الاثنين، 14 مايو 2018

جزء 7//2 وهو آخر أجزاء زاد المعاد ةالحمد لله رب العالمين



قلت المدون هذا آخر كتاب زاد المعاد لابن قيم الجوزية ولله الحمد وله المنة
ولقد أصاب فريعَة بنتَ مالك فى هذا الحديث نظيرُ ما أصاب فاطمة بنت قيس فى حديثها، فقال بعضُ المنازعين فى هذه المسألة: لا ندعُ كتابَ ربنا لقول امرأة، فإن الله سبحانه إنما أمرها بالاعتداد أربعة أشهر وعشراً، ولم يأمرها بالمنزل. وقد أنكرت عائشةُ أمُّ المؤمنين رضى الله عنها وجوبَ المنزل، وأفتت المتوفَّى عنها بالاعتداد حيث شاءت كما أنكرت حديثَ فاطمة بنت قيس، وأوجبت السكنى للمطلقة.
وقال بعضُ من نازع فى حديث الفُريعة: قد قُتِلَ مِن الصحابة رضى الله عنهم على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلقٌ كثير يوم أحد، ويومَ بئر مَعونة، ويومَ مؤتة وغيرِها، واعتدَّ أزواجُهم بعدهم، فلو كان كلُّ امرأة منهن تُلازم منزلها زمن العدة، لكان ذلك من أظهرِ الأشياء، وأبينها بحيثُ لا يخفى على من هو دونَ ابن عباس وعائشة، فكيف خفى هذا عليهما وعلى غيرهما من الصحابة الذين حكى أقوالهم، مع استمرار العمل به استمراراً شائعاً، هذا من أبعد الأشياء، ثم لو كانت السنَّةُ جارية بذلك، لم تأت الفُريعة تستأذنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تلحق بأهلها، ولمَا أذِنَ لها فى ذلك، ثم يأمرُ بردها بعد ذهابها، ويأمرها بأن تمكث فى بيتها فلو كان ذلك أمراً مستمراً ثابتاً، لكان قد نسخ بإذنه لها فى اللحاق بأهلها، ثم نسخ ذلك الإذن بأمره لها بالمُكث فى بيتها، فُيفضى إلى تغيير الحكم مرتين، وهذا لا عهد لنا به فى الشريعة فى موضع متيقن.
قال الآخرون: ليس فى هذا ما يوجب رد هذه السنة الصحيحة الصريحة التى تلقَّاها أميرُ المؤمنين عثمان بن عفان، وأكابرُ الصحابة بالقبول، ونفذها عثمان، وحكم بها، ولو كنا لا نقبلُ رواية النساء عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لذهبت سننٌ كثيرة مِن سُنن الإسلام لا يُعرف أنه رواها عنه إلا
النساء، وهذا كتابُ الله ليس فيه ما ينبغى وجوب الاعتداد فى المنزل حتى تكون السنةُ مخالفة له، بل غايتُها أن تكونَ بياناً لحكم سكت عنه الكتاب، ومثل هذا لا تُرد به السننُ، وهذا الذى حذَّر منه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعينه أن تترك السنة إذا لم يكن نظيرُ حكمها فى الكتاب.
وأما تركُ أمِّ المؤمنين رضى الله عنها لحديث الفُريعة، فلعله لم يَبلُغْها، ولو بلغها فلعلها تأولته، ولو لم تتأولْه، فلعله قام عندها معارض له، وبكل حال فالقائلون به فى تركهم لتركها لهذا الحديث أعذرُ من التاركين له لترك أمِّ المؤمنين له، فبين التركَين فرقٌ عظيم.وأما من قُتِلَ مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن مات فى حياته، فلم يأتِ قطُّ أن نساءكم كن يعتَدِدْنَ حيث شِئن، ولم يأت عنهن ما يُخالف حُكمَ حديثِ فُريعة البتة، فلا يجوز تركُ السنة الثابتة لأمر لا يُعلم كيف كان، ولو عُلِمَ أَنهن كن يَعتَدِدْنَ حيث شئن، ولم يأت عنهن ما يخالف حكم حديث الفريعة، فلعل ذلك قبل استقرار هذا الحكم وثبوته حيث كان الأصلُ براءة الذمة، وعدم الوجوب.
وقد ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، قال: قال مجاهد: استشهد رجال يوم أحد، فجاء نساؤهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلن: إنا نستوحِشُ يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل، فنبيت عند إحدانا، حتى إذا أصبحنا تبددنا فى بيوتتنا فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إحْدَاكُنَّ مَا بَدَا لَكُنَّ، فَإذَا أَرَدْتُنَّ النَّوْمَ فَلتَؤُبْ كُلُّ امْرَأةٍ إلى بَيْتِها " وهذا وإن كان مرسلاً، فالظاهِر أن مجاهداً إما أن يكون سمعه مِن تابعى ثقة، أو مِن صحابى، والتابعون لم يكن الكذبُ معروفاً فيهم، وهم ثانى القرون المفضلة،
وقد شاهدُوا أصحابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخذوا العِلمَ عنهم، وهم خيرُ الأمة بعدهم، فلا يُظن بهم الكذبُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا الروايةُ عن الكذابين، ولا سيما العالمُ منهم إذا جزمَ على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرواية، وشَهِدَ له بالحديث، فقال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفعلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمرَ ونهى، فيبعد كُلَّ البعد أن يُقْدِمَ على ذلك مع كون الواسطة بينه وبينَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذاباً أو مجهولاً، وهذا بخلاف مراسيل من بعدهم، فكلما تأخرت القرونُ ساء الظن بالمراسيل، ولم يشهد بها على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبالجملة فليس الاعتماد على هذا المرسل وحَده، وبالله التوفيق.
ذِكرُ حكمِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى إحداد المعتدةِ نفياً وإثباتاً
ثبت فى "الصحيحين": عن حُميد بن نافع، عن زينب بنت أبى سلمة، أنها أخبرته هذه الأحاديثَ الثلاثة، قالت زينبُ: دخلت على أمِّ حبيبة رضى الله عنها زوج النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين تُوفى أبوها أبو سفيان، فدعت أمُّ حبيبة رضى الله عنها بطيبٍ فيه صُفرةٌ خَلُوقٌ أو غيرُه، فدهنت منه جاريةً، ثم مسَّت بعارضيها، ثم قالت: والله مالى بالطِّيبِ من حاجة، غير أنى سمعت رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول على المنبر: "لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللهِ واليَوْم الآخرِ تُحِدُّ عَلى مَيِّتٍ فَوْقَ ثلاث إلاَّ عَلى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً". قالت زينب: ثم دخلت على زينب بنت جحش حين تُوفى أخوها فدعت بطيب، فمسَّت منه، ثم قالت: واللهِ مالى بالطيبِ من حاجة، غير أنى سمعت رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول على المنبر: " لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بالله وَاليَوْمِ الآخِرِ تُحِدُّ عَلى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ عَلى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً".
قالت زينبُ: وسمعت أُمِّى أمَّ سلمة رضى الله عنها تقولُ: جاءت امرأة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسول الله: إن بنتى توفى عنها زوجها، وقد اشتكت عينُها، أَفَتكْحَلُها؟ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا"، مرتين، أو ثلاثاً، كل ذلك يقول:
"لا"، ثم قال: "إنَّما هىَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، وقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ فى الجَاهِلِيَّةِ تَرْمى بالبَعْرَةِ عَلى رَأْسِ الحَوْلِ".
فقالت زينب: كانتِ المرأة إذا تُوفى عنها زوجُها، دخلت حِفْشاً، ولَبِسَتْ شَرَّ ثِيابِها، ولم تَمَسَّ طِيباً ولا شيئاً حتى يَمُرَّ بها سنة، ثُم تُؤتى بدابةٍ حمارٍ، أو شاةٍ أو طير، فتفتَضُّ به، فقلما تفتضُّ بشىء إلا مات، ثم تَخْرجُ، فُتعطى بعرة، فترمى بها، ثم تُراجع بعدُ ما شاءت مِن طيب أو غيره. قال مالك تفتض: تمسح به جلدها.
وفى "الصحيحين": عن أمِّ سلمة رضى الله عنها: أن امرأة تُوفى عنها زوجُها، فخافوا على عينها، فأَتْوا النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستأذنوه فى الكُحْل، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ تكُونُ فى شَرِّ بَيْتِها، أَوْ فى شَرِّ أحْلاَسِها فى بَيْتِها حَوْلاً، فإذَا مَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ ببَعْرَةٍ، فَخَرَجَتْ أفَلاَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً".
وفى "الصحيحين" عن أَمِّ عَطيَّة الأنصارية رضى الله عَنها، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تُحِدُّ المرْأَةُ عَلى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ عَلى زَوْجٍ أَرْبَعةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، ولاَ تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً إلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلاَ تَكْتَحِلُ
وَلاَ تَمَسُّ طيباً إلا إذا طَهُرَت نُبْذةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ".
وفى سنن داود: من حديث الحسن بن مسلم، عن صفيّةبنت شيبة، عن أمِّ سلمة زوج النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "المُتَوَفىَّ عَنْها زَوْجها لاَ تَلْبَسُ المُعَصْفَرَ مِنَ الثياب وَلاَ المُمَشَّقَةَ، وَلاَ الحُلىَّ وَلاَ تكْتَحِلُ، وَلاَ تَخْتَضِبُ ".وفى "سننه" أيضاً: من حديث ابن وهب، أخبرنى مخرمة، عن أبيه قال: سمعتُ المغيرةَ بنَ الضحاك يقول: أخبرتنى أمُّ حكيم بنت أَسْيَدٍ، عن أمها، أن زوجَها تُوفى، وكانت تشتكى عينيها فتكتحِلُ بالجَلاء. قال أحمد بن صالح رحمه الله: الصوابُ: الصوابُ: بِكُحْلِ الجلاء فأرسلت مولاةً لها إلى أمِّ سلمة رضى الله عنها، فسألتها عن كُحل الجَلاء، فقالت: لا تكتحِلىْ به إلا مِن أمرٍ لا بد منه يشتدُّ عليك، فتكتحلين بالليل، وتمسحينه بالنهار، ثم قالت عند ذلك أمُّ سلمة: دخل علىَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين تُوفى أبو سلمة وقد جعلت على عَيْنَىَّ صَبِراً، فقال: "ما هذا يَا أُمَّ سلمة"؟ فقلت: إنما هو صَبِرٌ يا رسَوُلَ الله، ليس فيه طِيب. فقال:
"إنَّه يَشُبُّ الوَجْهَ فَلاَ تَجْعَليه إلاَّ بالَّليْل، وَتَنْزعيهِ بِالنَّهار، ولا تَمْتَشِطى بِالطَّيب وَلاَ بِالحِنَّاءِ فَإنَّهُ خِضَابٌ "، قالت: قلت: بأى شىء أمتَشِطُ يا رسول الله؟ قال: " بالسِّدْر تُغَلِّفِينَ بِهِ
رَأْسَك".
وقد تضمنت هذه السنة أحكاماً عديدة. أحدها: أنه لا يجوزُ الإحدادُ على مِّيتٍ فوقَ ثلاثة أيامِ كائناً من كان، إلا الزوجَ وحدَه.
وتضمن الحديثُ الفرقَ بين الإحدادين من وجهين.
أحدهما: من جهة الوجوب والجواز، فإن الإحداد على الزوج واجب، وعلى غيره جائز.
الثانى: من مقدار مدة الإحداد، فالإحدادُ على الزوج عزيمة، وعلى غيره رخصة وأجمعت الأمة على وجوبه على المتوفَّى عنها زوجُها إلا ما حُكى عن الحسن، والحكم بن عتيبة. أما الحسن، فروى حماد بن سلمة، عن حميد، عنه، أن المطلقة ثلاثاً، والمتوفَّى عنها زوجُها تكتحلان وتمتشِطَان، وتتطيَّبانِ وتختضِبان، وتنتقلان، وتصنعان ما شاءتا، وأما الحكم: فذكر عنه شعبةُ: أن المتوفى عنها لا تُحِدُّ.
قال ابنُ حزم: واحتج أهل هذه المقالة، ثم ساق مِن طريق أبى الحسن محمد بن عبد السلام، حدثنا محمدُ بنُ بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعبة، حدثنا الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لامرأة جعفر بن أبى طالب: "إذا كَانَ ثلاثَة أيَّامٍ فالبَسى ما شئتِ، أو إذا كَانَ بَعْدَ ثلاثة أيام " شعبة شك.
ومن طريق حماد بنِ سلمة، حدثنا الحجَّاج بنُ أرطاة، عن الحسن ابن سَعدِ، عن عبد الله بن شداد، أن أسماءَ بنت عُميس استأذنتِ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أن تبكى على جعفر وهى امرأتُه، فَأذِنَ لها ثلاثةَ أيام، ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن تطهرى واكتحلى.
قالوا: وهذا ناسخ لأحاديث الإحداد، لأنه بعدها، فإن أم سلمة رضى الله عنها روت حديث الإحداد، وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرها به إثر موتِ أبى سلمة ولا خلاف أن موت أبى سلمة كان قبل موتِ جعفر رضى الله عنهما.
وأجاب الناسُ عن ذلك بأن هذا حديث منقطع، فإن عبد الله بن شداد بن الهاد لم يسمع من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا رآه، فكيف يُقَدَّمُ حديثُه على الأحاديث الصحيحة المسندة التى لا مطعن فيها؟ وفى الحديث الثانى: الحجاج بن أرطاة، ولا يُعارض بحديثه حديثُ الأئمة الذين هم فرسانُ الحديث.
فصل
الحكم الثانى: أن الإحداد تابع للعِدة بالشهور، أما الحامل، فإذا انقضى حملُها، سقط وجوْبُ الإحداد عنها اتفاقاً، فإن لها أن تتزوج، وتتجمَّل، وتتطيَّب لزوجها، وتتزيَّن له ما شاءت.
فإن قيل: فإذا زادت مدةُ الحمل على أربعةِ أشهر وعشر، فهل يسقطُ وجوبُ الإحداد، أم يستمِرُّ إلى الوضع؟ قيل: بل يستمِرُ الإحداد إلى حين الوضع، فإنه من توابع العدة، ولهذا قُيِّد بمدتها، وهو حُكم من أحكام العِدة، وواجب من واجباتها، فكان معها وجوداً وعدماً.
فصل
الحكم الثالث: أن الإحداد تستوى فيه جميعُ الزوجات المسلمة والكافرة، والحُرة والأمة، والصغيرة والكبير، وهذا قولُ الجمهور: أحمد، والشافعى، ومالك. إلا أن أشهب، وابنَ نافع قالا: لا إحداد على الذمية، ورواه أشهب عن مالك، وهو قولُ أبى حنيفة، ولا إحداد عنده على الصغيرة.
واحتج أربابُ هذا القول بأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل الإحداد من أحكام من يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا تدخُلُ فيه الكافرةُ، ولأنها غيرُ مكلَّفة بأحكام الفروع.
قالوا: وعدو لُه عن اللفظ العام المطلق إلى الخاص المقيَّد بالإيمان يقتضى أن هذا من أحكام الإيمان ولوازِمه وواجباته، فكأنه قال: من التزم الإيمان فهذا من شرائعه وواجباته. والتحقيقُ أن نفى حِلِّ الفعل عن المؤمنين لا يقتضى نفىَ حُكمه عن الكفار، ولا إثباتَ لهم أيضاً، وإنما يقتضى أن من التزم الإيمان وشرائعه، فهذا لا يَحِلُ له، ويجب على كل حال أن يلزم الإيمان وشرائعه، ولكن لا يلزمه الشارعُ شرائعَ الإيمان إلا بعد دخلوه فيه، وهذا كما لو قيل: لا يحِل لمؤمن أن يترُك الصلاة والحجَّ والزكاة، فهذا لا يدل على أن ذلك حِلٌّ للكافر. وهذا كما قال فى لباس الحرير: "لاَ يَنْبَغى هذَا لِلمُتَّقِينَ"، فلا يدل أنه ينبغى لغيرهم. وكذا قوله: "لاَ يَنْبَغى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ لَعَّاناً".
وسر المسألة: أن شرائعَ الحلال والحرام والإيجاب، إنما شُرعَتْ لمن التزم الإيمان، ومن لم يلتَزمه وخلى بينه وبين دينه، فإنه يُخلى بينَه وبينَ شرائع الدين الذى التزمه، كما خُلِّىَ بينه وبين أصله ما لم يُحاكم إلينا، وهذه القاعدة متفق عليها بين العلماء، ولكن عذرُ الذين أوجبوا الإحداد على الذمية، أنه يتعلق به حقُّ الزوجِ المسلم، وكان منه إلزامها به كأصل العدة، ولهذا لا يُلزمونها به فى عِدتها مِن الذمى، ولا يُتعرض لها فيها، فصار هذا كعقودهم مع المسلمين، فإنهم يُلزمون فيها بأحكام الإسلام وإن لم يتعرض لِعقودِهم مع بعضهم بعضاً، ومن يُنازعهم فى ذلك يقولون: الإحدادُ حق للَّه تعالى، ولهذا لو اتفقت هى والأولياء والمتوفَّى على سقوطه بأن أوصاها بتركه، لم يسقط، ولزمها الإتيانُ به فهو جارٍ مجرى العِبادات وليست الذمية من أهلها، فهذا سر المسألة.
فصل
الحكم الرابع: أن الإحداد لا يجبُ على الأمة، ولا أمِّ الولد إذا مات سيدُهما، لأنهما ليسا بزوجين. قال ابنُ المنذر: لا أعلمهم يختلِفُون فى ذلك.
فإن قيل: فهل لهما تُحِدَّا ثلاثَةَ أيام؟ قيل: نعم لهما ذلك، فإن النصَّ إنما حرم الإحداد فوق الثلاث على غير الزوج، وأوْجَبَه أربعة أَشهر وعشراً على الزوج، فدخلت الأمةُ وأمُّ الولد فيمن يحل لهن الإحداد، لا فيمن يَحْرُمُ عليهن، ولا فيمن يجب.
فإن قيل: فهل يجب على المعتدة مِن طلاق أو وطءِ شبهة، أو زنى،
أو استبراء إحداد؟
قلنا: هذا هو الحكمُ الخامس الذى دلَّت عليه السنة، أنه لا إحداد على واحدةٍ من هؤلاء، لأن السنة أثبتت ونفت، فخصَّت بالإحدادِ الوَاجِبِ الزوجاتِ، وبالجائز غيرَهن على الأمواتِ خاصة، وما عداهما، فهو داخل فى حُكم التحريم على الأموات، فمن أين لكم دخولُه فى الإحداد على المطلقة البائن؟ وقد قال سعيدُ بن المسيب، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأبو حنيفة وأصحابُه، والإمام أحمد فى إحدى الروايتين عنه اختارها الخِرقى: إن البائن يجب عليها الإحدادُ، وهو محضُ القياس، لأنها معتدة بائن مِن نكاح، فلزمها الإحداد كالمتوفَّى عنها، لأنهما اشتركا فى العِدة، واختلفا فى سببها، ولأن العِدة تُحرِّمُ النكاح، فَحَرُمَتْ دواعيه. قالوا: ولا ريبَ أن الإحداد معقولُ المعنى، وهو أن إظهارَ الزينة والطِّيب والحُلى، مما يدعو المرأة إلى الرجال، ويدعُو الرجال إليها: فلا يُؤمن أن تكذِبَ فى انقضاء عدتها استعجالاً لذلك، فمُنِعَتْ مِن دواعى ذلك، وسدت إليه الذريعة، هذا مع أن الكذب فى عدة الوفاة يتعذَّر بظهورِ موت الزوج، وكونِ العِدة أيَّامً معدودة، بخلاف عِدة الطلاق، فإنها بالأقراء وهى لا تُعلم إلا من جهتها، فكان الاحتياطُ لها أولى.
قيل قد أنكر اللهُ سبحانَه وتعالى على مَنْ حَرَّمَ زِيْنَتَهُ الَّتى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ. وهذا يدل على أنه لا يجوز أن يُحرِّمَ من الزينة إلا ما حرَّمه الله ورسولُه، والله سبحانه قد حرَّم على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينة الإحداد على المتوفَّى عنها مدة العدة، وأباح رسولُه الإحدادَ بتركها على غير الزوج، فلا يجوز تحريمُ غير ما حرمه، بل هو على أصلِ الإباحة، وليس الإحدادُ مِن لوازم العدة، ولا توابعها، ولهذا لا يجب
على الموطوءة بشبهة، ولا المزنى بها، ولا المستبرَأة، ولا الرجعيَّةِ اتفاقاً، وهذا القياسُ أولى مِن قياسها على المتوفى عنها لما بين العِدتين من القُروء قدراً أو سبباً وحكماً، فإلحاقُ عِدة الأقراء بالأقراء أولى من إلحاق عِدة الأقراء بعِدة الوفاة، وليس المقصودُ من الإحداد على الزوج الميت مجرَّدَ ما ذكرتم مِن طلب الاستعجال، فإن العدة فيه لم تكن لمجرد العلم ببراءةِ الرَّحِم، ولهذا تجِبُ قبلَ الدخول، وإنما هو مِن تعظيم هذا العقد وإظهار خطره وشرفه، وأنه عند الله بمكان، فجعلت العدة حريماً له، وجعل الإحداد مِن تمام هذا المقصود وتأكده، ومزيدِ الاعتناء به، حتى جُعلت الزوجة أولى بفعله على زوجها مِن أبيها وابنها وأخيها وسائرِ أقاربها، وهذا مِن تعظيم هذا العقدِ وتشريفِه، وتأكدِ الفرقِ بينه وبين السِّفاح من جميع أحكامه، ولهذا شُرِعَ فى ابتدائه إعلانُه، والإشهادُ عليه، والضَّربُ بالدّف لتحقق المضادة بينَه وبينَ السِّفاح، وشرع فى آخره، وانتهائه من العدة والإحداد ما لم يُشرع فى غيره.
فصل
الحكم السادس فى الخصال التى تجتنِبها الحادةُ، وهى التى دل عليها النصُّ دون الآراءِ والأقوال التى لا دليل عليها وهى أربعة:
أحدها: الطيب بقوله فى الحديث الصحيح: "لاَ تَمسُّ طِيباً"، ولا خلافَ فى تحريمه عند من أوجب الإحداد، ولهذا لما خرجت أمُّ حبيبة رضى الله عنها من إحدادها على أبيها أبى سفيان، دعت بطيب، فدهنت منه جارية، ثم مست بعارضيها، ثم ذكرتِ الحديثَ، ويدخل فى الطيب: المسكُ، والعنبرُ، والكافورُ، والند، والغالِية، والزَّباد، والذَّريرة،
والبخور، والأدهان، كدُهن البان، والورد والبنفسج، والياسمين، والمياه المعتصرة من الأدهان الطيبة، كماء الورد، وماء القرنفل، وماء زهر النارنج، فهذا كُلُّه طِيب، ولا يدخُلُ فيه الزيتُ، ولا الشيرج، ولا السمن، ولا تُمتع من الادهان بشىء من ذلك.
فصل
الحكم السابع: وهى ثلاثة أنواع. أحدها: الزينة فى بدنها، فيحرم عليها الخضابُ، والنَّقشُ، والتطريفُ، والحُمرة، والاسفيدَاجُ، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص على الخِضاب منبهاً به على هذه الأنواع التى هى أكثرُ زينة منه، وأعظمُ فتنة، وأشدُّ مضادة لمقصود الإحداد، ومنها: الكُحل، والنهى عنه ثابت بالنص الصريح الصحيح.
ثم قال طائفة من أهل العلم من السلف والخلف: منهم أبو محمد ابن حزم: لا تكتحِلُ ولو ذهبت عيناها لا ليلاً ولا نهاراً، ويُساعد قولَهم، حديثُ أم سلمة المتفق عليه: أن امرأة توفى عنها زوجها، فخافوا على عينها، فأَتَوُا النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستأذنوه فى الكحل، فما أذن فيه، بل قال: "لا" مرتين أو ثلاثاً، ثم ذكر لهم ما كانوا يفعلونه فى الجاهلية من الإحداد البليغ سنَةً، ويصبِرن على ذلك، أفلا يصبرن أربعة أشهر وعشراً. ولا ريب أن الكحل من أبلغ الزينة، فهو كالطيب أو أشد منه. وقال بعض الشافعية: للسوداء أن تكتحل، وهذا تصرف مُخَالِفٌ للنص والمعنى، وأحكامُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تُفرِّق بين السود والبيض، كما لا تُفرق بين االطِوال والقِصار، ومثلُ هذا القياس بالرأى الفاسد الذى اشتد نكيرُ السلف
له وذمُّهم إياه. وأما جمهور العلماء، كمالك، وأحمد، وأبى حنيفة والشافعى، وأصحابهم، فقالوا: إن اضطرت إلى الكحل بالإثمد تداوياً لا زينة، فلها أن تكتحِلَ به ليلاً وتمسحه نهاراً، وحجتُهم: حديثُ أم سلمة المتقدم رضي الله عنها، فإنها قالت فى كحل الجلاء: لا تكتَحِلُ إلا لما لا بُدَّ منه، يَشْتَدُّ عَلَيْكِ فتكتحلين بالليل، وتغسلينه بالنهار. ومن حجتهم: حديث أم سلمة رضى الله عنها الآخر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل عليها، وقد جعلت عليها صَبراً فقال: ما هذا يا أم سلمة؟ فقلت: صبر يا رسول الله، ليس فيه طيب فقال: إنه يُشبُّ الوَجْهَ، فقال: لاَ تجعليه إلا باللَّيْل وَتَنْزِعيه بالنَّهَار"، وهما حديثٌ واحد، فَّرقه الرواةُ، وأدخل مالك هذا القدر منه فى "موطئه" بلاغاً، وذكر أبو عمر فى "التَمهيد" له طرقاً يَشدُّ بعضُها بعضاً، ويكفى احتجاجُ مالك به، وأدخله أهلُ السنن فى كتبهم، واحتج به الأئمةُ، وأقلُّ درجاته أن يكون حسناً، ولكن حديثُها لهذا مخالف فى الظاهر لحديثها المسند المتفق عليه، فإنه يَدُلُّ على أن المتوفى عنها لا تكتحِلُ بحال، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأذن للمشتكية عينها فى الكحل لا ليلاً ولا نهاراً، ولا مِن ضرورة ولا غيرِها، وقال: "لا"، مرتين أو ثلاثاً، ولم يقل: إلا أن تضطر. وقد ذكر مالك عن نافع، عن صفية ابنة عبيد، أنها اشتكت عينها وهى حَادٌّ على زوجها عبد الله بن عمر، فلم تكتحِل حتى كادت عيناها تَرْمَصَانِ.
قال أبو عمر: وهذا عندى وإن كان ظاهره مخالفاً لحديثها الآخر، لما فيه من إباحته بالليل. وقوله فى الحديث الآخر: "لا"، مرتين أو ثلاثاً على الإطلاق، أن ترتِيبَ الحديثَين والله أعلم أن الشكاة التى قال فيها
رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا، لم تبلغ والله أعلم مِنها مبلغاً لا بُدَّ لها فيه مِن الكحل، فلذلك نهاها، ولو كانت محتاجة مضطرة تخافُ ذهابَ بصرها، لأباح لها ذلك، كما فعل بالتى قال لها: "اجعليه باللَّيْلِ وامْسَحيهِ بالنَّهارِ"، والنظر يشهد لهذا التأويل، لأن الضرورات المحظورات إلى حال المباح فى الأصول، ولهذا جعل مالك فتوى أم سلمة رضى الله عنها تفسيراً للحديث المسند فى الكحل، لأن أم سلمة رضى الله عنها روته، وما كانت لِتخالِفَه إذا صحَّ عندها، وهى أعلمُ بتأويله ومخرجه، والنظرُ يشهد لذلك، لأن المضطر إلى شىء لا يُحكم له بحكم المرفَّه المتزين بالزينة، وليس الدواء والتداوى من الزينة فى شىء، وإنما نُهيت الحادة عن الزينة لا عن التداوى، وأمُّ سلمةَ رضى الله عنها أعلم بما روت مع صحته فى النظر، وعليه أهلُ الفقه، وبه قال مالك والشافعى، وأكثر الفقهاء.
وقد ذكر مالك رحمه الله فى "موطئه": أنه بلغه عن سالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، أنهما كانا يقولان فى المرأة يُتوفى عنها زوجُها: إنها إذا خشيت على بصرها مِن رمدٍ بعينيها، أو شكوى أصابتها، أنها تكتحل وتتداوى بالكحل وإن كان فيه طيب. قال أبو عمر: لأن القصد إلى التداوى لا إلى التطيب، والأعمال بالنيات.
وقال الشافعى رحمه الله، الصبر يصفر، فيكون زينة، وليس بطيب، وهو كحل الجلاء، فأذنت أم سلمة رضى الله عنها للمرأة بالليل حيث لا ترى، وتمسحه بالنهار حيث يرى، وكذلك ما أشبهه.
وقال أبو محمد بن قدامة فى "المغنى": وإنما تُمنع الحادةُ مِن الكُحل بالإثمد، لأنه تحصل به الزينة، فأما الكُحل بالتوتيا والعنزَروت
ونحوهما، فلا بأس به، لأنه لا زينةَ فيه، بل يُقَبِّح العين ويزيدها مَرَهاً. قال: ولا تُمنع مِن جعل الصَّبِرِ على غير وجهها من بدنها، لأنه إنما مُنِعَ منه فى الوجه، لأنه يُصفره، فيشبه الخضاب، فلهذا قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه يُشب الوجه.
قال: ولا تُمنع مِن تقليم الأظفار، ونتفِ الإبط، وحلقِ الشعر المندوب إلى حلقه، ولا من الاغتسال بالسِّدر، والامتشاط به، لحديثِ أم سلمة رضى الله عنها، ولأنه يراد للتنظيف لا للتطيب، وقال إبراهيم بن هانىء النيسابورى فى "مسائله" قيل لأبى عبد الله: المتوفى عنها تكتحِلُ بالإثمد؟ قال: لا، ولكن إن أرادت، اكتحلت بالصَّبِر إذا خافت على عينها واشتكت شكوى شديدة.
فصل
النوع الثانى: زينةُ الثياب، فيحرُم عليها ما نهاها عنه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما هو أولى بالمنع منه، وما هو مثلُه. وقد صح عنه أنه قال: " ولاَ تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً". وهذا يعم المعصفر والمزعفر، وسائرَ المصبوغ بالأحمر والأصفر، والأخضر، والأزرق الصافى، وكل ما يُصبغ للتحسين والتزيين. وفى اللفظ الآخر: " وَلاَ تَلْبَسُ المُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيابِ،ولا المُمَشَّق".
وههنا نوعان آخران. أحدهما: مأذون فيه، وهو ما نُسج من الثياب على وجهه ولم يدخل فيه صبغ من خز، أو قز، أو قطن، أو كتان، أو صوف، أو وبر، أو شعر، أو صبغ غزله ونسج مع غيره كالبروُد.
والثانى: ما لا يُراد بصبغه الزينة مثل السواد، وما صُبغ لتقبيح،
أو ليستر الوسخ، فهذا لا يمنع منه.
قال الشافعى رحمه الله: فى الثياب زينتان. إحداهما: جمال الثياب على اللابسين، والسترة للعورة. فالثيابُ زينة لمن يلبسُها، وإنما نُهيت الحادةُ عن زينة بدنها، ولم تُنه عن ستر عورتها، فلا بأس أن تلبس كُلَّ ثوبٍ من البياض، لأن البياض ليس بمزين، وكذلك الصوفُ والوبر، وكل ما يُنسج على وجهه ولم يدخل عليه صِبغ من خز أو غيره، وكذلك كُلُّ صبغ لم يرد تزيين الثوب مثل السواد، وما صبغ لتقبيحه، أو لنفى الوسخ عنه، فأما كان مِن زينة، أو وشى فى ثوبه أو غيره فلا تلبسه الحادة، وذلك لِكل حرة أو أمة، كبيرة أو صغيرة، مسلمة أو ذمية. انتهى كلامه.
قال أبو عمر: وقول الشافعى رحمه الله فى هذا الباب نحو قول مالك، وقال أبو حنيفة: لا تلبَسُ ثوب عصب ولا خز وإن لم يكن مصبوغاً إذا أرادت به الزينة، وإن لم تُرد بلبس الثوب المصبوغ الزينة، فلا بأس أن تلبسه. وإذا اشتكت عينُها، اكتحلت بالأسود وغيره، وإن لم تشتكِ عينُها، لم تكتحل.
فصل
وأما الإمام أحمد رحمه الله، فقال فى رواية أبى طالب: ولا تتزين المعتدة، ولا تتطيب بشىء من الطيب، ولا تكتحِلُ بكُحل زِينة، وتدَّهنُ بدُهن ليس فيه طيب، ولا تُقرِّبُ مسكاً، ولا زعفراناً للطيب، والمطلقة واحدة أو اثنتين تتزيَّن، وتتشوَّفُ لعله أن يُراجعها.
وقال أبو داود فى مسائله: سمعت أحمد قال: المتوفَّى عنها زوجُها، والمطلقةُ ثلاثاً، والمحرمة يجتنْبنَ الطيبَ والزينة.
وقال حرب فى "مسائله": سألتُ أحمد رحمه الله، قلت: المتوفى عنها زوجها والمطلقة، هل تلبسان البُرد ليس بحرير؟ فقال: لا تتطيب المتوفى عنها، ولا تتزين بزينة، وشدد فى الطيب، إلا أن يكون قليلاً عند طُهرها. ثم قال: وشبهت المُطَلَّقَة ثلاثاً بالمتوفَّى عنها، لأنه ليس لزوجها عليها رجعة، ثم ساق حرب بإسناده إلى أمِّ سلمة قال: المتوفَّى عنها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا تختضب، ولا تكتحِلُ، ولا تتطيب، ولا تمتشط بطيب.
وقال إبراهيم بن هانىء النيسابورى فى "مسائله": سألتُ أبا عبد الله عن المرأة تنتقِبُ فى عدتها، أو تدهن فى عدتها؟ قال: لا بأس به، وإنما كُرِهَ للمتوفَّى عنها زوجُها أن تتزين. وقال أبو عبد الله: كل دُهن فيه طيب، فلا تدهِنُ به، فقد دار كلام الإمام أحمد، والشافعى، وأبى حنيفة رحمهم الله على أن الممنوع منه مِن الثياب ما كان من لباس الزينة من أى نوع كان، وهذا هو الصوابُ قطعاً، فإن المعنى الذى مُنعت مِن المعصفر والممشَّق لأجله مفهوم، والنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خصه بالذكر مع المصبوغ تنبيهاً على ما هو مثلُه، وأولى بالمنع، فإذا كان الأبيضُ والبرود المحبرَّة الرفيعة الغالية الأثمان مما يُراد للزينة لارتفاعِهما وتناهى جودتهما، كان أولى بالمنعِ مِن الثوب المصبوغ. وكل من عقل عن الله ورسوله لم يَستَرِبْ فى ذلك، لا كما قال أبو محمد ابن حزم: إنها تجتنب الثياب المصبغة فقط، ومباحٌ لها أن تلبس بعدُ ما شاءت من حرير أبيض وأصفر مِن لونه الذى لم يُصبغ، وصوف البحر الذى هو لونُه، وغير ذلك. ومباح لها أن تلبسَ
المنسوجَ بالذهب والحُلى كله مِن الذهب والفضة، والجوهر والياقوت، والزمرد وغير ذلك، فهى خمستةُ أشياء تجتنبها فقط، وهى: الكحل كله لضرورة أو لغير ضرورة، ولو ذهبت عيناها لا ليلاً ولا نهاراً، وتجتنب فرضاً كُلَّ ثوب مصبوغ مما يُلبس فى الرأس والجسد، أو على شىء منه، سواء فى ذلك السواد والخضرة، والحُمرة والصفرة، وغير ذلك، إلا العصب وحدَه وهى ثياب موشَّاة تُعمل فى اليمن، فهو مباح لها. وتجتنب أيضاً: فرضاً الخضابَ كُلَّه جملة، وتجتنب الامتشاط حاشا التسريح بالمشط فقط، فهو حلالٌ لها، وتجتنب أيضاً: فرضاً الطيبَ كُلَّه، ولا تقرب شيئاً حاشا شيئاً من قسط أو أظفار عند طهرها فقط، فهذه الخمسة التى ذكرها حكينا كلامه فيها بنصه.
وليس بعجيبٍ منه تحريمُ لبس ثوب أسودَ عليها ليس من الزينة فى شىء، وإباحةُ ثوب يتقد ذهباً ولؤلؤاً وجوهراً، ولا تحريمُ المصبوغ الغليظ لحمل الوسخ، وإباحة الحرير الذى يأخذ بالعيون حسنُه وبهاؤه ورُواؤه، وإنما العجب منه أن يقولَ: هذا دينُ الله فى نفس الأمر، وأنه لا يَحلُّ لأحد خلافه. وأعجبُ من هذا إقدامه على خلافِ الحديث الصحيح فى نهيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها عن لباس الحُلِى. وأعجبُ من هذا، أنه ذكر الخبرَ بذلك، ثم قال: ولا يَصِحُّ ذلك، لأنه من رواية إبراهيم بن طهمان، وهو ضعيف، ولو صح لقلنا به.
فَلِلَّه ما لقى إبراهيم بن طهمان من أبى محمد ابن حزم، وهو مِن الحفاظ الأثبات الثقات الذين اتفق الأئمةُ الستة على إخراج حديثه، واتفق أصحابُ الصحيح، وفيهم الشيخان على الاحتجاج بحديثه، وشهد له الأئمةُ بالثقة والصدق، ولم يُحفظ عن أحد منهم فيه جرح ولا خدش، ولا يُحفظ عن أحد من المحدثين قط تعليلُ حديث
رواه، ولا تضعيفُه به. وقرىء على شيخنا أبى الحجاج الحافظ فى "التهذيب" وأنا أسمع: قال: إبراهيم بن طهمان بن سعيد الخراسانى أبو سعيد الهروى ولد بهراة، وسكن نيسابور وقَدِمَ بغداد، وحدث بها، ثم سكن بمكة حتى مات بها، ثم ذكر عمن روى، ومن روى عنه، ثم قال: قال نوح بن عمرو بن المروزى، عن سفيان بن عبد الملك، عن ابن المبارك: صحيحُ الحديث، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، وأبى حاتم: ثقة، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن معين: لا بأس به، وكذلك قال العِجلى، وقال أبو حاتم: صدوقٌ حسن الحديث، وقال عثمان بن سعيد الدارمى: كان ثقة فى الحديث، ثم لم تزل الأئمة يشتهون حديثه، ويرغبون فيه، ويوثقونه. وقال أبو داود: ثقة وقال إسحاق بن راهويه: كان صحيحَ الحديث، حسَ الرواية، كثيرَ السماع، ما كان بخُراسان أكثر حدثاً منه، وهو ثقة، وروى له الجماعة. وقال يحيى بن أكثم القاضى: كان مِن أنبل مَنْ حدَّث بخُراسان والعراق والحجاز، وأوثقهم، وأوسعهم علماً. وقال المسعودى: سمعت مالك ابن سليمان يقول: مات إبراهيم بنُ طهمان سنة ثمان وستين ومائة بمكة ولم يخلف مثله.
وقد أفتى الصحابةُ رضى الله عنهم بما هو مطابق لهذه النصوص، وكاشف عن معناها ومقصودها، فصَّح عن ابن عمر أنه قال: لا تكتحِلُ، ولا تتطيب، ولا تَخْتَضِب، ولا تلبَسُ المعصفر، ولا ثوباً مصبوغاً، ولا برداً، ولا تتزين بِحلى، شيئاً تُريد به الزينة، ولا تكتحِلُ بكُحل تُريد به الزينة، إلا أن تشتكى عينها.
وصحَّ عنه من طريق عبد الرزاق، عن سفيان الثورى، عن عُبيد الله ابن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: ولا تمسُّ عنها طيباً، ولا تختضِبُ ولا تكتحل، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب تتجلببُ به.
وصح عن أمِّ عطية: لا تلبسُ الثيابَ المصبغة إلا العَصْبَ، ولا تمس طيباً إلا أدنى الطيب بالقُسط والأظفار، ولا تكتحِلُ بكحل زينة.
وصح عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: تجتنِبُ الطيبَ والزينة.
وصح عن أمِّ سلمة رضى الله عنها لا تلبَسُ مِن الثياب المصبغة شيئاً، ولا تكتحِلُ، ولا تلبس حُلياً، ولا تختضب، ولا تتطيَّبُ.
وقالت عائشة أمُّ المؤمنين رضى الله عنها: لا تلبَسُ معصفراً، ولا تُقرِّبُ طيباً، ولا تكتحل، ولا تلبس حُلياً، وتلبس إن شاءت ثيابَ العَصْبِ.
فصل
وأما النِّقابُ، فقال الخِرقى فى "مختصره": وتجتنِبُ الزوجةُ المتوفَّى عنها زوجها الطيبَ، والزينة، والبيتوتة فى غير منزلها، والكُحلَ بالإثمد، والنِّقاب. ولم أجدْ بهذا نصاً عن أحمد.وقد قال إسحاق ابن هانىء فى "مسائله": سألت أبا عبد الله عن المرأة تنتقِبُ فى عِدتها، أو تدهِن فى عدتها؟ قال: لا بأس به، وإنما كُرِهَ للمتوفى عنها زوجها أن تتزيَّن. ولكن قد قال أبو داود فى "مسائله" عن المتوفى عنها زوجها، والمطلقة ثلاثاً، والمحرمة: تجتنبن الطيبَ والزينة.
فجعل المتوفى عنها بمنزلة المحرمة فيما تجتنبه، فظاهر هذا أنها تجتنب النقاب، فلعل أبا القاسم أخذ مِن نصه هذا والله أعلم وبهذا علله أبو محمد فى "المغنى" فقال: فصل الثالث فيما تجتنبه الحادة النقاب، وما فى معناه مثل البرقع ونحوه، لأن المعتدة مشبهة بالمُحْرِمَة، والمحرمة تمتنع من ذلك. وإذا احتاجت إلى ستر وجهها،سدلت عليه كما تفعل المحرمة.
فصل
فإن قيل: فما تقولون فى الثوب إذا صُبغَ غزلُه ثم نسج، هل لها لبسه؟ قيل: فيه وجهان، وهما احتمالات فى المغنى أحدهما يحرم لبسه، لأنه أحسن وأرفع ولأنه مصبوغٌ للحسن، فأشبه ما صُبغَ بعد نسجه، والثانى: لا يحرم لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها: " إلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ" ، وهو ما صُبغَ غزلُه قبل نسجه، ذكره القاضى، قال الشيخ: والأول أصح، وأما العَصَب: فالصحيح: أنه نبتٌ تصبغ به الثياب، قال السهيلى: الورس والعصب نبتان باليمن لا ينبتان إلا به، فرخص النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للحادَّةِ فى لبس ما يُصبغ بالعَصب، لأنه فى معنى ما يصبغ لغير تحسين، كالأحمر والأصفر، فلا معنى لتجويز لبسه مع حصول الزينة بصبغه، كحصولها بما صُبغ بعد نسجه. والله أعلم.
ذِكرُ حكمِ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الاستبراء

ثبت فى صحيح مسلم: من حديث أبى سعيد الخُدرى رضى الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ حُنين بعث جيشاً إلى أوطاس، فلقى عدواً،
فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابُوا سبايا، فكأن ناساً مِن أصحابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحرَّجوا من غِشيانهن مِن أجلِ أزواجهن من المشركين، فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ فى ذلك: {والمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أيْمَانْكُمْ} [النساء: 24] ، أى: فَهُنَّ لكُمْ حَلاَلٌ إذا انقضت عدتهن.وفى "صحيحه" أيضاً: من حديث أبى الدرداء رضى الله عنه، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّ بامرأةٍ مُجحٍّ عَلَى بابِ فُسطاط، فقال: "لَعَلَّهُ يُريد أَنْ يُلِمَّ بها". فقالوا: نعم، فقالَ رَسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْناً يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ، كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وهُوَ لاَ يَحِلُّ لَهُ، كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وهُوَ لاَ يَحِلُّ لَهُ".
وفى الترمذي: من حديث عِرباض بن سارية، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرَّم وَطْءَ السَّبايَا حَتَّى يَضَعْنَ مَا فى بُطُونِهِنَّ.
وفى "المسند"، وسنن أبى داود: من حديث أبى سعيد الخُدري رضى الله عنه، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فى سبايا أَوطاس: "لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً".
وفى الترمذى: من حديث رُويفع بن ثابت رضى الله عنه، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخر، فَلاَ يَسْقى مَاءَهُ وَلَد
غَيْرِه". قال الترمذى: حديث حسن.
ولأبى داود، من حديثه أيضاً: "لاَ يَحِلُّ لامْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَقَعَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنَ السَّبْى حَتَّى يَسْتَبْرئَها".
ولأحمد: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يَنْكِحَنَّ ثَيِّباً مِنَ السَّبَايَا حَتَّى تَحِيضَ". وذكر البخارى فى "صحيحه": قال ابن عمر: إذا وُهِبَتِ الوَليدةُ التى تُوطَأ، أو بيعَت، أو عَتقت، فلُتستبرأ بحيضة، ولا تُستبرأ العذراءُ.
وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن طاووس: أرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منادياً فى بعض مغازيه: "لاَ يَقَعَنَّ رَجُلٌ عَلى حَامِلٍ، وَلاَ حَائِلِ حَتَّى تَحِيضَ".
وذكر عن سفيان الثورى: عن زكريا، عن الشعبى، قال: أصاب المسلمون سبايا يومَ أوطاس، فأمرهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا يقعوا على حامِلٍ حتى تَضَعَ، ولا على غير حامل حتَّى تحيض.
فصل
فتضمنت هذه السنن أحكاماً عديدة:
أحدها: أنه لا يجوز وطءُ المسبية حتى يُعلم براءةُ رحمها، فإن كانت حاملاً فبوضع حملها، وإن كانت حائلاً فبأن تحيضَ حيضة. فإن لم تكن مِن ذوات الحيض فلا نصَّ فيها، واختُلِفَ فيها وفى البِكر، وفى التى يُعلم براءةُ رحمها بأن حاضت عند البائع، ثم باعها عقيبَ الحيض ولم يطأها، ولم يُخرجها عن ملكه، أو كانت عند امرأةٍ وهى مصونة، فانتقلت عنها إلى رجل، فأوجب الشافعىُّ وأبو حنيفة وأحمد الاستبراءَ فى ذلك كله، أخذاً بعموم الأحاديث، واعتباراً بالعِدة حيث تجب مع العلم ببراءة الرحم، واحتجاجاً بآثار الصحابة، كما ذكر عبد الرزاق: حدثنا ابنُ جريج، قال: قال عطاء: تداولَ ثلاثةٌ من التجار جارِيةً، فولَدت، فدعا عمر بن الخطاب رضى الله عنه القافة، فألحقوا ولدها بأحدهم، ثم قال عمر رضى الله عنه: من ابتاع جارية قد بلغت المحيضَ، فليتربَّصنْ بها حتى تحيض، فإن كانت لم تحض فليتربَّصنْ بها خمساً وأربعين ليلة.
قالوا: وقد أوجب الله العدة على من يئست من المحيض، وعلى من لم تبلغ سن المحيض، وجعلها ثلاثة أشهر، والاستبراءُ عدة الأمة، فيجبُ على الآيسة، ومن لم تبلغ سنَ المحيض. وقال آخرون: المقصودُ من الاستبراء العلمُ ببراءة الرحم، فحيث تيقن المالكُ براءة رحم الأمة، فله وطؤُها ولا استبراء عليه، كما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضى الله
عنه قال: إذا كانت الأمة عذراءَ لم يستبرئها إن شاء، وذكره البخارى فى "صحيحه" عنه.
وذكر حماد بن سلمة، حدثنا على بن زيد، عن أيوب بن عبد الله اللخمى، عن ابن عمر قال: وقعت فى سهمى جاريةٌ يومَ جَلُولاَء، كأنَّ عُنُقَها إبريقُ فِضَّة، قال ابن عمر: فما ملكتُ نفسى أن جعلتُ أقبلها والناسُ ينظرون.
ومذهب مالك إلى هذا يرجع، وهاك قاعدته وفروعها: قال أبو عبد الله المازَرى وقد عقد قاعدة لباب الاستبراء فنذكرها بلفظها.
والقول الجامع فى ذلك: أن كل أَمَةٍ أُمِنَ عليها الحملُ، فلا يلزم فيها الاستبراءُ، وكُلُّ مَنْ غلب على الظن كونها حاملاً، أو شك فى حملها، أو تردد فيه، فالاستبراءُ لازم فيها، وكل من غلَّب الظن ببراءة رحمها، لكنه مع الظن الغالب يجوز حصولُه، فإن المذهب على قولين فى ثبوتِ الاستبراء وسقوطِه.
ثم خرج على ذلك الفروعَ المختلفة فيها، كاستبراءِ الصغيرة التى تُطيق الوطْء، والآيسَة، وفيه روايتان عن مالك، قال صاحب "الجواهر": ويجبُ فى الصغيرة إذا كانت ممن قارب سن الحمل، كبنت ثلاث عشرة، أو أربع عشرة، وفى إيجاب الاستبراء إذا كانت ممن تُطيق الوطءَ، ولا يَحْمِلُ مثلها كبنت تسع وعشر، روايتان أثبته فى رواية ابن القاسم، ونفاه فى رواية ابن عبد الحكم، وإن كانت ممن لا يُطبق الوطء، فلا استبراء فيها. قال: ويجب الاستبراء فيمن جاوزت سنَّ الحيض، ولم تبلغ سنّ
الآيسة، مثل ابنة الأربعين والخمسين. وأما التى قعدت عن المحيض، ويئست عنه، فهل يجب فيها الاستبراءُ أو لا يجب؟ روايتان لابن القاسم، وابنِ عبد الحكم. قال المازَرى: ووجهُ الصغيرة التى تُطيق الوطء والآيسة، أنه يُمكن فيهما الحملُ على الندور، أو لِحماية الذريعة، لئلا يدعى فى مواضع الإمكان أن لا إمكان.
قال: ومِن ذلك استبراءُ الأمة خوفاً أن تكون زنت، وهو المعَّبر عنه بالاستبراء لسوء الظن، وفيه قولان، والنفى لأشهب.
قال: ومِن ذلك استبراءُ الأمَةِ الوَخْشِ، فيه قولان، الغالبُ: عَدمُ وطءِ السادات لهن، وإن كان يقع فى النادر.
ومِن ذلك استبراءُ مَنْ باعها مجبوبٌ، أو امرأة، أو ذو محرم، ففى وجوبه روايتان عن مالك.
ومِن ذلك استبراءُ المكاتبة إذا كانت تتصرَّفُ ثم عجزت، فرجعت إلى سيدها، فابنُ القاسم يُثبِتُ الاستبراءَ، وأشهبُ ينفيه.
ومن ذلك استبراءُ البِكر، قال أبو الحسن اللخمى: هو مستحب على وجه الاحتياط غيرُ واجب، وقال غيرُه من أصحاب مالك: هو واجب.
ومن ذلك إذا استبرأ البائعُ الأمة، وعَلِمَ المشترى أنه قد استبرأها، فإنه يُجزىء استبراءُ البائع عن استبراء المشترى.
ومن ذلك إذا أودعه، فحاضت عند المُودَع حيضة، ثم استبرأها لم يحتج إلى استبراءٍ ثانٍ، وأجزأت تلك الحيضة عن استبرائها، وهذا بشرط أن لا تخرُج، ولا يكون سيدُها يدخلُ عليها.
ومن ذلك أن يشترِيَها مِن زوجته، أو ولد له صغير فى عياله وقد حاضت عند البائع، فابنٌ القاسم يقول: إن كانت لا تخرج، أجزأه ذلك، وأشهبُ يقول: إن كان مع المشترى فى دار وهو الذابُّ عنها، والناظرُ فى أمرها، أجزأه ذلك، سواء كانت تخرج أو لا تخرج.
ومن ذلك إن كان سيدُ الأمةِ غائباً، فحين قدم، اشتراها منه رجل قبل أن تخرج، أو خرجت وهى حائض، فاشتراها قبل أن تطهر، فلا استبراء عليه.
ومِنْ ذلك إذا بيعت وهى حائض فى أوَّلِ حيضها، فالمشهورُ من مذهبه أن ذلك يكون استبراءً لها لا يحتاجُ إلى حيضة مستأنفَة.
ومن ذلك، الشريكُ يشترى نصيبَ شريكه مِن الجارية وهى تحتَ يد المشترى منهما، وقد حاضت فى يده، فلا استبراءَ عليه.
وهذه الفروعُ كلُّها مِن مذهبه تُنبيك عن مأخذه فى الاستبراء، وأنه إنما يجب حيث لا يعلم ولا يُظن براءة الرحم، فإن عُلمت أو ظُنت، فَلاَ استبراء، وقد قال أبو العباس ابن سريج وأبو العباس ابن تيمية: إنه لا يجب استبراءُ البكر، كما صح عن ابن عمر رضى الله عنها، وبقولهم نقول، وليس عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص عام فى وجوب استبراء كل من تجدَّد له عليها ملك على أى حالة كانت، وإنما نهى عن وطءِ السبايا حتى تضعَ حواملُهن، وتحيض حوائلهن.
فإن قيل: فعمومُه يقتضى تحريم وطء أبكارهن قبل الاستبراء، كما يمتنع وطء الثيب؟.
قيل: نعم، وغايتُه أنه عموم أو إطلاق ظهر القصدُ منه، فيُخص أو يُقيد عند انتفاء موجبِ الاستبراء، ويخص أيضاً بمفهوم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فى حديث رويفع: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يَنْكِحْ ثَيِّباً مِنَ السَّبايَا حَتَّى تحِيضَ". ويخص أيضاً بمذهب الصحابى، ولا يعلم له مخالف.
وفى صحيح البخارى: من حديث بريدة، قال: بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً رضى الله عنه إلى خالد يعنى باليمن لِيقبض الخُمُسَ، فاصطفى علىٌ منها سَبِيَّةً، فأصبح وقد اغتسل، فقلتُ لخالد: أما ترى إلى هذا؟ وفى رواية: فقال خالد لبُريدة: ألا ترى ما صَنَعَ هذا؟ قال بريدة: وكُنْتُ أُبْغِضُ علياً رضى الله عنه، فلما قدمنا إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكرتُ ذلك له، فقال: "يا بُرَيْدَةَ أَتُبْغِضُ عَلِيٍّا"؟ قلت: نعم، قال: "لاَ تُبْغِضْهُ فَإنَّ له فى الخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ". فهذه الجاريةُ إما أن تكون بكراً فلم ير علي وجوب استبرائها، وإما أن تكون فى آخر حيضها، فاكتفى بالحيضة قبل تملُّكه لها. وبكل حال، فلا بد أن يكون تحقق براءَة رحمها بحيث أغناه عن الاستبراء.
فإذا تَأملتَ قولَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقَّ التأمل، وجدت قوله: "وَلاَ تُوْطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ" ، ظهر لك منه أن المراد بغير ذاتِ الحمل مَنْ يجوزُ أن تكون حاملاً، وأَن لا تكون، فيُمسك عن وطئها مخافة الحمل، لأنه لا علم له بما اشتمل عليه رحمها، وهذا قاله فى المسبيات لعدم علم السابى بحالهنَّ.
وعلى هذا فَكُلُّ من ملك أمة لا يعلم حالها قبل الملك، هل اشتمل رحمها على حمل أم لا؟ لم يطأها حتى يستبرئها بحيضة، هذا أمر معقول، وليس
بتعبد محض لا معنى له، فلا معنى لاستبراء العذراء والصغيرةِ التى لا يَحْمِلُ مثلُها، والتى اشتراها من امرأته وهى فى بيته لا تخرُج أصلاً، ونحوها ممن يُعلم براءة رحمها، فكذلك إذا زنتِ المرأة وأرادت أن تتزوج، استبرأها بحيضة، ثم تزوجت، وكذلك إذا زنت وهى متزوجة، أمسك عنها زوجها حتى تحيض حيضة.
وكذلك أم الولد إذا مات عنها سيدُها، اعتدت بحيضة.
قال عبدُ الله بن أحمد: سألت أبى، كم عدة أم الولد إذا توفى عنها مولاها أو أعتقها؟ قال: عِدتها حيضة، وإنما هى أمة فى كل أحوالها، إن جنت، فعلى سيدها قيمتها، وإن جُني عليها، فعلى الجانى ما نقص مِن قيمتها. وإن ماتت، فما تركت مِن شىء فلسيدها، وإن أصابت حداً، فحدُّ أمة، وإن زوجها سيدها، فما ولدت، فهم بمنزلتها يُعتقون بعتقها، ويُرقون برقها.
وقد اختلف الناس فى عِدتها، فقال بعضُ الناس: أربعة أشهر وعشراً، فهذه عِدة الحرة، وهذه عِدة أمة خرجت مِن الرق إلى الحرية، فيلزم من قال: أربعة أشهر وعشراً أن يُورِّثها، وأن يجعل حُكمها حكم الحرة، لأنه قد أقامها فى العِدة مقامَ الحرة. وقال بعضُ الناس: عدتها ثلاث حيض، وهذا قول ليس له وجه، إنما تعتد ثلاثَ حيض المطلقةُ، وليست هى بمطلقة ولا حُرة، وإنما ذكر الله العدة فقال: {والَّذِينََ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُم وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصن بأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234]، وليست أم الولد بحرة ولا زوجة، فتعتد بأربعة أشهر وعشر. قال: {والمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وإنما هى أمة خرجت مِن الرِّق إلى الحرية، وهذا لفظ أحمد رحمه الله.
وكذلك قال فى رواية صالح: تعتد أمُّ الولد إذا تُوفى عنها مولاها، أو أعتقها حيضة، وإنما هىَ أمة فى كل أحوالها.
وقال فى رواية محمد بن العباس: عِدة أمِّ الولد أربعة أشهر وعشر إذا توفى عنها سيدها.
وقال الشيخ فى "المغنى": وحكي أبو الخطاب رواية ثالثة عن أحمد: أنها تعتد بشهرين وخمسة أيام.قال: ولم أجِده هذه الرواية عن أحمد رحمه الله فى "الجامع"، ولا أظنها صحيحة عن أحمد رحمه الله، ورُوى ذلك عن عطاء وطاووس وقتادة، لأنها حين الموت أمة، فكانت عِدتها عدةَ الأمة، كما لو مات رجل عن زوجته الأمة، فعتقت بعد موته، فليست هذه رواية إسحاق بن منصور عن أحمد.
قال أبو بكر عبد العزيز فى "زاد المسافر": باب القول فى عدة أم الولد من الطلاق والوفاة. قال أبو عبد الله فى رواية ابن القاسم: إذا مات السيد وهى عند زوج، فلا عِدة عليها، كيف تعتد وهى مع زوجها؟ وقال فى رواية مهنا: إذا أعتق أمَّ الولد، فلا يتزوج أختها حتى تخرج من عدتها. وقال فى رواية إسحاق ابن منصور: وعِدة أم الولد عدة الأمة فى الوفاة والطلاق والفرقة، انتهى كلامه.وحُجة من قال: عدتها أربعة أشهر وعشر، ما رواه أبو داود عن عمرو بن العاص، أنه قال: لا تُفْسِدُوا عَلَيْنَا سنة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها أربعة أشهر وعشر: وهذا قول السَّعيدين، ومحمد بن سيرين، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز، وخِلاس بن عمرو،
والزهرى، والأوزاعى، وإسحاق. قالوا: لأنها حرة تعتد للوفاة، فكانت عِدتُها أربعة أشهر وعشراً، كالزوجة الحرة.
وقال عطاء، والنخعى، والثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه: تعتدُّ بثلاثِ حيض، وحُكىَ عَن على، وابن مسعود، قالوا: لأنها لا بد لها مِن عدة، وليست زوجة، فتدخل فى آية الأزواج المتوفَّى عنهن، ولا أمة، فتدخُلُ فى نصوص استبراء الإمَاء بحيضة، فهى أشبه شىء بالمطلقة، فتعتد بثلاثة أقراء.
والصوابُ من هذه الأقوال: أنها تُستَبرأ بحيضة، وهو قولُ عثمان بن عفان، وعائشة، وعبد الله بن عمر، والحسن، والشعبى، والقاسم ابن محمد، وأبى قِلابة، ومكحول، ومالك، والشافعى، وأحمد بن حنبل فى أشهر الروايات عنه، وهو قول أبى عبيد، وأبى ثور، وابن المنذر، فإن هذا إنما هو لمجرد الاستبراء لزوال الملك عن الرقية، فكان حيضة واحدة فى حق من تحيض، كسائر استبراءات المعتقات، والمملوكات، والمسبيات. وأما حديث عمرو بن العاص، فقال ابن المنذر: ضعف أحمد وأبو عُبيد حديث عمرو بن العاص. وقال محمد بن موسى: سألت أبا عبد الله عن حديث عمرو بن العاص، فقال: لا يصح. وقال الميمونى: رأيت أبا عبد الله يعجَبُ مِن حديث عمرو بن العاص هذا، ثم قال: أين سنةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى هذا؟ وقال: أربعة أشهر وعشراً إنما هى عدة الحرة من النكاح، وإنما هذه أمة خرجت من الرِّق إلى الحرية، ويلزم من قال بهذا أن يُورثها، وليس لقول من قال: تعتد ثلاثَ حيض وجه، إنما تعتد بذلك المطلقة، انتهى كلامه.
وقال المنذرى: فى إسناد حديث عمرو، مطرُ بن طهمان أبو رجاء
الوراق، وقد ضعفه غير واحد، وأخبرنا شيخنا أبو الحجاج الحافظ فى كتاب "التهذيب" قال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن مطر الوراق. فقال: كان يحيى بن سعيد يُضعف حديثه عن عطاء، وقال عبد الله ابن أحمد بن حنبل: سألتُ أبى عن مطر الوراق، قال: كان يحيى بن سعيد يُشبه حديث مطر الوراق بابن أبى ليلى فى سوء الحفظ، قال عبد الله: فسألت أبى عنه؟ فقال: ما أقربَه مِن ابن أبى ليلى فى عطاء خاصة، وقال: مطر فى عطاء: ضعيف الحديث، قال عبد الله: قلت ليحيى بن معين: مطر الوراق؟ فقال: ضعيف فى حديث عطاء بن أبى رباح، وقال النسائى: ليس بالقوى. وبعد، فهو ثقة، قال أبو حاتم الرازى: صالح الحديث، وذكره ابن حبان فى كتاب الثقات، واحتج به مسلم، فلا وجه لضعف الحديث به.
وإنما علة الحديث أنه من رواية قبيصة بن ذؤيب، عن عمرو بن العاص رضى الله عنه، ولم يسمع منه، قاله الدارقطنى، وله عِلة أخرى، وهى أنه موقوف لم يقل: لا تُلبسوا علينا سنة نبينا. قال الدارقطنى: والصوابُ: لا تُلبِّسوا علينا ديننا. موقوف. وله علة أخرى، وهى اضطرابُ الحديث، واختلافه عن عمرو على ثلاثة أوجه. أحدها: هذا. والثانى: عدة أم الولد عدة الحرة. والثالث: عدتها إذا توفى عنها سيدها أربعة أشهر وعشرا، فإذا أعتقت، فعدتها ثلاث حيض، والأقاويل الثلاثة عنه ذكرها البيهقى. قال الإمام أحمد: هذا حديث منكر حكاه البيهقى عنه، وقد روى خِلاس، عن على مثل رواية قبيصة عن عمرو، أن عدة أم
الولد أربعة أشهر وعشر، ولكن خِلاس بن عمرو قد تُكُلِّم فى حديثه، فقال أيوب: لا يُروى عنه، فإنه صَحَفى، وكان مغيرة لا يُعْبَأُ بحديثه. وقال أحمد: روايته عن على يقال: إنه كتاب، وقال البيهقى: روايات خِلاس عن على ضعيفة عند أهل العلم بالحديث، فقال: هى من صحيفة. ومع ذلك فقد روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر فى أم الولد يُتوفى عنها سيدها، قال: تعتد بحيضة. فإن ثبت عن على وعمرو ما رُوى عنهما، فهى مسألة نزاع بين الصحابة، والدليلُ هو الحاكم، وليس مع مَنْ جعلها أربعةَ أشهر وعشراً إلا التعلقُ بعموم المعنى، إذ لم يكن معهم لفظ عام، ولكن شرطُ عموم المعنى تساوى الأفراد فى المعنى الذى ثبت الحكم لأجله، فما لم يُعلم ذلك لا يتحقَّقُ الإِلحاق، والذين ألحقوا أمَّ الولد بالزوجة رأوا أن الشَّبهَ الذى بين أم الولد وبينَ الزوجة أقوى من الشبه الذى بينها وبينَ الأمة من جهة أنها بالموت صارت حرة، فلزمتها العِدة مع حُريتها، بخلاف الأمة، ولأن المعنى الذى جُعِلَتْ له عِدة الزوجة أربعة أشهر وعشراً، موجودٌ فى أمِّ الولد، وهو أدنى الأوقات الذى يُتيقن فيها خلقُ الولد، وهذا لا يفترق الحالُ فيه بَينَ الزوجة وأم الولد والشريعةُ لا تُفرق بين متماثلين، ومنازعوهم يقولون: أمُّ الولد أحكامُها أحكام الإماء، لا أحكامُ الزوجات، ولهذا لم تدخل فى قوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُم} [النساء: 12]، وغيرها، فكيف تدخل فى قوله: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ويَذَرُون أَزْواجاً} [البقرة: 240]، قالوا: والعِدة لم تُجعل أربعة أشهر وعشراً لأجل مجرد براءة الرحم، فإنها تجب على من يُتَيَقَّنُ براءة رحمها، وتجب قبل الدخول والخلوة، فهى مِن حريم عقد النكاح وتمامه.
وأما استبراء الأمة، فالمقصود منه العلم ببراءة رحمها، وهذا يكفى فيه حيضة، ولهذا لم يُجعل استبراؤها ثلاثَة قروء، كما جعلت عِدة الحرة كذلك تطويلاً لزمان الرجعة، ونظراً للزوج، وهذا المعنى مقصودٌ فى المستبرأة، فلا نصَّ يقتضى إلحاقها بالزوجات ولا معنى، فأولى الأمورِ بها أن يُشرع لها ما شرعه صاحبُ الشرع فى المسبيات والمملوكات، ولا تتعداه، وبالله التوفيق.
فصل
الحكم الثانى: أنه لا يحصُل الاستبراءُ بطُهر البتة، بل لا بُدَّ مِن حيضة، وهذا قولُ الجمهور، وهو الصوابُ، وقال أصحابُ مالك، والشافعى فى قول له: يحصلُ بطهر كامل، ومتى طعنت فى الحيضة، تم استبراؤُها بناء على قولهما: إن الأقراء: الأطهار، ولكن يَرُدُّ هذا، قول رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تُوطأ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، ولاَ حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرأَ بِحَيْضَةٍ". وقال رُويفع بن ثابت: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يوم حنين: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يَطَأْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْى حَتَّى يَسْتَبْرِئها بِحَيضَة" رواه الإمام أحمد وعنده فيه ثلاثة ألفاظ: هذا أحدها.
الثانى: نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا توطأ الأمة حتى تحيض، وعن الحَبَالى حتى تضعن.
الثالث: " مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخرِ فَلاَ يَنْكِحَنَّ ثَيِّباً مِنَ السَّبَايَا حَتَّى تَحِيضَ ". فعلق الحِلَّ فى ذلك كله بالحيض وحده لا بالطهر،
فلا يَجوز إلغاء ما اعتبره، واعتبار ما ألغاه، ولا تعويل على ما خالف نصه، وهو مقتضى القياس المحض، فإن الواجبَ هو الاستبراء، والذى يدل على البراءة هو الحيض، فأما الطهر، فلا دِلالة فيه على البراءة، فلا يجوز أن يُعوَّلَ فى الاستبراء على ما لا دلالة له فيه عليه دون ما يدل عليه، وبناؤُهم هذا على أن الأقراء هى الأطهار، بناء على الخلاف للخلاف، وليس بحجة ولا شبهة، ثم لم يُمكنهم بناء هذا على ذاك حتى خالفوه، فجعلوا الطهر الذى طلقها فيه قرءاً، ولم يجعلوا طهر المستبرأة التى تجدد عليها الملكُ فيه، أو ماتَ سيدها فيه قرءاً، وحتَّى خالفُوا الحديثَ أيضاً كما تبين، وحتى خالفوا المعنى كما بيناه، ولم يُمكنهم هذا البناء إلا بعد هذه الأنواع الثلاثة من المخالفة، وغاية ما قالوا: أن بعضَ الحيضة المقترن بالطهر يدل على البراءة، فيقال لهم: فيكون الاعتماد عليهم حينئذ على بعض الحيضة، وليس ذلك قرءاً عند أحد؟ فإن قالوا: هو اعتماد على بعض حيضة وطهر. قلنا: هذا قول ثالث فى مسمى القروء، ولا يعرف، وهو أن تكون حقيقته مركبةً من حيض وطهر.
فإن قالوا: بل هو اسم للطهر بشرط الحيض. فإذا انتفى الشرط، انتفى المشروط، قلنا: هذا إنما يمكن لو علق الشارع الاستبراء بقرء، فأما مع تصريحه على التعليق بحيضة، فلا.
فصل
الحكم الثالث: أنه لا يحصُل ببعض حيضة فى يدِ المشترى اكتفاء بها. قال صاحب "الجواهر": فإن بِيعت الأمة فى آخرِ أيام حيضها،
لم يكن ما بقَى مِن أيام حيضها استبراءً لها مِن غير خلاف، وإن بِيعَت وهى فى أول حيضتها، فالمشهور من المذهب أن ذلك يكون استبراءً لها.
وقد احتج من نازع مالكاً بهذا الحديث، فإنه علق الحل بحيضة، فلا بُدَّ من تمامها، ولا دليل فيه على بطلان قوله، فإنه لا بُدَّ من الحيضة بالاتفاق، ولكن النزاع فى أمر آخر، وهو أنه هل يشترط أن يكون جميع الحيضة وهى فى ملكه، أو يكفى أن يكونَ معظمُها فى مُلكه، فهذا لا ينفيه الحديثُ، ولا يُثبته، ولكن لمنازعيه أن يقولوا: لما اتفقنا على أنه لا يكفى أن يكون بعضُها فى ملك المشترى وبعضُها فى ملك البائع إذا كان أكثرُها عند البائع، علم أن الحيضة المعتبرة أن تكون، وهى عند المشترى، ولهذا لو حاضت عند البائع، لم يكن ذلك كافياً فى الاستبراء.
ومن قال بقول مالك، يُجيب عن هذا بأنها إذا حاضت قبل البيع وهى مودَعة عند المشترى، ثم باعها عقيب الحيضة، ولم تخرج من بيته، اكتُفى بتلك الحيضة، ولم يجب على المشترى استبراء ثان، وهذا أحد القولين فى مذهب مالك كما تقدم، فهو يجوز أن يكون الاستبراء واقعاً قبل البيع فى صور، منها هذه.
ومنها إذا وضعت للاستبراء عند ثالث، فاستبرأها، ثم بيعت بعده. قال فى "الجواهر": ولا يجزىء الاستبراء قبل البيع إلا فى حالات منها أن تكونَ تحتَ يدِه للاستبراء، أو بالوديعة، فتحيضُ عنده، ثم يشتريها حينئذ، أو بعدَ أيام، وهى لا تخرُجُ، ولا يدخل عليها سيدُها. ومنها: أن يشتريها ممن هو ساكن معه من زوجته، أو ولد له صغير فى عياله. وقد حاضت، فابن القاسم يقول: إن كانت لا تخرج أجزأه ذلك. وقال أشهب: إن كانت معه فى دار وهو الذاب عنها، والناظرُ
فى أمرها، فهو استبراء، سواء كانت تخرُج أو لا تخرُج. ومنها: إذا كان سيدُها غائباً، فحين قدم استبرأها قبل أن تخرُج، أو خرجت وهى حائض، فاشتراها منه قبل أن تطهر.
ومنها: الشريكُ يشترى نصيب شريكه من الجارية وهى تحتَ يد المشترى منهما وقد حاضت فى يده. وقد تقدمت هذه المسائل، فهذه وما فى معناها تضمنت الاستبراء قبل البيع، واكتفى به مالك عن استبراء ثان.
فإن قيل: فكيف يجتمع قولُه هذا، وقوله: إن الحيضة إذا وجد معظمها عند البائع لم يكن استبراءاً؟ قيل: لا تناقُضَ بينهما، وهذه لها موضع وهذه لها موضع، فكل موضع يحتاج فيه المشترى إلى استبراء مستقل لا يُجزىء إلا حيضة لم يوجد معظمُها عند البائع، وكل موضع لا يحتاج فيه إلى استبراء مستقل لا يحتاج فيه إلى حيضة ولا بعضها، ولا اعتبارَ بالاستبراء قبل البيع، كهذه الصور ونحوها.
فصل
الحكم الرابع: أنها إذا كانت حاملاً، فاستبراؤها بوضع الحمل، وهذا كما أنه حكم النص، فهو مجمع عليه بين الأمة.
فصل
الحكم الخامس: أنه لا يجوزُ وطؤها قبلَ وضع حملها، أى حمل كان، سواء كان يلحق بالواطىء، كحمل الزوجة والمملوكة، والموطوءة بشبهة، أو لا يلحق به كحمل الزانية، فلا يحل وطءُ حامل مِن غير الواطىء البتة، كما صرَّح به النص، وكذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلا يَسْقى مَاءَه زَرْعَ غَيْرِهِ" وهذا يَعُمُّ الزرعَ الطيب والخبيث، ولأن صِيانة ماء الواطىء عن الماء الخبيث حتى لا يختلِطَ به أولى مِن صيانته عن الماء الطيب، ولأن حمل الزانى وإن كان لا حُرمة له ولا لمائه، فحملُ هذا الواطىء وماؤه محترم، فلا يجوزُ له خلطه بغيره ولأن هذا مخالف لسنة الله فى تمييز الخبيثِ من الطيب، وتخليصه منه، وإلحاق كل قسم بمجانسه ومشاكله.
والذى يقضى منه العجب، تجويزُ من جوز من الفقهاء الأربعة العقد على الزانية قبل استبرائها ووطئها عقيبَ العقد، فتكون الليلة عند الزانى وقد علقت منه، والليلة التى تليها فراشاً للزوج.
ومن تأمل كمال هذه الشريعة، علم أنها تأبى ذلك كُلَّ الإِباء، وتَمنع منه كُلَّ المنع.
ومِن محاسن مذهب الإمام أحمد، أن حرَّم نكاحها بالكُلية حتى تتوب، ويرتفعَ عنها اسمُ الزانية والبغىِّ والفاجرة، فهو رحمه الله لا يجوز أن يكون الرجل زوجَ بغى، ومنازعوه يجوزون ذلك، وهو أسعدُ منهم فى هذه المسألة بالأدلة كُلِّها من النصوصِ والآثار، والمعانى والقِياس، والمصلحة والحكمة، وتحريم ما رآه المسلمون قبيحاً. والناس إذا بلغوا
فى سبِّ الرجل صرَّحوا له بالزاى والقاف، فكيف تجوز الشريعةُ مثل هذا، مع ما فيه من تعرُّضه لإفساد فراشه، وتعليق أولاد عليه من غيره، وتعرضه للاسم المذموم عند جميع الأمم؟ وقياسُ قولِ من جوَّزَ العقد على الزانية ووطئها قبل استبرائها حتى لو كانت حاملاً، أن لا يوجب استبراء الأمة إذا كانت حاملاً من الزنى، بل يطؤها عقيب ملكها، وهو مخالِفٌ لصريح السنة. فإن أوجب استبراءها، نقض قوله بجواز وطء الزانية قبل استبرائها، وإن لم يوجب استبراءها، خالف النصوصَ، ولا ينفعُه الفرق بينهما، بأن الزوجَ لا استبراء عليه، بخلافِ السيد فإن الزوجَ إنما لم يجب عليه الاستبراءُ، لأنه لم يعقد على معتدة، ولا حامل من غيره بخلاف السيد، ثم إن الشارع إنما حرم الوطء، بل العقد فى العدة خشيةَ إمكان الحمل، فيكون واطئاً حاملاً من غيره، وساقياً ماءَه لزرع غيره مع احتمال أن لا يكون كذلك، فكيف إذا تحقق حملها.
وغاية ما يقال: إن ولد الزانية ليسَ لاحقاً بالواطىء الأول، فإن الولَد لِلفراش، وهذا لا يجوزُ إقدامه على خلط مائه ونسبه بغيره، وإن لم يلحق بالواطىء الأول، فصيانةُ مائه ونسبه عن نسب لا يُلحق بواضعه لصيانته عن نسب يلحق به. والمقصود: أن الشرعَ حرَّم وطء الأمة الحامل حتى تضع، سواء كان حملُها محرماً أو غير محرم وقد فرَّق النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الرجل والمرأة التى تزوج بها، فوجدها حُبلى، وجلدها الحدَّ، وقضى لها بالصَّداق، وهذا صريحٌ فى بطلان العقد على الحامل من الزنى. وصح عنه أنه مر بامرأة مُجِحٍّ على باب فسطاط، فقال: "لَعَلَّ سَيّدَها يُرِيدُ أَنْ يُلِمَّ بِها"؟ قالوا: نعم.قال: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلعْنه لعناً يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ، كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وَهُوَ
لاَ يَحِلُّ لَهُ، كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لاَ يَحِلُّ لَهُ". فجعل سبب همِّه بلعنته وطأه للأمة الحامل، ولم يستفصِلْ عن حملها، هل هو لاحق بالواطِىء أم غيرُ لاحق به؟ وقوله:
"كيف يستخدِمُه وهو لا يحل له" أى: كيف يجعلُه عبداً له يستخدِمُه، وذلك لا يحِل، فإن ماء هذا الواطىء يزيدُ فى خلق الحمل، فيكون بعضُه منه، قال الإمام أحمد يزيدُ وطؤه فى سمعه وبصره.
وقوله: "كيف يورثه وهو لا يَحِلُّ له"، سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول فيه: أى: كيف يجعله تركة موروثة عنه، فإنه يعتقده عبده، فيجعله تركةً تُورث عنه، ولا يَحِلُّ له ذلك، لأن ماءه زاد فى خلقه، ففيه جزء منه.
وقال غيره: المعنى: كيف يورثه على أنه ابنُه، ولا يحِلُّ له ذلك، لأن الحملَ مِن غيره، وهو بوطئه يريد أن يجعله منه، فيورثه ماله، وهذا يردُّه أولُ الحديث، وهو قوله: "كيف يستعبده"؟ أى: كيف يجعله عبده؟ وهذا إنما يدل على المعنى الأول. وعلى القولين، فهو صريح فى تحريم وطء الحامل من غيره، سواء كان الحملُ مِن زنى أو من غيره، وأن فاعل ذلك جدير باللعن، بل قد صرَّح جماعة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم: بأن الرجل إذا ملك زوجتَه الأمة، لم يطأها حتى يستبرئها خشية أن تكون حاملاً منه فى صلب النكاح، فيكون على ولده الولاء لموالى أمه بخلاف ما علقت به فى ملكه، فإنه لا ولاء عليه، وهذا كله احتياط لولده: هل هو صريحُ الحرية لا ولاء عليه، أو عليه ولاء؟ فكيف إذا كانت حاملاً من غيره؟
فصل
الحكم السادس: استنبط من قوله: "ولا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ"، أن الحامل لا تحيض، وأن ما تراه من الدم يكون دمَ فساد بمنزلة الاستحاضة، تصومُ وتُصلى، وتطوف بالبيت، وتقرأ القرآن، وهذه مسألة اختلف فيها الفقهاء، فذهب عطاءٌ والحسن، وعكرمة ومكحول، وجابرُ بن زيد، ومحمد بن المنكدر، والشعبى، والنخعى، والحكم، وحماد، والزهرى، وأبو حنيفة وأصحابُه، والأوزاعى، وأبو عُبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، والإمام أحمد فى المشهور من مذهبه، والشافعى فى أحد قوليه: إلى أنه ليس دمَ حيض. وقال قتادة، وربيعةُ، ومالك، والليث بن سعد، وعبد الرحمن ابن مهدى، وإسحاق بن راهوية: إنه دم حيض، وقد ذكره البيهقى فى "سننه" وقال إسحاق ابن راهويه: قال لى أحمد بن حنبل: ما تقول فى الحامل ترى الدم؟ فقلت: تصلى، واحتججت بخبر عطاء عن عائشة رضى الله عنها. قال: فقال أحمد بن حنبل، أين أنت عن خبر المدنيين، خبر أمِّ علقمة مولاة عائشة رضى الله عنها؟ فإنه أصح. قال إسحاق: فرجعت إلى قول أحمد، وهو كالتصريح من أحمد، بأن دمَ الحامل دم حيض، وهو الذى فهمه إسحاق عنه، والخبرُ الذى أشار إليه أحمد، وهو ما رويناه من طريق البيهقى، أخبرنا الحاكم، حدثنا أبو بكر بن إسحاق، حدثنا أحمدُ بن إبراهيم، حدثنا ابن بكير، حدثنا الليث، عن بكير بن عبد الله، عن أمِّ علقمة مولاةِ عائشة، أن عائشة رضى الله عنها سئلت عن الحامل ترى الدم فقالت: لا تُصَلِّى، قال البيهقى: ورويناه عن أنس بن مالك،
وروينا عن عمر بن الخطاب، ما يدل على ذلك. وروينا عن عائشة رضى الله عنها، أنها أنشدت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيت أبى كبير الهذلى:
ومُبَرَّأً مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حيْضَةٍ ... وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُغْيِلِ
قال: وفى هذا دليل على ابتداء الحمل فى حال الحيض حيث لم ينكر الشِّعْرَ.
قال: وروينا عن مطر، عن عطاء، عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: الحبلى لا تحيضُ، إذا رأت الدم، صلَّت. قال: وكان يحيى القطان ينكر هذه الرواية، ويُضعف رواية ابن أبى ليلى، ومطر عن عطاء.
قال: وروى محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عطاء، عن عائشة رضى الله عنها نحو رواية مطر، فإن كانت محفوظة، فيشبه أن تكون عائشة كانت تراها لا تحيض، ثم كانت تراها تحيض، فرجعت إلى ما رواه المدنيون، والله أعلم.
قال المانعون مِن كون دم الحامل دمَ حيض: قد قسم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإماء قسمين: حاملاً وجعل عدتها وضع الحمل، وحائلاً فجعل عدتها حَيضة، فكانت الحيضة علماً على براءة رحمها، فلو كان الحيضُ يُجامع الحمل، لما كانت الحيضةُ علماً على عدمه، قالوا: ولذلك جعل عدة المطلقة ثلاثة أقراء، لِيكون دليلاً على عدم حملها، فلو جامع الحملُ الحيضَ، لم يكن دليلاً على عدمه: قالوا: وقد ثبت فى "الصحيح"، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعمر بن الخطاب رضى الله عنه حين طلق ابنُه امرأتَه وهى حائض: "مُرْهُ
فَلْيُرَاجِعْها ثُمَّ لِيُمْسِكْها حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَها بَعْدُ، وإنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلكَ العِدَّةُ التى أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّق لَهَا النِّسَاءُ".
ووجه الاستدلال به، أن طلاقَ الحامل ليس ببدعةٍ فى زمن الدم وغيره إجماعاً، فلو كانت تحيضُ، لكان طلاقُها فيه، وفى طهرها بعد المسيس بدعة عملاً بعموم الخبر، قالوا: وروى مسلم فى "صحيحه" من حديث ابن عمر أيضاً "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ ليُطَلِّقْهَا طَاهِراً أَوْ حَامِلاً"، وهذا يدل على أن ما تراه من الدم لا يكون حيضاً، فإنه جعل الطلاق فى وقته نظير الطلاق فى وَقت الطهر سواء. فلو كان ما تراه من الدم حيضاً، لكان لها حالان، حال طهر، وحال حيض، ولم يجز طلاقها فى حال حيضها، فإنه يكون بدعة قالوا: وقد روى أحمد فى "مسنده" من حديث رويفع، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " لا يَحِلُّ لأحَدٍ أَنْ يَسْقى مَاءه زَرْعَ غَيْرِهِ، وَلاَ يقع عَلى أمَةٍ حَتَّى تَحِيضَ أَوْ يَتَبَّينَ حَمْلُها". فجعل وجود الحيض علماً على براءة الرحم من الحمل. قالوا: وقد رُوِىَ عن على أنه قال: إن الله رفع الحيض عن الحبلى، وجعل الدم مما تغيض الأرحام.
وقال ابنُ عباس رضى الله عنه: إن الله رفع الحيض عن الحبلى، وجعل الدم رزقاً للولد، رواهما أبو حفص بن شاهين.
قالُوا: وروى الأثرم، والدارقطنى بإسنادهما، عن عائشة رضى
الله عنها فى الحامل ترى الدم، فقالت: الحامل لا تحيض، وتغتسل، وتصلى.
وقولها: وتغتسل، بطريق الندب لكونها مستحاضة، قالوا: ولا يُعرف عن غيرهم خلافهم، لكن عائشة قد ثبت عنها أنها قالت: الحامل لا تُصلى. وهذا محمول على ما تراه قريباً من الولادة باليومين ونحوهما، وأنه نفاس جمعاً بين قوليها، قالوا: ولأنه دم لا تنقضى به العدة، فلم يكن حيضاً كالاستحاضة.
وحديث عائشة رضى الله عنها يدل على أن الحائض قد تحبل، ونحن نقول بذلك، لكنه يقطع حيضَها ويرفعُه. قالوا: ولأن الله سبحانه أجرى العادة بإنقلاب دم الطمث لبناً غذاءً للولد، فالخارجُ وقت الحمل يكون غيره، فهو دم فساد.
قال المحيضون: لا نزاع أن الحاملَ قد ترى الدَم على عادتها، لا سيما فى أول حملها، وإنما النزاعُ فى حكم هذا الدم، لا فى وجوده. وقد كان حيضاً قبل الحمل بالاتفاق، فنحن نستصحِبُ حكمَه حتى يأتىَ ما يرفعه بيقين. قالوا: والحكمُ إذا ثبت فى محل، فالأصلُ بقاؤه حتى يأتى ما يرفعه، فالأول استصحابٌ لحكم الإجماع فى محل النزاع، والثانى استصحابٌ للحكم الثابت فى المحل حتى يتحقق ما يرفعه، والفرقُ بينهما ظاهر. قالوا: وقد قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا كَانَ دَمُ الحَيْضِ فَإنَّهُ أسْوَدُ يُعْرَفُ". وهذا أسود يُعرف، فكان حيضاً.
قالُوا: وقد قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَليْسَتْ إحْدَاكُنَّ إذَا حَاضَتْ لَمْ تَصُمْ ولم تُصَلِّ؟ " وحيضُ المرأة خروج دمها فى أوقات معلومة من الشهر لغة وشرعاً، وهذا كذلك لغة والأصل فى الأسماء تقريرُها لا تغييرُها.
قالوا: ولأن الدم الخارج من الفرج الذى رتَّب الشارع عليه الأحكام قسمان: حيض واستحاضة، ولم يجعل لهما ثالثاً، وهذا ليس بإستحاضة، فإن الاستحاضة الدمُ المطبق، والزائد على أكثر الحيض، أو الخارج عن العادة، وهذا ليس واحداً منها، فبطل أن يكون استحاضة، فهو حيض، قالوا: ولا يمكنكم إثباتُ قسم ثالث فى هذا المحل، وجعله دَم فساد، فإن هذا لا يثبتُ إلا بنص أو إجماع أو دليل يجب المصير إليه، وهو منتف قالوا: وقد رد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المستحاضة إلى عادتها، وقال: "اجْلِسى قَدْرَ الأيَّامِ التى كُنْتِ تَحِيضِينَ". فدل على أن عادة النساء معتبرة فى وصف الدمِ وحُكمه، فإذا جرى دم الحامل على عادتها المعتادة، ووقتها من غير زيادة ولا نقصان ولا انتقال، دلَّت عادتُها على أنه حيض، ووجب تحكيمُ عادتها، وتقديمُها على الفساد الخارج عن العبادة. قالوا: وأعلمُ الأمة بهذه المسألة نساءُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعلمُهن عائشة، وقد صح عنها من رواية أهل المدينة، أنها لا تُصلى، وقد شهد له الإمام أحمد بأنه أصح من الرواية الأخرى عنها، ولذلك رجع إليه إسحاق وأخبر أنه قولُ أحمد بن حنبل، قالوا: ولا تُعرف صحة الآثار بخلاف ذلك عمن ذكرتم من الصحابة، ولو صحت فهى مسألة نزاع بين الصحابة، ولا دليل يفصل.
قالوا: ولأن عدمَ مجامعة الحيضِ للحمل، إما أن يُعلم بالحسِّ أو بالشرع، وكلاهما منتف، أما الأوَّل: فظاهر، وأما الثانى: فليس عن صاحب الشرع ما يدل على أنهما لا يجتمعان.
وأما قولُكم: إنه جعله دليلاً على براءة الرحم من الحمل فى العدة والاستبراء. قلنا: جعل دليلاً ظاهراً أو قطعياً، الأول: صحيح. والثانى: باطل، فإنه لو كان دليلاً قطعياً لما تخلف عنه مدلُوله، ولكانت أول مدة الحمل من حين انقطاع الحيض، وهذا لم يقله أحد، بل أولُ المدةِ مِن حين الوطء، ولو حاضت بعده عدة حيض، فلو وطئها، ثم جاءت بولد لأكثرَ من ستة أشهر من حين الوطء، ولأقل منها من حين انقطاع الحيض، لحقه النسبُ اتفاقاً، فعُلِمَ أنه أمارة ظاهرة، قد يتخلف عنها مدلولُها تخلُّفَ المطر عن الغيم الرطب، وبهذا يخرج الجوابُ عما استدللُتم به من السنة، فإنا بها قائلون، وإلى حكمها صائرون، وهى الحَكَمُ بينَ المتنازعين. والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم النساء إلى قسمين: حامل فعِدتُها وضعُ حملها، وحائل فعِدتها بالحيض، ونحن قائلون بموجب هذا غير منازعين فيه، ولكن أين فيه ما يدل على أن ما تراه الحامل من الدم على عادتها تصومُ معه وتُصلى؟ هذا أمر آخر لا تَعرُّضَ للحديث به، وهذا يقول القائلون: بأن دمَها دمُ حيض، هذه العبارة بعينها، ولا يُعد هذا تناقضاً ولا خللاً فى العبارة.
قالوا: وهكذا قولُه فى شأن عبد الله بن عمر رضى الله عنه: "مُرْهُ فَلْيُراجِعْها ثُمَّ لِيُطَلِّقْها طَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَمَسَّها"، إنما فيه إباحةُ الطلاق إذا كانت حائلاً بشرطين: الطهر وعدم المسيس، فأين فى هذا التعرف لحكم الدم الذى تراه على حملها؟
وقولُكم: إن الحامل لو كانت تحيض، لكان طلاقُها فى زمن الدم
بدعة، وقد اتفق الناسُ على أن طلاق الحامل ليس ببدعة وإن رأت الدم؟
قلنا: إن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم أحوال المرأة التى يُريد طلاقَها إلى حال حمل، وحالِ خلو عنه، وجوَّز طلاق الحامل مطلقاً من غير استثناء، وأما غيرُ ذات الحمل، فإنما أباح طلاقها بالشرطين المذكورين، وليس فى هذا ما يدل على أن دم الحامل دم فساد، بل على أن الحامل تخالف غيرها فى الطلاق، وأن غيرها إنما تطلق طاهراً غير مصابة، ولا يُشترط فى الحامل شىء من هذا، بل تطلُق عقيبَ الإصابة، وتطلُق وإن رأت الدم، فكما لا يحرُمُ طلاقُها عقيبَ إصابتها، لا يحرُم حالَ حيضها وهذا الذى تقتضيه حِكمةُ الشارع فى وقت الطلاق إذناً ومنعاً، فإن المرأة متى استبان حملُها كان المطلق على بصيرة من أمره، ولم يعرض له مِن الندم ما يعرِضُ لهن كلهن بعد الجماع، ولا يشعر بحملها، فليس ما مُنِعَ منه نظير ما أُذِنَ فيه، لا شرعاً، ولا واقعاً، ولا اعتباراً، ولا سيما مَنْ علل المنع من الطلاق فى الحيض بتطويل العِدة، فهذا لا أثر له فى الحامل.
قالوا: وأما قولُكم: إنه لو كان حيضاً، لانقضت به العِدة، فهذا لا يلزمُ، لأن اللهَ سبحانه جعل عِدة الحامل بوضع الحمل، وعدة الحائل بالأقراء، ولا يُمكن انقضاءُ عِدة الحامل بالأقراء لإفضاء ذلك إلى أن يملكها الثانى ويتزوجها وهى حامل من غيره، فيسقى مَاءَ زَرْعَ غيره.
قالوا: وإذا كنتُم سلمتم لنا أن الحائض قد تحبل، وحملتُم على ذلك حديثَ عائشة رضى الله عنها ولا يمكنكم منع ذلك لشهادة الحس به، فقد أعطيتُم أن الحيض والحبل يجتمعان، فبطل استدلالُكم من رأسه، لأن مداره على أن الحيض لا يُجامع الحبل.
فإن قلتم: نحن إنما جوزنا ورودَ الحمل على الحيض، وكلامُنا
فى عكسه، وهو ورودُ الحيض على الحمل، وبينهما فرق.
قيل: إذا كانا متنافيين لا يجتمعان، فأىُّ فرق بين ورودها هذا على هذا وعكسه؟
وأما قولكم: إن الله سبحانه أجرى العادة بإنقلاب دمِ الطمث لبناً يتغذَّى به الولد ولهذا لا تحيض المراضع. قلنا: وهذا من أكبر حجتنا عليكم، فإن هذا الإنقلاب والتغذية باللبن إنما يستحكم بعد الوضع، وهو زمن سلطان اللبن، وارتضاع المولود وقد أجرى الله العادة بأن المرضع لا تحيض. ومع هذا، فلو رأت دماً فى وقت عادتها، لحكم له بحكم الحيض بالإتفاق، فلأن يحكم له بحكم الحيض فى الحال التى لم يستحكم فيها انقلابه، ولا تغذى الطفل به أولى وأحرى. قالوا: وهب أن هذا كما تقولون، فهذا إنما يكون عند احتياج الطفل إلى التغذية باللبن، وهذا بعدَ أن يُنفخ فيه الروح. فأما قبل ذلك، فإنه لا ينقلب لبناً لعدم حاجة الحمل إليه.
وأيضاً، فإنه لا يستحيل كله لبناً، بل يستحيل بعضه، ويخرج الباقى، وهذا القول هو الراجح كما تراه نقلاً ودليلاً، والله المستعان.
فإن قيل: فهل تمنعون من الاستمتاع بالمُسْتَبرأة بغير الوطء فى الموضع الذى يجب فيه الاستبراء؟ قيل: أما إذا كانت صغيرة لا يوطأ مثلها، فهذه لا تحرم قبلتها ولا مباشرتها، وهذا منصوص أحمد فى إحدى الروايتين عنه، اختارها أبو محمد المقدسى، وشيخنا وغيرُهما، فإنه قال: إن كانت صغيرة بأى شىء تستبرأ إذا كانت رضيعة؟ وقال فى رواية أخرى: تستبرأ بحيضة إن كانت تحيض، وإلا ثلاثة أشهر إن كانت ممن توطأ وتحبل. قال أبو محمد: فظاهر هذا أنه لا يجب استبراؤها، ولا تحرم مباشرتها،
وهذا اختيار ابن أبى موسى، وقولُ مالك وهو الصحيح، لأن سبب الإباحة متحقق، وليس على تحريمها دليل، فإنه لا نص فيها ولا معنى نص، فإن تحريم مباشرة الكبيرة إنما كان لكونه داعياً إلى الوطء المحرم، أو خشية أن تكون أمَّ ولد لغيره، ولا يتوهم هذا فى هذه، فوجب العمل بمقتضى الإباحة، انتهى كلامه.
فصل
وإن كانت ممن يُوطأ مثلُها، فإن كانت بكراً، وقلنا: لا يجبُ استبراؤها، فظاهر، وإن قلنا: يجب استبراؤُها فقال أصحابنا: تحرم قبلُتها ومباشرتها، وعندى أنه لا يحرم، ولو قلنا بوجوب استبرائها، لأنه لا يلزم من تحريم الوطء تحريم دواعيه، كما فى حق الصائم، لا سيما وهم إنما حرَّموا تحريم مباشرتها لأنها قد تكون حاملاً، فيكون مستمتعاً بأمة الغير، هكذا عللوا تحريم المباشرة، ثم قالوا: ولهذا لا يحرم الإستمتاع بالمسبية بغير الوطء قبل الاستبراء فى إحدى الروايتين، لأنها لا يُتوهم فيها انفساخ الملك، لأنه قد استقرَّ بالسبى، فلم يبق لمنع الاستمتاع بالقبلة وغيرها مِن البِكر معنى. وإن كانت ثيباً، فقال أصحاب أحمد، والشافعى وغيرهم: يحرم الاستمتاعُ بها قبل الاستبراء، قالوا: لأنه استبراءٌ يحرم الوطء، فحرم الاستمتاع بها قبل الاستبراء كالعِدة، ولأنه لا يأمن كونها حاملاً، فتكون أم ولد، والبيع باطل، فيكون مستمتعاً بأمِّ ولد غيره. قالوا: ولهذا فارق وطء تحريم الحائض والصائم.
وقال الحسن البصرى: لا يحرم من المستبرأة إلا فرجُها، وله أن يستمتِعَ منها بما شاء ما لم يطأ، لأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما منع من الوطء قبل الاستبراء،
ولم يمنع مما دونه ولا يلزمُ مِن تحريم الوطء تحريمُ ما دونه، كالحائض والصائمة وقد قيل: إن ابن عمر قبَّل جاريتَه من السبى حين وقعت فى سهمه قبل استبرائها. ولمن نصر هذا القول أن يقولَ: الفرقُ بين المشتراة والمعتدة: أن المعتدة قد صارت أجنبية منه، فلاً يَحِلُّ وطؤها ولا دواعيه، بخلاف المملوكة، فإن وطأها إنما يحرم قبل الاستبراء خشيةَ اختلاط مائه بماء غيره، وهذا لا يُوجب تحريمَ الدواعى، فهى أشبهُ بالحائض والصائمة، ونظيرُ هذا أنه لو زنت امرأتُه أو جاريتُه، حرم عليه وطؤها قبل الاستبراء، ولا يحرمُ دواعيه، وكذلك المسبية كما سيأتى. وأكثرُ ما يتوهم كونها حاملاً من سيدها، فينفسخ البيع، فهذا بناء على تحريم بيع أمهاتِ الأولاد على عِلاَّته، ولا يلزم القائل به، لأنه لما استمتع بها، كانت ملكه ظاهراً وذلك يكفى فى جواز الاستمتاع، كما يخلو بها ويُحدِّثُها، وينظر منها ما لا يُباح من الأجنبية، وما كان جوابُكم عن هذه الأمور، فهو الجوابُ عن القُبلة والاستمتاع، ولا يُعلم فى جواز هذا نزاع، فإن المشترىَ لا يُمنع مِن قبض أمته وحوزها إلى بيته وإن كان وحدَه قبلَ الاستبراء، ولا يجبُ عليها أن تستُرَ وجهها منه، ولا يحرم عليه النظرُ إليها والخلوةُ بها، والأكلُ معها، واستخدامها، والانتفاعُ بمنافعها، وإن لم يَجُزْ له ذلك فى ملك الغير.
فصل
وإن كانت مَسْبِيَّةً، ففى جواز الاستمتاع بغير الوطء قولان للفقهاء، وهما روايتان عن أحمد رحمه الله.
إحداهما: أنها كغير المسبية، فيحرم الاستمتاع منها بما دون الفَرْج، وهو ظاهر كلام الخِرَقى، لأنه قال: ومن مَلَك أمةً، لم يصبْها ولم يُقَبِّلْها حتى يستبرئهَا بعد تمام ملكه لها.
والثانية: لا يحرم، وهو قول ابن عمر رضى الله عنه. والفرق بينها وبين المملوكة بغير السبى، أن المسبيَّةَ لا يتوهم فيها كونها أُمَّ ولد، بل هى مملوكة له على كل حال، بخلاف غيرها كما تقدَّم والله أعلم.
فإن قيل: فهل يكونُ أولُ مدة الاستبراء من حين البيع، أو من حين القبض؟
قيل: فيه قولان، وهما وجهان فى مذهب أحمد رحمه الله. أحدهما: من حين البيع، لأن الملك ينتقل به. والثانى: من حين القبض لأن القصد معرفة براءة رحمها من ماء البائع وغيره، ولا يحصل ذلك مع كونها فى يده، وهذا على أصل الشافعى وأحمد. أما على أصل مالك، فيكفى عنده الاستبراءُ قبل البيع فى المواضع التى تقدَّمت. فإن قيل: فإن كان فى البيع خيار، فمتى يكون ابتداء مدة الاستبراء؟
قيل: هذا ينبنى على الخلاف فى انتقال الملك فى مدة الخيار، فمن قال: ينتقل فابتداء المدة عنده من حين البيع، ومن قال: لا ينتقل، فابتداؤها عنده من حين انقطاع الخيار.
فإن قيل: فما تقولون لو كان الخيارُ خيارَ عَيْبٍ؟ قيل: ابتداء المدة من حين البيع قولاً واحداً، لأن خِيَارَ العيب لا يمنع نقل الملك بغير خلاف، والله أعلم.
فصل
فإن قيل: قد دلت السُّنَّةُ على استبراء الحامل بوضع الحمل، وعلى استبراء الحائل بحيضةٍ فكيف سكتت عن استبراء الآيسةِ والتى لم تحض ولم تسكت عنهما فى العدة؟
قيل: لم تسكت عنهما بحمد الله، بل بينتْهما بطريق الإيماء والتنبيه، فإن الله سبحانه جعل عِدَّةَ الحرة ثلاثةَ قُروء، ثم جعل عِدَّة الآيسة والتى لم تحض ثلاثة أشهر، فعلم أنه سبحانه جعل فى مقابلة كل قرْء شهراً. ولهذا أجرى سبحانه عادته الغالبةَ فى إمائه، أن المرأة تحيض فى كل شهر حيضة، وبينت السُّنَّةُ أن الأمة الحائض بحيضة، فيكون الشهر قائماً مقام الحيضة، وهذا إحدى الروايات عن أحمد، وأحد قولى الشافعى. وعن أحمد رواية ثانية: أنها تُسْتَبَرأُ بثلاثة أشهر، وهى المشهورة عنه، وهو أحد قولى الشافعى. ووجه هذا القول، ما احتج به أحمد فى رواية أحمد بن القاسم، فإنه قال: قلت لأبى عبد الله: كيف جعلتَ ثلاثةَ أشهر مكان حيضةٍ، وإنما جعل الله سبحانه فى القرآن مكان كُلِّ حيضةٍ شهراً؟.
فقال أحمد: إنما قلنا: ثلاثة أشهر من أجل الحمل، فإنه لا يتبين فى أقلَّ من ذلك، فإن عمر بن عبد العزيز سأل عن ذلك، وجمع أهلَ العلم والقوابلَ، فأخبروا أن الحملَ لا يتبين فى أقل من ثلاثة أشهر، فأعجبه ذلك، ثم قال: ألا تسمع قول ابن مسعود: إن النطفة تكون أربعين يوماً علقة، ثم أربعين يوماً مضغة بعد ذلك، فإذا خرجت الثمانون، صارت بعدها مضغةً، وهى لحم، فيتبين حينئذ.
قال ابن القاسم: قال لى: هذا معروف عند النساء. فأما شهر، فلا معنى فيه انتهى كلامه.
وعنه رواية ثالثة: أنها تُسْتَبْرَأُ بشهر ونصف، فإنه قال فى رواية حَنْبَل: قال عطاء: إن كانت لا تحيض، فخمسة وأربعون ليلة. قال حنبل: قال عمى: لذلك أذهب، لأن عدة المطلقة الآيسة كذلك، انتهى كلامه.
ووجه هذا القول: أنها لو طلقت وهى آيسة، اعتدت بشهر ونصفٍ فى رواية، فَلأَنْ تُسْتَبْرَأَ الأمةُ بهذا القدر أولى. وعن أحمد رواية رابعة: أنها تُستبرَأُ بشهرين، حكاها القاضى عنه، واستشكلها كثير من أصحابه، حتى قال صاحب "المغنى": ولم أر لذلك وجهاً. قال: ولو كان استبراؤُها بشهرين، لكان استبراءُ ذاتِ القُروء بقَرْءيْن، ولم نعلم به قائلاً.
ووجه هذه الرواية، أنها اعتبرت بالمطلَّقة، ولو طُلِّقتْ وهى أمة لكانت عدتُها شهرين، هذا هو المشهور عن أحمد رحمه الله، واحتج فيه بقول عمر رضى الله عنه، وهو الصواب، لأن الأشهُرَ قائمةٌ مقام القُروء، وعِدَّتة ذاتِ القُروء قَرءان، فبدلهما شهران، وإنما صرنا إلى استبراءِ ذاتِ القَرء بحيضة، لأنها عَلَم ظاهر على براءتها من الحمل، ولا يَحْصُلُ ذلك بشهر واحد، فلا بدَّ من مدة تظهر فيها براءتها، وهى إما شهران أو ثلاثة، فكانت الشهران أولى، لأنها جُعِلَتْ عَلماً على البراءة فى حق المطلَّقة، ففى حق المُسْتَبْرأَةِ أولى، فهذا وجه هذه الرواية. وبعدُ، فالراجح من الدليل: الاكتفاء بشهر واحد، وهو الذى دل عليه إيماء النص وتنبيهه، وفى جعل مدة استبرائها ثلاثة أشهر تسويةٌ بينها وبين الحرة، وجعلها بشهرين تسويةٌ بينها وبين المطلَّقة، فكان أولى المُدد بها شهراً، فإنه البدل التامُّ، والشارع قد اعتبر نظيرَ هذا البدل فى نظيرِ
الأمة، وهى الحرة، واعتبره الصحابة فى الأمة المطلَّقة، فصح عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: عِدَّتُها حيضتان، فإن لم تكن تحيض، فشهران، احتج به أحمد رحمه الله. وقد نص أحمد رحمه الله فى أشهر الروايات عنه على أنها إذا ارتفع حيضُها لا تدرى ما رَفَعَهُ، اعتدت بعشرة أشهر، تسعةٍ للحمل، وشهرٍ مكان الحيضة.
وعنه رواية ثانية: تعتدُّ بِسَنَةٍ، هذه طريقة الشيخ أبى محمد، قال: وأحمد ههنا جعل مكان الحيضة شهراً، لأن اعتبارَ تكرارِها فى الآيسةِ لِتُعْلَم براءتُها من الحمل، وقد علم براءتها منه ههنا بمضى غالب مُدَّته، فجعل الشهر مكان الحيضة على وفق القياس، وهذا هو الذى ذكره الخِرَقىُّ مفرِّقاً بين الآيسة، وبين من ارتفع حيضُها، فقال: فإن كانت آيسةً، فبثلاثة أشهر، وإن ارتفعَ حيضُها لا تدرى ما رَفَعَهُ، اعتدت بتسعة أشهر للحمل، وشهر مكان الحيضة.
وأما الشيخُ أبو البركات، فجعل الخلاف فى الذى ارتفع حيضُها، كالخلافِ فى الآيسةِ، وجعل فيها الروايات الأربع بعد غالب مدةِ الحملِ تسويةً بينها وبين الآيسة فقال فى "محرره": والآيسة، والصغيرة بمضى شهر. وعنه: بمضى ثلاثة أشهر وعنه: شهرين، وعنه: شهر ونصف. وإن ارتفع حيضها لا تدرى ما رَفَعَهُ، فبذلك بعد تسعة أشهر.
وطريقة الخِرَقى، والشيخ أبى محمد أصح، وهذا الذى اخترناه من الاكتفاء بشهر، هو الذى مال إليه الشيخ فى "المغنى" فإنه قال: ووجه استبرائها بشهرٍ، أن الله جعل الشهرَ مكان الحَيْضَةِ، ولذلك اختلفت الشهورُ باختلاف الحيضات، فكانت عِدة الحُرة الآيسةِ ثلاثَة أشهر مكانَ الثلاثة قُروء، وعِدَّة الأمة شهرين، مكان القَرْءيْن، وللأَمةِ المستبرأةِ التى ارتفع
حيضها عشرة أشهر، تِسعةٌ للحمل، وشهر مكان الحيضة، فيجب أن يكون مكانَ الحيضة هنا شهرٌ، كما فى حق من ارتفع حيضها.
قال: فإن قيل: فقد وجدتم ما دل على البراءة وهو تربص تسعة أشهر.
قلنا: وههنا ما يدل على البراءة وهو الإياس، فاستويا.
فصل ذكر أحكامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى البيوع
...
ذكر أحكامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى البيوع
ذكر حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يحرم بيعه
ثبت فى "الصحيحين": من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنهما، أنه سمع النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إن اللهَ ورسولَه حرَّم بيع الخمر، والميتةِ، والخِنزير، والأصْنَام". فقيل: يا رَسُول الله: أرأيت شُحوم الميتة، فإنها يُطلى بها السُّفن، ويُدهَنُ بها الجلودُ، ويَسْتَصْبِحُ بها الناسُ؟ فقال: "لاَ، هُوَ حَرَامٌ" ثم قَالَ رَسُولُ اللهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذلك: "قاتَلَ اللهُ اليَهُودَ إنَّ اللهَ لمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِم شُحُومَها جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فأَكلوا ثَمَنَهُ".
وفيها أيضاً: عن ابن عباسٍ، قال: بَلغَ عُمَرَ رضى الله عنه أنَّ سًمُرَةَ باع خمراً فقال: قاتلَ اللهُ سَمُرَةَ، ألم يعلمْ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَملُوهَا فَبَاعُوهَا".
فهذا من مسند عمر رضى الله عنه، وقد رواه البيهقىُّ، والحاكم
فى "مستدركه"، فجعلاه من "مسند ابن عباس"، وفيه زيادة، ولفظه: عن ابن عباس، قال: كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى المسجد، يعنى الحرامَ، فرفع بصرَهُ إلى السماءِ، فتبسَّم فقال: "لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ، لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ، لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ، لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ، إنَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ حَرَّمَ عَلَيْهمُ الشُّحُومَ، فَبَاعُوهَا، وَأَكَلُوا أَثْمانها، إنَّ اللهُ إذَا حَرَّمَ عَلى قَوْمٍ أَكْلَ شَىءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ". وإسناده صحيح، فإن البيهقى رواه عن ابن عبدان، عن الصفار، عن إسماعيل القاضى، حدثنا مُسدَّد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا خالد الحذَّاء، عن بركة أبى الوليد، عن ابن عباس.
وفى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة رضى الله عنه. نحوه، دون قوله: "إن الله إذا حَرَّم أَكْلَ شَىءٍ حَرَّمَ ثَمَنَهُ".
فاشتملت هذه الكلمات الجوامع على تحريم ثلاثة أجناس: مشاربَ تُفْسِدُ العقول ومطاعِمَ تُفْسِدُ الطِّبَاع وتغذِّى غِذاءً خبيثاً ؛ وأعيانٍ تُفْسِدُ الأديان، وتدعو إلى الفِتنةِ والشِّرْك.
فصانَ بتحريم النوع الأول العقولَ عما يُزيلها ويُفْسِدُها، وبالثانى: القلوبَ عما يُفْسِدها من وُصُولِ أثرِ الغذاءِ الخبيثِ إليها، والغاذى شبيهُ بالمغتذى، وبالثالث: الأديانَ عما وُضِعَ لإفسادها.
فتضمن هذا التحريمُ صِيانةَ العقولِ والقلوبِ والأديان
ولكن الشَّأنَ فى معرفة حدود كلامه صلوات الله عليه، وما يدخل فيه، وما لا يدخل فيه، لِتستبين عمومُ كلماته وجَمْعِهَا، وتناوُلِها لجميع الأنواع التى شَمِلَها عمومُ كلماتِهِ، وتأويلها بجميع الأنواع التى شَمِلَها عمومُ
لفظه ومعناه، وهذه خاصِيَّةُ الفهم عن اللهِ ورسولِه التى تفاوت فيه العلماءُ ويُؤتيه الله من يشاء.
فأمَّا تحريمُ بيعِ الخمرِ، فيدخل فيه تحريمُ بيعِ كلِّ مسكر، مائعاً كان، أو جامداً عصيراً، أو مطبوخاً، فيدخل فيه عَصيرُ العِنَبِ، وخَمرُ الزبيبِ، والتمر، والذُّرَةِ، والشَّعِيرِ، والعَسَل والحِنْطَةِ، واللقمةِ الملعونة، لقمة الفسق والقلب التى تُحرِّك القلبَ الساكنَ إلى أَخبثِ الأماكن، فإن هذا كُلَّه خَمْرٌ بنص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحيح الصَريح الذى لا مَطْعَنَ فى سنده، ولا إجمالَ فى متنه، إذ صح عنه قوله: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْر".
وصح عن أصحابه رضى الله عنهم الذين هم أعلمُ الأُمَّةِ بخطابه ومُراده: أنَّ الخَمْرَ مَا خَامَرَ العَقْلَ فدخولُ هذه الأنواع تحت اسم الخمر، كدخول جميع أنواع الذهب والفضَّةِ، والبُرِّ والشعيرِ، والتمرِ والزبيب، تحت قوله: "لا تبيعوا الذهبَ بالذهب، والفِضةَ بالفضة، والبُرَّ بالبُرِّ، والشَّعيرَ بالشَّعيرِ، والتمرِ، والملحَ بالملحِ إلا مِثْلاً بمثل".
فكما لا يجوز إخراجُ صِنْف من هذه الأصناف عن تناوُل اسمه له، فهكَذا لا يجوزُ إخراجُ صِنف من أَصناف المسكر عن اسم الخمر،
فإنه يتضمَّن محذورين.
أحدهما : أن يُخْرجَ مِن كلامه ما قصَدَ دخولَه فيه.
والثانى : أن يُشرع لذلك النوعِ الذى أخرج حكمٌ غير حكمه، فيكون تغييراً لألفاظ الشارع ومعانيه، فإنه إذا سمَّى ذلك النوعَ بغير الاسم الذى سَمَّاه به الشارع، أزال عنه حكم ذلك المسمَّى، وأعطاه حكماً آخر. ولما علم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن مِنْ أُمَتِهِ مِنْ يُبْتَلى بهذا، كما قال: "ليَشْرَبنَّ ناسٌ مِنْ أُمَّتى الخَمْرَ يُسَمُّونَها بِغَيْرِ اسْمِها". قضى قضية كليةً عامةً لا يتطرَّق إليها إجمال، وَلاَ احتمال، بل هى شافيةٌ كافيةُ، فقال: "كُلُّ مُسْكِر خَمْر" ، هذا ولو أن أبا عُبَيدة، والخليلَ وأضرابَهما مِن أئمة اللغة ذكروا هذه الكلمة هكذا، لقالوا: قد نصَّ أئمةُ اللغة على أنَّ كُلَّ مسكرٍ خمر، وقولُهم حجة، وسيأتى إن شاء الله تعالى عندَ ذِكْرِ هَدْيهِ فى الأطعمة والأشربة مزيدُ تقرير لهذا، وأنه لو لم يتناوله لفظُه،
لكان القياسُ الصريح الذى استوى فيه الأصلُ والفرعُ مِن كل وجه حاكماً بالتسوية بين أنواع المسكر فى تحريم البيع والشُّرْب، فالتفريقُ بينَ نوع ونوع، تفريقٌ بين متماثلين من جميع الوجوه.
فصل
وأما تحريمُ بيع الميتة، فيدخل فيه كُلُّ ما يسمَّى ميتةً، سواء مات حتف أنفه، أو ذُكِّىَ ذكَاةً لا تُفيد حِلَّه. ويدخل فيه أبعاضُها أيضاً.
ولهذا استشكل الصحابةُ رضى الله عنهم تحريمَ بيع الشحم، مع ما لهم فيه من المنفعة، فأخبرهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه حرامٌ وإن كان فيه ما ذكروا مِن المنفعة وهذا موضعٌ اختلف الناسُ فيه لاختلافهم فى فهم مرادِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أنَّ قوله: "لا، هوَ حرام": هل هو عائد إلى البيع، أو عائد إلى الأفعال التى سألوا عنها؟ فقال شيخُنا: هو راجع إلى البيع، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أخبرهم أنَّ حَرَّم بيع الميتة، قالوا: إن فى شحومها مِن المنافع كذا وكذا، يعنون، فهل ذلك مسوغ لبيعها؟ فقال: "لا، هو حَرَام".
قلت: كأنهم طلبوا تخصيصَ الشحوم من جملة الميتة بالجواز، كما طلب العباسُ رضى الله عنه تخصيصَ الإذْخر من جملة تحريم نَبات الحَرَمِ بالجواز، فلم يجبهم إلى ذلك، فقال: "لا، هو حرام".
وقال غيرُه من أصحاب أحمد وغيرهم: التحريمُ عائد إلى الأفعال المَسؤول عنها، وقال: هو حرام، ولم يقل: هى، لأنه أراد المذكورَ جميعَه، ويرجح قولهم عود الضمير إلى أقرب مذكور، ويرجحه من جهة المعنى أن إباحة هذه الأشياء ذريعةٌ إلى اقتناء الشحوم وبيعها،
ويُرجحه أيضاً: أن فى بعض ألفاظ الحديث، فقال: "لا، هى حرام"، وهذا الضمير إما أن يرجع إلى الشحوم، وإما إلى هذه الأفعال، وعلى التقديرين، فهو حُجَّةٌ على تحريم الأفعال التى سألوا عنها.
ويرجحه أيضاً قولُه فى حديث أبى هريرة رضى الله عنه فى الفأرة التى وقعت فى السمن: "إنْ كَانَ جَامِداً فَأَلقُوهَا ومَا حَوْلها وكُلُوهُ، وإنْ كَانَ مَائِعاً فَلا تَقْرَبُوهُ". وفى الانتفاع به فى الاستصباح وغيره قُربان له. ومن رجَّح الأول يقول: ثَبَتَ عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إنَّما حَرُمَ مِنَ المَيْتَةِ أَكْلُها"، وهذا صريحُ فى أنه لا يحرم الانتفاعُ بها فى غير الأكل، كالوقيدِ، وسَدِّ البُثوقِ، ونحوهما. قالوا: والخبيث إنما تحرُمُ ملابسته باطناً وظاهراً، كالأكل واللُّبْسِ، وأما الانتفاعُ به من غير مُلابسة، فَلأىِّ شىءٍ يحرم؟
قالوا: ومن تأمل سياقَ حديث جابر، علم أن السؤالَ إنما كان منهم عن البيع، وأنَّهم طلبوا منه أن يُرخِّص لهم فى بيع الشحوم، لما فِيها من المنافع، فأبى عليهم وقال: "هو حرام"، فإنهم لو سألوه عن حكم هذه الأفعال، لقالوا: أرأيتَ شحومَ الميتة، هل يجوز أن يَستصبحَ بها الناسُ، وتُدهَنَ بها الجلودُ ؛ ولم يقولوا: فإنه يفعل بها كذا وكذا، فإن هذا إخبار منهم، لا سؤال، وهم لم يُخبروه بذلك عقيبَ تحريم هذه الأفعال عليهم، ليكون قوله: "لا، هو حرام" صريحاً فى تحريمها، وإنما أخبروه به عقيبَ تحريم بيع الميتة، فكأنهم طلبوا منه أن يرخِّص
لهم فى بيع الشحوم لهذه المنافع التى ذكروها، فلم يفعل. ونهايةُ الأمر أن الحديثَ يحتمل الأمرين، فلا يحرم ما لم يعلمْ أنَّ الله ورسوله حَرَّمه.
قالوا: وقد ثبت عنه أنه نهاهم عن الاستسقاء مِن آبار ثمود، وأباح لهم أن يُطْعِمُوا ما عجنُوا مِنه من تلك الآبار للبهائم، قالوا: ومعلوم أن إيقادَ النجاسةِ والاستصباحَ بها انتفاعٌ خالٍ عن هذه المفَسْدَةِ، وعن ملابستها باطناً وظاهراً، فهو نَفْعٌ مَحْضٌ لا مفسدة فيه. وما كان هكذا، فالشريعةُ لا تحرِّمه، فإن الشريعة إنما تحرِّم المفاسدَ الخالصةَ أو الراجحةَ، وطرقَها وأسبابهَا الموصلةَ إليها.
قالوا: وقد أجاز أحمد فى إحدى الروايتين الاستصباحَ بشحوم الميتة إذا خالطت دُهناً طاهراً، فإنه فى أكثر الروايات عنه يجوز الاستصباحُ بالزيت النجِس، وطلىُ السفن به، وهو اختيارُ طائفة من أصحاب، منهم: الشيخ أبو محمد، وغيره، واحتج بأن ابن عمر أمر أن يُستصبحَ به.
وقال فى رواية ابنيه: صالح وعبد الله: لا يعجبنى بيع النَّجس، ويستصبحُ به إذا لم يمسوه، لأنه نجس، وهذا يعم النجِّسَ، والمتنجِّس، ولو قُدِّرَ أنه إنما أراد به المتنجِّس، فهو صريحٌ فى القول بجواز الاستصباح بما خالطه نجاسة ميتة أو غيرها، وهذا مذهبُ الشافعى، وأىُّ فرق بين الاستصباح بشحم الميتة إذا كان منفرداً، وبين الاستصباح به إذا خالطه دهن طاهر فنجسه؟
فإن قيل: إذا كان مفرداً، فهو نَجِسُ العين، وإذا خالطه غيره تنجس به،
فأمكن تطهيره بالغسل، فصار كالثوب النَّجِسِ، ولهذا يجوز بيع الدُّهْن المتنجِّس على أحد القولين دون دهن الميتة.
قيل: لا ريبَ أنَّ هذا هو الفرق الذى عَوَّل عليه المفرِّقون بينهما، ولكنه ضعيف لوجهين.
أحدهما: أنه لا يعرف عن الإمام أحمد، ولا عن الشافعى البتة غسل الدهن النجِّس، وليس عنهم فى ذلك كلمةٌ واحدةٌ، وإنما ذلك من فتوى بعض المنتسبين، وقد رُوى عن مالك، أنه يَطْهُر بالغسل، هذه رواية ابن نافع، وابن القاسم عنه.
الثانى: أن هذا الفرق وإن تأتَّى لأصحابه فى الزيت والشيرج ونحوهما، فلا يتأتَّى لهم فى جميع الأدهان، فإن منها ما لا يُمكن غسله، وأحمد والشافعى قد أطلقا القولَ بجواز الاستصباح بالدهن النجس من غير تفريق.
وأيضاً فإنَّ هذا الفَرْق لا يُفيد فى دفع كونه مستعملاً للخبيث والنجاسة، سواء كانت عينيةً أو طارئةً، فإنه إن حرم الاستصباح به لما فيه من استعمال الخبيث، فلا فرق، وإن حرم لأجل دُخان النجاسة، فلا فرق، وإن حرم لكون الاستصباح به ذريعة إلى اقتنائه، فلا فرق، فالفرق بين المذهبين فى جواز الاستصباح بهذا دونَ هذا لا معنى له.
وأيضاً فقد جوز جمهورُ العلماءِ الانتفاعَ بالسِّرقين النَّجس فى عمارةِ الأرض للزَّرْع، والثمر، والبقل مع نجاسة عينِه، وملابسةِ المستعمل له أكثر من ملابسة الموقَدِ، وظهورِ أثره فى البقول والزروع، والثمار، فوق ظهور أثر الوقيد، وإحالةُ النار أتم من إحالة الأرض، والهواء والشمس للسِّرقين، فإن كان التحريم لأجل دُخَان النَّجَاسَةِ، فَمن سَلَّمَ أن دُخَان النجاسةِ نجس، وبأىِّ كتاب، أم بأيَّةِ سُنَّةٍ ثبت ذلك؟ وانقلابُر
النجاسةِ إلى الدٌّخَان أتمُّ من انقلابِ عينِ السرقينِ والماءِ النجس ثمراً أو زرعاً، وهذا أمر لا يُشَكُّ فيه، بل معلوم بالحسِّ والمشاهدةِ، حتى جوز بعضُ أصحاب مالك، وأبى حنيفة رحمهما الله بَيْعَه، فقال ابن الماجشون: لا بأس ببيع العَذِرةِ، لأن ذلك من منافع الناس. وقال ابن القاسم: لا بأس ببيع الزِّبْل. قال اللخمىُّ: وهذا يدل من قوله على أنه يرى بيع العَذِرةِ. وقال أشهب فى الزِّبْل: المشترى أعذر فيه من البائع، يعنى فى اشترائه. وقال ابن عبد الحكم: لم يَعْذُر الله واحداً منهما، وهما سِيَّان فى الإِثم.
قلت: وهذا هو الصوابُ، وأن بيع ذلك حَرَامٌ وإن جاز الانتفاع به، والمقصود: أنه لا يلزم من تحريم بيع الميتة تحريمُ الانتفاع بها فى غير ما حرَّم الله ورسولُه منها كالوقيد، وإطعام الصقورِ والبُزاةِ وغير ذلك. وقد نص مالك على جواز الاستصباح بالزَّيْتِ النَّجس فى غير المساجد، وعلى جوازِ عملِ الصابون منه، وينبغى أن يُعْلَمَ أنَّ بَابَ الانتفاعِ أوسعُ من بابِ البيعِ، فليس كُلُّ مَا حَرُم بيعه حَرُمَ الانتفاع به، بل لا تلازم بينهما، فلا يؤخذ تحريمُ الانتفاع مِن تحريم البيع.
فصل
ويدخل فى تحريمِ بيعِ الميتة بيعُ أجزائها التى تحلُّها الحياة، وتُفارقها بالموت، كاللحم والشحم والعصب، وأما الشعرُ والوبرُ والصوف، فلا يدخل فى ذلك، لأنه ليس بميتة، ولا تحله الحياة. وكذلك قال جمهورُ أهل العلم: إن شعور الميتة وأصوافها وأوبارَها طاهرة إذا كانت من حيوان طاهر، هذا مذهب مالك وأبى حنيفة وأحمد بن حنبل، والليث، والأوزاعى،
والثورى، وداود، وابن المنذر، والمزنى، ومن التابعين: الحسن، وابن سيرين، وأصحاب عبد الله بن مسعود، وانفرد الشافعى بالقول بنجاستها، واحتجَّ له بأن اسمَ الميتة يتناولُها كَما يتناول سائر أجزائها بدليل الأثر والنظر، أما الأثرُ، ففى "الكامل" لابن عدى: من حديث ابن عمر يرفعه: "ادْفِنوا الأَظْفَارَ، والدَّمَ والشَّعَرَ، فَإنَّها مَيْتَةٌ". وأما النظر، فإنه متصل بالحيوان ينمو بنمائه، فينجس بالموت كسائر أعضائه، وبأنه شعر نابت فى محل نجس، فكان نجساً كشعر الخنزير، وهذا لأن ارتباطه بأصله خِلقة يقتضى أن يثبت له حكمُه تبعاً، فإنه محسوب منه عرفاً، والشارع أجرى الأحكامَ فيه على وفق ذلك، فأوجب غسله فى الطهارة، وأوجبَ الجزاء بأخذه من الصيد كالأعضاء، وألحقه بالمرأة فى النكاح والطلاقِ حلاً وحرمة، وكذلك ههنا، وبأن الشارعَ له تشوف إلى إصلاح الأموالِ وحفظها وصيانتها، وعدم إضاعتها. وقد قال لهم فى شاة ميمونة: "هلاَّ أَخَذْتُم إهَابهَا فَدَبَغْتُمُوه فَانْتَفَعْتُم بِهِ". ولو كان الشعر طاهراً، لكان إرشادُهم إلى أخذه أولى، لأنه أقلُّ كلفة، وأسهل تناولاً.
قال المطهِّرُونَ للشعور: قال الله تعالى: {ومِنْ أَصْوَافِهَا وَأوْبَارِهَا وأشْعَارِها أَثَاثاً ومَتَاعاً إلى حين} [النحل: 80]، وهذا يعم أحياءها وأمواتَها، وفى مسند أحمد: عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة، عن ابن عباس رضى الله عنه، قال: مرَّ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشاة لميمونة ميتة، فقال: "ألا انتفعتم بإهابها"، قالوا: وكيفَ وهى ميتة؟ قال:
"إنَّما حَرُمَ لَحْمُهَا". وهذا ظاهرٌ جداً فى إباحة ما سوى اللحم،
والشحمُ، والكبدُ والطحال، والألية كُلُّها داخلة فى اللحم، كما دخلت فى تحريم لحم الخنزير، ولا ينتقِضُ هذا بالعظم والقَرن، والظفر والحافِر، فإن الصحيحَ طهارة ذلك كما سنقرره عقيب هذه المسألة.
قالوا: ولأنه لو أُخِذَ حال الحياة، لكان طاهراً فلم ينجس بالموت كالبيض، وعكسه الأعضاء. قالُوا: ولأنه لما لم ينجس بجزه فى حال حياة الحيوان بالإجماع دل على أنه ليس جزءاً مِن الحيوان، وأنه لا روح فيه لأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ما أُبِينَ مِنْ حَىٍّ، فَهُوَ مَيْتَةٌ" ، رواه أهل السنن. ولأنه لا يتألَّم بأخذه، ولا يُحس بمسه، وذلك دليلُ عدم الحياة فيه، وأما النماء، فلا يدل على الحياة والحيوانية التى يتنجَّس الحيوان بمفارقتها، فإن مجرد النماء لو دلَّ على الحياة، ونجس المحل بمفارقة هذه الحياة، لتنجس الزرعُ بُيبسه، لمفارقة حياة النمو والاغتذاء له.
قالوا: فالحياةُ نوعان: حياة حس وحركة، وحياة نمو واغتذاء، فالأولى: هى التى يُؤثر فقدُها فى طهارة الحى دون الثانية.
قالوا: واللحمُ إنما ينجُس لاحتقان الرطوبات والفضلات الخبيثة فيه، والشعورُ والأصواف بريئة مِن ذلك، ولا ينتقض بالعظام والأظفار لما سنذكره.
قالوا: والأصلُ فى الأعيان الطهارة، وإنما يطرأ عليها التنجيس بإستحالتها، كالرجيع المستحيل عن الغذاء، وكالخمر المستحيل عن
العصير وأشباهها، والشعور فى حال استحالتها كانت طاهرة، ثم لم يعرض لها ما يُوجب نجاستَها بخلاف أعضاء الحيوان، فإنها عرض لها ما يقتضى نجاستها، وهو احتقانُ الفضلات الخبيثة.
قالوا: وأما حديثُ عبد الله بن عمر، ففى إسنادِه عبد الله بن عبد العزيز بن أبى رَوَّاد. قال أبو حاتم الرازى: أحاديثُه منكرة ليس محله عندى الصدق، وقال على بن الحسين بن الجنيد: لا يُساوى فلساً، يُحدث بأحاديث كذب.
وأما حديثُ الشاة الميتة، وقوله: "ألا انتفعتم بإهابها"، ولم يتعرض للشعر فعنه ثلاثةُ أجوبة:
أحدها: أنه أطلق الانتفاع بالإهاب، ولم يأمرهم بإزالة ما عليه من الشعر، مع أنه لا بُدَّ فيه من شعر، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُقيد الإهابَ المنتفع به بوجه دون وجه، فدل على أن الانتفاع به فرواً وغيره مما لا يخلو من الشعر.
والثانى: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أرشدهم إلى الانتفاعِ بالشعر فى الحديث نفسِه حيث يقول: " إنَّمَا حَرُمَ مِنَ المَيْتَةِ أَكْلُها أَوْ لحْمُها".
والثالث: أن الشعرَ ليس من الميتة ليتعرض له فى الحديث، لأنه لا يحلُّه الموتُ وتعليلُهم بالتبعية يبطلُ بجلد الميتة إذا دُبغَ، وعليه شعر، فإنه يطهرُ دونَ الشعر عندهم، وتمسكهم بغسله فى الطهارة يَبْطُلُ بالجبيرة، وتمسكهم بضمانه مِن الصيد يبطُل بالبيض، وبالحمل. وأما فى النكاح، فإنه يتبع الجملة لاتصاله، وزوال الجملة بإنفصاله عنها، وههنا لو فارق الجملة بعد أن تبعها فى التنجس، لم يُفارقها فيه عندهم، فعلم الفرق.
فصل
فإن قيل: فهل يدخُل فى تحريم بيعها تحريمُ بيع عظمها وقرنها وجلدها بعدَ الدباغ لشمول اسم الميتة لذلك؟ قيل: الذى يحرم بيعُه منها هو الذى يحرم أكلُه واستعمالُه، كما أشار إليه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "إنَّ الله تَعَالى إذَا حَرَّمَ شيئاً حَرَّمَ ثَمَنَهُ". وفى اللفظ الآخر: " إذَا حَرَّمَ أَكْلَ شَىءٍ، حَرَّمَ ثَمَنَهُ ". فنَّبه على أن الذى يحرم بيعهُ يحرم أكله.
وأما الجلد إذا دبغ، فقد صار عيناً طاهرة ينتفع به فى اللبس والفرش، وسائِر وجوه الاستعمال، فلا يمتنع جوازُ بيعه، وقد نص الشافعى فى كتابه القديم على أنه لا يجوز بيعُه، واختلف أصحابُه، فقال القفال: لا يتجه هذا إلا بتقدير قول يُوافق مالكاً فى أنه يطهر ظاهرُه دون باطنه، وقال بعضُهم: لا يجوز بيعُه، وإن طهر ظاهره وباطنه على قوله الجديد، فإنه جزءٌ من الميتة حقيقة، فلا يجوزُ بيعه كعظمها ولحمها. وقال بعضُهم: بل يجوزُ بيعه بعد الدبغ لأنه عين طاهرة يُنتفع بها فجاز بيعها كالمذكَّى، وقال بعضهم: بل هذا ينبنى على أن الدبغ إزالة أو إحالة، فإن قلنا: إحالة، جاز بَيعُه لأنه قد استحال من كونه جزء ميتة إلى عين أخرى، وإن قلنا: إزالة، لم يجزء بيعُه، لأن وصف الميتة هو المحرمُ لبيعه، وذلك باق لم يستحل.
وبنوا على هذا الخلاف جواز أكله، ولهم فيه ثلاثة أوجه: أكله مطلقاً، وتحريمه مطلقاً، والتفصيلُ بين جلد المأكول وغير المأكول، فأصحاب الوجه الأول، غلَّبُوا حكم الإحالة، وأصحاب الوجه الثانى،
غلَّبوا حكم الإزالة، وأصحاب الوجه الثالث أجروا الدباغَ مجرى الذكاة، فأباحوا بها ما يُباح أكله بالذكاة إذا ذكى دون غيره، والقولُ بجواز أكله باطل مخالف لصريح السنة، ولهذا لم يُمكن قائلُه القول به إلا بعد منعه كونَ الجلد بعد الدبغ ميتة، وهذا منع باطل، فإنه جلد ميتة حقيقة وحساً وحكماً، ولم يحدث له حياةٌ بالدبغ ترفع عنه اسم الميتة، وكون الدبغ إحالةً باطل حساً، فإن الجلد لم يستحل ذاتُه وأجزاؤه، وحقيقته بالدباغ، فدعوى أن الدباغ إحالة عن حقيقة إلى حقيقة أخرى، كما تُحيل النارُ الحطب إلى الرماد، والملاَّحة ما يُلقى فيها من الميتات إلى الملح دعوى باطلة.
وأما أصحاب مالك رحمه الله ففى "المدونة" لابن القاسم المنعُ من بيعها وإن دبغت، وهو الذى ذكره صاحب "التهذيب". وقال المازَرى: هذا هو مقتضى القول بأنها لا تطهرُ بالدباغ. قال: وأما إذا فرعنا على أنها تطهر بالدباغ طهارة كاملة، فإنا نُجيز بيعها لإباحة جملة منافعها.
قلت: عن مالك فى طهارة الجلد المدبوغ روايتان. إحداهما: يطهر ظاهرُه وباطنُه، وبها قال وهب، وعلى هذه الرواية جوز أصحابُه بيعه والثانية: وهى أشهر الروايتين عنه أنه يطهر طهارة مخصوصة يجوز معها استعمالُه فى اليابسات، وفى الماء وحده دون سائر المائعات، قال أصحابه: وعلى هذه الرواية لا يجوز بيعُه، ولا الصلاة فيه، ولا الصلاةُ عليه.
وأما مذهب الإمام أحمد: فإنه لا يصح عنده بيع جلد الميتة قبل دبغه. وعنه فى جوازه بعد الدبغ روايتان، هكذا أطلقهما الأصحابُ، وهما عندى مبنيتان على اختلاف الرواية عنه فى طهارته بعد الدباغ.
وأما بيعُ الدهن النجس، ففيه ثلاثة أوجه فى مذهبه.
أحدها: أنه لا يجوز بيعه.
والثانى: أنه يجوز بيعُه لكافر يعلم نجاسته، وهو المنصوص عنه. قلت: والمراد بعلم النجاسة: العلم بالسبب المنجس لا اعتقاد الكافر نجاسته.
والثالث: يجوز بيعه لكافر ومسلم. وخرج هذا الوجه من جواز إيقاده، وخرج أيضاً من طهارته بالغسل، فيكون كالثوب النجس، وخرج بعضُ أصحابه وجهاً ببيع السرقين النجس للوقيد مِن بيع الزيت النجس له، وهو تخريجٌ صحيح.
وأما أصحاب أبى حنيفة فجوزوا بيع السرقين النجس إذا كان تبعاً لغيره، ومنعوه إذا كان مفرداً.
فصل
وأما عظمُها، فمن لم ينجسه بالموت، كأبى حنيفة، وبعض أصحاب أحمد، واختيار ابن وهب من أصحاب مالك، فيجوز بيعُه عندهم، وإن اختلف مأخذ الطهارة، فأصحاب أبى حَنيفة قالوا: لا يدخل فى الميتة، ولا يتناولُه اسمها، ومنعوا كونَ الألم دليلَ حياته، قالُوا: وإنما تؤلمه لما جاوره من اللحم لا ذات العظم، وحملوا قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيى العِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ} [يس: 78]، على حذف مضاف، أى أصحابها. وغيرهُم ضعَّف هذا المأخذ جداً، وقال: العظم يألم، وألمه أشدُّ من ألم اللحم، ولا يَصِحُّ حمل الآية على حذف مضاف، لوجهين، أحدهما:
أنه تقدير ما لا دليل عليه، فلا سبيل إليه. الثانى: أن هذا التقدير يستلزم الإضراب عن جواب سؤال السائل الذى استشكل حياة العظام، فإن أُبىَّ ابْنَ خَلف أخذ عظماً بالياً، ثم جاء به إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففته فى يده، فقال: يا محمد، أترى الله يحيى هذا بعد ما رُمَّ؟ فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نعم، ويَبْعَثُكَ، ويُدْخِلُكَ النَّار".
فمأخذ الطهارة أن سببَ تنجيس الميتة منتفٍ فى العظام، فلم يُحكم بنجاستها، ولا يصح قياسها على اللحم، لأن احتقانَ الرطوبات والفضلات الخبيثة يختص به دونَ العظام، كما أن ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت، وهو حيوان كامل، لِعدم سبب التنجيس فيه. فالعظم أولى، وهذا المأخذُ أصح وأقوى من الأول، وعلى هذا، فيجوز بيعُ عظام الميتة إذا كانت من حيوان طاهر العين.
وأما من رأى نجاستها، فإنه لا يجوز بيعها، إذ نجاستها عينية، قال ابن القاسم: قال مالك: لا أري أن تُشترى عِظام الميتة ولا تباع، ولا أنياب الفيل، ولا يتجر فيها، ولا يمتشط بأمشاطها، ولا يدهن بمداهنها، وكيف يجعل الدهن فى الميتة ويمشط لحيته الميتة، وهى مبلولة، وكره أن يُطبخ بعظام الميتة، وأجاز مطرِّف، وابن الماجِشون بيعَ أنياب الفيل مطلقاً، وأجازه ابن وهب، وأصبغ إن غُليت وسُلِقت، وجعلا ذلك دباغاً لها.
فصل
وأما تحريمُ بيع الخنزير، فيتناولُ جملته، وجميعَ أجزائه الظاهرة والباطنة، وتأمل كيف ذكر لحمه عند تحريم الأكل إشارة إلى تحريم أكله ومعظمه اللحم، فذكر اللحم تنبيهاً على تحريم أكلِه دونَ ما قبله، بخلاف الصيد، فإنه لم يقل فيه: وحرم عليكم لحم الصيد، بل حرم نفس الصيد، ليتناول ذلك أكله وقتله. وههنا لما حرم البيع ذكر جملته، ولم يخص التحريمَ بلحمه ليتناول بيعه حياً وميتاً.
فصل
وأما تحريمُ بيع الأصنام، فُيستفاد منه تحريمُ بيع كُلِّ آلة متخذة للشرك على أى وجه كانت، ومن أى نوع كانت صنماً أو وثناً أو صليباً، وكذلك الكُتب المشتمِلَةُ على الشرك، وعبادة غير الله، فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها، وبيعُها ذريعةٌ إلي اقتناعها واتخاذها، فهو أولى بتحريم البيع مِن كل ما عداها، فإن مفسدةَ بيعها بحسب مفسدتها فى نفسها، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُؤخر ذِكرها لخفة أمرها، ولكنه تدرَّج من الأسهل إلى ما هو أغلظ منه، فإن الخمرَ أحسنُ حالاً مِن الميتة، فإنها تصيرُ مالاً محترماً إذا قلبها اللهُ سبحانه ابتداء خّلاً، أو قلبها الآدمى بصنعته عند طائفة من العلماء، تُضمن إذا أتلفت على الذمى عند طائفة بخلاف الميتة، وإنما لم يجعل الله فى أكل الميتة حداً اكتفاء بالزاجر الذى جعله الله فى الطباع مِن كراهتها والنفرة عنها، وإبعادها عنها، بخلاف الخمر. والخنزير أشدُّ تحريماً من الميتة، ولهذا أفرده الله تعالى بالحكم عليه أنه رجس فى
قوله: {قُلْ لاَ أَجدُ فِيمَا أُوحِىَ إلىَّ مُحرَّماً عَلى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً} [الأنعام: 145]، فالضمير فى قوله: "فإنه" وإن كان عوده إلى الثلاثة المذكورة بإعتبار لفظ المحرم، فإنه يترجح اختصاص لحم الخنزير به لثلاثة أوجه. أحدها: قربُه منه، والثانى: تذكيرُه دون قوله، فإنها رجس، والثالث: أنه أتى
"بالفاء" و"إنَّ" تنبيهاً على علة التحريم لتزجر النفوسُ عنه، ويقابل هذه العلة ما فى طباع بعض الناس من استلذاذه، واستطابته، فنفى عنه ذلك، وأخبر أنه رجس، وهذا لا يحتاج إليه فى الميتة والدم لأن كونهما رجساً أمر مستقر معلوم عندهم، ولهذا فى القرآن نظائر، فتأملها. ثم ذكر بعدُ تحريمُ بيع الأصنام، وهو أعظمُ تحريماً وإثماً، وأشد منافاة للإسلام من بيع الخمر والميتة والخنزير.
فصل
وفى قوله: "إنَّ الله إذا حَرَّم شَيْئاً أو حَرَّم أكل شَىءٍ حَرَّمَ ثمنه"، يُراد به أمران، أحدهُما: ما هو حرام العين والانتفاع جملة، كالخمر، والميتة، والدم، والخنزير، وآلات الشرك، فهذه ثمنها حرام كيفما اتفقت.
والثانى: ما يُباح الانتفاعُ به فى غير الأكل، وإنما يحرم أكلُه، كجلد الميتة بعد الدباغ، وكالحمر الأهلية، والبغال ونحوها مما يحرم أكلُه دونَ الانتفاع به، فهذا قد يُقال: إنه لا يدخل فى الحديث، وإنما يدخل فيه ما هو حرام على الإطلاق. وقد يقال: إنه داخل فيه، ويكون تحريم
ثمنه إذا بيع لأجل المنفعة التى حرمت منه، فإذا بيع البغل والحمار لأكلهما، حرم ثمنهما بخلاف ما إذا بيعا للركوب وغيره، وإذا بيع جلد الميتة للانتفاع به، حل ثمنه. وإذا بيع لأكله، حرم ثمنه، وطرد هذا ما قاله جمهور من الفقهاء، كأحمد، ومالك وأتباعهما: إنه إذا بيع العنب لمن يعصره خمراً، حرم أكل ثمنه. بخلاف ما إذا بيع لمن يأكله، وكذلك السلاحُ إذا بيع لمن يُقاتل به مسلماً، حرم أكل ثمنه، وإذا بيع لمن يغزو به فى سبيل الله، فثمنه من الطيبات، وكذلك ثيابُ الحرير إذا بيعت لمن يلبسُها ممن يحرم عليه، حرم أكل ثمنها بخلاف بيعها ممن يحل له لبسها.
فإن قيل: فهل تُجوِّزون للمسلم بيعَ الخمر والخنزير مِن الذمى لاعتقاد الذمى حلهما، كما جوزتم بيعه الدهن المتنجس إذا بين حاله لاعتقاده طهارته وحله؟ قيل: لا يجوز ذلك، وثمنُه حرام، والفرقُ بينهما: أن الدهن المتنجس عين طاهرة خالطها نجاسة، ويسوغ فيها النزاعُ. وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أنه لا ينجس إلا بالتغير. وإن تغير، فذهب طائفة إلى إمكان تطهيره بالغسل، بخلاف العين التى حرمها الله فى كُلِّ ملة، وعلى لسان كل رسول، كالميتة، والدم، والخنزير، فإن استباحته مخالفة لما أجمعت الرسلُ على تحريمه، وإن اعتقد الكافرُ حِلَّه، فهو كبيع الأصنام للمشركين، وهذا هو الذى حرَّمه الله ورسولُه بعينه، وإلا فالمسلمُ لا يشترى صنماً.
فإن قيل: فالخمر حلال عند أهل الكتاب، فجوَّزوا بيعها منهم.
قيل: هذا هو الذى توهمه من توهمه من عمال عمر بن الخطاب رضى الله عنه، حتى كتب إليهم عمر رضى الله عنه ينهاهم عنه، وأمر عماله أن يُولوا أهل الكتاب بَيعها بأنفسهم، وأن يأخذوا ما عليهم من
أثمانها، فقال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان بن سعيد، عن إبراهيم بن عبد الأعلى الجعفى، عن سويد بن غفلة، قال: بلغ عمر بن الخطاب رضى الله عنه، أن ناساً يأخذون الجزية من الخنازير، فقام بلال، فقال: إنهم ليفعلون، فقال عمر رضى الله عنه: لا تفعلُوا، ولُّوهم بيعها.
قال أبو عبيد: وحدثنا الأنصارى، عن إسرائيل، عن إبراهيم ابن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة، أن بلالاً قال لعمر رضى الله عنه: إن عُماَلك يأخذون الخمر والخنازير فى الخراج، فقال: لا تأخذوا منهم، ولكن ولوهم بيعها، وخذوا أنتم من الثمن.
قال أبو عبيد: يريد أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير مِن جزية رؤوسهم، وخراج أرضهم بقيمتها، ثم يتولَّى المسلمون بيعها، فهذا الذى أنكره بلال، ونهى عنه عمرُ، ثم رخص لهم أن يأخذوا ذلك من أثمانها إذا كان أهلُ الذمة هم المتولين لبيعها، لأن الخمر والخنازير مالٌ من أموال أهل الذمة، ولا تكون مالاً للمسلمين.
قال: ومما يُبين ذلك حديثُ آخرُ لعمر رضى الله عنه حدثنا على ابن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن ليث بن أبى سليم، أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كتب إلى العمال يأمرهم بقتل الخنازير وقبض أثمانها لأهل الجزية مِن جزيتهم. قال أبو عُبيد: فهو لم يجعلها قِصاصاً من الجزية إلا وهو يراها من أموالهم. فأما إذا مر الذمى بالخمر والخنازير على
العاشر، فإنه لا يطيبُ له أن يُعشِّرها، ولا يأخذ ثمن العشر منها. وإن كان الذمى هو المتولى لبيعها أيضاً، وهذا ليس مِن الباب الأول، ولا يشبهه، لأن ذلك حقٌ وجب على رقابهم وأرضيهم، وأن العشر ههنا إنما هو شىء يُوضع على الخمر والخنازير أنفسها، وكذلك ثمنها لا يطيبُ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه". وقد روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، أنه أفتى فى مثلِ هذا بغير ما أفتى به فى ذاك، وكذلك قال عمرُ بن عبد العزيز.
حدثنا أبو الأسود المصرى، حدثنا عبدُ الله بن لهيعة، عن عبد الله بن هُبيرة السَّبَائِى أن عُتبة بن فرقد بعث إلى عمرَ بنِ الخطاب بأربعينَ ألفَ درهم صدقة الخمر، فكتب إليه عمر رضى الله عنه: بعثت إلىَّ بصدَقِة الخمر، وأنت أحقُّ بها من المهاجرين، وأخبرَ بذلك الناس، وقال: والله لا استعملتُك على شىءِ بعدها، قال: فتركه.
حدثنا عبد الرحمن، عن المثنى بن سعيد الضبعى، قال: كتب عمرُ بن عبد العزيز إلى عدىِّ بن أرطاة، أن ابعث إلىَّ بتفصيل الأموال التى قِبلَك، من أين دخلت؟ فكتبَ إليه بذلك وصنفه له، وكان فيما كتب إليه من عشر الخمر أربعة آلاف درهم. قال: فلبثنا ما شاءَ الله، ثم جاءه جوابُ كتابه: إنك كتبتَ إلىَّ تذكر من عشور الخمر أربعة آلاف درهم، وإن الخمر لا يُعشرها مسلم، ولا يشتريها، ولا يبيعُها، فإذا أتاك كتابى هذا، فاطلب الرجلَ، فاردُدْها عليه، فهو أولى بما كان فيها. فطلب الرجل، فَرَدَّتْ عليه.
قال أبو عُبيد: فهذا عندى الذى عليه العمل، وإن كان إبراهيم
النخعى قد قال غير ذلك. ثم ذكر عنه فى الذمى يمرُّ بالخمر على العاشر، قال: يضاعف عليه العشور.
قال أبو عُبيد: وكان أبو حنيفة يقول: إذا مُرَّ على العاشر بالخمر والخنازير، عَشَّرَ الخمر، ولم يُعشِّرِ الخنازيرَ، سمعتُ محمد بن الحسن يُحدِّث بذلك عنه، قال أبو عبيد: وقول الخليفتين عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز رضى الله عنهما أولى بالاتباع، والله أعلم.
حَكمُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ثمن الكَلْبِ والسِّنَّورِ
فى "الصحيحين": عن أبى مسعود، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عَنْ ثَمَن الكَلْبِ وَمَهْرِ البَغِىِّ، وحُلْوَانِ الكَاهِنِ.
وفى صحيح مسلم: عن أبى الزبير، قال: سألتُ جابراً عن ثمن الكلب والسِّنور فقال: زَجَرَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك.
وفى سنن أبى داود: عنه أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن ثمن الكَلْبِ والسِّنَّوْرِ.
وفى صحيح مسلم: من حديث رافع بن خَديج، عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: "شَرُّ الكَسْبِ مَهْرُ البَغِىّ وثَمَنُ الكَلْبِ وكَسْبُ الحَجَّامِ".
فتضمنت هذه السنن أربعة أمور.
أحدُها: تحريمُ بيع الكلب، وذلك بتناولُ كل كلب صغيراً كانَ أو كبيراً للصيد، أو للماشية، أو للحرث، وهذا مذهبُ فقهاءِ أهلِ الحديثِ قاطبة، والنزاعُ فى ذلك معروف عن أصحاب مالك، وأبى حنيفة، فجوز أصحابُ أبى حنيفة بيعَ الكلاب، وأكل أثمانها، وقال القاضى عبد الوهَّاب: اختلف أصحابُنا فى بيع ما أذن فى اتخاذه من الكلاب، فمنهم من قال: يُكره، ومنهم من قال: يَحرم، انتهى.
وعقدَ بعضُهم فصلاً لما يصح بيعُه، وبنى عليه اختلافهم فى بيع الكلب، فقال: ما كانت منافعُه كلُّها محرمة لم يجز بيعه، إذ لا فرق بين المعدوم حساً، والممنوع شرعاً، وما تنوَّعَتْ منافِعُه إلى محللة ومحرمة، فإن كان المقصودُ مِن العين خاصة كان الاعتبارُ بها، والحكم تابع لها، فاعتُبِرَ نوعُها، وصار الآخر كالمعدوم. وإن توزعت فى النوعين، لم يَصِحَّ البيعُ، لأن ما يُقابل ما حرم منها أكل مال بالباطل، وما سواه من بقية الثمن يصير مجهولاً.
قال: وعلى هذا الأصل مسألةُ بيعِ كلب الصيد، فإذا بُنى الخلافُ فيها على هذا الأصل، قيل: فى الكلب من المنافع كذا وكذا، وعُددت جملة منافعه، ثم نظر فيها، فمن رأى أن جملتها محرمة، منع، ومن رأى جميعَها مُحَلَّلَة، أجاز، ومن رآها متنوعة، نظر: هل المقصودُ المحلل،
أو المحرم، فجعل الحكمَ للمقصود، ومن رأى منفعة واحدة منها محرمة وهى مقصودة، منع أيضاً، ومن التبس عليه كونُها مقصودة، وقف أو كره، فتأمل هذا التأصيلَ والتفصيل، وطابق بينهما يظهر لك ما فيهما مِن التناقض والخلل، وأن بناءَ بيع كلب الصيد على هذا الأصل مِن أفسد البناء، فإن قوله: من رأى أن جملة منافع كلب الصيد محرمة بعد تعديدها، لم يجز بيعُه، فإن هذا لم يقله أحدٌ من الناس قط، وقد اتفقت الأمة على إباحة منافع كلب الصيد من الاصطياد والحراسة، وهما جُلُّ منافعه، ولا يُقتنى إلا لذلك، فمن الذى رأى منافعه كُلَّها محرمة، ولا يصح أن تراد منافعه الشرعية؟ فإن إعارتَه جائزة.
وقوله: ومن رأى جميعها محللة، أجاز، كلامٌ فاسِدٌ أيضاً، فإن منافعه المذكورة محللة اتفاقاً، والجمهور على عدم جواز بيعه.وقوله: ومن رآها متنوعة، نظر، هل المقصود المحلل أو المحرم؟ كلامٌ لا فائدة تحته البتة، فإن منفعةَ كلب الصيد هى الاصطيادُ دون الحراسة، فأين التنوعُ وما يُقدَّرُ فى المنافع من التحريم يُقدَّرُ مثلُه فى الحمار والبغل؟ وقوله: ومن رأى منفعة واحدة محرمة وهى مقصودة، منع. أظهرُ فساداً مما قبله، فإن هذه المنفعةَ المحرمة ليست هى المقصودةَ من كلب الصيد، وإن قُدِّرَ أن مشتريَه قصدها، فهو كما لو قصد منفعة محرمة من سائر ما يجوز بيعه، وتبين فساد هذا التأصيل، وأن الأصل الصحيح هو الذى دل عليه النصُّ الصريح الذى لا معارض له البتة من تحريم بيعه.
فإن قيل: كلبُ الصيد مستثنى من النوع الذى نهى عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بدليل ما رواه الترمذى، من حديث جابر رضى الله عنه، أن
النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، إلا كلبَ الصَّيْدِ.
وقال النسائى: أخبرنى إبراهيم بن الحسن المصيصى، حدثنا حجاج ابن محمد، عن حماد بن سلمة، عن أبى الزبير، عن جابر رضى الله عنه، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن ثَمَنِ الكَلْبِ والسِّنَّورِ، إلا كلبَ الصيد.
وقال قاسم بن أصبغ: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا ابنُ أبى مريم، أخبرنا يحيى بن أيوب، حدثنا المثَّنى بن الصبَّاح، عن عطاء بن أبى رباح، عن أبى هُريرة رضى الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ثَمَنُ الكَلْبِ سُحْتٌ إلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ".
وقال ابن وهب عَمَّن أخبره، عن ابن شهاب، عن أبى بكر الصِّديق رضى الله عنه، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ثَلاثٌ هُنَّ سحْتٌ: حُلْوانُ الكاهِنِ، ومَهْرُ الزانِية، وثَمَنُ الكلبِ العَقُور".
وقال ابن وهب: حدثنى الشِّمْرُ بن عبد اللّتَه بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، أنَّ النَبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ العَقُورِ.
ويدل على صحة هذا الاستثناء أيضاً، أن جابراً أحد من روى عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النهىَ عن ثمنِ الكلب، وقد رخَّص جابر نفسُه فى ثمن كلب الصيد، وقولُ الصحابى صالح لتخصيص عمومِ الحديث عند من جعله حجة، فكيف إذا كان معه النصُّ بإستثنائه والقياس؟ وأيضاً لأنه يُباح الانتفاع به، ويَصِحُّ نقلُ اليد فيه بالميراث، والوصية، والهبة، وتجوزُ إعارته وإجارته فى أحد قولى العلماء، وهما وجهان للشافعية، فجاز بيعه كالبغل والحمار.
فالجواب: أنه لا يَصِحُّ عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استثناءُ كلب الصيد بوجه: أما حديث جابر رضى الله عنه، فقال الإمام أحمد وقد سئل عنه: هذا مِن الحسن بن أبى جعفر، وهو ضعيف، وقال الدارقطنى: الصواب أنه موقوف على جابر. وقال الترمذى: لا يصح إسناد هذا الحديث.
وقال فى حديث أبى هريرة رضى الله عنه: هذا لا يصح، أبو المهزِّم ضعيف، يريد روايه عنه. وقال البيهقى: روى عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النهىَ عن ثمن الكلب جماعةٌ، منهم: ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، ورافع بن خديج، وأبو جُحيفة، اللفظ مختلف، والمعنى واحد. والحديث الذى روُى فى استثناء كلب الصيد لا يصح وكأن مَنْ رواه أراد حديث النهى عن اقتنائه، فَشُبِّهَ عليه، والله أعلم.
وأما حديثُ حماد بن سلمة، عن أبى الزبير، فهو الذى ضعفه الإمام أحمد رحمه الله بالحسن بن أبى جعفر، وكأنَّه لم يقع له طريق حجاج ابن محمد، وهو الذى قال فيه الدارقطنى: الصواب أنه موقوف، وقد
أعله ابن حزم، بأن أبا الزبير لم يصرح فيه بالسماع من جابر، وهو مدلس، وليس من رواية الليث عنه. وأعلَّه البيهقىُّ بأن أحدَ رواته وهم من استثناء كلب الصيد مما نُهِىَ عن اقتنائه من الكلاب، فنقله إلى البيع. قلت: ومما يدل على بطلانِ حديثِ جابر هذا، وأنه خُلِّطَ عليه أنه صَحّ عنه، أنه قال: أربعٌ من السحت: ضِرَابُ الفَحْل، وثمنُ الكلب، ومَهْرُ البغىِّ، وكسب الحجام. وهذا علة أيضاً للموقوف عليه من استثناء كلب الصيد، فهو علة للموقوف والمرفوع.
وأما حديثُ المثَّنى بن الصبَّاح، عن عطاء، عن أبى هريرة رضى الله عنه، فباطل، لأن فيه يحيى بن أيوب، وقد شهد مالك عليه بالكذب، وجرَّحه الإمام أحمد. وفيه المثنى بن الصباح، وضعفه عندهم مشهور، ويدل على بطلان الحديث ما رواه النسائى، حدثنا الحسن بن أحمد بن حبيب، حدثنا محمدبن عبد الله بن نمير حدثنا أسباط، حدثنا الأعمش، عن عطاء بن أبى رباح، قال: قال أبو هريرة رضى الله عنه: أربعٌ مِن السُّحت، ضِرَابُ الفَحْلِ، وثَمَنُ الكَلْبِ، ومَهْرُ البَغىِّ، وكَسْبُ الحَجَّامِ.
وأما الأثر عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه، فلا يُدرى من أخبر ابنَ وهب عن ابن شهاب، ولا من أخبرَ ابنَ شهاب عن الصديق رضى الله عنه، ومثل هذا لا يُحتج به.
وأما الأثرُ عن على رضى الله عنه: ففيه ابن ضميرة فى غاية الضعف، ومثلُ هذه الآثار الساقطة المعلولة لا تُقدم على الآثار التى رواها الأئمة الثقاتُ الأثبات، حتى قال بعضُ الحفاظ: إن نقلها نقلُ تواتر، وقد ظهر أنه لم يَصِحَّ عن صحابى خلافها البتة، بل هذا جابر، وأبو هريرة، وابن عباس
يقولون: ثمنُ الكلب خبيث.
قال وكيع: حدثنا إسرائيل، عن عبد الكريم، عن قيس بن حَبْتَرٍ، عن ابن عباس رضى الله عنهما يرفعه: "ثَمَنُ الكَلْبِ، ومَهْرُ البَغِىِّ، وثَمَنُ الخَمْرِ حَرَامٌ".
وهذا أقل ما فيه أن يكون قولَ ابن عباس.
وأما قياسُ الكلب على البغل والحمار، فمن أفسد القياس، بل قياسُه على الخنزير أصحُّ من قياسه عليهما، لأن الشبَه الذى بينه وبَين الخنزير أقربُ مِن الشبه الذى بينَه وبينَ البغل والحمار، ولو تعارض القياسانِ لكان القياسُ المؤيَّد بالنصِّ الموافق له، أصحَّ وأولى من القياس المخالف له.
فإن قيل: كان النهىُ عن ثمنها حينَ كان الأمر بقتلها، فلما حَرُمَ قتلُها، وأبيحَ اتخاذُ بعضها، نُسِخَ النهىُ، فنسخ تحريمُ البيع.
قيل: هذه دعوى باطلة ليس مع مدعيها لصحتها دليل، ولا شُبهة، وليس فى الأثر ما يدل على صحة هذه الدَعْوَى البتة بوجه من الوجوه، ويدل على بطلانها: أن أحاديثَ تحريمِ بيعها وأكل ثمنها مطلقة عامة كُلّها، وأحاديثُ الأمر بقتلها، والنهى عن اقتنائها نوعان: نوع كذلك وهو المتقدم، ونوع مقيَّد مخصص وهو المتأخر، فلو كان النهى عن بيعها مقيداً مخصوصاً، لجاءت به الآثارُ كذلك، فلما جاءت عامة مطلقة، عُلثمَ أن عمومَها وإطلاقَها مراد، فلا يجوز إبطالُه. والله أعلم.
فصل
الحكم الثانى: تحريمُ بيع السِّنور، كما دل عليه الحديثُ الصحيح الصريح الذى رواه جابر، وأفتى بموجبه، كما رواه قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن وضَّاح، حدثنا محمد بن آدم، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبى الزبير، عن جابر بن عبد الله، أنه كره ثمن الكلب والسنور. قال أبو محمد: فهذه فتيا جابر بن عبد الله، أنه كره بما رواه، ولا يُعرف له مخالف مِن الصحابة، وكذلك أفتى أبو هريرة رضى الله عنه، وهو مذهبُ طاووس، ومجاهد، وجابر بن زيد، وجميع أهل الظاهر، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهى اختيارُ أبى بكر عبد العزيز، وهو الصواب لصحة الحديث بذلك، وعدم ما يُعارضه، فوجب القولُ به.
قال البيهقى: ومن العلماء من حمل الحديث على أن ذلك حين كان محكوماً بنجاستها، فلما قال النبى ُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجَسٍ". صار ذلك منسوخاً فى البيع. ومنهم من حمله على السنور إذا توحَّش، ومتابعة ظاهر السنة أولى. ولو سمع الشافعى رحمه الله الخبر الواقع فيه، لقال به إن شاء الله، وإنما لا يقول به مَنْ توقَّف فى تثبيت روايات أبى الزبير، وقد تابعه أبو سفيان عن جابر على هذه الرواية من جهة عيسى بن يونس، وحفص بن غياث عن الأعمش، عن أبى سفيان انتهى كلامه. منهم من حمله على الهرِّ الذى ليس بمملوك، ولا يخفى ما فى هذه
المحامل مِن الوهن.
فصل
والحكم الثالث: مهر البغى، وهو ما تأخذُه الزانية فى مقابل الزنى بها، فحكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ذلك خبيثٌ على أى وجه كان، حرةً كانت أو أمةً، ولا سيما فإن البغاء إنما كان على عهدهم فى الإماء دون الحرائر، ولهذا قالت هند: وقت البيعة: "أو تزنى الحُرة؟" ولا نزاع بين الفقهاء فى أن الحرة البالغة العاقلة إذا مكنت رجلاً من نفسها فزنى بها أنه لا مهرَ لها.
واختلف فى مسألتين. إحداهما: الحرة المكرهة. والثانية: الأمة المطاوعة، فأما الحرة المكرهة على الزنى، ففيها أربعة أقوال، وهى روايات منصوصات عن أحمد.
أحدها: أن لها المهر بكراً كانت أو ثيباً، سواء وطئت فى قبلها أو دبرها.
والثانى: أنها إن كانت ثيباً، فلا مهر لها، وإن كانت بكراً، فلها المهرُ، وهل يجب معه أرشُ البكارة؟ على روايتين منصوصتين، وهذا القولُ اختيارُ أبى بكر.
والثالث: أنها إن كانت ذاتَ محرم، فلا مهر لها، وإن كانت أجنبية، فلها المهر.
الرابع: أن من تحرم ابنتها كالأم والبنت والأخت، فلا مهر لها، ومن تحل ابنتها كالعمة والخالة، فلها المهر.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا مهر للمكرهة على الزنى بحال، بكراً كانت أو ثيباً.
فمن أوجب المهر. قال: إن استيفاء هذه المنفعة جعل مقوماً فى الشرع بالمهر، وإنما لم يجب للمختارة، لأنها باذلة للمنفعة التى عوضها لها، فلم يجب لها شىء، كما لو أذنت فى إتلاف عضو من أعضائها لمن أتلفه.
ومن لم يُوجبه قال: الشارعُ إنما جعل هذه المنفعة متقومة بالمهرِ فى عقد أو شبهة عقد، ولم يُقومها بالمهر فى الزنى البتة، وقياس السفاح على النكاح من أفسد القياس. قالوا: وإنما جعل الشارعُ فى مقابلة هذا الاستمتاع الحدَّ والعُقوبة، فلا يجمع بينَه وبينَ ضمان المهر. قالوا: والوجوب إنما يُتلقى من الشرع من نص خطابه أو عمومه، أو فحواه، أو تنبيهه، أو معنى نصِّه، وليس شىء من ذلك ثابتاً متحققاً عنه. وغاية ما يُدعى قياسُ السفاح على النكاح، ويا بُعد ما بينهما. قالوا: والمهر إنما هو مِن خصائص النكاح لفظاً ومعنى، ولهذا إنما يُضاف إليه فيقال: مهر النكاح، ولا يُضاف إلى الزنى، فلا يقال: مهر الزنا، وإنما أطلق النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهر وأراد به العقد، كما قال: "إنَّ اللهَ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ والميْتَةِ والخِنزِيرِ والأَصْنَامِ". وكما قال: "ورَجُلٌ بَاعَ حُراً فَأكَلَ ثَمَنَهُ". ونظائرُه كثيرة.
والأولون يقولون: الأصلُ فى هذه المنفعة، أن تقوَّم بالمهر، وإنما أسقطه الشارعُ فى حق البغى، وهى التى تزنى بإختيارها، وأما المكرهة على الزنى فليست بغياً، فلا يجوز إسقاطُ بدلِ منفعتها التى أُكرهت على
استيفائها، كما لو أُكرِهَ الحر على استيفاء منافعه، فإنه يلزمُه عوضها، وعوضُ هذه المنفعة شرعاً هو المهر، فهذا مأخذ القولين. ومن فرَّق بين البكر والثيب، رأى أن الواطىء لم يذهب على الثيب شيئاً، وحسبُه العقوبة التى ترتبت على فعله، وهذه المعصية لا يُقابلها شرعاً مال يلزم من أقدم عليها، بخلاف البكر، فإنه أزال بكارتها، فلا بُد من ضمان ما أزاله، فكانت هذه الجنايةُ مضمونةً عليه فى الجملة، فضمن ما أتلفه مِن جزء منفعة، وكانت المنفعة تابعة للجزء فى الضمان، كما كانت تابعة له فى عدمه من البكر المطاوعة.
ومن فرَّق بين ذوات المحارم وغيرهن، رأى أن تحريمهن لما كان تحريماً مستقراً، وأنهن غيرُ محل الوطء شرعاً، كان استيفاءُ هذه المنفعة منهن بمنزلة التلوط، فلا يوجب مهراً وهذا قولُ الشعبى، وهذا بخلاف تحريم المصاهرة، فإنه عارض يُمكن زوالُه.
قال صاحب "المغنى": وهكذا ينبغى أن يكون الحكم فيمن حرمت بالرضاع، لأَنَِّهُ طَارىءُ أيضاً. ومن فرَّق فى ذوات المحارم، بينَ مَنْ تحرم ابنتها، وبين من لا تحرُم، فكأنه رأى أن من لا تحرم ابنتها تحريمها أخف مِن تحريم الأخرى، فأشبه العارض.
فإن قيل: فما حكمُ المكرهة على الوطء فى دُبرها، أو الأمة المطاوعة على ذلك؟ قيل: هو أولى بعدم الوجوب، فهذا كاللواط لا يجب فيه المهر اتفاقاً.
وقد اختلف فى هذه المسألة الشيخانِ، أبو البركات ابن تيمية، وأبو محمد بن قدامة، فقال أبو البركات فى "محرره": ويجب مهرُ المثل
للموطوءة بشبهة، والمكرَهَة على الزنى فى قبل أو دبر، وقال أبو محمد فى "المغنى": ولا يجب المهرُ بالوطء فى الدبر، ولا اللواط، لأن الشرع لم يَرِدُ ببَدَلِه، ولا هو إتلافٌ لشىء، فأشبه القبلة والوطءَ دونَ الفرج، وهذا القولُ هو الصوابُ قطعاً، فإن هذا الفعل لم يجعل له الشارعُ قيمة أصلاً، ولا قدَّر له مهراً بوجه من الوجوه، وقياسُه على وطء الفرج مِن أفسد القياس، ولازم من قاله إيجابُ المهر لمن فعلت به اللوطية مِن الذكور، وهذا لم يقل به أحد البتة.
فصل
وأما المسألة الثانية: وهى الأمة المطاوعة، فهل يجب لها المَهر؟ فيه قولان. أحدُهما: يِجبُ، وهو قولُ الشافعى، وأكثر أصحاب أحمد رحمه الله. قالوا: لأن هذه المنفعة لغيرها، فلا يسقط بدلها مجاناً، كما لو أذنت فى قطع طرفها. والصوابُ المقطوع به: أنه لا مهر لها، وهذه هى البغىُّ التى نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مهرها، وأخبر أنه خبيثٌ، وحكم عليه وعلى ثمنِ الكلب، وأجرِ الكاهن بحكم واحد، والأمة داخلة فى هذا الحكم دخولاً أولياً، فلا يجوز تخصيصُها مِن عمومه لأن الإماء هن اللاتى كُن يُعرفن بالبغاء، وفيهن وفى ساداتهن أنزل اللهُ تعالى: {ولا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُم عَلى البِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور: 33]، فكيف يجوز أن تُخرج الإماء مِن نص أردن به قطعاً، ويُحمل على غيرهن.
وأما قولكم: إن منفعتها لسيدها، ولم يأذن فى استيفائها، فيقال: هذه المنفعةُ يملك السيدُ استيفاءها بنفسه، ويملِكُ المعاوضة عليها بعقد النكاحِ أو شبهته، ولا يملِكُ المعاوضَةَ عليها إلا إذا أذنت، ولم يجعل اللهُ ورسوله
للزنى عوضاً قط غير العقوبة، فيفوت على السيد حتى يُقضى له، بل هذا تقويمُ مال أهدره اللهُ ورسولُه، وإثباتُ عِوض حكم الشارعُ بخبثه، وجعله بمنزلة ثمنِ الكلب، وأجرِ الكاهن، وإن كان عوضاً خبيثاً شرعاً، لم يجز أن يقضى به.
ولا يقال: فأجر الحجام خبيث، ويُقضى له به، لأن منفعة الحِجامة منفعة مباحة، وتجوز، بل يجبُ على مستأجره أن يُوفيه أجره، فأين هذا مِن المنفعة الخبيثة المحرمة التى عِوضها مِن جنسها، وحُكمه حكمها، وإيجابُ عوض فى مقابلة هذه المعصية، كإيجابِ عوض فى مقابلة اللواط، إذ الشارع لم يجعل فى مقابلة هذا الفعل عوضاً.
فإن قيل: فقد جعل فى مقابلة الوطء فى الفرج عوضاً، وهو المهرُ مِن حيث الجملة، بخلاف اللواطة.
قلنا: إنما جعل فى مقابلته عوضاً، إذا استوفى بعقد أو بشبهة عقد، ولم يجعل له عوضاً إذا استوفى بزنى محض لا شُبهة فيه، وبالله التوفيق. ولم يُعرف فى الإسلام قط أن زانياً قضى عليه بالمهر للمزنى بها، ولا ريبَ أن المسلمين يرون هذا قبيحاً، فهو عند الله عز وجل قييح.
فصل
فإن قيل: فما تقولون فى كسب الزانية إذا قبضته، ثم تابت، هل يجبُ عليها ردُّ ما قبضته إلى أربابه، أم يطيبُ لها، أم تصَّدق به؟
قيل: هذا ينبنى على قاعدة عظيمة مِن قواعد الإسلام، وهى أن مَن قبض ما ليس له قبضُه شرعاً، ثم أراد التخلصَ منه، فإن كان المقبوضُ
قد أُخِذَ بغير رضى صاحبه، ولا استوفى عِوضَه، ردَّه عليه. فإن تعذَّر ردُّه عليه، قضى به ديناً يعلمه عليه، فإن تعذَّر ذلك، رده إلى ورثته، فإن تعذَّر ذلك، تصدق به عنه، فإن اختار صاحبُ الحق ثوابَه يوم القيامة، كان له. وإن أبى إلا أن يأخذ مِن حسنات القابض، استوفى منه نظيرَ ماله، وكان ثوابُ الصدقة للمتصدق بها، كما ثبت عن الصحابة رضى الله عنهم.
وإن كان المقبوضُ برضى الدافع وقد استوفى عِوضه المحرم، كمن عاوض على خمر أو خنزير، أو على زنى أو فاحشة، فهذا لا يجبُ ردُّ العوض على الدافع، لأنه أخرجه بإختياره، واستوفى عوضه المحرم، فلا يجوزُ أن يجمع له بينَ العوض والمعوض، فإن فى ذلك إعانة له على الإثم والعدوان، وتيسير أصحاب المعاصى عليه. وماذا يريد الزانى وفاعل الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه، ويسترِد ماله، فهذا مما تُصان الشريعة عن الإتيان به، ولا يسوغُ القولُ به، وهو يتضمن الجمْع بين الظلم والفاحشة والغدر. ومن أقبح القبيحِ أن يستوفى عوضه من المزنى بها، ثم يرجع فيما أعطاها قهراً، وقبح هذا مستقر فى فِطر جميع العقلاء، فلا تأتى به شريعة، ولكن لا يطيب للقابض أكله، بل هو خبيث كما حكم عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن خبثه لخبث مكسبه، لا لظلم من أخذ منه، فطريقُ التخلص منه، وتمام التوبة بالصدقة به، فإن كان محتاجاً إليه، فله أن يأخذ قدر حاجته، ويتصدق بالباقى، فهذا حكمُ كل كسب خبيث لِخبث عوضه عيناً كان أو منفعة، ولا يلزم من الحكم بخبثه وجوبُ رده على الدافع، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بخُبثِ كسبِ الحجام، ولا يجب ردُّه على دافعه.
فإن قيل: فالدافع مَالَه فى مقابلة العوض المحرم دفع ما لا يجوزُ دفعه، بل حجر عليه فيه الشارع، فلم يقع قبضُه موقعه، بل وجودُ هذا القبض كعدمه، فيجب ردُّه على مالكه، كما لو تبرع المريضُ لوارثه بشىء، أو لأجنبى بزيادة على الثلث، أو تبرَّْع المحجورُ عليه بفلس، أو سفه، أو تبرع المضطرُ إلى قوته بذلك، ونحو ذلك. وسر المسألة أنه محجورٌ عليه شرعاً فى هذا الدفع فيجب ردُّه.
قيل: هذا قياس فاسد، لأن الدفع فى هذه الصور تبرعٌ محض لم يُعاوض عليه، والشارع قد منعه منه لتعلق حق غيره به، أو حق نفسه المقدمة على غيره، وأما نحن فيه، فهو قد عاوض بماله على استيفاء منفعة، أو استهلاك عينٍ محرمة، فقد قبض عوضاً محرماً، وأقبض مالاً محرماً، فاستوفى ما لا يجوز استيفاؤه، وبذل فيه ما لا يجوزُ بذلُه، فالقابضُ قبض مالاً محرماً، والدافعُ استوفى عِوضاً محرماً، وقضيةُ العدل ترادُّ العوضين، لكن قد تعذر ردُّ أحدهما، فلا يُوجب رد الآخر من غير رجوع عوضه. نعم لو كان الخمر قائماً بعينه لم يستهلكه، أو دفع إليها المال ولم يفجر بها، وجب ردُّ المال فى الصورتين قطعاً كما فى سائر العقود الباطلة إذا لم يتصل بها القبضُ.
فإن قيل: وأىُّ تأثير لهذا القبض المحرم حتى جعل له حرمة، ومعلوم أن قبضَ ما لا يجوز قبضُه بمنزلة عدمه، إذ الممنوعُ شرعاً كالممنوع حساً، فقابضُ المال قبضه بغير حق، فعليه أن يَرُدَّهُ إلى دافعه؟
قيل: والدافع قبض العين، واستوفى المنفعة بغير حق، كلاهما قد اشتركا فى دفع ما ليس لهما دفعه، وقبض ما ليس لهما قبضه، وكلاهما عاصٍ للَّه، فكيف يُخص أحدهما بأن يجمع له بين العوض والمعوض عنه،
ويفوتُ على الآخر العوض والمعوض.
فإن قيل: هو فوَّتَ المنفعة على نفسه بإختياره. قيل: والآخر فوَّت العوض على نفسه بإختياره، فلا فرق بينهما، وهذا واضح بحمد الله.
وقد توقف شيخنا فى وجوب ردِّ عوض هذه المنفعة المحرمة على باذله، أو الصدقة به فى كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم"، وقال: الزانى، ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المالَ عن طيب نفوسهم، فاستوفوا العوضَ المحرم، والتحريم الذى فيه ليس لحقهم، وإنما هو لحقِّ الله تعالى، وقد فاتت هذه المنفعةُ بالقبض، والأصول تقتضى أنه إذا رد أحدَ العوضين، ردَّ الآخر، فإذا تعذر على المستأجر ردُّ المنفعة لم يرد عليه المال، وهذا الذى استوفيت منفعتُه عليه ضرر فى أخذ منفعته، وأخذ عوضها جميعاً منه، بخلاف ما إذا كان العوض خمراً أو ميتة، فإن تلك لا ضرر عليه فى فواتها، فإنها لو كانت باقية لأتلفناها عليه، ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت، لتوفرت عليه بحيث كان يتمكن من صرف تلك المنفعة فى أمر آخر، أعنى من صرف القوة التى عمل بها. ثم أورد على نفسه سؤالاً، فقال: فيقال على هذا فينبغى أن تقضوا بها إذا طالب بقبضها. وأجاب عنه بأن قال: قيل: نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها كعقود الكفار المحرمة، فإنهم إذا أسلموا قبل القبض لم يحكم بالقبض، ولو أسلموا بعد القبض لم يُحكم بالرد، ولكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة، لأنه كان معتقداً لتحريمها بخلاف الكافر، وذلك لأنه إذا طلب الأجرة، فقلنا له: أنت فرطت حيث صرفت قوتَك فى عمل يحرم، فلا يُقضى لك بالأجرة. فإذا قبضها، وقال الدافع هذا المال: اقضوا لى برده، فإنى أقبضته إياه عوضاً عن منفعة محرمة، قلنا له: دفعته معاوضة
رضيتَ بها، فإذا طلبت استرجاع ما أخذ، فاردد إليه ما أخذت إذا كان له فى بقائه معه منفعة، فهذا محتمل. قال: وإن كان ظاهرُ القياس، ردها لأنها مقبوضة بعقد فاسد، انتهى.
وقد نص أحمد فى رواية أبى النضر، فيمن حمل خمراً، أو خنزيراً، أو ميتة لنصرانى: أكرهُ أكلَ كرائه، ولكن يُقضى للحمال بالكراء. وإذا كان لمسلم، فهو أشدُّ كراهة. فاختلف أصحابه فى هذا النص على ثلاث طرق.
إحداها: إجراؤه على ظاهره، وأن المسألة رواية واحدة. قال ابنُ أبى موسى: وكره أحمد أن يُؤجر المسلم نفسَه لحمل ميتة أو خنزير لنصرانى. فإن فعل، قضى له بالكراء، وهل يطيبُ له أم لا؟ على وجهين. أوجههما: أنه لا يطيبُ له، ويتصدَّقُ به، وكذا ذكر أبو الحسن الآمدى، قال: إذا أجر نفسه من رجل فى حمل خمر، أو خنزير، أو ميتة، كره ؛ نص عليه، وهذه كراهة تحريم، لأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن حاملها. إذا ثبت ذلك، فيقضى له بالكراء، وغير ممتنع أن يُقضى له بالكراء وإن كان محرماً، كإجارة الحجام انتهى. فقد صرَّح هؤلاء، بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمة عليه على الصحيح.
الطريق الثانية: تأويلُ هذه الرواية بما يُخالف ظاهرها، وجعل المسألة رواية واحدة، وهى أن هذه الإجارة لا تصِح، وهذه طريقة القاضى فى "المجرد"، وهى طريقة ضعيفة، وقد رجع عنها فى كتبه المتأخرة، فإنه صنف "المجرد" قديماً.
الطريقة الثالثة: تخريجُ هذه المسألة على روايتين إحداهما: أن هذه الإجارة صحيحة يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة. والثانية:
لا تصح الإجارة، ولا يستحق بها أجرة وإن حمل. وهذا على قياس قوله فى الخمر: لا يجوز إمساكُها، وتجب إراقتها. قال فى رواية أبى طالب: إذا أسلم وله خمر أو خنازير تُصب الخمرُ، وتسرَّحُ الخنازير، وقد حرما عليه، وإن قتلها، فلا بأس. فقد نص أحمد، أنه لا يجوز إمساكُها، ولأنه قد نصَّ فى رواية ابن منصور: أنه يكره أن يُؤاجر نفسه لنطارة كرم لنصرانى، لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر، إلا أن يعلم أنه يُباع لغير الخمر، فقد منع من إجارة نفسه على حمل الخمر، وهذه طريقة القاضى فى "تعليقه" وعليها أكثر أصحابه، والمنصور عندهم: الرواية المخرجة، وهى عدمُ الصحة، وأنه لا يستحق أجرة، ولا يقضى له بها، وهى مذهبُ مالك، والشافعى، وأبى يوسف، ومحمد. وهذا إذا استأجر على حملها إلى بيته للشرب أو لأكل الخنزير، أو مطلقاً، فأما إذا استأجره لحملها لِيُريقها، أو لينقل الميتة إلى الصحراء لئلا يتأذَّى بها، فإن الإجارة تجوزُ حينئذ لأنه عمل مباح، لكن إن كانت الأجرة جلد الميتة لم تصح، واستحق أجرة المثل، وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه، رده على صاحبه، هذا قول شيخنا، وهو مذهب مالك. والظاهر: أنه مذهب الشافعى. وأما مذهب أبى حنيفة رحمه الله: فمذهبه كالرواية الأولى، أنه تصح الإجارة، ويُقضى له بالأجرة، ومأخذه فى ذلك، أن الحمل إذا كان مطلقاً، لم يكن المستحق نفسَ حمل الخمر، فذكرُه وعدمُ ذكره سواء، وله أن يحمل شيئاً آخر غيره كخل وزيت، وهكذا قال: فيما لو أجره داره، أو حانوته ليتخذها كنيسة، أو لبيع فيها الخمر، قال أبو بكر الرازى: لا فرق عند أبى حنيفة بين أن يشترط أن يبيعَ فيها الخمر، أو لا يشترط وهو يعلم أنه يبيعُ فيه الخمر: أن الإجارة تَصِحُّ، لأنه لا يستحق
عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء، وإن شرط ذلك، لأن له أن لا يبيعَ فيه الخمر، ولا يتخذ الدار كنيسة، ويستحق عليه الأجرة بالتسليم فى المدة، فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء، كان ذكرها وتركها سواء، كما لو اكترى داراً لينام فيها أو ليسكنها، فإن الأجرة تستحق عليه، وإن لم يفعل ذلك، وكذا يقول: فيما إذا استأجر رجلاً ليحمل خمراً أو ميتة، أو خنزيراً: أنه يصح، لأنه لا يتعين حمل الخمر، بل لو حمله بدلَه عصيراً استحق الأجرة، فهذا التقييدُ عندهم لغو، فهو بمنزلة الإجارة المطلقة، والمطلقة عنده جائزة. وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصى فيها، كما يجوز بيعُ العصير لمن يتخذه خمراً، ثم إنه كره بيع السلاح فى الفتنة. قال: لأن السلاح معمول للقتال لا يصلح لغيره، وعامة الفقهاء خالفوه فى المقدمة الأولى، وقالوا: ليس المقيد كالمطلق، بل المنفعة المعقودُ عليها هى المستحقةُ، فتكون هى المقابلة بالعوض، وهى منفعة محرمة، وإن كان للمستأجر أن يُقيم غيرهَا مقامَها، وألزموه فيما لو اكترى داراً لِيتخذها مسجداً، فإنه يستحِقُّ عليه فعل المعقودِ عليه، ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة بناء على أنها اقتضت فعلَ الصلاة، وهى لا تستحقُّ بعقد إجارة.
ونازعه أصحاب أحمد ومالك فى المقدمة الثانية، وقالوا: إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها فى محرم، حرمت الإجارة، لأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن عاصِرَ الخمر ومعتصرها، والعاصر إنما يعصِرُ عصيراً، ولكن لما علم أن المعتصِرَ يريد أن يتخذه خمراً، فيعصره له، استحق اللعنة.
قالوا: وايضاً فإن فى هذا معاونة على نفس ما يَسْخَطُهُ اللهُ ويُبغضه، ويلعنُ فاعله، فأصولُ الشرع وقواعدُه تقتضى تحريمَه وبطلان العقد عليه، وسيأتى مزيد تقرير هذا عند الكلام على حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحريم العينة وما يترتب
عليها من العقوبة.
قال شيخنا: والأشبهُ طريقةُ ابن موسى، يعنى أنه يُقضى له بالأجرة وإن كانت المنفعة محرمة، ولكن لا يطيبُ له أكلُها. قال: فإنها أقربُ إلى مقصود أحمد، وأقربُ إلى القياس، وذلك لأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن عاصر الخمر، ومعتصرها، وحامِلَها والمحمولة إليه. فالعاصر والحامِل، قد عاوضا على منفعة تستحق عوضاً، وهى ليست محرمةً فى نفسها، وإنما حَرُمَت بقصد المعتصر والمستحمل، فهو كما لو باع عنباً وعصيراً لمن يتخذه خمراً، وفات العصيرُ والخمر فى يد المشترى، فإن مال البائع لا يذهب مجاناً، بل يُقضى له بعوضه. كذلك هنا المنفعة التى وفاها المؤجر لا تذهب مجاناً، بل يُعطى بدلها، فإن تحريم الانتفاعِ بها إنما كان من جهة المستأجر، لا من جهة المؤجر، فإنه لو حملها للإراقة، أو لإخراجها إلى الصحراء خشية التأذى بها، جاز. ثم نحن نحرم الأجرة عليه لحق الله سبحانه لا لحق المستأجر والمشترى، بخلاف من استؤجر للزنى أو التلوط أو القتل أو السرقة، فإن نفس هذا العمل محرم لأجل قصد المستأجر، فهو كما لو باع ميتة أو خمراً، فإنه لا يقضى له بثمنها، لأن نفس هذه العين محرمة، وكذلك لا يُقضى له بعوض هذه المنفعة المحرمة.
قال شيخنا: ومثلُ هذه الإجارة، والجعالة، يعنى الإجارة على حمل الخمر والميتة، لا تُوصف بالصحة مطلقاً، ولا بالفساد مطلقاً، بل يقال: هى صحيحة بالنسبة إلى المستأجر، بمعنى أنه يجب عليه العوض، وفاسدة بالنسبة إلى الأجير، بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاعُ بالأجر، ولهذا فى الشريعة نظائر. قال: ولا يُنافى هذا نصُّ أحمد على كراهة نطارة كرم النصرانى، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن عوضه، ثم نقضى له بكرائه، قال: ولو
لم يفعل هذا، لكان فى هذا منفعة عظيمةٌ للعصاة، فإن كل من استأجروه على عمل يستعينُون به على المعصية قد حصلوا غرضَهم منه، فإذا لم يعطوه شيئاً، ووجب أن يرد عليهم ما أخذ منهم، كان ذلك أعظمَ العون لهم، وليسوا بأهلٍ أن يُعاونوا على ذلك، بخلاف من سَلَّم إليهم عملاً لا قيمة له بحال، يعنى كالزانية، والمغنى، والنائحة، فإن هؤلاء لا يُقضى لهم بأجرة، ولو قبضوا منهم المال، فهل يلزمُهم ردُّه عليهم، أم يتصدقون به؟ فقد تقدم الكلام مستوفى فى ذلك، وبينا أن الصواب أنه لا يلزمهم رده، ولا يطيبُ لهم أكله، والله الموفق للصواب.
فصل
الحكم الخامس: حلوان الكاهن. قال أبو عمر بن عبد البر: لا خلاف فى حُلوان الكاهن أنه ما يُعطاه على كهانته، وهو مِن أكل المال بالباطل، والحلوان فى أصل اللغة: العطية. قال علقمةُ:
فَمَنْ رَجُلٌ أَحْلُوهُ رَحْلى ونَاقَتِى ... يُبَلِّغُ عنِّى الشِّعْرَ إذْ مَاتَ قَائِلُهُ
انتهى.
وتحريمُ حُلوان الكاهن تنبيه على تحريم حُلوان المنجم، والزاجر، وصاحب القُرعة التى هى شقيقة الأزلام، وضاربة الحصا، والعرَّاف، والرَّمَّال ونحوهم ممن تطلب منهم الأخبارُ عن المغيبات، وقد نهى النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إتيان الكهّانِ، وأخبر أن: "مَنْ أَتَى عَرَّافاً فَصَدَّقه بما يَقُولُ، فَقَدْ كَفَر بِمَا أنزل عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ولا ريبَ أن الإيمانَ بما جاء به محَّمدٌ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبما يجىء به هؤلاء، لا يجتمعان فى قلب واحد، وإن كان أحدُهم قد يَصْدُقُ أيحاناً، فصِدقُه بالنسبة إلى كذبه قليلٌ من كثير، وشيطانُه الذى يأتيه بالأخبار لا بُد له أن يَصْدُقَه أحياناً لِيُغوىَ به الناس، ويفتنهم به.
وأكثرُ الناسِ مستجيبون لهؤلاء، مؤمنون بهم، ولا سيما ضعفاء العقول، كالسُّفهاء، والجُهَّالِ، والنِّساء، وأهل البوادى، ومن لا عِلْمَ لهم بحقائق الإيمان، فهؤلاء هم المفتونون بهم، وكثيرٌ منهم يُحْسِنُ الظنَّ بأحدهم، ولو كان مشركاً كافراً بالله مجاهراً بذلك، ويزوره، وينذر له، ويلتمِسُ دعاءه. فقد رأينا وسمِعْنَا من ذلك كَثيراً، وسببُ هذا كله خفاءُ ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق على هؤلاء وأمثالهم، {ومَنْ لم يجعل اللهُ له نوراً فما له من نور} [النور: 40]، وقد قال الصحابة رضى الله عنهم للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ هؤلاءِ يُحدثوننا أحياناً بالأمر، فيكونُ كما قالوا، فأخبرهم أنَّ ذلِكَ مِنْ جِهَةِ الشَّيَاطِين، يُلْقُونَ إِلَيْهِم الكَلِمَةَ تكُونُ حَقاً فَيزِيدُون هُمْ مَعَها مائَة كَذْبَةٍ فَيُصَدَّقُونَ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الكَلِمَةِ.
وأما أصحابُ الملاحم، فركَّبُوا ملاحِمَهم من أشياء.
أحدها: من أخبارِ الكهان.
والثانى: من أخبارٍ منقولة عن الكتب السالفة متوارثة بينَ أهل الكتاب.
والثالث: من أمور أخْبَرَ نبيُّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها جملة وتفصيلاً.
والرابع: من أمور أخبر بها من له كشف مِن الصحابة ومَن بعدهم.
والخامس: من منامات متواطئة على أمر كُلى وجزئى. فالجزئى:
يذكرونه بعينه والكُلى: يُفصلونه بحدس وقرائن تكون حقاً أو تقارب.
والسادس: مِن استدلال بآثار علوية جعلها الله تعالى علامات وأدلة وأسباباً لحوادث أرضية لا يعلمُها أكثرُ الناس، فإن الله سبحانه لم يخلق شيئاً سدى ولا عبثاً. وربط سبحانه العالمَ العُلوى بالسُّفلى، وجعل عُلويه مؤثراً فى سُفليه دون العكسِ، فالشمس، والقمرُ لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإن كان كسوفُهما لِسبب شر يحدث فى الأرض، ولهذا شرع سُبحانه تغييرَ الشرِ عند كُسوفهما بما يدفع ذلك الشرَّ المتوقَّعَ مِن الصلاة والذكر والدعاء والتوبة والاستغفار والعتق، فإن هذه الأشياء تُعارضُ أسباب الشر، وتُقاومها، وتدفع موجباتها إن قويت عليها.
وقد جعل اللهُ سبحانه حركةَ الشمس والقمر، واختلافَ مطالعهما سبباً للفصول التى هى سببُ الحر والبرد، والشتاء والصيف، وما يحدُث فيهما مما يليق بكُلِّ فصل منها، فمن له اعتناء بحركاتهما، واختلاف مطالعهما، يستدِلُّ بذلك على ما يحدث فى النبات والحيوان وغيرهما، وهذا أمر يعرفه كثيرٌ من أهل الفلاحة والزراعة، ونواتى السفن لهم استدلالاتٌ بأحوالهما وأحوالِ الكواكب على أسباب السلامةِ والعطبِ مِن اختلاف الرياح وقوتها وعُصوفها، لا تكاد تَخْتَلُّ.
والأطباءُ لهم استدلالات بأحوال القمر والشمس على اختلاف طبيعة الإنسان وتهيئها لِقبول التغير، واستعدادها لأمور غريبة ونحو ذلك.
وواضعو الملاحم لهم عناية شديدة بهذا، وأمور متوارثَة عن قدماء المنجمين، ثم يستنتجون مِن هذا كُلِّه قياسات وأحكاماً تشبه ما تقدم ونظيره. وسنة الله فى خلقه جارية على سنن اقتضته حكمته، فحكم النظير حكمُ نظيره، وحكمُ الشىء حكم مثله، وهؤلاء صرفوا قوى أذهانهم إلى أحكام
القضاءِ والقدر، واعتبار بعضه ببعض، والاستدلال ببعضه على بعض، كما صرف أئمة الشرع قوى أذهانهم إلى أحكام الأمر والشرع، واعتبار بعضه ببعض، والاستدلال ببعضه على بعض، والله سبحانه له الخلق والأمر، ومصدر خلقه وأمره عن حكمه لا تختل ولا تتعطل ولا تنتقِضُ ومن صرف قوى ذهنه وفكره، واستنفد ساعاتِ عمره فى شىءٍ مِن أحكام هذا العالم وعلمه، كان له فيه من النفوذ والمعرفة والاطلاع ما ليس لغيره.
ويكفى الاعتبارُ بفرع واحدٍ من فروعه، وهو عبارة الرؤيا، فإن العبد إذا نفذ فيها، وكَمُل اطلاعه، جاء بالعجائب. وقد شاهدنا نحن وغيرُنا مِن ذلك أموراً عجيبةً، يحكم فيها المعبِّرُ بأحكام متلازمة صادقة، سريعة وبطيئة، ويقول سامعها: هذه علم غيب. وإنما هى معرفة ما غاب عن غيره بأسبابٍ انفرد هو بعلمها، وخفيت على غيره، والشارع صلوات الله عليه حرم من تعاطى ذلك ما مضرتُه راجحة على منفعته، أو ما لا منفعة فيه، أو ما يُخشى على صاحبه أن يجرَّه إلى الشرك، وحرم بذل المال فى ذلك، وحرم أخذه به صيانة للأمة عما يُفسد عليها الإيمان أو يخدِشُه، بخلاف علم عبارة الرؤيا، فإنه حقٌ لا باطل، لأن الرؤيا مستندة إلى الوحى المنامى، وهى جزء من أجزاء النبوة، ولهذا كُلَّما كان الرائى أصدقَ، كانت رؤياه أصدقَ، وكلما كان المعبرُ أصدق، وأبر وأعلم، كان تعبيرُه أصحَّ، بخلاف الكاهن والمنجم وأضرابهما ممن لهم مدد من إخوانهم من الشياطين، فإن صناعتهم لا تَصِحُّ مِن صادق ولا بار، ولا متقيد بالشريعة، بل هم أشبهُ بالسحرة الذين كلما كان أحدُهم أكذبَ وأفجرَ، وأبعدَ عن الله ورسوله ودينه، كان السحرُ معه أقوى وأشدَّ تأثيراً، بخلاف علم الشرع والحق، فإن صاحبَه كلما كان أبرَّ وأصدقَ وأدينَ، كان علمه به ونفوذه فيه أقوى، وبالله التوفيق.
فصل
الحكم السادس: خبثُ كسبِ الحجَّام، ويدخُلُ فيه الفاصد والشارط، وكل من يكون كسبُه من إخراج الدم، ولا يدخل فيه الطبيبُ، ولا الكحَّال ولا البيطارُ لا فى لفظه ولا فى معناه، وصحَّ عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنَّه حكم بخُبثه وأَمَرَ صَاحَبِه أَنْ يَعْلِقَه نَاضِحَه أَوْ رَقِيقَهُ" وصحَّ عنه أنه احتجمَ وأعطى الحجامَ أجرَهُ".
فأشكل الجمعُ بينَ هذين على كثير من الفقهاء، وظنوا أن النهىَ عن كسبه منسوخٌ بإعطائه أجره، وممِن سلك هذا المسلكَ الطحاوى، فقال فى احتجاجه للكوفيين فى إباحة بيع الكِلاب، وأكلِ أثمانها: لما أمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل الكلابِ، ثم قال: "ما لى وللكلاب"، ثم رخص فى كلب الصيد، وكلبِ الغنم، وكان بيعُ الكلاب إذ ذاك والانتفاعُ به حراماً، وكان قاتله مؤدياً للفرض عليه فى قتله، ثم نُسِخَ ذلك، وأباح الاصطيادَ به، فصار كسائر الجوارح فى جواز بيعه، قال: ومثلُ ذلك نهيُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن
كسبِ الحجَّام، وقال: "كسبُ الحجام خبيث" ثم أعطى الحجام، أجرَه، وكان ذلك ناسخاً لمنعه وتحريمه ونهيه. انتهى كلامه.
وأسهلُ ما فى هذه الطريقة أنها دعوى مجردة لا دليلَ عليها، فلا تُقبل، كيف وفى الحديث نفسه ما يُبطلها، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بقتلِ الكلاب، ثم قال: "ما بالُهم وبالُ الكلاب" ثم رخَّص لهم فى كلب الصيد.
وقال ابنُ عمر أمرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتلِ الكِلابِ إلا كَلْبَ الصيدِ أو كلب غَنمٍ أو ماشِية.
وقال عبدُ الله بن مغفَّل: أمرنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل الكلابِ ثم قال ما بالُهم وبَالُ الكِلاَب، ثم رخَّصَ فى كلب الصيد، وكلب الغنم. والحديثانِ فى
"الصحيح" فدلَّ على أن الرخصة فى كلب الصيد وكلب الغنم وقعت بعد الأمر بقتل الكلاب، فالكلبُ الذى أذن رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى اقتنائه هو الذى حرَّم ثمنه، وأخبر أنه خبيثٌ دونَ الكلب الذى أمر بقتله، فإن المأمورَ بقتله غيرُ مستبقى حتى تحتاج الأمة إلى بيان حكم ثمنه، ولم تجر العادةُ ببيعه وشرائه بخلاف الكلب المأذون فى اقتنائه، فإن الحاجة داعية إلى بيان حكم ثمنه أولى مِن حاجتهم إلى بيان ما لم تجرِ عادتُهم ببيعه، بل قد أُمِرُوا بقتله.
ومما يُبين هذا أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر الأربعة التى تُبذل فيها الأموال عادة لحرص النفوس عليها وهى ما تأخذُه الزانية والكاهِنُ والحجَّامُ وبائع الكلب فكيف يُحمل هذا على كلب لم تَجْرِ العادةُ ببيعه، وتخرج منه الكلاب التى إنما
جرت العادة ببيعها هذا من الممتنع البينِ امتناعُه، وإذا تبين هذا، ظهر فساد ما شبه به من نسخ خُبثِ أجرة الحجام، بل دعوى النسخ فيها أبعد.
وأما إعطاءُ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحجام أجره، فلا يُعارض قوله "كسب الحجام خبيث" فإنه لم يقل: إن إعطاءه خبيث، بل إعطاؤه إما واجب، وإما مستحب، وإما جائز ولكن هو خبيثٌ بالنسبة إلى الآخذ، وخبثُه بالنسبة إلى أكله، فهو خبيثُ الكسب، ولم يلزم مِن ذلك تحريمُه، فقد سمى النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثوم والبصل خبيثين مع إباحة أكلهما، ولا يلزم من إعطاء النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحجَّام أجرَه حِل أكلِه فضلاً عن كون أكله طيباً، فإنه قال: "إنِّى لأُعْطِى الرَّجُلَ العَطِيَّةَ يَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَ نَارَاً" ، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كان يُعطى المؤلفةَ قلوبُهم مِن مال الزكاة والفىء مع غناهم، وعدم حاجتهم إليه، ليبذُلوا من الإسلام والطاعة ما يَجِبُ عليهم بذلُه بدون العطاء، ولا يَحِلُّ لهم توقُف بذله على الأخذ، بل يجبُ عليهم المبادرةُ إلى بذله بلا عوض.
وهذا أصل معروف مِن أصول الشرع أن العقد والبذل قد يكونُ جائزاً، أو مستحباً، أو واجباً من أحد الطرفين، مكروهاً أو محرماً من الطرف الآخر، فيجب على الباذلِ أن يَبْذُلَ ويحرم على الآخذ أن يأخذه.
وبالجملة فخبثُ أجرِ الحجَّام من جنس خُبث أكل الثوم والبصل، لكن هذا خبيثُ الرائحة، وهذا خبيثٌ لكسبه.
فإن قيل: فما أطيبُ المكاسب وأحلُّها؟ قيل هذا فيه ثلاثةُ أقوال للفقهاء.
أحدها: أنه كسبُ التجارة.
والثانى: أنَّه عملُ اليد فى غير الصنائع الدنيئة كالحجامة ونحوِها.
والثالث: أنه الزِّراعةُ، ولكل قولٍ مِن هذه وجه مِن الترجيح أثراً ونظراً، والراجح أن أحلَّها الكسبُ الذى جعل منه رِزق رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو كسبُ الغانمين وما أُبيح لهم على لسان الشارع، وهذا الكسبُ قد جاء فى القرآن مدحُه أكثرَ مِن غيره، وأثنى على أهله ما لم يُثْنَ على غيرهم، ولهذا اختاره الله لخيرِ خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله حيث يقولُ: "بُعِثْتُ بالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَى السَّاعَةِ حَتَّي يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وجُعِلَ رِزْقى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحى، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ والصَّغَارُ عَلىَ مَنْ خَالَفَ أَمْرِى" ، وهو الرزقُ المأخوذُ بعزة وشرف وقهر لأعداء الله، وجعل أحب شىء إلى الله، فلا يُقاومه كسب غيره. والله أعلم.
فصل: فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى بيع عَسْبِ الفَحْلِ وضِرابِه
فى صحيح البخارى عن ابن عمر أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن عَسْبِ الفَحْلِ.
وفى صحيح مسلمٍ عن جابر أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بَيْعِ ضِرَابِ الفحل. وهذا الثانى تفسير للأول، وسمى أجرة ضِرابه بيعاً إما لكون
المقصودِ هو الماءَ الذى له، فالثمنُ مبذول فى مقابلة عين مائه، وهو حقيقةُ البيع، وإما أنه سمى إجارته لذلك بيعاً، إذ هى عقد معاوضة وهى بيع المنافع، والعادة أنهم يستأجِرُون الفحل للضِّرَابِ، وهذا هو الذى نُهِى عنه، والعقدُ الوارد عليه باطل، سواء كان بيعاً أو إجارة، وهذا قولُ جمهور العلماء، منهم أحمدُ والشافعى، وأبو حنيفة وأصحابهم.
وقال أبو الوفاء بن عقيل: ويحتمِلُ عندي الجواز، لأنه عقد على منافع الفحل، ونزوه على الأنثى وهى منفعة مقصودة، وماء الفحل يدخل تبعاً، والغالب حصولُه عقيبَ نزوه، فيكون كالعقد على الظئر، ليحصُلَ اللبنُ فى بطن الصبى، وكما لو استأجر أرضاً، وفيها بئر ماء، فإن الماء يدخل تبعاً وقد يغتفر فى الأتباع ما لا يُغتفر فىالمتبوعات.
وأما مالك فَحُكىَ عنه جوازُه، والذى ذكره أصحابه التفصيل، فقال صاحب "الجواهر" فى باب فساد العقد من جهة نهى الشارع: ومنها بيعُ عَسْب الفَحْلِ، ويُحمل النهى فيه على استئجار الفحل على لِقاح الأنثى وهو فاسد، لأنه غيرُ مقدورعلى تسليمه، فأما أن يستأجِرَه على أن ينزو عليه دفعاتٍ معلومة، فذلك جائز، إذ هو أمَدٌ معلوم فى نفسه، ومقدورٌ على تسليمه.
والصحيحُ تحريمُه مطلقاً وفسادُ العقد به على كل حال، ويحرُم
على الآخر أخذُ أجرةِ ضرابه، ولا يحرم على المعطى، لأنه بذل ماله فى تحصيل مباح يحتاج إليه ولا يمنع من هذا كما فى كسب الحجام، وأجرة الكسَّاح، والنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عما يعتادونه من استئجار الفحل للضِّراب، وسمي ذلك بيع عَسْبِهِ، فلا يجوزُ حمل كلامه على غير الواقع والمعتاد وإخلاء الواقع من البيان مع أنه الذى قصد بالنهى، ومن المعلوم أنه ليس للمستأجر غرض صحيح فى نزو الفحل على الأنثى الذى له دفعات معلومة، وإنما غرضُه نتيجة ذلك وثمرته، ولأجله بذل ماله.
وقد علَّل التحريمَ بعدة علل.
إحداها: أنه لا يقدر على تسليم المعقود عليه، فأشبه إجارة الآبق، فإن ذلك متعلق بإختيار الفحل وشهوته.
الثانية: أن المقصودَ هو الماءُ وهو مما لا يجوز إفرادُه بالعقد، فإنه مجهولُ القدر والعين وهذا بخلاف إجارة الظئر، فإنها احتملت بمصلحة الآدمى، فلا يُقاسُ عليها غيرُها، وقد يقال والله أعلم إن النهى عن ذلك مِن محاسن الشريعة وكما لها فإن مقابلة ماء الفحل بالأثمان، وجعله محلاً لعقود المعاوضات مما هو مستقبح ومستهجَن عند العقلاء، وفاعل ذلك عندهم ساقط مِن أعينهم فى أنفسهم، وقد جعل الله سبحانه فِطَرَ عباده لا سيما المسلمين ميزاناً للحسن والقبيح، فما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً، فهو عند الله قبيح.
ويزيد هذا بياناً أن ماء الفحل لا قيمة له، ولا هو مما يُعاوض عليه، ولهذا لو نزا فحلُ الرجل على رَمَكَة غيره، فأولدها، فالولد لِصاحب الرَّمَكَةِ اتفاقاً، لأنه لم ينفصِلْ عن الفحل إلا مجردُ الماء وهو لا قيمة له،
فحرمت هذه الشريعةُ الكاملةُ المعاوضةَ على ضِرابه ليتناوله الناس بينهم مجاناً، لما فيه مِن تكثير النسل المحتاج إليه من غير إضرار بصاحب الفحل، ولا نقصان من ماله، فمن محاسن الشريعة إيجابُ بذلِ هذا مجاناً، كما قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ حَقِّهَا إطْراقَ فَحْلِهَا وإعَارَةَ دَلْوِهَا" فهذه حقوقٌ يضر بالناس منعُها إلا بالمعاوضة، فأوجبت الشريعة بذلها مجاناً.
فإن قيل: فإذا أهدى صاحبُ الأنثى إلى صاحب الفحل هديةً، أو ساق إليه كرامة، فهل له أخذُها؟ قيل: إن كان ذلك على وجه المعاوضة والاشتراط فى الباطن لم يَحِلَّ له أخذُه، وإن لم يكن كذلك فلا بأس به، قال أصحابُ أحمد والشافعى: وإن أعطى صاحبَ الفحل هدية، أو كرامة من غيرِ إجارة، جاز، واحتج أصحابُنا بحديث رُوى عن أنس رضى الله عنه، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: إذا كان إكراماً، فلا بأس، ذكره صاحب "المغنى" ولا أعرف حالَ هذا الحديث، ولا من خرَّجه، وقد نص أحمد فى رواية ابن القاسم على خلافه، فقيل له: ألا يكونُ مثلَ الحجَّامِ يُعطى، وإن كان منهياً عنه؟ فقال: لم يبلغنا أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى فى مثل هذا شيئاً كما بلغنا فى الحجام.
واختلف أصحابنا فى حمل كلام أحمد رحمه الله على ظاهره، أو تأويله، فحمله القاضي على ظاهره، وقال: هذا مقتضى النظر، لكن ترك مقتضاه فى الحجام، فبقى فيما عداه على مقتضى القياس. وقال أبو محمد فى "المغنى": كلام أحمد يُحمل على الورع لا على التحريم، والجواز أرفقُ بالناس، وأوفقُ للقياس.
ذكرُ حكم رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى المنع مِن بيع الماء الذى يشترك فيه الناسُ
ثبت فى صحيح مسلم من حديث جابر رضى الله عنه قال: نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ المَاء.
وفيه عنه قال: نهى رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بَيْع ضِرَابِ الفَحْلِ، وَعَنْ بَيْعِ المَاءِ والأَرْضِ لِتُحْرَث، فعن ذلك نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفى "الصحيحين" عن أبى هُريرة رضى الله عنه أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ لِيُمنَعَ بهِ الكَلأُ" وفى لفظ آخر "لاَ تَمْنَعُوا فَضْلَ المَاءِ لِتَمْنَعُوا به الكَلأَ "، وقال البخارى فى بعض طرقه: " لاَ تَمْنَعُوا فَضْلَ المَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ فَضْلَ الكَلإِ".
وفى "المسند" من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه رضى الله عنه عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ مَنَعَ فَضْل مَائِهِ أَوْ فَضْل كَلَئِهِ، مَنَعَهُ اللهُ فَضْلَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ".
وفى سنن ابن ماجه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "ثَلاثٌ لاَ يُمْنَعْنَ: المَاءُ والكَلأُ والنَّارُ".
وفى "سننه" أيضاً عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المسلمونَ شُركَاءُ فى ثَلاَثٍ: المَاءُ والنَّارُ والكَلأُ، وثَمَنُهُ حَرَامٌ".
وفى صحيح البخاري من حديث أبى هُريرة رضى الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَيُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ كَانَ لضهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ من ابنِ السَّبِيلِ، وَرجُلٌ بَايَع إمامَه لا يُبَايعُهُ إلا لِلدُّنْيَا فإنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا، رَضِىَ، وإنْ لَمْ يعْطِهِ مِنْهَا، سَخطَ وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَةً بَعْدَ العَصْرِ فَقَالَ: واللهِ الذِى لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ لقد أُعْطِيتُ بِهَا كَذَا، فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ قَرَأَ هذِهِ الآيةَ: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُون بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 77] ، وفى سنن أبى داود عن بُهَيْسَة قالت: استأذن أبى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعلَ يدنو منه ويلتزمُه، ثم قال: يانبى الله ما الشىءُ الذى لا يَحِلُّ منعُه؟ قال: الماء قَالَ: "يا نبىَّ اللهِ ما الشىءُ الذى لاَ يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ المِلْحُ، قال: يانبِىَّ اللهِ ما الشَّىءُ الَّذى لاَ يحِلُّ مَنْعُهُ؟ قال : أن تَفْعَلَ الخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ".
الماء خلقه الله فى الأصل مشتركاً بين العباد والبهائم، وجعله سقيا لهم،
فلا يكون أحدٌ أخصَّ به مِن أحد، ولو أقام عليه، وتَنَأَ عليه، قال عمرُ ابن الخطاب رضى الله عنه ابنُ السبيل أحقُّ مِن التَّانىء عليه، ذكره أبو عبيد عنه.
وقال أبو هريرة: ابنُ السبيلِ أول شاربٍ.
فأما من حازه فى قِربته أو إنائه، فذاك غيرُ المذكور فى الحديث، وهو بمنزلة سائر المباحات إذا حازها إلى ملكه، ثم أراد بيعَها كالحطب والكلأ والملح، وقد قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لأنَ يَأخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتَى، بحُزْمَةِ حَطَبٍ على ظَهْرِهِ فيبيعها فَيكُفَّ اللهُ بِهَا وَجْهَهَ خَيْرٌ لَهُ منْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ" رواه البخارى.
وفى "الصحيحين" عن على رضى الله عنه قال: أصبتُ شَارِفَاً مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى مغنم يَوْم بدر، وأعطانى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَارِفاً آخر، فأنختُهما يوماً عِند بابِ رجل من الأنصار وأنا أُريدُ أنْ أَحْمِلَ عَليهما إذخراً لأبيعه. وذكر الحديثَ فهذا فى الكلأ والحطب المباح بعد أخذه وإحرازه، وكذلك السمكُ وسائر المباحات، وليس هذا محلَّ النهى بالضرورة ولا محلَّ النهى أيضاً بيعُ مياه الأنهار الكِبار المشتركة بين الناس، فإن هذا لا يُمكن منعُها، والحجرُ عليها، وإنما محل النهى صور، أحدها: المياه المنتقعة مِن الأمطار إذا اجتمعت فى أرض مباحة، فهى مشتركة بينَ
الناس، وليس أحد أحقَّ بها مِن أحد إلا بالتقديمِ لقُرب أرضه كما سيأتى إن شاء الله تعالى، فهذا النوعُ لا يَحِلُّ بيعُه ولا منعُه، ومانعُه عاصٍ مستوجبٌ لوعيد الله ومنع فضله إذ منع فضل ما لم تعمل يداه.
فإن قيل: فلو اتخذ فى أرضه المملوكة له حفرةً يجمع فيها الماء، أو حفر بئراً، فهل يملِكُه بذلك، ويحل له بيعُه؟ قيل: لا ريب أنه أحقُّ به مِن غيره، ومتى كان الماءُ النابع فى ملكه، والكلأ والمعدن فوقَ كفايته لشربه وشرب ماشيته ودوابه، لم يجبُ عليه بذلُه، نص عليه أحمد، وهذا لا يدخُلُ تحتَ وعيدِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه إنما توعَّد مَنْ منع فضل الماء، ولا فضلَ فى هذا.
فصل
وما فَضَل منه عن حاجته وحاجةِ بهائمه وزرعه، واحتاج إليه آدمى مثلُه أو بهائمه، وبَذَلَه بغير عوض، ولكل واحد أن يتقدَّم إلى الماء ويشربَ ويسقى ما شيته، وليس لصاحب الماء منعُه مِن ذلك، ولا يلزم الشارب وساقى البهائم عِوَضٌ وهل يلزمُه أن يبذُلَ له الدلوَ والبَكرة والحبلَ مجاناً، أو له أن يأخُذَ أجرته؟ على قولين وهما وجهان لأصحاب أحمد فى وجوب إعارة المتاع عند الحاجة إليه، أظهرهُما دليلاً وجوبُه، وهو مِن الماعون. قال أحمد: إنما هذا فى الصحارى والبرية دون البنيانِ يعنى: أن البنيان إذا كان فيه الماءُ، فليس لأحد الدخولُ إليه إلا بإذن صاحبه، وهل يلزمُه بذْل فضل مائه لزرعِ غيره؟ فيه وجهان، وهما روايتان عن أحمد.
أحدهما لا يلزمُه، وهو مذهب الشافعى، لأن الزرع لا حُرمة له
فى نفسه، ولهذا لا يجبُ على صاحبه سقيه بخلاف الماشيةَ.
والثانى: يلزمه بذلُه، واحتج لهذا القول بالأحاديثِ المتقدمة وعمومِها وبما رُوى عن عبيد الله بن عمرو أنَّ قَيِّمَ أرضه بالوهط كتب إليه يُخبره أنه سقى أرضه، وفَضَل له مِن الماء فضلٌ يُطلب بثلاثين ألفاً، فكتب إليه عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما: أقم قِلْدَكَ، ثم اسق الأدنى، فالأدنى، فإنى سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهَى عن بَيْعِ فَضْلِ المَاءِ.
قالُوا: وفى منعه من سقى الزرع إهلاكُه وإفسادُه، فحرم كالماشية. وقولُكم: لا حرمة له، فلصاحبه حُرمة، فلا يجوزُ التسبُّب إلى إهلاك ماله، ومن سلَّم لكم أنه لا حُرمة للزرع؟ قال أبو محمد المقدسى: ويحتمِلُ أن يمنع نفى الحرمة عنه، فإن إضاعةَ المال منهى عنها، وإتلافَه محرم، وذلك دليل على حرمته.
فإن قيل: فإذا كان فى أرضه أو داره بئر نابعة، أو عين مستنبطة، فهل تكون ملكاً له تبعاً لملك الأرض والدار؟ قيل: أما نفسُ البئر وأرض العين، فمملوكةً لمالك الأرض، وأما الماءُ، ففيه قولان، وهما روايتان عن أحمد، ووجهان لأصحاب الشافعى.
أحدهما: أنه غيرُ مملوك، لأنه يجرى مِن تحت الأرض إلى مُلكه، فأشبه الجارى فى النهر إلى ملكه.
والثانى: أنه مملوك له، قال أحمد فى رجل له أرضٌ ولآخر ماء،
فاشترك صاحبُ الأرض وصاحبُ الماء فى الزرع: يكون بينهما؟ فقال: لا بأس، وهذا القولُ اختيارُ أبى بكر.
وفى معنى الماء المعادنُ الجارية فى الأملاك كالقَارِ والنَّفط والمُوميا، والمِلح، وكذلك الكلأ النابتُ فى أرضه كُلُّ ذلك يُخرج على الروايتين فى الماء، وظاهر المذهب أن هذا الماء لا يُملك، وكذلك هذه الأشياء قال أحمد: لا يُعجبنى بيعُ الماء البتة، وقال الأثرم: سمعتُ أبا عبد الله يسأل عن قوم بينهم نهر تشرب منه أرضُهم لهذا يوم، ولهذا يومان يتَّفِقُون عليه بالحصص، فجاء يومى ولا أحتاج إليه أكريه بدراهم؟ قال: ما أدرى، أما النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنهى عن بيع الماء، قيل: إنه ليس يبيعُه، إنما يكريه، قال: إنَّما احتالُوا بهذا لِيُحسِّنُوه، فأى شىء هذا إلا البيع.. انتهى.
وأحاديثُ اشتراكِ الناسِ فى الماء دليلٌ ظاهر على المنع من بيعه، وهذه المسألة التى سئل عنها أحمد هى التى قد ابتُلىَ بها الناسُ فى أرض الشام وبساتينه وغيرها، فإن الأرضَ والبستان يكونُ له حقٌّ مِن الشُّرب مِن نهر، فيفصل عنه، أو يبنيه دوراً، وحوانيت، ويُؤجر ماءَه، فقد توقف أحمد أولاً، ثم أجابَ بأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الماءِ، فلما قيل له: إن هذه إجارة، قال: هذه التسميةُ حِيلة، وهى تحسينُ اللفظ، وحقيقة العقد البيعُ، وقواعِدُ الشريعة تقتضى المَنع من بيع هذا الماء فإنه إنما كان له حقُّ التقديم فى سقى أرضه من هذا الماء المشترك بينه وبين غيره، فإذا استغنى عنه، لم يجز له المعاوضةُ عنه، وكان المحتاج إليه أولى به بعده، وهذا كمن أقام على معدن، فأخذ منه حاجته، لم يَجُزْ له أن يبيعَ باقيَهُ بعدَ نزعه عنه.
وكذلك مَنْ سبق إلى الجلوس فى رَحْبَةٍ أو طريق واسعة، فهو أحقُّ بها ما دام جالساً، فإذا استغنى عنها، وأجر مقعده، لم يَجُزْ، وكذلك
الأرضُ المباحة إذا كان فيها كلأ أو عشب، فسبق بدوابه إليه، فهو أحقُّ بِرَعْيهِ ما دامت دوابُّه فيه، فإذا طلب الخروج مِنها، وبيعَ ما فَضَل عنه، لم يكن له ذلك وهكذا هذا الماءُ سواء، فإنَّه إذا فارق أرضَه، لم يبق له فيه حقُّ، وصار بمنزلة الكلأ الذى لا اختصاص له به، ولا هو فى أرضه.
فإن قيل: الفرقُ بينهما أن هذا الماء فى نفس أرضه، فهو منفعةٌ مِن منافعها، فملكه بملكها كسائِرِ منافعها بخلاف ما ذكرتم مِن الصور، فإن تلك الأعيان ليست من ملكه، وإنما له حقُّ الانتفاع والتقديم إذا سبق خاصة.
قيل: هذه النكتة التى لأجلها جوَّزَ من جوَّز بيعه، وجعل ذلك حقاً مِن حقوق أرضه، فَمَلَكَ المعاوضة عليه وحدَه كما يملِكُ المعاوضة عليه مع الأرض، فُيقال: حقُّ أرضه فى الانتفاع لا فى ملك العين التى أودعها الله فيها بوصف الاشتراك، وجعل حقَّه فى تقديم الانتفاع على غيره فى التحجر والمعاوضة، فهذا القولُ هو الذى تقتضيه قواعدُ الشرع وحكمته واشتماله على مصالح العالم، وعلى هذا فإذا دخل غيره بغير إذنه، فأخذ منه شيئاً، لأنه مباح فى الأصل، فأشبه ما لو عشَّشَ فى أرضه طائر، أو حصل فيها ظبى، أو نضب ماؤها عن سمك، فدخل إليه، فأخذه.
فإن قيل: فهل له منعُه مِن دخول ملكه، وهل يجوزُ دخولُه فى ملكه بغير إذنه؟
قيل: قد قال بعضُ أصحابنا: لا يجوزُ له دخولُ ملكه لأخذ ذلك بغير إذنه، وهذا لا أصل له فى كلام الشارع، ولا فى كلام الإمام أحمد،
بل قد نص أحمد على جواز الرعى فى أرضٍ غيرِ مباحة مع أن الأرض ليست مملوكة له ولا مستأجرة ودخولُها لغير الرعى ممنوع منه. فالصوابُ أنه يجوز له دخولُها لأخذ ما له أخذُه، وقد يتعذَّرُ عليه غالباً استئذان مالكها، ويكون قد احتاج إلى الشرب وسقى بهائمه ورعى الكلأ، ومالك الأرض غائب، فلو منعناه من دخولها إلا بإذنه كان فى ذلك إضرار ببهائمه.
وأيضاً فإنه لا فائدة لهذا الإذن، لأنه ليس لصاحب الأرض منعُه مِن الدخول، بل يجبُ عليه تمكينُه، فغايةُ ما يقدر أنه لم يأذن له، وهذا حرامٌ عليه شرعاً لا يَحِلُّ له منعُه من الدخول، فلا فائدة فى توقف دخوله على الإذن.
وأيضاً فإنه إذا لم يتمكن مِن أخذ حقِّه الذى جعله له الشارعُ إلا بالدخول فهو مأذون فيه شرعاً، بل لو كان دخولُه بغير إذنه لِغيرة على حريمه وعلى أهله، فلا يجوزُ له الدخولُ بغير إذن، فأما إذا كان فى الصحراء، أو دار فيها بئر ولا أنيسَ بها، فله الدخولُ بإذنٍ وغيرِه، وقد قال اللهُ تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29]، وهذا الدخولُ الذى رفع عنه الجناح هو الدخولُ بلا إذن، فإنه قد منعهم قبل مِن الدخول لغير بيوتهم حتى يستأنِسُوا ويُسلِّموا على أهلها، والاستئناس هنا: الاستئنذان، وهى فى قراءة بعضِ السلف كذلك، ثم رفع عنهم الجُناح فى دخول البيوت غير المسكونة لأخذ متاعهم، فدلَّ ذلك على جواز الدخول إلى بيت غيره وأرضه غيرِ المسكونة، لأخذ حقِّه من الماء والكلأ، فهذا ظاهرُ القرآن، وهُوَ مقتضى نص أحمد وبالله التوفيق.
فإن قيل: فما تقولُون فى بيع البئر والعين نفسها: هل يجوزُ؟ قال الإمام
أحمد: إنما نهى عن بيع فضل ماء البئر والعيون فى قراره، ويجوز بيع البئر نفسِها والعين، ومشتريها أحقُّ بمائها، وهذا الذى قاله الإمام أحمد هو الذى دلّت عليه السنة، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ يَشْتَرى بِئْرَ رُومَةَ يُوَسعُ بِهَا عَلَى المُسلِمينَ وَلَهُ الجَنَّةُ" أو كما قال، فاشتراها عثمانُ بن عفان رضى الله عنه مِن يهودى بأمرِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسبَّلَها لِلمُسلمِينَ وكان اليهودىُّ يبيعُ ماءَها. وفى الحديث أن عثمان رضى الله عنه اشترى منه نصفها باثنى عشر ألفاً، ثم قال لليهودى اختر إما أن تأخُذَهَا يوماً وآخذَهَا يوماً، وإما أنْ تَنْصِبَ لك عليها دلواً، وأَنْصِبَ عليها دلواً، فاختار يوماً ويوماً، فكان الناسُ يستقون منها فى يوم عثمان لِليومين، فقال اليهودىُّ: أفسدتَ علىَّ بئرى، فاشترى باقيها، فاشتراه بثمانية آلاف، فكان فى هذا حجةٌ على صحة بيعِ البئر وجوازِ شرائها، وتسبيلها، وصحةِ بيع ما يُسقى منها، وجواز قسمةِ الماء بالمهايأة، وعلى كون المالك أحقَّ بمائها، وجواز قسمة ما فيه حق وليس بمملوك.
فإن قيل: فإذا كان الماءُ عندكم لا يملك، ولكل واحد أن يستقى منه حاجَته، فكيف أمكن اليهودى تحجُّرَه حتى اشترى عثمانُ البئرَ وسبَّلَها، فإن قلتم: اشترى نفسَ البئر وكانت مملوكةً، ودخل الماءُ تبعاً، أشكل عليكم مِن وجه آخر وهو أنكم قررتم أنه يجوزُ للرجل دخولُ أرض غيره لأخذ الكلأ والماء، وقضيةُ بئر اليهودى تدل على أحد أمرين ولا بُد، إما ملك الماء بملك قراره، وإما على أنه لا يجوز دخولُ الأرض لأخذ ما فيها من المباح إلا بإذن مالكها.
قيل: هذا سؤال قوى، وقد يتمسك به من ذهب إلى واحد مِن
هذينِ المذهبين، ومن منع الأمرين، يُجيب عنه بأن هذا كان فى أوَّلِ الإسلام، وحين قدم النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبل تقرر الأحكام، وكان اليهود إذ ذاك لهم شوكةُ بالمدينة، ولم تكن أحكامُ الإسلام جاريةً عليهم، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم، صالحهم، وأقرَّهم على ما بأيديهم، ولم يتعرَّض له، ثم استقرت الأحكام، وزالت شوكةُ اليهود لعنهم الله، وجرت عليهم أحكامُ الشريعة، وسباق قصة هذه البئر ظاهر فى أنها كانت حينَ مقدمِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة فى أول الأمر.
فصل
وأما المياهُ الجاريةُ، فما كان نابعاً من غير ملك كالأنهار الكبار وغيرِ ذلك، لم يملك بحال، ولو دخل إلى أرض رجل، لم يملكه بذلك وهو كالطير يدخل إلى أرضه، فلا يملك بذلك، ولكل واحدة أخذُه وصيده، فإن جعل له فى أرضه مصنعاً أو بركة يجتمع فيها، ثم يخرج منها، فهو كنقع البئر سواه، وفيه من النزاع ما فيه وإن كان لا يخرج منها، فهو أحقُّ به للشرب والسقى، وما فضل عنه، فحكمه حكم ما تقدم.
وقال الشيخ فى "المغنى": وإن كان ماءٌ يسيرٌ فى البركة لا يخرج منها، فالأولى أنه يملكه بذلك على ما سنذكره فى مياه الأمطار.
ثم قال: فأما المصانعُ المتخذة لمياه الأمطار تجتمعُ فيها ونحوها مِن البرك وغيرها فالأولى أن يُملك ماؤها، ويصح بيعه إذا كان معلوماً، لأنه مباح حصله فى شىءٍ مُعَدٍّ له، فلا يجوز أخذُ شىء منه إلا بإذن مالكه.
وفى هذا نظر، مذهباً ودليلاً، أما المذهبُ، فإن أحمد قال: إنما نهى
عن بيع فضل ماء البئر والعيون فى قراره، ومعلوم أن ماءَ البئر لا يُفارقها، فهو كالبِركة التى اتخذت مقراً كالبئر سواء، ولا فرقَ بينهما، وقد تقدم مِن نصوص أحمد ما يدل على المنع مِن بيع هذا، وأما الدليل فما تقدم من النُّصوص التى سقناها، وقوله فى الحديث الذى رواه البخارى فى وعيد الثلاثة، "والرَّجُلُ عَلَى فَضْلٍ مَاءٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ" ولم يُفرق بين أن يكونَ ذلك الفضلُ فى أرضه المختصة به، أو فى الأرض المباحة، وقوله: "النَّاسُ شُركَاءُ فى ثَلاَثٍ" ولم يشترط فى هذه الشركة كون مقره مشتركاً، وقوله وقد سئل: ما الشىء الذى لا يَحِلٌّ منعه؟ فقال: الماء، ولم يشترط كون مقره مباحاً، فهذا مقتضى الدليل فى هذه المسألة أثراً ونظراً.
ذِكرُ حُكمِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى منع الرجلِ مِن بيع ما ليس عنده
فى "السُّنَنِ" و"المسند" من حديث حَكيم بن حزام قال: قلتُ يا رسولَ اللهِ يأتينى الرجلُ يسألنى من البيع ما ليس عندى، فأبيعه منه، ثم أبتاعُه مِن السوق، فقال "لاَ تَبعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ" قال الترمذى: حديث حسن.
وفى "السنن" نحوه من حديث ابن عمرو رضى الله عنه، ولفظه: "لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلاَ شَرْطَانِ فى بَيْع، وَلاَ ربْحُ مَا لَم يُضْمَنْ، ولاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ" قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
فاتفق لفظُ الحديثين على نهيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيع ما ليس عنده، فهذا هو المحفوظُ مِن لفظه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يتضمن نوعاً مِن الغَرَرِ، فإنه إذا باعه شيئاً معيناً، ولَيس فى ملكه ثم مضى لِيشتريه، أو يسلمه له، كان متردداً بينَ الحصول وعدمه، فكان غرراً يشبه القِمَار، فَنُهِىَ عنه. وقد ظنَّ بعضُ الناس أنه إنما نهى عنه، لكونه معدوماً، فقال: لا يَصِحُّ بيعُ المعدوم، وروى فى ذلك حديثاً أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عَنْ بَيْعِ المَعْدُومِ، وهذا الحديثُ لا يُعرف فى شىء مِن كتب الحديث، ولا له أصلَ، والظاهر أنه مروى بالمعنى من هذا الحديث، وغَلِظَ مَنْ ظَنَّ أن معناهما واحد، وأن هذا المنهى عنه فى حديث حكيم وابن عمرو رضى الله عنه لا يلزمُ أن يكون معدوماً، وإن كان، فهو معدوم خاص، فهو كبيع حَبَلِ الحَبَلةِ وهو معدوم يتضمن غرراً وتردداً فى حصوله.
والمعدوم ثلاثةُ أقسام: معدوم موصوف فى الذمة، فهذا يجوز بيعُه اتفاقاً، وإن كان أبو حنيفة شرط فى هذا النوع أن يكون وقت العقد فى الوجود من حيثُ الجملة، وهذا هو السَّلَمُ، وسيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
والثانى: معدوم تبع للموجود، وإن كان أكثرَ منه وهو نوعانِ: نوع متفق عليه ونوع مختلَف فيه، فالمتَّفَق عليه بيعُ الثمار بعد بدو صلاح ثمرة واحدة منها، فاتفق الناسُ على جواز بيع ذلك الصنف الذى بدا صلاحُ واحدة منه، وإن كانت بقية أجزاء الثمار معدومةً وقتَ العقد، ولكن جاز بيعها للموجود، وقد يكون المعدومُ متصلاً بالموجود، وقد يكون أعياناً أخر منفصلة عن الوجود لم تُخلق بعد.
والنوع المختلف فيه كبيع المقاثىء والمباطخ إذا طابت، فهذا فيه قولان، أحدهما: أنه يجوزُ بيعُها جملة، ويأخذها المشترى شيئاً بعد شىء،
كما جرت به العادة، ويجرى مجرى بيع الثمرة بعد بُدُوِّ صلاحها، وهذا هو الصحيحُ مِن القولين الذى استقر عليه عمل الأمة، ولا غنى لهم عنه، ولم يأتِ بالمنع منه كتابٌ ولا سنة ولا إجماع، ولا أثر ولا قياس صحيح، وهو مذهب مالك وأهلٍ المدينة، وأحد القولين فى مذهب أحمد، وهو اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية.
والذين قالوا: لا يُباع إلا لُقْطَةً لا ينضبِطُ قولُهم شرعاً ولا عُرفاً ويتعذَّرُ العملُ به غالباً، وإن أمكن، ففى غاية العسر، ويؤدى إلى التنازع والاختلاف الشديد، فإن المشترى يُريد أخذَ الصغار والكِبار، ولا سيما إذا كان صغاره أطيب من كباره والبائع لا يُؤثر ذلك، وليس فى ذلك عرف منضبط، وقد تكون المقثأة كثيرةً، فلا يستوعِبُ المشترى اللُّقطة الظاهرة حتى يحدث فيها لُقطة أخرى، ويختلط المبيع بغيره، ويتعذَّرُ تمييزُه، ويتعذر أو يتعسَّر على صاحب المقثأة أن يُحْضِرَ لها كُلَّ وقت مَن يشترى ما تجدَّد فيها، ويُفرده بعقد، وما كان هكذا، فإن الشريعة، لا تأتى به، فهذا غيرُ مقدورٍ ولا مشروع، ولو أُلزم الناسُ به، لفسدت أموالُهم وتعطلَّت مصالِحُهمْ ثم إنَّه يتضمن التفريقَ بينَ متماثلين مِن كل الوجوه، فإن بُدو الصَّلاحِ فى المقاثىء بمنزلة بُدوِّ الصلاح فى الثمار، وتلاحقُ أجزائها كتلاحُقِ أجزاءِ الثِّمارِ، وجَعْلُ ما لم يُخلق منها تبعاً لما خُلِقَ فى الصورتين واحدٌ، فالتَفريقُ بينهما تفريق بين متماثلين.
ولما رأى هؤلاء ما في بيعها لُقْطَةً لُقْطَةً مِن الفساد والتعذُّرِ قالوا: طريقُ رفع ذلك بأن يبيعَ أصلَها معها، ويقال: إذا كان بيعُها جملةً مفسدة عندكم، وهو بيعٌ معدوم وغرر، فإن هذا لا يرتفعُ ببيع العروقِ التي لا قيمة لها، وإن كان لها قيمة، فيسيرة جداً بالنسبة إلى الثمن المبذول، وليس للمشتري
قصدٌ في العروق، ولا يدفع فيها الجملةَ مِن المال، وما الذي حصل ببيعِ العُروق معها مِن المصلحة لهما حتى شرط، وإذا لم يكن بيعُ أصول الثمارِ شرطاً في صِحة بيعِ الثمرة المتلاحقةِ كالتينِ والتُوت وهي مقصودة، فكيف يكونُ بيعُ أصولِ المقاثىء شرطاً في صحة بيعها وهي غيرُ مقصودة، والمقصودُ أن هذا المعدومَ يجوزُ بيعُه تبعاً للموجود، ولا تأثيرَ للمعدُومِ، وهذا كالمنافع المعقودِ عليها في الإِجارة، فإنها معدومة، وهي مورد العقدَ، لأنها لا يُمكِنُ أن تَحْدُثَ دفعةً واحدة، والشَرائعُ مبناها على رعاية مصالح العباد، وعدم الحجر عليهم فيما لا بُدَّ لهم منه، ولا تتمُّ مصالِحُهم في معاشهم إلا به.
فصل
الثالث: معدوم لا يُدرى يحصُل أو لا يحصُل، ولا ثقة لبائعه بحصوله، بل يكونُ المشتري منه على خطر، فهذا الذي منع الشارعُ بيعَه لا لِكونه معدوماً، بل لكونه غَرَراً، فمنه صورةُ النهي التي تضمنها حديث حكيم بن حزام وابن عمر رضي الله عنهما، فإن البائعَ إذا باعَ ما ليس في مُلكه، ولا له قُدرة على تسليمه، ليذهب ويحصله، ويسلمه إلى المشتري، كان ذلك شبيهاً بالقمار والمخاطرة مِن غير حاجة بهما إلى هذا العقدِ، ولا تتوقَّفُ مصلحتُهما عليه، وكذلك بيعُ حَبَلِ الحَبَلَةِ- وهو بيعُ حمل ما تحمِلُ ناقتُه-، ولا يختصُّ هذا النهي بحمل الحمل، بل لو باعه ما تحمِلُ ناقتُه أو بقرتُه أو أمتُه، كان مِن بيوع الجاهلية التي يعتادونها.
وقد ظنَّ طائفة أن بيعَ السَّلَمِ مخصوصٌ مِن النهي عن بيع ما ليسَ عنده، وليس هو كما ظنُّوه،
فإن السلمَ يرد على أمر مضمون في الذمة، ثابتٍ فيها، مقدورٍ على تسليمه عند محله، ولا غرر في ذلك، ولا خطر، بل هو جعل المال في ذمة المسلَّم إليه، يجب عليه أداؤُه عند محله، فهو يُشبه تأجيلَ الثمن في ذمة المشتري، فهذا شغلٌ لِذمة المشتري بالثمن المضمون، وهذا شغلٌ لذمة البائع بالمبيع المضمون، فهذا لون، وبيعُ ما ليس عنده لونٌ، ورأيتُ لشيخنا في هذا الحديث فصلاً مفيداً وهذه سياقته.
قال: للناس في هذا الحديثِ أقوالٌ قيل: المرادُ بذلك أن يبيعَ السِّلعةَ المعينة التي هي مال الغير، فيبيعُها، ثم يتملَّكُها، ويُسلمها إلى المشتري، والمعنى: لا تَبعْ ما ليسَ عِنْدَك من الأعيان، ونقل هذا التفسير عن الشافعي، فإنه يُجوِّز السلمَ الحال، وقد لا يكون عند المسلم إليه ما باعه، فحمله على بيع الأعيان، ليكون بيع ما في الذمة غَير داخل تحته سواءً كان حالاً أو مؤجلاً.
وقال آخرون: هذا ضعيف جداً، فإن حكيم بن حزام ما كان يبغ شيئاً معيناً هو ملك لغيره، ثم ينطلِقُ فيشتريه منه، ولا كان الذين يأتونه يقولون: نطلبُ عبد فلان، ولا دارَ فلان، وإنما الذي يفعلُه الناسُ أن يأتيَه الطالبُ، فيقولُ: أريدُ طعاماً كذا وكذا، أو ثوباً كذا وكذا، أو غير ذلك، فيقول: نعم أعطيك، فيبيعه منه، ثم يذهب، فيحصله من عند غيره إذا لم يكن عنده، هذا هو الذي يفعله من يفعلُه مِن الناس، ولهذا قال: "يأتيني فيطلب مني المبيع ليس عندي" لم يقل يطلب مني ما هو مملوك لغيري، فالطالبُ طلب الجنسَ لم يطلُبْ شيئا معيناً، كما جرت به عادةُ الطالب لما يُؤكل ويُلبس ويُركب، إنما يطلب جنس ذلك، ليس له غرض في ملك شخص بعينه دون ما سواه، مما هو مثلُه أو خيرٌ منه،
ولهذا صار الإِمامُ أحمد وطائفةٌ إلى القول الثاني، فقالوا: الحديثُ على عمومه يقتضي النهي عن بيع ما في الذمة إذا لم يكن عنده، وهو يتناول النهي عن السَّلم إذا لم يكن عنده، لكن جاءت الأحاديثُ بجوازِ السَّلَمِ المؤجلِ، فبقي هذا في السَلَمِ الحالَ.
والقول الثالث - وهو أظهر الأقوال -: إن الحديثَ لم يرد به النهي عن السلم المؤجَّل، ولا الحال مطلقاً، وإنما أريد به أن يبيعَ ما في الذمة مما ليس هو مملوكاً له، ولا يقدِرُ على تسليمه، ويربح فيه قبل أن يَملِكه، ويضمنه، ويقدر على تسليمه، فهو نهي عن السلم الحالى إذا لم يكن عند المستسلِفِ ما باعه، فليزم ذمته بشيء حالٍّ، ويربح فيه، وليس هو قادراً على إعطائه، وإذا ذهب يشتريه، فقد يحصُل وقد لا يحصُل، فهو مِن نوع الغرر والمخاطرة، وإذا كان السلم حالاًّ، وجب عليه تسليمُه في الحال، وليس بقادرٍ على ذلك، ويربح فيه على أن يَملكه ويضمنه، وربما أحاله على الذي ابتاع منه، فلا يكونُ قد عمل شيئاً، بل أكل المال بالباطل، وعلى هذا فإذا كان السَّلم الحالُّ والمسلم إليه قادراً على الإِعطاء، فهو جائز، وهو كما قال الشافعي إذا جاز المؤجَّل، فالحالُّ أولى بالجواز.
ومما يُبين أن هذا مرادُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن السائل إنما سأله عن بيع شيء مطلق في الذمة كما تقدم، لكن إذا لم يجز بيعُ ذلك، فبيعُ المعين الذي لم يملكْه أولى بالمنع، وإذا كان إنما سأله عن بيع شيء في الذمة، فإنما سأله عن بيعه حالاًّ، فإنه قال: أبيعُه، ثم أذهب فأبتاعه، فقال له: "لاَ تَبْع ما لَيْس عِنْدَكَ"، فلو كان السلفُ الحال لا يجوزُ مطلقاً، لقال له ابتداء: لا تبع هذا سواء كان عنده أو ليس عنده، فإن صاحبَ هذا القول يقول: بيعُ ما في الذمة حالاًّ لا يجوز، ولو كان عنده ما يُسلمه، بل إذا كان عنده، فإنه لا يبيع إلا
معيناً لا يبيع شيئاً في الذمة، فلما لم ينه النبيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك مطلقاً، بل قال: "لاَ تَبعْ ما ليس عندك"، علم أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرَّق بين ما هو عنده ويملِكه ويقدِر على تسليمه، وما ليس كذلك، وإن كان كلاهما في الذمة.
ومن تدبَّر هذا تبيَّن له أن القولَ الثالثَ هو الصوابُ، فإن قيل: إن بيعَ المؤجَّل جائزٌ للضرورة وهو بيعُ المفاليس، لأن البائع احتاج أن يبيعَ إلى أجل، وليس عنده ما يبيعه الآن، فأما الحال، فيمكنه أن يحضر المبيع فيراه، فلا حاجة إلى بيع موصوف في الذمة، أو بيع عين غائبة موصوفة لا يبيع شيئاً مطلقاً؟. قيل: لا نسلم أن السَّلمَ على خلاف الأصل، بل تأجيلُ المبيع كتأجيل الثمن، كلاهما مِن مصالح العالم.
والناسُ لهم في مبيع الغائب ثلاثةُ أقوال: منهم من يُجوِّزه مطلقاً، ولا يجوزه معيناً موصوفاً كالشافعي في المشهور عنه، ومنهم من يجوِّزه معيناً موصوفاً، ولا يجوزه مطلقاً كأحمد وأبي حنيفة، والأظهرُ جوازُ هذا وهذا، ويقال لِلشافِعي مثل ما قال هو لغيره: إذا جاز بيعُ المطلق الموصوف في الذمة، فالمعينُ الموصوفُ أولى بالجواز، فإن المطلق فيه مِن الغرر والخطر والجهل أكثرُ مما في المعيَّن، فإذا جاز بيعُ حنطة مطلقة بالصفة، فجوازُ بيعها معينة بالصفة أولى، بل لو جَازَ بيع المعين بالصفة، فللمشتري الخيار إذا رآه، جاز أيضاً، كما نقل عن الصحابة، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، وقد جوز القاضي وغيره من أصحاب أحمد السَّلَمَ الحال بلفظ البيع.
والتحقيقُ: أنه لا فرقَ بينَ لفظٍ ولفظٍ، فالاعتبارُ في العقود بحقائقها ومقاصدها لا بمجرد ألفاظها، ونفسُ بيعِ الأعيان الحاضرة التي يتأخر قبضُها يُسمى سلفاً إذا عجل له الثمن، كما في "المسند" عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنَّه نَهَى
أن يُسْلِمَ في الحَائِطِ بِعَيْنهِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَدَا صَلاَحُهُ" ، فإذا بَدَا صَلاحُهُ، وقال: أسلمت إليك في عشرة أوسق مِن تمر هذا الحائط، جاز كما يجوز أن يقول: ابتعت عشرة أوسق مِن هذه الصُّبرة، ولكن الثمن يتأخَر قبضُه إلى كمال صلاحه، فإذا عجَّل له الثمن قيل له: سلف، لأن السلفَ هو الذي تقدم، والسالف المتقدم قال الثه تعالى: {فَجَعلْنَاهُمْ سَلَفاً ومَثلاً لِلآخِرين} [الزخرف: 56] والعرب تُسمي أوَل الرواحل السالفة، ومنه قولُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألحق بِسَلَفِنَا الصَالِحِ عُثمَان بن مَظْعُونٍ". وقول الصديق رضي الله عنه: لأقاتلنَّهم حتى تنفرِدَ سالفتي. وهي العنق.
ولفظ السلف يتناولُ القرضَ والسلم، لأن المقرض أيضاً أسلف القرض، أي: قدمه، ومنه هذا الحديث "لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وبَيْعٌ" ومنه الحَديثُ الآخر: "أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ بَكْراً، وقَضَى جَمَلاً رَبَاعِياً" والذي يبيعُ ما ليس عنده لا يقصِدُ إلا الربح، وهو تاجر، فَيَسْتَلِفُ بسعر، ثم يذهب فيشتري بمثل ذلك الثمن، فإنه يكون قد أتعبَ نفسه لغيره بلا فائدة، وإنما يفعل هذا من يتوكل لغيره فيقول: أعطني، فأنا أشتري لك فذه السلعة، فيكون أميناً، أما أنه يبيعها بثمنٍ معين يقبضه، ثم يذهب فيشتريها بمثل ذلك
الثمن مِن غير فائدة في الحال، فهدا لا يفعلُه عاقل، نعم إذا كان هناك تاجرٌ، فقد يكون محتاجاً إلى الثمن، فَيَسْتَسْلِفُهُ وينتفعُ به مدة إلى أن يحصل تلك السلعة، فهذا يقع في السلم المؤجَّل، وهو الذي يسمى بيعَ المفاليس، فإنه يكون محتاجاً إلى الثمن وهو مفلس، وليس عنده في الحال ما يبيعُه، ولكن له ما ينتظره مِن مَغَلٍّ أو غيره، فيبيعه في الذمة، فهذا يفعل مع الحاجة، ولا يُفعل بدونها إلا أن يقصد أن يتَّجِرَ بالثمن في الحال، أو يرى أنه يحصل به مِن الربح أكثر مما يفوتُ بالسلم، فإن المستسلف يبيعُ السلعة في الحال بدون ما تساوي نقداً، والمسلف يرى أن يشتريَها إلى أجل بأرخصَ مما يكون عند حصولها، وإلا فلو علم أنها عند طرد الأصل تُباع بمثل رأس مال السلم لم يُسلم فيها، فيذهب نفعُ ماله بلا فائدة، وإذا قصد الأجر، أقرضه ذلك قرضاً، ولا يجعل ذلك سَلَماً إلا إذا ظنَّ أنه في الحال أرخصُ منه وقتَ حلول الأجل، فالسلمُ المؤجَّل في الغالب لا يكون إلا مع حاجة المستسلِف إلى الثمن، وأما الحال، فإن كان عنده، فقد يكونُ محتاجاً إلى الثمن، فيبيعُ ما عنده معيناً تارة، وموصوفاً أخرى، وأما إذا لم يكن عنده، فإنه لا يفعلُه إلا إذا قصد التجارة والربحَ، فيبيعه بسعر، ويشتريه بأرخص منه.
ثم هذا الذي قدَّره قد يحصُل كما قدره، وقد لا يحصُل له تلك السلعة التي يُسلف فيها إلا بثمن أغنى مما أسلف فيندم، وإن حصلت بسعر أرخصَ مِن ذلك، قدم السلف إذ كان يُمكنه أن يشترِيَه هو بذلك الثمن، فصار هذا مِن نوع الميسر والقمار والمخاطرة، كبيع العبد الآبق، والبعير الشارد يُباع بدون ثمنه، فإن حصل، نَدِم البائع، وإن لم يحصل، نَدِمَ المشتري، وكذلك بيعُ حَبَلِ الحَبَلَةِ، وبيعُ الملاقِيحِ والمضامينِ، ونحو ذلك مما قد يحصُل، وقد لا يحصل، فبائعُ ما ليس عنده من جنس بائع الغرر الذي قد
يحصل، وقد لا يحصل وهو من جنس القمار والميسر. والمخاطرة مخاطرتان: مخاطرة التجارة وهو أن يشتريَ السلعة بقصد أن يبيعَها ويربحَ ويتوكَّل على اللهِ في ذلك، والخطر الثاني: الميسر الذي يتضمن أكلَ المال بالباطل، فهذا الذي حرَّمه الله تعالى ورسوله مثل بيعِ الملامسة والمنابذة، وحَبَلِ الحَبَلَة والملاقيح والمضامين، وبيع الثمار قبل بُدو صلاحها، ومن هذا النوع يكونُ أحدهما قد قَمَرَ الآخرَ، وظلمه، ويتظلم أحدُهما مِن الآخر بخلاف التاجر الذي قد اشترى السلعة، ثم بعد هذا نقص سعرُها، فهذا من الله سبحانه ليس لأحد فيه حِيلة، ولا يتظلَّم مثلُ هذا مِن البائع، وبيعُ ما ليس عنده مِن قسم القمار والميسر، لأنه قصد أن يربح على هذا لما باعه ما ليس عنده، والمشتري لا يعلم أنه يبيعه، ثم يشتري مِن غيره، وأكثرُ الناس لو عَلِمُوا ذلك لم يشتروا منه، بل يذهبون ويشترون مِن حيث اشترى هو، وليست هذه المخاطرة مخاطرة التجار بل مخاطرة المستعجل بالبيع قبل القدرة على التسليم، فإذا اشترى التاجر السلعة، وصارت عنده ملكاً وقبضاً، فحينئذ دخل في خطر التجارة، وباع بيع التجارة كما أحله الله بقوله: {لاَ تَأكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنكُم بِالبَاطِلِ إلاّ أَنْ تكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنكُم} [النساء: 29]، والله أعلم.
ذكر حُكمِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيع الحَصَاةِ والغَرَرِ والمُلامسة والمنَابَذَةِ
في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " نهى رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الحَصَاةِ وعَنْ بَيْعِ الغَرَرِ".
وفي "الصحيحين" عنه: "أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن المُلامَسَةِ والمنَابَذَةِ" زاد مسلم: "أمَّا المُلاَمَسَةُ: فأنَ يَلْمِسَ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِه بِغَيْرِ تَأمُلٍ، والمُنَابَذَةُ: أَن يَنبِذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَه إلى الآخَرِ، ولَمْ يَنْظُرْ وَاحِدٌ منْهُمَا إلى ثَوْب صَاحبه الآخَرِ". وفي "الصحيحين" عن أبي سعيد قال: "نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ ولُبْسَتَينِ: نَهَى عَنِ المُلاَمَسَةِ والمُنَابَذَةِ في البَيعِ. والمُلاَمَسَةُ: لمسُ الرجلِ ثوبَ الآخر بيده بالليلِ أو بالنهارِ ولا يقْلِبُه إلا بذلك، والمنابذة: أن يَنْبِذَ الرجلُ إلى الرجل ثوبَه، وينبذ الآخر ثوبَه، ويكون ذلك بيعَهما مِن غير نظر ولا تراض".
أما بيعُ الحصاةِ، فهو من باب إضافة المصدر إلى نوعه، كبيع الخيار، وبيع النسيئة ونحوهما، وليس مِن باب إضافة المصدر إلى مفعوله، كبيع الميتة والدم.
والبيوعُ المنهى عنها ترجعُ إلى هذين القِسمين، ولهذا فُسِّرَ بيعُ الحصاة بأن يقول: ارمِ هذه الحصاةَ، فعلى أيِّ ثوبِ وقعت، فهو لك بِدرهم، وفسر بأن بيعَه مِن أرضه قدرَ ما انتهت إليه رميةُ الحصاة، وفُسِّرَ بأن يقبض على كف من حصا، ويقول: لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع، أو يبيعه سلعة، ويَقْبِض على كف مِن الحصا، ويقول: لي بكُلِّ حصاة
درهم، وفُسِّرَ بأن يمسك أحدهما حصاة في يده، ويقول: أي وقت سقطت الحصاة، وجب البيعُ، وفُسِّرَ بأن يتبايعا، ويقول أحدهما: إذا نبذت إليك الحصاة، فقد وجب البيعُ، وفُسِّرَ بأن يعترِضَ القطيع مِن الغنم، فيأخذ حصاة، ويقول: أيُّ شاة أصبتها، فهي لك بكذا، وهذه الصورُ كلُها فاسدة لما تتضمنه من أكل المال بالباطل، ومِن الغَرَرِ والخطر الذي هو شبيه بالقمار.
فصل
وأما بيعُ الغَرَرِ، فمن إضافة المصدر إلى مفعوله كبيع الملاقيح والمضامين والغَرَرُ: هو المَبيع نفسه، وهو فعل بمعنى مفعول، أي: مغرور به كالقبض والسلب بمعنى المقبوض والمسلوب، وهذا كبيع العبد الآبق الذي لا يقدر على تسليمه، والفرس الشارد، والطير في الهواء، وكبيع ضربة الغائص وما تحمل شجرته أو ناقته، أو ما يرضى له به زيد، أو يهبه له، أو يورثه إياه ونحو ذلك مما لا يعلم حصولُه أو لا يقدر على تسليمه، أو لا يُعرف حقيقته ومقداره، ومنه بيعُ حَبَلِ الحَبَلَةِ، كما ثبت في "الصحيحين" أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عنه، وهو نتاج النتاج في أحد الأقوال، والثاني: أنه أجل، فكانوا يتبايعون إليه هكذا رواه مسلم، وكِلاهما غرر، والثالث: أنه بيعُ حمل الكرم قبل أن يبلغ، قاله المبرد. قال: والحبْلة: الكرم بسكون الباء وفتحها، وأما ابنُ عمر رضي الله عنه، فإنه فسره بأنه أجلٌ كانوا يتبايعون إليه، وإليه ذهب مالك والشافعي، وأما أبو عبيدة، ففسره ببيع نتاج النتاج، وإليه ذهب أحمد،
ومنه بيعُ الملاقيح والمضامين، كما ثبت في حديث سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عَن المضامينِ والملاقيح. قال أبو عُبيد: الملاقيح ما في البطون من الأجنَّةِ، والمضامين: ما في أَصلاب الفحول، وكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة، وما يضربه الفحل في عام أو أعوام وأنشد:
إنَّ المَضَامِينَ الَّتي في الصُّلْبِ ... مَاءُ الفُحُولِ في الظُّهُورِالحُدْبِ
ومِنه بيعُ المَجْرِ، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْه. قال ابن الأعرابي: المجر ما في بطن الناقة، والمجر: الربا، والمجر: القِمار، والمجر: المحاقلَة والمزابنة.
ومنه بيعُ الملامسة والمنابذة وقد جاء تفسيرُهما في نفس الحديث، ففي "صحيح مسلم" عن أبي هُريرة رضي الله عنه نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ: المُلاَمَسَةِ وَالمُنَابَذَةِ، أَمَا المُلاَمَسَةُ فَأَنْ يلْمِسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما ثَوبَ صاحبه بغير تأمل والمنابذة: أن ينبِذ كُلُّ واحد منهما ثوبَه إلى الآخر، ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه، هذا لفظ مسلم.
وفي "الصحيحين" عن أبي سعيد قال: نهانا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيعيين ولبستين في البيع، والملامسة: لمسُ الرجل ثوبَ الآخر بيده بالليل أو بالنهار، ولا يَقْلِبُهُ إلا بذلك، والمُنابذة: أن يَنبذ الرجل إلى الرجل ثوبَه، وينبِذَ الآخر إليه ثوبه، ويكون ذلك بيعَهما مِن غير نظر ولا تراض.
وفُسِّرَتِ الملامسةُ بأن يقول: بعتُك ثوبي هذا على أنك متى لمسته، فهو عليك بكذا، والمنابذة بأن يقول: أي ثوب نبذته إلي، فهو علي بكذا، وهذا أيضاً نوع من الملامسة والمنابذة، وهو ظاهر كلام أحمد رَحِمَهُ الله، والغرر في ذلك ظاهر، وليس العلة تعليقَ البيعِ شرط، بل ما تضمنه مِن الخطر والغرر.
فصل
وليس مِن بيع الغَرَرِ بيع المغيَّبَات في الأرض كاللفتِ والجَزَرِ والفِجل والقَلقَاس والبَصل ونحوها، فإنها معلومة بالعادة يَعْرِفُها أهل الخبرة بها، وظاهرُها عنوانُ باطنها، فهو كظاهر الصُّبْرَةِ مع باطنها، ولو قُدِّرَ أن في ذلك غرراً، فهو غرر يسير يُغتفر في جنب المصلحة العامة التي لا بد للناس منها، فإن ذلك غرر لا يكون موجباً للمنع، فإن إجارة الحيوان والدار والحانوت مساناة لا تخلُو عن غرر، لأنه يعرض فيه موتُ الحيوان، وانهدام الدار، وكذا دخولُ الحمام، وكذا الشربُ من فم السقاء، فإنه غيرَ مقدر مع اختلاف الناس في قدره، وكذا بيوعُ السَّلم، وكذا بيع الصُبْرةِ العظيمة التي لا يُعلم مكيلُها، وكذا بيعُ البيضِ والرُّمَّان والبطيخ والجوز واللوز والفستق، وأمثال ذلك مما لا يخلو مِن الغرر، فليس كُلُ غرر سبباً للتحريم، والغررُ إذا كان يسيراً أو لا يُمكن الاحترازُ منه، لم يكن مانعاً مِن صحة العقد، فإن الغررَ الحاصِل في أساسات الجدران، وداخل بطون
الحيوان، أو آخر الثمار التي بدا صلاحُ بعضِها دونَ بعض لا يُمكن الاحترازُ منه، والغررُ الذي في دخولِ الحمام، والشرب من السِّقاء ونحوه غرر يسير، فهذان النوعان لا يمنعانِ البيع بخلاف الغرر الكثير الذي يمكن الاحترازُ منه، وهو المذكور في الأنواع التي نهى عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كان مساوياً لها لا فرقَ بينها وبينَه، فهذا هو المانعُ مِن صحة العقد.
فإذا عُرِفَ هذا، فبيعُ المغيبات في الأرض، انتفى عنه الأمرانِ، فإن غررَه يسير، ولا يُمكن الاحترازُ منه، فإن الحقول الكِبار لا يُمكن بيعُ ما فيها مِن ذلك إلا وهو في الأرض، فلو شرط لبيعه إخراجَه دفعة واحدة كان في ذلك من المشقة، وفساد الأموال ما لا يأتي به شرع، وإن منع بيعه إلا شيئاً فشيئاً كلما أخرجَ شيئاً باعه، ففي ذلك مِن الحرج والمشقة، وتعطيلِ مصالح أربابِ تلك الأموالِ، ومصالح المشتري ما لا يخفى، وذِّلك مما لا يُوجبه الشارعُ، ولا تقومُ مصالحُ الناس بذلك البتة حتى إن الذين يمنعون مِن بيعها في الأرض إذا كان لأحدهم خَرَاجٌ كذلك، أو كان ناظراً عليه، لم يجد بُداً مِن بيعه في الأرض اضطراراً إلى ذلك، وبالجملة، فليس هذا مِن الغرر الذي نهى عنه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نظير لما نهى عنه من البيوع.
فصل
وليس منه بيعُ المسك في فأرته، بل هو نظيرُ ما مأكوله في جوفه كالجوز واللوز والفُستق وجوز الهند، فإن فأرته وعاء له تصونُه مِن الآفات، وتحفظ عليه رطوبته ورائحتَه، وبقاؤه فيها أقربُ إلى صيانته مِن الغش
والتغير، والمسك الذي في الفأرة عند الناس خير من المنفوض، وجرت عادة التجار بيعه وشرائه فيها، ويعرفون قدره وجنسه معرفة لا تكاد تختلِف، فليس مِن الغرر في شيء، فإن الغرر هو ما تردد بين الحصول والفوات، وعلى القاعدة الأخرى: هو ما طُوِيَتْ معرفتُه، وجُهِلَتْ عينُه، وأما هذا ونحوه، فلا يُسمى غرراً لا لغةً ولا شرعاً ولا عُرفاً، ومن حَرَّمَ بيعَ شيء، وادعى أنه غُرِّرَ، طُولِب بدخوله في مسمى الغرر لغة وشرعاً، وجوازُ بيع المسك في الفأرة أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وهو الراجحُ دليلاً، والذين منعوه جعلوه مثل بيع النوى في التمر، والبيض في الدجاج، واللبن في الضرع، والسمن في الوعاء، والفرقُ بين النوعين ظاهر.
ومنازعوهم يجعلونه مثلَ بيع قلب الجوز واللوز والفستق في صِوانه، لأنه من مصلحته، ولا ريبَ أنه أشبهُ بهذا منه بالأول، فلا هو مما نهى عنه الشارعُ، ولا في معناه، فلم يشمَلْهُ نهيُه لفظاً ولا معنى.
وأما بيعُ السمن في الوعاء، ففميه تفصيل، فإنه إن فتحه، ورأى رأسه بحيث يدُلُه على جنسه ووصفه، جاز بيعُه في السِّقاء، لكنه يصيرُ كبيع الصُّبرة التي شاهد ظاهرها وإن لم يره، ولم يُوصف له، لم يجز بيعُه، لأنه غرر، فإنه يختلِفُ جنساً ونوعاً ووصفاً، وليس مخلوقاً في وعائه كالبيضِ والجوز واللوز والمسك في أوعيتها، فلا يصح إلحاقُه بها.
وأما بيعُ اللبن في الضرع، فمنعه أصحابُ أحمد والشافعي وأبي حنيفة والذي يجب فيه التفصيلُ، فإن باع الموجودَ المشاهدَ في الضرع، فهذا لا يجوز مفرداً، ويجوز تبعاً للحيوان، لأنه إذا بيعَ مفرداً تعذر تسليمُ المبيع بعينه، لأنه لا يُعرف مقدارُ ما وقع عليه البيع، فإنه وإن كان مشاهداً كاللبن في الظرف، لكنه إذا حلبه خلفه مثله مما لم يكن في الضرع، فاختلط المبيعُ
بغيره على وجه لا يتميز، وإن صح الحديثُ الذي رواه الطَّبرانِي في "مُعْجَمِهِ" من حديث ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نهى أن يُباع صوفٌ على ظهر، أو لَبَنٌ في ضَرْعٍ " فهذا إن شاء الله محمله، وأما إن باعه آصعاً معلومة من اللبن يأخذه مِن هذه الشاة، أو باعه لبنَها أياماً معلومة، فهذا بمنزلة بيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها لا يجوزُ، وأما إن باعه لبناً مطلقاً موصوفاً في الذمة، واشترط كونه مِن هذه الشاة أو البقرة، فقال شيخنا: هذا جائز، واحتج بما في "المسند" من أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يُسلم في حائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحُه. قال فإذا بدا صلاحه، وقال: أسلمتُ إليك في عشرة أوسق مِن تمرِ هذا الحائط، جاز كما يجوز أن يقول: ابتعتُ منك عشرَة أوسق مِن هذه الصُّبرة، ولكن الثمن يتأخر قبضُه إلى كمال صلاحه، هذا لفظه.
فصل
وأما إن أجره الشاةَ أو البقرة أو النَاقة مدةً معلومة لأخذ لبنها في تلك المدة، فهذا لا يُجَوِّزُه الجمهورُ؟ واختار شيخُنا جوازه، وحكاه قولاً لبعض أهل العلم، وله فيها مصنَّفٌ مفرد، قال: إذا استأجر غنماً أو بقراً، أو نوقاً أيامَ اللبن بأجرة مسماة، وعلفُها على المالِك، أو بأجرة مسماة مع
علفها على أن يأخُذَ اللبن، جاز ذلك في أظهر قولي العلماء كما في الظِّئر قال: وهذا يُشبه البيع، ويُشبه الإِجارة، ولهذا يذكرُه بعضُ الفقهاء في البيع، وبعضُهم في الإِجارة، لكن إذا كان اللبن يحصُل بعلف المستأجر وقيامه على الغنم، فإنه يشبه استئجار الشجر، وإن كان المالك هو الذي يَعلِفُها، وإنما يأخذُ المشتري لبناً مقدراً، ففذا بيعٌ محضٌ، وإن كان يأخذ اللبن مطلقاً، فهو بيعٌ أيضاً، فإن صاحب اللبن يُوفيه اللبن بخلاف الظئر، فإنما هي تسقي الطفل، وليس فذا داخلاً فيما نهى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن بيع الغَرَرِ، لأن الغرر تردُّدٌ بين الوجود والعدم، فنهى عن بيعه، لأنه مِن جنس القمار الذي هو الميسر، والله حرم ذلك لما فيه مِن أكل المال بالباطل، وذلك مِن الظلم الذي حرمه اللهُ تعالى، وهذا إنما يكون قماراً إذا كان أحدُ المتعاوضين يحصلُ له مال، والآخر قد يحصُل له وقد لا يحصل، فهذا الذي لا يجوزُ كما في بيع العبد الآبق، والبعير الشارد، وبيع حَبَلِ الحَبَلَةِ، فإن البائع يأخذُ مال المشتري، والمشتري قد يحصل لَهُ شَيء، وقد لا يَحصُل، ولا يعرف قدر الحاصل، فأما إذا كان شيئاً معروفاً بالعادة كمنافع الأعيان بالإِجارة مثل منفعة الأرض والدابة، ومثلِ لبن الظئر المعتاد، ولبنِ البهائم المعتاد، ومثلِ الثمر والزرع المعتاد، فهذا كُلُّهُ من باب واحد وهو جائز.
ثم إن حصل على الوجه المعتاد، وإلا حطَّ عن المستأجر بقدر ما فات مِن المنفعة المقصودة، وهو مثلُ وضع الجائحة في البيع، ومثلُ ما إذا تلف بعضُ المبيع قبل التمكن مِن القبض في سائر البيوع.
فإن قيل: مَوْرِدُ عقد الإِجارة إنما هو المنافع، لا الأعيان، ولفذا لا يَصِحُ استئجارُ الطعامِ ليأكله، والماء ليشربه، وأما إجارة الظئر، فعلى المنفعة وهي وضع الطفل في حَجرها، وإلقامُه ثديها، واللبنُ يدخل ضمناً
وتبعاً، فهو كنقع البئر في إجارة الدار، ويغتفر فيما دخل ضمناً وتبعاً ما لا يُغتفر في الأصول والمتبوعات.
قيل: الجواب عن هذا من وجوه.
أحدها: منع كون عقد الإِجارة لا يَرِدُ إلا على منفعة، فإن هذا ليس ثابتاً بالكتاب ولا بالسنة ولا بالإِجماع، بل الثابتُ عن الصحابة خلافه، كما صحَّ عن عمر رضي الله عنه أنه قَبَل حديقة أسيدِ بنِ حضير ثلاث سنين، وأخذ الأجرة فقضى بها دينَه، والحديقة: هي النخل، فهذه إجارة الشجر لأخذ ثمرها، وهو مذهبُ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا يُعلم له في الصحابة مخالف، واختاره أبو الوفاء بن عقيل من أَصحَابِ أحمد، واختيار شَيْخنا، فقولُكم: إن مورد عقد الإِجارة لا يكون إلا منفعة غيرُ مسلم، ولا ثابت بالدليل، وغاية ما معكم قياس محل النزاع على إجارة الخبز للأكل، والماء للشرب، وهذا مِن أفسد القياس، فإن الخبز تذهب عينُه ولا يُسْتَخْلَفُ مثله بخلاف اللبن ونقع البئر، فإنه لما كان يستخلف ويحدث شيئاً فشيئاً، كان بمنزلة المنافع.
يوضحه الوجه الثاني: وهو أن الثمر يجري مجرى المنافع والفوائد في الوقف والعارِيَّة ونحوها فيجوزُ أن يقف الشَّجَرة لِينتفع أهلُ الوقف بثمراتها كمَا يقفُ الأرض، لينتفعَ أهلُ الوقف بِغلَّتِها، ويجوز إعارةُ الشجرة، كما يجوز إعارة الظهر، وعاريَّة الدارِ، ومنيحةُ اللبن، وهذا كُلُ تبرع بنماء المال وفائدته، فإن من دفع عقاره إلى مَنْ يسكنُه، فهو بمنزلة مَنْ دفع دابتَه إلى من يركبها، وبمنزلة مَن دفع شجرة إلى من يستثمِرُها، وبمنزلة مَنْ دفع أرضَه إلى من يزرَعُها، وبمنزلة مَنْ دفع شاته إلى من يشربُ لبنها، فهذه الفوائدُ تدخُلُ في عقود التبرع، سواء كان الأصل مُحَبَّساً
بالوقف، أو غير محبس. ويدخل أيضاً في عقود المشاركات، فإنه إذا دفع شاة، أو بقرة، أو ناقة إلى من يعمل عليها بجزء مِن دَرِّها ونسلها، صحَّ على أصح الروايتين عن أحمد فكذلك يدخلُ في العقود للإِجارات.
يوضحه الوجه الثالث: وهو أن الأعيانَ نوعانِ: نوع لا يستخلف شيئاً فشيئاً، بل إذا ذهب، ذهب جملة، ونوع يُسْتَخْلَفُ شيئاً فشيئاً، كُلَّما ذهبَ منه شيء، خلفه شيء مثله، فهذا رتبةٌ وسطى بين المنافع وبين الأعيان التي لا تُسْتَخْلَفْ، فينبغي أن ينظر في شَبَهِهِ بأيِّ النوعين، فيُلحق به، ومعلوم أن شَبَهَهُ بالمنافع أقوى، فإلحاقه بها أولى.
يوضحه الوجه الرابع: وهو أن الله سبحانه نصَّ في كتابه على إجارة الظئر، وسمَّى ما تأخذه أجراً، وليس في القرآن إجارة منصوص عليها في شريعتنا إلا إجارة الظِّئرِ بقوله تعالى: {فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُم فآتُوهُنَّ أُجُورَهنَّ وأتَمِرُوا بَينَكُمْ بِمَعروفٍ} [الطلاق: 6]، قال شيخنا: وإنما ظن الظانُّ أنها خلافُ القياس حيث توهَّم أن الإِجارة لا تكون إلا على منفعة، وليس الأمرُ كذلك، بل الإِجارة تكونُ على كل ما يُستوفى مع بقاء أصله، سواء كان عيناً أو منفعة، كما أن هذه العينَ هي التي تُوقف وتُعار فيما استوفاه الموقوف عليه والمستعيرُ بلا عوض يستوفيه المستأجرُ وبالعوض، فلما كان لبن الظئر، مستوفى مع بقاء الأصل، جازت الإِجارة عليه كما جازت على المنفعة، وهذا محضُ القياس، فإن هذه الأعيانَ يُحدثها الله شيئاً بعد شيءٍ، وأصلُها باقٍ كما يُحدِثُ اللهُ المنافعَ شيئاً بعد شيء، وأصلُها باقٍ.
ويوضحه الوجهُ الخامِسُ: وهو أن الأصل في العقود وجوبُ الوفاء إلا ما حرَّمه اللهُ ورسولُه، فإن المسلمين على شروطهم إلا شرطاً أحلَّ حراماً، أو حرَّم حلالاً، فلا يحرُم مِن الشروط والعقود إلا ما حرَّمه اللهُ ورسولُه،
وليس مع المانعين نصّ بالتحريم البتة، وإنما معهم قياسٌ قد عُلِمَ أن بينَ الأصل والفرع فيه مِن الفرق ما يمنع الإِلحاق، وأن القياسَ الذي مع مَنْ أجاز ذلك أقربُ إلى مساواة الفرع لأصله، وهذا ما لا حيلة فيه، وبالله التوفيق.
يوضحه الوجه السادس: وهو أن الذين منعوا فذه الإِجارة لما رأوا إجارة الظئر ثابتةً بالنص والإِجماع، والمقصودَ بالعقد إنما هو اللبنُ، وهو عينٌ، تمحَّلُوا لجوازها أمراً يعلمون هم والمرضعةُ والمستأجرُ بطلانَه، فقالوا: العقدُ إنما وقع على وضعها الطفل في حَجرها وإلقامه ثديها فقط، واللبن يدخل تبعاً، والله يعلم والعقلاء قاطبة أن الأمر ليسَ كذلك، وأن وضع الطفل في حَجرها ليس مقصودا أصلاً، ولا ورد عليه عقدُ الإِجارة، لا عرفاً ولا حقيقةً ولا شرعاً، ولو أرضعت الطفلَ وهو في حَجر غيرها، أو في مهده، لاستحقت الأجرة، ولو كان المقصودُ إلقامَ الثدي المجرد، لاستؤجر له كل امرأة لها ثدي، ولو لم يكن لها لبن، فهذا هو القياسُ الفاسِدُ حقاً، والفقه البارد، فكيف يقال: إن إجارةَ الظِّئر على خلاف القياس، ويُدعى أن هذا هو القياسُ الصحيح.
الوجه السابع: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ندب إلى منيحة العَنْز والشاة للبنها، وحضَّ على ذلك، وذكر ثوابَ فاعله ومعلوم أن هذا ليس ببيع ولا هبة، فإن هِبة المعدوم المجهول لا تَصِحّ، وإنما هو عاريَّة الشاة للانتفاع بلبنها كما يُعيره الدابة لركوبها، فهذا إباحة للانتفاع بدرها، وكلاهما في الشرع
واحد، وما جاز أن يُستوفى بالعاريَّة جاز أن يُستوفى بالإِجارة، فإن موردَهما واحد، وإنما يختلفان في التبرع بهذا والمعاوضة على الآخر.
والوجه الثامن: ما رواه حرب الكرماني في "مسائله": حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا عباد بن عباد، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن أسيد بن حضير تُوفّي وعليه سِتةُ آلافِ دِرْهمٍ دَين، فدعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه "غُرماءَه، فَقَبَلَهُمْ أرضَه سنتينِ"، وفيها الشجر والنخلُ، وحدائقُ المدينة الغالب عليها النخلُ والأرضُ البيضاء فيها قليل، فهذا إجارة الشجر لأخذ ثمرها، ومن ادعى أن ذلك خلاف الإِجماع، فَمِنْ عدمِ علمه، بل ادعاء الإِجماع على جواز ذلك أقربُ، فإن عمر رضي الله عنه فعل ذلك بالمدينة النبوية بمشهد المهاجرين والأنصار وهي قصة في مَظِنَّةِ الاشتهار، ولم يُقابلها أحد بالإِنكار، بل تلقاها الصحابةُ بالتسليم والإِقرار، وقد كانوا يُنكرون ما هو دُونَها وإن فعله عمرُ رضي الله عنه، كما أنكر عليه عِمرانُ بن حصين وغيرُه شأن متعة الحج ولم ينكر أحد هذه الواقعة، وسنبين إن شاء الله تعالى أنها محضُ القياس، وأن المانعين منها لا بد لهم منها، وأنهم يتحيَّلُون عليها بحيل لا تجوز.
الوجه التاسع: أن المستوفَى بعقد الإِجارة على زرعِ الأرض هو عينٌ مِن الأعيان وهو المغلّ الذي يستغله المستأجرُ، وليس له مقصودٌ في منفعة
الأرضِ غير ذلك، وإن كان له قصد جرى في الانتفاع بغير الزرع، فذلك تَبَعٌ.
فإن قيل: المعقودُ عليه هو منفعة شَقِّ الأرضِ وبذرها وفلاحتها والعينُ تتولَّد من هذه المنفعة، كما لو استأجر لحفر بئر، فخرج منها الماء، فالمعقودُ عليه هو نفس العمل لا الماء.
قيل: مستأجرُ الأرض ليس له مقصود في غير المغل، والعملُ وسيلة مقصودةٌ لغيرها، ليس له فيه منفعة، بل هو تعب ومشقة، وإنما مقصودُه ما يُحدِثُه الله مِن الحَبِّ بسقيه وعمله، وهكذا مستأجِرُ الشاة للبنها سواء مقصودُه ما يُحدثه الله من لبنها بعلفها وحفظها والقيامِ عليها، فلا فرقَ بينهما البتة إلا ما لا تُناط به الأحكامُ مِن الفروق الملغاة، وتنظيرُكم بالاستئجار لحفر البئر تنظيرٌ فاسد، بل نظيرُ حفرِ البئر أن يستأجر أكاراً لحرث أرضه ويبذرها ويسقيها، ولا ريب أن تنظيرَ إجارة الحيوان للبنه بإجارة الأرض لمغلها هو محضُ القياس وهو كما تقدَّم أصحُ مِن التنظير بإجارة الخبز للأكل.
يوضحه الوجه العاشر وهو أن الغرر والخطر الذي في إجارة الأرض لحصول مغلها أعظمُ بكثر مِن الغَرَرِ الذي في إجارة الحيوان للبنه، فإن الآفات والموانعَ التي تعرض للزرع أكثرُ مِن آفات اللبن، فإذا اغتفر ذلك في إجارة الأرض، فلأن يُغفر في إجارة الحيوان للبنه أولى وأحرى.
فصل
فالأقوال في العقد على اللبن في الضرع ثلاثة.
أحدها: منعه بيعاً وإجارة وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة.
والثاني: جوازه بيعاً وإجارة.
والثالث: جوازه إجارة لا بيعاً، وهو اختيار شيخنا رحمه الله.
وفي المنع من بيع اللبن في الضرع حديثان، أحدهما حديث عمر بن فروخ وهو ضعيف عن حبيب بن الزبير، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: " نَهَى أن يُباع صُوفٌ عَلى ظَهْرٍ، أو سَمْنٌ في لَبَنٍ، أوْ لَبَنٌ في ضَرْعٍ" ، وقد رواه أبو إسحاق عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله دون ذكر السمن رواه البيهقي وغيره.
والثاني حديثٌ رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار، حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثنا جَهْضَمُ بن عبد الله اليماني، عن محمد بن إبراهيم البَاهِلي، عن محمد بن زيد العبدي، عن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد الخُدري رضي اللهُ عنه قال: " نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعما في ضروعها إلا بكيل أو وزن، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص"، ولكن لهذا الإِسناد لا تقومُ به حجة، والنهي عن شراء ما في بطون الأنعام ثابتٌ بالنهي عن الملاقيح والمضامين، والنهي عن شراء العبد الآبق، وهو آبق معلومٌ بالنهي عن بيع الغرر، والنهي عن شراء المغانم حتى تُقْسَمَ داخل في النهي عن بيع ما ليس عنده، فهو بيعُ غررٍ ومخاطرة، وَكذلك الصدقاتُ قبلَ قبضها، وإذا كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الطعام قبلَ قبضه مع انتقاله إلى المشتري وثبوت ملكه عليه، وتعيينه
له، وانقطاع تعلق غيره به، فالمغانمُ والصدقات قبل قبضها أولى بالنهي. وأما ضربةُ الغائِص، فغرر ظاهر لا خفاءَ به.
وأما بيعُ اللبن في الضرع، فإن كان معيناً لم يمكن تسليمُ المبيع بعينه، وإن كان بيعَ لبن موصوف في الذمة، فهو نظيرُ بيع عشرة أقفزة مطلقة مِن هذه الصبرة وهذا النوع له جهتان: جهة إطلاق وجهةُ تعيين، ولا تنافي بينهما، وقد دل على جوازه نهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُسلم في حائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحُه، رواه الإِمام أحمد. فإذا أسلم إليه في كيل معلوم مِن لبن هذه الشاة وقد صارت لبوناً، جاز، ودخل تحت قوله: "ونهى عن بيع ما في ضروعها إلا بكيل أو وزن"، فهذا إذنٌ لبيعه بالكيل والوزن معيناً أو مطلقاً، لأنه لم يُفصِّل، ولم يشترط سوى الكيلِ والوزنِ، ولو كان التعيين شرطاً لذكره.
فإن قيل فما تقولون لو باعه لبنها أياماً معلومة من غير كيل ولا وزن.
قيل: إن ثبت الحديثُ، لم يجز بيعُه إلا بكيل أو وزن، وإن لم يثبت، وكان لبنُها معلوماً لا يختلِفُ بالعادة، جاز بيعُه أياماً، وجرى حكمُه بالعادة مجرى كَيْلِهِ أو وزنه، وإن كان مختلفاَ فمرة يزيدُ، ومرة يَنْقُصُ، أو ينقطعُ، فهذا غرر لا يجوز، وهذا بخلافِ الإِجارة، فإنَّ اللبن يحدُث على مُلكه بعلفه الدابة كما يحدُث الحبُ على ملكه بالسَّقي، فلا غَرَرَ في ذلك، نعم إن نَقَصَ اللبنُ عن العادة، أو انقطع، فهو بمنزلة نُقصان المنفعة في الإِجارة، أو تعطيلها يثبت للمستأجر حق الفسخ، أو ينقص عنه من الأجرة بقدر ما نقص عليه من المنفعة، هذا قياسُ المذهب، وقال ابن عقيل، وصاحب "المغني": إذا اختار الإِمساك لزمته جميعُ الأجرة، لأنه رضي بالمنفعة ناقصةَ، فلزِمَه
جميعُ العِوَض، كما لو رضي بالمبيع معيبا، والصحيحُ أنه يسقُطُ عنه من الأجرة بقدر ما نَقَصَ مِن المنفعة، لأنه إنما بذل العوضَ الكامِلَ في منفعة كاملةٍ سليمة، فإذا لم تسلم له، لم يلزمه جميعُ العوض.
وقولهم: إنه رضي بالمنفعة معيبة، فهو كما لو رضي بالبيع معيباً، جوابه مِن وجهين.
أحدهما: أنه إن رضي به معيباً، بأن يأخذ أرشه كان له ذلك على ظاهر المذهب، فَرِضَاهُ بالعيب مع الأرش لا يُسقط حقه.
الثاني: إن قلنا: إنه لا أرش لممسك له الرد، لم يلزم سقوط الأرش في الإِجارة، لأنه قد استوفى بعضَ المعقود عليه، فلم يُمكنه ردُّ المنفعة كما قبضها، ولأنه قد يكونُ عليه ضرر في رد باقي المنفعة، وقد لا يتمكن من ذلك، فقد لا يجد بداً من الإِمساك، فإلزامُه بجميع الأجرة مع العيب المنقص ظاهراً، ومنعه من استدراك ظلامته إلا بالفسخ ضرر عليه، ولا سيما لمستأجر الزرع والغرس والبناء، أو مستأجر دابة للسفر فتتعيبُ في الطريق، فالصوابُ أنه لا أرش في المبيع لممسك له الرد، وأنه في الإِجارة له الأرش.
والذي يُوضح هذا أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بوضع الجوائح وهي أن يسقط عن مشتري الثمار من الثمرة، بقدر ما أذهبت عليه الجائحة مِن ثمرته ويُمسك الباقي بقسطه من الثمن، وهذا لأن الثمار لم تستكمل صلاحها دفعة واحدة، ولم تجر العادةُ بأخذها جملة واحدة، وإنما تؤخذ شيئاً فشيئأ، فهي بمنزلة المنافع في الإِجارة سواء، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المصرَّاة خيَّر المشتري بين الرد وبين الإِمساك بلا أرشٍ، وفي الثمار جعل له الإِمساك مع الأرش، والفرقُ ما ذكرناه، والإِجارة أشبهُ ببيع الثمار، وقد ظهر اعتبارُ هذا الشبه في وضع الشارع الجائحة قبل قبض الثمن.
فإن قيل: فالمنافع لا تُوضع فيها الجائحةُ باتفاق العلماء.
قيل ليس هذا مِن باب وضع الجوائح في المنافع، ومَن ظنَّ ذلك، فقد وهم، قال شيخُنا: وليس هذا مِن باب وضع الجائحة في المبيع كما في الثمر المشترى، بل هو من باب تلف المنفعة المقصودة بالعقد أو فواتها، وقد اتفق العلماءُ على أن المنفعة في الإِجارة إذا تلفت قبل التمكن مِن استيفائها، فإنه لا تجب الأجرة مثل أن يستأجر حيواناً فيموت قبلَ التمكن، مِن قبضه وهو بمنزلة أن يشتريَ قفيزاً مِن صُبرة فتتلفَ الصُّبرةُ قبل القبض والتمييز، فإنه مِن ضمان البائع بلا نزاع، ولهذا لو لم يتمكن المستأجر مِن ازدراع الأرض لآِفة حصلت لم يكن عليه الأجرةُ.
وإن نبت الزرع، ثم حصلت آفة سماوية أتلفته قبل التمكن مِن حصاده، ففيه نزاع، فطائفة ألحقته بالثمرة والمنفعة، وطائفة فرقت، والذين فرَّقوا بينه وبينَ الثمرة والمنفعة قالوا: الثمرة هي المعقود عليها وكذلك المنفعة، وهنا الزرع ليس معقوداً عليه، بل المعقودُ عليه هو المنفعة وقد استوفاها، والذين سَوَّوْا بينهما، قالوا المقصودُ بالإِجارة هو الزرعُ، فإذا حالت الآفةُ السماوية بينَه وبينَ المقصودِ بالإِجارة، كان قد تلف المقصودُ بالعقد قبل التمكن مِن قبضه، وإن لم يُعاوض على زرع، فقد عاوض على المنفعة التي يتمكن بها المستأجر مِن حصول الزرع، فإذا حصلت الآفةُ السماوية المفسدةُ للزرع قبلَ التمكن مِن حصاده لم تسلم المنفعة المعقود عليها، بل تلفت قبل التمكن مِن الانتفاع، ولا فرق بينَ تعطيل منفعة الأرض في أول المدة أو في آخرها إذا لم يتمكن من استيفاء شيء من المنفعة، ومعلوم أن الآفة السماوية إذا كانت بعدَ الزرع مطلقاً بحيث لا يتمكن من الانتفاع بالأرض مع تلك الآفة، فلا فرق بين تقدمها وتأخرها.
فصل
وأما بيعُ الصوف على الظهر، فلو صحَّ فذا الحديثُ بالنهي عنه، لوجبَ القولُ به، ولم تسغ مخالفته وقد اختلف الروايةُ فيه عن أحمد، فمرةً منعه، ومرَّة أجازه بشرط جَزِّهِ في الحال، ووجه هذا القول أنه معلوم يُمكن تسليمُه، فجاز بيعُه كالرطبة، وما يقدر من اختلاط المبيع الموجود بالحادث على ملك البائع يزولُ بجزِّهِ في الحال، والحادث يسير جداً لا يمكن ضبطُه، هذا ولو قيل بعدم اشتراط جزِّه في الحال، ويكون كالرطبة التي تؤخذ شيئاً فشيئاً، وإن كانت تطول في زمن أخذها كان له وجه صحيح، وغايته بيع معدوم. لم يخلق تبعاً للموجود، فهو كأجزاء الثمار التي لم تُخلق، فإنها تتبع الموجود منها، فإذا جعلا للصوف وقتاً معيناً يُؤخذ فيه كان بمنزلة أخذ الثمرة وقتَ كمالها.
ويُوضح هذا أن الذين منعوه قاسوه على أعضاء الحيوان وقالوا: متصلٌ بالحيوان فلم يجز إفراده بالبيع كأعضائه، وهذا من أفسدِ القياس، لأن الأعضاء لا يُمكن تسليمها مع سلامة الحيوان.
فإن قيل: فما الفرق بينه وبين اللبن في الضرع وقد سوغتم هذا دونه؟ قيل: اللبن في الضرع، يختلط ملك المشتري فيه بملك البائع سريعاً، فإن اللبن سريع الحدوث كلما حلبه، دَرَّ، بخلاف الصوف. والله أعلم وأحكم.


قلت المدون هذا آخر كتاب زاد المعاد لابن قيم الجوزية ولله الحمد وله المنة
ولقد أصاب فريعَة بنتَ مالك فى هذا الحديث نظيرُ ما أصاب فاطمة بنت قيس فى حديثها، فقال بعضُ المنازعين فى هذه المسألة: لا ندعُ كتابَ ربنا لقول امرأة، فإن الله سبحانه إنما أمرها بالاعتداد أربعة أشهر وعشراً، ولم يأمرها بالمنزل. وقد أنكرت عائشةُ أمُّ المؤمنين رضى الله عنها وجوبَ المنزل، وأفتت المتوفَّى عنها بالاعتداد حيث شاءت كما أنكرت حديثَ فاطمة بنت قيس، وأوجبت السكنى للمطلقة.
وقال بعضُ من نازع فى حديث الفُريعة: قد قُتِلَ مِن الصحابة رضى الله عنهم على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلقٌ كثير يوم أحد، ويومَ بئر مَعونة، ويومَ مؤتة وغيرِها، واعتدَّ أزواجُهم بعدهم، فلو كان كلُّ امرأة منهن تُلازم منزلها زمن العدة، لكان ذلك من أظهرِ الأشياء، وأبينها بحيثُ لا يخفى على من هو دونَ ابن عباس وعائشة، فكيف خفى هذا عليهما وعلى غيرهما من الصحابة الذين حكى أقوالهم، مع استمرار العمل به استمراراً شائعاً، هذا من أبعد الأشياء، ثم لو كانت السنَّةُ جارية بذلك، لم تأت الفُريعة تستأذنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تلحق بأهلها، ولمَا أذِنَ لها فى ذلك، ثم يأمرُ بردها بعد ذهابها، ويأمرها بأن تمكث فى بيتها فلو كان ذلك أمراً مستمراً ثابتاً، لكان قد نسخ بإذنه لها فى اللحاق بأهلها، ثم نسخ ذلك الإذن بأمره لها بالمُكث فى بيتها، فُيفضى إلى تغيير الحكم مرتين، وهذا لا عهد لنا به فى الشريعة فى موضع متيقن.
قال الآخرون: ليس فى هذا ما يوجب رد هذه السنة الصحيحة الصريحة التى تلقَّاها أميرُ المؤمنين عثمان بن عفان، وأكابرُ الصحابة بالقبول، ونفذها عثمان، وحكم بها، ولو كنا لا نقبلُ رواية النساء عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لذهبت سننٌ كثيرة مِن سُنن الإسلام لا يُعرف أنه رواها عنه إلا
النساء، وهذا كتابُ الله ليس فيه ما ينبغى وجوب الاعتداد فى المنزل حتى تكون السنةُ مخالفة له، بل غايتُها أن تكونَ بياناً لحكم سكت عنه الكتاب، ومثل هذا لا تُرد به السننُ، وهذا الذى حذَّر منه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعينه أن تترك السنة إذا لم يكن نظيرُ حكمها فى الكتاب.
وأما تركُ أمِّ المؤمنين رضى الله عنها لحديث الفُريعة، فلعله لم يَبلُغْها، ولو بلغها فلعلها تأولته، ولو لم تتأولْه، فلعله قام عندها معارض له، وبكل حال فالقائلون به فى تركهم لتركها لهذا الحديث أعذرُ من التاركين له لترك أمِّ المؤمنين له، فبين التركَين فرقٌ عظيم.وأما من قُتِلَ مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن مات فى حياته، فلم يأتِ قطُّ أن نساءكم كن يعتَدِدْنَ حيث شِئن، ولم يأت عنهن ما يُخالف حُكمَ حديثِ فُريعة البتة، فلا يجوز تركُ السنة الثابتة لأمر لا يُعلم كيف كان، ولو عُلِمَ أَنهن كن يَعتَدِدْنَ حيث شئن، ولم يأت عنهن ما يخالف حكم حديث الفريعة، فلعل ذلك قبل استقرار هذا الحكم وثبوته حيث كان الأصلُ براءة الذمة، وعدم الوجوب.
وقد ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، قال: قال مجاهد: استشهد رجال يوم أحد، فجاء نساؤهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلن: إنا نستوحِشُ يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل، فنبيت عند إحدانا، حتى إذا أصبحنا تبددنا فى بيوتتنا فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إحْدَاكُنَّ مَا بَدَا لَكُنَّ، فَإذَا أَرَدْتُنَّ النَّوْمَ فَلتَؤُبْ كُلُّ امْرَأةٍ إلى بَيْتِها " وهذا وإن كان مرسلاً، فالظاهِر أن مجاهداً إما أن يكون سمعه مِن تابعى ثقة، أو مِن صحابى، والتابعون لم يكن الكذبُ معروفاً فيهم، وهم ثانى القرون المفضلة،
وقد شاهدُوا أصحابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخذوا العِلمَ عنهم، وهم خيرُ الأمة بعدهم، فلا يُظن بهم الكذبُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا الروايةُ عن الكذابين، ولا سيما العالمُ منهم إذا جزمَ على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرواية، وشَهِدَ له بالحديث، فقال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفعلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمرَ ونهى، فيبعد كُلَّ البعد أن يُقْدِمَ على ذلك مع كون الواسطة بينه وبينَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذاباً أو مجهولاً، وهذا بخلاف مراسيل من بعدهم، فكلما تأخرت القرونُ ساء الظن بالمراسيل، ولم يشهد بها على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبالجملة فليس الاعتماد على هذا المرسل وحَده، وبالله التوفيق.
ذِكرُ حكمِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى إحداد المعتدةِ نفياً وإثباتاً
ثبت فى "الصحيحين": عن حُميد بن نافع، عن زينب بنت أبى سلمة، أنها أخبرته هذه الأحاديثَ الثلاثة، قالت زينبُ: دخلت على أمِّ حبيبة رضى الله عنها زوج النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين تُوفى أبوها أبو سفيان، فدعت أمُّ حبيبة رضى الله عنها بطيبٍ فيه صُفرةٌ خَلُوقٌ أو غيرُه، فدهنت منه جاريةً، ثم مسَّت بعارضيها، ثم قالت: والله مالى بالطِّيبِ من حاجة، غير أنى سمعت رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول على المنبر: "لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللهِ واليَوْم الآخرِ تُحِدُّ عَلى مَيِّتٍ فَوْقَ ثلاث إلاَّ عَلى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً". قالت زينب: ثم دخلت على زينب بنت جحش حين تُوفى أخوها فدعت بطيب، فمسَّت منه، ثم قالت: واللهِ مالى بالطيبِ من حاجة، غير أنى سمعت رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول على المنبر: " لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بالله وَاليَوْمِ الآخِرِ تُحِدُّ عَلى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ عَلى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً".
قالت زينبُ: وسمعت أُمِّى أمَّ سلمة رضى الله عنها تقولُ: جاءت امرأة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسول الله: إن بنتى توفى عنها زوجها، وقد اشتكت عينُها، أَفَتكْحَلُها؟ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا"، مرتين، أو ثلاثاً، كل ذلك يقول:
"لا"، ثم قال: "إنَّما هىَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، وقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ فى الجَاهِلِيَّةِ تَرْمى بالبَعْرَةِ عَلى رَأْسِ الحَوْلِ".
فقالت زينب: كانتِ المرأة إذا تُوفى عنها زوجُها، دخلت حِفْشاً، ولَبِسَتْ شَرَّ ثِيابِها، ولم تَمَسَّ طِيباً ولا شيئاً حتى يَمُرَّ بها سنة، ثُم تُؤتى بدابةٍ حمارٍ، أو شاةٍ أو طير، فتفتَضُّ به، فقلما تفتضُّ بشىء إلا مات، ثم تَخْرجُ، فُتعطى بعرة، فترمى بها، ثم تُراجع بعدُ ما شاءت مِن طيب أو غيره. قال مالك تفتض: تمسح به جلدها.
وفى "الصحيحين": عن أمِّ سلمة رضى الله عنها: أن امرأة تُوفى عنها زوجُها، فخافوا على عينها، فأَتْوا النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستأذنوه فى الكُحْل، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ تكُونُ فى شَرِّ بَيْتِها، أَوْ فى شَرِّ أحْلاَسِها فى بَيْتِها حَوْلاً، فإذَا مَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ ببَعْرَةٍ، فَخَرَجَتْ أفَلاَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً".
وفى "الصحيحين" عن أَمِّ عَطيَّة الأنصارية رضى الله عَنها، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تُحِدُّ المرْأَةُ عَلى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ عَلى زَوْجٍ أَرْبَعةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، ولاَ تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً إلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلاَ تَكْتَحِلُ
وَلاَ تَمَسُّ طيباً إلا إذا طَهُرَت نُبْذةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ".
وفى سنن داود: من حديث الحسن بن مسلم، عن صفيّةبنت شيبة، عن أمِّ سلمة زوج النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "المُتَوَفىَّ عَنْها زَوْجها لاَ تَلْبَسُ المُعَصْفَرَ مِنَ الثياب وَلاَ المُمَشَّقَةَ، وَلاَ الحُلىَّ وَلاَ تكْتَحِلُ، وَلاَ تَخْتَضِبُ ".وفى "سننه" أيضاً: من حديث ابن وهب، أخبرنى مخرمة، عن أبيه قال: سمعتُ المغيرةَ بنَ الضحاك يقول: أخبرتنى أمُّ حكيم بنت أَسْيَدٍ، عن أمها، أن زوجَها تُوفى، وكانت تشتكى عينيها فتكتحِلُ بالجَلاء. قال أحمد بن صالح رحمه الله: الصوابُ: الصوابُ: بِكُحْلِ الجلاء فأرسلت مولاةً لها إلى أمِّ سلمة رضى الله عنها، فسألتها عن كُحل الجَلاء، فقالت: لا تكتحِلىْ به إلا مِن أمرٍ لا بد منه يشتدُّ عليك، فتكتحلين بالليل، وتمسحينه بالنهار، ثم قالت عند ذلك أمُّ سلمة: دخل علىَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين تُوفى أبو سلمة وقد جعلت على عَيْنَىَّ صَبِراً، فقال: "ما هذا يَا أُمَّ سلمة"؟ فقلت: إنما هو صَبِرٌ يا رسَوُلَ الله، ليس فيه طِيب. فقال:
"إنَّه يَشُبُّ الوَجْهَ فَلاَ تَجْعَليه إلاَّ بالَّليْل، وَتَنْزعيهِ بِالنَّهار، ولا تَمْتَشِطى بِالطَّيب وَلاَ بِالحِنَّاءِ فَإنَّهُ خِضَابٌ "، قالت: قلت: بأى شىء أمتَشِطُ يا رسول الله؟ قال: " بالسِّدْر تُغَلِّفِينَ بِهِ
رَأْسَك".
وقد تضمنت هذه السنة أحكاماً عديدة. أحدها: أنه لا يجوزُ الإحدادُ على مِّيتٍ فوقَ ثلاثة أيامِ كائناً من كان، إلا الزوجَ وحدَه.
وتضمن الحديثُ الفرقَ بين الإحدادين من وجهين.
أحدهما: من جهة الوجوب والجواز، فإن الإحداد على الزوج واجب، وعلى غيره جائز.
الثانى: من مقدار مدة الإحداد، فالإحدادُ على الزوج عزيمة، وعلى غيره رخصة وأجمعت الأمة على وجوبه على المتوفَّى عنها زوجُها إلا ما حُكى عن الحسن، والحكم بن عتيبة. أما الحسن، فروى حماد بن سلمة، عن حميد، عنه، أن المطلقة ثلاثاً، والمتوفَّى عنها زوجُها تكتحلان وتمتشِطَان، وتتطيَّبانِ وتختضِبان، وتنتقلان، وتصنعان ما شاءتا، وأما الحكم: فذكر عنه شعبةُ: أن المتوفى عنها لا تُحِدُّ.
قال ابنُ حزم: واحتج أهل هذه المقالة، ثم ساق مِن طريق أبى الحسن محمد بن عبد السلام، حدثنا محمدُ بنُ بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعبة، حدثنا الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لامرأة جعفر بن أبى طالب: "إذا كَانَ ثلاثَة أيَّامٍ فالبَسى ما شئتِ، أو إذا كَانَ بَعْدَ ثلاثة أيام " شعبة شك.
ومن طريق حماد بنِ سلمة، حدثنا الحجَّاج بنُ أرطاة، عن الحسن ابن سَعدِ، عن عبد الله بن شداد، أن أسماءَ بنت عُميس استأذنتِ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أن تبكى على جعفر وهى امرأتُه، فَأذِنَ لها ثلاثةَ أيام، ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن تطهرى واكتحلى.
قالوا: وهذا ناسخ لأحاديث الإحداد، لأنه بعدها، فإن أم سلمة رضى الله عنها روت حديث الإحداد، وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرها به إثر موتِ أبى سلمة ولا خلاف أن موت أبى سلمة كان قبل موتِ جعفر رضى الله عنهما.
وأجاب الناسُ عن ذلك بأن هذا حديث منقطع، فإن عبد الله بن شداد بن الهاد لم يسمع من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا رآه، فكيف يُقَدَّمُ حديثُه على الأحاديث الصحيحة المسندة التى لا مطعن فيها؟ وفى الحديث الثانى: الحجاج بن أرطاة، ولا يُعارض بحديثه حديثُ الأئمة الذين هم فرسانُ الحديث.
فصل
الحكم الثانى: أن الإحداد تابع للعِدة بالشهور، أما الحامل، فإذا انقضى حملُها، سقط وجوْبُ الإحداد عنها اتفاقاً، فإن لها أن تتزوج، وتتجمَّل، وتتطيَّب لزوجها، وتتزيَّن له ما شاءت.
فإن قيل: فإذا زادت مدةُ الحمل على أربعةِ أشهر وعشر، فهل يسقطُ وجوبُ الإحداد، أم يستمِرُّ إلى الوضع؟ قيل: بل يستمِرُ الإحداد إلى حين الوضع، فإنه من توابع العدة، ولهذا قُيِّد بمدتها، وهو حُكم من أحكام العِدة، وواجب من واجباتها، فكان معها وجوداً وعدماً.
فصل
الحكم الثالث: أن الإحداد تستوى فيه جميعُ الزوجات المسلمة والكافرة، والحُرة والأمة، والصغيرة والكبير، وهذا قولُ الجمهور: أحمد، والشافعى، ومالك. إلا أن أشهب، وابنَ نافع قالا: لا إحداد على الذمية، ورواه أشهب عن مالك، وهو قولُ أبى حنيفة، ولا إحداد عنده على الصغيرة.
واحتج أربابُ هذا القول بأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل الإحداد من أحكام من يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا تدخُلُ فيه الكافرةُ، ولأنها غيرُ مكلَّفة بأحكام الفروع.
قالوا: وعدو لُه عن اللفظ العام المطلق إلى الخاص المقيَّد بالإيمان يقتضى أن هذا من أحكام الإيمان ولوازِمه وواجباته، فكأنه قال: من التزم الإيمان فهذا من شرائعه وواجباته. والتحقيقُ أن نفى حِلِّ الفعل عن المؤمنين لا يقتضى نفىَ حُكمه عن الكفار، ولا إثباتَ لهم أيضاً، وإنما يقتضى أن من التزم الإيمان وشرائعه، فهذا لا يَحِلُ له، ويجب على كل حال أن يلزم الإيمان وشرائعه، ولكن لا يلزمه الشارعُ شرائعَ الإيمان إلا بعد دخلوه فيه، وهذا كما لو قيل: لا يحِل لمؤمن أن يترُك الصلاة والحجَّ والزكاة، فهذا لا يدل على أن ذلك حِلٌّ للكافر. وهذا كما قال فى لباس الحرير: "لاَ يَنْبَغى هذَا لِلمُتَّقِينَ"، فلا يدل أنه ينبغى لغيرهم. وكذا قوله: "لاَ يَنْبَغى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ لَعَّاناً".
وسر المسألة: أن شرائعَ الحلال والحرام والإيجاب، إنما شُرعَتْ لمن التزم الإيمان، ومن لم يلتَزمه وخلى بينه وبين دينه، فإنه يُخلى بينَه وبينَ شرائع الدين الذى التزمه، كما خُلِّىَ بينه وبين أصله ما لم يُحاكم إلينا، وهذه القاعدة متفق عليها بين العلماء، ولكن عذرُ الذين أوجبوا الإحداد على الذمية، أنه يتعلق به حقُّ الزوجِ المسلم، وكان منه إلزامها به كأصل العدة، ولهذا لا يُلزمونها به فى عِدتها مِن الذمى، ولا يُتعرض لها فيها، فصار هذا كعقودهم مع المسلمين، فإنهم يُلزمون فيها بأحكام الإسلام وإن لم يتعرض لِعقودِهم مع بعضهم بعضاً، ومن يُنازعهم فى ذلك يقولون: الإحدادُ حق للَّه تعالى، ولهذا لو اتفقت هى والأولياء والمتوفَّى على سقوطه بأن أوصاها بتركه، لم يسقط، ولزمها الإتيانُ به فهو جارٍ مجرى العِبادات وليست الذمية من أهلها، فهذا سر المسألة.
فصل
الحكم الرابع: أن الإحداد لا يجبُ على الأمة، ولا أمِّ الولد إذا مات سيدُهما، لأنهما ليسا بزوجين. قال ابنُ المنذر: لا أعلمهم يختلِفُون فى ذلك.
فإن قيل: فهل لهما تُحِدَّا ثلاثَةَ أيام؟ قيل: نعم لهما ذلك، فإن النصَّ إنما حرم الإحداد فوق الثلاث على غير الزوج، وأوْجَبَه أربعة أَشهر وعشراً على الزوج، فدخلت الأمةُ وأمُّ الولد فيمن يحل لهن الإحداد، لا فيمن يَحْرُمُ عليهن، ولا فيمن يجب.
فإن قيل: فهل يجب على المعتدة مِن طلاق أو وطءِ شبهة، أو زنى،
أو استبراء إحداد؟
قلنا: هذا هو الحكمُ الخامس الذى دلَّت عليه السنة، أنه لا إحداد على واحدةٍ من هؤلاء، لأن السنة أثبتت ونفت، فخصَّت بالإحدادِ الوَاجِبِ الزوجاتِ، وبالجائز غيرَهن على الأمواتِ خاصة، وما عداهما، فهو داخل فى حُكم التحريم على الأموات، فمن أين لكم دخولُه فى الإحداد على المطلقة البائن؟ وقد قال سعيدُ بن المسيب، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأبو حنيفة وأصحابُه، والإمام أحمد فى إحدى الروايتين عنه اختارها الخِرقى: إن البائن يجب عليها الإحدادُ، وهو محضُ القياس، لأنها معتدة بائن مِن نكاح، فلزمها الإحداد كالمتوفَّى عنها، لأنهما اشتركا فى العِدة، واختلفا فى سببها، ولأن العِدة تُحرِّمُ النكاح، فَحَرُمَتْ دواعيه. قالوا: ولا ريبَ أن الإحداد معقولُ المعنى، وهو أن إظهارَ الزينة والطِّيب والحُلى، مما يدعو المرأة إلى الرجال، ويدعُو الرجال إليها: فلا يُؤمن أن تكذِبَ فى انقضاء عدتها استعجالاً لذلك، فمُنِعَتْ مِن دواعى ذلك، وسدت إليه الذريعة، هذا مع أن الكذب فى عدة الوفاة يتعذَّر بظهورِ موت الزوج، وكونِ العِدة أيَّامً معدودة، بخلاف عِدة الطلاق، فإنها بالأقراء وهى لا تُعلم إلا من جهتها، فكان الاحتياطُ لها أولى.
قيل قد أنكر اللهُ سبحانَه وتعالى على مَنْ حَرَّمَ زِيْنَتَهُ الَّتى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ. وهذا يدل على أنه لا يجوز أن يُحرِّمَ من الزينة إلا ما حرَّمه الله ورسولُه، والله سبحانه قد حرَّم على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينة الإحداد على المتوفَّى عنها مدة العدة، وأباح رسولُه الإحدادَ بتركها على غير الزوج، فلا يجوز تحريمُ غير ما حرمه، بل هو على أصلِ الإباحة، وليس الإحدادُ مِن لوازم العدة، ولا توابعها، ولهذا لا يجب
على الموطوءة بشبهة، ولا المزنى بها، ولا المستبرَأة، ولا الرجعيَّةِ اتفاقاً، وهذا القياسُ أولى مِن قياسها على المتوفى عنها لما بين العِدتين من القُروء قدراً أو سبباً وحكماً، فإلحاقُ عِدة الأقراء بالأقراء أولى من إلحاق عِدة الأقراء بعِدة الوفاة، وليس المقصودُ من الإحداد على الزوج الميت مجرَّدَ ما ذكرتم مِن طلب الاستعجال، فإن العدة فيه لم تكن لمجرد العلم ببراءةِ الرَّحِم، ولهذا تجِبُ قبلَ الدخول، وإنما هو مِن تعظيم هذا العقد وإظهار خطره وشرفه، وأنه عند الله بمكان، فجعلت العدة حريماً له، وجعل الإحداد مِن تمام هذا المقصود وتأكده، ومزيدِ الاعتناء به، حتى جُعلت الزوجة أولى بفعله على زوجها مِن أبيها وابنها وأخيها وسائرِ أقاربها، وهذا مِن تعظيم هذا العقدِ وتشريفِه، وتأكدِ الفرقِ بينه وبين السِّفاح من جميع أحكامه، ولهذا شُرِعَ فى ابتدائه إعلانُه، والإشهادُ عليه، والضَّربُ بالدّف لتحقق المضادة بينَه وبينَ السِّفاح، وشرع فى آخره، وانتهائه من العدة والإحداد ما لم يُشرع فى غيره.
فصل
الحكم السادس فى الخصال التى تجتنِبها الحادةُ، وهى التى دل عليها النصُّ دون الآراءِ والأقوال التى لا دليل عليها وهى أربعة:
أحدها: الطيب بقوله فى الحديث الصحيح: "لاَ تَمسُّ طِيباً"، ولا خلافَ فى تحريمه عند من أوجب الإحداد، ولهذا لما خرجت أمُّ حبيبة رضى الله عنها من إحدادها على أبيها أبى سفيان، دعت بطيب، فدهنت منه جارية، ثم مست بعارضيها، ثم ذكرتِ الحديثَ، ويدخل فى الطيب: المسكُ، والعنبرُ، والكافورُ، والند، والغالِية، والزَّباد، والذَّريرة،
والبخور، والأدهان، كدُهن البان، والورد والبنفسج، والياسمين، والمياه المعتصرة من الأدهان الطيبة، كماء الورد، وماء القرنفل، وماء زهر النارنج، فهذا كُلُّه طِيب، ولا يدخُلُ فيه الزيتُ، ولا الشيرج، ولا السمن، ولا تُمتع من الادهان بشىء من ذلك.
فصل
الحكم السابع: وهى ثلاثة أنواع. أحدها: الزينة فى بدنها، فيحرم عليها الخضابُ، والنَّقشُ، والتطريفُ، والحُمرة، والاسفيدَاجُ، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص على الخِضاب منبهاً به على هذه الأنواع التى هى أكثرُ زينة منه، وأعظمُ فتنة، وأشدُّ مضادة لمقصود الإحداد، ومنها: الكُحل، والنهى عنه ثابت بالنص الصريح الصحيح.
ثم قال طائفة من أهل العلم من السلف والخلف: منهم أبو محمد ابن حزم: لا تكتحِلُ ولو ذهبت عيناها لا ليلاً ولا نهاراً، ويُساعد قولَهم، حديثُ أم سلمة المتفق عليه: أن امرأة توفى عنها زوجها، فخافوا على عينها، فأَتَوُا النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستأذنوه فى الكحل، فما أذن فيه، بل قال: "لا" مرتين أو ثلاثاً، ثم ذكر لهم ما كانوا يفعلونه فى الجاهلية من الإحداد البليغ سنَةً، ويصبِرن على ذلك، أفلا يصبرن أربعة أشهر وعشراً. ولا ريب أن الكحل من أبلغ الزينة، فهو كالطيب أو أشد منه. وقال بعض الشافعية: للسوداء أن تكتحل، وهذا تصرف مُخَالِفٌ للنص والمعنى، وأحكامُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تُفرِّق بين السود والبيض، كما لا تُفرق بين االطِوال والقِصار، ومثلُ هذا القياس بالرأى الفاسد الذى اشتد نكيرُ السلف
له وذمُّهم إياه. وأما جمهور العلماء، كمالك، وأحمد، وأبى حنيفة والشافعى، وأصحابهم، فقالوا: إن اضطرت إلى الكحل بالإثمد تداوياً لا زينة، فلها أن تكتحِلَ به ليلاً وتمسحه نهاراً، وحجتُهم: حديثُ أم سلمة المتقدم رضي الله عنها، فإنها قالت فى كحل الجلاء: لا تكتَحِلُ إلا لما لا بُدَّ منه، يَشْتَدُّ عَلَيْكِ فتكتحلين بالليل، وتغسلينه بالنهار. ومن حجتهم: حديث أم سلمة رضى الله عنها الآخر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل عليها، وقد جعلت عليها صَبراً فقال: ما هذا يا أم سلمة؟ فقلت: صبر يا رسول الله، ليس فيه طيب فقال: إنه يُشبُّ الوَجْهَ، فقال: لاَ تجعليه إلا باللَّيْل وَتَنْزِعيه بالنَّهَار"، وهما حديثٌ واحد، فَّرقه الرواةُ، وأدخل مالك هذا القدر منه فى "موطئه" بلاغاً، وذكر أبو عمر فى "التَمهيد" له طرقاً يَشدُّ بعضُها بعضاً، ويكفى احتجاجُ مالك به، وأدخله أهلُ السنن فى كتبهم، واحتج به الأئمةُ، وأقلُّ درجاته أن يكون حسناً، ولكن حديثُها لهذا مخالف فى الظاهر لحديثها المسند المتفق عليه، فإنه يَدُلُّ على أن المتوفى عنها لا تكتحِلُ بحال، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأذن للمشتكية عينها فى الكحل لا ليلاً ولا نهاراً، ولا مِن ضرورة ولا غيرِها، وقال: "لا"، مرتين أو ثلاثاً، ولم يقل: إلا أن تضطر. وقد ذكر مالك عن نافع، عن صفية ابنة عبيد، أنها اشتكت عينها وهى حَادٌّ على زوجها عبد الله بن عمر، فلم تكتحِل حتى كادت عيناها تَرْمَصَانِ.
قال أبو عمر: وهذا عندى وإن كان ظاهره مخالفاً لحديثها الآخر، لما فيه من إباحته بالليل. وقوله فى الحديث الآخر: "لا"، مرتين أو ثلاثاً على الإطلاق، أن ترتِيبَ الحديثَين والله أعلم أن الشكاة التى قال فيها
رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا، لم تبلغ والله أعلم مِنها مبلغاً لا بُدَّ لها فيه مِن الكحل، فلذلك نهاها، ولو كانت محتاجة مضطرة تخافُ ذهابَ بصرها، لأباح لها ذلك، كما فعل بالتى قال لها: "اجعليه باللَّيْلِ وامْسَحيهِ بالنَّهارِ"، والنظر يشهد لهذا التأويل، لأن الضرورات المحظورات إلى حال المباح فى الأصول، ولهذا جعل مالك فتوى أم سلمة رضى الله عنها تفسيراً للحديث المسند فى الكحل، لأن أم سلمة رضى الله عنها روته، وما كانت لِتخالِفَه إذا صحَّ عندها، وهى أعلمُ بتأويله ومخرجه، والنظرُ يشهد لذلك، لأن المضطر إلى شىء لا يُحكم له بحكم المرفَّه المتزين بالزينة، وليس الدواء والتداوى من الزينة فى شىء، وإنما نُهيت الحادة عن الزينة لا عن التداوى، وأمُّ سلمةَ رضى الله عنها أعلم بما روت مع صحته فى النظر، وعليه أهلُ الفقه، وبه قال مالك والشافعى، وأكثر الفقهاء.
وقد ذكر مالك رحمه الله فى "موطئه": أنه بلغه عن سالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، أنهما كانا يقولان فى المرأة يُتوفى عنها زوجُها: إنها إذا خشيت على بصرها مِن رمدٍ بعينيها، أو شكوى أصابتها، أنها تكتحل وتتداوى بالكحل وإن كان فيه طيب. قال أبو عمر: لأن القصد إلى التداوى لا إلى التطيب، والأعمال بالنيات.
وقال الشافعى رحمه الله، الصبر يصفر، فيكون زينة، وليس بطيب، وهو كحل الجلاء، فأذنت أم سلمة رضى الله عنها للمرأة بالليل حيث لا ترى، وتمسحه بالنهار حيث يرى، وكذلك ما أشبهه.
وقال أبو محمد بن قدامة فى "المغنى": وإنما تُمنع الحادةُ مِن الكُحل بالإثمد، لأنه تحصل به الزينة، فأما الكُحل بالتوتيا والعنزَروت
ونحوهما، فلا بأس به، لأنه لا زينةَ فيه، بل يُقَبِّح العين ويزيدها مَرَهاً. قال: ولا تُمنع مِن جعل الصَّبِرِ على غير وجهها من بدنها، لأنه إنما مُنِعَ منه فى الوجه، لأنه يُصفره، فيشبه الخضاب، فلهذا قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه يُشب الوجه.
قال: ولا تُمنع مِن تقليم الأظفار، ونتفِ الإبط، وحلقِ الشعر المندوب إلى حلقه، ولا من الاغتسال بالسِّدر، والامتشاط به، لحديثِ أم سلمة رضى الله عنها، ولأنه يراد للتنظيف لا للتطيب، وقال إبراهيم بن هانىء النيسابورى فى "مسائله" قيل لأبى عبد الله: المتوفى عنها تكتحِلُ بالإثمد؟ قال: لا، ولكن إن أرادت، اكتحلت بالصَّبِر إذا خافت على عينها واشتكت شكوى شديدة.
فصل
النوع الثانى: زينةُ الثياب، فيحرُم عليها ما نهاها عنه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما هو أولى بالمنع منه، وما هو مثلُه. وقد صح عنه أنه قال: " ولاَ تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً". وهذا يعم المعصفر والمزعفر، وسائرَ المصبوغ بالأحمر والأصفر، والأخضر، والأزرق الصافى، وكل ما يُصبغ للتحسين والتزيين. وفى اللفظ الآخر: " وَلاَ تَلْبَسُ المُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيابِ،ولا المُمَشَّق".
وههنا نوعان آخران. أحدهما: مأذون فيه، وهو ما نُسج من الثياب على وجهه ولم يدخل فيه صبغ من خز، أو قز، أو قطن، أو كتان، أو صوف، أو وبر، أو شعر، أو صبغ غزله ونسج مع غيره كالبروُد.
والثانى: ما لا يُراد بصبغه الزينة مثل السواد، وما صُبغ لتقبيح،
أو ليستر الوسخ، فهذا لا يمنع منه.
قال الشافعى رحمه الله: فى الثياب زينتان. إحداهما: جمال الثياب على اللابسين، والسترة للعورة. فالثيابُ زينة لمن يلبسُها، وإنما نُهيت الحادةُ عن زينة بدنها، ولم تُنه عن ستر عورتها، فلا بأس أن تلبس كُلَّ ثوبٍ من البياض، لأن البياض ليس بمزين، وكذلك الصوفُ والوبر، وكل ما يُنسج على وجهه ولم يدخل عليه صِبغ من خز أو غيره، وكذلك كُلُّ صبغ لم يرد تزيين الثوب مثل السواد، وما صبغ لتقبيحه، أو لنفى الوسخ عنه، فأما كان مِن زينة، أو وشى فى ثوبه أو غيره فلا تلبسه الحادة، وذلك لِكل حرة أو أمة، كبيرة أو صغيرة، مسلمة أو ذمية. انتهى كلامه.
قال أبو عمر: وقول الشافعى رحمه الله فى هذا الباب نحو قول مالك، وقال أبو حنيفة: لا تلبَسُ ثوب عصب ولا خز وإن لم يكن مصبوغاً إذا أرادت به الزينة، وإن لم تُرد بلبس الثوب المصبوغ الزينة، فلا بأس أن تلبسه. وإذا اشتكت عينُها، اكتحلت بالأسود وغيره، وإن لم تشتكِ عينُها، لم تكتحل.
فصل
وأما الإمام أحمد رحمه الله، فقال فى رواية أبى طالب: ولا تتزين المعتدة، ولا تتطيب بشىء من الطيب، ولا تكتحِلُ بكُحل زِينة، وتدَّهنُ بدُهن ليس فيه طيب، ولا تُقرِّبُ مسكاً، ولا زعفراناً للطيب، والمطلقة واحدة أو اثنتين تتزيَّن، وتتشوَّفُ لعله أن يُراجعها.
وقال أبو داود فى مسائله: سمعت أحمد قال: المتوفَّى عنها زوجُها، والمطلقةُ ثلاثاً، والمحرمة يجتنْبنَ الطيبَ والزينة.
وقال حرب فى "مسائله": سألتُ أحمد رحمه الله، قلت: المتوفى عنها زوجها والمطلقة، هل تلبسان البُرد ليس بحرير؟ فقال: لا تتطيب المتوفى عنها، ولا تتزين بزينة، وشدد فى الطيب، إلا أن يكون قليلاً عند طُهرها. ثم قال: وشبهت المُطَلَّقَة ثلاثاً بالمتوفَّى عنها، لأنه ليس لزوجها عليها رجعة، ثم ساق حرب بإسناده إلى أمِّ سلمة قال: المتوفَّى عنها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا تختضب، ولا تكتحِلُ، ولا تتطيب، ولا تمتشط بطيب.
وقال إبراهيم بن هانىء النيسابورى فى "مسائله": سألتُ أبا عبد الله عن المرأة تنتقِبُ فى عدتها، أو تدهن فى عدتها؟ قال: لا بأس به، وإنما كُرِهَ للمتوفَّى عنها زوجُها أن تتزين. وقال أبو عبد الله: كل دُهن فيه طيب، فلا تدهِنُ به، فقد دار كلام الإمام أحمد، والشافعى، وأبى حنيفة رحمهم الله على أن الممنوع منه مِن الثياب ما كان من لباس الزينة من أى نوع كان، وهذا هو الصوابُ قطعاً، فإن المعنى الذى مُنعت مِن المعصفر والممشَّق لأجله مفهوم، والنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خصه بالذكر مع المصبوغ تنبيهاً على ما هو مثلُه، وأولى بالمنع، فإذا كان الأبيضُ والبرود المحبرَّة الرفيعة الغالية الأثمان مما يُراد للزينة لارتفاعِهما وتناهى جودتهما، كان أولى بالمنعِ مِن الثوب المصبوغ. وكل من عقل عن الله ورسوله لم يَستَرِبْ فى ذلك، لا كما قال أبو محمد ابن حزم: إنها تجتنب الثياب المصبغة فقط، ومباحٌ لها أن تلبس بعدُ ما شاءت من حرير أبيض وأصفر مِن لونه الذى لم يُصبغ، وصوف البحر الذى هو لونُه، وغير ذلك. ومباح لها أن تلبسَ
المنسوجَ بالذهب والحُلى كله مِن الذهب والفضة، والجوهر والياقوت، والزمرد وغير ذلك، فهى خمستةُ أشياء تجتنبها فقط، وهى: الكحل كله لضرورة أو لغير ضرورة، ولو ذهبت عيناها لا ليلاً ولا نهاراً، وتجتنب فرضاً كُلَّ ثوب مصبوغ مما يُلبس فى الرأس والجسد، أو على شىء منه، سواء فى ذلك السواد والخضرة، والحُمرة والصفرة، وغير ذلك، إلا العصب وحدَه وهى ثياب موشَّاة تُعمل فى اليمن، فهو مباح لها. وتجتنب أيضاً: فرضاً الخضابَ كُلَّه جملة، وتجتنب الامتشاط حاشا التسريح بالمشط فقط، فهو حلالٌ لها، وتجتنب أيضاً: فرضاً الطيبَ كُلَّه، ولا تقرب شيئاً حاشا شيئاً من قسط أو أظفار عند طهرها فقط، فهذه الخمسة التى ذكرها حكينا كلامه فيها بنصه.
وليس بعجيبٍ منه تحريمُ لبس ثوب أسودَ عليها ليس من الزينة فى شىء، وإباحةُ ثوب يتقد ذهباً ولؤلؤاً وجوهراً، ولا تحريمُ المصبوغ الغليظ لحمل الوسخ، وإباحة الحرير الذى يأخذ بالعيون حسنُه وبهاؤه ورُواؤه، وإنما العجب منه أن يقولَ: هذا دينُ الله فى نفس الأمر، وأنه لا يَحلُّ لأحد خلافه. وأعجبُ من هذا إقدامه على خلافِ الحديث الصحيح فى نهيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها عن لباس الحُلِى. وأعجبُ من هذا، أنه ذكر الخبرَ بذلك، ثم قال: ولا يَصِحُّ ذلك، لأنه من رواية إبراهيم بن طهمان، وهو ضعيف، ولو صح لقلنا به.
فَلِلَّه ما لقى إبراهيم بن طهمان من أبى محمد ابن حزم، وهو مِن الحفاظ الأثبات الثقات الذين اتفق الأئمةُ الستة على إخراج حديثه، واتفق أصحابُ الصحيح، وفيهم الشيخان على الاحتجاج بحديثه، وشهد له الأئمةُ بالثقة والصدق، ولم يُحفظ عن أحد منهم فيه جرح ولا خدش، ولا يُحفظ عن أحد من المحدثين قط تعليلُ حديث
رواه، ولا تضعيفُه به. وقرىء على شيخنا أبى الحجاج الحافظ فى "التهذيب" وأنا أسمع: قال: إبراهيم بن طهمان بن سعيد الخراسانى أبو سعيد الهروى ولد بهراة، وسكن نيسابور وقَدِمَ بغداد، وحدث بها، ثم سكن بمكة حتى مات بها، ثم ذكر عمن روى، ومن روى عنه، ثم قال: قال نوح بن عمرو بن المروزى، عن سفيان بن عبد الملك، عن ابن المبارك: صحيحُ الحديث، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، وأبى حاتم: ثقة، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن معين: لا بأس به، وكذلك قال العِجلى، وقال أبو حاتم: صدوقٌ حسن الحديث، وقال عثمان بن سعيد الدارمى: كان ثقة فى الحديث، ثم لم تزل الأئمة يشتهون حديثه، ويرغبون فيه، ويوثقونه. وقال أبو داود: ثقة وقال إسحاق بن راهويه: كان صحيحَ الحديث، حسَ الرواية، كثيرَ السماع، ما كان بخُراسان أكثر حدثاً منه، وهو ثقة، وروى له الجماعة. وقال يحيى بن أكثم القاضى: كان مِن أنبل مَنْ حدَّث بخُراسان والعراق والحجاز، وأوثقهم، وأوسعهم علماً. وقال المسعودى: سمعت مالك ابن سليمان يقول: مات إبراهيم بنُ طهمان سنة ثمان وستين ومائة بمكة ولم يخلف مثله.
وقد أفتى الصحابةُ رضى الله عنهم بما هو مطابق لهذه النصوص، وكاشف عن معناها ومقصودها، فصَّح عن ابن عمر أنه قال: لا تكتحِلُ، ولا تتطيب، ولا تَخْتَضِب، ولا تلبَسُ المعصفر، ولا ثوباً مصبوغاً، ولا برداً، ولا تتزين بِحلى، شيئاً تُريد به الزينة، ولا تكتحِلُ بكُحل تُريد به الزينة، إلا أن تشتكى عينها.
وصحَّ عنه من طريق عبد الرزاق، عن سفيان الثورى، عن عُبيد الله ابن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: ولا تمسُّ عنها طيباً، ولا تختضِبُ ولا تكتحل، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب تتجلببُ به.
وصح عن أمِّ عطية: لا تلبسُ الثيابَ المصبغة إلا العَصْبَ، ولا تمس طيباً إلا أدنى الطيب بالقُسط والأظفار، ولا تكتحِلُ بكحل زينة.
وصح عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: تجتنِبُ الطيبَ والزينة.
وصح عن أمِّ سلمة رضى الله عنها لا تلبَسُ مِن الثياب المصبغة شيئاً، ولا تكتحِلُ، ولا تلبس حُلياً، ولا تختضب، ولا تتطيَّبُ.
وقالت عائشة أمُّ المؤمنين رضى الله عنها: لا تلبَسُ معصفراً، ولا تُقرِّبُ طيباً، ولا تكتحل، ولا تلبس حُلياً، وتلبس إن شاءت ثيابَ العَصْبِ.
فصل
وأما النِّقابُ، فقال الخِرقى فى "مختصره": وتجتنِبُ الزوجةُ المتوفَّى عنها زوجها الطيبَ، والزينة، والبيتوتة فى غير منزلها، والكُحلَ بالإثمد، والنِّقاب. ولم أجدْ بهذا نصاً عن أحمد.وقد قال إسحاق ابن هانىء فى "مسائله": سألت أبا عبد الله عن المرأة تنتقِبُ فى عِدتها، أو تدهِن فى عدتها؟ قال: لا بأس به، وإنما كُرِهَ للمتوفى عنها زوجها أن تتزيَّن. ولكن قد قال أبو داود فى "مسائله" عن المتوفى عنها زوجها، والمطلقة ثلاثاً، والمحرمة: تجتنبن الطيبَ والزينة.
فجعل المتوفى عنها بمنزلة المحرمة فيما تجتنبه، فظاهر هذا أنها تجتنب النقاب، فلعل أبا القاسم أخذ مِن نصه هذا والله أعلم وبهذا علله أبو محمد فى "المغنى" فقال: فصل الثالث فيما تجتنبه الحادة النقاب، وما فى معناه مثل البرقع ونحوه، لأن المعتدة مشبهة بالمُحْرِمَة، والمحرمة تمتنع من ذلك. وإذا احتاجت إلى ستر وجهها،سدلت عليه كما تفعل المحرمة.
فصل
فإن قيل: فما تقولون فى الثوب إذا صُبغَ غزلُه ثم نسج، هل لها لبسه؟ قيل: فيه وجهان، وهما احتمالات فى المغنى أحدهما يحرم لبسه، لأنه أحسن وأرفع ولأنه مصبوغٌ للحسن، فأشبه ما صُبغَ بعد نسجه، والثانى: لا يحرم لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها: " إلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ" ، وهو ما صُبغَ غزلُه قبل نسجه، ذكره القاضى، قال الشيخ: والأول أصح، وأما العَصَب: فالصحيح: أنه نبتٌ تصبغ به الثياب، قال السهيلى: الورس والعصب نبتان باليمن لا ينبتان إلا به، فرخص النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للحادَّةِ فى لبس ما يُصبغ بالعَصب، لأنه فى معنى ما يصبغ لغير تحسين، كالأحمر والأصفر، فلا معنى لتجويز لبسه مع حصول الزينة بصبغه، كحصولها بما صُبغ بعد نسجه. والله أعلم.
ذِكرُ حكمِ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الاستبراء

ثبت فى صحيح مسلم: من حديث أبى سعيد الخُدرى رضى الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ حُنين بعث جيشاً إلى أوطاس، فلقى عدواً،
فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابُوا سبايا، فكأن ناساً مِن أصحابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحرَّجوا من غِشيانهن مِن أجلِ أزواجهن من المشركين، فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ فى ذلك: {والمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أيْمَانْكُمْ} [النساء: 24] ، أى: فَهُنَّ لكُمْ حَلاَلٌ إذا انقضت عدتهن.وفى "صحيحه" أيضاً: من حديث أبى الدرداء رضى الله عنه، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّ بامرأةٍ مُجحٍّ عَلَى بابِ فُسطاط، فقال: "لَعَلَّهُ يُريد أَنْ يُلِمَّ بها". فقالوا: نعم، فقالَ رَسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْناً يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ، كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وهُوَ لاَ يَحِلُّ لَهُ، كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وهُوَ لاَ يَحِلُّ لَهُ".
وفى الترمذي: من حديث عِرباض بن سارية، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرَّم وَطْءَ السَّبايَا حَتَّى يَضَعْنَ مَا فى بُطُونِهِنَّ.
وفى "المسند"، وسنن أبى داود: من حديث أبى سعيد الخُدري رضى الله عنه، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فى سبايا أَوطاس: "لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً".
وفى الترمذى: من حديث رُويفع بن ثابت رضى الله عنه، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخر، فَلاَ يَسْقى مَاءَهُ وَلَد
غَيْرِه". قال الترمذى: حديث حسن.
ولأبى داود، من حديثه أيضاً: "لاَ يَحِلُّ لامْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَقَعَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنَ السَّبْى حَتَّى يَسْتَبْرئَها".
ولأحمد: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يَنْكِحَنَّ ثَيِّباً مِنَ السَّبَايَا حَتَّى تَحِيضَ". وذكر البخارى فى "صحيحه": قال ابن عمر: إذا وُهِبَتِ الوَليدةُ التى تُوطَأ، أو بيعَت، أو عَتقت، فلُتستبرأ بحيضة، ولا تُستبرأ العذراءُ.
وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن طاووس: أرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منادياً فى بعض مغازيه: "لاَ يَقَعَنَّ رَجُلٌ عَلى حَامِلٍ، وَلاَ حَائِلِ حَتَّى تَحِيضَ".
وذكر عن سفيان الثورى: عن زكريا، عن الشعبى، قال: أصاب المسلمون سبايا يومَ أوطاس، فأمرهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا يقعوا على حامِلٍ حتى تَضَعَ، ولا على غير حامل حتَّى تحيض.
فصل
فتضمنت هذه السنن أحكاماً عديدة:
أحدها: أنه لا يجوز وطءُ المسبية حتى يُعلم براءةُ رحمها، فإن كانت حاملاً فبوضع حملها، وإن كانت حائلاً فبأن تحيضَ حيضة. فإن لم تكن مِن ذوات الحيض فلا نصَّ فيها، واختُلِفَ فيها وفى البِكر، وفى التى يُعلم براءةُ رحمها بأن حاضت عند البائع، ثم باعها عقيبَ الحيض ولم يطأها، ولم يُخرجها عن ملكه، أو كانت عند امرأةٍ وهى مصونة، فانتقلت عنها إلى رجل، فأوجب الشافعىُّ وأبو حنيفة وأحمد الاستبراءَ فى ذلك كله، أخذاً بعموم الأحاديث، واعتباراً بالعِدة حيث تجب مع العلم ببراءة الرحم، واحتجاجاً بآثار الصحابة، كما ذكر عبد الرزاق: حدثنا ابنُ جريج، قال: قال عطاء: تداولَ ثلاثةٌ من التجار جارِيةً، فولَدت، فدعا عمر بن الخطاب رضى الله عنه القافة، فألحقوا ولدها بأحدهم، ثم قال عمر رضى الله عنه: من ابتاع جارية قد بلغت المحيضَ، فليتربَّصنْ بها حتى تحيض، فإن كانت لم تحض فليتربَّصنْ بها خمساً وأربعين ليلة.
قالوا: وقد أوجب الله العدة على من يئست من المحيض، وعلى من لم تبلغ سن المحيض، وجعلها ثلاثة أشهر، والاستبراءُ عدة الأمة، فيجبُ على الآيسة، ومن لم تبلغ سنَ المحيض. وقال آخرون: المقصودُ من الاستبراء العلمُ ببراءة الرحم، فحيث تيقن المالكُ براءة رحم الأمة، فله وطؤُها ولا استبراء عليه، كما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضى الله
عنه قال: إذا كانت الأمة عذراءَ لم يستبرئها إن شاء، وذكره البخارى فى "صحيحه" عنه.
وذكر حماد بن سلمة، حدثنا على بن زيد، عن أيوب بن عبد الله اللخمى، عن ابن عمر قال: وقعت فى سهمى جاريةٌ يومَ جَلُولاَء، كأنَّ عُنُقَها إبريقُ فِضَّة، قال ابن عمر: فما ملكتُ نفسى أن جعلتُ أقبلها والناسُ ينظرون.
ومذهب مالك إلى هذا يرجع، وهاك قاعدته وفروعها: قال أبو عبد الله المازَرى وقد عقد قاعدة لباب الاستبراء فنذكرها بلفظها.
والقول الجامع فى ذلك: أن كل أَمَةٍ أُمِنَ عليها الحملُ، فلا يلزم فيها الاستبراءُ، وكُلُّ مَنْ غلب على الظن كونها حاملاً، أو شك فى حملها، أو تردد فيه، فالاستبراءُ لازم فيها، وكل من غلَّب الظن ببراءة رحمها، لكنه مع الظن الغالب يجوز حصولُه، فإن المذهب على قولين فى ثبوتِ الاستبراء وسقوطِه.
ثم خرج على ذلك الفروعَ المختلفة فيها، كاستبراءِ الصغيرة التى تُطيق الوطْء، والآيسَة، وفيه روايتان عن مالك، قال صاحب "الجواهر": ويجبُ فى الصغيرة إذا كانت ممن قارب سن الحمل، كبنت ثلاث عشرة، أو أربع عشرة، وفى إيجاب الاستبراء إذا كانت ممن تُطيق الوطءَ، ولا يَحْمِلُ مثلها كبنت تسع وعشر، روايتان أثبته فى رواية ابن القاسم، ونفاه فى رواية ابن عبد الحكم، وإن كانت ممن لا يُطبق الوطء، فلا استبراء فيها. قال: ويجب الاستبراء فيمن جاوزت سنَّ الحيض، ولم تبلغ سنّ
الآيسة، مثل ابنة الأربعين والخمسين. وأما التى قعدت عن المحيض، ويئست عنه، فهل يجب فيها الاستبراءُ أو لا يجب؟ روايتان لابن القاسم، وابنِ عبد الحكم. قال المازَرى: ووجهُ الصغيرة التى تُطيق الوطء والآيسة، أنه يُمكن فيهما الحملُ على الندور، أو لِحماية الذريعة، لئلا يدعى فى مواضع الإمكان أن لا إمكان.
قال: ومِن ذلك استبراءُ الأمة خوفاً أن تكون زنت، وهو المعَّبر عنه بالاستبراء لسوء الظن، وفيه قولان، والنفى لأشهب.
قال: ومِن ذلك استبراءُ الأمَةِ الوَخْشِ، فيه قولان، الغالبُ: عَدمُ وطءِ السادات لهن، وإن كان يقع فى النادر.
ومِن ذلك استبراءُ مَنْ باعها مجبوبٌ، أو امرأة، أو ذو محرم، ففى وجوبه روايتان عن مالك.
ومِن ذلك استبراءُ المكاتبة إذا كانت تتصرَّفُ ثم عجزت، فرجعت إلى سيدها، فابنُ القاسم يُثبِتُ الاستبراءَ، وأشهبُ ينفيه.
ومن ذلك استبراءُ البِكر، قال أبو الحسن اللخمى: هو مستحب على وجه الاحتياط غيرُ واجب، وقال غيرُه من أصحاب مالك: هو واجب.
ومن ذلك إذا استبرأ البائعُ الأمة، وعَلِمَ المشترى أنه قد استبرأها، فإنه يُجزىء استبراءُ البائع عن استبراء المشترى.
ومن ذلك إذا أودعه، فحاضت عند المُودَع حيضة، ثم استبرأها لم يحتج إلى استبراءٍ ثانٍ، وأجزأت تلك الحيضة عن استبرائها، وهذا بشرط أن لا تخرُج، ولا يكون سيدُها يدخلُ عليها.
ومن ذلك أن يشترِيَها مِن زوجته، أو ولد له صغير فى عياله وقد حاضت عند البائع، فابنٌ القاسم يقول: إن كانت لا تخرج، أجزأه ذلك، وأشهبُ يقول: إن كان مع المشترى فى دار وهو الذابُّ عنها، والناظرُ فى أمرها، أجزأه ذلك، سواء كانت تخرج أو لا تخرج.
ومن ذلك إن كان سيدُ الأمةِ غائباً، فحين قدم، اشتراها منه رجل قبل أن تخرج، أو خرجت وهى حائض، فاشتراها قبل أن تطهر، فلا استبراء عليه.
ومِنْ ذلك إذا بيعت وهى حائض فى أوَّلِ حيضها، فالمشهورُ من مذهبه أن ذلك يكون استبراءً لها لا يحتاجُ إلى حيضة مستأنفَة.
ومن ذلك، الشريكُ يشترى نصيبَ شريكه مِن الجارية وهى تحتَ يد المشترى منهما، وقد حاضت فى يده، فلا استبراءَ عليه.
وهذه الفروعُ كلُّها مِن مذهبه تُنبيك عن مأخذه فى الاستبراء، وأنه إنما يجب حيث لا يعلم ولا يُظن براءة الرحم، فإن عُلمت أو ظُنت، فَلاَ استبراء، وقد قال أبو العباس ابن سريج وأبو العباس ابن تيمية: إنه لا يجب استبراءُ البكر، كما صح عن ابن عمر رضى الله عنها، وبقولهم نقول، وليس عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص عام فى وجوب استبراء كل من تجدَّد له عليها ملك على أى حالة كانت، وإنما نهى عن وطءِ السبايا حتى تضعَ حواملُهن، وتحيض حوائلهن.
فإن قيل: فعمومُه يقتضى تحريم وطء أبكارهن قبل الاستبراء، كما يمتنع وطء الثيب؟.
قيل: نعم، وغايتُه أنه عموم أو إطلاق ظهر القصدُ منه، فيُخص أو يُقيد عند انتفاء موجبِ الاستبراء، ويخص أيضاً بمفهوم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فى حديث رويفع: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يَنْكِحْ ثَيِّباً مِنَ السَّبايَا حَتَّى تحِيضَ". ويخص أيضاً بمذهب الصحابى، ولا يعلم له مخالف.
وفى صحيح البخارى: من حديث بريدة، قال: بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً رضى الله عنه إلى خالد يعنى باليمن لِيقبض الخُمُسَ، فاصطفى علىٌ منها سَبِيَّةً، فأصبح وقد اغتسل، فقلتُ لخالد: أما ترى إلى هذا؟ وفى رواية: فقال خالد لبُريدة: ألا ترى ما صَنَعَ هذا؟ قال بريدة: وكُنْتُ أُبْغِضُ علياً رضى الله عنه، فلما قدمنا إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكرتُ ذلك له، فقال: "يا بُرَيْدَةَ أَتُبْغِضُ عَلِيٍّا"؟ قلت: نعم، قال: "لاَ تُبْغِضْهُ فَإنَّ له فى الخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ". فهذه الجاريةُ إما أن تكون بكراً فلم ير علي وجوب استبرائها، وإما أن تكون فى آخر حيضها، فاكتفى بالحيضة قبل تملُّكه لها. وبكل حال، فلا بد أن يكون تحقق براءَة رحمها بحيث أغناه عن الاستبراء.
فإذا تَأملتَ قولَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقَّ التأمل، وجدت قوله: "وَلاَ تُوْطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ" ، ظهر لك منه أن المراد بغير ذاتِ الحمل مَنْ يجوزُ أن تكون حاملاً، وأَن لا تكون، فيُمسك عن وطئها مخافة الحمل، لأنه لا علم له بما اشتمل عليه رحمها، وهذا قاله فى المسبيات لعدم علم السابى بحالهنَّ.
وعلى هذا فَكُلُّ من ملك أمة لا يعلم حالها قبل الملك، هل اشتمل رحمها على حمل أم لا؟ لم يطأها حتى يستبرئها بحيضة، هذا أمر معقول، وليس
بتعبد محض لا معنى له، فلا معنى لاستبراء العذراء والصغيرةِ التى لا يَحْمِلُ مثلُها، والتى اشتراها من امرأته وهى فى بيته لا تخرُج أصلاً، ونحوها ممن يُعلم براءة رحمها، فكذلك إذا زنتِ المرأة وأرادت أن تتزوج، استبرأها بحيضة، ثم تزوجت، وكذلك إذا زنت وهى متزوجة، أمسك عنها زوجها حتى تحيض حيضة.
وكذلك أم الولد إذا مات عنها سيدُها، اعتدت بحيضة.
قال عبدُ الله بن أحمد: سألت أبى، كم عدة أم الولد إذا توفى عنها مولاها أو أعتقها؟ قال: عِدتها حيضة، وإنما هى أمة فى كل أحوالها، إن جنت، فعلى سيدها قيمتها، وإن جُني عليها، فعلى الجانى ما نقص مِن قيمتها. وإن ماتت، فما تركت مِن شىء فلسيدها، وإن أصابت حداً، فحدُّ أمة، وإن زوجها سيدها، فما ولدت، فهم بمنزلتها يُعتقون بعتقها، ويُرقون برقها.
وقد اختلف الناس فى عِدتها، فقال بعضُ الناس: أربعة أشهر وعشراً، فهذه عِدة الحرة، وهذه عِدة أمة خرجت مِن الرق إلى الحرية، فيلزم من قال: أربعة أشهر وعشراً أن يُورِّثها، وأن يجعل حُكمها حكم الحرة، لأنه قد أقامها فى العِدة مقامَ الحرة. وقال بعضُ الناس: عدتها ثلاث حيض، وهذا قول ليس له وجه، إنما تعتد ثلاثَ حيض المطلقةُ، وليست هى بمطلقة ولا حُرة، وإنما ذكر الله العدة فقال: {والَّذِينََ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُم وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصن بأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234]، وليست أم الولد بحرة ولا زوجة، فتعتد بأربعة أشهر وعشر. قال: {والمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وإنما هى أمة خرجت مِن الرِّق إلى الحرية، وهذا لفظ أحمد رحمه الله.
وكذلك قال فى رواية صالح: تعتد أمُّ الولد إذا تُوفى عنها مولاها، أو أعتقها حيضة، وإنما هىَ أمة فى كل أحوالها.
وقال فى رواية محمد بن العباس: عِدة أمِّ الولد أربعة أشهر وعشر إذا توفى عنها سيدها.
وقال الشيخ فى "المغنى": وحكي أبو الخطاب رواية ثالثة عن أحمد: أنها تعتد بشهرين وخمسة أيام.قال: ولم أجِده هذه الرواية عن أحمد رحمه الله فى "الجامع"، ولا أظنها صحيحة عن أحمد رحمه الله، ورُوى ذلك عن عطاء وطاووس وقتادة، لأنها حين الموت أمة، فكانت عِدتها عدةَ الأمة، كما لو مات رجل عن زوجته الأمة، فعتقت بعد موته، فليست هذه رواية إسحاق بن منصور عن أحمد.
قال أبو بكر عبد العزيز فى "زاد المسافر": باب القول فى عدة أم الولد من الطلاق والوفاة. قال أبو عبد الله فى رواية ابن القاسم: إذا مات السيد وهى عند زوج، فلا عِدة عليها، كيف تعتد وهى مع زوجها؟ وقال فى رواية مهنا: إذا أعتق أمَّ الولد، فلا يتزوج أختها حتى تخرج من عدتها. وقال فى رواية إسحاق ابن منصور: وعِدة أم الولد عدة الأمة فى الوفاة والطلاق والفرقة، انتهى كلامه.وحُجة من قال: عدتها أربعة أشهر وعشر، ما رواه أبو داود عن عمرو بن العاص، أنه قال: لا تُفْسِدُوا عَلَيْنَا سنة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها أربعة أشهر وعشر: وهذا قول السَّعيدين، ومحمد بن سيرين، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز، وخِلاس بن عمرو،
والزهرى، والأوزاعى، وإسحاق. قالوا: لأنها حرة تعتد للوفاة، فكانت عِدتُها أربعة أشهر وعشراً، كالزوجة الحرة.
وقال عطاء، والنخعى، والثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه: تعتدُّ بثلاثِ حيض، وحُكىَ عَن على، وابن مسعود، قالوا: لأنها لا بد لها مِن عدة، وليست زوجة، فتدخل فى آية الأزواج المتوفَّى عنهن، ولا أمة، فتدخُلُ فى نصوص استبراء الإمَاء بحيضة، فهى أشبه شىء بالمطلقة، فتعتد بثلاثة أقراء.
والصوابُ من هذه الأقوال: أنها تُستَبرأ بحيضة، وهو قولُ عثمان بن عفان، وعائشة، وعبد الله بن عمر، والحسن، والشعبى، والقاسم ابن محمد، وأبى قِلابة، ومكحول، ومالك، والشافعى، وأحمد بن حنبل فى أشهر الروايات عنه، وهو قول أبى عبيد، وأبى ثور، وابن المنذر، فإن هذا إنما هو لمجرد الاستبراء لزوال الملك عن الرقية، فكان حيضة واحدة فى حق من تحيض، كسائر استبراءات المعتقات، والمملوكات، والمسبيات. وأما حديث عمرو بن العاص، فقال ابن المنذر: ضعف أحمد وأبو عُبيد حديث عمرو بن العاص. وقال محمد بن موسى: سألت أبا عبد الله عن حديث عمرو بن العاص، فقال: لا يصح. وقال الميمونى: رأيت أبا عبد الله يعجَبُ مِن حديث عمرو بن العاص هذا، ثم قال: أين سنةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى هذا؟ وقال: أربعة أشهر وعشراً إنما هى عدة الحرة من النكاح، وإنما هذه أمة خرجت من الرِّق إلى الحرية، ويلزم من قال بهذا أن يُورثها، وليس لقول من قال: تعتد ثلاثَ حيض وجه، إنما تعتد بذلك المطلقة، انتهى كلامه.
وقال المنذرى: فى إسناد حديث عمرو، مطرُ بن طهمان أبو رجاء
الوراق، وقد ضعفه غير واحد، وأخبرنا شيخنا أبو الحجاج الحافظ فى كتاب "التهذيب" قال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن مطر الوراق. فقال: كان يحيى بن سعيد يُضعف حديثه عن عطاء، وقال عبد الله ابن أحمد بن حنبل: سألتُ أبى عن مطر الوراق، قال: كان يحيى بن سعيد يُشبه حديث مطر الوراق بابن أبى ليلى فى سوء الحفظ، قال عبد الله: فسألت أبى عنه؟ فقال: ما أقربَه مِن ابن أبى ليلى فى عطاء خاصة، وقال: مطر فى عطاء: ضعيف الحديث، قال عبد الله: قلت ليحيى بن معين: مطر الوراق؟ فقال: ضعيف فى حديث عطاء بن أبى رباح، وقال النسائى: ليس بالقوى. وبعد، فهو ثقة، قال أبو حاتم الرازى: صالح الحديث، وذكره ابن حبان فى كتاب الثقات، واحتج به مسلم، فلا وجه لضعف الحديث به.
وإنما علة الحديث أنه من رواية قبيصة بن ذؤيب، عن عمرو بن العاص رضى الله عنه، ولم يسمع منه، قاله الدارقطنى، وله عِلة أخرى، وهى أنه موقوف لم يقل: لا تُلبسوا علينا سنة نبينا. قال الدارقطنى: والصوابُ: لا تُلبِّسوا علينا ديننا. موقوف. وله علة أخرى، وهى اضطرابُ الحديث، واختلافه عن عمرو على ثلاثة أوجه. أحدها: هذا. والثانى: عدة أم الولد عدة الحرة. والثالث: عدتها إذا توفى عنها سيدها أربعة أشهر وعشرا، فإذا أعتقت، فعدتها ثلاث حيض، والأقاويل الثلاثة عنه ذكرها البيهقى. قال الإمام أحمد: هذا حديث منكر حكاه البيهقى عنه، وقد روى خِلاس، عن على مثل رواية قبيصة عن عمرو، أن عدة أم
الولد أربعة أشهر وعشر، ولكن خِلاس بن عمرو قد تُكُلِّم فى حديثه، فقال أيوب: لا يُروى عنه، فإنه صَحَفى، وكان مغيرة لا يُعْبَأُ بحديثه. وقال أحمد: روايته عن على يقال: إنه كتاب، وقال البيهقى: روايات خِلاس عن على ضعيفة عند أهل العلم بالحديث، فقال: هى من صحيفة. ومع ذلك فقد روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر فى أم الولد يُتوفى عنها سيدها، قال: تعتد بحيضة. فإن ثبت عن على وعمرو ما رُوى عنهما، فهى مسألة نزاع بين الصحابة، والدليلُ هو الحاكم، وليس مع مَنْ جعلها أربعةَ أشهر وعشراً إلا التعلقُ بعموم المعنى، إذ لم يكن معهم لفظ عام، ولكن شرطُ عموم المعنى تساوى الأفراد فى المعنى الذى ثبت الحكم لأجله، فما لم يُعلم ذلك لا يتحقَّقُ الإِلحاق، والذين ألحقوا أمَّ الولد بالزوجة رأوا أن الشَّبهَ الذى بين أم الولد وبينَ الزوجة أقوى من الشبه الذى بينها وبينَ الأمة من جهة أنها بالموت صارت حرة، فلزمتها العِدة مع حُريتها، بخلاف الأمة، ولأن المعنى الذى جُعِلَتْ له عِدة الزوجة أربعة أشهر وعشراً، موجودٌ فى أمِّ الولد، وهو أدنى الأوقات الذى يُتيقن فيها خلقُ الولد، وهذا لا يفترق الحالُ فيه بَينَ الزوجة وأم الولد والشريعةُ لا تُفرق بين متماثلين، ومنازعوهم يقولون: أمُّ الولد أحكامُها أحكام الإماء، لا أحكامُ الزوجات، ولهذا لم تدخل فى قوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُم} [النساء: 12]، وغيرها، فكيف تدخل فى قوله: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ويَذَرُون أَزْواجاً} [البقرة: 240]، قالوا: والعِدة لم تُجعل أربعة أشهر وعشراً لأجل مجرد براءة الرحم، فإنها تجب على من يُتَيَقَّنُ براءة رحمها، وتجب قبل الدخول والخلوة، فهى مِن حريم عقد النكاح وتمامه.
وأما استبراء الأمة، فالمقصود منه العلم ببراءة رحمها، وهذا يكفى فيه حيضة، ولهذا لم يُجعل استبراؤها ثلاثَة قروء، كما جعلت عِدة الحرة كذلك تطويلاً لزمان الرجعة، ونظراً للزوج، وهذا المعنى مقصودٌ فى المستبرأة، فلا نصَّ يقتضى إلحاقها بالزوجات ولا معنى، فأولى الأمورِ بها أن يُشرع لها ما شرعه صاحبُ الشرع فى المسبيات والمملوكات، ولا تتعداه، وبالله التوفيق.
فصل
الحكم الثانى: أنه لا يحصُل الاستبراءُ بطُهر البتة، بل لا بُدَّ مِن حيضة، وهذا قولُ الجمهور، وهو الصوابُ، وقال أصحابُ مالك، والشافعى فى قول له: يحصلُ بطهر كامل، ومتى طعنت فى الحيضة، تم استبراؤُها بناء على قولهما: إن الأقراء: الأطهار، ولكن يَرُدُّ هذا، قول رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تُوطأ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، ولاَ حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرأَ بِحَيْضَةٍ". وقال رُويفع بن ثابت: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يوم حنين: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يَطَأْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْى حَتَّى يَسْتَبْرِئها بِحَيضَة" رواه الإمام أحمد وعنده فيه ثلاثة ألفاظ: هذا أحدها.
الثانى: نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا توطأ الأمة حتى تحيض، وعن الحَبَالى حتى تضعن.
الثالث: " مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخرِ فَلاَ يَنْكِحَنَّ ثَيِّباً مِنَ السَّبَايَا حَتَّى تَحِيضَ ". فعلق الحِلَّ فى ذلك كله بالحيض وحده لا بالطهر،
فلا يَجوز إلغاء ما اعتبره، واعتبار ما ألغاه، ولا تعويل على ما خالف نصه، وهو مقتضى القياس المحض، فإن الواجبَ هو الاستبراء، والذى يدل على البراءة هو الحيض، فأما الطهر، فلا دِلالة فيه على البراءة، فلا يجوز أن يُعوَّلَ فى الاستبراء على ما لا دلالة له فيه عليه دون ما يدل عليه، وبناؤُهم هذا على أن الأقراء هى الأطهار، بناء على الخلاف للخلاف، وليس بحجة ولا شبهة، ثم لم يُمكنهم بناء هذا على ذاك حتى خالفوه، فجعلوا الطهر الذى طلقها فيه قرءاً، ولم يجعلوا طهر المستبرأة التى تجدد عليها الملكُ فيه، أو ماتَ سيدها فيه قرءاً، وحتَّى خالفُوا الحديثَ أيضاً كما تبين، وحتى خالفوا المعنى كما بيناه، ولم يُمكنهم هذا البناء إلا بعد هذه الأنواع الثلاثة من المخالفة، وغاية ما قالوا: أن بعضَ الحيضة المقترن بالطهر يدل على البراءة، فيقال لهم: فيكون الاعتماد عليهم حينئذ على بعض الحيضة، وليس ذلك قرءاً عند أحد؟ فإن قالوا: هو اعتماد على بعض حيضة وطهر. قلنا: هذا قول ثالث فى مسمى القروء، ولا يعرف، وهو أن تكون حقيقته مركبةً من حيض وطهر.
فإن قالوا: بل هو اسم للطهر بشرط الحيض. فإذا انتفى الشرط، انتفى المشروط، قلنا: هذا إنما يمكن لو علق الشارع الاستبراء بقرء، فأما مع تصريحه على التعليق بحيضة، فلا.
فصل
الحكم الثالث: أنه لا يحصُل ببعض حيضة فى يدِ المشترى اكتفاء بها. قال صاحب "الجواهر": فإن بِيعت الأمة فى آخرِ أيام حيضها،
لم يكن ما بقَى مِن أيام حيضها استبراءً لها مِن غير خلاف، وإن بِيعَت وهى فى أول حيضتها، فالمشهور من المذهب أن ذلك يكون استبراءً لها.
وقد احتج من نازع مالكاً بهذا الحديث، فإنه علق الحل بحيضة، فلا بُدَّ من تمامها، ولا دليل فيه على بطلان قوله، فإنه لا بُدَّ من الحيضة بالاتفاق، ولكن النزاع فى أمر آخر، وهو أنه هل يشترط أن يكون جميع الحيضة وهى فى ملكه، أو يكفى أن يكونَ معظمُها فى مُلكه، فهذا لا ينفيه الحديثُ، ولا يُثبته، ولكن لمنازعيه أن يقولوا: لما اتفقنا على أنه لا يكفى أن يكون بعضُها فى ملك المشترى وبعضُها فى ملك البائع إذا كان أكثرُها عند البائع، علم أن الحيضة المعتبرة أن تكون، وهى عند المشترى، ولهذا لو حاضت عند البائع، لم يكن ذلك كافياً فى الاستبراء.
ومن قال بقول مالك، يُجيب عن هذا بأنها إذا حاضت قبل البيع وهى مودَعة عند المشترى، ثم باعها عقيب الحيضة، ولم تخرج من بيته، اكتُفى بتلك الحيضة، ولم يجب على المشترى استبراء ثان، وهذا أحد القولين فى مذهب مالك كما تقدم، فهو يجوز أن يكون الاستبراء واقعاً قبل البيع فى صور، منها هذه.
ومنها إذا وضعت للاستبراء عند ثالث، فاستبرأها، ثم بيعت بعده. قال فى "الجواهر": ولا يجزىء الاستبراء قبل البيع إلا فى حالات منها أن تكونَ تحتَ يدِه للاستبراء، أو بالوديعة، فتحيضُ عنده، ثم يشتريها حينئذ، أو بعدَ أيام، وهى لا تخرُجُ، ولا يدخل عليها سيدُها. ومنها: أن يشتريها ممن هو ساكن معه من زوجته، أو ولد له صغير فى عياله. وقد حاضت، فابن القاسم يقول: إن كانت لا تخرج أجزأه ذلك. وقال أشهب: إن كانت معه فى دار وهو الذاب عنها، والناظرُ
فى أمرها، فهو استبراء، سواء كانت تخرُج أو لا تخرُج. ومنها: إذا كان سيدُها غائباً، فحين قدم استبرأها قبل أن تخرُج، أو خرجت وهى حائض، فاشتراها منه قبل أن تطهر.
ومنها: الشريكُ يشترى نصيب شريكه من الجارية وهى تحتَ يد المشترى منهما وقد حاضت فى يده. وقد تقدمت هذه المسائل، فهذه وما فى معناها تضمنت الاستبراء قبل البيع، واكتفى به مالك عن استبراء ثان.
فإن قيل: فكيف يجتمع قولُه هذا، وقوله: إن الحيضة إذا وجد معظمها عند البائع لم يكن استبراءاً؟ قيل: لا تناقُضَ بينهما، وهذه لها موضع وهذه لها موضع، فكل موضع يحتاج فيه المشترى إلى استبراء مستقل لا يُجزىء إلا حيضة لم يوجد معظمُها عند البائع، وكل موضع لا يحتاج فيه إلى استبراء مستقل لا يحتاج فيه إلى حيضة ولا بعضها، ولا اعتبارَ بالاستبراء قبل البيع، كهذه الصور ونحوها.
فصل
الحكم الرابع: أنها إذا كانت حاملاً، فاستبراؤها بوضع الحمل، وهذا كما أنه حكم النص، فهو مجمع عليه بين الأمة.
فصل
الحكم الخامس: أنه لا يجوزُ وطؤها قبلَ وضع حملها، أى حمل كان، سواء كان يلحق بالواطىء، كحمل الزوجة والمملوكة، والموطوءة بشبهة، أو لا يلحق به كحمل الزانية، فلا يحل وطءُ حامل مِن غير الواطىء البتة، كما صرَّح به النص، وكذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلا يَسْقى مَاءَه زَرْعَ غَيْرِهِ" وهذا يَعُمُّ الزرعَ الطيب والخبيث، ولأن صِيانة ماء الواطىء عن الماء الخبيث حتى لا يختلِطَ به أولى مِن صيانته عن الماء الطيب، ولأن حمل الزانى وإن كان لا حُرمة له ولا لمائه، فحملُ هذا الواطىء وماؤه محترم، فلا يجوزُ له خلطه بغيره ولأن هذا مخالف لسنة الله فى تمييز الخبيثِ من الطيب، وتخليصه منه، وإلحاق كل قسم بمجانسه ومشاكله.
والذى يقضى منه العجب، تجويزُ من جوز من الفقهاء الأربعة العقد على الزانية قبل استبرائها ووطئها عقيبَ العقد، فتكون الليلة عند الزانى وقد علقت منه، والليلة التى تليها فراشاً للزوج.
ومن تأمل كمال هذه الشريعة، علم أنها تأبى ذلك كُلَّ الإِباء، وتَمنع منه كُلَّ المنع.
ومِن محاسن مذهب الإمام أحمد، أن حرَّم نكاحها بالكُلية حتى تتوب، ويرتفعَ عنها اسمُ الزانية والبغىِّ والفاجرة، فهو رحمه الله لا يجوز أن يكون الرجل زوجَ بغى، ومنازعوه يجوزون ذلك، وهو أسعدُ منهم فى هذه المسألة بالأدلة كُلِّها من النصوصِ والآثار، والمعانى والقِياس، والمصلحة والحكمة، وتحريم ما رآه المسلمون قبيحاً. والناس إذا بلغوا
فى سبِّ الرجل صرَّحوا له بالزاى والقاف، فكيف تجوز الشريعةُ مثل هذا، مع ما فيه من تعرُّضه لإفساد فراشه، وتعليق أولاد عليه من غيره، وتعرضه للاسم المذموم عند جميع الأمم؟ وقياسُ قولِ من جوَّزَ العقد على الزانية ووطئها قبل استبرائها حتى لو كانت حاملاً، أن لا يوجب استبراء الأمة إذا كانت حاملاً من الزنى، بل يطؤها عقيب ملكها، وهو مخالِفٌ لصريح السنة. فإن أوجب استبراءها، نقض قوله بجواز وطء الزانية قبل استبرائها، وإن لم يوجب استبراءها، خالف النصوصَ، ولا ينفعُه الفرق بينهما، بأن الزوجَ لا استبراء عليه، بخلافِ السيد فإن الزوجَ إنما لم يجب عليه الاستبراءُ، لأنه لم يعقد على معتدة، ولا حامل من غيره بخلاف السيد، ثم إن الشارع إنما حرم الوطء، بل العقد فى العدة خشيةَ إمكان الحمل، فيكون واطئاً حاملاً من غيره، وساقياً ماءَه لزرع غيره مع احتمال أن لا يكون كذلك، فكيف إذا تحقق حملها.
وغاية ما يقال: إن ولد الزانية ليسَ لاحقاً بالواطىء الأول، فإن الولَد لِلفراش، وهذا لا يجوزُ إقدامه على خلط مائه ونسبه بغيره، وإن لم يلحق بالواطىء الأول، فصيانةُ مائه ونسبه عن نسب لا يُلحق بواضعه لصيانته عن نسب يلحق به. والمقصود: أن الشرعَ حرَّم وطء الأمة الحامل حتى تضع، سواء كان حملُها محرماً أو غير محرم وقد فرَّق النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الرجل والمرأة التى تزوج بها، فوجدها حُبلى، وجلدها الحدَّ، وقضى لها بالصَّداق، وهذا صريحٌ فى بطلان العقد على الحامل من الزنى. وصح عنه أنه مر بامرأة مُجِحٍّ على باب فسطاط، فقال: "لَعَلَّ سَيّدَها يُرِيدُ أَنْ يُلِمَّ بِها"؟ قالوا: نعم.قال: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلعْنه لعناً يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ، كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وَهُوَ
لاَ يَحِلُّ لَهُ، كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لاَ يَحِلُّ لَهُ". فجعل سبب همِّه بلعنته وطأه للأمة الحامل، ولم يستفصِلْ عن حملها، هل هو لاحق بالواطِىء أم غيرُ لاحق به؟ وقوله:
"كيف يستخدِمُه وهو لا يحل له" أى: كيف يجعلُه عبداً له يستخدِمُه، وذلك لا يحِل، فإن ماء هذا الواطىء يزيدُ فى خلق الحمل، فيكون بعضُه منه، قال الإمام أحمد يزيدُ وطؤه فى سمعه وبصره.
وقوله: "كيف يورثه وهو لا يَحِلُّ له"، سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول فيه: أى: كيف يجعله تركة موروثة عنه، فإنه يعتقده عبده، فيجعله تركةً تُورث عنه، ولا يَحِلُّ له ذلك، لأن ماءه زاد فى خلقه، ففيه جزء منه.
وقال غيره: المعنى: كيف يورثه على أنه ابنُه، ولا يحِلُّ له ذلك، لأن الحملَ مِن غيره، وهو بوطئه يريد أن يجعله منه، فيورثه ماله، وهذا يردُّه أولُ الحديث، وهو قوله: "كيف يستعبده"؟ أى: كيف يجعله عبده؟ وهذا إنما يدل على المعنى الأول. وعلى القولين، فهو صريح فى تحريم وطء الحامل من غيره، سواء كان الحملُ مِن زنى أو من غيره، وأن فاعل ذلك جدير باللعن، بل قد صرَّح جماعة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم: بأن الرجل إذا ملك زوجتَه الأمة، لم يطأها حتى يستبرئها خشية أن تكون حاملاً منه فى صلب النكاح، فيكون على ولده الولاء لموالى أمه بخلاف ما علقت به فى ملكه، فإنه لا ولاء عليه، وهذا كله احتياط لولده: هل هو صريحُ الحرية لا ولاء عليه، أو عليه ولاء؟ فكيف إذا كانت حاملاً من غيره؟
فصل
الحكم السادس: استنبط من قوله: "ولا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ"، أن الحامل لا تحيض، وأن ما تراه من الدم يكون دمَ فساد بمنزلة الاستحاضة، تصومُ وتُصلى، وتطوف بالبيت، وتقرأ القرآن، وهذه مسألة اختلف فيها الفقهاء، فذهب عطاءٌ والحسن، وعكرمة ومكحول، وجابرُ بن زيد، ومحمد بن المنكدر، والشعبى، والنخعى، والحكم، وحماد، والزهرى، وأبو حنيفة وأصحابُه، والأوزاعى، وأبو عُبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، والإمام أحمد فى المشهور من مذهبه، والشافعى فى أحد قوليه: إلى أنه ليس دمَ حيض. وقال قتادة، وربيعةُ، ومالك، والليث بن سعد، وعبد الرحمن ابن مهدى، وإسحاق بن راهوية: إنه دم حيض، وقد ذكره البيهقى فى "سننه" وقال إسحاق ابن راهويه: قال لى أحمد بن حنبل: ما تقول فى الحامل ترى الدم؟ فقلت: تصلى، واحتججت بخبر عطاء عن عائشة رضى الله عنها. قال: فقال أحمد بن حنبل، أين أنت عن خبر المدنيين، خبر أمِّ علقمة مولاة عائشة رضى الله عنها؟ فإنه أصح. قال إسحاق: فرجعت إلى قول أحمد، وهو كالتصريح من أحمد، بأن دمَ الحامل دم حيض، وهو الذى فهمه إسحاق عنه، والخبرُ الذى أشار إليه أحمد، وهو ما رويناه من طريق البيهقى، أخبرنا الحاكم، حدثنا أبو بكر بن إسحاق، حدثنا أحمدُ بن إبراهيم، حدثنا ابن بكير، حدثنا الليث، عن بكير بن عبد الله، عن أمِّ علقمة مولاةِ عائشة، أن عائشة رضى الله عنها سئلت عن الحامل ترى الدم فقالت: لا تُصَلِّى، قال البيهقى: ورويناه عن أنس بن مالك،
وروينا عن عمر بن الخطاب، ما يدل على ذلك. وروينا عن عائشة رضى الله عنها، أنها أنشدت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيت أبى كبير الهذلى:
ومُبَرَّأً مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حيْضَةٍ ... وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُغْيِلِ
قال: وفى هذا دليل على ابتداء الحمل فى حال الحيض حيث لم ينكر الشِّعْرَ.
قال: وروينا عن مطر، عن عطاء، عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: الحبلى لا تحيضُ، إذا رأت الدم، صلَّت. قال: وكان يحيى القطان ينكر هذه الرواية، ويُضعف رواية ابن أبى ليلى، ومطر عن عطاء.
قال: وروى محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عطاء، عن عائشة رضى الله عنها نحو رواية مطر، فإن كانت محفوظة، فيشبه أن تكون عائشة كانت تراها لا تحيض، ثم كانت تراها تحيض، فرجعت إلى ما رواه المدنيون، والله أعلم.
قال المانعون مِن كون دم الحامل دمَ حيض: قد قسم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإماء قسمين: حاملاً وجعل عدتها وضع الحمل، وحائلاً فجعل عدتها حَيضة، فكانت الحيضة علماً على براءة رحمها، فلو كان الحيضُ يُجامع الحمل، لما كانت الحيضةُ علماً على عدمه، قالوا: ولذلك جعل عدة المطلقة ثلاثة أقراء، لِيكون دليلاً على عدم حملها، فلو جامع الحملُ الحيضَ، لم يكن دليلاً على عدمه: قالوا: وقد ثبت فى "الصحيح"، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعمر بن الخطاب رضى الله عنه حين طلق ابنُه امرأتَه وهى حائض: "مُرْهُ
فَلْيُرَاجِعْها ثُمَّ لِيُمْسِكْها حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَها بَعْدُ، وإنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلكَ العِدَّةُ التى أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّق لَهَا النِّسَاءُ".
ووجه الاستدلال به، أن طلاقَ الحامل ليس ببدعةٍ فى زمن الدم وغيره إجماعاً، فلو كانت تحيضُ، لكان طلاقُها فيه، وفى طهرها بعد المسيس بدعة عملاً بعموم الخبر، قالوا: وروى مسلم فى "صحيحه" من حديث ابن عمر أيضاً "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ ليُطَلِّقْهَا طَاهِراً أَوْ حَامِلاً"، وهذا يدل على أن ما تراه من الدم لا يكون حيضاً، فإنه جعل الطلاق فى وقته نظير الطلاق فى وَقت الطهر سواء. فلو كان ما تراه من الدم حيضاً، لكان لها حالان، حال طهر، وحال حيض، ولم يجز طلاقها فى حال حيضها، فإنه يكون بدعة قالوا: وقد روى أحمد فى "مسنده" من حديث رويفع، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " لا يَحِلُّ لأحَدٍ أَنْ يَسْقى مَاءه زَرْعَ غَيْرِهِ، وَلاَ يقع عَلى أمَةٍ حَتَّى تَحِيضَ أَوْ يَتَبَّينَ حَمْلُها". فجعل وجود الحيض علماً على براءة الرحم من الحمل. قالوا: وقد رُوِىَ عن على أنه قال: إن الله رفع الحيض عن الحبلى، وجعل الدم مما تغيض الأرحام.
وقال ابنُ عباس رضى الله عنه: إن الله رفع الحيض عن الحبلى، وجعل الدم رزقاً للولد، رواهما أبو حفص بن شاهين.
قالُوا: وروى الأثرم، والدارقطنى بإسنادهما، عن عائشة رضى
الله عنها فى الحامل ترى الدم، فقالت: الحامل لا تحيض، وتغتسل، وتصلى.
وقولها: وتغتسل، بطريق الندب لكونها مستحاضة، قالوا: ولا يُعرف عن غيرهم خلافهم، لكن عائشة قد ثبت عنها أنها قالت: الحامل لا تُصلى. وهذا محمول على ما تراه قريباً من الولادة باليومين ونحوهما، وأنه نفاس جمعاً بين قوليها، قالوا: ولأنه دم لا تنقضى به العدة، فلم يكن حيضاً كالاستحاضة.
وحديث عائشة رضى الله عنها يدل على أن الحائض قد تحبل، ونحن نقول بذلك، لكنه يقطع حيضَها ويرفعُه. قالوا: ولأن الله سبحانه أجرى العادة بإنقلاب دم الطمث لبناً غذاءً للولد، فالخارجُ وقت الحمل يكون غيره، فهو دم فساد.
قال المحيضون: لا نزاع أن الحاملَ قد ترى الدَم على عادتها، لا سيما فى أول حملها، وإنما النزاعُ فى حكم هذا الدم، لا فى وجوده. وقد كان حيضاً قبل الحمل بالاتفاق، فنحن نستصحِبُ حكمَه حتى يأتىَ ما يرفعه بيقين. قالوا: والحكمُ إذا ثبت فى محل، فالأصلُ بقاؤه حتى يأتى ما يرفعه، فالأول استصحابٌ لحكم الإجماع فى محل النزاع، والثانى استصحابٌ للحكم الثابت فى المحل حتى يتحقق ما يرفعه، والفرقُ بينهما ظاهر. قالوا: وقد قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا كَانَ دَمُ الحَيْضِ فَإنَّهُ أسْوَدُ يُعْرَفُ". وهذا أسود يُعرف، فكان حيضاً.
قالُوا: وقد قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَليْسَتْ إحْدَاكُنَّ إذَا حَاضَتْ لَمْ تَصُمْ ولم تُصَلِّ؟ " وحيضُ المرأة خروج دمها فى أوقات معلومة من الشهر لغة وشرعاً، وهذا كذلك لغة والأصل فى الأسماء تقريرُها لا تغييرُها.
قالوا: ولأن الدم الخارج من الفرج الذى رتَّب الشارع عليه الأحكام قسمان: حيض واستحاضة، ولم يجعل لهما ثالثاً، وهذا ليس بإستحاضة، فإن الاستحاضة الدمُ المطبق، والزائد على أكثر الحيض، أو الخارج عن العادة، وهذا ليس واحداً منها، فبطل أن يكون استحاضة، فهو حيض، قالوا: ولا يمكنكم إثباتُ قسم ثالث فى هذا المحل، وجعله دَم فساد، فإن هذا لا يثبتُ إلا بنص أو إجماع أو دليل يجب المصير إليه، وهو منتف قالوا: وقد رد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المستحاضة إلى عادتها، وقال: "اجْلِسى قَدْرَ الأيَّامِ التى كُنْتِ تَحِيضِينَ". فدل على أن عادة النساء معتبرة فى وصف الدمِ وحُكمه، فإذا جرى دم الحامل على عادتها المعتادة، ووقتها من غير زيادة ولا نقصان ولا انتقال، دلَّت عادتُها على أنه حيض، ووجب تحكيمُ عادتها، وتقديمُها على الفساد الخارج عن العبادة. قالوا: وأعلمُ الأمة بهذه المسألة نساءُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعلمُهن عائشة، وقد صح عنها من رواية أهل المدينة، أنها لا تُصلى، وقد شهد له الإمام أحمد بأنه أصح من الرواية الأخرى عنها، ولذلك رجع إليه إسحاق وأخبر أنه قولُ أحمد بن حنبل، قالوا: ولا تُعرف صحة الآثار بخلاف ذلك عمن ذكرتم من الصحابة، ولو صحت فهى مسألة نزاع بين الصحابة، ولا دليل يفصل.
قالوا: ولأن عدمَ مجامعة الحيضِ للحمل، إما أن يُعلم بالحسِّ أو بالشرع، وكلاهما منتف، أما الأوَّل: فظاهر، وأما الثانى: فليس عن صاحب الشرع ما يدل على أنهما لا يجتمعان.
وأما قولُكم: إنه جعله دليلاً على براءة الرحم من الحمل فى العدة والاستبراء. قلنا: جعل دليلاً ظاهراً أو قطعياً، الأول: صحيح. والثانى: باطل، فإنه لو كان دليلاً قطعياً لما تخلف عنه مدلُوله، ولكانت أول مدة الحمل من حين انقطاع الحيض، وهذا لم يقله أحد، بل أولُ المدةِ مِن حين الوطء، ولو حاضت بعده عدة حيض، فلو وطئها، ثم جاءت بولد لأكثرَ من ستة أشهر من حين الوطء، ولأقل منها من حين انقطاع الحيض، لحقه النسبُ اتفاقاً، فعُلِمَ أنه أمارة ظاهرة، قد يتخلف عنها مدلولُها تخلُّفَ المطر عن الغيم الرطب، وبهذا يخرج الجوابُ عما استدللُتم به من السنة، فإنا بها قائلون، وإلى حكمها صائرون، وهى الحَكَمُ بينَ المتنازعين. والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم النساء إلى قسمين: حامل فعِدتُها وضعُ حملها، وحائل فعِدتها بالحيض، ونحن قائلون بموجب هذا غير منازعين فيه، ولكن أين فيه ما يدل على أن ما تراه الحامل من الدم على عادتها تصومُ معه وتُصلى؟ هذا أمر آخر لا تَعرُّضَ للحديث به، وهذا يقول القائلون: بأن دمَها دمُ حيض، هذه العبارة بعينها، ولا يُعد هذا تناقضاً ولا خللاً فى العبارة.
قالوا: وهكذا قولُه فى شأن عبد الله بن عمر رضى الله عنه: "مُرْهُ فَلْيُراجِعْها ثُمَّ لِيُطَلِّقْها طَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَمَسَّها"، إنما فيه إباحةُ الطلاق إذا كانت حائلاً بشرطين: الطهر وعدم المسيس، فأين فى هذا التعرف لحكم الدم الذى تراه على حملها؟
وقولُكم: إن الحامل لو كانت تحيض، لكان طلاقُها فى زمن الدم
بدعة، وقد اتفق الناسُ على أن طلاق الحامل ليس ببدعة وإن رأت الدم؟
قلنا: إن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم أحوال المرأة التى يُريد طلاقَها إلى حال حمل، وحالِ خلو عنه، وجوَّز طلاق الحامل مطلقاً من غير استثناء، وأما غيرُ ذات الحمل، فإنما أباح طلاقها بالشرطين المذكورين، وليس فى هذا ما يدل على أن دم الحامل دم فساد، بل على أن الحامل تخالف غيرها فى الطلاق، وأن غيرها إنما تطلق طاهراً غير مصابة، ولا يُشترط فى الحامل شىء من هذا، بل تطلُق عقيبَ الإصابة، وتطلُق وإن رأت الدم، فكما لا يحرُمُ طلاقُها عقيبَ إصابتها، لا يحرُم حالَ حيضها وهذا الذى تقتضيه حِكمةُ الشارع فى وقت الطلاق إذناً ومنعاً، فإن المرأة متى استبان حملُها كان المطلق على بصيرة من أمره، ولم يعرض له مِن الندم ما يعرِضُ لهن كلهن بعد الجماع، ولا يشعر بحملها، فليس ما مُنِعَ منه نظير ما أُذِنَ فيه، لا شرعاً، ولا واقعاً، ولا اعتباراً، ولا سيما مَنْ علل المنع من الطلاق فى الحيض بتطويل العِدة، فهذا لا أثر له فى الحامل.
قالوا: وأما قولُكم: إنه لو كان حيضاً، لانقضت به العِدة، فهذا لا يلزمُ، لأن اللهَ سبحانه جعل عِدة الحامل بوضع الحمل، وعدة الحائل بالأقراء، ولا يُمكن انقضاءُ عِدة الحامل بالأقراء لإفضاء ذلك إلى أن يملكها الثانى ويتزوجها وهى حامل من غيره، فيسقى مَاءَ زَرْعَ غيره.
قالوا: وإذا كنتُم سلمتم لنا أن الحائض قد تحبل، وحملتُم على ذلك حديثَ عائشة رضى الله عنها ولا يمكنكم منع ذلك لشهادة الحس به، فقد أعطيتُم أن الحيض والحبل يجتمعان، فبطل استدلالُكم من رأسه، لأن مداره على أن الحيض لا يُجامع الحبل.
فإن قلتم: نحن إنما جوزنا ورودَ الحمل على الحيض، وكلامُنا
فى عكسه، وهو ورودُ الحيض على الحمل، وبينهما فرق.
قيل: إذا كانا متنافيين لا يجتمعان، فأىُّ فرق بين ورودها هذا على هذا وعكسه؟
وأما قولكم: إن الله سبحانه أجرى العادة بإنقلاب دمِ الطمث لبناً يتغذَّى به الولد ولهذا لا تحيض المراضع. قلنا: وهذا من أكبر حجتنا عليكم، فإن هذا الإنقلاب والتغذية باللبن إنما يستحكم بعد الوضع، وهو زمن سلطان اللبن، وارتضاع المولود وقد أجرى الله العادة بأن المرضع لا تحيض. ومع هذا، فلو رأت دماً فى وقت عادتها، لحكم له بحكم الحيض بالإتفاق، فلأن يحكم له بحكم الحيض فى الحال التى لم يستحكم فيها انقلابه، ولا تغذى الطفل به أولى وأحرى. قالوا: وهب أن هذا كما تقولون، فهذا إنما يكون عند احتياج الطفل إلى التغذية باللبن، وهذا بعدَ أن يُنفخ فيه الروح. فأما قبل ذلك، فإنه لا ينقلب لبناً لعدم حاجة الحمل إليه.
وأيضاً، فإنه لا يستحيل كله لبناً، بل يستحيل بعضه، ويخرج الباقى، وهذا القول هو الراجح كما تراه نقلاً ودليلاً، والله المستعان.
فإن قيل: فهل تمنعون من الاستمتاع بالمُسْتَبرأة بغير الوطء فى الموضع الذى يجب فيه الاستبراء؟ قيل: أما إذا كانت صغيرة لا يوطأ مثلها، فهذه لا تحرم قبلتها ولا مباشرتها، وهذا منصوص أحمد فى إحدى الروايتين عنه، اختارها أبو محمد المقدسى، وشيخنا وغيرُهما، فإنه قال: إن كانت صغيرة بأى شىء تستبرأ إذا كانت رضيعة؟ وقال فى رواية أخرى: تستبرأ بحيضة إن كانت تحيض، وإلا ثلاثة أشهر إن كانت ممن توطأ وتحبل. قال أبو محمد: فظاهر هذا أنه لا يجب استبراؤها، ولا تحرم مباشرتها،
وهذا اختيار ابن أبى موسى، وقولُ مالك وهو الصحيح، لأن سبب الإباحة متحقق، وليس على تحريمها دليل، فإنه لا نص فيها ولا معنى نص، فإن تحريم مباشرة الكبيرة إنما كان لكونه داعياً إلى الوطء المحرم، أو خشية أن تكون أمَّ ولد لغيره، ولا يتوهم هذا فى هذه، فوجب العمل بمقتضى الإباحة، انتهى كلامه.
فصل
وإن كانت ممن يُوطأ مثلُها، فإن كانت بكراً، وقلنا: لا يجبُ استبراؤها، فظاهر، وإن قلنا: يجب استبراؤُها فقال أصحابنا: تحرم قبلُتها ومباشرتها، وعندى أنه لا يحرم، ولو قلنا بوجوب استبرائها، لأنه لا يلزم من تحريم الوطء تحريم دواعيه، كما فى حق الصائم، لا سيما وهم إنما حرَّموا تحريم مباشرتها لأنها قد تكون حاملاً، فيكون مستمتعاً بأمة الغير، هكذا عللوا تحريم المباشرة، ثم قالوا: ولهذا لا يحرم الإستمتاع بالمسبية بغير الوطء قبل الاستبراء فى إحدى الروايتين، لأنها لا يُتوهم فيها انفساخ الملك، لأنه قد استقرَّ بالسبى، فلم يبق لمنع الاستمتاع بالقبلة وغيرها مِن البِكر معنى. وإن كانت ثيباً، فقال أصحاب أحمد، والشافعى وغيرهم: يحرم الاستمتاعُ بها قبل الاستبراء، قالوا: لأنه استبراءٌ يحرم الوطء، فحرم الاستمتاع بها قبل الاستبراء كالعِدة، ولأنه لا يأمن كونها حاملاً، فتكون أم ولد، والبيع باطل، فيكون مستمتعاً بأمِّ ولد غيره. قالوا: ولهذا فارق وطء تحريم الحائض والصائم.
وقال الحسن البصرى: لا يحرم من المستبرأة إلا فرجُها، وله أن يستمتِعَ منها بما شاء ما لم يطأ، لأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما منع من الوطء قبل الاستبراء،
ولم يمنع مما دونه ولا يلزمُ مِن تحريم الوطء تحريمُ ما دونه، كالحائض والصائمة وقد قيل: إن ابن عمر قبَّل جاريتَه من السبى حين وقعت فى سهمه قبل استبرائها. ولمن نصر هذا القول أن يقولَ: الفرقُ بين المشتراة والمعتدة: أن المعتدة قد صارت أجنبية منه، فلاً يَحِلُّ وطؤها ولا دواعيه، بخلاف المملوكة، فإن وطأها إنما يحرم قبل الاستبراء خشيةَ اختلاط مائه بماء غيره، وهذا لا يُوجب تحريمَ الدواعى، فهى أشبهُ بالحائض والصائمة، ونظيرُ هذا أنه لو زنت امرأتُه أو جاريتُه، حرم عليه وطؤها قبل الاستبراء، ولا يحرمُ دواعيه، وكذلك المسبية كما سيأتى. وأكثرُ ما يتوهم كونها حاملاً من سيدها، فينفسخ البيع، فهذا بناء على تحريم بيع أمهاتِ الأولاد على عِلاَّته، ولا يلزم القائل به، لأنه لما استمتع بها، كانت ملكه ظاهراً وذلك يكفى فى جواز الاستمتاع، كما يخلو بها ويُحدِّثُها، وينظر منها ما لا يُباح من الأجنبية، وما كان جوابُكم عن هذه الأمور، فهو الجوابُ عن القُبلة والاستمتاع، ولا يُعلم فى جواز هذا نزاع، فإن المشترىَ لا يُمنع مِن قبض أمته وحوزها إلى بيته وإن كان وحدَه قبلَ الاستبراء، ولا يجبُ عليها أن تستُرَ وجهها منه، ولا يحرم عليه النظرُ إليها والخلوةُ بها، والأكلُ معها، واستخدامها، والانتفاعُ بمنافعها، وإن لم يَجُزْ له ذلك فى ملك الغير.
فصل
وإن كانت مَسْبِيَّةً، ففى جواز الاستمتاع بغير الوطء قولان للفقهاء، وهما روايتان عن أحمد رحمه الله.
إحداهما: أنها كغير المسبية، فيحرم الاستمتاع منها بما دون الفَرْج، وهو ظاهر كلام الخِرَقى، لأنه قال: ومن مَلَك أمةً، لم يصبْها ولم يُقَبِّلْها حتى يستبرئهَا بعد تمام ملكه لها.
والثانية: لا يحرم، وهو قول ابن عمر رضى الله عنه. والفرق بينها وبين المملوكة بغير السبى، أن المسبيَّةَ لا يتوهم فيها كونها أُمَّ ولد، بل هى مملوكة له على كل حال، بخلاف غيرها كما تقدَّم والله أعلم.
فإن قيل: فهل يكونُ أولُ مدة الاستبراء من حين البيع، أو من حين القبض؟
قيل: فيه قولان، وهما وجهان فى مذهب أحمد رحمه الله. أحدهما: من حين البيع، لأن الملك ينتقل به. والثانى: من حين القبض لأن القصد معرفة براءة رحمها من ماء البائع وغيره، ولا يحصل ذلك مع كونها فى يده، وهذا على أصل الشافعى وأحمد. أما على أصل مالك، فيكفى عنده الاستبراءُ قبل البيع فى المواضع التى تقدَّمت. فإن قيل: فإن كان فى البيع خيار، فمتى يكون ابتداء مدة الاستبراء؟
قيل: هذا ينبنى على الخلاف فى انتقال الملك فى مدة الخيار، فمن قال: ينتقل فابتداء المدة عنده من حين البيع، ومن قال: لا ينتقل، فابتداؤها عنده من حين انقطاع الخيار.
فإن قيل: فما تقولون لو كان الخيارُ خيارَ عَيْبٍ؟ قيل: ابتداء المدة من حين البيع قولاً واحداً، لأن خِيَارَ العيب لا يمنع نقل الملك بغير خلاف، والله أعلم.
فصل
فإن قيل: قد دلت السُّنَّةُ على استبراء الحامل بوضع الحمل، وعلى استبراء الحائل بحيضةٍ فكيف سكتت عن استبراء الآيسةِ والتى لم تحض ولم تسكت عنهما فى العدة؟
قيل: لم تسكت عنهما بحمد الله، بل بينتْهما بطريق الإيماء والتنبيه، فإن الله سبحانه جعل عِدَّةَ الحرة ثلاثةَ قُروء، ثم جعل عِدَّة الآيسة والتى لم تحض ثلاثة أشهر، فعلم أنه سبحانه جعل فى مقابلة كل قرْء شهراً. ولهذا أجرى سبحانه عادته الغالبةَ فى إمائه، أن المرأة تحيض فى كل شهر حيضة، وبينت السُّنَّةُ أن الأمة الحائض بحيضة، فيكون الشهر قائماً مقام الحيضة، وهذا إحدى الروايات عن أحمد، وأحد قولى الشافعى. وعن أحمد رواية ثانية: أنها تُسْتَبَرأُ بثلاثة أشهر، وهى المشهورة عنه، وهو أحد قولى الشافعى. ووجه هذا القول، ما احتج به أحمد فى رواية أحمد بن القاسم، فإنه قال: قلت لأبى عبد الله: كيف جعلتَ ثلاثةَ أشهر مكان حيضةٍ، وإنما جعل الله سبحانه فى القرآن مكان كُلِّ حيضةٍ شهراً؟.
فقال أحمد: إنما قلنا: ثلاثة أشهر من أجل الحمل، فإنه لا يتبين فى أقلَّ من ذلك، فإن عمر بن عبد العزيز سأل عن ذلك، وجمع أهلَ العلم والقوابلَ، فأخبروا أن الحملَ لا يتبين فى أقل من ثلاثة أشهر، فأعجبه ذلك، ثم قال: ألا تسمع قول ابن مسعود: إن النطفة تكون أربعين يوماً علقة، ثم أربعين يوماً مضغة بعد ذلك، فإذا خرجت الثمانون، صارت بعدها مضغةً، وهى لحم، فيتبين حينئذ.
قال ابن القاسم: قال لى: هذا معروف عند النساء. فأما شهر، فلا معنى فيه انتهى كلامه.
وعنه رواية ثالثة: أنها تُسْتَبْرَأُ بشهر ونصف، فإنه قال فى رواية حَنْبَل: قال عطاء: إن كانت لا تحيض، فخمسة وأربعون ليلة. قال حنبل: قال عمى: لذلك أذهب، لأن عدة المطلقة الآيسة كذلك، انتهى كلامه.
ووجه هذا القول: أنها لو طلقت وهى آيسة، اعتدت بشهر ونصفٍ فى رواية، فَلأَنْ تُسْتَبْرَأَ الأمةُ بهذا القدر أولى. وعن أحمد رواية رابعة: أنها تُستبرَأُ بشهرين، حكاها القاضى عنه، واستشكلها كثير من أصحابه، حتى قال صاحب "المغنى": ولم أر لذلك وجهاً. قال: ولو كان استبراؤُها بشهرين، لكان استبراءُ ذاتِ القُروء بقَرْءيْن، ولم نعلم به قائلاً.
ووجه هذه الرواية، أنها اعتبرت بالمطلَّقة، ولو طُلِّقتْ وهى أمة لكانت عدتُها شهرين، هذا هو المشهور عن أحمد رحمه الله، واحتج فيه بقول عمر رضى الله عنه، وهو الصواب، لأن الأشهُرَ قائمةٌ مقام القُروء، وعِدَّتة ذاتِ القُروء قَرءان، فبدلهما شهران، وإنما صرنا إلى استبراءِ ذاتِ القَرء بحيضة، لأنها عَلَم ظاهر على براءتها من الحمل، ولا يَحْصُلُ ذلك بشهر واحد، فلا بدَّ من مدة تظهر فيها براءتها، وهى إما شهران أو ثلاثة، فكانت الشهران أولى، لأنها جُعِلَتْ عَلماً على البراءة فى حق المطلَّقة، ففى حق المُسْتَبْرأَةِ أولى، فهذا وجه هذه الرواية. وبعدُ، فالراجح من الدليل: الاكتفاء بشهر واحد، وهو الذى دل عليه إيماء النص وتنبيهه، وفى جعل مدة استبرائها ثلاثة أشهر تسويةٌ بينها وبين الحرة، وجعلها بشهرين تسويةٌ بينها وبين المطلَّقة، فكان أولى المُدد بها شهراً، فإنه البدل التامُّ، والشارع قد اعتبر نظيرَ هذا البدل فى نظيرِ
الأمة، وهى الحرة، واعتبره الصحابة فى الأمة المطلَّقة، فصح عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: عِدَّتُها حيضتان، فإن لم تكن تحيض، فشهران، احتج به أحمد رحمه الله. وقد نص أحمد رحمه الله فى أشهر الروايات عنه على أنها إذا ارتفع حيضُها لا تدرى ما رَفَعَهُ، اعتدت بعشرة أشهر، تسعةٍ للحمل، وشهرٍ مكان الحيضة.
وعنه رواية ثانية: تعتدُّ بِسَنَةٍ، هذه طريقة الشيخ أبى محمد، قال: وأحمد ههنا جعل مكان الحيضة شهراً، لأن اعتبارَ تكرارِها فى الآيسةِ لِتُعْلَم براءتُها من الحمل، وقد علم براءتها منه ههنا بمضى غالب مُدَّته، فجعل الشهر مكان الحيضة على وفق القياس، وهذا هو الذى ذكره الخِرَقىُّ مفرِّقاً بين الآيسة، وبين من ارتفع حيضُها، فقال: فإن كانت آيسةً، فبثلاثة أشهر، وإن ارتفعَ حيضُها لا تدرى ما رَفَعَهُ، اعتدت بتسعة أشهر للحمل، وشهر مكان الحيضة.
وأما الشيخُ أبو البركات، فجعل الخلاف فى الذى ارتفع حيضُها، كالخلافِ فى الآيسةِ، وجعل فيها الروايات الأربع بعد غالب مدةِ الحملِ تسويةً بينها وبين الآيسة فقال فى "محرره": والآيسة، والصغيرة بمضى شهر. وعنه: بمضى ثلاثة أشهر وعنه: شهرين، وعنه: شهر ونصف. وإن ارتفع حيضها لا تدرى ما رَفَعَهُ، فبذلك بعد تسعة أشهر.
وطريقة الخِرَقى، والشيخ أبى محمد أصح، وهذا الذى اخترناه من الاكتفاء بشهر، هو الذى مال إليه الشيخ فى "المغنى" فإنه قال: ووجه استبرائها بشهرٍ، أن الله جعل الشهرَ مكان الحَيْضَةِ، ولذلك اختلفت الشهورُ باختلاف الحيضات، فكانت عِدة الحُرة الآيسةِ ثلاثَة أشهر مكانَ الثلاثة قُروء، وعِدَّة الأمة شهرين، مكان القَرْءيْن، وللأَمةِ المستبرأةِ التى ارتفع
حيضها عشرة أشهر، تِسعةٌ للحمل، وشهر مكان الحيضة، فيجب أن يكون مكانَ الحيضة هنا شهرٌ، كما فى حق من ارتفع حيضها.
قال: فإن قيل: فقد وجدتم ما دل على البراءة وهو تربص تسعة أشهر.
قلنا: وههنا ما يدل على البراءة وهو الإياس، فاستويا.
فصل ذكر أحكامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى البيوع
...
ذكر أحكامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى البيوع
ذكر حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يحرم بيعه
ثبت فى "الصحيحين": من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنهما، أنه سمع النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إن اللهَ ورسولَه حرَّم بيع الخمر، والميتةِ، والخِنزير، والأصْنَام". فقيل: يا رَسُول الله: أرأيت شُحوم الميتة، فإنها يُطلى بها السُّفن، ويُدهَنُ بها الجلودُ، ويَسْتَصْبِحُ بها الناسُ؟ فقال: "لاَ، هُوَ حَرَامٌ" ثم قَالَ رَسُولُ اللهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذلك: "قاتَلَ اللهُ اليَهُودَ إنَّ اللهَ لمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِم شُحُومَها جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فأَكلوا ثَمَنَهُ".
وفيها أيضاً: عن ابن عباسٍ، قال: بَلغَ عُمَرَ رضى الله عنه أنَّ سًمُرَةَ باع خمراً فقال: قاتلَ اللهُ سَمُرَةَ، ألم يعلمْ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَملُوهَا فَبَاعُوهَا".
فهذا من مسند عمر رضى الله عنه، وقد رواه البيهقىُّ، والحاكم
فى "مستدركه"، فجعلاه من "مسند ابن عباس"، وفيه زيادة، ولفظه: عن ابن عباس، قال: كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى المسجد، يعنى الحرامَ، فرفع بصرَهُ إلى السماءِ، فتبسَّم فقال: "لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ، لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ، لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ، لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ، إنَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ حَرَّمَ عَلَيْهمُ الشُّحُومَ، فَبَاعُوهَا، وَأَكَلُوا أَثْمانها، إنَّ اللهُ إذَا حَرَّمَ عَلى قَوْمٍ أَكْلَ شَىءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ". وإسناده صحيح، فإن البيهقى رواه عن ابن عبدان، عن الصفار، عن إسماعيل القاضى، حدثنا مُسدَّد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا خالد الحذَّاء، عن بركة أبى الوليد، عن ابن عباس.
وفى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة رضى الله عنه. نحوه، دون قوله: "إن الله إذا حَرَّم أَكْلَ شَىءٍ حَرَّمَ ثَمَنَهُ".
فاشتملت هذه الكلمات الجوامع على تحريم ثلاثة أجناس: مشاربَ تُفْسِدُ العقول ومطاعِمَ تُفْسِدُ الطِّبَاع وتغذِّى غِذاءً خبيثاً ؛ وأعيانٍ تُفْسِدُ الأديان، وتدعو إلى الفِتنةِ والشِّرْك.
فصانَ بتحريم النوع الأول العقولَ عما يُزيلها ويُفْسِدُها، وبالثانى: القلوبَ عما يُفْسِدها من وُصُولِ أثرِ الغذاءِ الخبيثِ إليها، والغاذى شبيهُ بالمغتذى، وبالثالث: الأديانَ عما وُضِعَ لإفسادها.
فتضمن هذا التحريمُ صِيانةَ العقولِ والقلوبِ والأديان
ولكن الشَّأنَ فى معرفة حدود كلامه صلوات الله عليه، وما يدخل فيه، وما لا يدخل فيه، لِتستبين عمومُ كلماته وجَمْعِهَا، وتناوُلِها لجميع الأنواع التى شَمِلَها عمومُ كلماتِهِ، وتأويلها بجميع الأنواع التى شَمِلَها عمومُ
لفظه ومعناه، وهذه خاصِيَّةُ الفهم عن اللهِ ورسولِه التى تفاوت فيه العلماءُ ويُؤتيه الله من يشاء.
فأمَّا تحريمُ بيعِ الخمرِ، فيدخل فيه تحريمُ بيعِ كلِّ مسكر، مائعاً كان، أو جامداً عصيراً، أو مطبوخاً، فيدخل فيه عَصيرُ العِنَبِ، وخَمرُ الزبيبِ، والتمر، والذُّرَةِ، والشَّعِيرِ، والعَسَل والحِنْطَةِ، واللقمةِ الملعونة، لقمة الفسق والقلب التى تُحرِّك القلبَ الساكنَ إلى أَخبثِ الأماكن، فإن هذا كُلَّه خَمْرٌ بنص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحيح الصَريح الذى لا مَطْعَنَ فى سنده، ولا إجمالَ فى متنه، إذ صح عنه قوله: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْر".
وصح عن أصحابه رضى الله عنهم الذين هم أعلمُ الأُمَّةِ بخطابه ومُراده: أنَّ الخَمْرَ مَا خَامَرَ العَقْلَ فدخولُ هذه الأنواع تحت اسم الخمر، كدخول جميع أنواع الذهب والفضَّةِ، والبُرِّ والشعيرِ، والتمرِ والزبيب، تحت قوله: "لا تبيعوا الذهبَ بالذهب، والفِضةَ بالفضة، والبُرَّ بالبُرِّ، والشَّعيرَ بالشَّعيرِ، والتمرِ، والملحَ بالملحِ إلا مِثْلاً بمثل".
فكما لا يجوز إخراجُ صِنْف من هذه الأصناف عن تناوُل اسمه له، فهكَذا لا يجوزُ إخراجُ صِنف من أَصناف المسكر عن اسم الخمر،
فإنه يتضمَّن محذورين.
أحدهما : أن يُخْرجَ مِن كلامه ما قصَدَ دخولَه فيه.
والثانى : أن يُشرع لذلك النوعِ الذى أخرج حكمٌ غير حكمه، فيكون تغييراً لألفاظ الشارع ومعانيه، فإنه إذا سمَّى ذلك النوعَ بغير الاسم الذى سَمَّاه به الشارع، أزال عنه حكم ذلك المسمَّى، وأعطاه حكماً آخر. ولما علم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن مِنْ أُمَتِهِ مِنْ يُبْتَلى بهذا، كما قال: "ليَشْرَبنَّ ناسٌ مِنْ أُمَّتى الخَمْرَ يُسَمُّونَها بِغَيْرِ اسْمِها". قضى قضية كليةً عامةً لا يتطرَّق إليها إجمال، وَلاَ احتمال، بل هى شافيةٌ كافيةُ، فقال: "كُلُّ مُسْكِر خَمْر" ، هذا ولو أن أبا عُبَيدة، والخليلَ وأضرابَهما مِن أئمة اللغة ذكروا هذه الكلمة هكذا، لقالوا: قد نصَّ أئمةُ اللغة على أنَّ كُلَّ مسكرٍ خمر، وقولُهم حجة، وسيأتى إن شاء الله تعالى عندَ ذِكْرِ هَدْيهِ فى الأطعمة والأشربة مزيدُ تقرير لهذا، وأنه لو لم يتناوله لفظُه،
لكان القياسُ الصريح الذى استوى فيه الأصلُ والفرعُ مِن كل وجه حاكماً بالتسوية بين أنواع المسكر فى تحريم البيع والشُّرْب، فالتفريقُ بينَ نوع ونوع، تفريقٌ بين متماثلين من جميع الوجوه.
فصل
وأما تحريمُ بيع الميتة، فيدخل فيه كُلُّ ما يسمَّى ميتةً، سواء مات حتف أنفه، أو ذُكِّىَ ذكَاةً لا تُفيد حِلَّه. ويدخل فيه أبعاضُها أيضاً.
ولهذا استشكل الصحابةُ رضى الله عنهم تحريمَ بيع الشحم، مع ما لهم فيه من المنفعة، فأخبرهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه حرامٌ وإن كان فيه ما ذكروا مِن المنفعة وهذا موضعٌ اختلف الناسُ فيه لاختلافهم فى فهم مرادِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أنَّ قوله: "لا، هوَ حرام": هل هو عائد إلى البيع، أو عائد إلى الأفعال التى سألوا عنها؟ فقال شيخُنا: هو راجع إلى البيع، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أخبرهم أنَّ حَرَّم بيع الميتة، قالوا: إن فى شحومها مِن المنافع كذا وكذا، يعنون، فهل ذلك مسوغ لبيعها؟ فقال: "لا، هو حَرَام".
قلت: كأنهم طلبوا تخصيصَ الشحوم من جملة الميتة بالجواز، كما طلب العباسُ رضى الله عنه تخصيصَ الإذْخر من جملة تحريم نَبات الحَرَمِ بالجواز، فلم يجبهم إلى ذلك، فقال: "لا، هو حرام".
وقال غيرُه من أصحاب أحمد وغيرهم: التحريمُ عائد إلى الأفعال المَسؤول عنها، وقال: هو حرام، ولم يقل: هى، لأنه أراد المذكورَ جميعَه، ويرجح قولهم عود الضمير إلى أقرب مذكور، ويرجحه من جهة المعنى أن إباحة هذه الأشياء ذريعةٌ إلى اقتناء الشحوم وبيعها،
ويُرجحه أيضاً: أن فى بعض ألفاظ الحديث، فقال: "لا، هى حرام"، وهذا الضمير إما أن يرجع إلى الشحوم، وإما إلى هذه الأفعال، وعلى التقديرين، فهو حُجَّةٌ على تحريم الأفعال التى سألوا عنها.
ويرجحه أيضاً قولُه فى حديث أبى هريرة رضى الله عنه فى الفأرة التى وقعت فى السمن: "إنْ كَانَ جَامِداً فَأَلقُوهَا ومَا حَوْلها وكُلُوهُ، وإنْ كَانَ مَائِعاً فَلا تَقْرَبُوهُ". وفى الانتفاع به فى الاستصباح وغيره قُربان له. ومن رجَّح الأول يقول: ثَبَتَ عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إنَّما حَرُمَ مِنَ المَيْتَةِ أَكْلُها"، وهذا صريحُ فى أنه لا يحرم الانتفاعُ بها فى غير الأكل، كالوقيدِ، وسَدِّ البُثوقِ، ونحوهما. قالوا: والخبيث إنما تحرُمُ ملابسته باطناً وظاهراً، كالأكل واللُّبْسِ، وأما الانتفاعُ به من غير مُلابسة، فَلأىِّ شىءٍ يحرم؟
قالوا: ومن تأمل سياقَ حديث جابر، علم أن السؤالَ إنما كان منهم عن البيع، وأنَّهم طلبوا منه أن يُرخِّص لهم فى بيع الشحوم، لما فِيها من المنافع، فأبى عليهم وقال: "هو حرام"، فإنهم لو سألوه عن حكم هذه الأفعال، لقالوا: أرأيتَ شحومَ الميتة، هل يجوز أن يَستصبحَ بها الناسُ، وتُدهَنَ بها الجلودُ ؛ ولم يقولوا: فإنه يفعل بها كذا وكذا، فإن هذا إخبار منهم، لا سؤال، وهم لم يُخبروه بذلك عقيبَ تحريم هذه الأفعال عليهم، ليكون قوله: "لا، هو حرام" صريحاً فى تحريمها، وإنما أخبروه به عقيبَ تحريم بيع الميتة، فكأنهم طلبوا منه أن يرخِّص
لهم فى بيع الشحوم لهذه المنافع التى ذكروها، فلم يفعل. ونهايةُ الأمر أن الحديثَ يحتمل الأمرين، فلا يحرم ما لم يعلمْ أنَّ الله ورسوله حَرَّمه.
قالوا: وقد ثبت عنه أنه نهاهم عن الاستسقاء مِن آبار ثمود، وأباح لهم أن يُطْعِمُوا ما عجنُوا مِنه من تلك الآبار للبهائم، قالوا: ومعلوم أن إيقادَ النجاسةِ والاستصباحَ بها انتفاعٌ خالٍ عن هذه المفَسْدَةِ، وعن ملابستها باطناً وظاهراً، فهو نَفْعٌ مَحْضٌ لا مفسدة فيه. وما كان هكذا، فالشريعةُ لا تحرِّمه، فإن الشريعة إنما تحرِّم المفاسدَ الخالصةَ أو الراجحةَ، وطرقَها وأسبابهَا الموصلةَ إليها.
قالوا: وقد أجاز أحمد فى إحدى الروايتين الاستصباحَ بشحوم الميتة إذا خالطت دُهناً طاهراً، فإنه فى أكثر الروايات عنه يجوز الاستصباحُ بالزيت النجِس، وطلىُ السفن به، وهو اختيارُ طائفة من أصحاب، منهم: الشيخ أبو محمد، وغيره، واحتج بأن ابن عمر أمر أن يُستصبحَ به.
وقال فى رواية ابنيه: صالح وعبد الله: لا يعجبنى بيع النَّجس، ويستصبحُ به إذا لم يمسوه، لأنه نجس، وهذا يعم النجِّسَ، والمتنجِّس، ولو قُدِّرَ أنه إنما أراد به المتنجِّس، فهو صريحٌ فى القول بجواز الاستصباح بما خالطه نجاسة ميتة أو غيرها، وهذا مذهبُ الشافعى، وأىُّ فرق بين الاستصباح بشحم الميتة إذا كان منفرداً، وبين الاستصباح به إذا خالطه دهن طاهر فنجسه؟
فإن قيل: إذا كان مفرداً، فهو نَجِسُ العين، وإذا خالطه غيره تنجس به،
فأمكن تطهيره بالغسل، فصار كالثوب النَّجِسِ، ولهذا يجوز بيع الدُّهْن المتنجِّس على أحد القولين دون دهن الميتة.
قيل: لا ريبَ أنَّ هذا هو الفرق الذى عَوَّل عليه المفرِّقون بينهما، ولكنه ضعيف لوجهين.
أحدهما: أنه لا يعرف عن الإمام أحمد، ولا عن الشافعى البتة غسل الدهن النجِّس، وليس عنهم فى ذلك كلمةٌ واحدةٌ، وإنما ذلك من فتوى بعض المنتسبين، وقد رُوى عن مالك، أنه يَطْهُر بالغسل، هذه رواية ابن نافع، وابن القاسم عنه.
الثانى: أن هذا الفرق وإن تأتَّى لأصحابه فى الزيت والشيرج ونحوهما، فلا يتأتَّى لهم فى جميع الأدهان، فإن منها ما لا يُمكن غسله، وأحمد والشافعى قد أطلقا القولَ بجواز الاستصباح بالدهن النجس من غير تفريق.
وأيضاً فإنَّ هذا الفَرْق لا يُفيد فى دفع كونه مستعملاً للخبيث والنجاسة، سواء كانت عينيةً أو طارئةً، فإنه إن حرم الاستصباح به لما فيه من استعمال الخبيث، فلا فرق، وإن حرم لأجل دُخان النجاسة، فلا فرق، وإن حرم لكون الاستصباح به ذريعة إلى اقتنائه، فلا فرق، فالفرق بين المذهبين فى جواز الاستصباح بهذا دونَ هذا لا معنى له.
وأيضاً فقد جوز جمهورُ العلماءِ الانتفاعَ بالسِّرقين النَّجس فى عمارةِ الأرض للزَّرْع، والثمر، والبقل مع نجاسة عينِه، وملابسةِ المستعمل له أكثر من ملابسة الموقَدِ، وظهورِ أثره فى البقول والزروع، والثمار، فوق ظهور أثر الوقيد، وإحالةُ النار أتم من إحالة الأرض، والهواء والشمس للسِّرقين، فإن كان التحريم لأجل دُخَان النَّجَاسَةِ، فَمن سَلَّمَ أن دُخَان النجاسةِ نجس، وبأىِّ كتاب، أم بأيَّةِ سُنَّةٍ ثبت ذلك؟ وانقلابُر
النجاسةِ إلى الدٌّخَان أتمُّ من انقلابِ عينِ السرقينِ والماءِ النجس ثمراً أو زرعاً، وهذا أمر لا يُشَكُّ فيه، بل معلوم بالحسِّ والمشاهدةِ، حتى جوز بعضُ أصحاب مالك، وأبى حنيفة رحمهما الله بَيْعَه، فقال ابن الماجشون: لا بأس ببيع العَذِرةِ، لأن ذلك من منافع الناس. وقال ابن القاسم: لا بأس ببيع الزِّبْل. قال اللخمىُّ: وهذا يدل من قوله على أنه يرى بيع العَذِرةِ. وقال أشهب فى الزِّبْل: المشترى أعذر فيه من البائع، يعنى فى اشترائه. وقال ابن عبد الحكم: لم يَعْذُر الله واحداً منهما، وهما سِيَّان فى الإِثم.
قلت: وهذا هو الصوابُ، وأن بيع ذلك حَرَامٌ وإن جاز الانتفاع به، والمقصود: أنه لا يلزم من تحريم بيع الميتة تحريمُ الانتفاع بها فى غير ما حرَّم الله ورسولُه منها كالوقيد، وإطعام الصقورِ والبُزاةِ وغير ذلك. وقد نص مالك على جواز الاستصباح بالزَّيْتِ النَّجس فى غير المساجد، وعلى جوازِ عملِ الصابون منه، وينبغى أن يُعْلَمَ أنَّ بَابَ الانتفاعِ أوسعُ من بابِ البيعِ، فليس كُلُّ مَا حَرُم بيعه حَرُمَ الانتفاع به، بل لا تلازم بينهما، فلا يؤخذ تحريمُ الانتفاع مِن تحريم البيع.
فصل
ويدخل فى تحريمِ بيعِ الميتة بيعُ أجزائها التى تحلُّها الحياة، وتُفارقها بالموت، كاللحم والشحم والعصب، وأما الشعرُ والوبرُ والصوف، فلا يدخل فى ذلك، لأنه ليس بميتة، ولا تحله الحياة. وكذلك قال جمهورُ أهل العلم: إن شعور الميتة وأصوافها وأوبارَها طاهرة إذا كانت من حيوان طاهر، هذا مذهب مالك وأبى حنيفة وأحمد بن حنبل، والليث، والأوزاعى،
والثورى، وداود، وابن المنذر، والمزنى، ومن التابعين: الحسن، وابن سيرين، وأصحاب عبد الله بن مسعود، وانفرد الشافعى بالقول بنجاستها، واحتجَّ له بأن اسمَ الميتة يتناولُها كَما يتناول سائر أجزائها بدليل الأثر والنظر، أما الأثرُ، ففى "الكامل" لابن عدى: من حديث ابن عمر يرفعه: "ادْفِنوا الأَظْفَارَ، والدَّمَ والشَّعَرَ، فَإنَّها مَيْتَةٌ". وأما النظر، فإنه متصل بالحيوان ينمو بنمائه، فينجس بالموت كسائر أعضائه، وبأنه شعر نابت فى محل نجس، فكان نجساً كشعر الخنزير، وهذا لأن ارتباطه بأصله خِلقة يقتضى أن يثبت له حكمُه تبعاً، فإنه محسوب منه عرفاً، والشارع أجرى الأحكامَ فيه على وفق ذلك، فأوجب غسله فى الطهارة، وأوجبَ الجزاء بأخذه من الصيد كالأعضاء، وألحقه بالمرأة فى النكاح والطلاقِ حلاً وحرمة، وكذلك ههنا، وبأن الشارعَ له تشوف إلى إصلاح الأموالِ وحفظها وصيانتها، وعدم إضاعتها. وقد قال لهم فى شاة ميمونة: "هلاَّ أَخَذْتُم إهَابهَا فَدَبَغْتُمُوه فَانْتَفَعْتُم بِهِ". ولو كان الشعر طاهراً، لكان إرشادُهم إلى أخذه أولى، لأنه أقلُّ كلفة، وأسهل تناولاً.
قال المطهِّرُونَ للشعور: قال الله تعالى: {ومِنْ أَصْوَافِهَا وَأوْبَارِهَا وأشْعَارِها أَثَاثاً ومَتَاعاً إلى حين} [النحل: 80]، وهذا يعم أحياءها وأمواتَها، وفى مسند أحمد: عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة، عن ابن عباس رضى الله عنه، قال: مرَّ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشاة لميمونة ميتة، فقال: "ألا انتفعتم بإهابها"، قالوا: وكيفَ وهى ميتة؟ قال:
"إنَّما حَرُمَ لَحْمُهَا". وهذا ظاهرٌ جداً فى إباحة ما سوى اللحم،
والشحمُ، والكبدُ والطحال، والألية كُلُّها داخلة فى اللحم، كما دخلت فى تحريم لحم الخنزير، ولا ينتقِضُ هذا بالعظم والقَرن، والظفر والحافِر، فإن الصحيحَ طهارة ذلك كما سنقرره عقيب هذه المسألة.
قالوا: ولأنه لو أُخِذَ حال الحياة، لكان طاهراً فلم ينجس بالموت كالبيض، وعكسه الأعضاء. قالُوا: ولأنه لما لم ينجس بجزه فى حال حياة الحيوان بالإجماع دل على أنه ليس جزءاً مِن الحيوان، وأنه لا روح فيه لأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ما أُبِينَ مِنْ حَىٍّ، فَهُوَ مَيْتَةٌ" ، رواه أهل السنن. ولأنه لا يتألَّم بأخذه، ولا يُحس بمسه، وذلك دليلُ عدم الحياة فيه، وأما النماء، فلا يدل على الحياة والحيوانية التى يتنجَّس الحيوان بمفارقتها، فإن مجرد النماء لو دلَّ على الحياة، ونجس المحل بمفارقة هذه الحياة، لتنجس الزرعُ بُيبسه، لمفارقة حياة النمو والاغتذاء له.
قالوا: فالحياةُ نوعان: حياة حس وحركة، وحياة نمو واغتذاء، فالأولى: هى التى يُؤثر فقدُها فى طهارة الحى دون الثانية.
قالوا: واللحمُ إنما ينجُس لاحتقان الرطوبات والفضلات الخبيثة فيه، والشعورُ والأصواف بريئة مِن ذلك، ولا ينتقض بالعظام والأظفار لما سنذكره.
قالوا: والأصلُ فى الأعيان الطهارة، وإنما يطرأ عليها التنجيس بإستحالتها، كالرجيع المستحيل عن الغذاء، وكالخمر المستحيل عن
العصير وأشباهها، والشعور فى حال استحالتها كانت طاهرة، ثم لم يعرض لها ما يُوجب نجاستَها بخلاف أعضاء الحيوان، فإنها عرض لها ما يقتضى نجاستها، وهو احتقانُ الفضلات الخبيثة.
قالوا: وأما حديثُ عبد الله بن عمر، ففى إسنادِه عبد الله بن عبد العزيز بن أبى رَوَّاد. قال أبو حاتم الرازى: أحاديثُه منكرة ليس محله عندى الصدق، وقال على بن الحسين بن الجنيد: لا يُساوى فلساً، يُحدث بأحاديث كذب.
وأما حديثُ الشاة الميتة، وقوله: "ألا انتفعتم بإهابها"، ولم يتعرض للشعر فعنه ثلاثةُ أجوبة:
أحدها: أنه أطلق الانتفاع بالإهاب، ولم يأمرهم بإزالة ما عليه من الشعر، مع أنه لا بُدَّ فيه من شعر، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُقيد الإهابَ المنتفع به بوجه دون وجه، فدل على أن الانتفاع به فرواً وغيره مما لا يخلو من الشعر.
والثانى: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أرشدهم إلى الانتفاعِ بالشعر فى الحديث نفسِه حيث يقول: " إنَّمَا حَرُمَ مِنَ المَيْتَةِ أَكْلُها أَوْ لحْمُها".
والثالث: أن الشعرَ ليس من الميتة ليتعرض له فى الحديث، لأنه لا يحلُّه الموتُ وتعليلُهم بالتبعية يبطلُ بجلد الميتة إذا دُبغَ، وعليه شعر، فإنه يطهرُ دونَ الشعر عندهم، وتمسكهم بغسله فى الطهارة يَبْطُلُ بالجبيرة، وتمسكهم بضمانه مِن الصيد يبطُل بالبيض، وبالحمل. وأما فى النكاح، فإنه يتبع الجملة لاتصاله، وزوال الجملة بإنفصاله عنها، وههنا لو فارق الجملة بعد أن تبعها فى التنجس، لم يُفارقها فيه عندهم، فعلم الفرق.
فصل
فإن قيل: فهل يدخُل فى تحريم بيعها تحريمُ بيع عظمها وقرنها وجلدها بعدَ الدباغ لشمول اسم الميتة لذلك؟ قيل: الذى يحرم بيعُه منها هو الذى يحرم أكلُه واستعمالُه، كما أشار إليه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "إنَّ الله تَعَالى إذَا حَرَّمَ شيئاً حَرَّمَ ثَمَنَهُ". وفى اللفظ الآخر: " إذَا حَرَّمَ أَكْلَ شَىءٍ، حَرَّمَ ثَمَنَهُ ". فنَّبه على أن الذى يحرم بيعهُ يحرم أكله.
وأما الجلد إذا دبغ، فقد صار عيناً طاهرة ينتفع به فى اللبس والفرش، وسائِر وجوه الاستعمال، فلا يمتنع جوازُ بيعه، وقد نص الشافعى فى كتابه القديم على أنه لا يجوز بيعُه، واختلف أصحابُه، فقال القفال: لا يتجه هذا إلا بتقدير قول يُوافق مالكاً فى أنه يطهر ظاهرُه دون باطنه، وقال بعضُهم: لا يجوز بيعُه، وإن طهر ظاهره وباطنه على قوله الجديد، فإنه جزءٌ من الميتة حقيقة، فلا يجوزُ بيعه كعظمها ولحمها. وقال بعضُهم: بل يجوزُ بيعه بعد الدبغ لأنه عين طاهرة يُنتفع بها فجاز بيعها كالمذكَّى، وقال بعضهم: بل هذا ينبنى على أن الدبغ إزالة أو إحالة، فإن قلنا: إحالة، جاز بَيعُه لأنه قد استحال من كونه جزء ميتة إلى عين أخرى، وإن قلنا: إزالة، لم يجزء بيعُه، لأن وصف الميتة هو المحرمُ لبيعه، وذلك باق لم يستحل.
وبنوا على هذا الخلاف جواز أكله، ولهم فيه ثلاثة أوجه: أكله مطلقاً، وتحريمه مطلقاً، والتفصيلُ بين جلد المأكول وغير المأكول، فأصحاب الوجه الأول، غلَّبُوا حكم الإحالة، وأصحاب الوجه الثانى،
غلَّبوا حكم الإزالة، وأصحاب الوجه الثالث أجروا الدباغَ مجرى الذكاة، فأباحوا بها ما يُباح أكله بالذكاة إذا ذكى دون غيره، والقولُ بجواز أكله باطل مخالف لصريح السنة، ولهذا لم يُمكن قائلُه القول به إلا بعد منعه كونَ الجلد بعد الدبغ ميتة، وهذا منع باطل، فإنه جلد ميتة حقيقة وحساً وحكماً، ولم يحدث له حياةٌ بالدبغ ترفع عنه اسم الميتة، وكون الدبغ إحالةً باطل حساً، فإن الجلد لم يستحل ذاتُه وأجزاؤه، وحقيقته بالدباغ، فدعوى أن الدباغ إحالة عن حقيقة إلى حقيقة أخرى، كما تُحيل النارُ الحطب إلى الرماد، والملاَّحة ما يُلقى فيها من الميتات إلى الملح دعوى باطلة.
وأما أصحاب مالك رحمه الله ففى "المدونة" لابن القاسم المنعُ من بيعها وإن دبغت، وهو الذى ذكره صاحب "التهذيب". وقال المازَرى: هذا هو مقتضى القول بأنها لا تطهرُ بالدباغ. قال: وأما إذا فرعنا على أنها تطهر بالدباغ طهارة كاملة، فإنا نُجيز بيعها لإباحة جملة منافعها.
قلت: عن مالك فى طهارة الجلد المدبوغ روايتان. إحداهما: يطهر ظاهرُه وباطنُه، وبها قال وهب، وعلى هذه الرواية جوز أصحابُه بيعه والثانية: وهى أشهر الروايتين عنه أنه يطهر طهارة مخصوصة يجوز معها استعمالُه فى اليابسات، وفى الماء وحده دون سائر المائعات، قال أصحابه: وعلى هذه الرواية لا يجوز بيعُه، ولا الصلاة فيه، ولا الصلاةُ عليه.
وأما مذهب الإمام أحمد: فإنه لا يصح عنده بيع جلد الميتة قبل دبغه. وعنه فى جوازه بعد الدبغ روايتان، هكذا أطلقهما الأصحابُ، وهما عندى مبنيتان على اختلاف الرواية عنه فى طهارته بعد الدباغ.
وأما بيعُ الدهن النجس، ففيه ثلاثة أوجه فى مذهبه.
أحدها: أنه لا يجوز بيعه.
والثانى: أنه يجوز بيعُه لكافر يعلم نجاسته، وهو المنصوص عنه. قلت: والمراد بعلم النجاسة: العلم بالسبب المنجس لا اعتقاد الكافر نجاسته.
والثالث: يجوز بيعه لكافر ومسلم. وخرج هذا الوجه من جواز إيقاده، وخرج أيضاً من طهارته بالغسل، فيكون كالثوب النجس، وخرج بعضُ أصحابه وجهاً ببيع السرقين النجس للوقيد مِن بيع الزيت النجس له، وهو تخريجٌ صحيح.
وأما أصحاب أبى حنيفة فجوزوا بيع السرقين النجس إذا كان تبعاً لغيره، ومنعوه إذا كان مفرداً.
فصل
وأما عظمُها، فمن لم ينجسه بالموت، كأبى حنيفة، وبعض أصحاب أحمد، واختيار ابن وهب من أصحاب مالك، فيجوز بيعُه عندهم، وإن اختلف مأخذ الطهارة، فأصحاب أبى حَنيفة قالوا: لا يدخل فى الميتة، ولا يتناولُه اسمها، ومنعوا كونَ الألم دليلَ حياته، قالُوا: وإنما تؤلمه لما جاوره من اللحم لا ذات العظم، وحملوا قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيى العِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ} [يس: 78]، على حذف مضاف، أى أصحابها. وغيرهُم ضعَّف هذا المأخذ جداً، وقال: العظم يألم، وألمه أشدُّ من ألم اللحم، ولا يَصِحُّ حمل الآية على حذف مضاف، لوجهين، أحدهما:
أنه تقدير ما لا دليل عليه، فلا سبيل إليه. الثانى: أن هذا التقدير يستلزم الإضراب عن جواب سؤال السائل الذى استشكل حياة العظام، فإن أُبىَّ ابْنَ خَلف أخذ عظماً بالياً، ثم جاء به إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففته فى يده، فقال: يا محمد، أترى الله يحيى هذا بعد ما رُمَّ؟ فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نعم، ويَبْعَثُكَ، ويُدْخِلُكَ النَّار".
فمأخذ الطهارة أن سببَ تنجيس الميتة منتفٍ فى العظام، فلم يُحكم بنجاستها، ولا يصح قياسها على اللحم، لأن احتقانَ الرطوبات والفضلات الخبيثة يختص به دونَ العظام، كما أن ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت، وهو حيوان كامل، لِعدم سبب التنجيس فيه. فالعظم أولى، وهذا المأخذُ أصح وأقوى من الأول، وعلى هذا، فيجوز بيعُ عظام الميتة إذا كانت من حيوان طاهر العين.
وأما من رأى نجاستها، فإنه لا يجوز بيعها، إذ نجاستها عينية، قال ابن القاسم: قال مالك: لا أري أن تُشترى عِظام الميتة ولا تباع، ولا أنياب الفيل، ولا يتجر فيها، ولا يمتشط بأمشاطها، ولا يدهن بمداهنها، وكيف يجعل الدهن فى الميتة ويمشط لحيته الميتة، وهى مبلولة، وكره أن يُطبخ بعظام الميتة، وأجاز مطرِّف، وابن الماجِشون بيعَ أنياب الفيل مطلقاً، وأجازه ابن وهب، وأصبغ إن غُليت وسُلِقت، وجعلا ذلك دباغاً لها.
فصل
وأما تحريمُ بيع الخنزير، فيتناولُ جملته، وجميعَ أجزائه الظاهرة والباطنة، وتأمل كيف ذكر لحمه عند تحريم الأكل إشارة إلى تحريم أكله ومعظمه اللحم، فذكر اللحم تنبيهاً على تحريم أكلِه دونَ ما قبله، بخلاف الصيد، فإنه لم يقل فيه: وحرم عليكم لحم الصيد، بل حرم نفس الصيد، ليتناول ذلك أكله وقتله. وههنا لما حرم البيع ذكر جملته، ولم يخص التحريمَ بلحمه ليتناول بيعه حياً وميتاً.
فصل
وأما تحريمُ بيع الأصنام، فُيستفاد منه تحريمُ بيع كُلِّ آلة متخذة للشرك على أى وجه كانت، ومن أى نوع كانت صنماً أو وثناً أو صليباً، وكذلك الكُتب المشتمِلَةُ على الشرك، وعبادة غير الله، فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها، وبيعُها ذريعةٌ إلي اقتناعها واتخاذها، فهو أولى بتحريم البيع مِن كل ما عداها، فإن مفسدةَ بيعها بحسب مفسدتها فى نفسها، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُؤخر ذِكرها لخفة أمرها، ولكنه تدرَّج من الأسهل إلى ما هو أغلظ منه، فإن الخمرَ أحسنُ حالاً مِن الميتة، فإنها تصيرُ مالاً محترماً إذا قلبها اللهُ سبحانه ابتداء خّلاً، أو قلبها الآدمى بصنعته عند طائفة من العلماء، تُضمن إذا أتلفت على الذمى عند طائفة بخلاف الميتة، وإنما لم يجعل الله فى أكل الميتة حداً اكتفاء بالزاجر الذى جعله الله فى الطباع مِن كراهتها والنفرة عنها، وإبعادها عنها، بخلاف الخمر. والخنزير أشدُّ تحريماً من الميتة، ولهذا أفرده الله تعالى بالحكم عليه أنه رجس فى
قوله: {قُلْ لاَ أَجدُ فِيمَا أُوحِىَ إلىَّ مُحرَّماً عَلى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً} [الأنعام: 145]، فالضمير فى قوله: "فإنه" وإن كان عوده إلى الثلاثة المذكورة بإعتبار لفظ المحرم، فإنه يترجح اختصاص لحم الخنزير به لثلاثة أوجه. أحدها: قربُه منه، والثانى: تذكيرُه دون قوله، فإنها رجس، والثالث: أنه أتى
"بالفاء" و"إنَّ" تنبيهاً على علة التحريم لتزجر النفوسُ عنه، ويقابل هذه العلة ما فى طباع بعض الناس من استلذاذه، واستطابته، فنفى عنه ذلك، وأخبر أنه رجس، وهذا لا يحتاج إليه فى الميتة والدم لأن كونهما رجساً أمر مستقر معلوم عندهم، ولهذا فى القرآن نظائر، فتأملها. ثم ذكر بعدُ تحريمُ بيع الأصنام، وهو أعظمُ تحريماً وإثماً، وأشد منافاة للإسلام من بيع الخمر والميتة والخنزير.
فصل
وفى قوله: "إنَّ الله إذا حَرَّم شَيْئاً أو حَرَّم أكل شَىءٍ حَرَّمَ ثمنه"، يُراد به أمران، أحدهُما: ما هو حرام العين والانتفاع جملة، كالخمر، والميتة، والدم، والخنزير، وآلات الشرك، فهذه ثمنها حرام كيفما اتفقت.
والثانى: ما يُباح الانتفاعُ به فى غير الأكل، وإنما يحرم أكلُه، كجلد الميتة بعد الدباغ، وكالحمر الأهلية، والبغال ونحوها مما يحرم أكلُه دونَ الانتفاع به، فهذا قد يُقال: إنه لا يدخل فى الحديث، وإنما يدخل فيه ما هو حرام على الإطلاق. وقد يقال: إنه داخل فيه، ويكون تحريم
ثمنه إذا بيع لأجل المنفعة التى حرمت منه، فإذا بيع البغل والحمار لأكلهما، حرم ثمنهما بخلاف ما إذا بيعا للركوب وغيره، وإذا بيع جلد الميتة للانتفاع به، حل ثمنه. وإذا بيع لأكله، حرم ثمنه، وطرد هذا ما قاله جمهور من الفقهاء، كأحمد، ومالك وأتباعهما: إنه إذا بيع العنب لمن يعصره خمراً، حرم أكل ثمنه. بخلاف ما إذا بيع لمن يأكله، وكذلك السلاحُ إذا بيع لمن يُقاتل به مسلماً، حرم أكل ثمنه، وإذا بيع لمن يغزو به فى سبيل الله، فثمنه من الطيبات، وكذلك ثيابُ الحرير إذا بيعت لمن يلبسُها ممن يحرم عليه، حرم أكل ثمنها بخلاف بيعها ممن يحل له لبسها.
فإن قيل: فهل تُجوِّزون للمسلم بيعَ الخمر والخنزير مِن الذمى لاعتقاد الذمى حلهما، كما جوزتم بيعه الدهن المتنجس إذا بين حاله لاعتقاده طهارته وحله؟ قيل: لا يجوز ذلك، وثمنُه حرام، والفرقُ بينهما: أن الدهن المتنجس عين طاهرة خالطها نجاسة، ويسوغ فيها النزاعُ. وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أنه لا ينجس إلا بالتغير. وإن تغير، فذهب طائفة إلى إمكان تطهيره بالغسل، بخلاف العين التى حرمها الله فى كُلِّ ملة، وعلى لسان كل رسول، كالميتة، والدم، والخنزير، فإن استباحته مخالفة لما أجمعت الرسلُ على تحريمه، وإن اعتقد الكافرُ حِلَّه، فهو كبيع الأصنام للمشركين، وهذا هو الذى حرَّمه الله ورسولُه بعينه، وإلا فالمسلمُ لا يشترى صنماً.
فإن قيل: فالخمر حلال عند أهل الكتاب، فجوَّزوا بيعها منهم.
قيل: هذا هو الذى توهمه من توهمه من عمال عمر بن الخطاب رضى الله عنه، حتى كتب إليهم عمر رضى الله عنه ينهاهم عنه، وأمر عماله أن يُولوا أهل الكتاب بَيعها بأنفسهم، وأن يأخذوا ما عليهم من
أثمانها، فقال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان بن سعيد، عن إبراهيم بن عبد الأعلى الجعفى، عن سويد بن غفلة، قال: بلغ عمر بن الخطاب رضى الله عنه، أن ناساً يأخذون الجزية من الخنازير، فقام بلال، فقال: إنهم ليفعلون، فقال عمر رضى الله عنه: لا تفعلُوا، ولُّوهم بيعها.
قال أبو عبيد: وحدثنا الأنصارى، عن إسرائيل، عن إبراهيم ابن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة، أن بلالاً قال لعمر رضى الله عنه: إن عُماَلك يأخذون الخمر والخنازير فى الخراج، فقال: لا تأخذوا منهم، ولكن ولوهم بيعها، وخذوا أنتم من الثمن.
قال أبو عبيد: يريد أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير مِن جزية رؤوسهم، وخراج أرضهم بقيمتها، ثم يتولَّى المسلمون بيعها، فهذا الذى أنكره بلال، ونهى عنه عمرُ، ثم رخص لهم أن يأخذوا ذلك من أثمانها إذا كان أهلُ الذمة هم المتولين لبيعها، لأن الخمر والخنازير مالٌ من أموال أهل الذمة، ولا تكون مالاً للمسلمين.
قال: ومما يُبين ذلك حديثُ آخرُ لعمر رضى الله عنه حدثنا على ابن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن ليث بن أبى سليم، أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كتب إلى العمال يأمرهم بقتل الخنازير وقبض أثمانها لأهل الجزية مِن جزيتهم. قال أبو عُبيد: فهو لم يجعلها قِصاصاً من الجزية إلا وهو يراها من أموالهم. فأما إذا مر الذمى بالخمر والخنازير على
العاشر، فإنه لا يطيبُ له أن يُعشِّرها، ولا يأخذ ثمن العشر منها. وإن كان الذمى هو المتولى لبيعها أيضاً، وهذا ليس مِن الباب الأول، ولا يشبهه، لأن ذلك حقٌ وجب على رقابهم وأرضيهم، وأن العشر ههنا إنما هو شىء يُوضع على الخمر والخنازير أنفسها، وكذلك ثمنها لا يطيبُ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه". وقد روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، أنه أفتى فى مثلِ هذا بغير ما أفتى به فى ذاك، وكذلك قال عمرُ بن عبد العزيز.
حدثنا أبو الأسود المصرى، حدثنا عبدُ الله بن لهيعة، عن عبد الله بن هُبيرة السَّبَائِى أن عُتبة بن فرقد بعث إلى عمرَ بنِ الخطاب بأربعينَ ألفَ درهم صدقة الخمر، فكتب إليه عمر رضى الله عنه: بعثت إلىَّ بصدَقِة الخمر، وأنت أحقُّ بها من المهاجرين، وأخبرَ بذلك الناس، وقال: والله لا استعملتُك على شىءِ بعدها، قال: فتركه.
حدثنا عبد الرحمن، عن المثنى بن سعيد الضبعى، قال: كتب عمرُ بن عبد العزيز إلى عدىِّ بن أرطاة، أن ابعث إلىَّ بتفصيل الأموال التى قِبلَك، من أين دخلت؟ فكتبَ إليه بذلك وصنفه له، وكان فيما كتب إليه من عشر الخمر أربعة آلاف درهم. قال: فلبثنا ما شاءَ الله، ثم جاءه جوابُ كتابه: إنك كتبتَ إلىَّ تذكر من عشور الخمر أربعة آلاف درهم، وإن الخمر لا يُعشرها مسلم، ولا يشتريها، ولا يبيعُها، فإذا أتاك كتابى هذا، فاطلب الرجلَ، فاردُدْها عليه، فهو أولى بما كان فيها. فطلب الرجل، فَرَدَّتْ عليه.
قال أبو عُبيد: فهذا عندى الذى عليه العمل، وإن كان إبراهيم
النخعى قد قال غير ذلك. ثم ذكر عنه فى الذمى يمرُّ بالخمر على العاشر، قال: يضاعف عليه العشور.
قال أبو عُبيد: وكان أبو حنيفة يقول: إذا مُرَّ على العاشر بالخمر والخنازير، عَشَّرَ الخمر، ولم يُعشِّرِ الخنازيرَ، سمعتُ محمد بن الحسن يُحدِّث بذلك عنه، قال أبو عبيد: وقول الخليفتين عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز رضى الله عنهما أولى بالاتباع، والله أعلم.
حَكمُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ثمن الكَلْبِ والسِّنَّورِ
فى "الصحيحين": عن أبى مسعود، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عَنْ ثَمَن الكَلْبِ وَمَهْرِ البَغِىِّ، وحُلْوَانِ الكَاهِنِ.
وفى صحيح مسلم: عن أبى الزبير، قال: سألتُ جابراً عن ثمن الكلب والسِّنور فقال: زَجَرَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك.
وفى سنن أبى داود: عنه أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن ثمن الكَلْبِ والسِّنَّوْرِ.
وفى صحيح مسلم: من حديث رافع بن خَديج، عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: "شَرُّ الكَسْبِ مَهْرُ البَغِىّ وثَمَنُ الكَلْبِ وكَسْبُ الحَجَّامِ".
فتضمنت هذه السنن أربعة أمور.
أحدُها: تحريمُ بيع الكلب، وذلك بتناولُ كل كلب صغيراً كانَ أو كبيراً للصيد، أو للماشية، أو للحرث، وهذا مذهبُ فقهاءِ أهلِ الحديثِ قاطبة، والنزاعُ فى ذلك معروف عن أصحاب مالك، وأبى حنيفة، فجوز أصحابُ أبى حنيفة بيعَ الكلاب، وأكل أثمانها، وقال القاضى عبد الوهَّاب: اختلف أصحابُنا فى بيع ما أذن فى اتخاذه من الكلاب، فمنهم من قال: يُكره، ومنهم من قال: يَحرم، انتهى.
وعقدَ بعضُهم فصلاً لما يصح بيعُه، وبنى عليه اختلافهم فى بيع الكلب، فقال: ما كانت منافعُه كلُّها محرمة لم يجز بيعه، إذ لا فرق بين المعدوم حساً، والممنوع شرعاً، وما تنوَّعَتْ منافِعُه إلى محللة ومحرمة، فإن كان المقصودُ مِن العين خاصة كان الاعتبارُ بها، والحكم تابع لها، فاعتُبِرَ نوعُها، وصار الآخر كالمعدوم. وإن توزعت فى النوعين، لم يَصِحَّ البيعُ، لأن ما يُقابل ما حرم منها أكل مال بالباطل، وما سواه من بقية الثمن يصير مجهولاً.
قال: وعلى هذا الأصل مسألةُ بيعِ كلب الصيد، فإذا بُنى الخلافُ فيها على هذا الأصل، قيل: فى الكلب من المنافع كذا وكذا، وعُددت جملة منافعه، ثم نظر فيها، فمن رأى أن جملتها محرمة، منع، ومن رأى جميعَها مُحَلَّلَة، أجاز، ومن رآها متنوعة، نظر: هل المقصودُ المحلل،
أو المحرم، فجعل الحكمَ للمقصود، ومن رأى منفعة واحدة منها محرمة وهى مقصودة، منع أيضاً، ومن التبس عليه كونُها مقصودة، وقف أو كره، فتأمل هذا التأصيلَ والتفصيل، وطابق بينهما يظهر لك ما فيهما مِن التناقض والخلل، وأن بناءَ بيع كلب الصيد على هذا الأصل مِن أفسد البناء، فإن قوله: من رأى أن جملة منافع كلب الصيد محرمة بعد تعديدها، لم يجز بيعُه، فإن هذا لم يقله أحدٌ من الناس قط، وقد اتفقت الأمة على إباحة منافع كلب الصيد من الاصطياد والحراسة، وهما جُلُّ منافعه، ولا يُقتنى إلا لذلك، فمن الذى رأى منافعه كُلَّها محرمة، ولا يصح أن تراد منافعه الشرعية؟ فإن إعارتَه جائزة.
وقوله: ومن رأى جميعها محللة، أجاز، كلامٌ فاسِدٌ أيضاً، فإن منافعه المذكورة محللة اتفاقاً، والجمهور على عدم جواز بيعه.وقوله: ومن رآها متنوعة، نظر، هل المقصود المحلل أو المحرم؟ كلامٌ لا فائدة تحته البتة، فإن منفعةَ كلب الصيد هى الاصطيادُ دون الحراسة، فأين التنوعُ وما يُقدَّرُ فى المنافع من التحريم يُقدَّرُ مثلُه فى الحمار والبغل؟ وقوله: ومن رأى منفعة واحدة محرمة وهى مقصودة، منع. أظهرُ فساداً مما قبله، فإن هذه المنفعةَ المحرمة ليست هى المقصودةَ من كلب الصيد، وإن قُدِّرَ أن مشتريَه قصدها، فهو كما لو قصد منفعة محرمة من سائر ما يجوز بيعه، وتبين فساد هذا التأصيل، وأن الأصل الصحيح هو الذى دل عليه النصُّ الصريح الذى لا معارض له البتة من تحريم بيعه.
فإن قيل: كلبُ الصيد مستثنى من النوع الذى نهى عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بدليل ما رواه الترمذى، من حديث جابر رضى الله عنه، أن
النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، إلا كلبَ الصَّيْدِ.
وقال النسائى: أخبرنى إبراهيم بن الحسن المصيصى، حدثنا حجاج ابن محمد، عن حماد بن سلمة، عن أبى الزبير، عن جابر رضى الله عنه، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن ثَمَنِ الكَلْبِ والسِّنَّورِ، إلا كلبَ الصيد.
وقال قاسم بن أصبغ: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا ابنُ أبى مريم، أخبرنا يحيى بن أيوب، حدثنا المثَّنى بن الصبَّاح، عن عطاء بن أبى رباح، عن أبى هُريرة رضى الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ثَمَنُ الكَلْبِ سُحْتٌ إلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ".
وقال ابن وهب عَمَّن أخبره، عن ابن شهاب، عن أبى بكر الصِّديق رضى الله عنه، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ثَلاثٌ هُنَّ سحْتٌ: حُلْوانُ الكاهِنِ، ومَهْرُ الزانِية، وثَمَنُ الكلبِ العَقُور".
وقال ابن وهب: حدثنى الشِّمْرُ بن عبد اللّتَه بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، أنَّ النَبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ العَقُورِ.
ويدل على صحة هذا الاستثناء أيضاً، أن جابراً أحد من روى عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النهىَ عن ثمنِ الكلب، وقد رخَّص جابر نفسُه فى ثمن كلب الصيد، وقولُ الصحابى صالح لتخصيص عمومِ الحديث عند من جعله حجة، فكيف إذا كان معه النصُّ بإستثنائه والقياس؟ وأيضاً لأنه يُباح الانتفاع به، ويَصِحُّ نقلُ اليد فيه بالميراث، والوصية، والهبة، وتجوزُ إعارته وإجارته فى أحد قولى العلماء، وهما وجهان للشافعية، فجاز بيعه كالبغل والحمار.
فالجواب: أنه لا يَصِحُّ عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استثناءُ كلب الصيد بوجه: أما حديث جابر رضى الله عنه، فقال الإمام أحمد وقد سئل عنه: هذا مِن الحسن بن أبى جعفر، وهو ضعيف، وقال الدارقطنى: الصواب أنه موقوف على جابر. وقال الترمذى: لا يصح إسناد هذا الحديث.
وقال فى حديث أبى هريرة رضى الله عنه: هذا لا يصح، أبو المهزِّم ضعيف، يريد روايه عنه. وقال البيهقى: روى عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النهىَ عن ثمن الكلب جماعةٌ، منهم: ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، ورافع بن خديج، وأبو جُحيفة، اللفظ مختلف، والمعنى واحد. والحديث الذى روُى فى استثناء كلب الصيد لا يصح وكأن مَنْ رواه أراد حديث النهى عن اقتنائه، فَشُبِّهَ عليه، والله أعلم.
وأما حديثُ حماد بن سلمة، عن أبى الزبير، فهو الذى ضعفه الإمام أحمد رحمه الله بالحسن بن أبى جعفر، وكأنَّه لم يقع له طريق حجاج ابن محمد، وهو الذى قال فيه الدارقطنى: الصواب أنه موقوف، وقد
أعله ابن حزم، بأن أبا الزبير لم يصرح فيه بالسماع من جابر، وهو مدلس، وليس من رواية الليث عنه. وأعلَّه البيهقىُّ بأن أحدَ رواته وهم من استثناء كلب الصيد مما نُهِىَ عن اقتنائه من الكلاب، فنقله إلى البيع. قلت: ومما يدل على بطلانِ حديثِ جابر هذا، وأنه خُلِّطَ عليه أنه صَحّ عنه، أنه قال: أربعٌ من السحت: ضِرَابُ الفَحْل، وثمنُ الكلب، ومَهْرُ البغىِّ، وكسب الحجام. وهذا علة أيضاً للموقوف عليه من استثناء كلب الصيد، فهو علة للموقوف والمرفوع.
وأما حديثُ المثَّنى بن الصبَّاح، عن عطاء، عن أبى هريرة رضى الله عنه، فباطل، لأن فيه يحيى بن أيوب، وقد شهد مالك عليه بالكذب، وجرَّحه الإمام أحمد. وفيه المثنى بن الصباح، وضعفه عندهم مشهور، ويدل على بطلان الحديث ما رواه النسائى، حدثنا الحسن بن أحمد بن حبيب، حدثنا محمدبن عبد الله بن نمير حدثنا أسباط، حدثنا الأعمش، عن عطاء بن أبى رباح، قال: قال أبو هريرة رضى الله عنه: أربعٌ مِن السُّحت، ضِرَابُ الفَحْلِ، وثَمَنُ الكَلْبِ، ومَهْرُ البَغىِّ، وكَسْبُ الحَجَّامِ.
وأما الأثر عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه، فلا يُدرى من أخبر ابنَ وهب عن ابن شهاب، ولا من أخبرَ ابنَ شهاب عن الصديق رضى الله عنه، ومثل هذا لا يُحتج به.
وأما الأثرُ عن على رضى الله عنه: ففيه ابن ضميرة فى غاية الضعف، ومثلُ هذه الآثار الساقطة المعلولة لا تُقدم على الآثار التى رواها الأئمة الثقاتُ الأثبات، حتى قال بعضُ الحفاظ: إن نقلها نقلُ تواتر، وقد ظهر أنه لم يَصِحَّ عن صحابى خلافها البتة، بل هذا جابر، وأبو هريرة، وابن عباس
يقولون: ثمنُ الكلب خبيث.
قال وكيع: حدثنا إسرائيل، عن عبد الكريم، عن قيس بن حَبْتَرٍ، عن ابن عباس رضى الله عنهما يرفعه: "ثَمَنُ الكَلْبِ، ومَهْرُ البَغِىِّ، وثَمَنُ الخَمْرِ حَرَامٌ".
وهذا أقل ما فيه أن يكون قولَ ابن عباس.
وأما قياسُ الكلب على البغل والحمار، فمن أفسد القياس، بل قياسُه على الخنزير أصحُّ من قياسه عليهما، لأن الشبَه الذى بينه وبَين الخنزير أقربُ مِن الشبه الذى بينَه وبينَ البغل والحمار، ولو تعارض القياسانِ لكان القياسُ المؤيَّد بالنصِّ الموافق له، أصحَّ وأولى من القياس المخالف له.
فإن قيل: كان النهىُ عن ثمنها حينَ كان الأمر بقتلها، فلما حَرُمَ قتلُها، وأبيحَ اتخاذُ بعضها، نُسِخَ النهىُ، فنسخ تحريمُ البيع.
قيل: هذه دعوى باطلة ليس مع مدعيها لصحتها دليل، ولا شُبهة، وليس فى الأثر ما يدل على صحة هذه الدَعْوَى البتة بوجه من الوجوه، ويدل على بطلانها: أن أحاديثَ تحريمِ بيعها وأكل ثمنها مطلقة عامة كُلّها، وأحاديثُ الأمر بقتلها، والنهى عن اقتنائها نوعان: نوع كذلك وهو المتقدم، ونوع مقيَّد مخصص وهو المتأخر، فلو كان النهى عن بيعها مقيداً مخصوصاً، لجاءت به الآثارُ كذلك، فلما جاءت عامة مطلقة، عُلثمَ أن عمومَها وإطلاقَها مراد، فلا يجوز إبطالُه. والله أعلم.
فصل
الحكم الثانى: تحريمُ بيع السِّنور، كما دل عليه الحديثُ الصحيح الصريح الذى رواه جابر، وأفتى بموجبه، كما رواه قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن وضَّاح، حدثنا محمد بن آدم، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبى الزبير، عن جابر بن عبد الله، أنه كره ثمن الكلب والسنور. قال أبو محمد: فهذه فتيا جابر بن عبد الله، أنه كره بما رواه، ولا يُعرف له مخالف مِن الصحابة، وكذلك أفتى أبو هريرة رضى الله عنه، وهو مذهبُ طاووس، ومجاهد، وجابر بن زيد، وجميع أهل الظاهر، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهى اختيارُ أبى بكر عبد العزيز، وهو الصواب لصحة الحديث بذلك، وعدم ما يُعارضه، فوجب القولُ به.
قال البيهقى: ومن العلماء من حمل الحديث على أن ذلك حين كان محكوماً بنجاستها، فلما قال النبى ُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجَسٍ". صار ذلك منسوخاً فى البيع. ومنهم من حمله على السنور إذا توحَّش، ومتابعة ظاهر السنة أولى. ولو سمع الشافعى رحمه الله الخبر الواقع فيه، لقال به إن شاء الله، وإنما لا يقول به مَنْ توقَّف فى تثبيت روايات أبى الزبير، وقد تابعه أبو سفيان عن جابر على هذه الرواية من جهة عيسى بن يونس، وحفص بن غياث عن الأعمش، عن أبى سفيان انتهى كلامه. منهم من حمله على الهرِّ الذى ليس بمملوك، ولا يخفى ما فى هذه
المحامل مِن الوهن.
فصل
والحكم الثالث: مهر البغى، وهو ما تأخذُه الزانية فى مقابل الزنى بها، فحكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ذلك خبيثٌ على أى وجه كان، حرةً كانت أو أمةً، ولا سيما فإن البغاء إنما كان على عهدهم فى الإماء دون الحرائر، ولهذا قالت هند: وقت البيعة: "أو تزنى الحُرة؟" ولا نزاع بين الفقهاء فى أن الحرة البالغة العاقلة إذا مكنت رجلاً من نفسها فزنى بها أنه لا مهرَ لها.
واختلف فى مسألتين. إحداهما: الحرة المكرهة. والثانية: الأمة المطاوعة، فأما الحرة المكرهة على الزنى، ففيها أربعة أقوال، وهى روايات منصوصات عن أحمد.
أحدها: أن لها المهر بكراً كانت أو ثيباً، سواء وطئت فى قبلها أو دبرها.
والثانى: أنها إن كانت ثيباً، فلا مهر لها، وإن كانت بكراً، فلها المهرُ، وهل يجب معه أرشُ البكارة؟ على روايتين منصوصتين، وهذا القولُ اختيارُ أبى بكر.
والثالث: أنها إن كانت ذاتَ محرم، فلا مهر لها، وإن كانت أجنبية، فلها المهر.
الرابع: أن من تحرم ابنتها كالأم والبنت والأخت، فلا مهر لها، ومن تحل ابنتها كالعمة والخالة، فلها المهر.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا مهر للمكرهة على الزنى بحال، بكراً كانت أو ثيباً.
فمن أوجب المهر. قال: إن استيفاء هذه المنفعة جعل مقوماً فى الشرع بالمهر، وإنما لم يجب للمختارة، لأنها باذلة للمنفعة التى عوضها لها، فلم يجب لها شىء، كما لو أذنت فى إتلاف عضو من أعضائها لمن أتلفه.
ومن لم يُوجبه قال: الشارعُ إنما جعل هذه المنفعة متقومة بالمهرِ فى عقد أو شبهة عقد، ولم يُقومها بالمهر فى الزنى البتة، وقياس السفاح على النكاح من أفسد القياس. قالوا: وإنما جعل الشارعُ فى مقابلة هذا الاستمتاع الحدَّ والعُقوبة، فلا يجمع بينَه وبينَ ضمان المهر. قالوا: والوجوب إنما يُتلقى من الشرع من نص خطابه أو عمومه، أو فحواه، أو تنبيهه، أو معنى نصِّه، وليس شىء من ذلك ثابتاً متحققاً عنه. وغاية ما يُدعى قياسُ السفاح على النكاح، ويا بُعد ما بينهما. قالوا: والمهر إنما هو مِن خصائص النكاح لفظاً ومعنى، ولهذا إنما يُضاف إليه فيقال: مهر النكاح، ولا يُضاف إلى الزنى، فلا يقال: مهر الزنا، وإنما أطلق النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهر وأراد به العقد، كما قال: "إنَّ اللهَ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ والميْتَةِ والخِنزِيرِ والأَصْنَامِ". وكما قال: "ورَجُلٌ بَاعَ حُراً فَأكَلَ ثَمَنَهُ". ونظائرُه كثيرة.
والأولون يقولون: الأصلُ فى هذه المنفعة، أن تقوَّم بالمهر، وإنما أسقطه الشارعُ فى حق البغى، وهى التى تزنى بإختيارها، وأما المكرهة على الزنى فليست بغياً، فلا يجوز إسقاطُ بدلِ منفعتها التى أُكرهت على
استيفائها، كما لو أُكرِهَ الحر على استيفاء منافعه، فإنه يلزمُه عوضها، وعوضُ هذه المنفعة شرعاً هو المهر، فهذا مأخذ القولين. ومن فرَّق بين البكر والثيب، رأى أن الواطىء لم يذهب على الثيب شيئاً، وحسبُه العقوبة التى ترتبت على فعله، وهذه المعصية لا يُقابلها شرعاً مال يلزم من أقدم عليها، بخلاف البكر، فإنه أزال بكارتها، فلا بُد من ضمان ما أزاله، فكانت هذه الجنايةُ مضمونةً عليه فى الجملة، فضمن ما أتلفه مِن جزء منفعة، وكانت المنفعة تابعة للجزء فى الضمان، كما كانت تابعة له فى عدمه من البكر المطاوعة.
ومن فرَّق بين ذوات المحارم وغيرهن، رأى أن تحريمهن لما كان تحريماً مستقراً، وأنهن غيرُ محل الوطء شرعاً، كان استيفاءُ هذه المنفعة منهن بمنزلة التلوط، فلا يوجب مهراً وهذا قولُ الشعبى، وهذا بخلاف تحريم المصاهرة، فإنه عارض يُمكن زوالُه.
قال صاحب "المغنى": وهكذا ينبغى أن يكون الحكم فيمن حرمت بالرضاع، لأَنَِّهُ طَارىءُ أيضاً. ومن فرَّق فى ذوات المحارم، بينَ مَنْ تحرم ابنتها، وبين من لا تحرُم، فكأنه رأى أن من لا تحرم ابنتها تحريمها أخف مِن تحريم الأخرى، فأشبه العارض.
فإن قيل: فما حكمُ المكرهة على الوطء فى دُبرها، أو الأمة المطاوعة على ذلك؟ قيل: هو أولى بعدم الوجوب، فهذا كاللواط لا يجب فيه المهر اتفاقاً.
وقد اختلف فى هذه المسألة الشيخانِ، أبو البركات ابن تيمية، وأبو محمد بن قدامة، فقال أبو البركات فى "محرره": ويجب مهرُ المثل
للموطوءة بشبهة، والمكرَهَة على الزنى فى قبل أو دبر، وقال أبو محمد فى "المغنى": ولا يجب المهرُ بالوطء فى الدبر، ولا اللواط، لأن الشرع لم يَرِدُ ببَدَلِه، ولا هو إتلافٌ لشىء، فأشبه القبلة والوطءَ دونَ الفرج، وهذا القولُ هو الصوابُ قطعاً، فإن هذا الفعل لم يجعل له الشارعُ قيمة أصلاً، ولا قدَّر له مهراً بوجه من الوجوه، وقياسُه على وطء الفرج مِن أفسد القياس، ولازم من قاله إيجابُ المهر لمن فعلت به اللوطية مِن الذكور، وهذا لم يقل به أحد البتة.
فصل
وأما المسألة الثانية: وهى الأمة المطاوعة، فهل يجب لها المَهر؟ فيه قولان. أحدُهما: يِجبُ، وهو قولُ الشافعى، وأكثر أصحاب أحمد رحمه الله. قالوا: لأن هذه المنفعة لغيرها، فلا يسقط بدلها مجاناً، كما لو أذنت فى قطع طرفها. والصوابُ المقطوع به: أنه لا مهر لها، وهذه هى البغىُّ التى نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مهرها، وأخبر أنه خبيثٌ، وحكم عليه وعلى ثمنِ الكلب، وأجرِ الكاهن بحكم واحد، والأمة داخلة فى هذا الحكم دخولاً أولياً، فلا يجوز تخصيصُها مِن عمومه لأن الإماء هن اللاتى كُن يُعرفن بالبغاء، وفيهن وفى ساداتهن أنزل اللهُ تعالى: {ولا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُم عَلى البِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور: 33]، فكيف يجوز أن تُخرج الإماء مِن نص أردن به قطعاً، ويُحمل على غيرهن.
وأما قولكم: إن منفعتها لسيدها، ولم يأذن فى استيفائها، فيقال: هذه المنفعةُ يملك السيدُ استيفاءها بنفسه، ويملِكُ المعاوضة عليها بعقد النكاحِ أو شبهته، ولا يملِكُ المعاوضَةَ عليها إلا إذا أذنت، ولم يجعل اللهُ ورسوله
للزنى عوضاً قط غير العقوبة، فيفوت على السيد حتى يُقضى له، بل هذا تقويمُ مال أهدره اللهُ ورسولُه، وإثباتُ عِوض حكم الشارعُ بخبثه، وجعله بمنزلة ثمنِ الكلب، وأجرِ الكاهن، وإن كان عوضاً خبيثاً شرعاً، لم يجز أن يقضى به.
ولا يقال: فأجر الحجام خبيث، ويُقضى له به، لأن منفعة الحِجامة منفعة مباحة، وتجوز، بل يجبُ على مستأجره أن يُوفيه أجره، فأين هذا مِن المنفعة الخبيثة المحرمة التى عِوضها مِن جنسها، وحُكمه حكمها، وإيجابُ عوض فى مقابلة هذه المعصية، كإيجابِ عوض فى مقابلة اللواط، إذ الشارع لم يجعل فى مقابلة هذا الفعل عوضاً.
فإن قيل: فقد جعل فى مقابلة الوطء فى الفرج عوضاً، وهو المهرُ مِن حيث الجملة، بخلاف اللواطة.
قلنا: إنما جعل فى مقابلته عوضاً، إذا استوفى بعقد أو بشبهة عقد، ولم يجعل له عوضاً إذا استوفى بزنى محض لا شُبهة فيه، وبالله التوفيق. ولم يُعرف فى الإسلام قط أن زانياً قضى عليه بالمهر للمزنى بها، ولا ريبَ أن المسلمين يرون هذا قبيحاً، فهو عند الله عز وجل قييح.
فصل
فإن قيل: فما تقولون فى كسب الزانية إذا قبضته، ثم تابت، هل يجبُ عليها ردُّ ما قبضته إلى أربابه، أم يطيبُ لها، أم تصَّدق به؟
قيل: هذا ينبنى على قاعدة عظيمة مِن قواعد الإسلام، وهى أن مَن قبض ما ليس له قبضُه شرعاً، ثم أراد التخلصَ منه، فإن كان المقبوضُ
قد أُخِذَ بغير رضى صاحبه، ولا استوفى عِوضَه، ردَّه عليه. فإن تعذَّر ردُّه عليه، قضى به ديناً يعلمه عليه، فإن تعذَّر ذلك، رده إلى ورثته، فإن تعذَّر ذلك، تصدق به عنه، فإن اختار صاحبُ الحق ثوابَه يوم القيامة، كان له. وإن أبى إلا أن يأخذ مِن حسنات القابض، استوفى منه نظيرَ ماله، وكان ثوابُ الصدقة للمتصدق بها، كما ثبت عن الصحابة رضى الله عنهم.
وإن كان المقبوضُ برضى الدافع وقد استوفى عِوضه المحرم، كمن عاوض على خمر أو خنزير، أو على زنى أو فاحشة، فهذا لا يجبُ ردُّ العوض على الدافع، لأنه أخرجه بإختياره، واستوفى عوضه المحرم، فلا يجوزُ أن يجمع له بينَ العوض والمعوض، فإن فى ذلك إعانة له على الإثم والعدوان، وتيسير أصحاب المعاصى عليه. وماذا يريد الزانى وفاعل الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه، ويسترِد ماله، فهذا مما تُصان الشريعة عن الإتيان به، ولا يسوغُ القولُ به، وهو يتضمن الجمْع بين الظلم والفاحشة والغدر. ومن أقبح القبيحِ أن يستوفى عوضه من المزنى بها، ثم يرجع فيما أعطاها قهراً، وقبح هذا مستقر فى فِطر جميع العقلاء، فلا تأتى به شريعة، ولكن لا يطيب للقابض أكله، بل هو خبيث كما حكم عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن خبثه لخبث مكسبه، لا لظلم من أخذ منه، فطريقُ التخلص منه، وتمام التوبة بالصدقة به، فإن كان محتاجاً إليه، فله أن يأخذ قدر حاجته، ويتصدق بالباقى، فهذا حكمُ كل كسب خبيث لِخبث عوضه عيناً كان أو منفعة، ولا يلزم من الحكم بخبثه وجوبُ رده على الدافع، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بخُبثِ كسبِ الحجام، ولا يجب ردُّه على دافعه.
فإن قيل: فالدافع مَالَه فى مقابلة العوض المحرم دفع ما لا يجوزُ دفعه، بل حجر عليه فيه الشارع، فلم يقع قبضُه موقعه، بل وجودُ هذا القبض كعدمه، فيجب ردُّه على مالكه، كما لو تبرع المريضُ لوارثه بشىء، أو لأجنبى بزيادة على الثلث، أو تبرَّْع المحجورُ عليه بفلس، أو سفه، أو تبرع المضطرُ إلى قوته بذلك، ونحو ذلك. وسر المسألة أنه محجورٌ عليه شرعاً فى هذا الدفع فيجب ردُّه.
قيل: هذا قياس فاسد، لأن الدفع فى هذه الصور تبرعٌ محض لم يُعاوض عليه، والشارع قد منعه منه لتعلق حق غيره به، أو حق نفسه المقدمة على غيره، وأما نحن فيه، فهو قد عاوض بماله على استيفاء منفعة، أو استهلاك عينٍ محرمة، فقد قبض عوضاً محرماً، وأقبض مالاً محرماً، فاستوفى ما لا يجوز استيفاؤه، وبذل فيه ما لا يجوزُ بذلُه، فالقابضُ قبض مالاً محرماً، والدافعُ استوفى عِوضاً محرماً، وقضيةُ العدل ترادُّ العوضين، لكن قد تعذر ردُّ أحدهما، فلا يُوجب رد الآخر من غير رجوع عوضه. نعم لو كان الخمر قائماً بعينه لم يستهلكه، أو دفع إليها المال ولم يفجر بها، وجب ردُّ المال فى الصورتين قطعاً كما فى سائر العقود الباطلة إذا لم يتصل بها القبضُ.
فإن قيل: وأىُّ تأثير لهذا القبض المحرم حتى جعل له حرمة، ومعلوم أن قبضَ ما لا يجوز قبضُه بمنزلة عدمه، إذ الممنوعُ شرعاً كالممنوع حساً، فقابضُ المال قبضه بغير حق، فعليه أن يَرُدَّهُ إلى دافعه؟
قيل: والدافع قبض العين، واستوفى المنفعة بغير حق، كلاهما قد اشتركا فى دفع ما ليس لهما دفعه، وقبض ما ليس لهما قبضه، وكلاهما عاصٍ للَّه، فكيف يُخص أحدهما بأن يجمع له بين العوض والمعوض عنه،
ويفوتُ على الآخر العوض والمعوض.
فإن قيل: هو فوَّتَ المنفعة على نفسه بإختياره. قيل: والآخر فوَّت العوض على نفسه بإختياره، فلا فرق بينهما، وهذا واضح بحمد الله.
وقد توقف شيخنا فى وجوب ردِّ عوض هذه المنفعة المحرمة على باذله، أو الصدقة به فى كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم"، وقال: الزانى، ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المالَ عن طيب نفوسهم، فاستوفوا العوضَ المحرم، والتحريم الذى فيه ليس لحقهم، وإنما هو لحقِّ الله تعالى، وقد فاتت هذه المنفعةُ بالقبض، والأصول تقتضى أنه إذا رد أحدَ العوضين، ردَّ الآخر، فإذا تعذر على المستأجر ردُّ المنفعة لم يرد عليه المال، وهذا الذى استوفيت منفعتُه عليه ضرر فى أخذ منفعته، وأخذ عوضها جميعاً منه، بخلاف ما إذا كان العوض خمراً أو ميتة، فإن تلك لا ضرر عليه فى فواتها، فإنها لو كانت باقية لأتلفناها عليه، ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت، لتوفرت عليه بحيث كان يتمكن من صرف تلك المنفعة فى أمر آخر، أعنى من صرف القوة التى عمل بها. ثم أورد على نفسه سؤالاً، فقال: فيقال على هذا فينبغى أن تقضوا بها إذا طالب بقبضها. وأجاب عنه بأن قال: قيل: نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها كعقود الكفار المحرمة، فإنهم إذا أسلموا قبل القبض لم يحكم بالقبض، ولو أسلموا بعد القبض لم يُحكم بالرد، ولكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة، لأنه كان معتقداً لتحريمها بخلاف الكافر، وذلك لأنه إذا طلب الأجرة، فقلنا له: أنت فرطت حيث صرفت قوتَك فى عمل يحرم، فلا يُقضى لك بالأجرة. فإذا قبضها، وقال الدافع هذا المال: اقضوا لى برده، فإنى أقبضته إياه عوضاً عن منفعة محرمة، قلنا له: دفعته معاوضة
رضيتَ بها، فإذا طلبت استرجاع ما أخذ، فاردد إليه ما أخذت إذا كان له فى بقائه معه منفعة، فهذا محتمل. قال: وإن كان ظاهرُ القياس، ردها لأنها مقبوضة بعقد فاسد، انتهى.
وقد نص أحمد فى رواية أبى النضر، فيمن حمل خمراً، أو خنزيراً، أو ميتة لنصرانى: أكرهُ أكلَ كرائه، ولكن يُقضى للحمال بالكراء. وإذا كان لمسلم، فهو أشدُّ كراهة. فاختلف أصحابه فى هذا النص على ثلاث طرق.
إحداها: إجراؤه على ظاهره، وأن المسألة رواية واحدة. قال ابنُ أبى موسى: وكره أحمد أن يُؤجر المسلم نفسَه لحمل ميتة أو خنزير لنصرانى. فإن فعل، قضى له بالكراء، وهل يطيبُ له أم لا؟ على وجهين. أوجههما: أنه لا يطيبُ له، ويتصدَّقُ به، وكذا ذكر أبو الحسن الآمدى، قال: إذا أجر نفسه من رجل فى حمل خمر، أو خنزير، أو ميتة، كره ؛ نص عليه، وهذه كراهة تحريم، لأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن حاملها. إذا ثبت ذلك، فيقضى له بالكراء، وغير ممتنع أن يُقضى له بالكراء وإن كان محرماً، كإجارة الحجام انتهى. فقد صرَّح هؤلاء، بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمة عليه على الصحيح.
الطريق الثانية: تأويلُ هذه الرواية بما يُخالف ظاهرها، وجعل المسألة رواية واحدة، وهى أن هذه الإجارة لا تصِح، وهذه طريقة القاضى فى "المجرد"، وهى طريقة ضعيفة، وقد رجع عنها فى كتبه المتأخرة، فإنه صنف "المجرد" قديماً.
الطريقة الثالثة: تخريجُ هذه المسألة على روايتين إحداهما: أن هذه الإجارة صحيحة يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة. والثانية:
لا تصح الإجارة، ولا يستحق بها أجرة وإن حمل. وهذا على قياس قوله فى الخمر: لا يجوز إمساكُها، وتجب إراقتها. قال فى رواية أبى طالب: إذا أسلم وله خمر أو خنازير تُصب الخمرُ، وتسرَّحُ الخنازير، وقد حرما عليه، وإن قتلها، فلا بأس. فقد نص أحمد، أنه لا يجوز إمساكُها، ولأنه قد نصَّ فى رواية ابن منصور: أنه يكره أن يُؤاجر نفسه لنطارة كرم لنصرانى، لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر، إلا أن يعلم أنه يُباع لغير الخمر، فقد منع من إجارة نفسه على حمل الخمر، وهذه طريقة القاضى فى "تعليقه" وعليها أكثر أصحابه، والمنصور عندهم: الرواية المخرجة، وهى عدمُ الصحة، وأنه لا يستحق أجرة، ولا يقضى له بها، وهى مذهبُ مالك، والشافعى، وأبى يوسف، ومحمد. وهذا إذا استأجر على حملها إلى بيته للشرب أو لأكل الخنزير، أو مطلقاً، فأما إذا استأجره لحملها لِيُريقها، أو لينقل الميتة إلى الصحراء لئلا يتأذَّى بها، فإن الإجارة تجوزُ حينئذ لأنه عمل مباح، لكن إن كانت الأجرة جلد الميتة لم تصح، واستحق أجرة المثل، وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه، رده على صاحبه، هذا قول شيخنا، وهو مذهب مالك. والظاهر: أنه مذهب الشافعى. وأما مذهب أبى حنيفة رحمه الله: فمذهبه كالرواية الأولى، أنه تصح الإجارة، ويُقضى له بالأجرة، ومأخذه فى ذلك، أن الحمل إذا كان مطلقاً، لم يكن المستحق نفسَ حمل الخمر، فذكرُه وعدمُ ذكره سواء، وله أن يحمل شيئاً آخر غيره كخل وزيت، وهكذا قال: فيما لو أجره داره، أو حانوته ليتخذها كنيسة، أو لبيع فيها الخمر، قال أبو بكر الرازى: لا فرق عند أبى حنيفة بين أن يشترط أن يبيعَ فيها الخمر، أو لا يشترط وهو يعلم أنه يبيعُ فيه الخمر: أن الإجارة تَصِحُّ، لأنه لا يستحق
عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء، وإن شرط ذلك، لأن له أن لا يبيعَ فيه الخمر، ولا يتخذ الدار كنيسة، ويستحق عليه الأجرة بالتسليم فى المدة، فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء، كان ذكرها وتركها سواء، كما لو اكترى داراً لينام فيها أو ليسكنها، فإن الأجرة تستحق عليه، وإن لم يفعل ذلك، وكذا يقول: فيما إذا استأجر رجلاً ليحمل خمراً أو ميتة، أو خنزيراً: أنه يصح، لأنه لا يتعين حمل الخمر، بل لو حمله بدلَه عصيراً استحق الأجرة، فهذا التقييدُ عندهم لغو، فهو بمنزلة الإجارة المطلقة، والمطلقة عنده جائزة. وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصى فيها، كما يجوز بيعُ العصير لمن يتخذه خمراً، ثم إنه كره بيع السلاح فى الفتنة. قال: لأن السلاح معمول للقتال لا يصلح لغيره، وعامة الفقهاء خالفوه فى المقدمة الأولى، وقالوا: ليس المقيد كالمطلق، بل المنفعة المعقودُ عليها هى المستحقةُ، فتكون هى المقابلة بالعوض، وهى منفعة محرمة، وإن كان للمستأجر أن يُقيم غيرهَا مقامَها، وألزموه فيما لو اكترى داراً لِيتخذها مسجداً، فإنه يستحِقُّ عليه فعل المعقودِ عليه، ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة بناء على أنها اقتضت فعلَ الصلاة، وهى لا تستحقُّ بعقد إجارة.
ونازعه أصحاب أحمد ومالك فى المقدمة الثانية، وقالوا: إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها فى محرم، حرمت الإجارة، لأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن عاصِرَ الخمر ومعتصرها، والعاصر إنما يعصِرُ عصيراً، ولكن لما علم أن المعتصِرَ يريد أن يتخذه خمراً، فيعصره له، استحق اللعنة.
قالوا: وايضاً فإن فى هذا معاونة على نفس ما يَسْخَطُهُ اللهُ ويُبغضه، ويلعنُ فاعله، فأصولُ الشرع وقواعدُه تقتضى تحريمَه وبطلان العقد عليه، وسيأتى مزيد تقرير هذا عند الكلام على حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحريم العينة وما يترتب
عليها من العقوبة.
قال شيخنا: والأشبهُ طريقةُ ابن موسى، يعنى أنه يُقضى له بالأجرة وإن كانت المنفعة محرمة، ولكن لا يطيبُ له أكلُها. قال: فإنها أقربُ إلى مقصود أحمد، وأقربُ إلى القياس، وذلك لأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن عاصر الخمر، ومعتصرها، وحامِلَها والمحمولة إليه. فالعاصر والحامِل، قد عاوضا على منفعة تستحق عوضاً، وهى ليست محرمةً فى نفسها، وإنما حَرُمَت بقصد المعتصر والمستحمل، فهو كما لو باع عنباً وعصيراً لمن يتخذه خمراً، وفات العصيرُ والخمر فى يد المشترى، فإن مال البائع لا يذهب مجاناً، بل يُقضى له بعوضه. كذلك هنا المنفعة التى وفاها المؤجر لا تذهب مجاناً، بل يُعطى بدلها، فإن تحريم الانتفاعِ بها إنما كان من جهة المستأجر، لا من جهة المؤجر، فإنه لو حملها للإراقة، أو لإخراجها إلى الصحراء خشية التأذى بها، جاز. ثم نحن نحرم الأجرة عليه لحق الله سبحانه لا لحق المستأجر والمشترى، بخلاف من استؤجر للزنى أو التلوط أو القتل أو السرقة، فإن نفس هذا العمل محرم لأجل قصد المستأجر، فهو كما لو باع ميتة أو خمراً، فإنه لا يقضى له بثمنها، لأن نفس هذه العين محرمة، وكذلك لا يُقضى له بعوض هذه المنفعة المحرمة.
قال شيخنا: ومثلُ هذه الإجارة، والجعالة، يعنى الإجارة على حمل الخمر والميتة، لا تُوصف بالصحة مطلقاً، ولا بالفساد مطلقاً، بل يقال: هى صحيحة بالنسبة إلى المستأجر، بمعنى أنه يجب عليه العوض، وفاسدة بالنسبة إلى الأجير، بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاعُ بالأجر، ولهذا فى الشريعة نظائر. قال: ولا يُنافى هذا نصُّ أحمد على كراهة نطارة كرم النصرانى، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن عوضه، ثم نقضى له بكرائه، قال: ولو
لم يفعل هذا، لكان فى هذا منفعة عظيمةٌ للعصاة، فإن كل من استأجروه على عمل يستعينُون به على المعصية قد حصلوا غرضَهم منه، فإذا لم يعطوه شيئاً، ووجب أن يرد عليهم ما أخذ منهم، كان ذلك أعظمَ العون لهم، وليسوا بأهلٍ أن يُعاونوا على ذلك، بخلاف من سَلَّم إليهم عملاً لا قيمة له بحال، يعنى كالزانية، والمغنى، والنائحة، فإن هؤلاء لا يُقضى لهم بأجرة، ولو قبضوا منهم المال، فهل يلزمُهم ردُّه عليهم، أم يتصدقون به؟ فقد تقدم الكلام مستوفى فى ذلك، وبينا أن الصواب أنه لا يلزمهم رده، ولا يطيبُ لهم أكله، والله الموفق للصواب.
فصل
الحكم الخامس: حلوان الكاهن. قال أبو عمر بن عبد البر: لا خلاف فى حُلوان الكاهن أنه ما يُعطاه على كهانته، وهو مِن أكل المال بالباطل، والحلوان فى أصل اللغة: العطية. قال علقمةُ:
فَمَنْ رَجُلٌ أَحْلُوهُ رَحْلى ونَاقَتِى ... يُبَلِّغُ عنِّى الشِّعْرَ إذْ مَاتَ قَائِلُهُ
انتهى.
وتحريمُ حُلوان الكاهن تنبيه على تحريم حُلوان المنجم، والزاجر، وصاحب القُرعة التى هى شقيقة الأزلام، وضاربة الحصا، والعرَّاف، والرَّمَّال ونحوهم ممن تطلب منهم الأخبارُ عن المغيبات، وقد نهى النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إتيان الكهّانِ، وأخبر أن: "مَنْ أَتَى عَرَّافاً فَصَدَّقه بما يَقُولُ، فَقَدْ كَفَر بِمَا أنزل عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ولا ريبَ أن الإيمانَ بما جاء به محَّمدٌ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبما يجىء به هؤلاء، لا يجتمعان فى قلب واحد، وإن كان أحدُهم قد يَصْدُقُ أيحاناً، فصِدقُه بالنسبة إلى كذبه قليلٌ من كثير، وشيطانُه الذى يأتيه بالأخبار لا بُد له أن يَصْدُقَه أحياناً لِيُغوىَ به الناس، ويفتنهم به.
وأكثرُ الناسِ مستجيبون لهؤلاء، مؤمنون بهم، ولا سيما ضعفاء العقول، كالسُّفهاء، والجُهَّالِ، والنِّساء، وأهل البوادى، ومن لا عِلْمَ لهم بحقائق الإيمان، فهؤلاء هم المفتونون بهم، وكثيرٌ منهم يُحْسِنُ الظنَّ بأحدهم، ولو كان مشركاً كافراً بالله مجاهراً بذلك، ويزوره، وينذر له، ويلتمِسُ دعاءه. فقد رأينا وسمِعْنَا من ذلك كَثيراً، وسببُ هذا كله خفاءُ ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق على هؤلاء وأمثالهم، {ومَنْ لم يجعل اللهُ له نوراً فما له من نور} [النور: 40]، وقد قال الصحابة رضى الله عنهم للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ هؤلاءِ يُحدثوننا أحياناً بالأمر، فيكونُ كما قالوا، فأخبرهم أنَّ ذلِكَ مِنْ جِهَةِ الشَّيَاطِين، يُلْقُونَ إِلَيْهِم الكَلِمَةَ تكُونُ حَقاً فَيزِيدُون هُمْ مَعَها مائَة كَذْبَةٍ فَيُصَدَّقُونَ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الكَلِمَةِ.
وأما أصحابُ الملاحم، فركَّبُوا ملاحِمَهم من أشياء.
أحدها: من أخبارِ الكهان.
والثانى: من أخبارٍ منقولة عن الكتب السالفة متوارثة بينَ أهل الكتاب.
والثالث: من أمور أخْبَرَ نبيُّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها جملة وتفصيلاً.
والرابع: من أمور أخبر بها من له كشف مِن الصحابة ومَن بعدهم.
والخامس: من منامات متواطئة على أمر كُلى وجزئى. فالجزئى:
يذكرونه بعينه والكُلى: يُفصلونه بحدس وقرائن تكون حقاً أو تقارب.
والسادس: مِن استدلال بآثار علوية جعلها الله تعالى علامات وأدلة وأسباباً لحوادث أرضية لا يعلمُها أكثرُ الناس، فإن الله سبحانه لم يخلق شيئاً سدى ولا عبثاً. وربط سبحانه العالمَ العُلوى بالسُّفلى، وجعل عُلويه مؤثراً فى سُفليه دون العكسِ، فالشمس، والقمرُ لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإن كان كسوفُهما لِسبب شر يحدث فى الأرض، ولهذا شرع سُبحانه تغييرَ الشرِ عند كُسوفهما بما يدفع ذلك الشرَّ المتوقَّعَ مِن الصلاة والذكر والدعاء والتوبة والاستغفار والعتق، فإن هذه الأشياء تُعارضُ أسباب الشر، وتُقاومها، وتدفع موجباتها إن قويت عليها.
وقد جعل اللهُ سبحانه حركةَ الشمس والقمر، واختلافَ مطالعهما سبباً للفصول التى هى سببُ الحر والبرد، والشتاء والصيف، وما يحدُث فيهما مما يليق بكُلِّ فصل منها، فمن له اعتناء بحركاتهما، واختلاف مطالعهما، يستدِلُّ بذلك على ما يحدث فى النبات والحيوان وغيرهما، وهذا أمر يعرفه كثيرٌ من أهل الفلاحة والزراعة، ونواتى السفن لهم استدلالاتٌ بأحوالهما وأحوالِ الكواكب على أسباب السلامةِ والعطبِ مِن اختلاف الرياح وقوتها وعُصوفها، لا تكاد تَخْتَلُّ.
والأطباءُ لهم استدلالات بأحوال القمر والشمس على اختلاف طبيعة الإنسان وتهيئها لِقبول التغير، واستعدادها لأمور غريبة ونحو ذلك.
وواضعو الملاحم لهم عناية شديدة بهذا، وأمور متوارثَة عن قدماء المنجمين، ثم يستنتجون مِن هذا كُلِّه قياسات وأحكاماً تشبه ما تقدم ونظيره. وسنة الله فى خلقه جارية على سنن اقتضته حكمته، فحكم النظير حكمُ نظيره، وحكمُ الشىء حكم مثله، وهؤلاء صرفوا قوى أذهانهم إلى أحكام
القضاءِ والقدر، واعتبار بعضه ببعض، والاستدلال ببعضه على بعض، كما صرف أئمة الشرع قوى أذهانهم إلى أحكام الأمر والشرع، واعتبار بعضه ببعض، والاستدلال ببعضه على بعض، والله سبحانه له الخلق والأمر، ومصدر خلقه وأمره عن حكمه لا تختل ولا تتعطل ولا تنتقِضُ ومن صرف قوى ذهنه وفكره، واستنفد ساعاتِ عمره فى شىءٍ مِن أحكام هذا العالم وعلمه، كان له فيه من النفوذ والمعرفة والاطلاع ما ليس لغيره.
ويكفى الاعتبارُ بفرع واحدٍ من فروعه، وهو عبارة الرؤيا، فإن العبد إذا نفذ فيها، وكَمُل اطلاعه، جاء بالعجائب. وقد شاهدنا نحن وغيرُنا مِن ذلك أموراً عجيبةً، يحكم فيها المعبِّرُ بأحكام متلازمة صادقة، سريعة وبطيئة، ويقول سامعها: هذه علم غيب. وإنما هى معرفة ما غاب عن غيره بأسبابٍ انفرد هو بعلمها، وخفيت على غيره، والشارع صلوات الله عليه حرم من تعاطى ذلك ما مضرتُه راجحة على منفعته، أو ما لا منفعة فيه، أو ما يُخشى على صاحبه أن يجرَّه إلى الشرك، وحرم بذل المال فى ذلك، وحرم أخذه به صيانة للأمة عما يُفسد عليها الإيمان أو يخدِشُه، بخلاف علم عبارة الرؤيا، فإنه حقٌ لا باطل، لأن الرؤيا مستندة إلى الوحى المنامى، وهى جزء من أجزاء النبوة، ولهذا كُلَّما كان الرائى أصدقَ، كانت رؤياه أصدقَ، وكلما كان المعبرُ أصدق، وأبر وأعلم، كان تعبيرُه أصحَّ، بخلاف الكاهن والمنجم وأضرابهما ممن لهم مدد من إخوانهم من الشياطين، فإن صناعتهم لا تَصِحُّ مِن صادق ولا بار، ولا متقيد بالشريعة، بل هم أشبهُ بالسحرة الذين كلما كان أحدُهم أكذبَ وأفجرَ، وأبعدَ عن الله ورسوله ودينه، كان السحرُ معه أقوى وأشدَّ تأثيراً، بخلاف علم الشرع والحق، فإن صاحبَه كلما كان أبرَّ وأصدقَ وأدينَ، كان علمه به ونفوذه فيه أقوى، وبالله التوفيق.
فصل
الحكم السادس: خبثُ كسبِ الحجَّام، ويدخُلُ فيه الفاصد والشارط، وكل من يكون كسبُه من إخراج الدم، ولا يدخل فيه الطبيبُ، ولا الكحَّال ولا البيطارُ لا فى لفظه ولا فى معناه، وصحَّ عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنَّه حكم بخُبثه وأَمَرَ صَاحَبِه أَنْ يَعْلِقَه نَاضِحَه أَوْ رَقِيقَهُ" وصحَّ عنه أنه احتجمَ وأعطى الحجامَ أجرَهُ".
فأشكل الجمعُ بينَ هذين على كثير من الفقهاء، وظنوا أن النهىَ عن كسبه منسوخٌ بإعطائه أجره، وممِن سلك هذا المسلكَ الطحاوى، فقال فى احتجاجه للكوفيين فى إباحة بيع الكِلاب، وأكلِ أثمانها: لما أمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل الكلابِ، ثم قال: "ما لى وللكلاب"، ثم رخص فى كلب الصيد، وكلبِ الغنم، وكان بيعُ الكلاب إذ ذاك والانتفاعُ به حراماً، وكان قاتله مؤدياً للفرض عليه فى قتله، ثم نُسِخَ ذلك، وأباح الاصطيادَ به، فصار كسائر الجوارح فى جواز بيعه، قال: ومثلُ ذلك نهيُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن
كسبِ الحجَّام، وقال: "كسبُ الحجام خبيث" ثم أعطى الحجام، أجرَه، وكان ذلك ناسخاً لمنعه وتحريمه ونهيه. انتهى كلامه.
وأسهلُ ما فى هذه الطريقة أنها دعوى مجردة لا دليلَ عليها، فلا تُقبل، كيف وفى الحديث نفسه ما يُبطلها، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بقتلِ الكلاب، ثم قال: "ما بالُهم وبالُ الكلاب" ثم رخَّص لهم فى كلب الصيد.
وقال ابنُ عمر أمرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتلِ الكِلابِ إلا كَلْبَ الصيدِ أو كلب غَنمٍ أو ماشِية.
وقال عبدُ الله بن مغفَّل: أمرنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل الكلابِ ثم قال ما بالُهم وبَالُ الكِلاَب، ثم رخَّصَ فى كلب الصيد، وكلب الغنم. والحديثانِ فى
"الصحيح" فدلَّ على أن الرخصة فى كلب الصيد وكلب الغنم وقعت بعد الأمر بقتل الكلاب، فالكلبُ الذى أذن رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى اقتنائه هو الذى حرَّم ثمنه، وأخبر أنه خبيثٌ دونَ الكلب الذى أمر بقتله، فإن المأمورَ بقتله غيرُ مستبقى حتى تحتاج الأمة إلى بيان حكم ثمنه، ولم تجر العادةُ ببيعه وشرائه بخلاف الكلب المأذون فى اقتنائه، فإن الحاجة داعية إلى بيان حكم ثمنه أولى مِن حاجتهم إلى بيان ما لم تجرِ عادتُهم ببيعه، بل قد أُمِرُوا بقتله.
ومما يُبين هذا أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر الأربعة التى تُبذل فيها الأموال عادة لحرص النفوس عليها وهى ما تأخذُه الزانية والكاهِنُ والحجَّامُ وبائع الكلب فكيف يُحمل هذا على كلب لم تَجْرِ العادةُ ببيعه، وتخرج منه الكلاب التى إنما
جرت العادة ببيعها هذا من الممتنع البينِ امتناعُه، وإذا تبين هذا، ظهر فساد ما شبه به من نسخ خُبثِ أجرة الحجام، بل دعوى النسخ فيها أبعد.
وأما إعطاءُ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحجام أجره، فلا يُعارض قوله "كسب الحجام خبيث" فإنه لم يقل: إن إعطاءه خبيث، بل إعطاؤه إما واجب، وإما مستحب، وإما جائز ولكن هو خبيثٌ بالنسبة إلى الآخذ، وخبثُه بالنسبة إلى أكله، فهو خبيثُ الكسب، ولم يلزم مِن ذلك تحريمُه، فقد سمى النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثوم والبصل خبيثين مع إباحة أكلهما، ولا يلزم من إعطاء النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحجَّام أجرَه حِل أكلِه فضلاً عن كون أكله طيباً، فإنه قال: "إنِّى لأُعْطِى الرَّجُلَ العَطِيَّةَ يَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَ نَارَاً" ، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كان يُعطى المؤلفةَ قلوبُهم مِن مال الزكاة والفىء مع غناهم، وعدم حاجتهم إليه، ليبذُلوا من الإسلام والطاعة ما يَجِبُ عليهم بذلُه بدون العطاء، ولا يَحِلُّ لهم توقُف بذله على الأخذ، بل يجبُ عليهم المبادرةُ إلى بذله بلا عوض.
وهذا أصل معروف مِن أصول الشرع أن العقد والبذل قد يكونُ جائزاً، أو مستحباً، أو واجباً من أحد الطرفين، مكروهاً أو محرماً من الطرف الآخر، فيجب على الباذلِ أن يَبْذُلَ ويحرم على الآخذ أن يأخذه.
وبالجملة فخبثُ أجرِ الحجَّام من جنس خُبث أكل الثوم والبصل، لكن هذا خبيثُ الرائحة، وهذا خبيثٌ لكسبه.
فإن قيل: فما أطيبُ المكاسب وأحلُّها؟ قيل هذا فيه ثلاثةُ أقوال للفقهاء.
أحدها: أنه كسبُ التجارة.
والثانى: أنَّه عملُ اليد فى غير الصنائع الدنيئة كالحجامة ونحوِها.
والثالث: أنه الزِّراعةُ، ولكل قولٍ مِن هذه وجه مِن الترجيح أثراً ونظراً، والراجح أن أحلَّها الكسبُ الذى جعل منه رِزق رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو كسبُ الغانمين وما أُبيح لهم على لسان الشارع، وهذا الكسبُ قد جاء فى القرآن مدحُه أكثرَ مِن غيره، وأثنى على أهله ما لم يُثْنَ على غيرهم، ولهذا اختاره الله لخيرِ خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله حيث يقولُ: "بُعِثْتُ بالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَى السَّاعَةِ حَتَّي يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وجُعِلَ رِزْقى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحى، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ والصَّغَارُ عَلىَ مَنْ خَالَفَ أَمْرِى" ، وهو الرزقُ المأخوذُ بعزة وشرف وقهر لأعداء الله، وجعل أحب شىء إلى الله، فلا يُقاومه كسب غيره. والله أعلم.
فصل: فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى بيع عَسْبِ الفَحْلِ وضِرابِه
فى صحيح البخارى عن ابن عمر أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن عَسْبِ الفَحْلِ.
وفى صحيح مسلمٍ عن جابر أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بَيْعِ ضِرَابِ الفحل. وهذا الثانى تفسير للأول، وسمى أجرة ضِرابه بيعاً إما لكون
المقصودِ هو الماءَ الذى له، فالثمنُ مبذول فى مقابلة عين مائه، وهو حقيقةُ البيع، وإما أنه سمى إجارته لذلك بيعاً، إذ هى عقد معاوضة وهى بيع المنافع، والعادة أنهم يستأجِرُون الفحل للضِّرَابِ، وهذا هو الذى نُهِى عنه، والعقدُ الوارد عليه باطل، سواء كان بيعاً أو إجارة، وهذا قولُ جمهور العلماء، منهم أحمدُ والشافعى، وأبو حنيفة وأصحابهم.
وقال أبو الوفاء بن عقيل: ويحتمِلُ عندي الجواز، لأنه عقد على منافع الفحل، ونزوه على الأنثى وهى منفعة مقصودة، وماء الفحل يدخل تبعاً، والغالب حصولُه عقيبَ نزوه، فيكون كالعقد على الظئر، ليحصُلَ اللبنُ فى بطن الصبى، وكما لو استأجر أرضاً، وفيها بئر ماء، فإن الماء يدخل تبعاً وقد يغتفر فى الأتباع ما لا يُغتفر فىالمتبوعات.
وأما مالك فَحُكىَ عنه جوازُه، والذى ذكره أصحابه التفصيل، فقال صاحب "الجواهر" فى باب فساد العقد من جهة نهى الشارع: ومنها بيعُ عَسْب الفَحْلِ، ويُحمل النهى فيه على استئجار الفحل على لِقاح الأنثى وهو فاسد، لأنه غيرُ مقدورعلى تسليمه، فأما أن يستأجِرَه على أن ينزو عليه دفعاتٍ معلومة، فذلك جائز، إذ هو أمَدٌ معلوم فى نفسه، ومقدورٌ على تسليمه.
والصحيحُ تحريمُه مطلقاً وفسادُ العقد به على كل حال، ويحرُم
على الآخر أخذُ أجرةِ ضرابه، ولا يحرم على المعطى، لأنه بذل ماله فى تحصيل مباح يحتاج إليه ولا يمنع من هذا كما فى كسب الحجام، وأجرة الكسَّاح، والنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عما يعتادونه من استئجار الفحل للضِّراب، وسمي ذلك بيع عَسْبِهِ، فلا يجوزُ حمل كلامه على غير الواقع والمعتاد وإخلاء الواقع من البيان مع أنه الذى قصد بالنهى، ومن المعلوم أنه ليس للمستأجر غرض صحيح فى نزو الفحل على الأنثى الذى له دفعات معلومة، وإنما غرضُه نتيجة ذلك وثمرته، ولأجله بذل ماله.
وقد علَّل التحريمَ بعدة علل.
إحداها: أنه لا يقدر على تسليم المعقود عليه، فأشبه إجارة الآبق، فإن ذلك متعلق بإختيار الفحل وشهوته.
الثانية: أن المقصودَ هو الماءُ وهو مما لا يجوز إفرادُه بالعقد، فإنه مجهولُ القدر والعين وهذا بخلاف إجارة الظئر، فإنها احتملت بمصلحة الآدمى، فلا يُقاسُ عليها غيرُها، وقد يقال والله أعلم إن النهى عن ذلك مِن محاسن الشريعة وكما لها فإن مقابلة ماء الفحل بالأثمان، وجعله محلاً لعقود المعاوضات مما هو مستقبح ومستهجَن عند العقلاء، وفاعل ذلك عندهم ساقط مِن أعينهم فى أنفسهم، وقد جعل الله سبحانه فِطَرَ عباده لا سيما المسلمين ميزاناً للحسن والقبيح، فما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً، فهو عند الله قبيح.
ويزيد هذا بياناً أن ماء الفحل لا قيمة له، ولا هو مما يُعاوض عليه، ولهذا لو نزا فحلُ الرجل على رَمَكَة غيره، فأولدها، فالولد لِصاحب الرَّمَكَةِ اتفاقاً، لأنه لم ينفصِلْ عن الفحل إلا مجردُ الماء وهو لا قيمة له،
فحرمت هذه الشريعةُ الكاملةُ المعاوضةَ على ضِرابه ليتناوله الناس بينهم مجاناً، لما فيه مِن تكثير النسل المحتاج إليه من غير إضرار بصاحب الفحل، ولا نقصان من ماله، فمن محاسن الشريعة إيجابُ بذلِ هذا مجاناً، كما قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ حَقِّهَا إطْراقَ فَحْلِهَا وإعَارَةَ دَلْوِهَا" فهذه حقوقٌ يضر بالناس منعُها إلا بالمعاوضة، فأوجبت الشريعة بذلها مجاناً.
فإن قيل: فإذا أهدى صاحبُ الأنثى إلى صاحب الفحل هديةً، أو ساق إليه كرامة، فهل له أخذُها؟ قيل: إن كان ذلك على وجه المعاوضة والاشتراط فى الباطن لم يَحِلَّ له أخذُه، وإن لم يكن كذلك فلا بأس به، قال أصحابُ أحمد والشافعى: وإن أعطى صاحبَ الفحل هدية، أو كرامة من غيرِ إجارة، جاز، واحتج أصحابُنا بحديث رُوى عن أنس رضى الله عنه، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: إذا كان إكراماً، فلا بأس، ذكره صاحب "المغنى" ولا أعرف حالَ هذا الحديث، ولا من خرَّجه، وقد نص أحمد فى رواية ابن القاسم على خلافه، فقيل له: ألا يكونُ مثلَ الحجَّامِ يُعطى، وإن كان منهياً عنه؟ فقال: لم يبلغنا أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى فى مثل هذا شيئاً كما بلغنا فى الحجام.
واختلف أصحابنا فى حمل كلام أحمد رحمه الله على ظاهره، أو تأويله، فحمله القاضي على ظاهره، وقال: هذا مقتضى النظر، لكن ترك مقتضاه فى الحجام، فبقى فيما عداه على مقتضى القياس. وقال أبو محمد فى "المغنى": كلام أحمد يُحمل على الورع لا على التحريم، والجواز أرفقُ بالناس، وأوفقُ للقياس.
ذكرُ حكم رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى المنع مِن بيع الماء الذى يشترك فيه الناسُ
ثبت فى صحيح مسلم من حديث جابر رضى الله عنه قال: نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ المَاء.
وفيه عنه قال: نهى رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بَيْع ضِرَابِ الفَحْلِ، وَعَنْ بَيْعِ المَاءِ والأَرْضِ لِتُحْرَث، فعن ذلك نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفى "الصحيحين" عن أبى هُريرة رضى الله عنه أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ لِيُمنَعَ بهِ الكَلأُ" وفى لفظ آخر "لاَ تَمْنَعُوا فَضْلَ المَاءِ لِتَمْنَعُوا به الكَلأَ "، وقال البخارى فى بعض طرقه: " لاَ تَمْنَعُوا فَضْلَ المَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ فَضْلَ الكَلإِ".
وفى "المسند" من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه رضى الله عنه عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ مَنَعَ فَضْل مَائِهِ أَوْ فَضْل كَلَئِهِ، مَنَعَهُ اللهُ فَضْلَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ".
وفى سنن ابن ماجه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "ثَلاثٌ لاَ يُمْنَعْنَ: المَاءُ والكَلأُ والنَّارُ".
وفى "سننه" أيضاً عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المسلمونَ شُركَاءُ فى ثَلاَثٍ: المَاءُ والنَّارُ والكَلأُ، وثَمَنُهُ حَرَامٌ".
وفى صحيح البخاري من حديث أبى هُريرة رضى الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَيُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ كَانَ لضهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ من ابنِ السَّبِيلِ، وَرجُلٌ بَايَع إمامَه لا يُبَايعُهُ إلا لِلدُّنْيَا فإنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا، رَضِىَ، وإنْ لَمْ يعْطِهِ مِنْهَا، سَخطَ وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَةً بَعْدَ العَصْرِ فَقَالَ: واللهِ الذِى لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ لقد أُعْطِيتُ بِهَا كَذَا، فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ قَرَأَ هذِهِ الآيةَ: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُون بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 77] ، وفى سنن أبى داود عن بُهَيْسَة قالت: استأذن أبى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعلَ يدنو منه ويلتزمُه، ثم قال: يانبى الله ما الشىءُ الذى لا يَحِلُّ منعُه؟ قال: الماء قَالَ: "يا نبىَّ اللهِ ما الشىءُ الذى لاَ يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ المِلْحُ، قال: يانبِىَّ اللهِ ما الشَّىءُ الَّذى لاَ يحِلُّ مَنْعُهُ؟ قال : أن تَفْعَلَ الخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ".
الماء خلقه الله فى الأصل مشتركاً بين العباد والبهائم، وجعله سقيا لهم،
فلا يكون أحدٌ أخصَّ به مِن أحد، ولو أقام عليه، وتَنَأَ عليه، قال عمرُ ابن الخطاب رضى الله عنه ابنُ السبيل أحقُّ مِن التَّانىء عليه، ذكره أبو عبيد عنه.
وقال أبو هريرة: ابنُ السبيلِ أول شاربٍ.
فأما من حازه فى قِربته أو إنائه، فذاك غيرُ المذكور فى الحديث، وهو بمنزلة سائر المباحات إذا حازها إلى ملكه، ثم أراد بيعَها كالحطب والكلأ والملح، وقد قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لأنَ يَأخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتَى، بحُزْمَةِ حَطَبٍ على ظَهْرِهِ فيبيعها فَيكُفَّ اللهُ بِهَا وَجْهَهَ خَيْرٌ لَهُ منْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ" رواه البخارى.
وفى "الصحيحين" عن على رضى الله عنه قال: أصبتُ شَارِفَاً مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى مغنم يَوْم بدر، وأعطانى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَارِفاً آخر، فأنختُهما يوماً عِند بابِ رجل من الأنصار وأنا أُريدُ أنْ أَحْمِلَ عَليهما إذخراً لأبيعه. وذكر الحديثَ فهذا فى الكلأ والحطب المباح بعد أخذه وإحرازه، وكذلك السمكُ وسائر المباحات، وليس هذا محلَّ النهى بالضرورة ولا محلَّ النهى أيضاً بيعُ مياه الأنهار الكِبار المشتركة بين الناس، فإن هذا لا يُمكن منعُها، والحجرُ عليها، وإنما محل النهى صور، أحدها: المياه المنتقعة مِن الأمطار إذا اجتمعت فى أرض مباحة، فهى مشتركة بينَ
الناس، وليس أحد أحقَّ بها مِن أحد إلا بالتقديمِ لقُرب أرضه كما سيأتى إن شاء الله تعالى، فهذا النوعُ لا يَحِلُّ بيعُه ولا منعُه، ومانعُه عاصٍ مستوجبٌ لوعيد الله ومنع فضله إذ منع فضل ما لم تعمل يداه.
فإن قيل: فلو اتخذ فى أرضه المملوكة له حفرةً يجمع فيها الماء، أو حفر بئراً، فهل يملِكُه بذلك، ويحل له بيعُه؟ قيل: لا ريب أنه أحقُّ به مِن غيره، ومتى كان الماءُ النابع فى ملكه، والكلأ والمعدن فوقَ كفايته لشربه وشرب ماشيته ودوابه، لم يجبُ عليه بذلُه، نص عليه أحمد، وهذا لا يدخُلُ تحتَ وعيدِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه إنما توعَّد مَنْ منع فضل الماء، ولا فضلَ فى هذا.
فصل
وما فَضَل منه عن حاجته وحاجةِ بهائمه وزرعه، واحتاج إليه آدمى مثلُه أو بهائمه، وبَذَلَه بغير عوض، ولكل واحد أن يتقدَّم إلى الماء ويشربَ ويسقى ما شيته، وليس لصاحب الماء منعُه مِن ذلك، ولا يلزم الشارب وساقى البهائم عِوَضٌ وهل يلزمُه أن يبذُلَ له الدلوَ والبَكرة والحبلَ مجاناً، أو له أن يأخُذَ أجرته؟ على قولين وهما وجهان لأصحاب أحمد فى وجوب إعارة المتاع عند الحاجة إليه، أظهرهُما دليلاً وجوبُه، وهو مِن الماعون. قال أحمد: إنما هذا فى الصحارى والبرية دون البنيانِ يعنى: أن البنيان إذا كان فيه الماءُ، فليس لأحد الدخولُ إليه إلا بإذن صاحبه، وهل يلزمُه بذْل فضل مائه لزرعِ غيره؟ فيه وجهان، وهما روايتان عن أحمد.
أحدهما لا يلزمُه، وهو مذهب الشافعى، لأن الزرع لا حُرمة له
فى نفسه، ولهذا لا يجبُ على صاحبه سقيه بخلاف الماشيةَ.
والثانى: يلزمه بذلُه، واحتج لهذا القول بالأحاديثِ المتقدمة وعمومِها وبما رُوى عن عبيد الله بن عمرو أنَّ قَيِّمَ أرضه بالوهط كتب إليه يُخبره أنه سقى أرضه، وفَضَل له مِن الماء فضلٌ يُطلب بثلاثين ألفاً، فكتب إليه عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما: أقم قِلْدَكَ، ثم اسق الأدنى، فالأدنى، فإنى سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهَى عن بَيْعِ فَضْلِ المَاءِ.
قالُوا: وفى منعه من سقى الزرع إهلاكُه وإفسادُه، فحرم كالماشية. وقولُكم: لا حرمة له، فلصاحبه حُرمة، فلا يجوزُ التسبُّب إلى إهلاك ماله، ومن سلَّم لكم أنه لا حُرمة للزرع؟ قال أبو محمد المقدسى: ويحتمِلُ أن يمنع نفى الحرمة عنه، فإن إضاعةَ المال منهى عنها، وإتلافَه محرم، وذلك دليل على حرمته.
فإن قيل: فإذا كان فى أرضه أو داره بئر نابعة، أو عين مستنبطة، فهل تكون ملكاً له تبعاً لملك الأرض والدار؟ قيل: أما نفسُ البئر وأرض العين، فمملوكةً لمالك الأرض، وأما الماءُ، ففيه قولان، وهما روايتان عن أحمد، ووجهان لأصحاب الشافعى.
أحدهما: أنه غيرُ مملوك، لأنه يجرى مِن تحت الأرض إلى مُلكه، فأشبه الجارى فى النهر إلى ملكه.
والثانى: أنه مملوك له، قال أحمد فى رجل له أرضٌ ولآخر ماء،
فاشترك صاحبُ الأرض وصاحبُ الماء فى الزرع: يكون بينهما؟ فقال: لا بأس، وهذا القولُ اختيارُ أبى بكر.
وفى معنى الماء المعادنُ الجارية فى الأملاك كالقَارِ والنَّفط والمُوميا، والمِلح، وكذلك الكلأ النابتُ فى أرضه كُلُّ ذلك يُخرج على الروايتين فى الماء، وظاهر المذهب أن هذا الماء لا يُملك، وكذلك هذه الأشياء قال أحمد: لا يُعجبنى بيعُ الماء البتة، وقال الأثرم: سمعتُ أبا عبد الله يسأل عن قوم بينهم نهر تشرب منه أرضُهم لهذا يوم، ولهذا يومان يتَّفِقُون عليه بالحصص، فجاء يومى ولا أحتاج إليه أكريه بدراهم؟ قال: ما أدرى، أما النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنهى عن بيع الماء، قيل: إنه ليس يبيعُه، إنما يكريه، قال: إنَّما احتالُوا بهذا لِيُحسِّنُوه، فأى شىء هذا إلا البيع.. انتهى.
وأحاديثُ اشتراكِ الناسِ فى الماء دليلٌ ظاهر على المنع من بيعه، وهذه المسألة التى سئل عنها أحمد هى التى قد ابتُلىَ بها الناسُ فى أرض الشام وبساتينه وغيرها، فإن الأرضَ والبستان يكونُ له حقٌّ مِن الشُّرب مِن نهر، فيفصل عنه، أو يبنيه دوراً، وحوانيت، ويُؤجر ماءَه، فقد توقف أحمد أولاً، ثم أجابَ بأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الماءِ، فلما قيل له: إن هذه إجارة، قال: هذه التسميةُ حِيلة، وهى تحسينُ اللفظ، وحقيقة العقد البيعُ، وقواعِدُ الشريعة تقتضى المَنع من بيع هذا الماء فإنه إنما كان له حقُّ التقديم فى سقى أرضه من هذا الماء المشترك بينه وبين غيره، فإذا استغنى عنه، لم يجز له المعاوضةُ عنه، وكان المحتاج إليه أولى به بعده، وهذا كمن أقام على معدن، فأخذ منه حاجته، لم يَجُزْ له أن يبيعَ باقيَهُ بعدَ نزعه عنه.
وكذلك مَنْ سبق إلى الجلوس فى رَحْبَةٍ أو طريق واسعة، فهو أحقُّ بها ما دام جالساً، فإذا استغنى عنها، وأجر مقعده، لم يَجُزْ، وكذلك
الأرضُ المباحة إذا كان فيها كلأ أو عشب، فسبق بدوابه إليه، فهو أحقُّ بِرَعْيهِ ما دامت دوابُّه فيه، فإذا طلب الخروج مِنها، وبيعَ ما فَضَل عنه، لم يكن له ذلك وهكذا هذا الماءُ سواء، فإنَّه إذا فارق أرضَه، لم يبق له فيه حقُّ، وصار بمنزلة الكلأ الذى لا اختصاص له به، ولا هو فى أرضه.
فإن قيل: الفرقُ بينهما أن هذا الماء فى نفس أرضه، فهو منفعةٌ مِن منافعها، فملكه بملكها كسائِرِ منافعها بخلاف ما ذكرتم مِن الصور، فإن تلك الأعيان ليست من ملكه، وإنما له حقُّ الانتفاع والتقديم إذا سبق خاصة.
قيل: هذه النكتة التى لأجلها جوَّزَ من جوَّز بيعه، وجعل ذلك حقاً مِن حقوق أرضه، فَمَلَكَ المعاوضة عليه وحدَه كما يملِكُ المعاوضة عليه مع الأرض، فُيقال: حقُّ أرضه فى الانتفاع لا فى ملك العين التى أودعها الله فيها بوصف الاشتراك، وجعل حقَّه فى تقديم الانتفاع على غيره فى التحجر والمعاوضة، فهذا القولُ هو الذى تقتضيه قواعدُ الشرع وحكمته واشتماله على مصالح العالم، وعلى هذا فإذا دخل غيره بغير إذنه، فأخذ منه شيئاً، لأنه مباح فى الأصل، فأشبه ما لو عشَّشَ فى أرضه طائر، أو حصل فيها ظبى، أو نضب ماؤها عن سمك، فدخل إليه، فأخذه.
فإن قيل: فهل له منعُه مِن دخول ملكه، وهل يجوزُ دخولُه فى ملكه بغير إذنه؟
قيل: قد قال بعضُ أصحابنا: لا يجوزُ له دخولُ ملكه لأخذ ذلك بغير إذنه، وهذا لا أصل له فى كلام الشارع، ولا فى كلام الإمام أحمد،
بل قد نص أحمد على جواز الرعى فى أرضٍ غيرِ مباحة مع أن الأرض ليست مملوكة له ولا مستأجرة ودخولُها لغير الرعى ممنوع منه. فالصوابُ أنه يجوز له دخولُها لأخذ ما له أخذُه، وقد يتعذَّرُ عليه غالباً استئذان مالكها، ويكون قد احتاج إلى الشرب وسقى بهائمه ورعى الكلأ، ومالك الأرض غائب، فلو منعناه من دخولها إلا بإذنه كان فى ذلك إضرار ببهائمه.
وأيضاً فإنه لا فائدة لهذا الإذن، لأنه ليس لصاحب الأرض منعُه مِن الدخول، بل يجبُ عليه تمكينُه، فغايةُ ما يقدر أنه لم يأذن له، وهذا حرامٌ عليه شرعاً لا يَحِلُّ له منعُه من الدخول، فلا فائدة فى توقف دخوله على الإذن.
وأيضاً فإنه إذا لم يتمكن مِن أخذ حقِّه الذى جعله له الشارعُ إلا بالدخول فهو مأذون فيه شرعاً، بل لو كان دخولُه بغير إذنه لِغيرة على حريمه وعلى أهله، فلا يجوزُ له الدخولُ بغير إذن، فأما إذا كان فى الصحراء، أو دار فيها بئر ولا أنيسَ بها، فله الدخولُ بإذنٍ وغيرِه، وقد قال اللهُ تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29]، وهذا الدخولُ الذى رفع عنه الجناح هو الدخولُ بلا إذن، فإنه قد منعهم قبل مِن الدخول لغير بيوتهم حتى يستأنِسُوا ويُسلِّموا على أهلها، والاستئناس هنا: الاستئنذان، وهى فى قراءة بعضِ السلف كذلك، ثم رفع عنهم الجُناح فى دخول البيوت غير المسكونة لأخذ متاعهم، فدلَّ ذلك على جواز الدخول إلى بيت غيره وأرضه غيرِ المسكونة، لأخذ حقِّه من الماء والكلأ، فهذا ظاهرُ القرآن، وهُوَ مقتضى نص أحمد وبالله التوفيق.
فإن قيل: فما تقولُون فى بيع البئر والعين نفسها: هل يجوزُ؟ قال الإمام
أحمد: إنما نهى عن بيع فضل ماء البئر والعيون فى قراره، ويجوز بيع البئر نفسِها والعين، ومشتريها أحقُّ بمائها، وهذا الذى قاله الإمام أحمد هو الذى دلّت عليه السنة، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ يَشْتَرى بِئْرَ رُومَةَ يُوَسعُ بِهَا عَلَى المُسلِمينَ وَلَهُ الجَنَّةُ" أو كما قال، فاشتراها عثمانُ بن عفان رضى الله عنه مِن يهودى بأمرِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسبَّلَها لِلمُسلمِينَ وكان اليهودىُّ يبيعُ ماءَها. وفى الحديث أن عثمان رضى الله عنه اشترى منه نصفها باثنى عشر ألفاً، ثم قال لليهودى اختر إما أن تأخُذَهَا يوماً وآخذَهَا يوماً، وإما أنْ تَنْصِبَ لك عليها دلواً، وأَنْصِبَ عليها دلواً، فاختار يوماً ويوماً، فكان الناسُ يستقون منها فى يوم عثمان لِليومين، فقال اليهودىُّ: أفسدتَ علىَّ بئرى، فاشترى باقيها، فاشتراه بثمانية آلاف، فكان فى هذا حجةٌ على صحة بيعِ البئر وجوازِ شرائها، وتسبيلها، وصحةِ بيع ما يُسقى منها، وجواز قسمةِ الماء بالمهايأة، وعلى كون المالك أحقَّ بمائها، وجواز قسمة ما فيه حق وليس بمملوك.
فإن قيل: فإذا كان الماءُ عندكم لا يملك، ولكل واحد أن يستقى منه حاجَته، فكيف أمكن اليهودى تحجُّرَه حتى اشترى عثمانُ البئرَ وسبَّلَها، فإن قلتم: اشترى نفسَ البئر وكانت مملوكةً، ودخل الماءُ تبعاً، أشكل عليكم مِن وجه آخر وهو أنكم قررتم أنه يجوزُ للرجل دخولُ أرض غيره لأخذ الكلأ والماء، وقضيةُ بئر اليهودى تدل على أحد أمرين ولا بُد، إما ملك الماء بملك قراره، وإما على أنه لا يجوز دخولُ الأرض لأخذ ما فيها من المباح إلا بإذن مالكها.
قيل: هذا سؤال قوى، وقد يتمسك به من ذهب إلى واحد مِن
هذينِ المذهبين، ومن منع الأمرين، يُجيب عنه بأن هذا كان فى أوَّلِ الإسلام، وحين قدم النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبل تقرر الأحكام، وكان اليهود إذ ذاك لهم شوكةُ بالمدينة، ولم تكن أحكامُ الإسلام جاريةً عليهم، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم، صالحهم، وأقرَّهم على ما بأيديهم، ولم يتعرَّض له، ثم استقرت الأحكام، وزالت شوكةُ اليهود لعنهم الله، وجرت عليهم أحكامُ الشريعة، وسباق قصة هذه البئر ظاهر فى أنها كانت حينَ مقدمِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة فى أول الأمر.
فصل
وأما المياهُ الجاريةُ، فما كان نابعاً من غير ملك كالأنهار الكبار وغيرِ ذلك، لم يملك بحال، ولو دخل إلى أرض رجل، لم يملكه بذلك وهو كالطير يدخل إلى أرضه، فلا يملك بذلك، ولكل واحدة أخذُه وصيده، فإن جعل له فى أرضه مصنعاً أو بركة يجتمع فيها، ثم يخرج منها، فهو كنقع البئر سواه، وفيه من النزاع ما فيه وإن كان لا يخرج منها، فهو أحقُّ به للشرب والسقى، وما فضل عنه، فحكمه حكم ما تقدم.
وقال الشيخ فى "المغنى": وإن كان ماءٌ يسيرٌ فى البركة لا يخرج منها، فالأولى أنه يملكه بذلك على ما سنذكره فى مياه الأمطار.
ثم قال: فأما المصانعُ المتخذة لمياه الأمطار تجتمعُ فيها ونحوها مِن البرك وغيرها فالأولى أن يُملك ماؤها، ويصح بيعه إذا كان معلوماً، لأنه مباح حصله فى شىءٍ مُعَدٍّ له، فلا يجوز أخذُ شىء منه إلا بإذن مالكه.
وفى هذا نظر، مذهباً ودليلاً، أما المذهبُ، فإن أحمد قال: إنما نهى
عن بيع فضل ماء البئر والعيون فى قراره، ومعلوم أن ماءَ البئر لا يُفارقها، فهو كالبِركة التى اتخذت مقراً كالبئر سواء، ولا فرقَ بينهما، وقد تقدم مِن نصوص أحمد ما يدل على المنع مِن بيع هذا، وأما الدليل فما تقدم من النُّصوص التى سقناها، وقوله فى الحديث الذى رواه البخارى فى وعيد الثلاثة، "والرَّجُلُ عَلَى فَضْلٍ مَاءٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ" ولم يُفرق بين أن يكونَ ذلك الفضلُ فى أرضه المختصة به، أو فى الأرض المباحة، وقوله: "النَّاسُ شُركَاءُ فى ثَلاَثٍ" ولم يشترط فى هذه الشركة كون مقره مشتركاً، وقوله وقد سئل: ما الشىء الذى لا يَحِلٌّ منعه؟ فقال: الماء، ولم يشترط كون مقره مباحاً، فهذا مقتضى الدليل فى هذه المسألة أثراً ونظراً.
ذِكرُ حُكمِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى منع الرجلِ مِن بيع ما ليس عنده
فى "السُّنَنِ" و"المسند" من حديث حَكيم بن حزام قال: قلتُ يا رسولَ اللهِ يأتينى الرجلُ يسألنى من البيع ما ليس عندى، فأبيعه منه، ثم أبتاعُه مِن السوق، فقال "لاَ تَبعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ" قال الترمذى: حديث حسن.
وفى "السنن" نحوه من حديث ابن عمرو رضى الله عنه، ولفظه: "لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلاَ شَرْطَانِ فى بَيْع، وَلاَ ربْحُ مَا لَم يُضْمَنْ، ولاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ" قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
فاتفق لفظُ الحديثين على نهيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيع ما ليس عنده، فهذا هو المحفوظُ مِن لفظه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يتضمن نوعاً مِن الغَرَرِ، فإنه إذا باعه شيئاً معيناً، ولَيس فى ملكه ثم مضى لِيشتريه، أو يسلمه له، كان متردداً بينَ الحصول وعدمه، فكان غرراً يشبه القِمَار، فَنُهِىَ عنه. وقد ظنَّ بعضُ الناس أنه إنما نهى عنه، لكونه معدوماً، فقال: لا يَصِحُّ بيعُ المعدوم، وروى فى ذلك حديثاً أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عَنْ بَيْعِ المَعْدُومِ، وهذا الحديثُ لا يُعرف فى شىء مِن كتب الحديث، ولا له أصلَ، والظاهر أنه مروى بالمعنى من هذا الحديث، وغَلِظَ مَنْ ظَنَّ أن معناهما واحد، وأن هذا المنهى عنه فى حديث حكيم وابن عمرو رضى الله عنه لا يلزمُ أن يكون معدوماً، وإن كان، فهو معدوم خاص، فهو كبيع حَبَلِ الحَبَلةِ وهو معدوم يتضمن غرراً وتردداً فى حصوله.
والمعدوم ثلاثةُ أقسام: معدوم موصوف فى الذمة، فهذا يجوز بيعُه اتفاقاً، وإن كان أبو حنيفة شرط فى هذا النوع أن يكون وقت العقد فى الوجود من حيثُ الجملة، وهذا هو السَّلَمُ، وسيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
والثانى: معدوم تبع للموجود، وإن كان أكثرَ منه وهو نوعانِ: نوع متفق عليه ونوع مختلَف فيه، فالمتَّفَق عليه بيعُ الثمار بعد بدو صلاح ثمرة واحدة منها، فاتفق الناسُ على جواز بيع ذلك الصنف الذى بدا صلاحُ واحدة منه، وإن كانت بقية أجزاء الثمار معدومةً وقتَ العقد، ولكن جاز بيعها للموجود، وقد يكون المعدومُ متصلاً بالموجود، وقد يكون أعياناً أخر منفصلة عن الوجود لم تُخلق بعد.
والنوع المختلف فيه كبيع المقاثىء والمباطخ إذا طابت، فهذا فيه قولان، أحدهما: أنه يجوزُ بيعُها جملة، ويأخذها المشترى شيئاً بعد شىء،
كما جرت به العادة، ويجرى مجرى بيع الثمرة بعد بُدُوِّ صلاحها، وهذا هو الصحيحُ مِن القولين الذى استقر عليه عمل الأمة، ولا غنى لهم عنه، ولم يأتِ بالمنع منه كتابٌ ولا سنة ولا إجماع، ولا أثر ولا قياس صحيح، وهو مذهب مالك وأهلٍ المدينة، وأحد القولين فى مذهب أحمد، وهو اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية.
والذين قالوا: لا يُباع إلا لُقْطَةً لا ينضبِطُ قولُهم شرعاً ولا عُرفاً ويتعذَّرُ العملُ به غالباً، وإن أمكن، ففى غاية العسر، ويؤدى إلى التنازع والاختلاف الشديد، فإن المشترى يُريد أخذَ الصغار والكِبار، ولا سيما إذا كان صغاره أطيب من كباره والبائع لا يُؤثر ذلك، وليس فى ذلك عرف منضبط، وقد تكون المقثأة كثيرةً، فلا يستوعِبُ المشترى اللُّقطة الظاهرة حتى يحدث فيها لُقطة أخرى، ويختلط المبيع بغيره، ويتعذَّرُ تمييزُه، ويتعذر أو يتعسَّر على صاحب المقثأة أن يُحْضِرَ لها كُلَّ وقت مَن يشترى ما تجدَّد فيها، ويُفرده بعقد، وما كان هكذا، فإن الشريعة، لا تأتى به، فهذا غيرُ مقدورٍ ولا مشروع، ولو أُلزم الناسُ به، لفسدت أموالُهم وتعطلَّت مصالِحُهمْ ثم إنَّه يتضمن التفريقَ بينَ متماثلين مِن كل الوجوه، فإن بُدو الصَّلاحِ فى المقاثىء بمنزلة بُدوِّ الصلاح فى الثمار، وتلاحقُ أجزائها كتلاحُقِ أجزاءِ الثِّمارِ، وجَعْلُ ما لم يُخلق منها تبعاً لما خُلِقَ فى الصورتين واحدٌ، فالتَفريقُ بينهما تفريق بين متماثلين.
ولما رأى هؤلاء ما في بيعها لُقْطَةً لُقْطَةً مِن الفساد والتعذُّرِ قالوا: طريقُ رفع ذلك بأن يبيعَ أصلَها معها، ويقال: إذا كان بيعُها جملةً مفسدة عندكم، وهو بيعٌ معدوم وغرر، فإن هذا لا يرتفعُ ببيع العروقِ التي لا قيمة لها، وإن كان لها قيمة، فيسيرة جداً بالنسبة إلى الثمن المبذول، وليس للمشتري
قصدٌ في العروق، ولا يدفع فيها الجملةَ مِن المال، وما الذي حصل ببيعِ العُروق معها مِن المصلحة لهما حتى شرط، وإذا لم يكن بيعُ أصول الثمارِ شرطاً في صِحة بيعِ الثمرة المتلاحقةِ كالتينِ والتُوت وهي مقصودة، فكيف يكونُ بيعُ أصولِ المقاثىء شرطاً في صحة بيعها وهي غيرُ مقصودة، والمقصودُ أن هذا المعدومَ يجوزُ بيعُه تبعاً للموجود، ولا تأثيرَ للمعدُومِ، وهذا كالمنافع المعقودِ عليها في الإِجارة، فإنها معدومة، وهي مورد العقدَ، لأنها لا يُمكِنُ أن تَحْدُثَ دفعةً واحدة، والشَرائعُ مبناها على رعاية مصالح العباد، وعدم الحجر عليهم فيما لا بُدَّ لهم منه، ولا تتمُّ مصالِحُهم في معاشهم إلا به.
فصل
الثالث: معدوم لا يُدرى يحصُل أو لا يحصُل، ولا ثقة لبائعه بحصوله، بل يكونُ المشتري منه على خطر، فهذا الذي منع الشارعُ بيعَه لا لِكونه معدوماً، بل لكونه غَرَراً، فمنه صورةُ النهي التي تضمنها حديث حكيم بن حزام وابن عمر رضي الله عنهما، فإن البائعَ إذا باعَ ما ليس في مُلكه، ولا له قُدرة على تسليمه، ليذهب ويحصله، ويسلمه إلى المشتري، كان ذلك شبيهاً بالقمار والمخاطرة مِن غير حاجة بهما إلى هذا العقدِ، ولا تتوقَّفُ مصلحتُهما عليه، وكذلك بيعُ حَبَلِ الحَبَلَةِ- وهو بيعُ حمل ما تحمِلُ ناقتُه-، ولا يختصُّ هذا النهي بحمل الحمل، بل لو باعه ما تحمِلُ ناقتُه أو بقرتُه أو أمتُه، كان مِن بيوع الجاهلية التي يعتادونها.
وقد ظنَّ طائفة أن بيعَ السَّلَمِ مخصوصٌ مِن النهي عن بيع ما ليسَ عنده، وليس هو كما ظنُّوه،
فإن السلمَ يرد على أمر مضمون في الذمة، ثابتٍ فيها، مقدورٍ على تسليمه عند محله، ولا غرر في ذلك، ولا خطر، بل هو جعل المال في ذمة المسلَّم إليه، يجب عليه أداؤُه عند محله، فهو يُشبه تأجيلَ الثمن في ذمة المشتري، فهذا شغلٌ لِذمة المشتري بالثمن المضمون، وهذا شغلٌ لذمة البائع بالمبيع المضمون، فهذا لون، وبيعُ ما ليس عنده لونٌ، ورأيتُ لشيخنا في هذا الحديث فصلاً مفيداً وهذه سياقته.
قال: للناس في هذا الحديثِ أقوالٌ قيل: المرادُ بذلك أن يبيعَ السِّلعةَ المعينة التي هي مال الغير، فيبيعُها، ثم يتملَّكُها، ويُسلمها إلى المشتري، والمعنى: لا تَبعْ ما ليسَ عِنْدَك من الأعيان، ونقل هذا التفسير عن الشافعي، فإنه يُجوِّز السلمَ الحال، وقد لا يكون عند المسلم إليه ما باعه، فحمله على بيع الأعيان، ليكون بيع ما في الذمة غَير داخل تحته سواءً كان حالاً أو مؤجلاً.
وقال آخرون: هذا ضعيف جداً، فإن حكيم بن حزام ما كان يبغ شيئاً معيناً هو ملك لغيره، ثم ينطلِقُ فيشتريه منه، ولا كان الذين يأتونه يقولون: نطلبُ عبد فلان، ولا دارَ فلان، وإنما الذي يفعلُه الناسُ أن يأتيَه الطالبُ، فيقولُ: أريدُ طعاماً كذا وكذا، أو ثوباً كذا وكذا، أو غير ذلك، فيقول: نعم أعطيك، فيبيعه منه، ثم يذهب، فيحصله من عند غيره إذا لم يكن عنده، هذا هو الذي يفعله من يفعلُه مِن الناس، ولهذا قال: "يأتيني فيطلب مني المبيع ليس عندي" لم يقل يطلب مني ما هو مملوك لغيري، فالطالبُ طلب الجنسَ لم يطلُبْ شيئا معيناً، كما جرت به عادةُ الطالب لما يُؤكل ويُلبس ويُركب، إنما يطلب جنس ذلك، ليس له غرض في ملك شخص بعينه دون ما سواه، مما هو مثلُه أو خيرٌ منه،
ولهذا صار الإِمامُ أحمد وطائفةٌ إلى القول الثاني، فقالوا: الحديثُ على عمومه يقتضي النهي عن بيع ما في الذمة إذا لم يكن عنده، وهو يتناول النهي عن السَّلم إذا لم يكن عنده، لكن جاءت الأحاديثُ بجوازِ السَّلَمِ المؤجلِ، فبقي هذا في السَلَمِ الحالَ.
والقول الثالث - وهو أظهر الأقوال -: إن الحديثَ لم يرد به النهي عن السلم المؤجَّل، ولا الحال مطلقاً، وإنما أريد به أن يبيعَ ما في الذمة مما ليس هو مملوكاً له، ولا يقدِرُ على تسليمه، ويربح فيه قبل أن يَملِكه، ويضمنه، ويقدر على تسليمه، فهو نهي عن السلم الحالى إذا لم يكن عند المستسلِفِ ما باعه، فليزم ذمته بشيء حالٍّ، ويربح فيه، وليس هو قادراً على إعطائه، وإذا ذهب يشتريه، فقد يحصُل وقد لا يحصُل، فهو مِن نوع الغرر والمخاطرة، وإذا كان السلم حالاًّ، وجب عليه تسليمُه في الحال، وليس بقادرٍ على ذلك، ويربح فيه على أن يَملكه ويضمنه، وربما أحاله على الذي ابتاع منه، فلا يكونُ قد عمل شيئاً، بل أكل المال بالباطل، وعلى هذا فإذا كان السَّلم الحالُّ والمسلم إليه قادراً على الإِعطاء، فهو جائز، وهو كما قال الشافعي إذا جاز المؤجَّل، فالحالُّ أولى بالجواز.
ومما يُبين أن هذا مرادُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن السائل إنما سأله عن بيع شيء مطلق في الذمة كما تقدم، لكن إذا لم يجز بيعُ ذلك، فبيعُ المعين الذي لم يملكْه أولى بالمنع، وإذا كان إنما سأله عن بيع شيء في الذمة، فإنما سأله عن بيعه حالاًّ، فإنه قال: أبيعُه، ثم أذهب فأبتاعه، فقال له: "لاَ تَبْع ما لَيْس عِنْدَكَ"، فلو كان السلفُ الحال لا يجوزُ مطلقاً، لقال له ابتداء: لا تبع هذا سواء كان عنده أو ليس عنده، فإن صاحبَ هذا القول يقول: بيعُ ما في الذمة حالاًّ لا يجوز، ولو كان عنده ما يُسلمه، بل إذا كان عنده، فإنه لا يبيع إلا
معيناً لا يبيع شيئاً في الذمة، فلما لم ينه النبيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك مطلقاً، بل قال: "لاَ تَبعْ ما ليس عندك"، علم أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرَّق بين ما هو عنده ويملِكه ويقدِر على تسليمه، وما ليس كذلك، وإن كان كلاهما في الذمة.
ومن تدبَّر هذا تبيَّن له أن القولَ الثالثَ هو الصوابُ، فإن قيل: إن بيعَ المؤجَّل جائزٌ للضرورة وهو بيعُ المفاليس، لأن البائع احتاج أن يبيعَ إلى أجل، وليس عنده ما يبيعه الآن، فأما الحال، فيمكنه أن يحضر المبيع فيراه، فلا حاجة إلى بيع موصوف في الذمة، أو بيع عين غائبة موصوفة لا يبيع شيئاً مطلقاً؟. قيل: لا نسلم أن السَّلمَ على خلاف الأصل، بل تأجيلُ المبيع كتأجيل الثمن، كلاهما مِن مصالح العالم.
والناسُ لهم في مبيع الغائب ثلاثةُ أقوال: منهم من يُجوِّزه مطلقاً، ولا يجوزه معيناً موصوفاً كالشافعي في المشهور عنه، ومنهم من يجوِّزه معيناً موصوفاً، ولا يجوزه مطلقاً كأحمد وأبي حنيفة، والأظهرُ جوازُ هذا وهذا، ويقال لِلشافِعي مثل ما قال هو لغيره: إذا جاز بيعُ المطلق الموصوف في الذمة، فالمعينُ الموصوفُ أولى بالجواز، فإن المطلق فيه مِن الغرر والخطر والجهل أكثرُ مما في المعيَّن، فإذا جاز بيعُ حنطة مطلقة بالصفة، فجوازُ بيعها معينة بالصفة أولى، بل لو جَازَ بيع المعين بالصفة، فللمشتري الخيار إذا رآه، جاز أيضاً، كما نقل عن الصحابة، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، وقد جوز القاضي وغيره من أصحاب أحمد السَّلَمَ الحال بلفظ البيع.
والتحقيقُ: أنه لا فرقَ بينَ لفظٍ ولفظٍ، فالاعتبارُ في العقود بحقائقها ومقاصدها لا بمجرد ألفاظها، ونفسُ بيعِ الأعيان الحاضرة التي يتأخر قبضُها يُسمى سلفاً إذا عجل له الثمن، كما في "المسند" عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنَّه نَهَى
أن يُسْلِمَ في الحَائِطِ بِعَيْنهِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَدَا صَلاَحُهُ" ، فإذا بَدَا صَلاحُهُ، وقال: أسلمت إليك في عشرة أوسق مِن تمر هذا الحائط، جاز كما يجوز أن يقول: ابتعت عشرة أوسق مِن هذه الصُّبرة، ولكن الثمن يتأخَر قبضُه إلى كمال صلاحه، فإذا عجَّل له الثمن قيل له: سلف، لأن السلفَ هو الذي تقدم، والسالف المتقدم قال الثه تعالى: {فَجَعلْنَاهُمْ سَلَفاً ومَثلاً لِلآخِرين} [الزخرف: 56] والعرب تُسمي أوَل الرواحل السالفة، ومنه قولُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألحق بِسَلَفِنَا الصَالِحِ عُثمَان بن مَظْعُونٍ". وقول الصديق رضي الله عنه: لأقاتلنَّهم حتى تنفرِدَ سالفتي. وهي العنق.
ولفظ السلف يتناولُ القرضَ والسلم، لأن المقرض أيضاً أسلف القرض، أي: قدمه، ومنه هذا الحديث "لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وبَيْعٌ" ومنه الحَديثُ الآخر: "أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ بَكْراً، وقَضَى جَمَلاً رَبَاعِياً" والذي يبيعُ ما ليس عنده لا يقصِدُ إلا الربح، وهو تاجر، فَيَسْتَلِفُ بسعر، ثم يذهب فيشتري بمثل ذلك الثمن، فإنه يكون قد أتعبَ نفسه لغيره بلا فائدة، وإنما يفعل هذا من يتوكل لغيره فيقول: أعطني، فأنا أشتري لك فذه السلعة، فيكون أميناً، أما أنه يبيعها بثمنٍ معين يقبضه، ثم يذهب فيشتريها بمثل ذلك
الثمن مِن غير فائدة في الحال، فهدا لا يفعلُه عاقل، نعم إذا كان هناك تاجرٌ، فقد يكون محتاجاً إلى الثمن، فَيَسْتَسْلِفُهُ وينتفعُ به مدة إلى أن يحصل تلك السلعة، فهذا يقع في السلم المؤجَّل، وهو الذي يسمى بيعَ المفاليس، فإنه يكون محتاجاً إلى الثمن وهو مفلس، وليس عنده في الحال ما يبيعُه، ولكن له ما ينتظره مِن مَغَلٍّ أو غيره، فيبيعه في الذمة، فهذا يفعل مع الحاجة، ولا يُفعل بدونها إلا أن يقصد أن يتَّجِرَ بالثمن في الحال، أو يرى أنه يحصل به مِن الربح أكثر مما يفوتُ بالسلم، فإن المستسلف يبيعُ السلعة في الحال بدون ما تساوي نقداً، والمسلف يرى أن يشتريَها إلى أجل بأرخصَ مما يكون عند حصولها، وإلا فلو علم أنها عند طرد الأصل تُباع بمثل رأس مال السلم لم يُسلم فيها، فيذهب نفعُ ماله بلا فائدة، وإذا قصد الأجر، أقرضه ذلك قرضاً، ولا يجعل ذلك سَلَماً إلا إذا ظنَّ أنه في الحال أرخصُ منه وقتَ حلول الأجل، فالسلمُ المؤجَّل في الغالب لا يكون إلا مع حاجة المستسلِف إلى الثمن، وأما الحال، فإن كان عنده، فقد يكونُ محتاجاً إلى الثمن، فيبيعُ ما عنده معيناً تارة، وموصوفاً أخرى، وأما إذا لم يكن عنده، فإنه لا يفعلُه إلا إذا قصد التجارة والربحَ، فيبيعه بسعر، ويشتريه بأرخص منه.
ثم هذا الذي قدَّره قد يحصُل كما قدره، وقد لا يحصُل له تلك السلعة التي يُسلف فيها إلا بثمن أغنى مما أسلف فيندم، وإن حصلت بسعر أرخصَ مِن ذلك، قدم السلف إذ كان يُمكنه أن يشترِيَه هو بذلك الثمن، فصار هذا مِن نوع الميسر والقمار والمخاطرة، كبيع العبد الآبق، والبعير الشارد يُباع بدون ثمنه، فإن حصل، نَدِم البائع، وإن لم يحصل، نَدِمَ المشتري، وكذلك بيعُ حَبَلِ الحَبَلَةِ، وبيعُ الملاقِيحِ والمضامينِ، ونحو ذلك مما قد يحصُل، وقد لا يحصل، فبائعُ ما ليس عنده من جنس بائع الغرر الذي قد
يحصل، وقد لا يحصل وهو من جنس القمار والميسر. والمخاطرة مخاطرتان: مخاطرة التجارة وهو أن يشتريَ السلعة بقصد أن يبيعَها ويربحَ ويتوكَّل على اللهِ في ذلك، والخطر الثاني: الميسر الذي يتضمن أكلَ المال بالباطل، فهذا الذي حرَّمه الله تعالى ورسوله مثل بيعِ الملامسة والمنابذة، وحَبَلِ الحَبَلَة والملاقيح والمضامين، وبيع الثمار قبل بُدو صلاحها، ومن هذا النوع يكونُ أحدهما قد قَمَرَ الآخرَ، وظلمه، ويتظلم أحدُهما مِن الآخر بخلاف التاجر الذي قد اشترى السلعة، ثم بعد هذا نقص سعرُها، فهذا من الله سبحانه ليس لأحد فيه حِيلة، ولا يتظلَّم مثلُ هذا مِن البائع، وبيعُ ما ليس عنده مِن قسم القمار والميسر، لأنه قصد أن يربح على هذا لما باعه ما ليس عنده، والمشتري لا يعلم أنه يبيعه، ثم يشتري مِن غيره، وأكثرُ الناس لو عَلِمُوا ذلك لم يشتروا منه، بل يذهبون ويشترون مِن حيث اشترى هو، وليست هذه المخاطرة مخاطرة التجار بل مخاطرة المستعجل بالبيع قبل القدرة على التسليم، فإذا اشترى التاجر السلعة، وصارت عنده ملكاً وقبضاً، فحينئذ دخل في خطر التجارة، وباع بيع التجارة كما أحله الله بقوله: {لاَ تَأكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنكُم بِالبَاطِلِ إلاّ أَنْ تكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنكُم} [النساء: 29]، والله أعلم.
ذكر حُكمِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيع الحَصَاةِ والغَرَرِ والمُلامسة والمنَابَذَةِ
في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " نهى رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الحَصَاةِ وعَنْ بَيْعِ الغَرَرِ".
وفي "الصحيحين" عنه: "أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن المُلامَسَةِ والمنَابَذَةِ" زاد مسلم: "أمَّا المُلاَمَسَةُ: فأنَ يَلْمِسَ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِه بِغَيْرِ تَأمُلٍ، والمُنَابَذَةُ: أَن يَنبِذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَه إلى الآخَرِ، ولَمْ يَنْظُرْ وَاحِدٌ منْهُمَا إلى ثَوْب صَاحبه الآخَرِ". وفي "الصحيحين" عن أبي سعيد قال: "نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ ولُبْسَتَينِ: نَهَى عَنِ المُلاَمَسَةِ والمُنَابَذَةِ في البَيعِ. والمُلاَمَسَةُ: لمسُ الرجلِ ثوبَ الآخر بيده بالليلِ أو بالنهارِ ولا يقْلِبُه إلا بذلك، والمنابذة: أن يَنْبِذَ الرجلُ إلى الرجل ثوبَه، وينبذ الآخر ثوبَه، ويكون ذلك بيعَهما مِن غير نظر ولا تراض".
أما بيعُ الحصاةِ، فهو من باب إضافة المصدر إلى نوعه، كبيع الخيار، وبيع النسيئة ونحوهما، وليس مِن باب إضافة المصدر إلى مفعوله، كبيع الميتة والدم.
والبيوعُ المنهى عنها ترجعُ إلى هذين القِسمين، ولهذا فُسِّرَ بيعُ الحصاة بأن يقول: ارمِ هذه الحصاةَ، فعلى أيِّ ثوبِ وقعت، فهو لك بِدرهم، وفسر بأن بيعَه مِن أرضه قدرَ ما انتهت إليه رميةُ الحصاة، وفُسِّرَ بأن يقبض على كف من حصا، ويقول: لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع، أو يبيعه سلعة، ويَقْبِض على كف مِن الحصا، ويقول: لي بكُلِّ حصاة
درهم، وفُسِّرَ بأن يمسك أحدهما حصاة في يده، ويقول: أي وقت سقطت الحصاة، وجب البيعُ، وفُسِّرَ بأن يتبايعا، ويقول أحدهما: إذا نبذت إليك الحصاة، فقد وجب البيعُ، وفُسِّرَ بأن يعترِضَ القطيع مِن الغنم، فيأخذ حصاة، ويقول: أيُّ شاة أصبتها، فهي لك بكذا، وهذه الصورُ كلُها فاسدة لما تتضمنه من أكل المال بالباطل، ومِن الغَرَرِ والخطر الذي هو شبيه بالقمار.
فصل
وأما بيعُ الغَرَرِ، فمن إضافة المصدر إلى مفعوله كبيع الملاقيح والمضامين والغَرَرُ: هو المَبيع نفسه، وهو فعل بمعنى مفعول، أي: مغرور به كالقبض والسلب بمعنى المقبوض والمسلوب، وهذا كبيع العبد الآبق الذي لا يقدر على تسليمه، والفرس الشارد، والطير في الهواء، وكبيع ضربة الغائص وما تحمل شجرته أو ناقته، أو ما يرضى له به زيد، أو يهبه له، أو يورثه إياه ونحو ذلك مما لا يعلم حصولُه أو لا يقدر على تسليمه، أو لا يُعرف حقيقته ومقداره، ومنه بيعُ حَبَلِ الحَبَلَةِ، كما ثبت في "الصحيحين" أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عنه، وهو نتاج النتاج في أحد الأقوال، والثاني: أنه أجل، فكانوا يتبايعون إليه هكذا رواه مسلم، وكِلاهما غرر، والثالث: أنه بيعُ حمل الكرم قبل أن يبلغ، قاله المبرد. قال: والحبْلة: الكرم بسكون الباء وفتحها، وأما ابنُ عمر رضي الله عنه، فإنه فسره بأنه أجلٌ كانوا يتبايعون إليه، وإليه ذهب مالك والشافعي، وأما أبو عبيدة، ففسره ببيع نتاج النتاج، وإليه ذهب أحمد،
ومنه بيعُ الملاقيح والمضامين، كما ثبت في حديث سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عَن المضامينِ والملاقيح. قال أبو عُبيد: الملاقيح ما في البطون من الأجنَّةِ، والمضامين: ما في أَصلاب الفحول، وكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة، وما يضربه الفحل في عام أو أعوام وأنشد:
إنَّ المَضَامِينَ الَّتي في الصُّلْبِ ... مَاءُ الفُحُولِ في الظُّهُورِالحُدْبِ
ومِنه بيعُ المَجْرِ، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْه. قال ابن الأعرابي: المجر ما في بطن الناقة، والمجر: الربا، والمجر: القِمار، والمجر: المحاقلَة والمزابنة.
ومنه بيعُ الملامسة والمنابذة وقد جاء تفسيرُهما في نفس الحديث، ففي "صحيح مسلم" عن أبي هُريرة رضي الله عنه نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ: المُلاَمَسَةِ وَالمُنَابَذَةِ، أَمَا المُلاَمَسَةُ فَأَنْ يلْمِسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما ثَوبَ صاحبه بغير تأمل والمنابذة: أن ينبِذ كُلُّ واحد منهما ثوبَه إلى الآخر، ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه، هذا لفظ مسلم.
وفي "الصحيحين" عن أبي سعيد قال: نهانا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيعيين ولبستين في البيع، والملامسة: لمسُ الرجل ثوبَ الآخر بيده بالليل أو بالنهار، ولا يَقْلِبُهُ إلا بذلك، والمُنابذة: أن يَنبذ الرجل إلى الرجل ثوبَه، وينبِذَ الآخر إليه ثوبه، ويكون ذلك بيعَهما مِن غير نظر ولا تراض.
وفُسِّرَتِ الملامسةُ بأن يقول: بعتُك ثوبي هذا على أنك متى لمسته، فهو عليك بكذا، والمنابذة بأن يقول: أي ثوب نبذته إلي، فهو علي بكذا، وهذا أيضاً نوع من الملامسة والمنابذة، وهو ظاهر كلام أحمد رَحِمَهُ الله، والغرر في ذلك ظاهر، وليس العلة تعليقَ البيعِ شرط، بل ما تضمنه مِن الخطر والغرر.
فصل
وليس مِن بيع الغَرَرِ بيع المغيَّبَات في الأرض كاللفتِ والجَزَرِ والفِجل والقَلقَاس والبَصل ونحوها، فإنها معلومة بالعادة يَعْرِفُها أهل الخبرة بها، وظاهرُها عنوانُ باطنها، فهو كظاهر الصُّبْرَةِ مع باطنها، ولو قُدِّرَ أن في ذلك غرراً، فهو غرر يسير يُغتفر في جنب المصلحة العامة التي لا بد للناس منها، فإن ذلك غرر لا يكون موجباً للمنع، فإن إجارة الحيوان والدار والحانوت مساناة لا تخلُو عن غرر، لأنه يعرض فيه موتُ الحيوان، وانهدام الدار، وكذا دخولُ الحمام، وكذا الشربُ من فم السقاء، فإنه غيرَ مقدر مع اختلاف الناس في قدره، وكذا بيوعُ السَّلم، وكذا بيع الصُبْرةِ العظيمة التي لا يُعلم مكيلُها، وكذا بيعُ البيضِ والرُّمَّان والبطيخ والجوز واللوز والفستق، وأمثال ذلك مما لا يخلو مِن الغرر، فليس كُلُ غرر سبباً للتحريم، والغررُ إذا كان يسيراً أو لا يُمكن الاحترازُ منه، لم يكن مانعاً مِن صحة العقد، فإن الغررَ الحاصِل في أساسات الجدران، وداخل بطون
الحيوان، أو آخر الثمار التي بدا صلاحُ بعضِها دونَ بعض لا يُمكن الاحترازُ منه، والغررُ الذي في دخولِ الحمام، والشرب من السِّقاء ونحوه غرر يسير، فهذان النوعان لا يمنعانِ البيع بخلاف الغرر الكثير الذي يمكن الاحترازُ منه، وهو المذكور في الأنواع التي نهى عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كان مساوياً لها لا فرقَ بينها وبينَه، فهذا هو المانعُ مِن صحة العقد.
فإذا عُرِفَ هذا، فبيعُ المغيبات في الأرض، انتفى عنه الأمرانِ، فإن غررَه يسير، ولا يُمكن الاحترازُ منه، فإن الحقول الكِبار لا يُمكن بيعُ ما فيها مِن ذلك إلا وهو في الأرض، فلو شرط لبيعه إخراجَه دفعة واحدة كان في ذلك من المشقة، وفساد الأموال ما لا يأتي به شرع، وإن منع بيعه إلا شيئاً فشيئاً كلما أخرجَ شيئاً باعه، ففي ذلك مِن الحرج والمشقة، وتعطيلِ مصالح أربابِ تلك الأموالِ، ومصالح المشتري ما لا يخفى، وذِّلك مما لا يُوجبه الشارعُ، ولا تقومُ مصالحُ الناس بذلك البتة حتى إن الذين يمنعون مِن بيعها في الأرض إذا كان لأحدهم خَرَاجٌ كذلك، أو كان ناظراً عليه، لم يجد بُداً مِن بيعه في الأرض اضطراراً إلى ذلك، وبالجملة، فليس هذا مِن الغرر الذي نهى عنه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نظير لما نهى عنه من البيوع.
فصل
وليس منه بيعُ المسك في فأرته، بل هو نظيرُ ما مأكوله في جوفه كالجوز واللوز والفُستق وجوز الهند، فإن فأرته وعاء له تصونُه مِن الآفات، وتحفظ عليه رطوبته ورائحتَه، وبقاؤه فيها أقربُ إلى صيانته مِن الغش
والتغير، والمسك الذي في الفأرة عند الناس خير من المنفوض، وجرت عادة التجار بيعه وشرائه فيها، ويعرفون قدره وجنسه معرفة لا تكاد تختلِف، فليس مِن الغرر في شيء، فإن الغرر هو ما تردد بين الحصول والفوات، وعلى القاعدة الأخرى: هو ما طُوِيَتْ معرفتُه، وجُهِلَتْ عينُه، وأما هذا ونحوه، فلا يُسمى غرراً لا لغةً ولا شرعاً ولا عُرفاً، ومن حَرَّمَ بيعَ شيء، وادعى أنه غُرِّرَ، طُولِب بدخوله في مسمى الغرر لغة وشرعاً، وجوازُ بيع المسك في الفأرة أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وهو الراجحُ دليلاً، والذين منعوه جعلوه مثل بيع النوى في التمر، والبيض في الدجاج، واللبن في الضرع، والسمن في الوعاء، والفرقُ بين النوعين ظاهر.
ومنازعوهم يجعلونه مثلَ بيع قلب الجوز واللوز والفستق في صِوانه، لأنه من مصلحته، ولا ريبَ أنه أشبهُ بهذا منه بالأول، فلا هو مما نهى عنه الشارعُ، ولا في معناه، فلم يشمَلْهُ نهيُه لفظاً ولا معنى.
وأما بيعُ السمن في الوعاء، ففميه تفصيل، فإنه إن فتحه، ورأى رأسه بحيث يدُلُه على جنسه ووصفه، جاز بيعُه في السِّقاء، لكنه يصيرُ كبيع الصُّبرة التي شاهد ظاهرها وإن لم يره، ولم يُوصف له، لم يجز بيعُه، لأنه غرر، فإنه يختلِفُ جنساً ونوعاً ووصفاً، وليس مخلوقاً في وعائه كالبيضِ والجوز واللوز والمسك في أوعيتها، فلا يصح إلحاقُه بها.
وأما بيعُ اللبن في الضرع، فمنعه أصحابُ أحمد والشافعي وأبي حنيفة والذي يجب فيه التفصيلُ، فإن باع الموجودَ المشاهدَ في الضرع، فهذا لا يجوز مفرداً، ويجوز تبعاً للحيوان، لأنه إذا بيعَ مفرداً تعذر تسليمُ المبيع بعينه، لأنه لا يُعرف مقدارُ ما وقع عليه البيع، فإنه وإن كان مشاهداً كاللبن في الظرف، لكنه إذا حلبه خلفه مثله مما لم يكن في الضرع، فاختلط المبيعُ
بغيره على وجه لا يتميز، وإن صح الحديثُ الذي رواه الطَّبرانِي في "مُعْجَمِهِ" من حديث ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نهى أن يُباع صوفٌ على ظهر، أو لَبَنٌ في ضَرْعٍ " فهذا إن شاء الله محمله، وأما إن باعه آصعاً معلومة من اللبن يأخذه مِن هذه الشاة، أو باعه لبنَها أياماً معلومة، فهذا بمنزلة بيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها لا يجوزُ، وأما إن باعه لبناً مطلقاً موصوفاً في الذمة، واشترط كونه مِن هذه الشاة أو البقرة، فقال شيخنا: هذا جائز، واحتج بما في "المسند" من أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يُسلم في حائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحُه. قال فإذا بدا صلاحه، وقال: أسلمتُ إليك في عشرة أوسق مِن تمرِ هذا الحائط، جاز كما يجوز أن يقول: ابتعتُ منك عشرَة أوسق مِن هذه الصُّبرة، ولكن الثمن يتأخر قبضُه إلى كمال صلاحه، هذا لفظه.
فصل
وأما إن أجره الشاةَ أو البقرة أو النَاقة مدةً معلومة لأخذ لبنها في تلك المدة، فهذا لا يُجَوِّزُه الجمهورُ؟ واختار شيخُنا جوازه، وحكاه قولاً لبعض أهل العلم، وله فيها مصنَّفٌ مفرد، قال: إذا استأجر غنماً أو بقراً، أو نوقاً أيامَ اللبن بأجرة مسماة، وعلفُها على المالِك، أو بأجرة مسماة مع
علفها على أن يأخُذَ اللبن، جاز ذلك في أظهر قولي العلماء كما في الظِّئر قال: وهذا يُشبه البيع، ويُشبه الإِجارة، ولهذا يذكرُه بعضُ الفقهاء في البيع، وبعضُهم في الإِجارة، لكن إذا كان اللبن يحصُل بعلف المستأجر وقيامه على الغنم، فإنه يشبه استئجار الشجر، وإن كان المالك هو الذي يَعلِفُها، وإنما يأخذُ المشتري لبناً مقدراً، ففذا بيعٌ محضٌ، وإن كان يأخذ اللبن مطلقاً، فهو بيعٌ أيضاً، فإن صاحب اللبن يُوفيه اللبن بخلاف الظئر، فإنما هي تسقي الطفل، وليس فذا داخلاً فيما نهى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن بيع الغَرَرِ، لأن الغرر تردُّدٌ بين الوجود والعدم، فنهى عن بيعه، لأنه مِن جنس القمار الذي هو الميسر، والله حرم ذلك لما فيه مِن أكل المال بالباطل، وذلك مِن الظلم الذي حرمه اللهُ تعالى، وهذا إنما يكون قماراً إذا كان أحدُ المتعاوضين يحصلُ له مال، والآخر قد يحصُل له وقد لا يحصل، فهذا الذي لا يجوزُ كما في بيع العبد الآبق، والبعير الشارد، وبيع حَبَلِ الحَبَلَةِ، فإن البائع يأخذُ مال المشتري، والمشتري قد يحصل لَهُ شَيء، وقد لا يَحصُل، ولا يعرف قدر الحاصل، فأما إذا كان شيئاً معروفاً بالعادة كمنافع الأعيان بالإِجارة مثل منفعة الأرض والدابة، ومثلِ لبن الظئر المعتاد، ولبنِ البهائم المعتاد، ومثلِ الثمر والزرع المعتاد، فهذا كُلُّهُ من باب واحد وهو جائز.
ثم إن حصل على الوجه المعتاد، وإلا حطَّ عن المستأجر بقدر ما فات مِن المنفعة المقصودة، وهو مثلُ وضع الجائحة في البيع، ومثلُ ما إذا تلف بعضُ المبيع قبل التمكن مِن القبض في سائر البيوع.
فإن قيل: مَوْرِدُ عقد الإِجارة إنما هو المنافع، لا الأعيان، ولفذا لا يَصِحُ استئجارُ الطعامِ ليأكله، والماء ليشربه، وأما إجارة الظئر، فعلى المنفعة وهي وضع الطفل في حَجرها، وإلقامُه ثديها، واللبنُ يدخل ضمناً
وتبعاً، فهو كنقع البئر في إجارة الدار، ويغتفر فيما دخل ضمناً وتبعاً ما لا يُغتفر في الأصول والمتبوعات.
قيل: الجواب عن هذا من وجوه.
أحدها: منع كون عقد الإِجارة لا يَرِدُ إلا على منفعة، فإن هذا ليس ثابتاً بالكتاب ولا بالسنة ولا بالإِجماع، بل الثابتُ عن الصحابة خلافه، كما صحَّ عن عمر رضي الله عنه أنه قَبَل حديقة أسيدِ بنِ حضير ثلاث سنين، وأخذ الأجرة فقضى بها دينَه، والحديقة: هي النخل، فهذه إجارة الشجر لأخذ ثمرها، وهو مذهبُ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا يُعلم له في الصحابة مخالف، واختاره أبو الوفاء بن عقيل من أَصحَابِ أحمد، واختيار شَيْخنا، فقولُكم: إن مورد عقد الإِجارة لا يكون إلا منفعة غيرُ مسلم، ولا ثابت بالدليل، وغاية ما معكم قياس محل النزاع على إجارة الخبز للأكل، والماء للشرب، وهذا مِن أفسد القياس، فإن الخبز تذهب عينُه ولا يُسْتَخْلَفُ مثله بخلاف اللبن ونقع البئر، فإنه لما كان يستخلف ويحدث شيئاً فشيئاً، كان بمنزلة المنافع.
يوضحه الوجه الثاني: وهو أن الثمر يجري مجرى المنافع والفوائد في الوقف والعارِيَّة ونحوها فيجوزُ أن يقف الشَّجَرة لِينتفع أهلُ الوقف بثمراتها كمَا يقفُ الأرض، لينتفعَ أهلُ الوقف بِغلَّتِها، ويجوز إعارةُ الشجرة، كما يجوز إعارة الظهر، وعاريَّة الدارِ، ومنيحةُ اللبن، وهذا كُلُ تبرع بنماء المال وفائدته، فإن من دفع عقاره إلى مَنْ يسكنُه، فهو بمنزلة مَنْ دفع دابتَه إلى من يركبها، وبمنزلة مَن دفع شجرة إلى من يستثمِرُها، وبمنزلة مَنْ دفع أرضَه إلى من يزرَعُها، وبمنزلة مَنْ دفع شاته إلى من يشربُ لبنها، فهذه الفوائدُ تدخُلُ في عقود التبرع، سواء كان الأصل مُحَبَّساً
بالوقف، أو غير محبس. ويدخل أيضاً في عقود المشاركات، فإنه إذا دفع شاة، أو بقرة، أو ناقة إلى من يعمل عليها بجزء مِن دَرِّها ونسلها، صحَّ على أصح الروايتين عن أحمد فكذلك يدخلُ في العقود للإِجارات.
يوضحه الوجه الثالث: وهو أن الأعيانَ نوعانِ: نوع لا يستخلف شيئاً فشيئاً، بل إذا ذهب، ذهب جملة، ونوع يُسْتَخْلَفُ شيئاً فشيئاً، كُلَّما ذهبَ منه شيء، خلفه شيء مثله، فهذا رتبةٌ وسطى بين المنافع وبين الأعيان التي لا تُسْتَخْلَفْ، فينبغي أن ينظر في شَبَهِهِ بأيِّ النوعين، فيُلحق به، ومعلوم أن شَبَهَهُ بالمنافع أقوى، فإلحاقه بها أولى.
يوضحه الوجه الرابع: وهو أن الله سبحانه نصَّ في كتابه على إجارة الظئر، وسمَّى ما تأخذه أجراً، وليس في القرآن إجارة منصوص عليها في شريعتنا إلا إجارة الظِّئرِ بقوله تعالى: {فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُم فآتُوهُنَّ أُجُورَهنَّ وأتَمِرُوا بَينَكُمْ بِمَعروفٍ} [الطلاق: 6]، قال شيخنا: وإنما ظن الظانُّ أنها خلافُ القياس حيث توهَّم أن الإِجارة لا تكون إلا على منفعة، وليس الأمرُ كذلك، بل الإِجارة تكونُ على كل ما يُستوفى مع بقاء أصله، سواء كان عيناً أو منفعة، كما أن هذه العينَ هي التي تُوقف وتُعار فيما استوفاه الموقوف عليه والمستعيرُ بلا عوض يستوفيه المستأجرُ وبالعوض، فلما كان لبن الظئر، مستوفى مع بقاء الأصل، جازت الإِجارة عليه كما جازت على المنفعة، وهذا محضُ القياس، فإن هذه الأعيانَ يُحدثها الله شيئاً بعد شيءٍ، وأصلُها باقٍ كما يُحدِثُ اللهُ المنافعَ شيئاً بعد شيء، وأصلُها باقٍ.
ويوضحه الوجهُ الخامِسُ: وهو أن الأصل في العقود وجوبُ الوفاء إلا ما حرَّمه اللهُ ورسولُه، فإن المسلمين على شروطهم إلا شرطاً أحلَّ حراماً، أو حرَّم حلالاً، فلا يحرُم مِن الشروط والعقود إلا ما حرَّمه اللهُ ورسولُه،
وليس مع المانعين نصّ بالتحريم البتة، وإنما معهم قياسٌ قد عُلِمَ أن بينَ الأصل والفرع فيه مِن الفرق ما يمنع الإِلحاق، وأن القياسَ الذي مع مَنْ أجاز ذلك أقربُ إلى مساواة الفرع لأصله، وهذا ما لا حيلة فيه، وبالله التوفيق.
يوضحه الوجه السادس: وهو أن الذين منعوا فذه الإِجارة لما رأوا إجارة الظئر ثابتةً بالنص والإِجماع، والمقصودَ بالعقد إنما هو اللبنُ، وهو عينٌ، تمحَّلُوا لجوازها أمراً يعلمون هم والمرضعةُ والمستأجرُ بطلانَه، فقالوا: العقدُ إنما وقع على وضعها الطفل في حَجرها وإلقامه ثديها فقط، واللبن يدخل تبعاً، والله يعلم والعقلاء قاطبة أن الأمر ليسَ كذلك، وأن وضع الطفل في حَجرها ليس مقصودا أصلاً، ولا ورد عليه عقدُ الإِجارة، لا عرفاً ولا حقيقةً ولا شرعاً، ولو أرضعت الطفلَ وهو في حَجر غيرها، أو في مهده، لاستحقت الأجرة، ولو كان المقصودُ إلقامَ الثدي المجرد، لاستؤجر له كل امرأة لها ثدي، ولو لم يكن لها لبن، فهذا هو القياسُ الفاسِدُ حقاً، والفقه البارد، فكيف يقال: إن إجارةَ الظِّئر على خلاف القياس، ويُدعى أن هذا هو القياسُ الصحيح.
الوجه السابع: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ندب إلى منيحة العَنْز والشاة للبنها، وحضَّ على ذلك، وذكر ثوابَ فاعله ومعلوم أن هذا ليس ببيع ولا هبة، فإن هِبة المعدوم المجهول لا تَصِحّ، وإنما هو عاريَّة الشاة للانتفاع بلبنها كما يُعيره الدابة لركوبها، فهذا إباحة للانتفاع بدرها، وكلاهما في الشرع
واحد، وما جاز أن يُستوفى بالعاريَّة جاز أن يُستوفى بالإِجارة، فإن موردَهما واحد، وإنما يختلفان في التبرع بهذا والمعاوضة على الآخر.
والوجه الثامن: ما رواه حرب الكرماني في "مسائله": حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا عباد بن عباد، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن أسيد بن حضير تُوفّي وعليه سِتةُ آلافِ دِرْهمٍ دَين، فدعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه "غُرماءَه، فَقَبَلَهُمْ أرضَه سنتينِ"، وفيها الشجر والنخلُ، وحدائقُ المدينة الغالب عليها النخلُ والأرضُ البيضاء فيها قليل، فهذا إجارة الشجر لأخذ ثمرها، ومن ادعى أن ذلك خلاف الإِجماع، فَمِنْ عدمِ علمه، بل ادعاء الإِجماع على جواز ذلك أقربُ، فإن عمر رضي الله عنه فعل ذلك بالمدينة النبوية بمشهد المهاجرين والأنصار وهي قصة في مَظِنَّةِ الاشتهار، ولم يُقابلها أحد بالإِنكار، بل تلقاها الصحابةُ بالتسليم والإِقرار، وقد كانوا يُنكرون ما هو دُونَها وإن فعله عمرُ رضي الله عنه، كما أنكر عليه عِمرانُ بن حصين وغيرُه شأن متعة الحج ولم ينكر أحد هذه الواقعة، وسنبين إن شاء الله تعالى أنها محضُ القياس، وأن المانعين منها لا بد لهم منها، وأنهم يتحيَّلُون عليها بحيل لا تجوز.
الوجه التاسع: أن المستوفَى بعقد الإِجارة على زرعِ الأرض هو عينٌ مِن الأعيان وهو المغلّ الذي يستغله المستأجرُ، وليس له مقصودٌ في منفعة
الأرضِ غير ذلك، وإن كان له قصد جرى في الانتفاع بغير الزرع، فذلك تَبَعٌ.
فإن قيل: المعقودُ عليه هو منفعة شَقِّ الأرضِ وبذرها وفلاحتها والعينُ تتولَّد من هذه المنفعة، كما لو استأجر لحفر بئر، فخرج منها الماء، فالمعقودُ عليه هو نفس العمل لا الماء.
قيل: مستأجرُ الأرض ليس له مقصود في غير المغل، والعملُ وسيلة مقصودةٌ لغيرها، ليس له فيه منفعة، بل هو تعب ومشقة، وإنما مقصودُه ما يُحدِثُه الله مِن الحَبِّ بسقيه وعمله، وهكذا مستأجِرُ الشاة للبنها سواء مقصودُه ما يُحدثه الله من لبنها بعلفها وحفظها والقيامِ عليها، فلا فرقَ بينهما البتة إلا ما لا تُناط به الأحكامُ مِن الفروق الملغاة، وتنظيرُكم بالاستئجار لحفر البئر تنظيرٌ فاسد، بل نظيرُ حفرِ البئر أن يستأجر أكاراً لحرث أرضه ويبذرها ويسقيها، ولا ريب أن تنظيرَ إجارة الحيوان للبنه بإجارة الأرض لمغلها هو محضُ القياس وهو كما تقدَّم أصحُ مِن التنظير بإجارة الخبز للأكل.
يوضحه الوجه العاشر وهو أن الغرر والخطر الذي في إجارة الأرض لحصول مغلها أعظمُ بكثر مِن الغَرَرِ الذي في إجارة الحيوان للبنه، فإن الآفات والموانعَ التي تعرض للزرع أكثرُ مِن آفات اللبن، فإذا اغتفر ذلك في إجارة الأرض، فلأن يُغفر في إجارة الحيوان للبنه أولى وأحرى.
فصل
فالأقوال في العقد على اللبن في الضرع ثلاثة.
أحدها: منعه بيعاً وإجارة وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة.
والثاني: جوازه بيعاً وإجارة.
والثالث: جوازه إجارة لا بيعاً، وهو اختيار شيخنا رحمه الله.
وفي المنع من بيع اللبن في الضرع حديثان، أحدهما حديث عمر بن فروخ وهو ضعيف عن حبيب بن الزبير، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: " نَهَى أن يُباع صُوفٌ عَلى ظَهْرٍ، أو سَمْنٌ في لَبَنٍ، أوْ لَبَنٌ في ضَرْعٍ" ، وقد رواه أبو إسحاق عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله دون ذكر السمن رواه البيهقي وغيره.
والثاني حديثٌ رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار، حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثنا جَهْضَمُ بن عبد الله اليماني، عن محمد بن إبراهيم البَاهِلي، عن محمد بن زيد العبدي، عن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد الخُدري رضي اللهُ عنه قال: " نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعما في ضروعها إلا بكيل أو وزن، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص"، ولكن لهذا الإِسناد لا تقومُ به حجة، والنهي عن شراء ما في بطون الأنعام ثابتٌ بالنهي عن الملاقيح والمضامين، والنهي عن شراء العبد الآبق، وهو آبق معلومٌ بالنهي عن بيع الغرر، والنهي عن شراء المغانم حتى تُقْسَمَ داخل في النهي عن بيع ما ليس عنده، فهو بيعُ غررٍ ومخاطرة، وَكذلك الصدقاتُ قبلَ قبضها، وإذا كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الطعام قبلَ قبضه مع انتقاله إلى المشتري وثبوت ملكه عليه، وتعيينه
له، وانقطاع تعلق غيره به، فالمغانمُ والصدقات قبل قبضها أولى بالنهي. وأما ضربةُ الغائِص، فغرر ظاهر لا خفاءَ به.
وأما بيعُ اللبن في الضرع، فإن كان معيناً لم يمكن تسليمُ المبيع بعينه، وإن كان بيعَ لبن موصوف في الذمة، فهو نظيرُ بيع عشرة أقفزة مطلقة مِن هذه الصبرة وهذا النوع له جهتان: جهة إطلاق وجهةُ تعيين، ولا تنافي بينهما، وقد دل على جوازه نهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُسلم في حائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحُه، رواه الإِمام أحمد. فإذا أسلم إليه في كيل معلوم مِن لبن هذه الشاة وقد صارت لبوناً، جاز، ودخل تحت قوله: "ونهى عن بيع ما في ضروعها إلا بكيل أو وزن"، فهذا إذنٌ لبيعه بالكيل والوزن معيناً أو مطلقاً، لأنه لم يُفصِّل، ولم يشترط سوى الكيلِ والوزنِ، ولو كان التعيين شرطاً لذكره.
فإن قيل فما تقولون لو باعه لبنها أياماً معلومة من غير كيل ولا وزن.
قيل: إن ثبت الحديثُ، لم يجز بيعُه إلا بكيل أو وزن، وإن لم يثبت، وكان لبنُها معلوماً لا يختلِفُ بالعادة، جاز بيعُه أياماً، وجرى حكمُه بالعادة مجرى كَيْلِهِ أو وزنه، وإن كان مختلفاَ فمرة يزيدُ، ومرة يَنْقُصُ، أو ينقطعُ، فهذا غرر لا يجوز، وهذا بخلافِ الإِجارة، فإنَّ اللبن يحدُث على مُلكه بعلفه الدابة كما يحدُث الحبُ على ملكه بالسَّقي، فلا غَرَرَ في ذلك، نعم إن نَقَصَ اللبنُ عن العادة، أو انقطع، فهو بمنزلة نُقصان المنفعة في الإِجارة، أو تعطيلها يثبت للمستأجر حق الفسخ، أو ينقص عنه من الأجرة بقدر ما نقص عليه من المنفعة، هذا قياسُ المذهب، وقال ابن عقيل، وصاحب "المغني": إذا اختار الإِمساك لزمته جميعُ الأجرة، لأنه رضي بالمنفعة ناقصةَ، فلزِمَه
جميعُ العِوَض، كما لو رضي بالمبيع معيبا، والصحيحُ أنه يسقُطُ عنه من الأجرة بقدر ما نَقَصَ مِن المنفعة، لأنه إنما بذل العوضَ الكامِلَ في منفعة كاملةٍ سليمة، فإذا لم تسلم له، لم يلزمه جميعُ العوض.
وقولهم: إنه رضي بالمنفعة معيبة، فهو كما لو رضي بالبيع معيباً، جوابه مِن وجهين.
أحدهما: أنه إن رضي به معيباً، بأن يأخذ أرشه كان له ذلك على ظاهر المذهب، فَرِضَاهُ بالعيب مع الأرش لا يُسقط حقه.
الثاني: إن قلنا: إنه لا أرش لممسك له الرد، لم يلزم سقوط الأرش في الإِجارة، لأنه قد استوفى بعضَ المعقود عليه، فلم يُمكنه ردُّ المنفعة كما قبضها، ولأنه قد يكونُ عليه ضرر في رد باقي المنفعة، وقد لا يتمكن من ذلك، فقد لا يجد بداً من الإِمساك، فإلزامُه بجميع الأجرة مع العيب المنقص ظاهراً، ومنعه من استدراك ظلامته إلا بالفسخ ضرر عليه، ولا سيما لمستأجر الزرع والغرس والبناء، أو مستأجر دابة للسفر فتتعيبُ في الطريق، فالصوابُ أنه لا أرش في المبيع لممسك له الرد، وأنه في الإِجارة له الأرش.
والذي يُوضح هذا أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بوضع الجوائح وهي أن يسقط عن مشتري الثمار من الثمرة، بقدر ما أذهبت عليه الجائحة مِن ثمرته ويُمسك الباقي بقسطه من الثمن، وهذا لأن الثمار لم تستكمل صلاحها دفعة واحدة، ولم تجر العادةُ بأخذها جملة واحدة، وإنما تؤخذ شيئاً فشيئأ، فهي بمنزلة المنافع في الإِجارة سواء، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المصرَّاة خيَّر المشتري بين الرد وبين الإِمساك بلا أرشٍ، وفي الثمار جعل له الإِمساك مع الأرش، والفرقُ ما ذكرناه، والإِجارة أشبهُ ببيع الثمار، وقد ظهر اعتبارُ هذا الشبه في وضع الشارع الجائحة قبل قبض الثمن.
فإن قيل: فالمنافع لا تُوضع فيها الجائحةُ باتفاق العلماء.
قيل ليس هذا مِن باب وضع الجوائح في المنافع، ومَن ظنَّ ذلك، فقد وهم، قال شيخُنا: وليس هذا مِن باب وضع الجائحة في المبيع كما في الثمر المشترى، بل هو من باب تلف المنفعة المقصودة بالعقد أو فواتها، وقد اتفق العلماءُ على أن المنفعة في الإِجارة إذا تلفت قبل التمكن مِن استيفائها، فإنه لا تجب الأجرة مثل أن يستأجر حيواناً فيموت قبلَ التمكن، مِن قبضه وهو بمنزلة أن يشتريَ قفيزاً مِن صُبرة فتتلفَ الصُّبرةُ قبل القبض والتمييز، فإنه مِن ضمان البائع بلا نزاع، ولهذا لو لم يتمكن المستأجر مِن ازدراع الأرض لآِفة حصلت لم يكن عليه الأجرةُ.
وإن نبت الزرع، ثم حصلت آفة سماوية أتلفته قبل التمكن مِن حصاده، ففيه نزاع، فطائفة ألحقته بالثمرة والمنفعة، وطائفة فرقت، والذين فرَّقوا بينه وبينَ الثمرة والمنفعة قالوا: الثمرة هي المعقود عليها وكذلك المنفعة، وهنا الزرع ليس معقوداً عليه، بل المعقودُ عليه هو المنفعة وقد استوفاها، والذين سَوَّوْا بينهما، قالوا المقصودُ بالإِجارة هو الزرعُ، فإذا حالت الآفةُ السماوية بينَه وبينَ المقصودِ بالإِجارة، كان قد تلف المقصودُ بالعقد قبل التمكن مِن قبضه، وإن لم يُعاوض على زرع، فقد عاوض على المنفعة التي يتمكن بها المستأجر مِن حصول الزرع، فإذا حصلت الآفةُ السماوية المفسدةُ للزرع قبلَ التمكن مِن حصاده لم تسلم المنفعة المعقود عليها، بل تلفت قبل التمكن مِن الانتفاع، ولا فرق بينَ تعطيل منفعة الأرض في أول المدة أو في آخرها إذا لم يتمكن من استيفاء شيء من المنفعة، ومعلوم أن الآفة السماوية إذا كانت بعدَ الزرع مطلقاً بحيث لا يتمكن من الانتفاع بالأرض مع تلك الآفة، فلا فرق بين تقدمها وتأخرها.
فصل
وأما بيعُ الصوف على الظهر، فلو صحَّ فذا الحديثُ بالنهي عنه، لوجبَ القولُ به، ولم تسغ مخالفته وقد اختلف الروايةُ فيه عن أحمد، فمرةً منعه، ومرَّة أجازه بشرط جَزِّهِ في الحال، ووجه هذا القول أنه معلوم يُمكن تسليمُه، فجاز بيعُه كالرطبة، وما يقدر من اختلاط المبيع الموجود بالحادث على ملك البائع يزولُ بجزِّهِ في الحال، والحادث يسير جداً لا يمكن ضبطُه، هذا ولو قيل بعدم اشتراط جزِّه في الحال، ويكون كالرطبة التي تؤخذ شيئاً فشيئاً، وإن كانت تطول في زمن أخذها كان له وجه صحيح، وغايته بيع معدوم. لم يخلق تبعاً للموجود، فهو كأجزاء الثمار التي لم تُخلق، فإنها تتبع الموجود منها، فإذا جعلا للصوف وقتاً معيناً يُؤخذ فيه كان بمنزلة أخذ الثمرة وقتَ كمالها.
ويُوضح هذا أن الذين منعوه قاسوه على أعضاء الحيوان وقالوا: متصلٌ بالحيوان فلم يجز إفراده بالبيع كأعضائه، وهذا من أفسدِ القياس، لأن الأعضاء لا يُمكن تسليمها مع سلامة الحيوان.
فإن قيل: فما الفرق بينه وبين اللبن في الضرع وقد سوغتم هذا دونه؟ قيل: اللبن في الضرع، يختلط ملك المشتري فيه بملك البائع سريعاً، فإن اللبن سريع الحدوث كلما حلبه، دَرَّ، بخلاف الصوف. والله أعلم وأحكم.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق