى الله عنها. وقال أبو حنيفة وزفر: ثلاثون شهراً، وعن أبى حنيفة رواية أخرى، كقول أبى يوسف ومحمد. وقال مالك فى المشهور من مذهبه: يُحرِّمُ فى الحولين، وما قاربهما، ولا حُرمة له بعد ذلك. ثم روى عنه اعتبارُ أيام يسيرة، وروى عنه شهران. وروى شهر، ونحوه. وروى عنه الوليدُ بن مسلم وغيره: أن ما كان بعدَ الحولين مِن رضاعِ بشهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر، فإنه عندى من الحولين، وهذا هو المشهورُ عند كثير من أصحابه. والذى رواهُ عنه أصحابُ الموطأ وكان يُقرأ عليه إلى أن مات قوله فيه: وما كان مِن الرضاع بعد الحولين كان قليلُه وكثيرُه لا يُحرِّمُ شيئاً، إنما هو بمنزلة الطعام، هذا لفظه. وقال: إذا فُصلَ الصبى قبلَ الحولين، واستغنى بالطعام عن الرِّضاع، فما ارتضع بعد ذلك لم يكن للرضاع حرمة. وقال الحسنُ بن صالح، وابن أبى ذِئب وجماعةٌ من أهل الكوفة: مدةُ الرضاع المُحرِّم ثلاثُ سنين، فما زاد عليها لم يُحرم، وقال عمرُ بنُ عبد العزيز: مدته إلى سبعِ سنين، وكان يزيدُ بن هارون يحكيه عنه كالمتعجِّبِ من قوله. وروى عنه خلافُ هذا، وحَكَى عنه ربيعة، أن مدته حولان، واثنا عشر يوماً.
وقالت طائفة من السلف والخلف: يحرمُ رضاع الكبير، ولو أنه شيخ، فروى مالك، عن ابن شهاب، أنه سئل عن رضاع الكبير، فقال: أخبرنى عروة بن الزبير، بحديثِ أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سهلة بنت سهيل برضاع سالم، ففعلت، وكانت تراه ابناً لها. قال عروةُ: فأخذت بذلك عائشة أمُّ المؤمنين رضى الله عنها فيمن كانت تُحبُّ أن يدخل عليها من الرجال، فكانت تأمر أختَها أمّ كلثوم، وبنات أخيها يرضعن من أحبَّت أن يدخل عليها
من الرجال.
وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن جريج، قال: سمعتُ عطاء بن أبى رباح وسأله رجلٌ فقال: سقتنى امرأةٌ من لبنها بعد ما كنت رجلاً كبيراً. أفأنكِحُها؟ قال عطاء: لا تَنْكِحْهَا، فقلت له: وذلك رأيُك؟ قال: نعم، كانت عائشة رضى الله عنها تأمر بذلك بنات أخيها. وهذا قولُ ثابت عن عائشة رضى الله عنها. ويروى عن على، وعروة بن الزبير. وعطاء بن أبى رباح، وهو قولُ الليث بن سعد، وأبى محمد ابن حزم، قال: ورضاعُ الكبير ولو أنه شيخ يُحرِّمُ كما يحرِّم رضاع الصغير. ولا فرق، فهذه مذاهب الناس فى هذه المسألة.
ولنذكر مناظرةَ أصحاب الحولين، والقائلين برضاع الكبير، فإنهما طرفان، وسائر الأقوال متقاربة.
قال أصحابُ الحولين: قال الله تعالى: {وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] قالوا: فجعل تمامَ الرضاعة حولين، فدلَّ على أنه لا حكم لما بعدهما، فلا يتعلَّق به التحريم. قالوا: وهذه المدة هى مدة المجاعة التى ذكرها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقصَر الرضاعةَ المحرمة عليها. قالوا: وهذه مدة
الثدى الذى قال فيها: "لا رضاع إلا ما كان فى الثدى" ، أى فى زمن الثدى، وهذه لغة معروفة عند العرب، فإن العرب يقولون: فلان ماتَ فى الثَّدى، أى: فى زمن الرضاع قبل الفطام، ومنه الحديث المشهور: "إِنَّ إبْرَاهِيمَ مَاتَ فى الثَّدْى وإنَّ لَهُ مُرْضِعاً فى الجَنَّةِ تُتِمُّ رَضَاعَهُ ". يعنى إبراهيم ابنَه صلواتُ الله وسلامه عليه. قالوا: وأكَّد ذلك بقوله: "لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء" وكان فى الثدى قبل الفطام، فهذه ثلاثةُ أوصاف للرضاع المُحرِّم، ومعلوم أن رضَاعَ الشيخ الكبير عارٍ من الثلاثة. قالوا: وأصرحُ مِن هذا حديثُ ابن عباس: "لا رضاع إلا ما كان فى الحولين".قالوا: وأكدَهُ أيضاً حديث ابن مسعود: "لا يُحرِّمُ مِنَ الرَّضاعةِ إلا ما أَنْبَتَ اللَّحْمَ وأَنْشَزَ العَظْمَ" ، ورضاعُ الكبير لا ينبت لحماً، ولا يُنشز عظماً.
قالوا: ولو كان رضاعُ الكبير محرِّماً لما قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة وقد تغيَّر وجهُه، وكَرِه دخولَ أخيها من الرضاعة عليها لما رآهُ كبيراً: "انظُرنَ مَنْ إخوانكن" فلو حرَّم رَضَاع الكبير، لم يكن فرق بينه وبين الصغير، ولما كره ذلك وقال: "انظرن مَن إخوانُكن" ثم قال: "فإنَّما الرضَاعَةُ مِنَ المجَاعَة" وتحتَ هذا من المعنى خشيةَ أن يكونَ قد ارتضع فى غير زمن الرضاع وهو زمن المجاعة، فلا ينشر الحرمة، فلا يكون أخاً. قالوا: وأما حديثُ سهلة فى رضاع سالم، فهذا كان فى أوَّل الهجرة لأن
قصته كانت عقيبَ نزول قوله تعالى: {ادْعُوهُم لآبائِهِمْ} [الأحزاب: 5] وهى نزلت فى أول الهجرة.............
...يتبع ان شاء الله بجزء 7//1 من كتاب زاد المعاد لابن قيم الجوزية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق