الاثنين، 14 مايو 2018

تابع ج2//2 زاد المعاد



تابع ج2/2
قال هؤلاء: ولولا الهَدْىُ لحلَّ كما يحلُّ المتمتعُ الذى لا هَدْىَ معه، ولهذا قال: "لولا أنَّ مَعىَ الهَدْىَ لأَحْلَلْتُ" فأخبر أن المانع له مِن الحلِّ سوقُ الهَدْى، والقارنُ إنما يمنعه من الحلِّ القِرانُ لا الهَدْىُ، وأربابُ هذا القول قد يُسمُّون هذا المتمتَع قارناً، لِكونه أحرَم بالحَجِّ قبل التحلل من العُمْرةِ ولكنَّ القِران المعروفَ أن يُحرِم بهما جميعاً، أو يُحرمِ بالعُمْرة، ثم يُدخِلَ عليها الحَج قبل الطواف.
والفرق بين القارِن والمتمتع السائق من وجهين، أحدهما: من الإحرام، فإن القارن هو الذى يُحرِم بالحَجِّ قبل الطواف، إما فى ابتداء الإحرام، أو فى أثنائه.
والثانى: أن القارن ليس عليه إلا سعىٌ واحد، فإن أتى به أولاً، وإلا سعى عقيبَ طواف الإفاضة، والمتمتعُ عليه سعى ثانٍ عند الجمهور. وعن أحمد رواية أخرى: أنه يكفيه سعى واحد كالقارن، والنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسعَ سعياً ثانياً عقيبَ طوافِ الإفاضة، فكيف يكونُ متمتعاً على هذا القولِ.
فإن قيل:: فعلى الرواية الأخرى، يكون متمتعاً، ولا يتوجه الإلزام، ولها وجه قوى من الحديث الصحيح، وهو ما رواه مسلم فى "صحيحه"، عن جابر قال: لم يطفِ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أصحابهُ بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً. طوافَه الأول هذا، مع أنَّ أكثرَهم كانُوا متمتِّعين. وقد روى سفيانُ الثورىُّ، عن سلمةَ بن كُهيل قال: حلف طاووس:
ما طاف أحدٌ من أصحاب رسولِ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم لِحَجِّه وعُمرته إلا طوافاً واحداً.
قيل: الذين نظروا أنه كان متمتعاً تمتعاً خاصاً، لا يقولُون بهذا القول، بل يُوجِبون عليه سَعيين، والمعلومُ مِن سُّنَّته صلَّى الله عليه وآله وسلم، أنه لم يسعَ إلا سعياً واحداً، كما ثبت فى الصحيح، عن ابن عمر، أنه قرن، وقدم مكة، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة، ولم يزد على ذلك، ولم يحلِقْ ولا قصَّر، ولا حَلَّ مِن شئ حرم منه، حتى كان يومُ النحر، فنحَرَ وحلَق رأسه، ورأى أنه قد قضى طوافَ الحجِّ والعُمْرة بطوافِه الأول، وقال: هكذا فعل رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومراده بطوافه الأول الذى قضى به حَجَّه وعُمْرته: الطوافُ بين الصفا والمروة بلا ريب.
وذكر الدارقطنى، عن عطاء ونافع، عن ابن عمر، وجابر: أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما طاف لحَجِّه وعُمرته طوافاً واحداً، وسعى سعياً واحداً، ثم قَدِمَ مكة، فلم يسعَ بينهما بعد الصَّدَرِ فهذا يدل على أحدِ أمرين، ولا بُد إما أن يكون قارناً، وهو الذى لا يُمكن مَن أوجبَ على المتمتع سعيينِ أن يقولَ غيرَه، وإما أن المتمتع يكفيه سعىٌ واحد، ولكن الأحاديث التى تقدَّمت فى بيان أنه كان قارناً صريحةٌ فى ذلك، فلا يُعدَل عنها.
فإن قيل فقد روى شعبةُ، عن حُميد بن هلال، عن مُطرِّف، عن
عِمران بن حُصين، أن النبىَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، طاف طوافين، وسعى سعيين. رواه الدارقطنى عن ابن صاعد: حدثنا محمد بن يحيى الأزدى، حدثنا عبد الله بن داود، عن شعبة. قيل: هذا خبر معلول وهو غلط. قال الدارقطنى: يقال: إن محمد بن يحيى حدَّث بهذا من حفظه، فوهم فى متنه والصواب بهذا الإسناد: أن النبىَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قرن بين الحَجِّ والعُمرة والله أعلم. وسيأتى إن شاء الله تعالى ما يدل على أن هذا الحديث غلط.
وأظن أن الشيخ أبا محمد بن قدامة، إنما ذهب إلى أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كان متمتعاً، لأنه رأى الإمام أحمد قد نصَّ على أن التمتعَ أفضلُ مِن القِران، ورأى أن الله سُبحانه لم يكن لِيختارَ لِرسوله إلا الأفضلَ، ورأى الأحاديثَ قد جاءت بأنه تمتع، ورأى أنها صريحةٌ فى أنه لم يَحِلَّ، فأخذ من هذه المقدمات الأربع أنه تمتع تمتعاً خاصاً لم يَحِلَّ منه، ولكن أحمد لم يُرجح التمتع، لكون النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجَّ متمتعاً، كيف وهو القائل: لا أشكُّ أن رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كان قارناً، وإنما اختار التمتع لِكونه آخِرَ الأمرين مِن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وهو الَّذى أمر به الصحابة أن يَفسخُوا حَجَّهم إليه، وتأسَّف على فوته.
ولكن نقل عنه المَرْوَزِى، أنه إذا ساق الهَدْىَ، فالقِران أفضل، فمِن أصحابه مَنْ جَعل هذا رواية ثانية، ومِنهم مَن جعل المسألة روايةً واحدةً، وأنه إن ساق الهَدْىَ، فالقِران أفضلُ، وإن لم يَسُقْ فالتمتُّع أفضلُ، وهذه طريقة شيخنا، وهى التى تليق بأصولِ أحمد، والنبىُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم
لم يتمنَّ أنه كان جعلها عُمْرةٌ مع سوقه الهَدْىَ، بل ودَّ أنه كان جعلها عُمْرة ولم يَسُقِ الهدىَ.
بقى أن يُقال: فأىُّ الأمرين أفضلُ، أن يسوقَ ويَقْرِنَ، أو يترك السَّوْق ويتمتَّعَ كما ودَّ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه فعله.
قيل: قد تعارض فى هذه المسألة أمرانِ.
أحدُهما: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرن وساق الهَدْى، ولم يكن الله سبحانه لِيختار له إلا أفضلَ الأمور، ولا سيما وقد جاءه الوحى به من ربه تعالى، وخيرُ الهَدْى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والثانى قوله: "لو اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرى ما اسْتَدْبَرْتُ لمَا سُقْتُ الهَدْىَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً". فهذا يقتضى، أنه لو كان هذا الوقتُ الذى تكلم فيه هو وقت إحرامه، لكان أحرم بعُمْرة ولم يَسُق الهَدْى، لأن الذى استدبره هو الذى فعله، ومضى فصار خلفه، والذى استقبله هو الذى لم يفعله بعدُ، بل هو أمامَهُ، فبيَّن أنه لو كان مستقبلاً لما استدبره، وهو الإحرام بالعُمْرة دون هَدْى، ومعلوم أنه لا يختارُ أن ينتقِلَ عن الأفضل إلى المفضولِ، بل إنما يختارُ الأفضلَ، وهذا يَدلُّ على أن آخِر الأمرينِ منه ترجيحُ التمتع.
ولمن رجَّح القِرانَ مع السَّوقِ أن يقولَ: هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَقُلْ هذا، لأجل أن الذى فعله مفضولٌ مرجُوح، بل لأن الصحابة شقَّ عليهم أن يَحِلُّوا من إحرامهم مع بقائه هو مُحِرماً، وكان يختار موافقتهم لِيفعلوا ما أُمِرُوا به مع انشراحٍ وقبول ومحبة، وقد ينتقِل عن الأفضل إلى المفضول، لما فيه من الموافقة وتأليف القلوب، كما قال لعائشة: "لَوْلاَ أنَّ قَومَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بَجَاهِلَّيةٍ لَنَقَضْتُ الكَّعْبَةَ وجَعَلْتُ لهَا بَابَيْنِ" فهذا تركُ ما هو الأولى
لأجل الموافقة والتأليف، فصار هذا هو الأَوْلى فى هذه الحال، فكذلك اختيارُه للمُتعة بلا هَدْى. وفى هذا جمع بين ما فعله وبين ما ودَّه وتمنَّاه، ويكون الله سبحانه قد جمع له بين الأمرين، أحدُهما بفعله له، والثانى: بتمنِّيه وودِّه له، فأعطاه أجرَ ما فعله، وأجرَ ما نواه من الموافقة وتمنَّاه، وكيف يكون نُسُكٌ يتخلَّلُه التَّحللُ ولم يَسُقْ فيه الهَدْىَ أفضلَ مِن نُسُكٍ لم يتخلَّله تحلُّل، وقد ساق فيه مائةَ بَدَنةٍ، وكيف يكون نُسُكٌ أفضل فى حقه من نُّسُك اختاره الله له، وأتاه به الوحىُ من ربه
فإن قيل: التمتع وإن تخلله تحلل، لكن قد تكرَّرَ فيه الإحرامُ، وإنشاؤه عبادة محبوبة للرب، والقِران لا يتكرر فيه الإحرام ؟
قيل: فى تعظيم شعائر الله بسوق الهَدْى، والتقرب إليه بذلك من الفضل ما ليس فى مجرد تكرر الإحرام، ثم إن استدامته قائمةٌ مقام تكرُّره، وسوقُ الهَدْى لا مقابل له يقومُ مقامه.
فإن قيل: فأيُّما أفضلُ، إفراد يأتى عقيبَه بالعُمْرة أو تمتع يَحِلُّ منه، ثم يُحِرمُ بالحج عقيبَه ؟
قيل: معاذ الله أن نظن أن نُسُكاً قطُّ أفضلُ من النُّسُكِ الذى اختاره الله لأفضل الخلق، وسادات الأُمَّة، وأن نقول فى نُسُك لم يفعله رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أحد من الصحابة الذين حَجُّوا معه، بل ولا غيرُهم من أصحابه: إنه أفضلُ مما فعلوه بأمره، فكيف يكون حَج على وجه الأرض أفضلَ مِن الحَجِّ الذى حجَّه النبى صلواتُ الله عليه، وأُمِرَ به أفْضَلُ الخلق، واختاره لهم، وأمرهم بفسخ ما عداه من الأنساك إليه، وودَّ أنه كان فعله، لا حَجَّ قطُّ أكملُ من هذا. وهذا وإن صح عنه الأمر لمن ساق الهَدْىَ بالقِران، ولمن لم يسقْ بالتمتع، ففى جوازِ خِلافه نظر، ولا يُوحشْك قِلَّةُ القائلين
بوجوب ذلك، فإن فيهم البحرَ الذى لا يَنْزِفُ عبدَ الله بن عباس وجماعةً من أهل الظاهر، والسُّنَّة هى الحَكَمُ بين الناس.. والله المستعان.
فصل
وأما مَن قال: إنه حَجَّ قارِناً قِراناً طاف له طوافين، وسعى له سعيين، كما قاله كثير من فقهاء الكوفة، فعُذْرُه ما رواه الدارقطنى من حديث مجاهد، عن ابن عمر: أنه جمع بين حَجٍّ وعُمْرة معاً، وقال: سبيلهما واحد، قال: وطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين. وقال: هكذا رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صنع كما صنعت.
وعن علىِّ بن أبى طالب، أنه جمع بينهما، وطافَ لهما طوافين، وسَعَى لهما سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صنعَ كما صنعتُ.
وعن علىِّ رضى الله عنه أيضاً أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان قارناً، فطاف طوافَيْنِ،
وسعى سعيين.
وعن علقمة، عن عبد الله بن مسعود قال: طافَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحَجَّته وعُمرته طوافين، وسعى سعيين، وأبو بكر، وعمر، وعلىّ، وابن مسعود.
وعن عِمران بن حُصين: أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف طوافَيْنِ، وسعى سعيين
وما أحسن هذا العذرَ، لو كانت هذه الأحاديثُ صحيحةً، بل لا يَصِحُّ منها حرف واحد.
أما حديث ابن عمر، ففيه الحسن بن عُمارة، وقال الدارقطنى: لم يروه عن الحكم غيرُ الحسن بن عُمارة، وهو متروك الحديث.
وأما حديثُ علىّ رضى الله عنه الأول، فيرويه حفص بن أبى داود. وقال أحمد ومسلم: حفص متروك الحديث، وقال ابن خراش: هو كذَّاب يضع الحديث، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى، ضعيف.
وأما حديثه الثانى: فيرويه عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن على، حدثنى أبى عن أبيه عن جده قال الدارقطنى: عيسى بن عبد الله يقال له: مبارك، وهو متروك الحديث.
وأما حديث علقمة عن عبد الله، فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد، عن حماد عن إبراهيم، عن علقمة. قال الدارقطنى: وأبو بردة ضعيف، ومَنْ دونه فى الإسناد ضعفاء.. انتهى. وفيه عبد العزيز بن أبان، قال يحيى: هو كذَّاب خبيث. وقال الرازى والنسائى: متروك الحديث.
وأما حديث عِمران بن حصين، فهو مما غَلِطَ فيه محمد بن يحيى الأزدى، وحدَّث به من حفظه، فوهم فيه، وقد حدَّث به على الصواب مِراراً، ويقال: إنه رجع عن ذكر الطواف والسعى.
وقد روى الإمام أحمد، والترمذى، وابن حبان فى "صحيحه" من حديث الدراوردى، عن عُبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر
قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَنَ بين حَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ، أَجْزَأَهُ لَهُمَا طَوافٌ واحِدٌ". ولفظ الترمذى: "مَنْ أَحْرَمَ بالحَجِّ والعُمْرَةِ أَجْزَأَهُ طَوافٌ وَسَعْىٌ وَاحِدٌ عنهما، حَتَّى يَحِلَّ مِنهما جَميعاً".
وفى "الصحيحين"، عن عائشةَ رضى الله عنها قالت: خرجنا مَعَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّةِ الوداع، فأهللنا بعُمرة، ثم قال: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيُهلَّ بالحَجِّ والعُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلّ حتَّى يَحلَّ مِنْهُمَا جَمِيعاً، فطاف الَّذِينَ أَهَلُّوا بالعُمْرةِ، ثُمَّ حَلُّوا، ثم طَافُوا طَوَافاً آخَرَ بَعْدَ أنْ رَجَعُوا مِنْ مِنَى، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ، فإنَّمَا طَافُوا طَوَافَاً واحِداً".
وصحَّ أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لِعائِشة: "إنَّ طوافَكِ بالبَيْتِ وبِالصَّفَا والمَرْوَةِ، يَكْفِيكِ لحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ".
وروى عبد الملك بن أبى سليمان، عن عطاء، عن ابن عباس، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، طاف طوافاً واحِداً لحَجِّه وعُمرته. وعبد الملك: أحد الثقات المشهورين، احتج به مسلم، وأصحاب السنن. وكان يقال له: الميزان، ولم يُتكلم فيه بضعف ولا جرح، وإنما أُنكر عليه حديثُ الشفعة، وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عنه عَارُهَا
وقد روى الترمذى عن جابر رضى الله عنه، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرنَ
بين الحجِّ والعُمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً وهذا، وإن كان فيه الحجاج بن أرطاة، فقد روى عنه سفيان، وشعبة، وابن نمير، وعبد الرزاق، والخلق عنه. قال الثورى: وما بقىَ أحد أعرفُ بما يخرُجُ من رأسه منه، وعيب عليه التدليسُ، وقلَّ من سَلِمَ منه. وقال أحمد: كان من الحفاظِ، وقال ابن معين: ليس بالقوى، وهو صدوق يدلس. وقال أبو حاتم: إذا قال: حدَّثنا، فهو صادق لا نرتابُ فى صدقه وحفظه. وقد روى الدارقطنى، من حديث ليث بن أبى سليم قال: حدثنى عطاء، وطاووس، ومجاهد، عن جابرٍ، وعن ابن عمر، وعن ابن عباس: أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَطُفْ هو وأصحابه بين الصَّفا والمروة إلا طوافاً واحِداً لعُمْرتهم وحَجهم. وليث بن أبى سليم، احتج به أهلُ السنن الأربعة، واستشهد به مسلم، وقال ابنُ معين: لا بأس به، وقال الدارقُطنى: كان صاحبَ سُنَّة، وإنما أنكروا عليه الجمعَ بين عطاء وطاووس ومجاهد فحسب. وقال عبد الوارث: كان من أوعية العلم، وقال أحمد: مضطرِب الحديث، ولكن حدَّث عنه الناس، وضعَّفه النسائى، ويحيى فى رواية عنه، ومثل هذا حديثه حسن. وإن لم يبلغ رتبة الصحة.
وفى "الصحيحين" عن جابر قال: دخل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عائشة، ثم وجدَها تبكى فَقَالَ: "ما يُبْكِيكِ" ؟ فقالت: قد حِضْتُ وقد حَلَّ الناس ولم أَحِلَّ ولم أطُفْ بالبَيْتِ، فقال: "اغْتَسِلى ثُمَّ أهلِّى" ففعلت، ثم وقفت المواقِفَ حتى إذا طهُرت، طافت بالكعبة وبالصفا والمَرْوَةِ، ثم قال:
"قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعاً".
وهذا يدل على ثلاثة أُمور، أحدها: أنها كانت قارنة، والثانى: أن القارن يكفيه طوافٌ واحدٌ وسعىٌ واحد. والثالث: أنه لا يجب عليها قضاءُ تِلك العُمْرةِ التى حاضت فيها، ثم أدخلت عليها الحجَّ، وأنها تَرْفُض إحرام العُمْرة بحيضها، وإنما رفضت أعمالها والاقتصارَ عليها، وعائشة لَم تَطُفْ أولاً طوافَ القُدوم، بل لم تَطُفْ إلا بعْدَ التَّعريفِ، وسعت مع ذلك، فإذا كان طوافُ الإفاضة والسعىُ بعدُ يكفى القارِنَ، فلأن يكفيه طوافُ القدوم مع طواف الإفاضة، وسعي واحد مع أحدهما بطريق الأَوْلى، لكن عائشة تعذَّر عليها الطواف الأول، فصارت قصَّتها حُجَّةً، فإن المرأة التى يتعذَّر عليها الطوافُ الأول، تفعلُ كما فعلت عائشة، تُدخِلُ الحَجَّ على العُمْرة، وتصيرُ قارنةً، ويكفيها لهما طوافُ الإفاضة والسعىُ عقيبه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومما يبين أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَطُفْ طَوافينِ، ولا سعى سعيين قولُ عائشة رضى الله عنها: وأما الذين جمعوا الحَجَّ والعُمْرة، فإنما طافوا طوافاً واحداً متفق عليه وقول جابر: لم يطف النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً، طوافه الأول" "رواه مسلم" وله لعائشة: "يُجْزِئ عَنْكِ طَوافُكِ بالصَّفَا والمَرْوَةِ عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ" "رواه مسلم" وقوله لها فى رواية أبى داود: "طَوافُكِ بالبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جميعاً". وقوله لها فى الحديث المتفق عليه لما طافت بالكعبة وبين الصفا والمروة: "قد حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جميعاً" قال: والصحابة الذين نقلوا حجةَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كُلُّهم نقلوار
أنهم لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة، أمرهم بالتحليلِ إلا مَن ساق الهَدْى. فإنه لا يَحلُّ إلا يومَ النَّحْرِ، ولم يَنْقُلْ أحد منهم أن أحداً منهم طاف وسعى، ثم طاف وسعى. ومن المعلوم، أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعى على نقله. فلما لم ينقله أحدٌ من الصحابة، عُلِمَ أنه لم يكن.
وعمدة مَن قال بالطوافين والسعيين، أثرٌ يرويه الكوفيون، عن علىّ، وآخر عن ابن مسعود رضى الله عنهما.
وقد روى جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علىّ رضى الله عنه، أن القارنَ يكفيه طوافٌ واحد، وسعىٌ واحد، خلاف ما روى أهل الكوفة، وما رواه العراقيون، منه ما هو منقطع، ومنه ما رجاله مجهولون أو مجروحون، ولهذا طعن علماءُ النقل فى ذلك حتى قال ابنُ حزم: كل ما رُوى فى ذلك عن الصحابة، لا يَصِحُّ منه ولا كلمةٌ واحدة. وقد نُقِلَ فى ذلك عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما هو موضوع بلا ريب. وقد حلف طاووس: ما طاف أحدٌ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحَجَّته وعُمْرته إلا طوافاً واحداً، وقد ثبت مثلُ ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وغيرهم رضى الله عنهم، وهُمْ أعلمُ الناس بحَجة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يُخالفوها، بل هذه الآثار صريحة فى أنهم لم يطوفوا بالصَّفَا والمروة إلا مرةً واحدة.
وقد تنازع الناسُ فى القارن والمتمتع، هل عليهما سعيان أو سَعىٌ واحد ؟ على ثلاثة أقوال: فى مذهب أحمد وغيره.
أحدها: ليس على واحد منهما إلا سعى واحد، كما نص عليه أحمد فى رواية ابنه عبد الله. قال عبد الله: قلت لأبى: المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة ؟ قال: إن طاف طوافين، فهو أجود. وإن طاف طوافاً واحداً، فلا بأس. قال شيخنا: وهذا منقول عن غير واحد من السَلَف.
الثانى: المتمتع عليه سعيان والقارن عليه سعى واحد، وهذا هو القول الثانى فى مذهبه، وقول مَن يقوله من أصحاب مالك والشافعى رحمهما الله.
والثالث: أن على كل واحدٍ منهما سعيين، كمذهب أبى حنيفة رحمه الله، ويُذكر قولاً فى مذهب أحمد رحمه الله، والله أعلم. والذى تقدَّم هو بسط قول شيخنا وشرحه.. والله أعلم.
فصل
وأما الذين قالوا: إنه حجَّ حجاً مفرِداً اعتمر عقَيبه من التنعيم، فلا يُعلم لهم عذرٌ البتة إلا ما تقدَّم من أنهم سمعوا أنه أفرد الحج، وأن عادَة المفردين أن يعتَمِرُوا من التنعيم، فتوهموا أنه فعل كذلك.
فصل
وأما الذين غلطوا فى إهلاله، فمَن قال: إنه لبَّى بالعُمْرة وحدها واستمر عليها، فعذرُه أنه سمع أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمتع، والمتمتع عنده مَن أهلَّ بعُمْرة مفردة بشروطها. وقد قالت له حفصة رضى الله عنها: ما شأن النَّاسِ حَلُّوا ولم تَحِلَّ مِن عُمرتك ؟ وكل هذا لا يدل على أنه قال: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ، ولم يَنْقُلْ هذا أحد عنه البتة، فهو وهم محض، والأحاديثُ الصحيحةُ المستفيضةُ فى لفظه فى إهلاله تُبْطِلُ هذا.
فصل
وأما مَن قال: إنه لبَّى بالحَجِّ وحده واستمر عليه، فعذُره ما ذكرنا عمن قال: أفرد الحَجَّ ولبَّى بالحَجِّ، وقد تقدّم الكلامُ على ذلك، وأنه لم يقل أحد قط إنه قال: لَبَّيْكَ بحَجَّة مفردة، وإن الذين نقلوا لفظه، صرَّحوا بخلاف ذلك.
فصل
وأما مَن قال: إنه لبَّى بالحجِّ وحده، ثم أدخل عليه العُمْرة، وظن أنه بذلك تجتمع الأحاديث، فعذره أنه رأى أحاديث إفراده بالحج صحيحة، فحملها على ابتداء إحرامه، ثم إنه أتاه آتٍ من ربِّه تعالى فقال: قل: عُمْرة فى حَجة، فأدخل العُمْرة حينئذ على الحَجِّ، فصار قارناً. ولهذا قال للبرَّاء بن عازب: "إنِّى سُقْتُ الهَدْىَ وَقَرَنْتُ"، فكان مفرِداً فى ابتداء إحرامه، قارناً فى أثنائه، وأيضاً فإن أحداً لم يَقُل إنه أهَلَّ بالعُمْرة، ولا لبَّى بالعُمْرة، ولا أفرد العُمْرة، ولا قال: خرجنا لا ننوى إلا العُمْرة، بل قالوا: أَهلَّ بالحَجِّ، ولبَّى بالحَجِّ، وأفرد الحَجَّ، وخرجنا لا ننوى إلا الحجّ، وهذا يدل على أن الإحرام وقع أولاً بالحَجَِّ، ثم جاءه الوحىُ من ربه تعالى بالقِران، فلبَّى بهما فَسمعه أنس يُلبِّى بهما، وصدق، وسمعته عائشةُ، وابنُ عمر، وجابر يُلبِّى بالحَجِّ وحده أولاً وصدقوا.
قالوا: وبهذا تتفق الأحاديث، ويزولُ عنها الاضطراب.
وأربابُ هذِه المقالة لا يُجيزونَ إدخال العُمْرة على الحج، ويرونه لغواً، ويقولون: إن ذلك خاص بالنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون غيره. قالوا: ومما يدل على ذلك: أن ابن عمر قال: لبَّى بالحَجِّ وحده، وأنس قال:
أهلَّ بهما جميعاً، وكلاهما صادق فلا يمكن أن يكون إهلاله بالقِران سابقاً على إهلاله بالحَجِّ وحده، لأنه إذا أحرم قارناً، لم يمكن أن يحْرِم بعد ذلك بحَجٍّ مفرد، وينقل الإحرام إلى الإفراد، فتعيَّن أنه أحرم بالحجِّ مُفرِداً، فسمعه ابنُ عمر، وعائشة، وجابر، فنقلوا ما سَمِعُوه، ثم أدخل عليه العُمرة، فأهلَّ بهما جميعاً لما جاءه الوحى من ربه، فسمِعه أنس يهل بهما، فنقل ما سمعه، ثم أخبر عن نفسه بأنه قرن، وأخبر عنه مَن تقدم ذِكره من الصحابة بالقِران، فاتفقت أحاديثهم، وزال عنها الاضطرابُ والتناقضُ. قالوا: ويدلُّ عليه قولُ عائشة: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال: "مَن أراد منكم أن يُهِلَّ بِحَجٍّ وعُمرةٍ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أرادَ أنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ، ومَنْ أَرادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ". قالت عائشةُ: فأهلَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحج، وأهلَّ به ناس معه، فهذا يدل على أنه كان مُفِرداً فى ابتداء إحرامه، فعُلِم أن قِرانه كان بعد ذلك.
ولا رَيبَ أن فى هذا القولِ من مخالفة الأحاديث المتقدِّمة، ودعوى التخصيصِ للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإحرام لا يَصحُّ فى حقِّ الأُمة ما يردُّه ويُبطله، ومما يردُّه أن أنساً قال: صلَّى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظهر بالبيداء، ثم ركب، وصَعِدَ جبل البيداء، وأهلَّ بالحَجِّ والعُمْرة حين صلَّى الظهر.
وفى حديث عمر، أن الذى جاءهُ مِن ربهِ قال له: "صَلِّ فى هَذَا الوَادى المُبارَكِ وقُلْ: عُمْرَةٌ فى حَجَّةٍ". فكذلك فعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالذى روى عمر أنه أُمِرَ به، وروى أنس أنه فعله سواء، فصلَّى الظُّهر بذى الحُليفة، ثم قال: "لبيك حَجّاً وعُمْرة".
واختلف الناسُ فى جواز إدخالِ العُمرةِ على الحَجِّ على قولين، وهما روايتان عن أحمد، أشهرهما: أنه لا يَصِحُّ، والذين قالوا بالصحِّة كأبى حنيفة وأصحابه رحمهم الله، بَنَوْه على أُصولهم، وأن القارِن يطوف طوافين، ويسعى سعيين، فإذا أدخل العُمْرة على الحَجِّ، فقد التزم زيادة عملِ على الإحرام بالحَجِّ وحدَه، ومَن قال: يكفيه طوافٌ واحد، وسعىٌ واحد، قال: لم يستفد بهذا الإدخال إلا سقوط أحد السفرين، ولم يلتزم به زيادَة عمل، بل نُقصانه، فلا يجوز، وهذا مذهب الجمهور.
فصل
وأما القائلون: إنه أحرم بعُمْرة، ثم أدخل عليها الحَجَّ، فعُذرهم قولُ ابنِ عمر: "تمتَّع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّة الوداع بالعُمْرة إلى الحَجِّ، وأهدى، فساق معه الهَدْىَ من ذى الحُليفة، وبدأ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأ هلَّ بالعُمْرةِ ثم أهلَّ بالحَجِّ" متفق عليه
وهذا ظاهر فى أنه أحرم أولاً بالعُمْرة، ثم أدخل عليها الحَجَّ، ويُبين ذلك أيضاً أن ابن عمر لما حَجَّ زمن ابن الزبير أهلَّ بعُمرة ثم قال: أُشْهِدُكم أنى قد أوجبتُ حَجّاً مع عُمْرتى، وأهدى هَدْياً اشتراه بقُدَيْد، ثم انطلق يُهِلُّ بهما جميعاً حتى قَدِمَ مكة، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة، ولم يزد على ذلك، ولم ينحر، ولم يحلقْ ولم يُقصِّرْ، ولم يَحِلَّ من شئ حرم منه حتى كان يوم النحر، فنحر وحلق، ورأى أن ذلك قد قضى طوافَ الحَج والعُمْرة بطَوافه الأول. وقال: هكذا فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فعند
هؤلاء، أنه كان متمتعاً فى ابتداء إحرامه، قارِناً فى أثنائه، وهؤلاء أعذُر مِن الذين قبلهم، وإدخالُ الحجِّ على العُمرة جائز بلا نزاع يُعرف، وقد أمر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عائشة رضى الله عنها بإدخال الحج على العُمرة، فصارت قارِنةً، ولكن سياقُ الأحاديث الصحيحة، يردُّ على أرباب هذه المقالة. فإن أنساً أخبر أنه حين صلى الظهر أهلَّ بهما جميعاً، وفى "الصحيح" عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّة الوداع مُوَافِينَ لهِلال ذى الحِجَّة، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَرادَ مِنْكُم أَنْ يُهِلَّ بعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، فلوْلاَ أَنِّى أَهْدَيْتُ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ" قالت: وكان مِن القوم مَن أهلَّ بعُمْرة، ومنهم مَن أهلَّ بالحج، فقالت: فكنت أنا ممن أهلَّ بعُمْرة... وذكرت الحديث رواه مسلم فهذا صريح فى أنه لم يُهِل إذ ذاك بعمرةٍ، فإذا جمعت بين قولِ عائشة هذا، وبين قولها فى "الصحيح": تمتع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّة الوداع، وبَيْنَ قولها: وأهلَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحجِّ، والكُلُّ فى "الصحيح"، علمتَ أنها إنما نفت عُمْرةً مفردة، وأنها لم تنف عُمْرة القِران، وكانوا يُسمونها تمتعاً كما تقدَّم، وأن ذلك لا يُناقض إهلالَه بالحج، فإن عُمْرة القِران فِى ضمنه، وجزء منه، ولا يُنافى قولها: أفرد الحَج، فإن أعمالَ العُمْرة لما دخلت فى أعمال الحَج، وأُفِردَتْ أعمالُه، كان ذلك إفراداً بالفعل.
وأما التلبية بالحَجِّ مفرِداً، فهو إفراد بالقول، وقد قيل: إن حديثَ ابنِ عمر: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمتع فى حَجَّة الوداع بالعُمْرة إلى الحَجِّ، وبدأ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأهلَّ بالعُمْرة، ثم أهلَّ بالحَج، مروى بالمعنى من حديثه الآخر، وأن ابن عمر هو الذى فعل ذلك عام حَجه فى فتنة ابن
الزبير، وأنه بدأ فأهلَّ بالعمرة، ثم قال: ما شأنُهما إلا واحد، أُشهِدُكم أنى قد أوجبت حَجّاً مع عُمرتى، فأهلَّ بهما جميعاً، ثم قال فى آخر الحديث: هكذا فعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإنما أراد اقتصاره على طواف واحد، وسَعىٌ واحد، فَحُمِلَ على المعنى، ورُوى به: أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدأ فأهلَّ بالعُمْرة، ثم أهلَّ بالحَجِّ، وإنما الذى فعل ذلك ابنُ عمر، وهذا ليس ببعيد، بل متعيِّن، فإن عائشة قالت عنه: "لولا أن مَعِى الهَدْىَ لأَهَلَلْتُ بِعُمْرَةٍ" وأنس قال عنه: إنه حين صلَّى الظهر، أوجب حَجَّاً وعُمْرة، وعمر رضى الله عنه، أخبر عنه أن الوحى جاءه من ربه فأمره بذلك.
فإن قيل: فما تصنعون بقول الزهرى: إن عروة أخبره عن عائشة بمثل حديث سالم، عن ابن عمر ؟
قيل: الذى أخبرت به عائشة من ذلك، هو أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف طوافاً واحداً عن حَجِّه وعُمْرته، وهذا هو الموافقُ لِرواية عروة عنها فى "الصحيحين"، وطاف الَّذين أهلُّوا بالعُمْرة بالبيت وبينَ الصَّفا والمروة، ثم حلُّوا، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من مِنَى لحَجِّهم، وأما الذين جمعوا الحَجَّ والعُمْرة، فإنما طافوا طوافاً واحداً، فهذا مثلُ الذى رواه سالم عن أبيه سواء. وكيف تقول عائشة: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدأ فأهلَّ بالعُمرة، ثم أهلَّ بالحَجِّ، وقد قالت: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَوْلاَ أَنَّ مَعِِىَ الهَدْىَ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ" وقالت: وأهلَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحَجِّ ؟ فَعُلِمَ، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُهِلَّ فى ابتدء إحرامه بعُمْرة مفردة.. والله أعلم.
فصل
وأما الذين قالوا: إنَّه أحرم إحراماً مطلقاً، لم يعيِّن فيه نُسكاً، ثم
عيَّنه بعد ذلك لما جاءه القضاء وهو بين الصَّفَا والمروة، وهو أحدُ أقوال الشافعى رحمه الله، نص عليه فى كتاب "اختلاف الحديث". قال: وثبت أنه خرج ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء وهو ما بين الصَّفَا والمروة، فأمر أصحابَه أن مَن كان منهم أهلَّ ولم يكن معه هَدْى أن يجعله عُمْرةً، ثم قال: ومن وصف انتظار النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القضاء، إذ لم يحج من المدينة بعد نزول الفرض طلباً للاختيار فيما وسَّع الله من الحَجِّ والعُمْرة، فيُشبه أن يكون أحفظ، لأنه قد أُتى بالمتلاعِنَيْنِ، فانتظر القضاء، كذلك حُفِظَ عنه فى الحَجِّ ينتظِرُ القضاء، وعذر أرباب هذا القول، ما ثبت فى "الصحيحين" عن عائشة رضى الله عنها، قالت: "خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نذكر حَجّاً ولا عُمْرة" وفى لفظ: "يُلَبِّى لا يذكر حَجّاً ولا عُمْرة" وفى رواية عنها: "خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نرى إلا الحَجَّ، حتى إذا دنونا من مكة أمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لم يكن معه هَدْى إذا طاف بالبيت وبين الصَّفَا والمروة أن يَحِلَّ".
وقال طاووس: خرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة لا يُسمِّى حَجّاً ولا عُمْرة ينتظِرُ القضاءَ، فنزل عليه القضاءُ وهو بين الصَّفَا والمروة، فأمر أصحابَه مَن كان منهم أهلَّ بالحَجِّ ولم يكن معه هَدْى أن يجعلها عُمْرة... الحديثَ.
وقال جابر فى حديثه الطويل فى سياق حَجَّة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فصلَّى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى المسجد، ثم ركب القَصْواءَ حتى إذا استوت به ناقتُه على البيداءِ نَظرتُ إلى مدِّ بصرى بين يديه من راكب وماشٍ، وعن يمينه مثلُ ذلك، وعن يَسارِه مثلُ ذلك، ومِنْ خلفه مِثلُ ذلك، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهُرِنا، وعليه يَنْزِلُ القرآنُ وهو يعلم تأويلَه، فما عَمِلَ به
من شئ، عَمِلْنَا بِهِ، فأهلَّ بالتوحيدِ: "لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْكَ، لا شَريكَ لَكَ". وأهلَّ الناسُ بهذا الذى يُهِلُّون به، ولَزِمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلبيتُه فأخبر جابر، أنه لم يزد على هذه التلبية، ولم يذكرُ أنه أضاف إليها حَجّاً ولا عُمْرة، ولا قِراناً، وليس فى شئ من هذه الأعذار ما يُناقض أحاديث تعيينه النُّسُكَ الذى أحرم به فى الابتداء، وأنه القِران.
فأما حديثُ طاووس، فهو مرسَل لا يُعارَضُ به الأساطينُ المسندَاتُ، ولا يُعرف اتصاله بوجه صحيح ولا حسن. ولو صح، فانتظارُه للقضاء كان فيما بينه وبين الميقات، فجاءه القضاء وهو بذلك الوادى، أتاه آتٍ مِنْ ربه تعالى فقال: "صَلِّ فى هَذَا الوَادى المُبَارَكِ وَقُلْ: عُمْرَةٌ فى حَجَّةٍ"، فهذا القضاءُ الذى انتظره، جاءه قبل الإحرام، فعيَّن له القِرانَ. وقول طاووس: نزل عليه القضاءُ وهو بين الصَّفَا والمروة، هو قضاء آخر غير القضاء الذى نزل عليه بإحرامه، فإن ذلك كان بوادى العقيق، وأما القضاءُ الذى نزل عليه بين الصَّفا والمروة، فهو قضاءُ الفسخ الذى أمرَ به الصحابةَ إلى العُمْرة، فحينئذ أمر كُلَّ مَنْ لم يكن معه هَدْى منهم أن يفسَخَ حَجَّهُ إلى عُمْرة وقال: "لو اسْتَقْبَلْتُ منْ أمْرِى ما اسْتَدْبَرْتُ لما سُقْتُ الهَدْى وَلَجَعَلْتُها عُمْرَةً"، وكان هذا أمرَ حتم بالوحى، فانهم لما توقَّفوا فيه قال: "انظُرُوا الَّذِى آمرُكُمْ بِهِ فَاْفعَلُوه".
فأما قول عائشة: خرجنا لا نذكر حَجّاً ولا عُمْرة. فهذا إن كان محفوظاً عنها، وجب حمله على ما قبل الإحرام، وإلا ناقض سائر الروايات الصحيحة عنها، أن منهم مَن أهلَّ عند الميقات بحَجٍّ، ومنهم مَنْ أهلّ بعُمْرة، وأنها
ممن أهلَّ بعُمْرة. وأما قولها: نلبِّى لا نذكر حَجّاً ولا عُمْرة، فهذا فى ابتداء الإحرام، ولم تقل: إنهم استمروا على ذلك إلى مكة، هذا باطل قطعاً فإن الذين سمعوا إحرامَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أهلَّ به، شهدوا على ذلك، وأخبروا به، ولا سبيل إلى رد رواياتهم. ولو صح عن عائشةَ ذلك، لكان غايتُه أنها لم تحفظ إهلالهم عند الميقات، فنفته وحفظه غيرها من الصحابة فأثبته، والرجالُ بذلك أعلمُ من النساء.
وأما قول جابر رضى الله عنه: وأهلَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتوحيد، فليس فيه إلا إخبارُه عن صفة تلبيته، وليس فيه نفىٌ لتعيينه النُّسُكَ الذى أحرم به بوجه من الوجوه. وبكل حال، ولو كانت هذه الأحاديث صريحة فى نفى التعيين، لكانت أحاديثُ أهلِ الإثبات أولى بالأخذ منها، لكثرتها، وصحتها، واتصالها، وأنها مُثْبِتَة مبيِّنة متضمنة لزيادة خفيت على مَن نفى، وهذا بحمد الله واضح، وبالله التوفيق.
فصل
ولبَّد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه بالغِسْل وهو بالغين المعجمة على وزن كِفلٍ وهو ما يُغسل به الرأس مِن خَطْمِىٍّ ونحوه يُلبَّدُ به الشعر حتى لا ينتشِر، وأهلَّ فى مُصلاه، ثم ركب على ناقته، وأهلَّ أيضاً، ثم أهلَّ لما استقلَّت به على البيداء. قال ابن عباس: وايمُ الله.. لقد أوجب فى مصلاه، وأهلَّ حين استقلت به ناقته، وأهلَّ حين علا على شرف البيداء.
وكان يُهِلَّ بالحَجِّ والعُمرة تارة، وبالحَجِّ تارة، لأن العُمْرة جزء منه، فمن ثَمَّ قيل: قَرَنَ، وقيل: تمتع، وقيل: أفرد، قال ابن حزم: كان ذلك قبلَ الظُّهر بيسير، وهذا وهم منه، والمحفوظُ: أنه إنما أهلَّ بعد صلاة الظهر، ولم يقل أحد قط إن إحرَامه كان قبل الظهر، ولا أدرى من أين له هذا. وقد قال ابنُ عمر: ما أهلَّ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا مِن عند الشجرة حين قام به بعيرُه. وقد قال أنس: إنه صلَّى الظهرَ، ثم ركب، والحديثان فى "الصحيح".
فإذا جمعت أحدَهما إلى الآخر، تبيَّن أنَّه إنما أهلَّ بعدَ صلاةِ الظُّهر، ثم لبَّى فقال: "لبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيك لا شَريكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ". ورفع صوتَه بهذه التلبيةِ حتى سَمِعَها أصحابُه، وأمرَهم بأمر الله له أن يرفعُوا أصواتَهم بالتلبية.
وكان حَجَّه على رَحْل، لا فى مَحْمِلٍ، ولا هَوْدَج، ولا عمَّارِية وزَامِلتُه تحته. وقد اختُلِف فى جواز ركوبِ المُحْرِم فى المَحْمِلِ، والهَوْدَجِ، والعَمَّارِية، ونحوها على قولين، هما روايتان عن أحمد أحدهما: الجوازُ وهو مذهبُ الشافعى وأبى حنيفة. والثانى: المنع وهو مذهب مالك.
فصل
ثم إنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيَّرهم عند الإحرام بين الأنساكِ الثلاثة، ثم ندبَهم عند دُنوِّهم من مكة إلى فسخ الحَج والقِران إلى العُمْرة لمن لم يكن معه هَدْىٌ، ثم حتَّم ذلك عليهم عند المروةِ.
وولَدَتْ أسماءُ بِنتُ عُميسٍ زوجةُ أبى بكر رضى الله عنها بذى الحُليفة محمَّدَ بن أبى بكر، فأمرها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تغتسِلَ، وتَسْتَثْفِرَ بثوب، وتُحرم وتُهِلَّ. وكان فى قِصتها ثلاثُ سُنن، إحداها: غسلُ المحرم، والثانية: أن الحائضَ تغتسِل لإحرامها، والثالثة: أن الإحرام يَصِحُّ مِن الحائض.
ثم سار رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يُلبِّى بتلبيتِه المذكورةِ، والناسُ معه يزيدُون فيها ويَنقُصُون، وهو يُقِرُّهم ولا يُنكِرُ عليهم.
ولزم تلبيتَه، فلما كانُوا بالرَّوحاء، رأى حِمار وحْشٍ عَقيراً، فقال: "دَعوه فإنَّه يُوشِكُ أَنْ يَأتىَ صَاحِبُه" فَجاء صَاحِبُه إلىَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،فَقَالَ: يا رسُولَ الله، شَأْنَكُم بِهَذَا الحِمارِ، فَأَمرَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ.
وفى هذا دليل على جواز أكلِ المُحْرِمِ مِن صيد الحَلال إذا لم يَصِدْه لأجله، وأما كونُ صاحبه لم يُحْرِم، فلعلَّه لم يمرَّ بذى الحُليفة، فهو كأبى قتادة فى قصته، وتدل هذه القصةُ على أن الهِبة لا تفتقِرُ إلى لفظ: وهبتُ لك، بل تَصِحُّ بما يَدُلُّ عليها، وتدل على قسمته اللحم مع عظامه بالتحرِّى، وتَدُلُّ على أن الصيدَ يُملَكُ بالإثبات، وإزالة امتناعه، وأنه لمن أثبته لا لمن أخذه، وعلى حِلِّ أكلِ لحم الحِمار الوحشى، وعلى التوكيل فى القِسمة، وعلى كون القاسم واحدا
فصل
ثم مضى حتى إذا كان بالأُثَايةِ بين الرُّويثَةِ والعَرْجِ، إذا ظبىٌ حَاقِفٌ فى ظِلٍّ فيه سهم، فأمر رجلاً أن يقف عنده لا يَرِيبُه أحدٌ من الناس، حتى يُجاوِزوا. والفرقُ بين قصة الظبى، وقصةِ الحمار، أن الذى صاد الحمار كان حلالاً، فلم يمنع من أكله، وهذا لم يعلم أنه حلال وهم محرِمون، فلم يأذنْ لهم فى أكله، ووكَّل مَن يَقِفُ عنده، لئلا يأخذه أحدٌ حتى يُجاوزوه.
وفيه دليل: على أن قتلَ المُحْرِم للصيد يجعلُه بمنزلة الميتة فى عدم الحِلِّ، إذ لو كان حلالاً، لم تَضِعْ مالِيَّتُه.
فصل
ثم سار حتى إذا نزل بالعَرْجِ، وكانت زِمالتُه وزِمَالَةُ أبى بكر واحدة، وكانت مع غلام لأبى بكر، فجلس رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر إلى جانبه، وعائشةُ إلى جانبه الآخر، وأسماءُ زوجته إلى جانبه، وأبو بكر ينتظِر الغلام والزمالة، إذ طلع الغلام ليس معه البعير، فقال: أين بعيرُك ؟ فقال: أضللتُه البارحة، فقال أبو بكر: بعير واحد تُضِلُّه. قال: فَطفِق يضربُه ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتبسَّم، ويقول: انظُروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنَعُ، وما يزيد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن يقول ذلك ويتبسم. ومن تراجم أبى داود على هذه القصة، باب "المحرم يؤدِّب غلامه".
فصل
ثم مضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى إذا كان بالأبواءِ، أهدى له الصَّعبُ بن جَثَّامَةَ عَجُزَ حِمَارٍ وحشىٍّ، فردَّه عليه، فقال: "إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلاَّ أَنَّا حُرُمٌ". وفى "الصحيحين": "أنه أهدى له حِماراً وحشياً"، وفى لفظ لمسلم: "لحم حمار وحْشٍ".
وقال الحُميدى: كان سفيانُ يقولُ فى الحديث: أُهْدِىَ لرسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحمُ حِمار وحْشٍ، وربما قال سفيان: يقطُرُ دماً، وربما لم يقُلْ ذلك، وكان سفيان فيما خلا ربما قال: حِمارَ وحش، ثم صار إلى لحم حتَّى مات. وفى رواية: شقَّ حِمارِ وحشٍ، وفى رواية: رِجل حمار وحشٍ.
وروى يحيى بن سعيد، عن جعفر، عن عمرو بن أُميَّة الضَّمْرِى عن أبيه، عن الصَّعبِ، أُهدى للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجُزَ حِمارِ وحْشٍ وهو بالجُحفة، فأكل منه وأكل القوم. قال البيهقى: وهذا إسناد صحيح.
فإن كان محفوظاً، فكأنه ردَّ الحى، وقبل اللَّحم.
وقال الشافعى رحمه الله: فإن كان الصَّعبُ بن جَثَّامة أهدى للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحمارَ حيًّّاً، فليس للمُحْرِم ذبحُ حمار وحش، وإن كان أهدى له لحم الحمار، فقد يحتمِلُ أن يكون علم أنه صِيد له، فردَّه عليه، وإيضاحه فى حديث جابر. قال: وحديثُ مالك: أنه أُهدى له حماراً أثبتُ من حديث مَن حدَّث أنه أُهدى له من لحم حمار.
قلت: أما حديث يحيى بن سعيد، عن جعفر، فغلط بلا شك، فإن الواقعةَ واحدة، وقد اتفق الرواةُ أنه لم يأكل منه، إلا هذه الرواية الشاذَّة المنكرة.
وأما الاختلافُ فى كون الذى أهداه حيَّا، أو لحماً، فرواية مَن روى لحماً أولى لثلاثة أوجه.
أحدها: أن راويها قد حفظها، وضبطَ الواقعةَ حتى ضبطها: أنه يقطر دماً، وهذا يدل على حفظه للقصة حتى لهذا الأمر الذى لا يُؤبه له.
الثانى: أن هذا صريح فى كونه بعضَ الحِمار، وأنه لحم منه، فلا يُناقض قوله: أُهدى له حماراً، بل يُمكن حمله على رواية مَن روَى لحماً، تسمية للحم باسم الحيوان، وهذا مما لا تأباه اللغة.
الثالث:: أن سائر الروايات متفقة على أنه بعض من أبعاضه، وإنَّما اختلفوا فى ذلك البعض، هل هو عجزُه، أو شِقُّه، أو رِجله، أو لحم منه ؟ ولا تناقضَ بين هذه الروايات، إذ يمكن أن يكون الشِّق هو الذى فيه العَجُز، وفيه الرِّجل، فصح التعبيرُ عنه بهذا وهذا، وقد رجع ابنُ عيينة عن قوله: "حماراً" وثبت على قوله: "لحم حمار" حتى مات.
وهذا يدل على أنه تبيَّن له أنه إنما أُهدى له لحماً لا حيواناً، ولا تعارض بين هذا وبين أكله لما صاده أبو قتادة، فإنَّ قصة أبى قتادة كانت عام الحُديبية سنة ست، وقصة الصَّعب قد ذكر غيرُ واحد أنها كانت فى حَجَّة الوداع، منهم: المحبُّ الطبرى فى كتاب "حجة الوداع" له. أو فى بعض عُمَره وهذا مما يُنظر فيه. وفى قصة الظبى وحمار يزيد بن كعب السلمى البَهزى، هل كانت فى حَجَّة الوداع، أو فى بعض عُمَره والله أعلم ؟ فإن حُمِل حديثُ أبى قتادة على أنه لم يصده لأجله، وحديث الصَّعب على أنه صيد لأجله، زال الإشكالُ، وشهد لذلك حديث جابر المرفوع: "صَيْدُ البَرِّ لَكُم حَلالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادُ لَكُمْ". وإن كان الحديثُ قد أُعِلَّ بأن المطلب ابن حنطب راويه عن جابر لا يُعرف له سماع منه، قاله النسائى.
قال الطبرى فى "حَجة الوداع" له: فلما كان فى بعض الطريق، اصطاد أبو قتادة حماراً وحشياً، ولم يكن مُحرماً، فأحلَّه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه بعد أن سألهم: هل أمره أحد منكم بشئ، أو أشار إليه ؟ وهذا وهم منه رحمه الله، فإن قِصة أبى قتادة إنما كانت عام الحُديبية، هكذا
روى فى "الصحيحين" من حديث عبد الله ابنه عنه قال: انطلقنا مع النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامَ الحُديبية، فأحرم أصحابُه ولم أحرِم، فذكر قِصة الحمار الوحشى.
فصل
فلما مرَّ بوادى عُسْفَان: قال: "يا أبا بكر ؛ أىُّ وادٍ هذا" ؟ قال: وادى عُسْفان. قال: "لقد مَرَّ به هُودٌ وصَالِحٌ على بَكْرَيْنِ أَحْمَرَيْن خُطُمُهُما اللِّيفُ وَأُزُرُهُم العبَاءُ، وأرْدِيتُهُم النِّمارُ، يُلَبُّونَ يَحَجُّونَ البَيْتَ العَتِيقَ" ذكره الإمام أحمد فى المسند
فلما كان بَسَرِفَ، حاضت عائشةُ رضى الله عنها، وقد كانت أهلَّت بعُمْرة، فدخل عليها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهى تبكى، قال: "ما يُبْكِيكِ ؟ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ" ؟ قالت: نَعَمْ، قال: "هَذَا شئٌ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، افْعَلى مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفى بالبَيْتِ".
وقد تنازع العلماءُ فى قصة عائشة: هل كانت متمتعة أو مفرِدة ؟ فإذا كانت متمتعةً، فهل رفضت عُمْرتَها، أو انتقلت إلى الإفراد، وأدخلت عليها الحَجَّ، وصارت قارنةً، وهل العُمرة التى أتت بها مِن التنعيم كانت
واجبة أم لا ؟ وإذا لم تكن واجبةً، فهل هى مُجزِئةٌ عن عُمْرة الإسلام أم لا ؟ واختلفوا أيضاً فى موضع حيضها، وموضع طُهرها، ونحن نذكر البيان الشافى فى ذلك بحول الله وتوفيقه.
واختلف الفقهاءُ فى مسألة مبنية على قصة عائشة، وهى أن المرأة إذا أحرمت بالعُمْرة، فحاضت، ولم يُمكنها الطوافُ قبلَ التعريفِ، فهل ترفُضُ الإحرامَ بالعُمْرة، وتُهِلُّ بالحَجِّ مفرداً، أو تُدخل الحج على العُمْرة وتصير قارِنة ؟ فقال بالقول الأول: فقهاءُ الكُوفة، منهم أبو حنيفة وأصحابه، وبالثانى: فقهاء الحجاز. منهم: الشافعى ومالك، وهو مذهبُ أهل الحديث كالإمام أحمد وأتباعه.
قال الكوفيون: ثبت فى "الصحيحين"، عن عُروة، عن عائشة، أنها قالت: "أهللتُ بعُمْرة، فقدِمتُ مكَّةَ وأنا حائِض لم أَطُفْ بالبَيْتِ ولا بين الصفا والمروة، فشكوتُ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: "انقُضِى رَأسَكِ، وامْتَشِطِى، وأَهلِّى بالحَجِّ، ودَعِى العُمْرَةَ". قَالَتْ: فَفَعَلْتُ فَلَّما قَضَيْتُ الحَجَّ، أرْسَلَنى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَبْدِ الرَّحمنَ بْنِ أبى بَكْرٍ إلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرْتُ مِنْه. فَقَالَ: "هذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِك". قالوا: فهذا يدلُّ على أنها كانت متمتعة، وعلى أنها رفضت عُمْرتها وأحرمَتْ بالحَجِّ، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دعى عُمْرَتَكِ" ولقوله: "انقُضى رَأسَكِ وامْتَشِطِى"، ولو كانت باقية على إحرامها، لما جاز لها أن تمتشِطَ، ولأنه قال للعُمْرة التى أتت بها من التنعيم: "هذه
مكانُ عُمْرَتِكِ". ولو كانت عُمْرَتُها الأولى باقية، لم تكن هذه مكانَها، بل كانت عُمْرةً مستقلةً.
قال الجمهور: لو تأملتم قِصةَ عائشة حقَّ التأمُّلِ، وجمعتُم بين طرقها وأطرافها، لتبيَّن لكم أنها قرنت، ولم ترفُضِ العُمْرة، ففى "صحيح مسلم": عن جابر رضى الله عنه، قال: أهلَّت عائشة بعُمْرة، حتى إذا كانت بِسَرِفَ، عَرَكَتْ، ثم دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عائشة، فوجدها تبكى، فقال: "ما شأنُكِ" ؟ قالت: شأنى أنى قد حِضتُ وقد أَحلَّ الناس، ولم أَحِلَّ، ولم أطُفْ بِالبَيْتِ وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إلى الحَجِّ الآنَ، قال: "إنَّ هذَا أمر قد كَتَبَهُ اللهُ على بَناتِ آدَمَ، فاغْتَسِلى، ثُمَّ أَهلِّى بالحَجِّ" ففعلت، ووقفتِ المواقِف كُلَّها، حتى إذا طهُرت، طافت بالكعبةِ وبالصّفا والمروة. ثم قال: "قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وعُمْرَتكِ" قالت: يا رسولَ الله إنى أَجِدُ فى نفسى أنى لم أطف بالبيت حتى حججتُ. قال: "فاذَْهَبْ بِها يا عَبْدَ الرَّحْمَن فَأعْمِرْها مِنَ التَّنْعِيمِ ".
وفى "صحيح مسلم": من حديث طاووس عنها: أهللتُ بعُمرة، وقَدِمْتُ ولم أَطُفْ حتَّى حِضْتُ، فَنَسَكْتُ المَناسِكَ كُلَّها، فقالَ لها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّفر: " يَسَعُكِ طَوَافُكِ لَحِجِّكِ وعُمْرَتِكِ".
فهذه نصوص صريحة، أنها كانت فى حَجٍّ وعُمْرة، لا فى حَجٍّ مفرد، وصريحة فى أن القارِن يكفيه طوافٌ واحد، وسعىٌ واحِد، وصريحةٌ فى أنها لم ترفُضْ إحرامَ العُمْرة، بل بقيت فى إحرامها كما هى لم تَحِلَّ منه. وفى بعض ألفاظ الحديث: "كونى فى عُمْرَتِك، فَعَسى
اللهُ أنْ يَرزُقَكيها". ولا يناقض هذا قوله: "دَعى عُمْرَتَكِ". فلو كان المرادُ به رفضَها وتركَها، لما قال لها: "يسعُكِ طوافُكِ لِحَجِّك وعُمرتِكِ"، فعُلِم أن المراد: دعى أعمالها ليس المرادُ به رفضَ إحرامها.
وأما قوله: "انقُضِى رَأْسَكِ وامتَشِطِى"، فهذا مما أعضل على الناس، ولهم فيه أربعة مسالك:
أحدُها: أنه دليل على رفض العُمْرة، كما قالت الحنفية.
المسلك الثانى: أنه دليلٌ على أنه يجوز للمُحْرِم أن يمشُط رأسه، ولا دليلَ من كتاب ولا سُّنَّة ولا إجماع على منعه من ذلك، ولا تحريمهِ وهذا قولُ ابن حزم وغيره.
المسلك الثالث: تعليلُ هذه اللفظة، وردُّها بأن عروةَ انفرد بها، وخالف بها سائرَ الرواة، وقد روى حديثَها طاووس والقاسم والأسود وغيرهم، فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة. قالوا: وقد روى حماد بن زيد، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة، حديثَ حيضها فى الحج فقال فيه: حدَّثنى غيرُ واحد، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: "دَعِى عُمْرَتَكِ وَانْقُضِى رَأْسَكِ وَاْمتَشِطِى َ" وذكر تمام الحديث، قالوا:فهذا يدلُّ على أن عروة لم يسمع هذه الزيادة من عائشة.
المسلك الرابع: أن قوله: "دَعِى العُمْرَةَ"، أى دَعِيها بحالها لا تخرجى منها، وليس المرادُ تركَها، قالوا: ويدل عليه وجهان:
أحدُهما: قوله: "يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِك".
الثانى: قوله: "كونى فى عُمرَتِكِ". قالوا: وهذا أولى مِن حمله على رفضها لسلامته من التناقض. قالوا: وأما قولُه: "هذِه مَكَانُ عُمْرَتِكِ"
فعائشة أحبَّت أن تأتى بعُمْرة مفردة، فأخبرها النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن طوافَها وقع عن حَجَّتها وعُمْرتها، وأن عُمْرتها قد دخلت فى حَجِّها، فصارت قارنة، فأبت إلا عُمْرةً مفردةً كما قصدت أولاً، فلما حصل لها ذلك، قال: "هذِه مَكَانُ عُمْرَتِكِ".
وفى سنن الأثرم، عن الأسود، قال: قلتُ لِعائشة: اعتمرتِ بَعْدَ الحَجّ؟ قالت: واللهِ ما كانت عُمْرةٍ، ما كانت إلا زيارةً زُرتُ البَيْتَ.
قال الإمام أحمد: إنما أعمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عائشةَ حين ألحَّت عليه، فقالت: يَرْجِعُ الناسُ بنُسُكين، وأرجِعُ بِنُسُكٍ ؟، فقال: "يا عبد الرحمن، أعْمِرْها" فنظر إلى أدنى الحِلِّ، فأعمرها مِنْه.
فصل
واختلف الناسُ فيما أحرمت به عائشة أولاً على قولين:
أحدهما: أنه عُمرة مفردة، وهذا هو الصواب لِما ذكرنا من الأحاديث. وفى "الصحيح" عنها، قالت: خرجنا معَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّةِ الودَاع مُوافين لهلال ذى الحِجَّةِ، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أرادَ مِنْكُم أن يُهِلَّ بِعُمْرَة، فَلْيُهِلَّ فَلَوْلاَ أنِّى أَهْدَيْتُ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ ". قالت: وَكان مِنَ القَوْمِ مَنْ أهلَّ بِعُمْرَةٍ، ومِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بالحَجِّ، قَالت: فكُنْتُ أنَا مِمَّنْ أَهَلَّ بعُمْرَةٍ..."، وَذكَرَتِ الحَدِيثَ. وقوله فى الحديث: "دَعِى العُمْرَةَ وأهِلِّى بالحَجِّ" قاله لها بِسَرِفَ قريباً من مكة وهو صريح فى أن إحرامها كان بعُمْرة.
القول الثانى: أنها أحرمت أولاً بالحَجِّ وكانت مُفرِدة، قال ابنُ عبد البَرِّ: روى القاسِمُ بنُ محمد، والأسودُ بن يزيد، وعَمْرَةُ كلُّهم عن عائشة ما يَدُلّ على أنها كانت مُحْرِمة بحَجٍّ لا بعُمْرة، منها: حديثُ عَمرة عنها: خرجنا مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا نرى إلا أنَّه الحَجُّ، وحديثُ الأسود بن يزيد مثله، وحديث القاسم: "لبَّينَا مَعَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحَجِّ. قال: وغلَّطوا عُروة فى قوله عنها: "كُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ"، قال إسماعيل بن إسحاق: قد اجتمعَ هؤلاء يعنى الأسودَ، والقاسم، وعَمرة على الروايات التى ذكرنا، فعلمنا بذلك أن الروايات التى رُويت عن عُروة غلط، قال: ويُشبه أن يكون الغلطُ، إنما وقع فيه أن يكون لم يُمكنها الطوافُ بالبيت، وأن تَحِلَّ بعُمرةٍ كما فعل مَن لم يَسُقِ الهَدْىَ، فأمرها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تتركُ الطَّوافَ، وتمضى على الحَجِّ، فتوهَّمُوا بهذا المعنى أنها كانت معتمِرة، وأنها تركت عُمْرتَها، وابتدأت بالحَجِّ. قال أبو عمر: وقد روى جابرُ بن عبد الله، أنها كانت مُهٍلَّةً بعُمْرةٍ، كما روى عنها عُروة. قالوا: والغلطُ الذى دخل على عُروة، إنما كان فى قوله: "انقُضِى رَأْسَكِ، وامْتَشِِطى، وَدَعِى العُمْرَة، وأهِلِّى بالحَجِّ".
وروى حماد بن زيد، عن هِشام بن عُروة، عن أبيه: حدَّثنى غيرُ واحد، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: "دَعِى عُمْرَتَكِ، وانْقُضِى رَأْسَكِ، وامْتَشِطِى، وافْعَلى مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ". فبيَّن حماد، أن عُروة لم يسمع هذا الكلام من عائشة.
قلت: مِن العجب ردّ هذه النصوصِ الصحيحةِ الصريحةِ التى لا مدفع لها، ولا مطعنَ فيها، ولا تحتمِل تأويلاً ألبتة بلفظ مجمل ليس ظاهراً فى أنها كانت مفرِدة، فإن غايَة ما احتجَّ به مَن زعم أنها كانت مُفرِدة،
قولُها: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نرى إلا أنَّه الحَجّ، فيا للّه العجب، أيُظَن بالمتمتِّع أنه خرج لغير الحَجّ، بل خرج للحجّ متمتعاً، كما أن المغتسل للجنابة إذا بدأ فتوضأ لا يمتنِعُ أن يقول: خرجتُ لِغسلِ الجنابة ؟ وصدقت أمُّ المؤمنين رضى الله عنها، إذ كانت لا ترى إلا أنَّه الحَجُّ حتَّى أحرمت بعُمرة، بأمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلامُها يُصَدِّقُ بعضُه بعضاً.
وأما قولُها: لبَّينَا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحجِّ، فقد قال جابر عنها فى "الصحيحين": إنها أهلَّت بعُمرة، وكذلك قال طاووس عنها فى "صحيح مسلم"، وكذلك قال مجاهد عنها، فلو تعارضت الرواياتُ عنها، فروايةُ الصحابة عنها أولى أن يُؤخذَ بها مِن رواية التابعين، كيف ولا تعارُض فى ذلك البتة، فإن القائلَ: فعلنا كذا، يصدق ذلك منه بفعله، وبفعل أصحابه.
ومن العجب أنهم يقولون فى قول ابن عمر: تمتَّعَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعُمْرة إلى الحَجِّ، معناه: تمتع أصحابُه، فأضاف الفعلَ إليه لأمره به، فهلاَّ قُلتم فى قول عائشة: لبَّينا بالحَجِّ، أن المرادَ به جنسُ الصحابة الَّذين لَبَّوْا بالحجِّ، وقولها: فعلنا، كما قالت: خرجنا مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسافرنا معه ونحوه. ويتعينُ قطعاً إن لم تكن هذه الرواية غلطاً أن تُحمل على ذلك للأحاديثِ الصحيحةِ الصريحة، أنها كانت أحرمت بعُمرة وكيف يُنسب عُروة فى ذلك إلى الغلط، وهم أعلمُ الناس بحديثها، وكان يسمعُ منها مشافهةً بلا واسِطة.
وأما قوله فى رواية حماد: حدثنى غيرُ واحد أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: "دَعِى عُمْرَتَكِ" فهذا إنما يحتاجُ إلى تعليله، وردِّه إذا خالف الرواياتِ الثابتة عنها، فأما إذا وافقها وصدَّقها، وشهد لها أنها أحرمت
بعُمرة، فهذا يدل على أنه محفوظ، وأنَّ الذى حدَّث به ضبطه وحفظه، هذا مع أن حمادَ بن زيد انفرد بهذه الرواية المعلَّلة، وهى قوله: فحدَّثنى غيرُ واحد، وخالفه جماعة، فرووه متصلاً عن عُروة، عن عائشة. فلو قُدِّرَ التعارضُ، فالأكثرون أولى بالصواب، فيا للّه العجب، كيف يكون تغليطُ أعلم الناسِ بحديثها وهو عُروة فى قوله عنها: "وكنت فيمن أهلَّ بعُمْرة" سائغاً بلفظ مجمل محتمل، ويُقضى به على النص الصحيح الصريح الذى شهد له سياقُ القِصة من وجوه متعددة قد تقدم ذكر بعضها ؟، فهؤلاء، أربعة رووا عنها، أنها أهلَّت بعمرة: جابر، وعُروة، وطاووس، ومجاهد، فلو كانت روايةُ القاسم، وعَمرة، والأسود، معارضة لرواية هؤلاء، لكانت روايتُهم أولى بالتقديم لكثرتهم، ولأن فيهم جابراً، ولفضل عُروة، وعلمه بحديث خالته رضى الله عنها.
ومن العجب قوله: إن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أمرها أن تترك الطوافَ، وتمضىَ على الحَجِّ، توهَّموا لهذَا أنَّها كانت معتمِرة، فالنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أمرها أن تدعَ العُمْرة وتُنشئ إهلالاً بالحَجِّ، فقال لها: "وأهلِّى بالحَجِّ" ولم يقل: استمرى عليه، ولا امضى فيه، وكيف يُغلَّط راوى الأمر بالامتشاط بمجرَّد مخالفته لمذهب الرادِّ ؟ فأين فى كتاب اللهِ وسُّنَّة رسوله، وإجماع الأُمة ما يُحرِّم على المُحْرِم تسريحَ شعره، ولا يَسوغ تغليطُ الثقات لنصرة الآراء، والتقليد. والمُحْرِم وإن أمن من تقطيع الشعر، لم يُمنع مِن تسريح رأسه، وإن لم يأمن من سقوط شئ من الشعر بالتسريح، فهذا المنعُ منه محلُّ نزاع واجتهاد، والدليل يَفْصِلُ بين المتنازعين، فإن لم يدل كتاب ولا سُّنَّة ولا إجماع على منعه، فهو جائز.
فصل
وللناس فى هذه العُمرة التى أتت بها عائشةُ من التنعيم أربعةُ مسالك.
أحدها: أنها كانت زيادة تطييباً لقلبها وجبراً لها، وإلا فطوافها وسعيها وقع عن حَجِّها وعُمْرتها، وكانت متمتعة، ثم أدخلت الحَجَّ على العُمْرة، فصارت قارِنة، وهذا أصحُّ الأقوالِ، والأحاديثُ لا تدل على غيره، وهذا مسلك الشافعى وأحمد وغيرهما.
المسلك الثانى: أنها لما حاضت، أمرها أن ترفُضَ عُمْرتَهَا، وتنتقِلَ عنها إلى حَجٍّ مفرد، فلما حلَّت من الحَج، أمرها أن تعتمِر قضاءً لعُمْرتها التى أحرمت بها أولاً، وهذا مسلكُ أبى حنيفة ومَن تبعه، وعلى هذا القول، فهذه العُمْرةُ كانت فى حقِّها واجبة، ولا بُد منها، وعلى القول الأول كانت جائزة، وكل متمتعة حاضت ولم يمكنها الطوافُ قبل التعريف، فهى على هذين القولين، إما أن تُدْخِلَ الحَجَّ على العُمْرة، وتصيرَ قارنة، وإما أن تنتقلَ عن العُمْرة إلى الحَجِّ، وتصيرَ مفرِدة، وتقضى العُمْرة.
المسلك الثالث: أنها لما قرنت، لم يكن بُدٌّ من أن تأتىَ بعُمْرة مفردة، لأن عُمرة القارن لا تُجزئ عن عُمْرة الإسلام، وهذا أحد الروايتين عن أحمد.
المسلك الرابع: أنها كانت مُفرِدة، وإنما امتنعت من طوافِ القُدوم لأجل الحيض، واستمرت على الإفراد حتى طهُرت، وقضت الحَجَّ وهذه العُمْرةُ هى عُمْرة الإسلام، وهذا مسلك القاضى إسماعيل بن إسحاق وغيره من المالكية، ولا يخفى ما فى هذا المسلك مِن الضعف، بل هو أضعفُ المسالك فى الحديث.
وحديث عائشة هذا، يؤخذ منه أصول عظيمة من أصول المناسك:
أحدها: اكتفاء القارِن بطواف واحد وسعى واحد.
الثانى: سقوطُ طوافِ القدوم عن الحائض، كما أن حديثَ صفيَّة زوج النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصل فى سُقوط طواف الوداع عنها.
الثالث: أن إدخالَ الحجِّ على العُمْرة للحائض جائز، كما يجوز للطاهر، وأولى، لأنها معذورة محتاجة إلى ذلك.
الرابع: أن الحائضَ تفعل أفعال الحجِّ كلَّها، إلا أنها لا تطوفُ بالبيت.
الخامس: أن التنعيم مِن الحِلِّ.
السادس: جوازُ عُمْرتين فى سنة واحدة، بل فى شهر واحد.
السابع: أن المشروعَ فى حق المتمتِّع إذا لم يأمنِ الفوات أن يُدْخِلَ الحجَّ على العُمْرة، وحديث عائشة أصل فيه.
الثامن: أنه أصل فى العُمْرة المكية، وليس مع مَن يستحبُّها غيره، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعتمر هو ولا أحد ممن حَجَّ معه من مكة خارجاً منها إلا عائشةَ وحدها، فجعل أصحابُ العُمْرة المكية قصة عائشة أصلاً لقولهم، ولا دلالة لهم فيها، فإن عُمْرتها إما أن تكون قضاءًَ للعُمْرة المرفوضة عند مَن يقول: إنها رفضتها، فهى واجبة قضاءً لها، أو تكون زيادة محضة، وتطييباً لقلبها عند مَن يقول: إنها كانت قارِنة، وأن طوافها وسعيها أجزأها عن حَجِّها وعُمْرتها. والله أعلم.
فصل
وأما كونُ عُمرتها تلك مجزئةً عن عُمرة الإسلام، ففيه قولان للفقهاء، وهما روايتان عن أحمد، والذين قالوا: لا تُجزئ، قالوا: العُمْرةُ المشروعة
التى شرعها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعلها نوعان لا ثالثَ لهما: عُمرة التمتع وهى التى أذن فيها عند الميقات، وندب إليها فى أثناء الطريق، وأوجبها على مَن لم يَسُقِ الهَدْىَ عند الصفا والمروة، الثانية: العُمْرة المفردة التى يُنشأ لها سفر، كعُمَره المتقدِّمة، ولم يُشرع عُمْرة مفردة غير هاتين، وفى كلتيهما المعتمِر داخل إلى مكة، وأما عُمْرة الخارج إلى أدنى الحِلِّ، فلم تُشرع، وأما عُمرة عائشة، فكانت زيارة محضة، وإلا فعُمرة قِرانها قد أجزأت عنها بنصِّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا دليل على أن عُمْرة القارِن تُجزئ عن عُمْرة الإسلام، وهذا هو الصواب المقطوع به، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعائشة: "يَسَعُكِ طَوافُكِ لحجِّكِ وعُمرتِكِ" وفى لفظ: "يجزئك" وفى لفظ: "يَكْفِيك". وقال: "دخلتِ العُمرةُ فى الحجِّ إلى يوم القِيامَة" وأمر كلَّ مَن ساق الهَدْى أن يقرِنَ بين الحَجِّ والعُمْرة، ولم يأمر أحداً ممن قرن معه وساق الهَدْى بعُمْرة أخرى غير عُمْرة القِران، فصحَّ إجزاء عُمرة القارن عن عُمرة الإسلام قطعاً، وبالله التوفيق.
فصل
وأما موضُع حيضِها، فهو بِسَرِفَ بلا ريب، وموضعُ طُهرها قد اختُلِف فيه، فقيل:بعرفة، هكذا روى مجاهد عنها،وروى عُروة عنها أنها أظلّها يومُ عرفة وهى حائض ولا تنافى بينهما،والحديثان صحيحان، وقد حملهما ابنُ حزم على معنيين، فطُهْر عرفة: هو الاغتسال للوقوف بها عنده، قال: لأنها قالت: تطهَّرتُ بعرفة، والتطهر غيرُ الطُهرِ، قال:
وقد ذكر القاسم يوم طُهرها، أنه يوم النحر، وحديثُه فى "صحيح مسلم". قال: وقد اتفق القاسمُ وعروةُ على أنها كانت يومَ عرفة حائضاً، وهما أقربُ الناس منها، وقد روى أبو داود: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عنها: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوافين هلال ذى الحِجَّة...فذكرت الحديث، وفيه: فلما كانت ليلةُ البطحاء، طَهُرَتْ عائِشةُ،وهذا إسناد صحيح. لكن قال ابنُ حزم: إنه حديث منكر، مخالف لما روى هؤلاء كلهم عنها، وهو قوله: إنها طَهُرت ليلةَ البطحاء، وليلةُ البطحاء كانت بعد يومِ النحر بأربع ليال،وهذا محالٌ إلا أننا لما تدبرنا وجدنا هذه اللفظة ليست مِن كلام عائشة، فسقط التعلُّق بها، لأنها ممن دون عائشة، وهى أعلمُ بنفسها، قال: وقد روى حديث حماد بن سلمة هذا وهيبُ بن خالد، وحماد بن زيد، فلم يذكرا هذه اللفظة.
قلت: يتعين تقديمُ حديث حمَّاد بن زيد ومَن معه على حديث حمَّاد بن سلمة لوجوه:
أحدها: أنه أحفظُ وأثبت من حمَّاد بن سلمة.
الثانى: أن حديثَهم فيه إخبارُها عن نفسها، وحديثه فيه الإخبار عنها.
الثالث: أن الزهرى روى عن عُروة عنها الحديثَ، وفيه: فلم أزل حائضاً حتى يومُ عرفة، وهذه الغاية هى التى بيَّنها مجاهد والقاسم عنها، لكن قال مجاهد عنها: فتطهرت بعرفة، والقاسم قال: يوم النحر.
فصل
عدنا إلى سياق حَجَّته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فلما كان بِسَرِف، قال لأصحابه:
"مَنْ لَمْ يكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ، فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً، فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدىٌ فَلاَ ". وهذه رتبة أخرى فوق رتبة التخيير عند الميقات.
فلما كان بمكة، أمر أمراً حتماً: مَنْ لا هَدْى معه أن يجعلها عُمْرة، ويَحِلَّ من إحرامه، ومَن معه هَدْى، أن يُقيم على إحرامه، ولم ينسخ ذلك شئ البتة، بل سأله سُراقة بنُ مالك عن هذه العُمرة التى أمرهم بالفسخ إليها، هل هى لِعَامِهِمْ ذَلِكَ، أَمْ لِلأبَدِ: قال: "بَلْ لِلأبَد، وإن العُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ فى الحجِّ إلَى يَوْمِ القِيامَة".
وقد روى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمرَ بفسخِ الحَجِّ إلى العُمْرة أربعةَ عشرَ مِن أصحابه، وأحاديثُهم كلُّها صحاح، وهم: عائشةُ، وحفصة أُمَّا المؤمنين، وعلىُّ بن أبى طالب، وفاطمةُ بنتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسماءُ بنت أبى بكر الصِّدِّيق، وجابرُ بن عبد الله، وأبو سعيد الخُدرى، والبراءُ بن عازب، وعبدُ الله بن عمر، وأنسُ بن مالك، وأبو موسى الأشعرى، وعبدُ الله ابن عباس، وسَبْرَةُ بنُ معبَدٍ الجُهنى، وسُرَاقةُ بن مَالِكٍ المُدْلِجِىُّ رضى الله عنهمْ.. ونحن نشير إلى هذه الأحاديث.
ففى "الصحيحين": عن ابن عباس، قَدِمَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه صَبِيحَةَ رابعةٍ مُهلِّين بالحَجِّ، فأمرهم أن يجعلُوها عُمْرة، فتعاظَم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله ؛ أىُّ الحلِّ ؟ فقال: "الحِلُّ كُلُّه".
وفى لفظ لمسلم: قدِم النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه لأربع خَلَوْنَ من العشر إلى مكة، وهم يُلبُّون بالحج، فأمرهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعلوها عُمرةً، وفى لفظ: وأمر أصحابه أن يجعلوا إحرامهم بعُمْرة إلا مَن كان معه الهَدْى.
وفى "الصحيحين" عن جابر بنِ عبد الله: أهلَّ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه بالحجِّ، وليس مع أحد منهم هَدْى غير النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطلحة، وقَدِمَ على رضى الله عنه من اليمن ومعه هَدْى، فقال: أهللتُ بما أهلَّ به النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعلوها عُمْرة، ويطوفوا، ويقصروا، ويَحِلُّوا إلا مَن كان معه الهَدْىُ، قالوا: ننطلِقُ إلى مِنَى وَذَكَرُ أحدنا يقطُرُ ؟ فبلغ ذلك النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، ولَوْلا أنَّ معىَ الهَدْىَ لأَحْلَلْتُ". وفى لفظ: فقام فينا فقال: "لَقَدْ عَلِمْتُم أنِّى أَتْقاكُم للّه، وأَصْدَقُكُم، وأَبَرُّكُمْ، وَلَوْلاَ أنَّ معىَ الهَدْى لحَلَلْت كَما تَحِلُّون، ولَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرى مَا اسْتَدْبَرْتُ، لم أَسُق الهَدْىَ، فحُلُّوا" فَحَلَلْنا، وسَمعنا وأطعَنا، وفى لفظ: أمرنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أحللْنا، أن نُحْرِمَ إذا تَوجَّهْنَا إلى مِنَى. قال: فأَهْلَلْنا من الأَبْطَح، فَقَالَ سُرَاقَةُ بنُ مَالِك بْنِ جُعْشُم: يَا رَسُولَ اللهِ ؛ لِعَامِنَا هَذَا أَمْ للأَبَدِ ؟ قال: "لِلأبَدِ". وهذه الألفاظُ كلُّها فى الصحيح وهذا اللفظُ الأخير صريح فى إبطال قولِ مَنْ قال: إن ذلك كان خاصاً بهم، فإنه حينئذ يكون لِعامهم
ذلك وحده لا للأبد، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنَّهُ لِلأبَدِ.
وفى "المسند": عن ابن عمر، قَدِمَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة وأصحابُه مُهلِّينَ بالحجِّ، فقال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ شَاءَ أنْ يَجْعَلَها عُمْرَةً إلاَّ مَنْ كَانَ مَعَه الهَدْىُ". قالُوا: يا رسولَ الله ؛ أيروحُ أحدُنا إلى مِنَى وَذَكَرُه يَقطُرُ مَنيَّاً ؟ قال: "نَعَمْ" وسَطَعتِ المَجامِرُ.
وفى السنن: عن الرَّبيع بن سَبْرَة، عَنْ أَبِيه:خرجْنَا مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى إذا كُنَّا بعُسفان، قال سُراقة بن مَالك المُدْلجىُّ: يا رسول الله ؛ اقْضِ لنَا قَضَاءَ قَوْمٍ كَأنَّما وُلِدُوا اليَوْمَ، فَقَال: "إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَدْخَلَ عَلَيْكُم فى حَجَّة عُمْرَةً، فإذا قَدِمْتم، فَمن تَطَوَّفَ بالبَيْتِ وسَعَى بيْن الصَّفَا والمَرْوَة، فَقدْ حَلَّ إلاَّ مَنْ مَعَهُ هَدْى ".
وفى "الصحيحين" عن عائشة: خرجْنَا معَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا نَذْكُرُ إلا الحَجَّ... فذكرتِ الحديثَ، وفيه: فلما قَدِمْنَا مكة، قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: "اجْعَلوهَا عُمْرَةً" فأحلَّ الناسُ إلا مَنْ كان معه الهَدْى... وذكَرَتْ باقى الحديث.
وفى لفظ للبخارى: خرجْنَا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نَرى إلا الحَجَّ، فلما قَدِمْنَا تطوَّفْنَا بالبيت، فأمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَن لم يكن ساق الهَدْى أن يَحِلَّ، فحلَّ مَن لم يكن ساقَ الهَدْى ونساؤه لم يَسُقْن، فأحللن.
وفى لفظ لمسلم: "دخل علىَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو غضبانُ، فقلتُ: مَنْ أغضَبكَ يا رسولَ اللهِ أدخله الله النار. قال: أوَ ما شَعَرْتِ أنِّى أمَرْتُ
النَّاسَ بأَمْرٍ، فإذا هُم يَتَرَدَّدُون، ولو اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرى ما اسْتَدْبَرْتُ. ما سُقْتُ الهَدْىَ معى حَتَّى أَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ أحِلَّ كما حَلُّوا". وقال مالك: عن يحيى بن سعيد، عن عَمْرة، قالت: سمعتُ عائشة تقولُ: خرجْنَا معَ رسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخمس ليالٍ بَقِينَ مِن ذى القِعْدة، ولا نَرى إلا أنه الحَجُّ، فلما دَنَونا مِن مكة، أمرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَن لم يكن معه هَدْى إذا طافَ بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يَحِلَّ، قال يحيى بن سعيد: فذكرتُ هذا الحديثَ للقاسم بن محمد، فقال: أتتك واللهِ بالحديثِ على وجهه.
وفى "صحيح مسلم": عن ابن عمر، قال: حدَّثتنى حفصةُ، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أزواجه أن يَحْلِلْنَ عَامَ حَجَّةِ الوَداعِ، فَقُلْتُ: ما مَنَعَكَ أَنْ تَحِلَّ ؟ فقال: "إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى، وقَلَّدْتُ هَدْيى، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ الهَدْىَ".
وفى "صحيح مسلم": عن أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما، خرجنا مُحرِمِينَ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ، فَلْيَقُمْ عَلَى إحْرامِه، ومَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ، فَلْيَحْلِلْ "... وذكرتِ الحديث.
وفى "صحيح مسلم" أيضاً: عن أبى سعيد الخُدرى، قال: خرجْنَا مَعَ رَسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَصْرُخُ بالحجِّ صُراخاً، فلما قَدِمْنَا مكَّة أمَرنا أن
نَجْعَلَها عُمْرةً إلا مَنْ سَاقَ الهَدْىَ، فلما كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَرُحْنَا إلى مِنَى، أهللنَا بالحَجِّ.
وفى "صحيح البخارى": عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: أهَلَّ المُهاجرُونَ والأَنْصارُ، وأزواجُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّةِ الوَدَاع، وأهللنَا فلما قَدِمْنَا مَكَّة، قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجْعَلُوا إهْلاَلَكُم بالحَجِّ عُمْرَةً إلاَّ مَنْ قَلَّدَ الهَدْى"... وذكر الحديث.
وفى "السنن" عن البرَّاء بن عازب: خرجَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه، فأحرمْنَا بالحجِّ، فلما قَدِمنَا مكة، قال: "اجْعَلوا حَجَّكُم عُمْرَة". فقال الناسُ: يا رسول اللهِ ؛ قد أحرمنا بالحَجِّ، فكيف نجعلُها عُمْرَةً ؟ فقال: "انْظُرُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ فَافْعَلوهُ" فردَّدُوا عليه القولَ، فَغَضِبَ، ثم انطلق حتَّى دخل على عائشة وهو غَضْبانُ، فرأتِ الغضَب فى وجهه فقَالت: مَنْ أَغْضَبَكَ أغضبه اللهُ، فَقَالَ: "وَمَا لِىَ لا أَغْضَبُ وأَنَا آمُرُ أَمْراً فَلا يُتَّبَعُ".
ونحن، نُشهِدُ الله علينا أنَّا لو أحرمنا بحَجٍّ، لرأينا فرضاً علينا فسخهُ إلى عُمْرة تفادياً مِن غضبِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واتباعاً لأمره. فواللهِ ما نُسِخَ هذا فى حَياتِهِ ولا بَعْدَهُ، ولا صحَّ حَرْفٌ واحِد يُعارضه، ولا خصَّ به أصحابَه دُونَ مَنْ بعدهم، بل أجرى الله سبحانه على لِسان سُراقة أن يسأله: هل ذلك مختصٌ بهم ؟ فأجاب بأنَّ ذلك كائن لأبد الأبد،
فما ندرى ما نُقدِّم على هذه الأحاديث، وهذا الأمر المؤكَّد الذى غضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مَن خالفه.
وللّه دَرُّ الإمام أحمد رحمه الله إذ يقول لسلمة بن شبيب وقد قال له: يا أبا عبد الله ؛ كُلُّ أمرِك عِندى حَسن إلا خَلَّةً واحِدةً: قال: وما هى ؟ قال: تقولُ بفسخ الحَجِّ إلى العُمْرة. فقال: يا سلمة ؛ كنتُ أرى لكَ عقلاً، عندى فى ذلك أحد عشر حديثاً صحاحاً عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أأتركُها لِقَوْلكَ ؟،
وفى "السنن" عن البرَّاء بن عازب، أن علياً رضى الله عنه لما قَدِمَ على رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليمن، أدرك فاطمةَ وقد لبست ثياباً صَبِيغاً، ونَضَحَتِ البَيْتَ بِنَضُوحٍ، فَقَالَ: مَا بَالُكِ ؟ فَقالَت: إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَر أصْحَابَه فَحَلُّوا.
وقال ابنُ أبى شيبة: حدَّثنا ابنُ فضيل، عن يزيد، عن مجاهد، قال: قال عبدُ اللهِ بنُ الزبير: أفرِدُوا الحَجَّ، ودَعُوا قولَ أعماكُم هَذَا. فقال عبدُ اللهِ ابنُ عباس: إن الَّذى أعمى الله قلبَه لأنتَ، ألا تسألُ أُمَّك عَنْ هذا ؟ فأرسلَ إليها، فقالَتْ: صَدَقَ ابْنُ عَبَّاس، جِئنا مَعَ رسول اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حُجَّاجاً، فجعلناها عُمْرَةً، فحللنا الإحلالَ كُلَّه، حتَّى سَطَعَتِ المَجَامِرُ بَيْنَ الرِّجَالِ والنِّساء.
وفى "صحيح البخارى" عن ابن شِهاب، قال: دخلتُ على عطاء
أستفتِيه، فقال: حدّثنى جابرُ بنُ عبد الله: أنه حجَّ مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم ساق البُدن معه، وقد أهلُّوا بالحجِّ مفرداً، فقال لهم: "أَحِلُّوا مِنْ إحْرامِكُم بِطَوَافٍ بالبَيْتِ، وبَيْنَ الصَّفَا والْمروَة، وقَصِّرُوا، ثُمَّ أقِيمُوا حَلالاً، حَتَّى إذَا كَانَ يَومُ التَّرْوِيَةِ، فأهِلُّوا بالحَجِّ واجْعَلُوا التى قَدِمْتُم بها مُتْعَةٌ". فقالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُها مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الحَجَّ ؟ فقال: "افْعَلُوا مَا آمُرُكُم به، فَلَوْلا أنى سُقْتُ الهَدْى، لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذى أَمَرْتُكُم بِهِ، وَلَكِنْ لا يحِلُّ مِنِّى حَرَامٌ، حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْىُ مَحِلَّه"، ففعلُوا.
وفى "صحيحه" أيضاً عنه: أهلَّ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه بالحَجِّ... وذكر الحديث. وفيه: فأمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه أن يجعلوها عُمرةً، ويطوفوا، ثم يقصِّروا إلا مَن ساق الهَدْى: فقالوا: أننطلق إلى مِنَى وذَكَرُ أحَدنا يقطُر ؟ فبلَغ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرى مَا اسْتَدْبَرْتُ ما أَهْدَيْتُ ولوْلا أنَّ معى الهَدْى، لأَحْلَلْتُ".
وفى "صحيح مسلم" عنه فى حَجة الوداع: حتى إذا قَدِمنا مكَّة، طُفنا بالكعبة وبالصَّفا والمروة، فأمرنَا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن يَحِلَّ مِنَّا مَنْ لم يكُن معه هَدْى، قال: فقُلنا: حِلُّ ماذا ؟ قال: "الحِلُّ كُلُّه"، فواقعنا النِّسَاءَ، وتَطيَّبنَا بالطِّيب، ولَبِسْنَا ثيابَنا، ولَيْس بيننا وبَيْنَ عَرفة إلا أربعُ ليال، ثم أهللنا يَوْمَ التروية.
وفى لفظ آخَر لمسلم: "فمَنْ كَانَ منْكُم لَيْسَ مَعَهُ هَدْىٌ، فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْها عُمْرَةً، فحلَّ الناسُ كُلُّهُم وقصَّروا إلا النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَنْ كَان مَعَهُ هَدْى، فلما كان يَوْمُ التروية،توجَّهُوا إلى مِنَى، فَأَهَلُّوا بِالحَجِّ
وفى "مسند البزار" بإسناد صحيح: عن أنس رضىَ الله عنه، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أهلَّ هُوَ وأصحابُه بالحَجِّ والعُمْرة، فلما قدموا مكة، طافوا بالبيت والصفا والمروة، وأمرهم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يَحِلُّوا، فهابوا ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أَحِلُّوا فَلَوْلاَ أَنَّ مَعى الهَدْىَ، لأَحْلَلْتُ"، فأحلُّوا حَتَّى حَلُّوا إلى النِّسَاءِ.
وفى "صحيح البخارى": عن أنس، قال: "صلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحنُ معه بالمدينة الظهرَ أربعاً، والعصر بذى الحُليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به راحلتُه على البيداءِ، حَمِدَ الله، وسبَّح، ثم أهلَّ بحَجٍّ وعُمرة، وأهلَّ الناسُ بهما، فلما قَدِمْنَا أمر الناس فحلُّوا، حتى إذا كان يومُ التَّروية، أهلُّوا بالحَجِّ".... وذكر باقى الحديث.
وفى "صحيحه" أيضاً: عن أبى موسى الأشعرى، قال: بعثنى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قومى باليمن، فجئت وهو بالبطحاء، فَقَالَ: "بِمَ أَهْلَلْتَ" ؟ فَقُلْتُ: أَهْلَلْتُ بإِهَلالِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: "هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْى" ؟ قلتُ: لا، فأَمَرَنى، فطُفْتُ بالبَيْتِ وَبِالصَّفَا والمَرْوَةِ، ثمَّ أَمرَنى فَأَحْلَلْتُ.
وفى "صحيح مسلم": أن رجلاً من بنى الهُجَيْمِ قال لابن عبَّاس: ما هَذِه الفُتيا التى قَدْ تشغَّبَت بالنَّاس، أنَّ مَنْ طَافَ بالبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ ؟ فَقَالَ: سُّنَّة نَبِيِّكُم صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وسَلَّم وإنْ رَغِمْتُم.
وصدق ابنُ عباس، كُلُّ مَن طاف بالبيت ممن لا هَدْى معه مِن مفرِد، أو قارِن، أو متمتِّع، فقد حلَّ إما وجوباً، وإما حكماً، هذه هى السُّنَّة التى لا رادَّ لها ولا مدفع، وهذا كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذَا أدْبَرَ النَّهارُ مِنْ هاهنا، وأقْبَلَ الليل مِنْ هاهنا، فقد أفْطَرَ الصَّائِم"، إما أن يكون المعنى: أفطر حكماً، أو دخل وقت إفطاره، وصار الوقتُ فى حقه وقتَ إفطار. فهكذا هذا الذى قد طاف بالبيت، إما أن يكون قد حلَّ حُكماً، وإما أن يكون ذلك الوقت فى حقه ليس وقتَ إحرام، بل هو وقتُ حِلٍّ ليس إلا، ما لم يكن معه هَدْى، وهذا صريحُ السُّنَّة.
وفى "صحيح مسلم" أيضاً عن عطاء قال: كان ابنُ عباس يقولُ: لا يطوف بالبيتِ حَاج ولا غيرُ حاجٍّ إلا حَلَّ. وكانَ يقولُ: هُوَ بَعْدَ المُعَرَّفِ وَقَبْلَهُ، وكان يأخذُ ذلك مِن أمر النبىَّ صلى الله عليه وآله وسلم، حين أمرهم أن يَحِلَّوا فى حَجَّةِ الوَدَاع.
وفى "صحيح مسلم": عن ابن عباس، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "هذه عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بها، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الهَدْىُ، فَلْيَحِلَّ الحِلَّ كُلَّهُ فَقَدْ دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَةَ".
وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن قتادة، عن أبى الشَّعثاء، عنِ ابن عباس قال: مَنْ جَاءَ مُهِلاً بالحَجِّ، فإنَّ الطَّوافَ باليَيْتِ يُصَيِّرُه إلى عُمْرَةٍ شَاءَ أوْ أَبَى، قُلْتُ: إن النَّاسَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ عَلَيْكَ، قَالَ: هِيَ سُّنَّة نَبِّيهِمْ وإنْ رَغِمُوا.
وقد روى هذا عنِ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سمَّيْنا وغيرهم،
وروى ذلك عنهم طوائفُ مِن كبار التابعين، حتى صار منقولاً نقلاً يرفع الشكَّ، ويُوجب اليقينَ، ولا يُمكن أحداً أن ينكره، أو يقول: لم يقع، وهو مذهبُ أهل بيت رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومذهبُ حَبْر الأُمة وبحرها ابنِ عباس وأصحابهِ، ومذهبُ أبى موسى الأشعرى، ومذهبُ إمام أهل السُّنَّة والحديث أحمد بن حنبل وأتباعه، وأهل الحديث معه، ومذهب عبد الله بن الحسن العنبرى قاضى البصرة، ومذهب أهل الظاهر.
والذين خالفوا هذه الأحاديث، لهم أعذار.
العذر الأول: أنها منسوخة.
العذر الثانى: أنها مخصوصة بالصحابة، لا يجوزُ لِغيرهم مشاركُتهم فى حكمها.
العذر الثالث: معارضُتها بما يَدُلُّ على خلاف حُكمها، وهذا مجموعُ ما اعتذروا به عنها.
ونحن نذكر هذه الأعذار عُذْراً عُذْراً، ونبيِّنُ ما فيها بمعونة الله وتوفيقه.
أما العذر الأول، وهو النسخ، فيحتاج إلى أربعة أُمور، لم يأتوا منها بشئ يحتاج إلى نصوص أُخر، تكون تِلك النصوصُ معارضة لهذه، ثم تكونُ مع هذه المعارضة مقاومة لها، ثم يُثبت تأخرُّها عنها. قال المدَّعون للنسخ: قال عمر بن الخطاب السِّجستانى: حدثنا الفريابى، حدثنا أبان بن أبى حازم، قال: حدثنى أبو بكر بن حفص، عن ابن عُمر، عن عُمَرَ بنِ الخطاب رضى الله عنه أنه قال لما ولى: "يا أيُّها الناس؛ إن
رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، أحلَّ لنا المتُعة ثم حرَّمها علينا" رواه البزار فى "مسنده" عنه
قال المبيحون للفسخ: عجباً لكم فى مُقاومة الجبال الرَّواسى التى لا تُزعزِعُها الرِّياحُ بِكَثِيبٍ مَهيلِ، تسفيه الرَّياحُ يميناً وشمالاً، فهذا الحديثُ، لا سند ولا متن، أما سندُه، فإنه لا تقومُ به حُجة علينا عند أهلِ الحديث، وأما متنُه، فإن المراد بالمتعة فيه مُتعة النساء التى أحلَّها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم حرَّمها، لا يجوز فيها غيرُ ذلك البتة، لوجوه.
أحدها: إجماعُ الأُمة على أنَّ مُتعة الحَجِّ غيرُ محرَّمة، بل إما واجبة، أو أفضلُ الأنساك على الإطلاق، أو مستحبة، أو جائزة، ولا نعلم للأُمة قولاً خامساً فيها بالتحريم.
الثانى: أن عُمَرَ بنَ الخطاب رضى الله عنه، صحَّ عنه مِن غير وجه، أنه قال: لو حججتُ لتمتعتُ، ثم لو حججتُ لتمتعتُ. ذكره الأثرم فى "سننه" وغيره
وذكر عبد الرزاق فى "مصنفه": عن سالم بن عبد الله، أنه سئل: أنهى عمر عن مُتعة الحَجّ ؟ قال: لا، أَبَعْدَ كِتابِ الله تعالى ؟ وذكر عن نافع، أن رجلاً قال له: أنهى عمر عن مُتعة الحج ؟ قال: لا. وذكر أيضاً عن ابن عباس، أنه قال: هذا الذى يزعمون أنه نهى عن المُتعة يعنى عمَر سمعتُه يقول: لو اعتمرتُ، ثم حججتُ، لتمتَّعتُ.
قال أبو محمد بن حزم: صحَّ عن عمر الرجوعُ إلى القول بالتمتع
بعد النهى عنه، وهذا محال أن يرجعَ إلى القول بما صح عنده أنه منسوخ.
الثالث: أنه من المحال أن ينهى عنها، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن سأله: هل هى لِعامِهم ذلك أم للأبد ؟ فقال: "بل للأبد"، وهذا قطع لتوهم ورود النسخ عليها، وهذا أحدُ الأحكام التى يستحيل ورود النسخ عليها، وهو الحكمُ الذى أخبر الصادق المصدوق باستمراره ودوامه، فإنه لا خلف لِخبره.
فصل
العذر الثانى: دعوى اختصاصِ ذلك بالصحابة، واحتجوا بوجوه:
أحدها: ما رواه عبدُ اللهِ بنُ الزبير الحُميدى، حدثنا سُفيان، عن يحيى بن سعيد، عن المُرَقِّعِ، عن أبى ذر أنه قال: كان فسخُ الحجِّ مِن رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم لنَا خاصة.
وقال وكيع: حدثنا موسى بن عُبيدة، حدثنا يعقوب بنُ زيد، عن أبى ذر قال: لم يَكُنْ لأَحَدٍ بَعْدَنَا أَنْ يَجْعَلَ حَجَّتَهُ عُمْرَةً، إنَّها كَانَتْ رُخْصَةً لَنَا أَصْحَابَ مَحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم.
وقال البزار: حدّثنا يوسف بن موسى، حدثنا سلمةُ بنُ الفضل، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن الأسدى، عن يزيد بن شريك، قُلنا لأبى ذر: كيف تمتَّع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنتُم معه ؟ فقال: ما أَنْتُمْ وَذَاكَ، إنَّما ذَاكَ شَئٌ رُخِّصَ لَنَا فيه، يعنى المتعة.
وقال البزار: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عُبيد الله بن موسى،
حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن المهاجر، عن أبى بكر التيمى، عن أبيه والحارث بن سويد قالا: قال أبو ذر فى الحجِّ والمتعةِ: رخصةٌ أعطاناها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال أبو داود: حدثنا هنّاد بن السِّرِى، عن ابن أبى زائدة، أخبرنا محمد ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود، عن سليمان أو سليم بن الأسود أن أبا ذر كان يقولُ فيمن حَجَّ ثُمَّ فَسَخَها إلى عُمْرَةٍ، لم يَكُنْ ذَلِكَ إلاَّ لِلرَّكْبِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفى "صحيح مسلم": عن أبى ذر. قال: كانَتِ المُتْعَةُ فى الحَجِّ لأَصْحَابِ مُحَمَّد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم خَاصَّةً. وفى لفظ: "كَانَتْ لَنَا رُخْصَةً"، يَعْنى المُتْعَةَ فى الحَجِّ، وفى لفظ آخر: "لا تَصِحُّ المُتْعَتَانِ إلاَّ لَنَا خَاصةً"، يَعنِى مُتْعَةَ النِّسَاءِ ومُتْعَةَ الحَجِّ. وفى لفظ آخر: "إنَّمَا كَانَتْ لَنَا خَاصّةً دُونَكُم"، يَعْنِى مُتْعَةَ الحَجِّ.
وفى "سنن النسائى" بإسناد صحيح: عن إبراهيم التيمى، عن أبيه، عن أبى ذر، فى مُتعِة الحجِّ: لَيْسَتْ لَكُمْ، ولَسْتُم مِنْهَا فى شَئٍ، إنَّمَا كَانَتْ رُخْصَةً لَنَا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفى "سنن أبى داود والنسائى"، من حديث بلال بن الحارث قال: قلت: يا رسول الله؛ أرأيتَ فسخَ الحجِّ إلى العُمرة لنا خاصَّة، أم للناس عامة ؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: " بَلْ لَنَا خًَاصَّة "، ورواه
الإمام أحمد.
وفى مسند أبى عوانة بإسناد صحيح: عن إبراهيم التيمى، عن أبيه، قال: سُئِلَ عُثْمَانُ عن مُتْعَةِ الحَجِّ فَقَال: كَانَتْ لَنَا، لَيْسَتْ لَكُمْ.
هذا مجموعُ ما استدلوا به على التخصيص بالصحابة.
قال المجوِّزون للفسخ، والموجِبُون له: لا حُجة لكم فى شئ من ذلك، فإنَّ هذه الآثار بين باطل لا يَصِحُّ عمن نُسِب إليه البتة، وبين صحيح عن قائل غيرِ معصوم لا تُعارَض به نصوصُ المعصوم.
أما الأول: فإن المُرَقِّع ليس ممن تقوم بروايته حُجة، فضلاً عن أن يُقدَّم على النصوص الصحيحة غيرِ المدفوعة. وقد قال أحمد بن حنبل وقد عُورِضَ بحديثه: ومَن المُرقِّع الأسدى ؟ وقد روى أبو ذر عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، الأمر بفسخ الحَجّ إلى العُمْرة. وغاية ما نقل عنه إنْ صح: أنّ ذلك مختصٌّ بالصحابة، فهو رأيه. وقد قال ابن عباس، وأبو موسى الأشعرى: إنَّ ذلك عام للأُمة، فرأى أبى ذر معارَض برأيهما، وسلمت النصوصُ الصحيحةُ الصريحة، ثم من المعلوم أن دعوى الاختصاص باطلةٌ بنص النبى صلى الله عليه وآله وسلم أن تلك العُمْرة التى وقع السؤال عنها وكانت عُمْرة فسخ لأبد الأبد، لا تَختصُّ بقَرن دونَ قرن، وهذا أصح سنداً من المروى عن أبى ذر، وأولى أن يُؤخذ به منه لو صحَّ عنه.
وأيضاً.. فإذا رأينا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد اختلفوا فى أمر قد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه فعله وأمر به، فقال بعضُهم: إنه منسوخ أو خاص، وقال بعضهم: هو باقٍ إلى الأبد، فقولُ مَن ادَّعى نسخَه أو اختصاصَه مخالف للأصل، فلا يُقبَلُ إلا ببرهان، وإنَّ أقلَّ ما فى الباب معارضتُه مَن ادَّعى بقاءه وعمومه، والحجةُ تفصِل بين المتنازعين، والواجبُ الردُّ عند التنازع إلى الله ورسوله. فإذا قال أبو ذر وعثمان: إن الفسخ منسوخ أو خاص، وقال أبو موسى وعبد الله بن عباس: إنه باقٍ وحكمُه عام، فعلى مَن ادَّعى النسخ والاختصاص الدليل.
وأما حديثه المرفوع حديث بلال بن الحارث فحديث لا يكْتَبُ، ولا يُعارَض بمثله تلك الأساطين الثابتة.
قال عبد الله بن أحمد: كان أبى يرى للمُهِلِّ بالحج أن يفسخَ حجَّه إن طاف بالبيت وبين الصفا والمروة. وقال فى المتعة: هى آخِرُ الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال صلى الله عليه وآله وسلم.: "اجْعَلُوا حَجَّكُم عُمْرَةً". قال عبد الله: فقلت لأبى: فحديث بلال بن الحارث فى فسخ الحج، يعنى قوله: "لنا خاصة" ؟ قال: لا أقول به، لا يُعرف هذا الرجل، هذا حديث ليس إسناده بالمعروف، ليس حديثُ بلال بن الحارث عندى يثبتُ. هذا لفظه.
قلت: ومما يدل على صحة قول الإمام أحمد، وأن هذا الحديث لا يَصِحُّ أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن تلك المُتعة التى أمرهم أن يفسخوا حَجَّهم إليها أنها لأَبَدِ الأبدِ، فكيف يثبُت عنه بعد هذا أنها لهم خاصة ؟ هذا من أمحل المحال. وكيف يأمرهم بالفسخ ويقول: "دَخَلَتِ
العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَة"، ثم يثبت عنه أن ذلك مختص بالصحابة دون مَن بعدهم: فنحن نَشْهَدُ باللهِ، أن حديث بلال بن الحارث هذا، لا يصح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو غلط عليه، وكيف تُقدَّم روايةُ بلال بن الحارث، على روايات الثقات الأثبات، حملةِ العلم الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلافَ روايته، ثم كيف يكون هذا ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وابنُ عباس رضى الله عنه يُفتى بخلافه، ويناظر عليه طول عمره بمشهد من الخاص والعام، وأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوافِرون، ولا يقول له رجلٌ واحد منهم: هذا كان مختصاً بنا، ليس لغيرنا حتى يظهر بعد موت الصحابة، أن أبا ذر كان يرى اختصاص ذلك بهم ؟
وأما قول عثمان رضى الله عنه فى متعة الحج: إنها كانت لهم ليست لغيرهم، فحكمه حكم قول أبى ذر سواء، على أن المروى عن أبى ذر وعثمان يحتمل ثلاثة أُمور:
أحدها: اختصاص جواز ذلك بالصحابة، وهو الذى فهمه مَنْ حرَّم الفسخ.
الثانى: اختصاصُ وجوبه بالصحابة، وهو الذى كان يراه شيخنا قدَّس اللهُ روحه يقول: إنهم كانوا قد فُرِض عليهم الفسخ لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم به، وحتمه عليهم، وغضبه عندما توقفوا فى المبادرة إلى امتثاله. وأما الجواز والاستحباب، فللأُمة إلى يوم القيامة، لكنْ أبَى ذلك البحرُ ابنُ عباس، وجعل الوجوب للأُمة إلى يوم القيامة، وأن فرضاً على كل مفرد وقارن لم يسق الهَدْى، أن يحلَّ ولا بد، بل قد حَلَّ وإن لم يشأ، وأنا إلى قوله أميلُ منى إلى قول شيخنا.
الاحتمال الثالث: أنه ليس لأحد من بعد الصحابة أن يبتدئ حجاً قارِناً أو مفرداً بلا هَدْى، بل هذا يحتاج معه إلى الفسخ، لكن فرض عليه أن يفعل ما أَمَرَ به النبىُّ صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه فى آخر الأمر من التمتع لمن لم يَسُقِ الهَدْىَ، والقِران لمن ساق، كما صح عنه ذلك. وأمّا أن يَحرم بحج مفرد، ثم يفسخه عند الطواف إلى عُمرة مُفردةٍ، ويجعله متعة، فليس له ذلك، بل هذا إنما كان للصحابة، فإنهم ابتدؤوا الإحرام بالحج المفرد قبل أمر النبىِّ صلى الله عليه وآله وسلم بالتمتع والفسخ إليه، فلما استقر أمره بالتمتع والفسخ إليه، لم يكن لأحد أن يُخالفه ويُفرد، ثم يفسخه.
وإذا تأملتَ هذين الاحتمالين الأخيرين، رأيتهما إما راجحين على الاحتمال الأول، أو مساويين له، وتسقط معارضةُ الأحاديث الثابتة الصريحة به جملة، وبالله التوفيق.
وأما ما رواه مسلم فى "صحيحه" عن أبى ذر: أن المتعة فى الحج كانت لهم خاصَّة. فهذا، إن أريد به أصل المتعة، فهذا لا يقول به أحد من المسلمين، بل المسلمون متفقون على جوازها إلى يوم القيامة. وإن أريد به متعة الفسخ، احتمل الوجوه الثلاثة المتقدِّمة. وقال الأثرم فى "سننه": وذكر لنا أحمد بن حنبل، أن عبد الرحمن بن مهدى حدَّثه عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمى، عن أبى ذر، فى متعة الحج، كانت لنا خاصة. فقال أحمد بن حنبل: رحم الله أبا ذر، هى فى كتاب الله عَزَّ وجَلَّ: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196].
قال المانعون من الفسخ: قول أبى ذر وعثمان: إن ذلك منسوخ أو خاص بالصحابة، لا يُقال مثلُه بالرأى، فمع قائله زيادة علم خفيت
على مَن ادَّعى بقاءه وعمومه، فإنه مستصحِب لحال النص بقاءً وعموماً، فهو بمنزلة صاحب اليد فى العَيْن المدَّعاة، ومدَّعى فسخه واختصاصه بمنزلة صاحب البيِّنة التى تُقدَّم على صاحب اليد.
قال المجوِّزون للفسخ: هذا قول فاسد لا شك فيه، بل هذا رأى لا شك فيه، وقد صرَّح بأنه رأى مَنْ هو أعظمُ من عثمان وأبى ذر عِمرانُ بن حصينْ، ففى "الصحيحين" واللفظ للبخارى: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونزل القُرآنُ، فقال رجل برأيه ما شاء. ولفظ مسلم: نزلت آيةُ المتعة فى كتاب الله عَزَّ وجَلَّ: يعنى مُتعة الحج، وأمرنا بها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لم تنزل آية تنسخ مُتعة الحج، ولم ينه عنها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات، قال رجلٌ برأيه ما شاء. وفى لفظ: يريد عمر.
وقال عبد الله بن عمر لمن سأله عنها، وقال له: إن أباك نهى عنها: أَأَمْرُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم أحقُّ أن يُتَّبَعَ أو أَمْرُ أَبى ؟،.
وقال ابن عباس لمن كان يُعارِضه فيها بأبى بكر وعمر: يُوشِكُ أن تَنْزِلَ عليكم حِجَارَةٌ من السماء، أقولُ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقولُون: قال أبو بكر وعمر ؟ فهذا جوابُ العلماء، لا جوابُ مَن يقول: عثمانُ وأبو ذر أعلمُ برسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم منكم، فهلاَّ قال ابنُ عباس، وعبدُ الله بن عمر: أبو بكر وعمرُ أعلمُ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منا، ولم يكن أحدٌ مِن الصحابة، ولا أحدٌ من التابعين يرضى بهذا الجواب فى دفع نصٍ عن رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم كانوا أعلمَ باللهِ ورسوله، وأتقى له من أن يُقَدِّمُوا على قول المعصوم رأىَ غيرِ المعصوم، ثم قد ثبت النصُّ عن المعصوم، بأنها باقية إلى يوم القيامة. وقد قال ببقائها: علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وسعدُ بن أبى وقَّاص، وابن عمر، وابن عباس، وأبو موسى، وسعيد بن المسيِّب، وجمهور التابعين، ويدل على أن ذلك رأى محض لا يُنسب إلى أنه مرفوع إلى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن عمرَ بن الخطَّاب رضى الله عنه لما نهى عنها قال له أبو موسى الأشعرى: يا أمير المؤمنين ؛ ما أحدثتَ فى شأنِ النُّسُك ؟ فقال: إن نَأخُذْ بِكِتَاب رَبِّنَا، فإنَّ الله يقُول: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وإنْ نَأْخُذْ بِسُّنَّةِ رَسُولِ الله صلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم، فإنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لم يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ، فَهَذَا اتِّفَاقٌ من أبى موسى وعمر، على أن منع الفسخ إلى المتعة والإحرام بها ابتداءً، إنما هو رأى مِنه أحدثه فى النُّسُك، ليس عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإن استدل له بما استدل، وأبو موسى كان يُفتى الناسَ بالفسخ فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه كُلِّها، وصدراً من خلافة عمر حتى فاوض عمرُ رضى الله عنه فى نهيه عن ذلك، واتفقا على أنه رأى أحدثه عمر رضى الله عنه فى النُسُك، ثم صحَّ عنه الرجوعُ عنه.
فصل
وأما العذر الثالث: وهو معارضةُ أحاديث الفسخ بما يدل على خلافها،
فذكروا منها ما رواه مسلم فى "صحيحه" من حديث الزهرى، عن عُروة، عن عائشة رضى الله عنها، قالت: خرجنا مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجة الوداع، فمنا مَن أهلَّ بعُمرة، ومنا مَنْ أهلَّ بحج، حتى قَدِمْنَا مكة فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرةٍ وَلَمْ يُهْدِ، فَلْيَحْلِلْ، ومَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وأهْدَى، فلا يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَه، ومَنْ أهَلَّ بِحَجٍّ، فَلْيُتمَّ حَجَّه"، وذكر باقى الحديث.
ومنها: ما رواه مسلم فى "صحيحه" أيضاً من حديث مالك، عن أبى الأسود، عن عُروة عنها: خَرجنا مع رسولِ صلى الله عليه وآله وسلم عامَ حَجَّةِ الوَداع، فمِنا مَن أهلَّ بعُمرة، ومنَّا من أهلَّ بحج وعُمرة، ومِنا مَنْ أهلَّ بالحجِّ، وأهلَّ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسلم بالحجِّ، فأمَّا مَنْ أهلَّ بعمرة فحلَّ، وأمَّا مَنْ أهلَّ بحجٍّ، أو جَمَعَ الحجَّ والعُمرة، فلم يَحِلُّوا حتى يومُ النحر.
منها: ما رواه ابنُ أبى شيبة: حدثنا محمد بن بشر العبدى، عن محمد بن عمرو بن علقمة، حدثنى يحيى بن عبد الرحمن بن حاطِب، عن عائشة، قالت: خَرَجْنَا مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لِلحجِّ على ثلاثة أنواع: فمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بعُمرةٍ وحَجَّةٍ، ومنا مَن أهلَّ بِحَجِّ مُفرد، ومِنَّا مَنْ أهلَّ بعُمرة مفردة، فمَن كانَ أهلَّ بحجٍّ وعُمرةٍ معاً، لم يحِلَّ مِن شئٍ مما حَرُمَ منه حتَّى قضى مناسِكَ الحجِّ، ومَنْ أهلَّ بحجٍّ مفرد، لم يَحِلَّ مِن شئ مما حَرُمَ منه حتى قضى مناسِكَ الحج، ومَنْ أهلَّ بعُمرةٍ مفردةٍ،
فطافَ بالبيتِ وبالصَّفا والمروة، حلَّ مما حرُم منه حتى استقبل حَجّاً.
ومنها: ما رواه مسلم فى "صحيحه" من حديث ابن وهب، عن عمرو بنِ الحارِث، عن محمد بن نَوْفَلٍ، أنَّ رجُلاً مِن أهلِ العِراق، قال له: سل لى عُروة بن الزبير، عن رجل أهلَّ بالحجِّ، فإذا طافَ بالبيت، أيحِلُّ أم لا ؟ فذكَر الحديث، وفيه: قد حجَّ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فأخبرتنى عائشة، أن أول شئ بدأ به حين قَدِمَ مكة، أنه توضأ، ثمَّ طَافَ بالبَيْتِ.. ثم حجَّ أبو بكر، ثم كان أوَّلَ شئٍ بدأ به الطوافُ بالبيت، ثم لم تكن عُمْرَةٌ.. ثم عُمَرُ مثلُ ذلك.. ثم حجَّ عثمانُ، فرأيتُه أوَّلُ شئ بدأ به الطوافُ بالبيت، ثم لم تكن عُمْرةٌ. ثم معاوية وعبدُ الله بنُ عمر، ثم حججتُ مع أبى الزبير بن العوَّام، فكان أوَّلَ شئ بدأ به الطوافُ بالبيت، ثم لم تكن عُمْرَةٌ، ثمَّ رأيتُ المهاجرين والأنصار، يفعلُون ذلك، ثم لم تَكُنْ عُمْرَةٌ، ثم آخِرُ مَنْ رأيت فعل ذلك ابنُ عمر، ثم لم ينقُضْها بعُمرة، فهذا ابنُ عمرَ عندهم، أفلا يسألونه ؟ ولا أحدٌ ممن مضى ما كانوا يَبدؤون بشىء حِينَ يضعون أقدامَهم أوَّلَ مِنَ الطَّواف بالبَيْتِ، ثم لا يَحِلُّون، وقد رأيتُ أُمى وخالتى حين تَقْدَمَانِ لا تَبْدآنِ بشىءٍ أوَّلَ من الطواف بالبيت، تطوفان بِه ثم لا تَحِلاَّنِ.
فهذا مجموع ما عارضوا به أحاديثَ الفسخ، ولا مُعارضة فيها بحمد الله ومَنِّهِ.
أما الحديثُ الأول وهو حديث الزهرى، عن عُروة، عن عائشة فَغَلِطَ فيه عبدُ الملك بن شعيب، أو أبوه شعيب، أو جَدُّه الليث، أو شيخه
عقيل، فإن الحديث رواه مالك ومعمر، والناسُ، عن الزهرى، عن عروة، عنها وبيَّنُوا أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر مَنْ لم يَكُنْ معه هَدْى إذا طاف وسعى، أن يَحِلَّ. فقال مالك: عن يحيى بن سعيد، عن عَمْرَةَ، عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لِخَمس ليالٍ بقين لذى القِعدة، ولا نرى إلا الحجَّ، فلما دنونا من مكة، أمر رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ لم يكن معه هَدْى، إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، أن يَحِلَّ وذكر الحديث. قال يحيى: فذكرتُ هذا الحديثَ لقاسم بن محمد، فقال: أتتك واللهِ بالحديثِ على وجهه.
وقال منصور: عن إبراهيم، عن الأسود، عنها، خرجنا مع رسول اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسلم ولا نرى إلا الحجَّ، فلما قَدِمْنَا، تَطَوَّفْنَا بالبَيْتِ، فأمر النبىُّ صلى الله عليه وآله وسلم مَن لم يكن ساق الهَدْىَ، أن يَحِلَّ، فحلَّ مَنْ لم يكن ساق الهَدْىَ، ونساؤه لم يَسُقْنَ فأحْلَلْنَ.
وقال مالك ومعمر كلاهُما عن ابن شهاب، عن عُروة، عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام حَجة الوداع، فأهللنا بعُمرة، ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ، فلْيُهِلَّ بِالحَجِّ مَعَ العُمْرَة، ولاَ يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ منهما جَميعاً".
وقال ابن شهاب عن عُروة عنها بمثل الذى أخبر به سالم، عن أبيه، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولفظه: تمتع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فى حَجَّة الوداع بالعمرة إلى الحَجِّ، فأهدى، فساق معه الهدىَ من ذى الحُليفة،
بدأ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأهلَّ بالعُمرة، ثم أهلَّ بالحَجِّ، وتمتَّع الناسُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعُمرة إلى الحَجِّ، فكانَ مِنَ الناس مَنْ أهدى، فساق معه الهَدْىَ، ومنهم مَن لم يُهْدِ، فلمَّا قَدِمَ النبى صلى الله عليه وآله وسلم مَكَّةَ، قال الناس: "مَنْ كَانَ مِنْكُم أهْدى، فإنَّه لا يَحِلُّ مِنْ شئ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِىَ حَجَّهُ، ومَنْ لمْ يَكُنْ أهْدَى فَلْيَطُفْ بِالبَيْتِ، وبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَة، وَليُقصِّرْ وَلْيَحِلَّ، ثُمَّ لْيُهِلَّ بالحَجِّ ولْيُهْدِ، فمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً، فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيَّام فى الحَجِّ، وسَبْعَةٍ إذا رَجَعَ إلى أهْلِه َ"... وذكر باقى الحديث.
وقال عبد العزيز الماجِشُون: عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: خرجنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا نَذْكُرُ إلا الحَجَّ... فذكر الحديث. وفيه، قالت: فلما قَدمْتُ مَكَّة، قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: "اجْعَلُوها عُمْرَةً، فأحَلَّ النَّاسُ إلاَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ الهَدْى".
وقال الأعمش: عن إبراهيم، عن عائشة: خرجنا مع رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لا نذْكُر إلا الحَجَّ، فلما قَدِمْنَا، أُمِرْنَا أَنْ نَحِلَّ... وذكرَ الحديثَ.
وقال عبد الرحمن بن القاسم: عن أبيه، عن عائشة: خرجنا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا نذكر إلا الحَجَّ، فلما جِئْنَا سَرِفَ، طَمِثْتُ. قالت: فدخلَ عَلَىَّ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا
أبكى. فقال: "ما يُبْكِيك" ؟ قالت: فَقُلْتُ: واللهِ لَوِدِدْتُ أنِّى لاَ أَحُجُّ العَامَ فذكر الحديثَ. وفيه: فلما قَدِمْتُ مكة، قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: "اجْعَلُوهَا عُمْرةً"، قالت: فَحَلَّ الناسُ إلاَّ مْن كَانَ مَعَهُ الهَدْىُ.
وكل هذه الألفاظ فى "الصحيح"، وهذا موافق لما رواه جابر، وابن عمر، وأنس، وأبو موسى، وابن عباس، وأبو سعيد، وأسماء، والبراء، وحفصة، وغيرهم، من أمره صلى الله عليه وآله وسلم أصحابَه كُلَّهم بالإحلال، إلا مَنْ ساق الهَدْى، وأن يجعلوا حجهم عُمْرَةً. وفى اتفاق هؤلاء كُلِّهم، على أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، أمر أصحابه كلَّهم أن يحلوا، وأن يجعلوا الذى قدموا به مُتعةً، إلا مَنْ ساق الهَدْى، دليلٌ على غلط هذه الرواية، ووهمٍ وقع فيها، يُبين ذلك أنها من رواية الليث، عن عقيل، عن الزهرى، عن عروة، والليث بعينه، هو الذى روى عن عقيل، عن الزهرى، عن عروة، عنها مثلَ ما رواه، عن الزهرى عن سالم، عن أبيه، فى تمتع النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وأمره لمن لم يكن أهدى أن يَحِلَّ.
ثم تأملنا، فإذا أحاديث عائشة يُصدِّقُ بعضُها بعضاً، وإنما بعضُ الرواة زاد على بعض، وبعضهم اختصر الحديث، وبعضُهم اقتصر على بعضه، وبعضهم رواه بالمعنى. والحديث المذكور: ليس فيه منع مَنْ أهلَّ بالحجِّ من الإحلال، وإنما فيه أمره أن يُتِمَّ الحج، فإن كان هذا محفوظاً، فالمراد به بقاؤه على إحرامه، فيتعين أن يكون هذا قبل الأمر بالإحلال، وجعله عمرة، ويكون هذا أمراً زائداً قد طرأ على الأمر
بالإتمام، كما طرأ على التخيير بين الإفراد والتمتع والقِران، ويتعين هذا ولا بُد، وإلا كان هذا ناسخاً للأمر بالفسخ، والأمر بالفسخ ناسخاً للإذن بالإفراد، وهذا محالٌ قطعاً، فإنه بعد أن أمرهم بالحِلِّ لم يأمرهم بنقضه، والبقاءِ على الإحرام الأول، هذا باطل قطعاً، فيتعيَّنُ إن كان محفوظاً أن يكون قبل الأمر لهم بالفسخ، ولا يجوز غير هذا البتة.. والله أعلم.
فصل
وأما حديثُ أبى الأسود، عن عروة، عنها. وفيه: "وأما مَنْ أهلَّ بحجٍّ أو جمعَ الحجَّ والعُمرة، فلم يَحِلُّوا حتى كان يوم النحر". وحديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عنها: "فمَن كان أهلَّ بحجٍّ وعُمرة معاً، لم يَحِلَّ من شئ مما حَرُمَ منه حتى يَقْضِىَ مَناسِكَ الحَجِّ، ومَنْ أهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرِدٍ كَذَلِكَ". فحديثان، قد أنكرهما الحفاظُ، وهما أهلٌ أن يُنكَرا، قال الأثرم: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الرحمن بن مهدى، عن مالك بن أنس، عن أبى الأسود، عن عُروة، عن عائشة: "خرجنا مع رسول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فمنَّا مَنْ أَهلَّ بالحَجِّ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بالعُمْرَةِ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالحَجِّ والعُمرَةِ، وأَهلَّ بالحَجِّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فأمَّا مَنْ أَهَلَّ بالعُمْرَةِ، فأحلُّوا حِينَ طَافُوا بِالبَيْتِ وَبالصَّفَا والمَرْوَةِ. وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بالحَجِّ والعُمْرَةِ، فَلَمْ يَحِلُّوا إلَى يَوْمِ النَّحْرِ"، فقال أحمد بن حنبل: أَيْش فى هذا الحديثِ مِن العَجَبِ، هذا خطأ، فقال الأثرم: فقلتُ له: الزهرى، عن عروة، عن عائشة، بخلافه ؟ فقال: نعم، وهشام بن عروة. وقال الحافظ أبو محمد بن حزم: هذان حديثان منكران جداً، قال: ولأبى الأسود فى هذا النحو
حديثٌ لا خفاء بِنُكرَتِه، وَوَهْنِهِ، وبُطلانه. والعجب كيف جاز على مَن رواه ؟ ثم ساق من طريق البخارى عنه، أن عبد الله مولى أسماء، حدّثه أنه كان يَسْمَعُ أسماء بنتَ أبى بكر الصِّدِّيق رضى الله عنهما تقول كُلما مَرَّتْ بالحَجُونِ: صلَّى الله على رسوله: لقد نزلنا معه هاهنا، ونحنُ يومئذ خِفافٌ، قليلٌ ظهرُنا، قليلةٌ أزوادُنا، فاعتمرتُ أنا وأختى عائشة، والزبيرُ، وفلان، وفلان. فلما مسحنا البيتَ، أَحْلَلْنَا، ثُمَّ أَهْلَلَنْا مِنَ العَشِىِّ بِالحَجِّ.
قال: وهذه وهلةٌ لا خفاءَ بها على أحد ممن له أقلُّ علم بالحديثِ لوجهين باطلين فيه بلا شك:
أحدُهما: قوله: فاعتمرتُ أنا وأُختى عائشة، ولا خلاف بين أحد من أهل النقل، فى أن عائشة لم تعتمر فى أول دخولها مكة، ولذلك أعمرها من التنعيم بعد تمام الحج ليلة الحصبة، هكذا رواه جابر بن عبد الله، ورواه عن عائشة الأثبات، كالأسود بن يزيد، وابنِ أبى مُليكة، والقاسم بن محمد، وعروة، وطاووس، ومجاهد.
الموضع الثانى: قوله فيه: فلما مسحنا البيتَ، أحللنا، ثم أهللنا من العشى بالحج، وهذا باطل لا شكَّ فيه، لأن جابراً، وأنسَ بن مالك، وعائشة، وابنَ عباس، كُلُّهم روَوْا أن الإحلال كان يومَ دخولهم مكة، وأن إحلالهم بالحجِّ كان يوم التروية، وبين اليومين المذكورين ثلاثة أيام بلا شك.
قلت: الحديثُ ليس بمنكر ولا باطل، وهو صحيح وإنما أُتى أبو محمد فيه مِن فهمه، فإن أسماء أخبرت أنها اعتمرت هى وعائشة، وهكذا
وقع بلا شك. وأما قولها: فلما مسحنا البيت أحْلَلْنَا، فإخبار منها عن نفسها، وعمن لم يُصبه عذرُ الحيض الذى أصابَ عائشة، وهى لم تُصرِّحْ بأن عائشة مسحت البيت يوم دخولهم مكة، وأنها حلَّت ذلك اليوم، ولا ريبَ أن عائشة قدمت بعُمرة، ولم تزل عليها حتى حاضتْ بِسَرِفَ، فأدخلت عليها الحجَّ، وصارت قارِنةً. فإذا قيل: اعتمرت عائشة مع النبى صلى الله عليه وآله وسلم، أو قدمت بعمرة، لم يكن هذا كذباً.
وأما قولها: ثم أهللنا مِن العَشِىِّ بالحج، فهى لم تَقُلْ: إنهم أَهلُّوا من عشى يوم القدوم، ليلزم ما قال أبو محمد، وإنما أرادت عشىَّ يوم التروية. ومثل هذا لا يحتاج فى ظهوره وبيانه إلى أن يُصرَّح فيه بعشى ذلك اليوم بعينه، لعلم الخاص والعام به، وأنه مما لا تذهبُ الأوهام إلى غيره، فردُّ أحاديث الثقات بمثل هذا الوهم مما لا سبيل إليه.
قال أبو محمد: وأسلمُ الوجوه للحديثين المذكورين عن عائشة، يعنى اللذين أنكرَهُما، أن تُخرَّجَ روايتهما على أن المراد بقولها: إن الَّذينَ أهلَّوا بحجٍّ، أو بحجٍّ وعُمرة، لم يَحِلُّوا حتى كان يومُ النحر حين قَضَوْا مناسِك الحج، إنما عنت بذلك مَنْ كان معه الهَدْى، وبهذا تنتفى النُّكرةُ عن هذين الحديثين، وبهذا تأتلِف الأحاديثُ كلها، لأن الزهرى عن عُروة يذكر خلاف ما ذكره أبو الأسود عن عروة، والزهرى بلا شك أحفظُ من أبى الأسود، وقد خالف يحيى بن عبد الرحمن عن عائشة فى هذا الباب مَنْ لا يُقرَن يحيى بن عبد الرحمن إليه، لا فى حفظ، ولا فى ثقة، ولا فى جَلالة، ولا فى بطانة لعائشة، كالأسود ابن يزيد، والقاسم بن محمد بن أبى بكر، وأَبى عمرو ذكوان مولى عائشة، وعَمْرَةَ بنت عبد الرحمن، وكانت فى حجر عائشة، وهؤلاء هم أهلُ
الخصوصية والبطانة بها، فكيف ؟ ولو لم يكونوا كذلك، لكانت روايتُهم أو روايةُ واحد منهم، لو انفرد هى الواجبُ أن يؤخذ بها، لأن فيها زيادة على رواية أبى الأسود ويحيى، وليس مَن جَهَلَ، أو غَفَلَ حُجَّةَ على مَن علم، وذكر وأخبر، فكيف وقد وافق هؤلاء الجِلَّةُ عن عائشة فسقط التعلُّق بحديث أبى الأسود ويحيِى اللذين ذكرنا.
قال: وأيضاً، فإن حديثى أبى الأسود ويحيى، موقوفان غير مسندين، لأنهما إنما ذكرا عنها فعل مَن فعل ما ذكرت، دون أن يذكُرا أن النبىَّ صلى الله عليه وآله وسلم، أمرهم أن لا يَحِلُّوا، ولا حُجَّة فى أحد دون النبى صلى الله عليه وآله وسلم، فلو صحَّ ما ذكراه، وقد صح أمرُ النبى صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ لا هَدْى معه بالفسخ، فتمادى المأمورون بذلك، ولم يَحِلُّوا لكانوا عصاة للّه تعالى، وقد أعاذهم الله من ذلك، وبرَّأهم منه، فثبت يقيناً أن حديث أبى الأسود ويحيى، إنما عنى فيهما: مَن كان معه هَدْى، وهكذا جاءت الأحاديثُ الصحاح التى أوردناها، بأنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر مَن معه الهَدْى، بأن يجمع حجاً مع العُمرة، ثم لا يَحِلَّ حتى يحلَّ منهما جميعاً. ثم ساق من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عنها ترفعه: "مَنْ كانَ مَعَهُ هَدْىٌ، فَلْيُهْلِلْ بِالحَجِّ والعُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعَا"، قال: فهذا الحديث كما ترى، من طريق عروة، عن عائشة، يُبين ما ذكرنا أنه المراد بلا شك، فى حديث أبى الأسود، عن عروة وحديث يحيى عن عائشة، وارتفع الآن الإشكال جملة، والحمد للّه رب العالمين.
قال: ومما يُبيِّنُ أن فى حديثِ أبى الأسود حذفاً قوله فيه: عن عُروة: "أن أُمَّه وخالَته والزُّبير، أقبلوا بعُمرة فقط، فلما مسحُوا الركن، حلُّوا". ولا خلاف بين أحد، أن مَن أقبل بعُمرة لا يَحِلُّ بمسحِ الرّكن، حتى يسعى بين الصَّفا والمَرْوَةِ بعد مسح الركن، فصحَّ أن فى الحديث حذفاً بيَّنه سائرُ الأحاديث الصحاح التى ذكرنا، وبطل التشغيبُ به جملة.. وبالله التوفيق.
فصل
وأما ما فى حديث أبى الأسود، عن عروة، من فعل أبى بكر، وعمر، والمهاجرين، والأنصار، وابن عمر، فقد أجابه ابن عباس، فأحسن جوابه، فيُكتفى بجوابه. فروى الأعمش، عن فضيل بن عمرو، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، تمتعَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عروة: نهى أبو بكر وعُمَرُ عن المُتعة. فقال ابن عباس: أراكم ستهلكون، أقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقول: قال أبو بكر وعمر.
وقال عبد الرزاق: حدثنا مَعمر، عن أيوب، قال: قال عُروة لابن عباس: ألا تتَّقى الله تُرَخِّصُ فى المُتعة ؟، فقال ابنُ عباس: سل أُمَّك يا عُرَيَّةُ. فقال عُروة: أمَّا أبو بكر وعمر، فلم يفعلا، فقال ابنُ عباس: واللهِ ما أراكم مُنتهين حتى يُعَذِّبَكُمُ الله، أُحدِّثُكم عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتُحدِّثُونا عن أبى بكر وعمر ؟ فقال عُروة: لَهُما أعلمُ بِسُّنَّةِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأتبعُ لها منك.
وأخرج أبو مسلم الكجى، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختيانى، عن ابن أبى مُلَيكة، عن عُروة بن
الزبير، قال لرجل مِن أصحابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تأمُرُ النَّاس بالعُمرَةِ فى هؤلاء العَشْرِ، وليس فيها عُمرة ؟، قال: أوَ لاَ تَسألُ أُمَّك عن ذلك ؟ قال عُروة: فإن أبا بكر وعُمَرَ لم يفعلا ذلك، قال الرجل: مِن هاهنا هلكتُم، ما أرى الله عزَّ وجلَّ إلا سَيُعَذِّبُكُم، إنِّى أحدِّثكم عن رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتُخبرونى بأبى بكر وعمر. قال عروةُ: إنهما واللهِ كانا أعلَم بِسُّنَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكَ، فسكت الرجلُ.
ثم أجاب أبو محمد بن حزم عُروة عن قوله هذا، بجواب نذكره، ونذكر جواباً أحسَن منه لشيخنا.
قال أبو محمد: ونحن نقول لعروة: ابنُ عباس أعلمُ بِسُنَّةِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبأبى بكر وعمَر منك، وخيرٌ منك، وأولى بهم ثلاثتهم منك، لا يشكُّ فى ذلك مسلم. وعائشةُ أم المؤمنين، أعلم وأصدق منك. ثم ساق من طريق الثورى، عن أبى إسحاق السَّبِيعى، عن عبد الله قال: قالت عائشة: من استُعْمِلَ على المَوْسِمِ ؟ قالوا: ابن عباس. قالت: هو أعلم الناس بالحج. قال أبو محمد: مع أنه قد روى عنها خلاف ما قاله عروة، ومَن هو خير من عروة، وأفضل، وأعلم، وأصدق، وأوثق. ثم ساق من طريق البزار، عن الأشج، عن عبد الله بن إدريس الأودى، عن ليث، عن عطاء، وطاووس، عن ابن عباس: تمتع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو بكر، وعمر. وأول مَن نهى عنها معاوية.
ومن طريق عبد الرزاق، عن الثورى، عن ليث، عن طاووس، عن ابن عباس: تمتع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر. حتى مات، وعمر،
وعثمان كذلك. وأول مَن نهى عنها: معاوية.
قلت: حديث ابن عباس هذا، رواه الإمام أحمد فى "المسند" والترمذى. وقال: حديث حسن.
وذكر عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر عن ابن طاووس، عن أبيه، قال: قال أُبىُّ بن كعب، وأبو موسى لعمر بن الخطاب: ألا تقومُ فتبيِّنَ للنَّاسِ أمرَ هذه المتعة ؟ فقال عمر: وهل بَقى أحد إلا وقد عَلِمَهَا، أما أنا فأفعلُها.
وذكر على بنُ عبدِ العزيز البغوى، حدثنا حجاجُ بن المنهال، قال: حدثنا حمادُ بنُ سلمة، عن حماد بن أبى سليمان أو حميد عن الحسن، أن عمر أراد أن يأخذ مال الكعبة، وقال: الكعبة غَنِيَّةٌ عن ذلِكَ المالِ، وأراد أن يَنْهى أهل اليمن أن يَصْبِغُوا بالبَولِ، وأراد أن ينهى عن مُتعة الحج، فقال أُبىُّ بنُ كعب: قد رأى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه هذا المالُ، وبه وبأصحابه الحاجةُ إليه، فلم يأخذه، وأنت فلا تأخذْه، وقد كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه يلبَسون الثيابَ اليمانية، فلم ينهَ عنها، وقد علم أنها تُصْبَغُ بالبول، وقد تمتَّعنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم ينه عنها، ولم يُنْزِلِ اللهُ تعالى فيها نهياً.
وقد تقدَّم قولُ عمر: لو اعتمرتُ فى وسط السنة، ثم حججتُ لتمتعتُ، ولو حججتُ خمسين حَجة، لتمتعتُ. ورواه حماد بن سلمة.
عن قيس، عن طاووس، عن ابن عباس، عنه: لو اعتمرتُ فى سنة مرتين، ثم حججت، لجعلت مع حَجتى عُمرة. والثورى، عن سلمة بن كهيل، عن طاووس، عن ابن عباس، عنه: لو اعتمرتُ، ثم اعتمرتُ، ثم حججت، لتمتعت. وابن عيينة: عن هشام بن حُجير، وليث، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: هذا الذى يزعمُون أنه نهى عن المتعة يعنى عمر سمعتُه يقول: لو اعتمرتُ، ثم حججت، لتمتعت. قال ابن عباس: كذا وكذا مرة، ما تمت حجة رجل قط إلا بمتعة.
وأما الجواب الذى ذكره شيخنا، فهو أن عُمَرَ رضى الله عنه، لم ينه عن المتعة البتة، وإنما قال: إنَّ أَتَمَّ لِحَجِّكم وعُمرتِكم أن تَفْصِلُوا بينهما، فاختار عُمَرُ لهم أفضلَ الأُمور، وهو إفرادُ كل واحد منهما بسفر يُنشئه له من بلده، وهذا أفضل من القِران والتمتع الخاص بدون سَفرة أُخرى، وقد نصَّ على ذلك: أحمد، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعى رحمهم الله تعالى وغيرهم. وهذا هو الإفراد الذى فعله أبو بكر وعمر رضى الله عنهما، وكان عُمر يختاره للناس، وكذلك علىٌ رضى الله عنهما.
وقال عمر وعلى رضى الله عنهما فى قوله تعالى: {وأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ
للَّهِ} [البقرة: 196] قالا: إتمامهُما أن تُحرِمَ بهما مِن دُوَيْرَةِ أهلِكِ وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة فى عُمرتها: "أجْرُكِ عَلى قَدْرِ نَصَبِكِ" فإذا رجع الحاجُّ إلى دُوَيْرَةِ أهلِه، فأنشأ العُمرة منها، واعتمر قبل أشهرِ الحجِّ، وأقام حتى يحجَّ، أو اعتمر فى أشهره، ورجع إلى أهله، ثم حجَّ، فهاهنا قد أتى بكل واحدٍ من النسكين من دُويرةِ أهله، وهذا إتيانٌ بهما على الكمال، فهو أفضلُ من غيره.
قلت: فهذا الذى اختاره عمر للناس، فظنَّ مَن غَلِطَ منهم أنه نهى عن المتعة، ثم مِنهم مَن حمل نَهيه على متعة الفسخ، ومنهم مَن حمله على تركِ الأولى ترجيحاً للإفراد عليه، ومنهم مَن عارض رواياتِ النهى عنه بروايات الاستحباب، وقد ذكرناها، ومنهم مَن جعل فى ذلك روايتين عن عمر، كما عنه روايتان فى غيرهما من المسائل، ومنهم مَن جعل النهى
قولاً قديماً، ورجع عنه أخيراً، كما سلك أبو محمد بن حزم، ومنهم مَن يَعُدُّ النهى رأياً رآه من عنده لكراهته أن يَظَلَّ الحاجُّ مُعرِسِينَ بِنسائهم فى ظِلِّ الأرَاكِ.
قال أبو حنيفة: عن حماد، عن إبراهيم النخعى، عن الأسود بن يزيد، قال: بينما أنا واقف مع عُمَرَ بن الخطاب بعرفة عشيةَ عرفة، فإذا هو برجل مُرَجِّلٍ شعرَه، يفوحُ منه ريحُ الطِّيب، فقال له عمر: أمحرِمٌ أنت ؟ قال: نعم. فقال عمر: ما هيئتك بهيئة محرم، إنما المحرِمُ الأشْعَثُ الأَغْبَرُ الأدْفَرُ. قال: إنى قَدِمتُ متمتِّعاً، وكان معى أهلى، وإنما أحرمتُ اليومَ، فقال عمر عند ذلك: لا تتمتَّعُوا فى هذه الأيام، فإنى لو رَخَّصْتُ فى المُتعة لهم، لعرَّسُوا بِهِنَّ فى الأراك، ثم راحوا بِهِنّ حُجَّاجاً. وهذا يبين، أن هذا من عمر رأى رآه.
قال ابن حزم: فكان ماذا ؟ وحبذا ذلك ؟ وقد طاف النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على نسائه، ثم أصبح محرِماً، ولا خلاف أن الوطء مباح قبل الإحرام بطرفة عين والله أعلم.
فصل
وقد سلك المانعون من الفسخ طريقتين أخريين، نذكرهُما ونبيِّنُ فسادهما..
الطريقة الأولى: قالوا: إذا اختلف الصحابَةُ ومَنْ بعدهم فى جواز
الفسخ، فالاحتياطُ يقتضى المنعَ منه صِيانةً للعبادة عما لا يجوزُ فيها عند كثير من أهل العلم، بل أكثرهم.
والطريقة الثانية: أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرهم بالفسخ لِيبيِّن لهم جوازَ العُمرة فى أشهر الحج، لأن أهْلَ الجاهلية كانوا يكرهون العُمرة فى أشهر الحج، وكانوا يقُولون: إذا بَرَأَ الدَّبَرُ، وعَفَا الأَثَرُ، وانْسَلَخَ صَفَرُ، فقد حلَّتِ العُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرَ، فأمرهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفسخ، ليبين لهم جوازَ العُمرة فى أشهر الحج، وهاتان الطريقتان باطلتان.
أما الأولى: فلأن الاحتياطَ إنما يشرع، إذا لم تتبين السُّنَّةُ، فإذا تبيَّنت فالاحتياطُ هو اتِّباعُها وتركُ ما خالفها، فإن كان تركُها لأجل الاختلاف احتياطاً، فتركُ ما خالفها واتَباعُها، أحوطُ وأحوطُ، فالاحتياطُ نوعان:
احتياطٌ للخروج مِن خلاف العلماء، واحتياطٌ للخروج من خِلاف السُّنَّة، ولا يخفى رُجحانُ أحدهما على الآخر.
وأيضاً.. فإن الاحتياط ممتنعٌ هنا، فإنَّ للناس فى الفسخ ثلاثةَ أقوال:
أحدها: أنه محرَّم.
الثانى: أنه واجب، وهو قولُ جماعة من السَلَف والخَلَف.
الثالث: أنه مستحَبٌ، فليس الاحتياط بالخروج من خلاف مَن حرَّمه أولى بالاحتياط بالخروج من خلاف مَن أوجبه، وإذا تعذَّر
الاحتياطُ بالخروج من الخلاف، تعيَّن الاحتياطُ بالخروج من خلاف السُّنَّة.
فصل
وأما الطريقة الثانية: فأظهرُ بُطلاناً من وجوه عديدة.
أحدُها: أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر قبل ذلك عُمَرَهُ الثلاث فى أشهر الحج فى ذى القِعْدَة، كما تقدَّم ذلك، وهو أوسطُ أشهرِ الحج، فكيف يُظن أن الصحابة لم يعلموا جوازَ الاعتمار فى أشهر الحج إلا بعد أمرهم بفسخ الحج إلى العُمرة، وقد تقدَّم فعله لذلك ثلاثَ مرات ؟
الثانى: أنه قد ثبت فى "الصحيحين"، أنه قال لهم عند الميقات: "مَنْ شَاءَ أنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلُ، ومَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيَفْعَلْ، ومَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلِّ بحَجٍّ وعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ " فبيَّن لهم جوازَ الاعتمار فى أشهر الحج عند الميقات، وعامةُ المسلمين معه، فكيف لم يعلموا جوازها إلا بالفسخ ؟ ولعمرُ الله إن لم يكونوا يعلمون جوازَها بذلك، فهم أجدرُ أن لا يعلموا جوازَها بالفسخ.
الثالث: أنه أمَرَ مَن لم يَسُقِ الهَدْىَ أن يتحلَّل، وأمرَ مَن ساق الهَدْىَ أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدىُ مَحِلَّه، ففرق بين محرِم ومحرِم، وهذا يدل على أن سوقَ الهَدْى هو المانعُ من التحلل، لا مجردُ الإحرام الأول، والعِلَّة التى ذكروها لا تختص بمحرِم دوم محرم، فالنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل التأثير فى الحِل وعدمه للهَدْى وجوداً وعدماً لا لغيره.
الرابع: أن يقال: إذا كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصَد مخالفَة المشركين، كان هذا دليلاً على أن الفسخَ أفضلُ لهذه العِلَّة، لأنه إذا كان إنما أمرهم بذلك لمخالفة المشركين، كان يكونُ دليلاً على أن الفسخ يبقى مشروعاً إلى يوم القيامة، إما وجوباً وإما استحباباً، فإن ما فعله النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشرعه لأُمته فى المناسك مخالفةً لهَدْى المشركين، هو مشروع إلى يوم القيامة، إما وجوباً أو استحباباً، فإن المشركين كانوا يُفِيضُون من عرفةَ قبل غروب الشمس، وكانوا لا يُفيضون من مزدلفة حتى تَطْلُع الشمسُ، وكانوا يقولون: أشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرَ، فخالفهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال : "خَالَفَ هَدْيُنا هدْىَ المُشْرِكِين، فَلَمْ نُفِضْ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ".
وهذه المخالفة، إما ركن، كقول مالك، وإما واجبٌ يَجبرُه دم، كقول أحمد، وأبى حنيفة، والشافعى فى أحد القولين، وإما سُّنَّة، كالقول الآخر له.
والإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس سُّنَّة باتفاق المسلمين، وكذلك قريشٌ كانت لا تَقفُ بعرفة، بل تفيض من جَمْع، فخالفهم النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووقف بعرفاتٍ، وأفاضَ منها، وفى ذلك نزل قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا
مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، وهذه المخالفة من أركانِ الحجِّ باتفاق المسلمين، فالأمُور التى نُخَالِفُ فيها المشركين هى الواجبُ أو المستحبُّ، ليس فيها مكروه، فكيف يكون فيها مُحرَّم ؟ وكيف يُقال: إن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أصحابه بِنُسُكٍ يُخالِفُ نُسُك َ المشركين، مع كون الذى نهاهم عنه، أفضلَ مِن الذى أمرهم به ؟ أو يقال: مَنْ حجَّ كما حج المشركون فلم يتمتع، فحجُّه أفضلُ مِن حجِّ السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار، بأمرِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الخامس: أنه قد ثبت فى "الصحيحين" عنه، أنه قال: "دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلى يَوْم القِيامَة". وقيل له: عُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هََذَا، أم لِلأبَدِ ؟ فَقَالَ: "لا، بَلْ لأَبدِ الأَبَدِ، دَخَلَت العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلى يَوْم القِيامَة".
وكان سؤالهم عن عُمْرة الفسخ، كما جاء صريحاً فى حديث جابر الطويل. قال: حتى إذا كان آخرُ طوافه عَلَى المروَةِ، قال: "لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ، لَمْ أَسُق الهَدْىَ، ولَجَعَلْتُها عُمْرَةً، فمَنْ كَانَ مِنْكُم لَيْسَ مَعَهُ هَدْى، فَلْيُحِلَّ، وَلْيَجْعَلْها عُمْرَةً"، فقامَ سُراقة بنُ مالك فقال: يا رسول الله ؛ ألعامنا هذا، أم للأبد ؟ فشبَّكَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصابِعَه واحِدَةً فى الأخرى، وقال: "دَخَلَتِ العُمْرَة فى الحَجِّ مَرَّتيْن، لا بَلْ لأَبَدِ الأَبَد".
وفى لفظ: قَدِمَ رسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صبح رابِعةٍ مَضَتْ مِن ذى الحِجة، فأمرنا أن نحلَّ، فقلنا: لما لم يكن بيننا وبين عرفةَ إلا خَمْسٌ أَمَرَنَا أنْ نُفْضِىَ إلى نِسَائِنا، فَنَأْتىَ عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا المَنِىَّ.. فذكر الحديثَ. وفيه: فقال سُراقة بنُ مالك: لِعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال: "لأبد".
وفى "صحيح البخارى" عنه: أن سُراقة قال للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألَكُمْ خَاصَةً هَذِهِ يَا رَسُولَ الله ؟ قَالَ: "بل لِلأَبَدِ" فبيَّن رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن تلك العُمرة التى فسخ مَن فسخ منهم حجّه إليها لِلأبد، وأن العُمرة دخلت فى الحجِّ إلى يومِ القيامة. وهذا يُبيِّن أن عمرة التمتع بعضُ الحج.
وقد اعترض بعضُ الناس على الاستدلال بقوله: "بَلْ لأبَدِ الأَبَدِ" باعتراضين، أحدهما: أن المراد، أن سقوطَ الفرض بها لا يختصُّ بذلك العام، بل يُسقِطُه إلى الأبد، وهذا الاعتراضُ باطل، فإنه لو أراد ذلك لم يَقُلْ: للأبد، فإن الأبد لا يكون فى حق طائفة معيَّنة، بل إنما يكون لجميع المسلمين، ولأنه قال: "دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلَى يَوْم القِيَامَةِ"، ولأنهم لو أرادوا بذلك السؤالَ عن تكرار الوجوب، لما اقتصروا على العُمرة، بل كان السؤالُ عن الحج، ولأنهم قالوا له: "عُمرتنا هذه لِعامِنَا هَذَا، أم لِلأَبَدِ" ؟ ولو أرادوا تكرار وجوبها كُلَّ عام، لقالُوا له، كما قالوا له فى الحج: أكلَّ عام يا رسولَ اللهِ ؟ ولأجابهم بما أجابهم به فى الحجِّ بقوله: "ذَرُونى مَا تَرَكْتُكُم، لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ". ولأنهم قالوا له: هذه لكم خاصة. فقال: "بَلْ لأَبَدِ الأبَد". فهذا السؤال والجواب، صريحان فى عدم الاختصاص.
الثانى: قوله: إن ذلك إنما يُريد به جوازَ الاعتمار فى أشهرِ الحجِّ، وهذا الاعتراضُ أبطلُ مِن الذى قبله، فإن السائلَ إنما سأل النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه عن المُتعة التى هى فَسخُ الحجِّ، لا عن جواز العُمرة فى أشهرِ الحجِّ، لأنه إنما سأله عَقِبَ أمره مَن لا هَدْىَ معه بفسخ الحجِّ، فقال له سراقةُ حينئذ:
هذا لِعامِنَا، أم للأبد ؟ فأجابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نفس ما سأله عنه، لا عمَّا لم يسأله عنه. وفى قوله: "دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ"، عقب أمره مَن لا هَدْى معه بالإحلال، بيانٌ جلىٌ أن ذلك مستمِر إلى يومِ القِيامَة، فبطل دعوى الخُصوص.. وبالله التوفيق.
السادس: أن هذه العِلَّة التى ذكرتموها، ليست فى الحديثِ، ولا فيه إشارةٌ إليها، فإن كانت باطلةً، بطل اعتراضُكم بها، وإنْ كانت صحيحةً، فإنها لا تلزم الاختصاص بالصحابة بوجه مِن الوجوه، بل إن صحَّتْ اقتضت دوامَ معلولها واستمراره، كما أن الرَّمَلَ شُرِعَ لِيُرِىَ المشركينَ قوَّتَه وقوَّةَ أصحابه، واستمرت مشروعيتُه إلى يوم القيامة، فبطل الاحتجاجُ بتلك العِلَّة على الاختصاص بهم على كل تقدير.
السابع: أنَّ الصحابَةَ رضى الله عنهم، إذا لم يكتفوا بالعلم بجواز العُمرة فى أشهر الحجِّ على فعلهم لها معه ثلاثةَ أعوام، ولا بإذنه لهم فيها عند الميقات حتى أمرهم بفسخ الحجِّ إلى العُمرة، فَمَنْ بعدهم أحرى أن لا يَكْتَفىَ بذلك حتى يَفْسَخَ الحجَّ إلى العُمرة، اتِّباعاً لأمر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واقتداءً بأصحابه، إلا أن يقولَ قائل: إنَّا نحن نكتفى من ذلك بدون ما اكتفى به الصحابَة، ولا نحتاج فى الجواز إلى ما احتاجوا هم إليه، وهذا جهلٌ نعوذُ بالله منه.
الثامن: أنه لا يُظَنُّ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن يأمر أصحابَه بالفسخ الذى هو حرام، لِيعلِّمهم بذلك مباحاً يُمكن تعليمُه بغير ارتكاب هذا المحظور، وبأسهل منه بياناً، وأوضح دلالةً، وأقل كلفةً.
فإن قيل: لم يكن الفسخ حين أمرهم به حراماً. قيل: فهو إذاً إما واجب أو مستحَب. وقد قال بكل واحد منهما طائفة، فمَن الذى حرَّمه
بعد إيجابه أو استحبابه، وأىُّ نص أو إجماع رفع هذا الوجوبَ أو الاستحبابَ، فهذه مطالبة لا محيص عنها.
التاسع: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِى ما اسْتَدْبَرْتُ، لَمَا سُقْتُ الهَدْىَ، ولَجَعَلْتُها عُمْرَةً"، أفترى تجدَّد له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذلك العلم بجواز العمرة فى أشهر الحج، حتى تأسَّف على فواتها ؟ هذا من أعظم المحال.
العاشر: أنه أمر بالفسخ إلى العُمرة، مَن كان أفرد، ومَنْ قرن، ولم يَسُقِ الهَدْى. ومعلوم: أن القارن قد اعتمر فى أشهر الحج مع حجته، فكيف يأمره بفسخِ قِرانه إلى عُمرة ليبيِّن له جواز العُمرة فى أشهر الحج، وقد أتى بها، وضم إليها الحج ؟
الحادى عشر: أن فسخ الحجِّ إلى العُمرة، موافق لقياس الأصول، لا مخالف له. ولو لم يرد به النصُّ، لكان القياسُ يقتضى جوازه، فجاء النصُّ به على وفق القياس، قاله شيخ الإسلام، وقرره بأن المحرِم إذا التزم أكثرَ مما كان لزمه، جاز باتفاق الأئمة. فلو أحرم بالعُمرة، ثم أدخل عليها الحج، جاز بلا نزاع، وإذا أحرم بالحجِّ، ثم أدخل عليه العُمرة، لم يجز عند الجمهور، وهو مذهب مالك، وأحمد، والشافعى فى ظاهر مذهبه، وأبو حنيفة يُجوِّز ذلك، بناءً على أصله فى أن القارن يطوف طوافين، ويسعى سعيين. قال: وهذا قياس الرواية المحكيَّةِ عن أحمد فى القارن: أنه يطوفُ طوافين، ويسعى سعيين. وإذا كان كذلك، فالمحرِمُ بالحج لم يلتزم إلا الحج. فإذا صار متمتعاً، صار ملتزماً لعُمرة وحج، فكان ما التزمه بالفسخ أكثرَ مما كان عليه، فجازَ ذلك. ولما كان أفضلَ، كان مستحباً، وإنما أشكل هذا على مَن ظنَّ أنه
فسخ حجاً إلى عُمرة، وليس كذلك، فإنه لو أراد أن يفسخ الحج إلى عُمرة مفردة، لم يجز بلا نزاع، وإنما الفسخُ جائز لمن كان مِن نِيَّته أن يحج بعد العُمرة، والمتمتع من حين يحرم بالعُمرة فهو داخل فى الحج، كما قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَة". ولهذا، يجوز له أن يصومَ الأيامَ الثلاثةَ مِن حين يُحرِمُ بالعُمرة، فدل على أنه فى تلك الحال فى الحج.
وأما إحرامُه بالحج بعد ذلك، فكما يبدأ الجُنبُ بالوضوء، ثم يغتسِلُ بعده. وكذلك كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل، إذا اغتسل من الجنابة. وقال لِلنسوة فى غسل ابنته: "ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، ومَوَاضِع الوُضُوءِ مِنْهَا ". فغسل مواضع الوضوء بعض الغسل.
فإن قيل: هذا باطل لثلاثة أوجه. أحدها: أنه إذا فسخ، استفاد بالفسخ حِلاً كان ممنوعاً منه بإحرامه الأول، فهو دون ما التزمه.
الثانى: أن النُّسُكَ الَّذى كان قد التزمه أولاً، أكملُ مِن النُّسُكِ الذى فسخ إليه، ولهذا لا يحتاج الأول إلى جُبران، والذى يُفسخ إليه، يحتاج إلى هَدْى جُبراناً له، ونُسُكٌ لا جُبران فيه، أفضلُ من نُسُكٍ مجبور.
الثالث: أنه إذا لَم يَجُزْ إدخالُ العُمرة على الحج، فلأن لا يجوزَ إبدالها به وفسخه إليها بطريق الأَوْلى والأحرى.
فالجواب عن هذه الوجوه، من طريقين، مجمل ومفصَّل. أما المجمل: فهو أن هذه الوجوه اعتراضات على مجرد السُّنَّة، والجواب عنها بالتزام تقديم الوحى على الآراء، وأن كل رأى يُخالف السُّنَّة، فهو باطل قطعاً، وبيان بطلانه لمخالفة السُّنَّة الصحيحة الصريحة له، والآراء
تبع للسُّنَّة، وليست السُّنَّة تبعاً للآراء.
وأما المفصَّل: وهو الذى نحن بصدده، فإنَّا التزمنا أن الفسخَ على وفق القياس، فلا بد من الوفاء بهذا الالتزام، وعلى هذا فالوجه الأول جوابه: بأن التمتع وإن تَخلَّله التحلل فهو أفضل من الإفراد الذى لا حِلَّ فيه، لأمر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَن لا هَدْى معه بالإحرام به، ولأمره أصحابه بفسخ الحجِّ إليه، ولتمنِّيه أنه كان أحرم به، ولأنه النُّسكُ المنصوصُ عليه، فى كتاب الله، ولأن الأُمَّة أجمعت على جوازه، بل على استحبابه، واختلفُوا فى غيره على قولين، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَضِبَ حين أمرهم بالفسخ إليه بعدَ الإحرام بالحجِّ، فتوقَّفوا، ولأنه من المُحال قطعاً أن تكون حَجَّة قطُّ أفضلَ من حَجَّة خيرِ القرون، وأفضل العالمين مع نبيِّهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد أمرهم كُلَّهم بأن يجعلوها متعة إلا مَنْ ساق الهَدْى، فمن المحال أن يكون غيرُ هذا الحج أفضلَ منه، إلا حَجَّ من قرن وساق الهَدْى، كما اختاره اللهُ سبحانه لنبيِّه، فهذا هو الذى اختاره الله لنبيِّه، واختار لأصحابه التمتعَ، فأىُّ حجٍّ أفضلُ من هذين. ولأنه من المحال أن ينقُلَهم من النُّسُكِ الفاضِل إلى المفضول المرجوحِ، ولوجوه أُخَر كثيرة ليس هذا موضِعَها، فرجحان هذا النُّسُكِ أفضلُ من البقاء على الإحرام الذى يفوته بالفسخ، وقد تبين بهذا بطلانُ الوجه الثانى.
وأما قولُكم: إنه نُسُك مجبور بالهَدْى، فكلام باطل من وجوه.
أحدها: أن الهَدْىَ فى التمتع عبادة مقصودة، وهو مِن تمام النُسُك، وهو دم شُكران لا دم جُبران، وهو بمنزلة الأُضحية للمقيم، وهو من تمام عبادة هذا اليوم، فالنُّسُكُ المشتمِل على الدم، بمنزلة العيد المشتمل على الأضحية، فإنه ما تُقُرِّبَ إلى الله فى ذلك اليوم، بمثل إراقة دم سائل.
وقد روى الترمذى وغيره، من حديث أبى بكر الصِّدِّيق، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل: أىُّ الحجِّ أَفْضَلُ ؟ فقال: "العَجُّ والثَّجُّ". والعجُّ رفعُ الصوت بالتلبية، والثَّجُّ: إراقةُ دم الهَدْى. فإن قيل: يُمكِنُ المفردُ أن يُحصِّلَ هذه الفضيلة. قيل: مشروعيتها إنما جاءت فى حق القارِن والمتمتِّع، وعلى تقدير استحبابها فى حقه، فأين ثوابُها من ثواب هَدْى المتمتع والقارن ؟
الوجه الثانى: أنه لو كان دمَ جُبران، لما جاز الأكلُ منه، وقد ثبت عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أكلَ مِن هَدْيه، فإنه أَمَرَ مِن كل بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ فى قِدْرِ، فأكلَ مِن لحمها، وشَرِبَ مِن مَرَقِهَا، وإن كان الواجبُ عليه سُبْعَ بدنة، فإنَّه أكَلَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةِ مِنَ المِائة، والواجبُ فيها مُشاعٌ لم يتعيَّن بقسمة، وأيضاً: فإنه قد ثبت فى "الصحيحين": أنه أطعَم نِسَاءَه مِنَ الهَدْى الَّذِى ذَبحَهُ عَنْهُنَّ وَكُنَّ مُتَمَتِّعَاتٍ، احتج به الإمام أحمد، فثبت فى "الصحيحين" عن عائشة رضى الله عنها، أنَّه أهدى عَنْ نسائه، ثم أرْسَلَ إليهنَّ مِن الهَدْى الذى ذَبَحَهُ عَنْهُنَّ، وأيضاً: فإن سبحانه وتعالى
قال فيما يُذبح بمِنَى مِنَ الهَدِى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} [الحج: 28]، وهذا يتناولُ هَدْىَ التمتع والقِران قطعاً إن لم يختصَّ به، فإن المشروعَ هناك ذبحُ هَدْى المُتعة والقِران. ومن هاهنا واللهُ أعلمُ أمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ، فُجعِلَتْ فى قِدر امتثالاً لأمر ربه بالأكل لِيَعُمَّ به جميع هَدْيه.
الوجه الثالث: أن سبب الجُبران محظورٌ فى الأصل، فلا يجوز الإقدامُ عليه إلا لعذر، فإنه إما تركُ واجب، أو فعلُ محظور، والتمتُع مأمور به، إما أمر إيجاب عند طائفة كابن عباس وغيره، أو أمر استحباب عند الأكثرين، فلو كان دَمُهُ دَمَ جُبران. لم يَجُزِ الإقدامُ على سببه بغير عذر، فبطل قولُهم: إنه دمجُبران، وعُلِم أنه دم نُسُك، وهذا وسَّعَ الله به على عباده، وأباح لهم بسببه التحلل فى أثناء الإحرام لما فى استمرار الإحرام عليهم من المشقة، فهو بمنزلة القصر والفِطر فى السفر، وبمنزلة المسح على الخُفَّين، وكان من هَدْى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهَدْى أصحابه فعلُ هذا وهذا، "واللهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ، كَما يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيتُهُ" فمحبتُه لأخذ العبد بما يَسَّرَه عليه وسهَّله له، مثلُ كراهته منه لارتكاب ما حرَّمه عليه ومنعه منه، والهَدْىُ وإن كان بدلاً عن ترفُّهه بسقُوط أحد السفرين، فهو أفضلُ لمن قدم فى أشهر الحج من أن يأتىَ بحجٍّ مفرد ويعتمِر عقيبه، والبدل قد يكون واجباً كالجمعة عند مَن جعلها بدلاً، وكالتيمم للعاجز عن استعمال الماء، فإنه واجب عليه وهو بدل، فإذا كان البدلُ قد يكون واجباً، فكونه مستحَباً أولى بالجواز، وتخلل التحلُّلِ لا يمنع أن يكون الجميعُ عبادة واحدة كطواف الإفاضة، فإنه ركن بالاتفاق، ولا يُفعل
إلا بعد التحلُّل الأول، وكذلك رمىُ الجمار أيام مِنَى، وهو يُفعل بعد الحِلِّ التام، وصومُ رمضان يتخلَّله الفطرُ فى لياليه، ولا يمنع ذلك أن يكون عبادةً واحدة، ولهذا قال مالك وغيره: إنه يجزئ بِنِيَّة واحدة للشهر كله، لأنه عبادة واحدة... والله أعلم.
فصل
وأما قولُكم: إذا لم يجز إدخالُ العُمرة على الحجِّ، فلأن لا يجوزَ فسخُه إليها أولى وأحرى، فنسمع جَعَجَعَةً ولا نرى طِحناً. وما وجهُ التلازُم بين الأمرين، وما الدليلُ على هذه الدعوى التى ليس بأيديكم برهانٌ عليها؟ ثم القائلُ بهذا إن كان مِن أصحاب أبى حنيفة رحمه الله، فهو غيرُ معترف بفساد هذا القياس. وإن كان من غيرهم، طولب بصحة قياسه فلا يجد إليه سبيلاً، ثم يُقال: مُدْخِلُ العُمرة قد نقص مما كان التزمه، فإنه كان يطوفُ طوافاً للحجِّ، ثم طوافاً آخر للعمرة. فإذا قرن، كفاه طوافٌ واحد وسعىٌ واحد بالسُّنَّة الصحيحة، وهو قول الجمهور، وقد نقص مما كان يلتزمه. وأما الفاسخ، فإنه لم ينقُضْ مما التزمه، بل نقل نُسُكه إلى ما هو أكملُ منه، وأفضلُ، وأكثر واجبات، فبطل القياسُ على كل تقدير، وللّه الحمد.
فصل
عُدنا إلى سِياق حَجَّته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثمَّ نهض صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أن نزل بذى طُوى وهى المعروفة الآن بآبار الزاهر، فبات بها ليلةَ الأحد لأربع خَلَوْنَ من
ذى الحِجة، وصلَّى بها الصُّبح، ثم اغتسلَ مِنْ يومه، ونهض إلِى مكة، فدخلها نهاراً مِن أعلاها مِن الثنيَّة العُليا التى تُشْرِفُ على الحَجُونِ، وكان فى العُمرة يدخل من أسفلها، وفى الحج دخل من أعلاها، وخرج مِن أسفلها، ثم سار حتى دخلَ المسجد وذلك ضحىً.
وذكر الطبرانى، أنه دخلَه من بابِ بنى عبد مناف الذى يُسمِّيه الناسُ اليومَ بابَ بنى شيبة.
وذكر الإمام أحمد: أنه كان إذا دخل مكاناً من دار يعلى، استقبل البيت فدعا.
وذكر الطبرانى: أنه كان إذا نظر إلى البيت، قال: "اللهُمَّ زدْ بَيْتَكَ هَذَا تَشْريفاً وَتَعْظِيماً وَتَكْريماً وَمَهَابَةً". وروى عنه، أنه كان عند رؤيته يرفعُ يديه، ويُكبِّر ويقُول: "اللهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ ومِنْكَ السَّلامُ حَيِّنا رَبَّنا بالسَّلام، اللهُمَّ زِدْ هَذا البَيْتَ تَشْرِيفاً وَتَعْظِيماً وَتَكْرِيماً وَمَهَابَةً، وزِدْ مَنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَكْريماً وتَشْريفاً وتَعْظيماً وبِرَّاً" وهو مرسل، ولكن سمع هذا سعيدُ بن المسِّيب من عُمَرَ بنِ الخطَّاب رضى الله عنه يقوله.
فلما دخل المسجد، عَمَدَ إلى البيت ولم يركع تحيةَ المسجد، فإنَّ تحيةَ المسجدِ الحرام الطَّوافُ، فلما حاذى الحجَر الأسود، استلمه ولم يُزاحِمْ عليه، ولم يتقدّم عنه إلى جهة الرُّكن اليمانى، ولم يرفع يديه، ولَم يَقُلْ: نويتُ بطوافى هذا الأسبوع كذا وكذا، ولا افتتحه بالتَّكْبير كما يفعله مَن لا علم عنده، بل هو مِن البِدَع المُنكرات، ولا حاذى الحَجَرَ الأسود بجميع بدنه ثم انفتل عنه وجَعله على شِقه، بل استقبلَه واستلمه، ثم أخذ عن يمينه، وجعل البيتَ عن يساره، ولم يدعُ عند الباب بدُعاء، ولا تحت الميزاب، ولا عِند ظهر الكعبة وأركانها ولا وقَّتَ لِلطَّوَافِ ذِكراً معيناً، لا بفعله، ولا بتعليمِه، بل حُفِظَ عنه بين الركنين: {رَبَّنَا آتِنَا فى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار} [البقرة: 201] ورمَل فى طوافه هَذَا الثلاثة الأشواط الأول، وكان يُسرع فى مشيه، ويُقارِبُ بين خُطاه، واضطبع بردائه فجعل طرفيه على أحد كتفيه، وأبدى كتفه الأخرى ومنكبه، وكلما حاذى الحجر الأسود، أشار إليه أو استلمه بمحجنه، وقبّل المحجن، والمحجنُ عصا محنيَّة الرأس. وثبت عنه، أنه استلم الركن اليمانى. ولم يثبتْ عنه أنه قبَّله، ولا قبَّل يده عند استلامه، وقد روى الدارقطنى، عن ابن عباس: "كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقبِّلُ الركن اليمانى، ويضع خده عليه"، وفيه عبد الله بن مسلم بن هُرمز، قال الإمام أحمد:
صالحُ الحديثِ وضعَّفه غيره. ولكن المرادَ بالرُّكن اليمانِى ههنا، الحجرُ الأسود، فإنه يُسمَّى الركنَ اليمانى ويُقالُ له مع الركن الآخر: اليمانيان، ويقال له مع الركن الذى يلى الحِجر من ناحية الباب: العراقيان، ويقال للرُّكنين اللذين يليان الحِجر: الشاميان. ويقال للركن اليمانى، والذى يلى الحِجر مِن ظهر الكعبة: الغربيان، ولكن ثبت عنه، أنه قبَّل الحجر الأسود. وثبت عنه، أنه استلمه بيده، فوضع يده عليه، ثم قبَّلها، وثبت عنه، أنه استلمه بمحجن، فهذه ثلاث صفات، وروى عنه أيضاً، أنه وضع شفتيه عليه طويلاً يبكى.
وذكر الطبرانى عنه بإسناد جيد: أنه كان إذا استلم الرُّكن اليمانى، قال: "بسْم الله والله أكْبَر".
وكان كلما أتى على الحجر الأسود قال: "اللهُ أكبَر".
وذكر أبو داود الطيالسى، وأبو عاصم النبيل، عن جعفَر بن عبد الله بن عثمان قال: "رأيتُ محمد بن عباد بن جعفر قَبَّلَ الحَجَرَ وسَجَدَ عليه، ثُمَّ قال: رأيتُ ابنَ عباس يُقبِّلُه ويسجُد عليه، وقال ابن عبَّاس: رأيتُ عمر بن الخطاب قبَّلَه وسجَدَ عليه. ثم قال: رأيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل هكذا ففعلتُ".
وروى البيهقىُّ عن ابن عباس: "أنه قبَّل الرُكن اليمانى، ثم سَجَدَ عليه، ثم قبَّله، ثم سَجَدَ عليه ثلاثَ مرات".
وذكر أيضاً عنه، قال: "رأيتُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجد على الحَجَر".
ولم يستلِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يَمَسَّ مِن الأركان إلا اليمانيين فقط. قال الشافعى رحمه الله: ولم يَدَعْ أحدٌ استلاَمَهما هِجرة لبيتِ الله، ولكن اسْتَلَم ما استَلَمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَمْسَكَ عَمَّا أَمْسَكَ عَنْهُ.
فصل
فلما فرغ مِن طوافه، جاء إلى خلفِ المقام، فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلى} [البقرة: 125]، فصلَّى ركعتين، والمَقَامُ بينه وبينَ البيت، قرأ فيهما بعد الفاتحة بسورتى الإخلاص وقراءته الآية المذكورة بيانٌ منه لتفسير القرآن، ومراد الله منه بفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما فرغ من صَلاته، أقبل إلى الحجر الأسودِ، فاستلمه.
ثم خرج إلى الصَّفا مِن الباب الذى يقابله، فلما قَرُب منه. قرأ: "{إنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ الله} [البقرة: 158] أبدأ بما بدأ الله به"، وفى رواية النسائى: "ابدؤوا"، بصيغة الأمر. ثم رَقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبلَ القِبلة، فوحَّدَ الله
وكبَّره، وقال. "لا إله إلا اللهُ وحْدَهُ لا شَريكَ لَه، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شئٍ قدير، لا إله إلاَّ اللهُ وحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَه، وهَزَمَ الأحْزَابَ وحْدَه". ثم دعا بين ذلك، وقال مِثلَ هذا ثلاثَ مرات.
وقام ابنُ مسعود على الصَّدْع، وهو الشِّقُّ الذى فى الصَّفا. فقيل له: "هاهنا يا أبَا عبد الرحمن؟ قال: هَذَا والَّذِى لا إلَه غَيْرُه مَقَامُ الذى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سورةُ البقرة" ذكره البيهقى.
ثم نزل إلى المروة يمشى، فلما انصبَّت قدماه فى بطن الوادى، سعى حتَّى إذا جاوز الوادى وأَصْعَد، مشى. هذا الذى صحَّ عنه، وذلك اليوم قبل الميلين الأخضرين فى أول المسعى وآخره. والظاهر: أن الوادى لم يتغير عن وضعه، هكذا قال جابر عنه فى "صحيح مسلم". وظاهر هذا: أنه كان ماشياً، وقد روى مسلم فى "صحيحه" عن أبى الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقولُ: طافَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّةِ الوَدَاع على رَاحِلَتِه بالبَيْتِ، وبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ لِيَراهُ النَّاسُ وَلِيُشْرِفَ ولِيَسْألُوه فَإن النَّاسَ قد غشوْه، وروى مسلم عن أبى الزبير عن جابر: "لم يطف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أصحابُه بين الصَّفَا والمروة إلا طَوَافاً واحِداً طوافه الأول".
قال ابنُ حزم: لا تعارُض بينهما، لأن الراكب إذا انصبَّ به بعيرُه، فقد انصبَّ كُلُّه، وانصبَّتْ قدماه أيضاً مع سائر جسده.
وعندى فى الجمع بينهما وجه آخر أحسنُ مِن هذا، وهو أنه سَعَى ماشياً أولاً، ثم أتمَّ سعيَه راكباً، وقد جاء ذلك مصرَّحاً به، ففى صحيح "مسلم": عن أبى الطُّفيل، قال: "قلت لابن عباس: أخبرنى عن الطَّوافِ بين الصَّفَا والمروةِ راكباً، أسُّنَّة هو؟ فإن قومَك يزعمُون أنه سُّنة. قال: صدقُوا وكذبُوا قال: قُلْتُ: ما قَوْلُك صَدقُوا وكذبُوا؟ قال: إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثُرَ عَلَيْه النَّاسُ، يَقُولُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ، هَذَا مُحَمَّدٌ، حَتَى خَرَجَ العَوَاتِقُ مِنَ البُيُوتِ. قال: وكانَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُضْرَبُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: فَلَما كَثُرَ عَلَيْهِ، رَكِبَ، والمشىُ والسَّعى أفضلُ".
فصل
وأما طوافُه بالبيت عند قدومه، فاختُلِفَ فيه، هل كان على قدميه، أو كان راكباً؟ ففى "صحيح مسلم": عن عائشة رضى الله عنها، قالت: "طافَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجَّةِ الوَدَاع حَوْلَ الكعبة على بعيره يستلِمُ الرُّكْنَ كراهية أن يُضْرَبَ عنْه الناسُ".
وفى "سنن أبى داود": عن ابن عباس، قال: "قَدِمَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة وهو يَشْتَكِى، فَطافَ على راحلِته، كلَّمَا أتى على الرُّكْنِ، استلمه بمِحْجَنٍ، فلما فَرَغَ مِن طوافه، أناخ، فصلَّى ركعتين. قال أبو الطفيل: رأيتُ النبى ر
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطوفُ حولَ البيتِ على بعيره، يَسْتَلِمُ الحجر بمِحْجنِه، ثم يقبِّله". رواه مسلم دون ذِكر البعير. وهو عند البيهقى، بإسناد مسلم بِذِكْرِ البَعيرِ. وهذا واللهُ أعلم فى طواف الإفاضة، لا فى طوافِ القُدوم، فإن جابراً حكى عنه الرملَ فى الثلاثة الأُوَل، وذلك لا يكون إلا مع المشى.
قال الشافعى رحمه الله: أما سُبعه الذى طافه لمقدَمِه، فعلى قدميه، لأن جابراً حكى عنه فيه، أنه رمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعة، فلا يجوز أن يكون جابرٌ يحكى عنه الطواف ماشياً وراكباً فى سُبعٍ واحد. وقد حفظ أن سُبعه الذى ركب فيه فى طوافه يومَ النحر، ثم ذكر الشافعى: عن ابن عُيينة، عن ابن طاووس، عن أبيه، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمَرَ أصحابَه أن يُهَجِّروا بالإفاضة، وأفاض فى نسائه ليلاً على راحلته يستلم الرُّكن بِمحْجَنِهِ، أحسِبه قال: فيقبِّل طرف المحجن.
قلت: هذا مع أنه مرسل، فهو خلاف ما رواه جابر عنه فى "الصحيح" أنه طاف طوافَ الإفاضة يوم النحر نهاراً، وكذلك روت عائشة وابنُ عمر، كما سيأتى وقول ابن عباس: إن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم مكة وهو يشتكى، فطاف على راحلته، كلما أتى الركن استلمه. هذا إن كان محفوظاً، فهو فى إحدى عُمَره، وإلا فقد صح عنه الرمل فى الثلاثة الأُوَل من طواف القدوم، إلا أن يقول كما قال ابن حزم فى السعى: إنه رمل على بعيره، فإن مَن رمل على بعيره، فقد رمل، لكن ليس فى شئ من الأحاديثِ أنه كان راكباً فى طواف القدوم. والله أعلم.
فصل
وقال ابن حزم: وطاف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الصفا والمروة أيضاً سبعاً، راكباً على بعيره يَخُبُّ ثلاثاً، ويمشى أربعاً، وهذا مِن أوهامه وغلطه رحمه الله، فإن أحداً لم يقُلْ هذا قطُّ غيره، ولا رواه أحد عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البتة. وهذا إنما هو فى الطواف بالبيت، فغلِط أبو محمد، ونقله إلى الطواف بين الصفا والمروة. وأعجبُ من ذلك، استدلالُه عليه بما رواه من طريق البخارى، عن ابن عمر، "أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طافَ حينَ قَدِم مكة، واستلم الركنَ أوَّل شئ، ثم خَبَّ ثلاثةَ أطواف، ومشى أربعاً، فركع حين قَضَى طوافَه بالبيت، وصلَّى عند المَقَام رَكعتين، ثم سلَّم فانصرف، فأتى الصَّفا، فطاف بالصَّفا والمروةِ سبعة أشواط..." وذكر باقى الحديث. قال: ولم نجد عدد الرَّمَل بين الصَّفا والمروة منصوصاً، ولكنه متفق عليه. هذا لفظه.
قلت: المتفقُ عليه: السعىُ فى بطن الوادى فى الأشواط كلِّها. وأما الرَّمَلُ فى الثلاثة الأُوَل خاصَّة، فلم يقُله، ولا نقله فيما نعلمُ غيرُه. وسألت شيخنا عنه، فقال: هذا مِن أغلاطه، وهو لم يحجَّ رحمه الله تعالى.
ويشبه هذا الغلطَ، غلطُ مَن قال: إنه سعى أربَع عشرةَ مرة، وكان يحتسِبُ بذهابه ورجوعِه مرة واحدة. وهذا غلط عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم ينقله عنه أحد، ولا قاله أحدٌ من الأئمة الذين اشتهرت أقوالُهم، وإن ذهب إليه بعضُ المتأخرين من المنتسبين إلى الأئمة. ومما يبين بُطلان هذا القول، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا خلاف عنه، أنه ختم سعيه بالمروة، ولو كان الذهابُ والرجوعُ مرة واحدة، لكان ختمُه إنما يقع على الصَّفا.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا وصل إلى المروة، رَقِىَ عليها، واستقبل البيتَ، وكبَّر اللهَ ووحَّده، وفعل كما فعل على الصَّفا، فلما أكمل سعيه عند المروة، أمرَ كُلَّ مَن لا هَدْى معه أن يَحِلَّ حتماً ولا بُدَّ، قارناً كان أو مفرداً، وأمرهم أن يَحِلُّوا الحِلَّ كُلَّهُ مِن وَطْءِ النِّساء، والطِّيب، ولُبس المخيط، وأن يبقوا كذلك إلى يوم التَّرْوِيَةِ، ولم يَحِلَّ هو مِن أجلِ هَدْيه. وهناك قال: "لو اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرى ما اسْتَدْبَرْتُ لما سُقْتُ الهَدْىَ، وَلَجعَلْتُها عُمْرَةً".
وقد روى أنه أحلَّ هو أيضاً، وهو غلط قطعاً، قد بينَّاه فيما تقدم.
وهُناك دعا للمحلِّقين بالمغفرة ثلاثاً، وللمقصِّرين مرة. وهناك سأله سراقةُ بن مالك بن جُعْشُم عقيبَ أمره لهم بالفسخ والإحلال: هل ذلك لِعامِهم خاصة، أم للأبد؟ فقال: "بَلْ لِلأبد". ولم يَحِلَّ أبو بكر، ولا عُمر، ولا علىٌّ، ولا طلحةُ، ولا الزبيرُ من أجل الهَدْى.
وأما نساؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأحللن، وكُنَّ قارنات، إلا عائشة فإنها لم تَحِلَّ من أجل تعذُّرِ الحل عليها لحيضها، وفاطمة حلَّت، لأنها لم يكن معها هَدْى، وعلىّ رضى الله عنه لم يَحِلَّ مِن أجل هَدْيه، وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَن أهل بإهلالِ كإهلاله أن يُقيم على إحرامه إن كان معه هَدْى، وأن يَحِلَّ إن لم يكن معه هَدْى.
وكان يُصلِّى مدة مُقَامه بمكة إلى يوم التروية بمنزله الذى هو نازِل فيه بالمسلمين بظَاهِر مكَّة، فأقام بظاهرمكة أربعةَ أيَّام يَقْصُرُ الصَّلاة
يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء، فلما كان يومُ الخميس ضُحىً، توجَّه بمن معه مِن المسلمين إلى مِنَى، فأحرم بالحجِّ مَنْ كان أحلَّ منهم مِن رحالهم، ولم يدخُلُوا إلى المسجد، فأحرمُوا منه، بل أحرمُوا ومكةُ خلفَ ظهورهم، فلما وصل إلى مِنَى، نزل بها، وصلَّى بها الظهرَ والعصرَ، وبات بها، وكان ليلةَ الجمعة، فلما طلعتِ الشمسُ، سار منها إلى عرفة، وأخذ على طريق ضبٍّ على يمين طريق النَّاس اليوم، وكان مِن أصحابه الملبِّى، ومنهم المُكبِّرُ، وهو يسمَعُ ذلك ولا يُنْكِرُ على هؤلاء ولا على هؤلاء، فوجد القُبَّة قد ضُرِبَتْ له بِنَمِرَة بأمره، وهى قرية شرقى عرفات، وهى خرابٌ اليوم، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمسُ، أمر بناقته القَصواء فَرُحِلتْ، ثم سار حتى أتى بَطن الوادى من أرض عُرَنَةَ.
فخطب النَّاسَ وهو على راحِلته خُطبة عظيمة قرَّرَ فيها قواعِد الإسلام، وهَدَمَ فيها قواعِدَ الشِّرْكِ والجاهلية، وقرَّر فيها تحريمَ المحرَّمات التى اتفقت المِللُ على تحريمها، وهى الدِّماءُ، والأموالُ، والأعراض، ووضع فيها أُمورَ الجاهلية تحتَ قدميه، ووضع فيها ربا الجاهلية كُلَّه وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيراً، وذكر الحقَّ الذى لهن والذى عليهن، وأن الواجبَ لهن الرزقُ والكِسوةُ بالمعروف، ولم يُقدِّر ذلك بتقدير، وأباح للأزواج ضربَهن إذا أَدْخَلْن إلى بيوتهن مَنْ يكرهه أزواجُهن، وأوصى الأُمَّة فيها بالاعتصام بكتاب الله، وأخبر أنهم لن يَضِلِّوا ما داموا معتصمين به، ثم أخبرهم أنهم مسؤولون عنه، واستنطقهم: بماذا يقولُون، وبماذا يشهدون، فقالوا: نشهد أنك قد بَلَّغَت وأَدَّيْتَ ونَصَحْتَ، فرفع أُصبعه إلى السماء، واستشهد اللهَ عليهم ثلاثَ
مرات، وأمرهم أن يُبَلِّغ شاهدُهم غائبَهم.
قال ابن حزم: وأرسلت إليه أمُّ الفضل بنت الحارث الهِلالية وهى أمُّ عبد الله بن عباس، بقدح لبن، فشربه أمامَ النَّاس وهو على بعيره فلما أتم الخُطبة، أمر بلالاً فأقام الصلاة، وهذا من وهمه رحمه الله، فإن قِصة شربه اللبن، إنما كانت بعد هذا حين سار إلى عرفة ووقف بها، هكذا جاء فى "الصحيحين" مصرَّحاً به عن ميمونة: "أن الناسَ شَكُّوا فى صِيام النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ عرفة، فأرسلت إليه بحِلاب وهو واقِف فى الموقف، فشرِب منه والناسُ ينظرون". وفى لفظ: "وهو واقف بعرفة".
وموضعُ خُطبته لم يكن من الموقف، فإنه خطب بِعُرَنَة، وليست من الموقف، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزَل بِنَمِرَةَ، وخطب بِعُرَنَة، ووقف بِعَرفَة، وخطب خُطبة واحدة، ولم تكن خطبتين، جلس بينهما، فلما أتمها، أمَرَ بلالاً فأذَّن، ثم أقام الصلاة، فصلَّى الظهر ركعتين أسرَّ فيهما بالقراءة، وكان يومَ الجمعة، فدل على أن المسافِر لا يُصلِّى جمعة، ثم أقام فصلَّى العصر ركعتين أيضاً ومعه أهل مكة، وصلُّوْا بصَلاتِه قصراً وجمعاً بلا ريب، ولم يأمرهم بالإتمام، ولا بترك الجمع، ومَن قال: إنه قال لهم: "أتِمُّوا صَلاتَكُم فإنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ"، فقد غلط فيه غلطاً بيِّناً، ووهم وهما قبيحاً. وإنما قال لهم ذلك فى غزاة الفتح بجوف مكة، حيث كانوا فى ديارهم
مقيمين.
ولهذا كان أصحَّ أقوالِ العلماء: أن أهل مَكّة يَقْصُرُون ويجمعون بعرفة، كما فعلُوا مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفى هذا أوضحُ دليل، على أن سفر القصر لا يتحدَّدُ بمسافةٍ معلومة، ولا بأيام معلومة، ولا تأثير للنُّسُكِ فى قصر الصلاة البتة، وإنما التأثيرُ لما جعله الله سبباً وهو السفرُ، هذا مقتضى السنة، ولا وجه لما ذهب إليه المحددون.
فلما فرغ من صلاته، ركب حتى أتى الموقفَ، فوقف فى ذيل الجبل عند الصَّخَراتِ، واستقبل القِبْلة، وجعل حَبْلَ المُشاة بين يديه، وكان على بعيره، فأخذَ فى الدُّعاء والتضرُّع والابتهال إلى غروب الشمس، وأمر النَّاس أن يرفعُوا عن بطن عُرَنَةَ، وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك، بل قال: "وقَفْتُ هاهنا وعَرَفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ".
وأرسل إلى الناس أن يكونوا على مشاعرهم، ويقفوا بها، فإنها مِن إرث أبيهم إبراهيم وهنالك أقبل ناسٌ من أهل نَجْدٍ، فسألوه عن الحجِّ، فقال: "الحَجُّ عَرَفَةُ، مَن جَاء قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، تَمَّ حَجُّهُ، أيَّامُ مِنَى ثَلاثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فى يَوْمَيْن، فلا إثْمَ عَلَيْهِ، ومَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عليه".
وكان فى دعائه رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين، وأخبرهم أنَّ خَيْرَ الدُّعَاء دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ.
وذكر من دعائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الموقف: "اللهُمَ لَكَ الحَمْدُ كالَّذِى نَقُولُ،
وخَيْراً مِمَّا نقُولُ، اللهُمَّ لَكَ صَلاتى وَنُسُكى، ومَحْيَاىَ، ومَمَاتِى، وَإليكَ مَآبى، ولَكَ ربِّى تُراثى، اللهُمَّ إنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ، وَشَتاتِ الأمْرِ، اللهُمَّ إنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تِجِئ به الرِّيحُ" ذكره الترمذى.
ومما ذُكِرَ مِن دُعائه هناك: "اللهُمَّ تَسْمَعُ كَلامى، وتَرَى مَكَانى، وتَعْلَمُ سرِّى وعَلانيتى، لا يخفى علَيْكَ شَئٌ مِنْ أَمْرى، أَنا البَائسُ الفَقيرُ، المُسْتَغِيثُ المُسْتَجيرُ، وَالوَجلُ المُشفِقُ، المقِرُّ المعترِفُ بِذُنُوبى، أَسْأَلكَ مَسْألةَ المِسْكين، وأبْتَهِلُ إليْكَ ابْتهالَ المُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الخَائِفِ الضرِيرِ، مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وذلَّ جَسَدُهُ، ورَغِمَ أَنْفُهُ لَكَ، اللهُمَّ لا تَجْعلنى بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِياً، وكُن بى رَؤُوفاً رحيماً، يا خيْرَ المَسْؤُولين، ويَا خَيْرَ المُعْطِينَ " ذكره الطبراني.
وذكر الإمام أحمد: من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه قال: كان أكثرُ دُعاءِ النَّبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفة: " لا إله إلاَّ اللهُ وحدَهْ لا شرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحمدُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شئ قَدِير".
وذكر البيهقىُّ من حديث علىّ رضى الله عنه، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أَكْثَرُ دُعائى ودُعاءِ الأَنْبيَاء مِنْ قَبْلى بِعَرَفَةَ: لا إله إلاَّ الله وَحْدَه لا شَرِيكَ لَه، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهُوَ عَلى كُلِّ شَئ قَدِير، اللهُمَّ اجْعَل فى قَلبى نُوراً، وفى صَدْرى نُوراً، وفى سَمْعى نُوراً، وفى بَصَرى نُوراً، اللهُمَّ اشْرَحْ لى صَدْرِى، ويَسِّرْ لى أَمْرى، وأعُوذُ بِكَ مِنْ وَسْواسِ الصَّدْرِ، وشَتَات الأمْر، وفِتْنةِ القَبْرِ، اللهُمَّ إنى أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما يَلِجُ فى اللَّيْل، وشَرِّ ما يَلِجُ فى النَّهارِ، وشَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّياحُ، وشَرِّ بَوائِق الدَّهْر".
وأسانيدُ هذه الأدعية فيها لين.
وهناك أُنزِلَتْ عليه: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3].
وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته وهو محرِم فمات، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُكفَّنَ فى ثَوْبَيْهِ، ولا يُمَسَّ بِطِيبٍ، وأن يُغَسَّل بمَاءٍ وَسِدْرٍ، ولا يُغَطَّى رَأْسُه، ولا وَجْهُهُ، وأَخْبَرَ أَنَّ الله تَعَالَى يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ يُلَبِّى.
وفى هذه القصة اثنا عشر حُكماً.
الأول: وجوبُ غسلِ الميت، لأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به.
الحكم الثانى: أنه لا يَنْجُسُ بالموت، لأنه لو نجس بالموت لم يَزِدْهُ غسلُه إلا نجاسة، لأن نجاسة الموتِ للحيوان عينية، فإن ساعد المنجِّسون على أنه يَطْهُرُ بالغَسل، بطل أن يكون نَجساً بالموت، وإن قالوا: لا يطهُرُ، لم يزد الغسلُ أكفانَه وثيابه وغاسله إلا نجاسة.
الحكم الثالث: أنَّ المشروعَ فى حقِّ الميت، أن يُغسَّل بماءٍ وسِدْرٍ لا يُقتصر به على الماء وحده، وقد أمر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسدر فى ثلاثة مواضع، هذا أحدُها. والثانى: فى غسل ابنته بالماءوالسدر.والثالث: فى غسل الحائض.
وفى وجوب السِّدرِ فى حقِّ الحائِض قولان فى مذهب أحمد.
الحكم الرابع: أنَّ تغيَّر الماء بالطاهرات، لا يسلُبُه طهوريَّتَه، كما هو مذهب الجمهور، وهو أنصُّ الروايتين عن أحمد، وإن كان المتأخِّرون من أصحابه على خلافها. ولم يأمر بغسله بعد ذلك بماءٍ قَراح، بل أمر فى غَسلِ ابنته أن يجعلْنَ فى الغسلة الأخيرة شيئاً من الكافور، ولو سلبه الطَّهورِيَّة، لنهى عنه، وليس القصدُ مجردَ اكتساب المَاء من رائحته حتى يكونَ تغير مجاورة، بل هو تطييب البدنِ وتصليبه وتقويتُه، وهذا إنما يحصُل بكافُور مخالِط لا مجاوِر.
الحكم الخامس: إباحةُ الغسل للمحرم، وقد تناظر فى هذا عبدُ اللهِ بنُ عباس، والمِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَةَ، فَفَصَلَ بينهما أبُو أيوب الأنصارى، بأنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغتسلَ وهو مُحْرِمٌ. واتفقوا على أنه يغتسِل من الجنابة، ولكن كره مالك رحمه الله أن يُغَيِّبَ رأسه فى الماء، لأنه نوع سِتر له، والصحيحُ أنه لا بأس به، فقد فعله عمرُ بن الخطاب وابنُ عباس.
الحكم السادس: أن المحرم غيرُ ممنوع من الماء والسِّدْرِ. وقد اختُلِفَ فى ذلك، فأباحه الشافعىُّ، وأحمد فى أظهر الروايتين عنه، ومنع منه مالك، وأبو حنيفة، وأحمد فى رواية ابنه صالح عنه. قال: فإن فعل، أهدى، وقال صاحبا أبى حنيفة: إن فعل، فعليه صدقة.
وللمانعين ثلاث علل.
إحداها: أنه يقتُل الهَوَامَّ من رأسه، وهو ممنوع من التفلِّى.
الثانية: أنه ترفُّه، وإزالةُ شَعَثٍ يُنافى الإحرام.
الثالثة: أنه يستَلِذُّ رائحتَه، فأشبه الطِّيب، ولا سيما الخطمى.
والعلل الثلاث واهية جداً، والصواب: جوازه للنص، ولم يُحرِّم اللهُ ورسوله على المحرِم إزالة الشَّعَثِ بالاغتسال، ولا قتل القمل، وليس السِّدْرُ من الطيب فى شئ.
الحكم السابع: أن الكفنَ مقدَّم على الميراث، وعلى الدَّيْن، لأن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أن يُكفَّن فى ثوبيه، ولم يسأل عن وارثه، ولا عن
دَيْنٍ عليه، ولو اختلف الحالُ، لسأل.
وكما أن كِسوته فى الحياة مقدَّمة على قضاء دَينه، فكذلك بعد الممات، هذا كلامُ الجمهور، وفيه خلاف شاذ لا يُعَوَّلُ عليه.
الحكم الثامن: جواز الاقتصارِ فى الكفن على ثوبين، وهما إزارٌ ورداء، وهذا قول الجمهور. وقال القاضى أبو يعلى: لا يجوز أقلُّ من ثلاثة أثواب عند القدرة، لأنه لو جاز الاقتصارُ على ثوبين، لم يجز التكفين بالثلاثة لمن له أيتام، والصحيح خلاف قوله، وما ذكرهُ يُنقض بالخشن مع الرفيع.
الحكم التاسع: أن المحرم ممنوعٌ من الطِّيب، لأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يُمَسَّ طيباً، مع شهادته له أنه يُبعث ملبِّياً، وهذا هو الأصل فى منع المحرِم مِن الطِّيب.
وفى "الصحيحين" من حديث ابن عمر: "لا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَاب شَيْئاً مَسَّه وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَان".
وأمر الذى أحرم فى جُبَّة بعد ما تضمَّخَ بالخَلُوق، أن تُنْزَعَ عَنْهُ الجُبَّةُ، ويُغْسَلَ عَنْهُ أَثَرُ الخَلُوقِ. فعلى هذه الأحاديث الثلاثة مدارُ منع المحرِم من الطيب. وأصرحُها هذه القصة، فإن النهى فى الحديثين الأخيرين، إنما هو عن نوع خاصٍّ من الطيب، لا سيما الخَلوقَ، فإن النهى عنه عام فى الإحرام وغيره.
وإذا كان النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نهى أن يُقرب طيباً، أو يمس به، تناول ذلك الرأسَ، والبدن، والثياب، وأما شمُّه من غير مسٍّ، فإنما حرَّمه مَن حرَّمه بالقياس، وإلا فلفظُ النهى لا يتناوله بصريحه، ولا إجماعَ معلومٌ فيه يجب المصير إليه، ولكن تحريمُه من باب تحريم الوسائل، فإنَّ شمه يدعو إلى ملامسته فى البدنِ والثياب، كما يحرم النظر إلى الأجنبية، لأنه وسيلة إلى غيره، وما حَرُمَ تحريم الوسائِل، فإنه يُباح للحاجة، أو المصلحة الرَّاجِحة، كما يُباح النظر إلى الأَمَة المُستَامَةِ، والمخطُوبة، ومن شَهِدَ عليها، أو يعاملها، أو يَطُبُّها. وعلى هذا، فإنما يُمنع المحرمُ مِن قصد شمِّ الطيب للترفُّه واللَّذة، فأما إذا وصلت الرائحةُ إلى أَنفه من غير قصد منه، أو شمَّه قصداً لاستعلامه عند شرائه، لم يُمنع منه، ولم يجب عليه سدُّ أنفه، فالأول: بمنزلة نظر الفجأة، والثانى: بمنزلة نظر المُستام والخاطب، ومما يُوضِّح هذا، أن الذين أباحوا للمحرم استدامَة الطيب قبل الإحرام، منهم مَن صرَّح بإباحة تعمُّد شَمِّه بعد الإحرام، صرَّح بذلك أصحاب أبى حنيفة، فقالوا: فى "جوامع الفقه" لأبى يوسف: لا بأس بأن يشم طيباً تطيَّب به قبل إحرامه، قال صاحب "المفيد": إن الطِّيب يتصلُ به، فيصير تبعاً له ليدفع به أذى التعب بعد إحرامه، فيصير كالسَّحور فى حق الصائم يدفعُ به أذى الجوع والعطش فى الصوم، بخلاف الثوب، فإنه بائن عنه.
وقد اختلف الفقهاء، هل هو ممنوع من استدامته، كما هو ممنوع من ابتدائه، أو يجوز له استدامتُه؟ على قولين. فمذهب الجمهور: جوازُ استدامته اتباعاً لما ثبت بالسُّنَّة الصحيحة عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يتطيَّبُ قَبْلَ إحْرَامِهِ، ثم يُرَى وَبِيصُ الطِّيبِ فى مَفَارِقِه بَعْدَ إحْرَامِه. وفى
لفظ: "وهو يُلبِّى" وفى لفظ: "بَعْدَ ثَلاثٍ". وكل هذا يدفع التأويل الباطلَ الذى تأوَّله مَن قال: إن ذلك كان قبل الإحرام، فلما اغتسل، ذهب أثره. وفى لفظ: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد أن يُحرِمَ، تَطيَّبَ بأَطْيَبِ مَا يَجِدُ، ثم يُرَى وَبِيصُ الطِّيبِ فى رَأْسِهِ وَلِحيَتِهِ بَعْدَ ذلِكَ. وللَّه ما يصنعُ التقليدُ، ونصرة الآراء بأصحابه.
وقال آخرون منهم: إن ذلك كان مختصاً به، ويردُّ هذا أمران، أحدهما: أنَّ دعوى الاختصاص، لا تُسْمَعُ إلا بِدليل.
والثانى: ما رواه أبو داود، عن عائشة، "كنا نخرُجُ مع رسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة، فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بالسُّكِّ المُطَيَّبِ عِنْدَ الإحْرَامِ، فَإذَا عَرِقَتْ إحدَانَا، سَالَ عَلَى وَجْهِهَا، فَيَرَاهُ النَّبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ يَنْهَانَا".
الحكم العاشر: أن المُحرِم ممنوع مِن تغطية رأسه، والمراتبُ فيه ثلاث: ممنوع منه بالاتفاق، وجائزٌ بالاتفاق، ومختلَف فيه، فالأول: كلُّ متصل ملامس يُرادُ لستر الرأس، كالعِمَامَةِ، والقُبَّعَةِ، والطَّاقيةِ، والخُوذَةِ، وغيرها.
والثانى: كالخيمة، والبَيْتِ، والشَّجَرةِ، ونحوها، وقد صحَّ عنِ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه ضُرِبَتْ لَهُ قُبَّةٌ بِنَمِرَةَ وهُوَ مُحْرِمٌ، إلا أن مالكاً منع المحرِم أن يضَعَ ثوبَه على شجرة لِيستَظِلَّ به، وخالفه الأكثرون، ومنع
أصحابُهُ المحرِم أن يَمْشِىَ فى ظِلِّ المَحْمِلِ.
والثالث: كالمَحْمِل، والمَحَارَةِ، والهَوْدَجِ، فيه ثلاثة أقوال: الجواز، وهو قولُ الشافعى وأبى حنيفة رحمهما الله، والثانى: المنع. فإن فعل، افتدى، وهو مذهبُ مالكٍ رحمه الله. والثالث: المنع، فإن فعل، فلا فِديةَ عليه، والثلاثةُ رواياتٌ عن أحمد رحمه الله.
الحكم الحادى عشر: منع المحرم من تغطية وجهه، وقد اختُلِف فى هذه المسألة. فمذهب الشافعى وأحمد فى رواية: إباحته، ومذهب مالك، وأبى حنيفة، وأحمد فى رواية: المنع منه، وبإباحته قال ستة من الصحابة: عثمانُ، وعبدُ الرحمن بن عوف، وزيدُ بن ثابت، والزبيرُ، وسعدُ بن أبى وقاص، وجابرٌ رضى الله عنهم. وفيه قول ثالث شاذ: إن كان حياً، فله تغطية وجهه، وإن كان ميتاً، لم يجز تغطيةُ وجهه، قاله ابنُ حزم، وهو اللائق بظاهريته.
واحتج المبيحون بأقوال هؤلاء الصحابة، وبأصل الإباحة، وبمفهوم قوله: "ولاَ تُخَمِّرُوا رَأسَه" ، وأجابوا عن قوله: "ولا تُخَمِّروا وجهه"، بأن هذه اللفظة غير محفوظة فيه. قال شعبة: حدثنيه أبو بشر، ثم سألتُه عنه بعد عشر سنين، فجاء بالحديث كما كان، إلا أنه قال: "لا تُخَمِّروا رَأْسَهُ، ولاَ وَجْهَه". قالوا: وهذا يدل على ضعفها. قالوا: وقد روى
فى هذا الحديث: "خَمِّرُوا وَجْهَهُ، وَلا تُخَمِّروا رَأْسَهُ".
الحكم الثانى عشر: بقاءُ الإحرامِ بعد الموت، وأنه لا ينقطِعُ به، وهذا مذهبُ عثمانَ، وعلىٍّ، وابن عباس، وغيرهم رضى الله عنهم، وبه قال أحمدُ، والشافعى، وإسحاق، وقال أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعى: ينقطع الإحرامُ بالموت، ويُصنع به كما يُصنع بالحَلال، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاثٍ".
قالوا: ولا دليلَ فى حديث الذى وقصته راحلتُه، لأنه خاص به، كما قالُوا فى صلاته على النَّجَاشِىِّ: إنها مختصة به.
قال الجمهور: دعوى التخصيص على خلاف الأصلِ، فلا تُقبل، وقوله فى الحديث: "فإنَّه يُبْعَثُ يَوْمَ القِيامَةِ مُلبِّياً"، إشارة إلى العِلَّة. فلو كان مختصاً به، لم يُشر إلى العِلَّة، ولا سيما إن قيل: لا يصح التعليلُ بالعِلَّة القاصرة. وقد قال نظير هذا فى شُهداء أُحُد، فقال: "زَمِّلُوهُمْ فى ثيابهِم، بكُلُوُمهم، فإنَّهُم يُبْعَثُونَ يَومَ القيامَةِ اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّم، والرِّيحُ
رِيحُ المِسْكِ". وهذا غيرُ مختص بهم، وهو نظيرُ قوله: "كَفِّنُوهُ فى ثَوْبيهِ، فإنه يُبعث يوم القيامة مُلَبِّياً". ولم تقولوا: إن هذا خاص بشهداء أُحُد فقط، بل عدَّيتم الحكم إلى سائر الشهداء مع إمكان ما ذكرتم من التخصيص فيه. وما الفرق؟ وشهادة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الموضعين واحدة، وأيضاً: فإن هذا الحديث موافق لأصول الشرع والحكمة التى رتب عليها المعاد، فإن العبد يُبعث على ما مات عليه، ومَن مات على حالة بُعِث عليها فلو لم يرد هذا الحديث، لكان أصول الشرع شاهدة به. والله أعلم.
فصل
عدنا إلى سِياق حَجَّته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلما غربت الشمسُ، واستحكم غروبُها بحيثُ ذهبت الصُّفرة، أفاض من عرفة، وأردف أُسامةَ بنَ زيد خلفه، وأفاض بالسكينة، وضمَّ إليه زِمام ناقتِه، حتى إن رأسَها ليُصِيبُ طَرَفَ رَحْلِهِ وهُو يقول: "أَيُّهَا النَّاسُ ؛ عَلَيْكُم السَّكِينَةَ، فإنَّ البِرَّ لَيْسَ بالإيضَاع" . أى: ليس بالإسراع.
وأفاض من طريق المَأزِمَيْنِ، ودخل عَرَفة من طريق ضَبّ،
وهكذا كانت عادته صلواتُ الله عليه وسلامُه فى الأعيادِ، أن يُخالف الطريق، وقد تقدَّم حكمةُ ذلك عند الكلام على هَدْيه فى العيد.
ثم جعل يسيرُ العَنَقَ، وهو ضربٌ من السَّير ليس بالسَّريعِ، ولا البَطئ. فإذا وجد فَجْوةً وهو المتَّسعُ، نَصَّ سيره، أى: رفعه فوق ذلك، وكلما أتى ربوةً من تلك الرُّبى، أرخى للناقة زِمامها قليلاً حتى تصعد.
وكان يُلبِّى فى مسيره ذلك، لم يقطع التلبيةَ. فلما كان فى أثناء الطريق، نزل صلواتُ اللهِ وسلامه عليه، فبال، وتوضأ وضوءاً خفيفاً، فقال له أسامة: الصلاة يا رَسول الله، فقال: "الصلاة - أو المُصَلَّى - أَمَامَك".
ثم سار حتى أتى المزدلفة، فتوضأ وضوء الصَّلاة، ثم أمر بالأذان، فأذَّن المؤذِّنُ، ثم أقام، فَصَلَّى المغربَ قبل حطِّ الرِّحَال، وتبريكِ الجمال، فلما حطُّوا رِحالهم، أمر فأقيمتِ الصَّلاةُ، ثم صلَّى عِشاء الآخِرة بإقامة بلا أذان، ولم يُصلِّ بينهما شيئاً. وقد رُوى: أنه صلاَّهما بأذانين وإقامتين، ورُوى بإقامتين بلا أذان، والصحيح: أنه صلاهما بأذان وإقامتين، كما فعل بعرفة.
ثم نام حتى أصبح، ولم يُحْى تلك الليلة، ولا صحَّ عنه فى إحياء لَيْلتَى العيدين شئ.
"وأَذِنَ فى تلك الليلة لِضعفةِ أهلِه أن يتقدَّمُوا إلى مِنَى قَبْلَ طُلوعِ الفجر، وكانَ ذلك عِند غيبوبةِ القَمَرِ، وأمرهم أن لا يَرْمُوا الجَمْرَةَ حتى تطلُعَ الشَّمسُ" حديث صحيح صححه الترمذى وغيره.
وأما حديثُ عائشةَ رضى الله عنها: "أرسلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأُمِّ سلمةَ ليلةَ النَّحرِ، فرمَتِ الجمرَة قَبْلَ الفَجْرِ، ثم مَضَت، فأفاضَت، وكان ذلك اليومُ الذى يكونُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تعنى عندها" رواه أبو داود،
فحديث منكر، أنكره الإمام أحمد وغيرُه، ومما يدلُّ على إنكاره أن فيه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرها أن تُوافى صلاةَ الصُّبح يوم النحر بمكة. وفى رواية:
"تُوافيه بمكة"، وكان يومَها، فأحب أن تُوافِيَه، وهذا من المحال قطعاً.
قال الأثرم: قال لى أبو عبد الله: حدثنا أبو معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن زينب بنتِ أُم سلمة: "أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرها أن تُوافيه يومَ النحر بمكة"، لم يُسنده غيره، وهو خطأ.
وقال وكيع: عن أبيه مرسلاً: "إن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمرها أن تُوافِيَه صلاةَ الصبح يومَ النحر بمكة"، أو نحو هذا، وهذا أعجبُ أيضاً، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم النحر وقت الصُّبح، ما يصنعُ بمكة؟ ينكر ذلك. قال: فجئتُ إلى يحيى بن سعيد، فسألتُه، فقال: عن هشام عن أبيه: "أمرها أن تُوافى" وليس "تُوافيه" قال: وبين ذَيْنِ فرق. قال: وقال لى يحيى: سل عبد الرحمن عنه، فسألته، فقال: هكذا سفيان عن هشام عن أبيه. قال الخلال: سها الأثرم فى حكايته عن وكيع: "تُوافيه"، وإنما قال وكيع: توافى مِنَى. وأصاب فى قوله: "تُوافى" كما قال أصحابه، وأخطأ فى قوله: "مِنَى".
قال الخلال: أنبأنا على بن حرب، حدثنا هارون بن عِمران، عن سليمان ابن أبى داود، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: "أخبرتنى أُم سلمة، قالت: قدَّمنى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن قدَّم من أهله لَيلَة المزدلِفَة.
قالت: فرميتُ بليل، ثم مضيتُ إلى مكة، فصليتُ بها الصبح، ثم رجعتُ إلى مِنَى".
قلت: سليمان بن أبى داود هذا: هو الدمشقى الخولانى، ويقال: ابن داود. قال أبو زرعة عن أحمد: رجل من أهل الجزيرة ليس بشئ. وقال عثمان بن سعيد: ضعيف.
قلت: ومما يدل على بطلانه، ما ثبت فى "الصحيحين" عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: "استأذنتْ سَوْدةُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ المزدَلِفَة، أن تَدْفَعَ قَبْلَه، وقَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وكَانَتِ امْرَأة ثَبِطَةً، قالَت: فأَذِنَ لَهَا، فَخَرَجَتْ قَبْلَ دَفْعِهِ، وحُبِسْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا، فَدَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، ولأَنْ أَكُونَ اسْتَأَذَنْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ أَحَبُّ إلىَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ". فهذا الحديث الصحيحُ، يُبيِّن أن نساءه غير سودة، إنما دفعن معه.
فإن قيل: فما تصنعون بحديث عائشة الذى رواه الدارقطنى وغيرُه عنها، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أمر نِساءَه أن يخرُجْنَ مِنْ جَمْع لَيْلَةَ جَمْعٍ، فَيرمِينَ الجمرة، ثم تُصبح فى منزلها، وكانت تصنعُ ذلك حتى ماتت".
قيل: يرده محمد بن حميد أحد رواته، كذَّبَه غيرُ واحد. ويردُّه أيضاً:
حديثُها الذى فى "الصحيحين" وقولها: "وَدِدْتُ أنى كنت استأذنتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما استأذَنْته سودة".
وإن قيل: فَهَبْ أنكم يُمكنكم ردُّ هذا الحديث، فما تصنعونَ بالحديث الذى رواه مسلم فى صحيحه، عن أُم حبيبة، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعث بها مِن جَمْعٍ بليل. قيل: قد ثبت فى
"الصحيحين" أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّم تِلْكَ اللَّيْلَةَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، وكَانَ ابْنُ عبَّاسِ فيمَن قدَّم. وثبت أنه قدَّم سودَة، وثبت أنه حبس نِساءه عنده حتى دفعن بدفعه. وحديثُ أُم حبيبةَ، انفرد به مسلم. فإن كان محفوظاً، فهى إذاً من الضعفة التى قدَّمها.
فإن قيل: فما تصنعون بما رواه الإمامُ أحمد، عن ابن عباس، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بعث به مع أهله إلى مِنَى يَوْمَ النَّحْرِ، فَرَمَوُا الجمرة مع الفجر". قيل: نُقدِّمُ عليه حديثَه الآخر الذى رواه أيضاً الإمامُ أحمد، والترمذى وصححه، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدَّم ضعفةَ أهلِهِ وقال: "لا تَرْمُوا الجَمْرَةَ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسَ". ولفظ أحمد فيه: قَدَّمَنَا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُغَيْلِمَةَ بنى عَبْدِ المُطَّلِبِ عَلَى حُمُرَاتٍ لَنَا مِنْ جَمْعٍ، فَجَعَلَ يَلْطَحُ أَفْخَاذَنَا وَيَقُولُ:
"أَىْ بُنى ؛ لا تَرْمُوا الجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْس". لأنه أصح منه، وفيه نهى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن رمى الجمرة قبل طلوع الشمس، وهو محفوظ بذكر القصة فيه. والحديث الآخر إنما فيه: أنهم رموها
مع الفجر، ثم تأملنا فإذا أنه لا تعارض بَيْنَ هذه الأحاديث، فإنه أمر الصبيان أن لا يرمُوا الجمرة حتى تطلُعَ الشمس، فإنه لا عُذر لهم فى تقديم الرمى، أما مَن قدَّمه من النساء، فرمَيْنَ قبل طلوعِ الشَّمْسِ للعُذر والخوف عليهن من مزاحمة الناس وحَطْمِهِم، وهذا الذى دلت عليه السُّنَّة جواز الرمى قبل طلوع الشمس، للعذر بمرض، أو كِبَرٍ يَشُقُّ عليه مزاحمةُ الناس لأجله، وأما القادِرُ الصحيحُ، فلا يجوز له ذلك.
وفى المسألة ثلاثة مذاهب، أحدها: الجوازُ بعد نصف الليل مطلقاً للقادر والعاجز، كقول الشافعى وأحمد رحمهما الله، والثانى: لا يجوزُ إلا بعد طلوع الفجر، كقول أبى حنيفة رحمه الله، والثالث: لا يجوزُ لأهل القدرة إلا بعدَ طلوعِ الشمس، كقول جماعة من أهل العلم. والذى دلَّت عليه السُّنَّة، إنما هو التعجيلُ بعد غيبوبة القمر، لا نصف الليل، وليسَ مع مَن حدَّه بالنصف دليل.. والله أعلم.
فصل
فلما طلع الفجرُ، صلاَّها فى أول الوقت لا قبلَه قطعاً بأذان وإقامة يومَ النحر، وهو يومُ العيد، وهو يومُ الحجِّ الأكبر، وهو يومُ الأذان ببراءة الله ورسولِه مِن كُلِّ مشرك.
ثم ركِبَ حتى أتى موقِفَه عند المَشْعَرِ الحَرَامِ، فاستقبل القِبْلة، وأخذ فى الدُّعاء والتضرُّع، والتكبير، والتهليلِ، والذِّكرِ، حتى أسفر جدّاً، وذلك قبلَ طُلوع الشمس.
وهنالك سأله عُرْوَةُ بنُ مُضَرِّس الطَّائى، فقال: يا رسُولَ اللهِ ؛ إنِّى
جِئْتُ مِنْ جَبَلَىْ طىِّءٍ، أكْلَلْتُ رَاحِلتى، وأتْعَبْتُ نَفْسِى، وَاللهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ إلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْه، فَهَلْ لِى مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ شَهِدَ صَلاتَنَا هذِهِ وَوَقَفَ مَعَنَا حتَّى نَدْفَعَ وَقَدْ وقَفَ بعَرَفَةَ قَبْلَ ذلِكَ ليلاً أوْ نَهاراً، فَقَدْ أَتَمَّ حَجَّه، وقَضى تَفَثَه". قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
وبهذا احتج مَن ذهب إلى أن الوقوفَ بمُزدلفَة والمبيتَ بها، ركن كعرفة، وهو مذهبُ اثنين مِن الصحابة، ابنِ عباس، وابن الزُّبير رضى الله عنهما، وإليه ذهب إبراهيمُ النَّخَعى، والشَّعبى، وعلقمة، والحسنُ البصرى، وهو مذهب الأوزاعى، وحماد بن أبى سليمان، وداود الظاهرى، وأبى عُبيد القاسم بن سلاَّم، واختاره المحمَّدان: ابنُ جرير، وابن خُزيمة، وهو أحد الوجوه للشافعية، ولهم ثلاثُ حجج، هذه إحداها، والثانية: قوله تعالى: {فاذْكُرُوا اللهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} [البقرة: 198].
والثالثة: فعلُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذى خرج مخرجَ البيانِ لهذا الذِّكر المأمور به.
واحتجَّ مَن لم يره رُكناً بأمرين، أحدهما: أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدَّ وقتَ الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر، وهذا يقتضى أن مَن وقف بعرفة قبل طلوع الفجر بأيسر زمان، صح حَجُّه، ولو كان الوقوفُ بمزدلفة رُكناً لم يصحَّ حَجُّه.
الثانى: أنه لو كان ركناً، لاشترك فيه الرجالُ والنساءُ، فلما قَدَّمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النساء بالليل، عُلِمَ أنه ليس برُكن، وفى الدليلين نظر، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما قدَّمهن بعد المبيت بمزدلفة، وذكر الله تعالى بها لصلاة عشاء الآخرة، والواجبُ هو ذلك. وأما توقيتُ الوقوف بعرفة إلى الفجر، فلا يُنافى أن يكونَ المبيت بمزدلفة رُكناً، وتكونُ تلك الليلة وقتاً لهما كوقت المجموعتين من الصلواتِ، وتضييق الوقت لأحدهما لا يُخرجه عن أن يكون وقتاً لهما حال القدرة.
فصل
وقف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى موقفه، وأعلم الناس أن مزدلفة كُلَّها موقف، ثم سار مِن مُزْدَلِفَةَ مُرْدِفاً للفضل بن العباس وهو يُلبِّى فى مسيره، وانطلق أُسامةُ بن زيد على رجليه فى سُبَّاقِ قُريش.
وفى طريقه ذلك أمر ابنَ عباس أن يَلْقُطَ له حَصى الجِمار، سبعَ حصياتٍ، ولم يكسرها من الجبل تلك الليلة كما يفعلُ مَن لا عِلم عنده، ولا التقطها بالليل، فالتقط له سبع حصيات مِنْ حَصَى الخَذْفِ، فجعل يَنْفُضُهُنَّ فى كَفِّهِ ويَقُولُ: "بأَمْثَال هؤلاء فارْموا، وإيَّاكُم والغُلُوَّ فى الدِّين، فإنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الغُلُوُّ فى الدِّين".
وفى طريقه تلك، عَرَضَتْ له امرأةٌ مِن خَثْعَمَ جَمِيلةٌ، فسألته عن الحجِّ عَنْ أبيها وَكانَ شَيْخاً كَبِيراً لا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فأَمَرَهَا أَنْ
تَحُجَّ عَنْهُ، وجَعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهَا وتَنْظُرُ إلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَصَرَفَهُ إلَى الشِّقِّ الآخَرِ، وَكَان الفَضْلُ وَسِيماً، فَقِيلَ: صَرَف وجْهَهُ عَنْ نَظَرِهَا إلَيْهِ، وقِيلَ: صَرَفَهُ عَنْ نَظَرِهِ إلَيْهَا، وَالصَّوَابُ: أنَّه فَعَلَهُ للأمْرَين، فإنه فى القِصة جعل يَنْظُرُ إليها وتَنْظُرُ إلَيْه.
وسأله آخرُ هنالك عن أُمِّه، فقال: إنَّها عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، فإن حَمَلْتُها لَمْ تَسْتَمْسِكْ، وإنْ رَبَطْتُها خَشِيتُ أنْ أَقْتُلَها، فَقَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلى أُمِّك دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ"؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَحُجَّ عنْ أُمِّكَ".
فلما أتى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، حَرَّك ناقتَه وأسرع السَير، وهذه كانت
عادتَه فى المواضع التى نزل فيها بأسُ اللهِ بأعدائه، فإن هُنالِكَ أصابَ أصحابَ الفيل ما قصَّ الله علينا، ولذلك سُمِّى ذلك الوادى وادىَ مُحَسِّر، لأن الفيل حَسَرَ فيه، أى: أعيى، وانقطع عن الذهاب إلى مكة، وكذلك فعل فى سُلوكه الحِجْرَ دِيارَ ثمود، فإنه تقنَّع بثوبه، وأسرع السَّيْرَ.
ومُحَسِّر: برزخٌ بين مِنَى وبين مُزدَلِفة، لا مِن هذه، ولا مِن هذه، وعُرَنَةُ: برزخ بين عرفة والمشعرِ الحرام، فبين كُلِّ مشعرين برزخ ليس منهما، فمِنَى: من الحرم، وهى مَشعر، ومُحَسِّر: من الحرم، وليس بمشعر، ومزدلفة: حرم ومشعر، وعُرَنَةُ ليست مَشعراً، وهى من الحل، وعرفة: حِل ومشعر.
وسلك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطريقَ الوُسطى بين الطريقين، وهى التى تخرُج على الجمرة الكُبرى، حتى أتى مِنَى، فأتى جمرة العقبة، فوقف فى أسفلِ الوادى، وجعل البَيْتَ عن يسارِه، ومِنَى عن يمينه، واستقبلَ الجمرةَ وهو على راحلته، فرماها راكباً بعد طلوع الشمس، واحدة بعد واحدة، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حصاةٍ، وحينئذ قطع التلبية.
وكان فى مسيره ذلك يُلَبِّى حتى شرع فى الرمى، ورمى وبلالٌ وأُسامةُ معه، أحدهما آخِذٌ بِخِطام ناقته، والآخر يُظلِّلُه بثوب من الحر.
وفى هذا: دليل على جواز استظلال المُحْرِمِ بالمَحْمِلِ ونحوهِ إن كانت قصة هذا الإظلال يَومَ النَّحر ثابتة، وإن كانت بعده فى أيام مِنَى، فلا حُجَّة فيها، وليس فى الحديث بيانٌ فى أى زمن كانت. والله أعلم.
فصل
ثم رجع إلى مِنَى، فخطب الناسَ خُطبة بليغة أعلمهم فيها بحُرمة يومِ النحر وتحريمه، وفضله عند الله، وحُرمة مكةَ على جميع البلاد، وأمرهم بالسَّمْعِ والطَّاعَةِ لِمَن قَادَهُم بِكِتَابِ اللهِ، وأَمَرَ النَّاسَ بِأخْذِ مَنَاسِكِهِمْ عَنه، وقال: "لَعَلِّى لا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِى هذا".
وعلَّمهُم مناسكهم، وأنزلَ المهاجرين والأنصار منازلَهم، وأمرَ الناسَ أن لا يَرْجعُوا بَعْدَهُ كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُهُم رِقَابَ بَعْضٍ، وَأَمَرَ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ، وأَخْبَرَ أَنَّهُ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ.
وقال فى خطبته: "لا يَجْنى جَانٍ إلا على نَفْسِه".
وأنزل المهاجرين عن يمين القِبْلة، والأنصارَ عن يسارها، والناسُ حولهم، وفتح الله له أسماعَ الناس حتى سمعها أهلُ مِنَى فى منازلهم.
وقال فى خطبته تلك: "اعْبُدوا رَبَّكم، وصَلُّوا خَمْسَكُم، وصُومُوا
شَهْرَكُم، وأَطيعُوا ذا أَمْرِكُم، تَدْخُلوا جَنَّة رَبِّكُم".
وودع حينئذ الناس، فقالوا: حَجة الوداع.
وهناك سُئلَ عمن حلق قبل أن يَرمىَ، وعمَّن ذبح قبل أن يَرمىَ، فقال: "لا حَرَجَ" قال عبدُ اللهِ بن عمرو: "ما رأيتُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئِلَ يومئذٍ عن شئ إلا قال: "افْعَلُوا وَلاَ حَرَجَ".
قال ابن عباس: "إنه قيل له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فى الذبح، والحلق، والرمى، والتقديم، والتأخير، فقال: "لا حَرَجَ".
وقال أُسامة بنُ شريك: "خرجتُ مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاجاً، وكان الناسُ
يأتونه، فَمِنْ قَائِل: يا رسولَ الله سعيتُ قبل أن أطوفَ، أو قدَّمت شيئاً أو أخرَّتُ شيئاً، فكان يقول: "لاَ حَرَجَ لاَ حَرَجَ إلا على رَجُلٍ اقترضَ عِرْضَ رَجُلٍ مُسْلِم وهُوَ ظَالِمٌ، فذِلكَ الذى حَرِجَ وهَلَكَ".
وقوله: سعيتُ قبل أن أطوف، فى هذا الحديث ليس بمحفوظ. والمحفوظ: تقديم الرمى، والنحر، والحلق بعضها على بعض.
ثم انصرف إلى المَنْحَرِ بمِنَى، فنحر ثلاثاً وستين بَدَنَة بيده، وكان ينحرُها قائِمةً، معقولةً يدُها اليُسرى. وكان عددُ هذا الذى نحره عددَ سِنى عمره، ثم أمسك وأمر علياً أن يَنْحَرَ ما غبر من المائة، ثم أمر علياً رضى الله عنه، أن يتصدقَ بِجلالِها ولُحومِها وجُلودِها فى المساكين، وأمره أن لا يُعِطىَ الجَزَّار فى جِزَارتِها، شيئاً منها، وقال: نَحْنُ تُعْطِيهِ مِن عِنْدِنَا، وقَالَ: "مَنْ شاءَ اقْتَطَعَ".
فإن قيل: فكيف تصنعون بالحديثِ الذى فى "الصحيحي" عن أنس رضى الله عنه، قال: "صلَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظهرَ بالمدينة أربعاً، والعصرَ بذى الحُليفة ركعتين، فباتَ بها، فلما أصبحَ، رَكِبَ راحِلته، فجعل يُهَلِّلُ ويُسَبِّحُ، فلما عَلاَ عَلَى البيداء، لبَّى بِهِمَا جَمِيعاً، فلما دَخَلَ مَكَّةَ،
أَمَرَهُم أَن يَحِلُّوا، ونَحَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنِ قِياماً، وضَحَّى بِالمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْن". فالجواب: أنه لا تعارض بين الحديثين.
قال أبو محمد بنُ حزم: مخرج حديث أنس، على أحد وجوهٍ ثلاثةٍ.
أحدها: أنه صلَّى الله عليه وسلم لم ينحر بِيده أكثرَ مِن سبع بُدن، كما قال أنس، وأنه أمر مَن ينحرُ ما بعد ذلك إلى تمام ثلاث وستين، ثم زال عن ذلك المكانِ، وأمر علياً رضى الله عنه، فنحرَ ما بقى.
الثانى: أن يكون أنس لم يُشاهد إلا نحره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعاً فقط بيده، وشاهد جابر تمامَ نحره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للباقى، فأخبر كُلٌ منهما بما رأى وشاهد.
الثالث: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحر بيده منفرداً سبع بُدن كما قال أنس، ثم أخذ هو وعلىّ الحربة معاً، فنحرا كذلك تمام ثلاث وستين، كما قال غَرَفَةُ بن الحارث الكِندى: "أنه شاهد النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ قد أخذ بأعلى الحَرْبَةِ وأمر علياً فأخذ بأسفلها، ونحرا بها البدن ثم انفرد علىٌّ بنحر الباقى من المائة"، كما قال جابر. والله أعلم.
فإن قيل: فكيف تصنعون بالحديثِ الذى رواه الإمامُ أحمد، وأبو داود عن علىّ قال: "لما نَحَرَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدْنَه، فنحر ثلاثِينَ بِيَدِهِ، وأمرنى فنحرتُ سَائِرَها".
قلنا: هذا غلطٌ انقلب على الراوى، فإن الذى نحرَ ثلاثين: هو علىّ، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحر سبعاً بيده لم يُشاهده علىّ، ولا جابر، ثم نحر ثلاثاً وستين أخرى، فبقى من المائة ثلاثون، فنحرها علىّ، فانقلب على الراوى عددُ ما نحره علىّ بما نحره النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإن قيل: فما تصنعون بحديث عبد الله بن قُرْطٍ، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "إنَّ أعْظَمَ الأيَّامِ عِنْدَ اللهِ يَوْمُ النَّحر، ثُمَّ يَوْمُ القَرِّ". وهو اليومُ الثانى. قال: وقُرِّبَ لِرسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَنَاتٌ خَمْسٌ فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْن إلَيْهِ بأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ؟ فَلَمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُها قَالَ: فَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ خَفِيَّةٍ لَمْ أَفْهَمْهَا، فَقُلْتُ: مَا قَالَ؟ قال: "مَنْ شَاءَ اقْتَطَع َ".
قيل: نقبله ونصدِّقه، فإن المائة لم تُقَرَّبْ إليه جُملة، وإنما كانت تُقرَّب إليه أرْسَالاً، فقُرِّبَ منهن إليه خمسُ بَدَنَات رَسَلاً، وكان ذلك الرَّسَلُ يُبَادِرْنَ ويَتَقَرَّبْنَ إلَيْهِ لِيبدَأ بكُلِّ واحدة منهن.
فإن قيل: فما تصنعون بالحديث الذى فى "الصحيحين"، من حديث أبى بكرةَ فى خُطبة النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ النحرِ بمِنَى، وقال فى آخره: "ثُمَّ انْكَفَأَ إلى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا، وإلى جُزَيْعَةٍ مِنَ الغَنَمِ فقسمها بَيْنَنَا " لفظه لمسلم.
ففى هذا، أن ذبح الكبشينِ كان بمكة، وفى حديث أنس، أنه كان بالمدينة.
قيل: فى هذا طريقتانِ للناس.
إحداهما: أن القول: قولُ أنس، وأنه ضحَّى بالمدينة بكبشين أملحين أقرنين، وأنه صلَّى العيد، ثم انكفأ إلى كبشينِ، ففصَّل أنس، وميَّز بين نحرِه بمكة للبُدن، وبين نحره بالمدينة للكبشين، وبيَّن أنهما قِصتان، ويدل على هذا أن جميعَ مَن ذكر نحر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمِنَى، إنما ذكروا أنه نَحَرَ الإبِلَ، وهو الهَدْىُ الذى ساقه، وهو أفضلُ من نحر الغنم هناك بلا سوق، وجابر قد قال فى صفة حَجَّة الوداع: إنه رجع من الرمى فنحر البُدن، وإنما اشتبه على بعض الرواة، أن قصة الكبشين كانت يومَ عيد، فظن أنه كان بمِنَى فوهِم.
الطريقة الثانية: طريقة ابن حزم، ومَن سلك مسلكه. أنهما عملانِ متغايِرَانِ، وحديثان صحيحان، فذكر أبو بكرة تضحيَته بمكة، وأنس تضحيتَه بالمدينة. قال: وذبح يومَ النحر الغنَم، ونحر البقرَ والإبلَ، كما قالت عائشة: ضحَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عن أزواجه بالبقر، وهو فى "الصحيحين".
وفى "صحيح مسلم": "ذبحَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عائشة بقرةً يَوْمَ النحر".
وفى السنن: "أنَّه نحرَ عَنْ آلِ محمَّدٍ فى حَجَّةِ الوَدَاعِ بقرةً واحِدَة".
ومذهبُه: أن الحاجَّ شُرِعَ له التضحيةُ مع الهَدْى، والصحيحُ إن شاء الله: الطريقةُ الأولى، وهَدْى الحاج له بمنزلة الأُضحية للمقيم، ولم يَنْقُلْ أحدٌ أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أصحابَه، جمعوا بين الهَدْىِ والأُضحية، بل كان هَدْيهُم هو أضاحيهم، فهو هَدْى بمِنَى، وأُضحيةٌ بغيرها.
وأما قول عائشة: "ضحَّى عن نِسائه بالبقر"، فهو هَدْى أُطْلِقَ عليه اسمُ الأُضحية، وأنهن كُنَّ متمتعاتٍ، وعليهن الهَدْىُ، فالبقرُ الذى نحره عنهن هو الهَدْىُ الذى يلزمُهن.
ولكن فى قصة نحر البقرة عنهن وهن تسع: إشكال، وهو إجزاء البقرة عن أكثر من سبعة.
وأجاب أبو محمد بن حزم عنه، بجواب على أصله، وهو أن عائشة لم تكن معهن فى ذلك، فإنها كانت قارنة وهُنَّ متمتعاتٌ، وعنده لا هَدْىَ على القارِن، وأيَّدَ قوله بالحديث الذى رواه مسلم من حديث هِشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة: "خرجنا مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوافين لهِلال ذى الحِجَّةِ، فكنتُ فيمن أهلَّ بِعُمرة، فخرجنا حتى قَدِمنَا مكَّةَ، فأدركنى يومُ عرفة وأنا حائضٌ لم أَحِلَّ من عُمرتى، فشكوتُ ذلك إلى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "دعى عُمْرَتَك وانْقُضى رَأسَكِ، وامْتَشِطى، وأهلِّى بالحَجِّ". "قالت: ففعلتُ، فلما كانت ليلةُ الحَصْبَةِ وقد قضى الله حَجَّنا، أرسلَ معى عبد الرحمن بن أبى بكر، فأردَفنى، وخرج إلى
التَّنعِيم، فأهللتُ بعُمرة، فقضى الله حَجَّنَا وعُمرتنا، ولم يكن فى ذلك هَدْى ولا صَدقةٌ ولا صَوْمٌ".
وهذا مسلك فاسد تفرَّد به ابن حزم عن الناس. والذى عليه الصحابةُ، والتابعون ومَن بعدهم أن القارِن يلزمه الهَدْىُ، كما يلزم المتمتِّع، بل هو متمتع حقيقة فى لسان الصحابة كما تقدَّم، وأما هذا الحديثُ، فالصحيح: أن هذا الكلامَ الأخيرَ من قول هشام بن عروة، جاء ذلك فى صحيح مسلم مصرحا به، فقال: حدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع، حدثنا هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة رضى الله عنها... فذكرت الحديث. وفى آخره: قال عروة فى ذلك: "إنه قَضَى اللهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتها. قال هشام: ولم يكن فى ذلك هَدْىٌ، ولا صِيام، ولا صدقة".
قال أبو محمد: إن كان وكيع جعل هذا الكلامَ لهشام، فابنُ نمير، وعبدة أدخلاه فى كلام عائشة، وكُلٌّ منهما ثقة، فوكيع نسبه إلى هشام، لأنه سمع هشاماً يقوله، وليس قولُ هشام إياه بدافع أن تكون عائشةُ قالته، فقد يَروى المرءُ حديثاً يُسنده، ثم يُفتى به دون أن يُسنده، فليس شئ من هذا بمتدافع، وإنما يتعلَّل بمثلِ هذا مَن لا يُنْصِفُ، ومَن اتبع هواه، والصحيح من ذلك: أن كُلَّ ثقة فمصدَّق فيما نقل. فإذا أضاف عبدة وابنُ نمير القولَ إلى عائشة، صُدِّقَا لعدالتهما، وإذا أضافه وكيع إلى هِشام، صُدِّقَ أيضاً لعدالته، وكُلٌ صحيح، وتكون عائشة قالته، وهشام قاله.
قلت: هذه الطريقةُ هى اللائقةُ بظاهريته، وظاهرية أمثاله ممن لا فِقه له
فى عِلل الأحاديث، كفقه الأئمة النُّقَّاد أطباء علله، وأهل العناية بها، وهؤلاء لا يلتفِتُون إلى قول مَن خالفهم ممن ليس له ذوقُهم ومعرفتُهم بل يقطعون بخطئه بمنزلة الصَّيارِفِ النُّقَّاد، الذين يُميزون بين الجيِّدِ والردئ، ولا يلتفِتُون إلى خطإ مَن لم يعرِف ذلك.
ومن المعلوم، أن عبدة وابن نمير لم يقولا فى هذا الكلام: قالت عائشة، وإنما أدرجاه فى الحديث إدراجاً، يحتملِ أن يكون من كلامهما، أو من كلام عُروة، أو من هشام، فجاء وكيع، ففصَّل وميَّز، ومَن فصَّل وميَّز، فقد حفظ وأتقن ما أطلقه غيره، نعم لو قال ابنُ نمير وعبدة: قالت عائشةُ، وقال وكيع: قال هشامٌ، لساغ ما قال أبو محمد، وكان موضِعَ نظر وترجيح.
وأما كونهن تسعاً وهى بقرة واحدة، فهذا قد جاء بثلاثة ألفاظ، أحدها: أنها بقرة واحدة بينهن، والثانى: أنه ضحَّى عنهن يومئذ بالبقر، والثالث: دخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلتُ: ما هذا؟ فقيل: ذبح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أزواجه.
وقد اختلف الناسُ فى عدد مَن تُجزئ عنهم البَدَنَة والبقرة، فقيل: سبعة وهو قولُ الشافعى، وأحمد فى المشهور عنه، وقيل: عشرة، وهو قول إسحاق. وقد ثبت أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَسَمَ بينهم المغانِم، فَعَدَلَ الجَزُورَ بِعَشْرِ شِيَاهٍ. وثَبت هذا الحديثُ، أنه - صلَّى الله عليه وسلم - ضحَّى عن نسائه وهن تِسع ببقرة.
وقد روى سفيانُ، عن أبى الزُّبير، عن جابر، "أنهم نحرُوا البَدَنَةَ
فى حَجِّهم مع رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عشرةٍ"، وهو على شرط مسلم ولم يخرجه، وإنما أخرج قوله: "خرجنا مع رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهلِّينَ بالحجِّ معنا النساءُ والوِلدانُ، فلما قَدِمنا مكة، طُفنا بالبيتِ وبالصَّفا والمروة، وأَمَرَنَا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَ نشترِك فى الإبلِ والبقرِ كُلُّ سبعةٍ منا فى بَدَنة".
وفى "المسند": من حديث ابن عباس: "كنَّا مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سفر، فحضَرَ الأضحى، فاشتركْنَا فى البقرةِ سَبْعَةً، وفى الجَزُورِ عشرة". ورواه النِّسائى والترمذى، وقال: حسن غريب.
وفى "الصحيحين" عنه: "نحرنَا مع رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامَ الحُدَيْبِيَةِ، البَدَنَةَ عن سبعة، والبقرةَ عن سبعة".
وقال حذيفةُ: "شَرَّكَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حَجته بين المسلمين، فى البقرة عن سبعة". ذكره الإمامُ أحمد رحمه الله.
وهذه الأحاديث، تُخَرَّجُ على أحد وجوه ثلاثة، إما أن يُقالِ: أحاديثُ السبعة أكثرُ وأَصَحُّ، وإما أن يُقال: عَدْلُ البعيرِ بعشرة مِن الغنم، تقويمٌ فى الغنائم لأجل تعديلِ القِسمة، وأما كونُه عن سبعة فى الهدايا، فهو تقديرٌ شرعى، وإما أن يُقال: إن ذلك يختلِفُ باختلاف
الأزمِنة، والأمكِنة، والإبل، ففى بعضِها كان البعيرُ يَعْدِلُ عشر شياه، فجعله عن عشرة، وفى بعضها يَعْدِلُ سبعة، فجعله عن سبعة. والله أعلم.
وقد قال أبو محمد: إنه ذبح عن نسائه بقرةً للهَدْى، وضحَّى عنهن ببقرة، وضحَّى عن نفسه بكبشين، ونحر عن نفسه ثلاثاً وستين هَدْياً، وقد عرفتَ ما فى ذلك من الوهم، ولم تكن بقرة الضَّحِية غيرَ بقرة الهَدْى، بل هى هى، وهَدْىُ الحاجِّ بمنزلة ضحية الآفاقى.
فصل
ونحر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْحَرِهِ بمِنَى، وأعلمهم
"أن مِنَى كُلَّها مَنْحَرٌ، وأَنَّ فِجاجَ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ" وفى هذا دليلٌ على أن النحرَ لا يختصُّ بمِنَى، بل حيث نحر من فجاج مكة أجزأه، كما أنه لمَّا وقف بعرفة قال: "وَقَفْتُ هاهنا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ". ووقَفَ بمزدَلِفَة، وقال: "وَقَفْتُ هاهنا وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ" وسُئل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُبنى له بمِنَى بِنَاءٌ يُظِلُّه مِنَ الحَرِّ، فَقَال: "لاَ، مِنَى مُنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ"

يتبع ان شاء الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق