الاثنين، 14 مايو 2018

ج6// 2 زاد المعاد



ج6//2 زاد المعاد في هدي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى : 751هـ
)
ج6//2 وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن يحيى بن أبى كثير، وأيوب السختيانى، كلاهما عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال: هى يمين، يعنى التحريم.
وقال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا المُقَدَّمىُّ: حدثنا حماد بن زيد، عن صخر بن جُويرية، عن نافع، عن ابن عمر رضى الله عنهما، قال: الحرام يمين.
وفى "صحيح البخارى": عن سعيد بن جبير، أنه سمع ابن عباس رضى الله عنهما يقول: إذا حرَّم امرأته، ليس بشىء، وقال: لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة فقيل: هذا رواية أخرى عن ابن عباس. وقيل: إنما أراد أنه ليس بطلاق وفيه كفارة يمين، ولهذا احتجَّ بفعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الثانى أظهر، وهذه المسألة فيها عشرون مذهباً للناس، ونحن نذكرها، ونذكر وجوهها ومآخذها، والراجح منها بعون الله تعالى وتوفيقه.
أحدها: أن التحريمَ لغو لا شىء فيه، لا فى الزوجة، ولا فى غيرها، لا طلاقَ ولا إيلاءَ، ولا يمينَ ولا ظِهَار، روى وكيع، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، عن مسروق: ما أبالى حرَّمتُ امرأتى أو قصعةً من ثريد. وذكر عبد الرزاق، عن الثورى، عن صالح بن مسلم،ر
عن الشعبى، أنه قال فى تحريم المرأة: لهن أهونُ على من نعلى وذُكِرَ عن ابن جريج، أخبرنى عبد الكريم، عن أبى سلمة بن عبد الرحمن، أنه قال: ما أبالى حرَّمُتها يعنى امرأته، أو حرَّمتُ ماء النهر. وقال قتادة: سأل رجلٌ حميدَ بن عبد الرحمن الحميرى، عن ذلك؟ فقال: قال الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وإلى رَبَّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7-8] وأنت رجل تلعب، فاذهب فالعب، هذا قول أهلِ الظاهر كلِّهم.
المذهب الثانى: أن التحريم فى الزوجة طلاق ثلاث. قال ابن حزم: قاله على بن أبى طالب، وزيدُ بن ثَابت، وابنُ عمر، وهو قول الحسن، ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبى ليلى، وروى عن الحكم بن عتيبة. قلت: الثابت عن زيد بن ثابت، وابن عمر، ما رواه هو من طريق الليث ابن سعد، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى هُبيرة، عن قَبيصة، أنه سأل زيدَ بن ثابت وابنَ عمر عمن قال لامرأته. أنت علىّ حرام، فقالا جميعاً: كفارة يمين، ولم يصح عنهما خلاف ذلك، وأما على، فقد روى أبو محمد بن حزم، من طريق يحيى القطان، حدثنا إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، قال: يقول رجال فى الحرام: هى حرام حتى تنكِح زوجاً غيره. ولا والله ما قال ذلك على، وإنما قال على: ما أنا بمحلِّها ولا بمحرِّمها عليك، إن شئت فتقدَّم، وإن شئت فتأخر. وأما الحسن، فقد روى أبو محمد من طريق قتادة عنه، أنه قال: كُلُّ حلال على حرام، فهو يمين. ولعل أبا محمد غلط على على وزيد وابن عمر من مسألة الخلية والبرية والبتة، فإن أحمد حكى عنهم أنها ثلاث.
وقال هو عن على وابن عمر صحيح، فوهم أبو محمد، وحكاه فى: أنت على حرام، وهو وهم ظاهر، فإنهم فرَّقوا بين التحريم، فأفتوا فيه بأنه يمين، وبين الخلية فأفتوا فيها بالثلاث، ولا أعلم أحداً قال: إنه ثلاث بكل حال.
المذهب الثالث: أنه ثلاث فى حق المدخول بها لا يُقبل منه غيرُ ذلك، وإن كانت غيرَ مدخول بها، وقع ما نواه من واحدة واثنتين وثلاث، فإن أطلق، فواحدة، وإن قال: لم أرد طلاقاً، فإن كان قد تقدَّم كلام يجوز صرفه إليه قبل منه، وإن كان ابتداءً لم يقبل، وإن حِرَّم أمته أو طعامه أو متاعه، فليس بشىء، وهذا مذهب مالك.
المذهب الرابع: أنه إن نوى الطلاق كان طلاقاً، ثم إن نوى به الثلاث فثلاث، وإن نوى دونها فواحدة بائنة، وإن نوى يميناً فهو يمين فيها كفارة، وإن لم ينو شيئاً فهو إيلاء فيه حكمُ الإيلاء. فإن نوى الكذبَ، صُدِّق فى الفتيا ولم يكن شيئاً، ويكون فى القضاء إيلاء، وإن صادف غير الزوجة الأمةِ والطعام وغيره، فهو يمين فيه كفارتها، وهذا مذهب أبى حنيفة.
المذهب الخامس: أنه إن نوى به الطلاقَ، كان طلاقاً، ويقعُ ما نواه، فإن أطلق وقعت واحدةً، وإن نوى الظهارَ، كان ظهاراً، وإن نَوَى اليمينَ، كان يميناً، وإن نوى تحريمَ عينها مِن غير طلاق ولا ظِهار، فعليه كفارةُ يمين، وإن لم ينوِ شيئاً، ففيه قولان. أحدهما: لا يلزمُه شىء. والثانى: يلزمه كفارة يمين. وإن صادف جارية، فنوى عتقها وقع العتق، وإن نوى تحريمها لزمه بنفس اللفظ كفارةُ يمين، وإن نوى الظهارَ منها، لم يصح، ولم يلزمه شىء، وقيل: بل يلزمه
كفارةُ يمين، وإن ينو شيئاً، ففيه قولان، أحدهما: لا يلزمُه شىء والثانى: عليه كفارةُ يمين. وإن صادفَ غيرَ الزوجة والأمة لم يحرم، ولم يلزمه به شىء، وهذا مذهبُ الشافعى.
المذهب السادس: أنه ظِهار بإطلاقه، نواه أو لم ينوِه، إلا أن يَصرفَه بالنية إلى الطلاق، أو اليمين، فينصرِف إلى ما نواه، هذا ظاهر مذهبِ أحمد. وعنه رواية ثانية: أنه بإطلاقه يمين إلا أن يَصْرِفَه بالنية إلى الظهار أو الطَّلاق، فينصَرِفُ إلى ما نواهُ، وعنه رواية أخرى ثالثة: أنه ظهار بكل حال ولو نوى غيرَه، وفيه رواية رابعة حكاها أبو الحسين فى "فروعه"، أنه طلاق بائن.،ولو وصله بقوله: أعنى به الطلاق. فعنه فيه روايتان. إحداهما: أنه طلاق، فعلى هذا هل تلزمُه الثلاث، أو واحدة؟ على روايتين، والثانية: أنه ظهار أيضاً كما لو قال: أنتِ علىَّ كظهر أمى أعنى به الطلاق، هذا تلخيصُ مذهبه.
المذهب السابع: أنه إن نوى به ثلاثاً، فهى ثلاثٌ، وإن نوى به واحدة، فهى واحدة بائنة، وإن نوى به يميناً، فهى يمين، وإن لم ينوِ شيئاً، فهى كذبة لا شىءَ فيها، وهذا مذهبُ سفيان الثورى، حكاه عنه أبو محمد ابن حزم.
المذهب الثامن: أنه طلقةٌ واحدة بائنة بكل حال، وهذا مذهبُ حماد بن أبى سليمان.
المذهب التاسع: أنه إن نوى ثلاثاً فثلاث، وإن نوى واحدة، أو لم ينوِ شيئاً، فواحدة بائنة، وهذا مذهبُ إبراهيم النخعى، حكاه عنه أبو محمد بن حزم.
المذهب العاشر: أنه طلقة رجعية، حكاه ابن الصباغ وصاحبُه أبو بكر الشاشى عن الزهرى، عن عمر بن الخطاب.
المذهب الحادى عشر: أنها حرمت عليه بذلك فقط، ولم يذكر هؤلاء ظهاراً ولا طلاقاً ولا يميناً، بل ألزموه موجب تحريمه. قال ابن حزم: صح هذا عن على بن أبى طالب، ورجالٍ من الصحابة لم يُسمَّوْا، وعن أبى هريرة. وصح عن الحسن، وخِلاس بن عمرو، وجابر بن زيد، وقتادة، أنهم أمروه باجتنابها فقط.
المذهب الثانى عشر: التوقفُ فى ذلك لا يُحرِّمها المفتى على الزوج، ولا يحلِّلها له، كما رواه الشعبى عن على أنه قال: ما أنا بمحلها ولا محرِّمها عليك إن شئتَ فتقدَّم، وإن شئت فتأخر.
المذهب الثالث عشر: الفرقُ بين أن يُوقع التحريم منجزاً أو معلقاً تعليقاً مقصوداً وبين أن يُخرجه مخرجَ اليمين، فالأول: ظهار بكل حال ولو نوى به الطلاقَ، ولو وصله بقوله: أعنى به الطلاقَ. والثانى: يمين يلزمه به كفارةُ يمين، فإذا قال: أنت علىَّ حرام، أو إذا دخل رمضان، فأنتِ علىَّ حرام، فظهار. وإذا قال: إن سافرتُ، أو إن أكلتُ هذا الطعامَ أو كلمتُ فلانا، فامرأتى علىَّ حرام، فيمين مكفرة، وهذا اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية، فهذه أصولُ المذاهب فى هذه المسألة وتتفرَّعُ إلى أكثر من عشرين مذهباً.
فصل
فأما من قال: التحريمُ كلُّه لغو لا شىء فيه، فاحتجوُّا بأن الله سبحانه لم يجعل للعبد تحريماً ولا تحليلاً، وإنما جعل له تعاطى الأسباب التى
تَحِلُّ بها العينُ وتحرم، كالطلاق والنكاحِ، والبيعِ والعتقِ، وأما مجردُ قوله: حرَّمت كذا وهو علىَّ حرام، فليس إليه. قال تعالى :{وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلسِنَتِكُم الكَذِبَ هذَا حَلاَلٌ وهذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلى اللهِ الكَذِبَ} [النحل: 116] وقال تعالى: {يَأيُّهَا النَّبِىُّ لمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم:1]، فَإذا كَانَ سبحانه لم يجعلْ لرسوله أن يُحِّرمَ ما أحل الله له، فكيف يجعلُ لِغيره التحريمَ؟
قالوا: وقد قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ عَمَلٍ لَيْس عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُو رَدٌّ" وهذا التحريمُ كذلك، فيكون رداً باطلاً.
قالوا: ولأنه لا فرق بين تحريمِ الحلال، وتحليلِ الحرام، وكما أن هذا الثانى لغو لا أثر له، فكذلك الأولُ.
قالوا: ولا فرق بين قوله لامرأته: أنت علىَّ حرام، وبين قولهِ لِطعامه هو علىَّ حرام.
قالوا: وقوله: أنتِ علىَّ حرام، إما أن يُريد به إنشاء تحريمها، أو الإخبارَ عنها بأنها حرام، وإنشاء تحريم محال، فإنه ليس إليه، إنما هو إلى من أحلَّ الحلال، وحرَّمَ الحرامَ، وشرع الأحكام، وإن أراد الإخبار، فهو كذب، فهو إما خبرٌ كاذب أو إنشاءٌ باطل، وكلاهما لغو من القول.
قالوا: ونظرنا فيما سوى هذا القولِ، فرأيناها أقوالاً مضطربة متعارضة يردُّ بعضُها بعضاً، فلم يحرم الزوجة بشىء منها بغير برهان من الله ورسوله، فنكون قد ارتكبنا أمرين: تحريمَها على الأول، وإحلالها لغيره، والأصلُ
بقاءُ النكاح حتي تُجمع الأمة، أو يأتىَ برهان من اللهِ ورسوله على زواله، فيتعيَّن القولُ به، فهذا حجة هذا الفريق.
فصل
وأما من قال: إنه ثلاث بكل حال، إن ثبت هذا عنه، فيحتجُّ له بأن التحريمَ جُعِلَ كناية فى الطلاق، وأعلى أنواعه تحريمُ الثلاث، فُيحمل على أعلى أنواعه احتياطاً للأبضاع.
وأيضاً فإنَّا تيقَّنَّا التحريمَ بذلك، وشككنا: هل هو تحريمٌ تُزيله الكفارة كالظهار أو يُزيله تجديدُ العقد كالخُلع، أو لا يُزيله إلا أوجٌ وإصابة كتحريمِ الثلاث؟ وهذا متيقَّن، وما دونه مشكوكٌ فيه، فلا يَحلُّ بالشك.
قالوا: ولأن الصحابة أَفْنَوْا فى الخلية والبرية بأنها ثلاث. قال أحمد: هو عن على وابنِ عمر صحيح، ومعلوم أن غاية الخلية والبرية أن تصير إلى التحريم، فإذا صرَّحَ بالغاية، فهى أولى أن تكونَ ثلاثاً، ولأن المحرم لا يسبقُ إلى وهمه تحريمُ امرأته بدون الثلاث، فكأنَّ هذا اللفظَ صارَ حقيقةً عُرفية فى إيقاع الثلاث.
وأيضاً فالواحدةُ لا تحرمُ إلا بعوض، أو قبلَ الدخول، أو عندَ تقييدها بكونها بائنة عند من يراه، فالتحريمُ بها مقيَّد، فإذا أطلق التحريمُ، ولم يُقيَّيد، انصرف إلى التحريم المطلق الذى يثبت قبل الدخول أو بعده، وبعوض وغيره وهو الثلاث.
فصل
وأما من جعله ثلاثاً فى حق المدخول بها، وواحدة بائنة فى حقِّ غيرها، فحجتُه أن المدخولَ بها لا يُحَرِّمُها إلا الثلاث، وغيرُ المدخول بها تحرمها الواحدة، فالزائدة عليها ليست من لوازم التحريم، فأورد على هؤلاء أن المدخول بها يملِكُ إبانتها بواحدة بائنة، فأجابوا بما لا يُجدى عليهم شيئاً، وهو أن الإبانة بالواحدة الموصوفة بأنها بائنة إبانة مقيَّدة، بخلاف التحريم، فإن الإبانة به مطلقة، ولا يكونُ ذلك إلا بالثلاثِ، وهذا القدرُ لا يُخلِّصُهم من هذا الإلزام، فإن إبانة التحريمِ أعظمُ تقييداً من قوله: أنتِ طالق طلقة بائنة، فإن غايةَ البائنة أن تحرمها، وهذا قد صرَّح بالتحريم، فهو أولى بالإبانة من قوله: أنت طالق طلقةً بائنة.
فصل
وأما مَن جعلها واحدة بائنة فى حقِّ المدخول بها وغيرها، فمأخذُ هذا القول أنها لا تُفيد بوضعها، وإنما تقتضى بينونةً يحصلُ بها التحريمُ، وهو يَمِلكُ إبانتها بعد الدخول بها بواحدة بدون عوض، كما إذا قال: أنت طالق طلقة بائنة، فإن الرجعة حقٌّ له، فإذا أسقطها سقطت، ولأنه إذا ملك إبانتها بعوض يأخذه منها، ملك الإبانة بدونه، فإنه محسن بتركه، ولأن العِوض مستحق له، لا عليه، فإذا أسقطه وأبانها، فله ذلك.
فصل
وأما مَن قال: إنها واحدة رجعية، فمأخذه أن التحريمَ يُفيد مطلق انقطاعِ الملك وهو يصدُق بالمتيقَّنِ منه وهو الواحدةُ، وما زاد عليها، فلا تعُّرضَ فى اللفظ له، فلا يسوغُ إثباتُه بغير موجب. وإذا أمكن إعمالُ اللفظ فى الواحدة، فقد وفى بموجبه، فالزيادةُ عليه لا موجبَ لها. قالوا: وهذا ظاهر جداً على أصل من يجعل الرجعية محرمة، وحينئذ فنقول: التحريمُ أعمُّ مِن تحريم رجعية، أو تحريم بائن، فالدالُّ على الأعم لا يدُل على الأخص، وإن شئتَ قلت: الأعمُّ لا يستلزِمُ الأخصَّ أو ليس الأخصُّ مِن لوازم الأعم، أو الأعم لا يُنتج الأخصَّ.
فصل
وأما من قال: يُسأل عما أراد من ظهار أو طلاق رجعي، أو محرَّم، أو يمين، فيكون ما أراد مِن ذلك، فمأخذُه أن اللفظ لم يوضع لإيقاع الطلاق خاصة، بل هو محتمِلٌ للطلاق والظهار والإيلاء، فإذا صُرِفَ إلى بعضها بالنية فقد استعمله فيما هو صالح له، وصرفه إليه بنيته، فينصرفُ إلى ما أراده، ولا يتجاوز به ولا يقصُرُ عنه، وكذلك لو نوى عتق أمته بذلك، عتقت، وكذلك لو نوى الإيلاء من الزوجة، واليمين من الأمة، لزمه ما نواه، قالوا: وأما إذا نوى تحريمَ عينها، لزمه بنفس اللفظ كفارةُ يمين اتباعاً لظاهر القرآن، وحديث ابن عباس الذى رواه مسلم فى "صحيحه": إذا حرّم الرجلُ امرأته فهى يمين يكفِّرها، وتلا: {لَقَدْ
كَانَ لَكُم فى رَسولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ، وهذا يُشبه ما قاله مجاهد فى الظِّهار: إنه ليزمُه بمجرد التكلم به كفارةُ الظهار، وهو فى الحقيقة قولُ الشافعى رحمه الله، فإنه يُوجب الكفارة إذا لم يُطلِّق عقيبَه على الفور. قالوا: ولأن اللفظ يحتمِلُ الإنشاء والإخبار، فإن أراد الإخبار، فقد استعمله فيما هو صالحٌ له، فيُقبل منه. وإن أراد الإنشاء سُئِلَ عن السبب الذى حرَّمها به. فإن قال: أردت ثلاثاً أو واحدة، أو اثنتين، قُبِلَ منه لصلاحية اللفظ له واقترانه بنيته، وإن نوى الظهار، كان كذلك، لأنه صرَّح بموجب الظهار، لأن قوله: أنتِ علىَّ كظهر أمى موجبُه التحريم، فإذا نوى ذلك بلفظ التحريم، كان ظهاراً، واحتمالُه للطلاق بالنية لا يزيدُ على احتماله للظهار بها، وإن أراد تحريمَها مطلقاً، فهو يمين مكفرة، لأنه امتناع منها بالتحريم، فهو كامتناعه منها باليمين.
فصل
وأما من قال: إنه ظهار إلا أن ينوىَ به طلاقاً، فمأخذُ قوله: أن اللفظ موضوعٌ للتحريم، فهو منكر من القول وزور، فإن العبدَ ليس إليه التحريمُ والتحليل، وإنما إليه إنشاء الأسباب التى يرتب عليها ذلك، فإذا حرَّم ما أحل الله له، فقد قال المُنْكر والزُّورَ، فيكون كقوله: أنتِ علىّ كظهر أمى، بل هذا أولى أن يكون ظهاراً، لأنه إذا شبهها بمن تحرم عليه، دل على التحريم باللزوم، فإذا صرَّح بتحريمها، فقد صرح بموجب التشبيه فى لفظ الظهار، فهو أولى أن يكون ظهاراً. قالوا: وإنما جعلناه طلاقاً بالنية، فصرفناه إليه بها، لأنه يصلُح كنايةً فى الطلاق
فينصرِف إليه بالنية بخلاف إطلاقه، فإنه ينصرِف إلى الظهار، فإذا نوى به اليمينَ كان يميناً، إذ من أصل أرباب هذا القول أن تحريم الطعام ونحوه، يمين مكفرة، فإذا نوى بتحريم الزوجة اليمين، نوى ما يصلُح له اللفظ، فقُبِلَ منه.
فصل
وأما من قال: إنه ظهار وإن نوى به الطلاقَ، أو وصله بقوله: أعنى به الطلاقَ فمأخذُ قوله ما ذكرنا من تقرير كونه ظهاراً، ولا يخُرج عن كونه ظهاراً بنية الطلاق كما لو قال: أَنتِ علىَّ كظهر أمى ونوى به الطلاق، أو قال: أعنى به الطلاق، فإنه لا يخرُج بذلك عن الظهار، ويصيرُ طلاقاً عِند الأكثرين: إلا على قول شاذ لا يُلتفت إليه لموافقته ما كان الأمر عليه فى الجاهلية مِن جعل الظهار طلاقاً، ونسخ الإسلام لذلك، وإبطلاله، فإذا نوى به الطلاقَ، فقد نوى ما أبطله الله ورسولُه مما كان عليه أهلُ الجاهلية عند إطلاق لفظ الظهار، وقد نوى مالا يحتمِلُه شرعاً، فلا تؤثِّر نيته فى تغيير ما استقرَّ عليه حكمُ الله الذى حكم به بينَ عباده، ثم جرى أحمدُ وأصحابُه على أصله من التسوية بين إيقاع ذلك، والحلف به كالطلاق والعتاق وفرَّق شيخ الإسلام بين البابين على أصله فى التفريق بين الإيقاع والحلف، كما فرَّق الشافعى وأحمد رحمهما الله، ومَنْ وافقهما بين البابين فى النذر بينَ أن يحلف به، فيكون يميناً مكفرة، وبين أن ينجزه أو يعلِّقه بشرط يقصد وقوعه، فيكون نذراً لازم الوفاء كما سيأتى تقريرُه فى الأيمان إن شاء الله تعالى. قال: فيلزمهم على هذا أن يفرِّقوا بين إنشاء التحريم، وبين الحلف، فيكون فى الحلف به حالفاً يلزمه كفارة يمين،
وفى تنجيزه أو تعليقه بشرط مقصود مظاهراً يلزمُه كفارةُ الظهار، وهذا مقتضى المنقول عن ابن عباس رضى الله عنهما، فإنه مرة جعله ظهاراً ومرة جعله يميناً.
فصل
وأما من قال: إنه يمينٌ مكفرة بكلِّ حال، فمأخذ قوله: أن تحريم الحلال من الطعام والشراب واللباس يمينٌ تُكفَّر بالنصِّ، والمعنى، وآثار الصحابة، فإن الله سبحانه قال: {يَأَيُّها النَّبىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغى مَرْضَاتَ أَزْواجِكَ واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُم} [التحريم: 1-2]، ولابد أن يكون تحريم الحلال داخلاً تحت هذا الفرض، لأنه سبُبُه، وتخصيصُ محل السبب من جملة العام ممتنع قطعاً، إذ هو المقصودُ بالبيان أولاً، فلو خُصَّ لخلا سببُ الحكم عن البيان، وهو ممتنع، وهذا استدلال فى غاية القوة، فسألتُ عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فقال: نَعَم التحريمُ يمين كُبرى فى الزوجة كفارتُها كفارةُ الظهار، ويمين صغرى فيما عداها كفارتُها كفارةُ اليمين بالله. قال: وهذا معنى قولِ ابن عباس وغيرِه من الصحابة ومَنْ بَعْدَهم، إن التحرِيمَ يمين تكفر، فهذا تحريرُ المذاهب فى هذه المسألة نقلاً،وتقريرها استدلالاً، ولا يخفى- على من آثر العِلم والإنصاف، وجانب التعصُّب ونصرة ما بنى عليه من الأقوال- الراجحُ مِن المرجوح وبالله المستعان.
فصل
وقد تبين بما ذكرنا، أن من حرَّم شيئاً غير الزوجة من الطعام والشراب واللباس أو أمته يَحْرُمْ عليه بذلك، وعليه كفارةُ يمين، وفى هذا خلاف فى ثلاثة مواضع.
أحدها: أنه لا يحرم، وهذا قول الجمهور، وقال أبو حنيفة: يحرم تحريماً مقيداً تُزيله الكفارة، كما إذا ظاهرَ من امرأته، فإنه لا يَحِلُّ له وطؤها حتى يُكفِّر، ولأن الله سبحانه سمَّى الكفارة فى ذلك تَحِلَّةً، وهى ما يُوجب الحِلَّ، فدل علي ثبوت التحريم قبلها، ولأنه سبحانه قال لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم:1]، ولأنه تحريمٌ لما أبيح له، فيحرم بتحريمه كما لو حرَّم زوجته.
ومنازعوه يقولون: إنما سُميت الكفارة تحِلَّه مِن الحَل الذى هو ضِدُّ العقدِ لا مِن الحِل الذى هو مقابلُ التحريم، فهى تَحُلُّ اليمين بعد عقدها، وأما قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم:1]، فالمرادُ تحريمُ الأمِة أو العسل، ومنعُ نفسه منه، وذلك يُسمى تحريماً، فهو تحريم بالقول، لا إثبات للتحريم شرعاً.
وأما قياسه على تحريم الزوجة بالظهارِ، أو بقوله: أنتِ علىَّ حرام، فلو صحَّ هذا القياس، لوجب تقديمُ التكفير على الحنث قياساً على الظهارِ، إذ كان فى معناه، وعندهم لا يجوزُ التكفيرُ إلا بعد الحنث، فعلى قولِهم: يلزم أحد أمرين، ولا بد إما أن يفعله حراماً وقد فرض الله تحِلَّة اليمين، فيلزم كون المحرم مفروضاً، أو من ضرورة المفروض، لأنه لا يَصِلُ إلى التَّحِلَّةِ إلا بفعل المحلوف عليه، أو أنه لا سبيلَ له إلى فعله حلالاً،
لأنه لا يجوز تقديمُ الكفارة، فيستفيدُ بها الحل، وإقدامه عليه وهو حرامٌ ممتنع، هذا ما قيل فى المسألة من الجانبين، وبعدُ، فلها غور، وفيها دِقة وغموض، فإن من حرَّم شيئاً، فهو بمنزلة من حَلَفَ بالله على تركه، ولو حلف على تركه، لم يَجز له هتكُ حرمة المحلوفِ به بفعله إلا بالتزام الكفارة، فإذا التزمها، جاز له الإقدامُ على فعل المحلوف عليه، فلو عزم على تركِ الكفارة، فإن الشارع لا يُبيح له الإقدامَ على فعل ما حلف عليه، ويأذن له فيه، وإنما يأذنُ له فيه ويُبيحه إذا التزم ما فرض الله من الكفارة، فيكون إذنه له فيه، وإباحته بعد امتناعه منه بالحلف أو التحريم رُخصةً من الله له، ونعمة منه عليه بسبب التزامه لحكمه الذى فرض له من الكفارة، فإذا لم يلتزِمْه بقى المنعُ الذى عقدَه على نفسه إصراً عليه، فإن الله إنما رفع الآصار عمن اتقاه، والتزم حُكمه، وقد كانت اليمينُ فى شرع مَن قبلنا يتحتّم الوفاءُ بها، ولا يجوز الحنثُ، فوسَّع الله على هذه الأمة، وجوَّز لها الحنث بشرط الكفارة، فإذا لم يُكفِّرْ لا قبلُ ولا بعدُ لم يُوسَّع له فى الحنث، فهذا معنى قوله: إنه يحرم حتى يكفِّر.،وليس هذا من مفردات أبى حنيفة، بل هو أحدُ القولين فى مذهب أحمد يُوضحه: أن هذا التحريمَ والحلف قد تعلَّق به مانعان: منع من نفسه لفعله، ومنع من الشارع للحنث بدون الكفارة، فلو لم يُحرِّمه تحريمه أو يمينه، لم يكن لمنعه نفسه ولا لمنع الشارع له أثره، بل كان غايةُ الأمر أن الشارعَ أوجبَ فى ذمته بهذا المنع صدقةً أو عِتقاً أو صوماً لا يتوقَّفُ عليه حلُّ المحلوف عليه ولا تحريمه البته، بل هو قبل المنع وبعده على السواء من غير فرق، فلا يكونُ للكفارة أثر البته، لا فى المنع منه، ولا فى الإذن، وهذا لا يخفى فسادُه.
وأما إلزامه بالإقدام عليه مع تحريمه حيثُ لا يجوزُ تقديمُ الكفارة، فجوابه أنه إنما يجوز له الإقدام عند عزمه على التكفير، فعزمُه على التكفير منع من بقاء تحريمه عليه، وإنما يكونُ التحريمُ ثابتاً إذا لم يلتزم الكفارة، ومع التزامها لا يستمرُّ التحريم.
فصل
الثانى: أن يلزمه كفارة بالتحريم، وهو بمنزلة اليمين، وهذا قولُ مَنْ سميناه من الصحابة، وقولُ فقهاء الرأى والحديث إلا الشافعىَّ ومالكاً، فإنهما قالا: لا كفارة عليه بذلك.
والذين أوجبوا الكفارةَ أسعدُ بالنص من الذين أسقطوها، فإن الله سبحانه ذكر تَحِلَّةَ الأيمانِ عَقبَ قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم: 1]، وهذا صريحٌ فى أن تحريم الحلال قد فُرِضَ فيه تحلَّةُ الأيمان، إما مختصاً به، وإما شاملاً له ولغيره، فلا يجوزُ أن يُخلى سببُ الكفارة المذكورة فى السياق عن حكمِ الكفارة، ويُعلَّق بغيره، وهذا ظاهرُ الامتناع.
وأيضاً فإن المنع من فعله بالتحريم كالمنع منه باليمين، بل أقوى، فإن اليمينَ إن تضمن هتكَ حُرمة اسمه سبحانه، فالتحريمُ تضمن هتك حرمة شرعه وأمره، فإنه إذا شرع الشىء حلالاً فحرَّمه المكلف، كان تحريمه هتكاً لحرمة ما شرعه، ونحن نقولُ: لم يتضمن الحِنث فى اليمين هتكَ حرمِة الاسم، ولا التحريمُ هتكَ حرمة الشرع، كما يقولُه من يقول مِن الفقهاء، وهو تعليلٌ فاسد جداً، فإن الحِنثَ إما جائز، وإما واجب أو مستحب، وما جوَّز الله لأحد البتة أن يَهْتِكَ حُرمة اسمه، وقد شرع
لِعباده الحِنث مع الكفارة، وأخبره النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه إذا حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها كفَّر عن يمينه، وأتى المحلوفَ عليه، ومعلوم أن هتك حرمة اسمه تبارك وتعالى لم يُبح فى شريعة قطُّ، وإنما الكفَّارة كما سماها الله تعالى تحلَّة وهى تفعلة من الحل، فهى تَحُلُّ ما عقد به اليمين ليس إلا، وهذا العقدُ كما يكون باليمين يكونُ بالتحريم، وظهر سِرُّ قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُم تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُم} [التحريم: 2] عقيب قوله : {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم:1].
فصل
الثالث: أنه لا فرقَ بينَ التحريم فى غير الزوجة بين الأمة وغيرها عند الجمهور إلا الشافعىَّ وحدَه، أوجب فى تحريم الأمة خاصة كفارةَ يمين، إذ التحريمُ له تأثير فى الأبضاع عنده دون غيرها.
وأيضاً فإن سببَ نزول الآية تحريمُ الجارية، فلا يخرُجُ محلُّ السبب عن الحكم، ويتعلَّق بغيره، ومنازعوه يقولون: النص علق فرض تَحِلَّة اليمين بتحريم الحلال، وهو أعمُّ من تحريم الأمة وغيرها، فتجب الكفارة حيث وجد سببها، وقد تقدم تقريرهُ.
حكمُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى قول الرَّجُلِ لامرأته: الحقى بأَهْلِكِ
ثبت فى صحيح البخارى: أن ابنةَ الجَوْنِ لما دخلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودَنَا منها قالت: أعوذُ باللهِ منكَ، فقالَ : "عُذْتِ بِعَظِيمٍ الحَقى
بِأَهْلِكِ".
وثبت فى "الصحيحين": أن كعب بنَ مالك رضى الله عنه لما أتاه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يأمُرُه أن يعتزِلَ امرأته، قال لها: الحقى بأهلك".
فاختلف الناسُ فى هذا، فقالت طائفة: ليس هذا بطلاق، ولا يقعُ به الطلاقُ نواه أو لم ينوه، وهذا قولُ أهل الظاهر. قالوا: والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن عقد على ابنة الجَوْنِ، وإنما أرسل إليها لِيَخطُبها. قالوا: وَيَدُلُّ على ذلك ما فى صحيح البخارى: من حديث حمزة بن أبى أُسيد، عن أبيه، أنه كان مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أُتِىَ بالجَوْنِيةِ، فأُنزلت فى بيت أُميمة بنت النعمان بن شراحبيل فى نخل ومعها دابتُها، فدخل عليها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "هَبى لى نَفْسَكِ"، فقالت: وهَلْ تَهَبْ المَلِكةُ نَفْسَها للسُّوقَةِ، فَأَهْوَى لِيَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتسْكُنَ، فَقَالَتْ: أَعُوذُ باللهِ مِنْكَ فقالَ: "قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذ"، ثم خَرَجَ فقال: "يَا أَبا أُسَيْد: اكْسُهَا رازِقِيَّيْنِ وأَلْحِقْهَا بأَهْلِهَا".
وفى "صحيح مسلم": عن سهل بن سعد، قال: ذُكرَتْ لِرسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأةٌ مِن العرب، فأمر أَبا أُسَيْدٍ أن يُرْسِلَ إليها، فأرسل إليها،
فَقَدِمَتْ، فنزلت فى أُجُمِ بنى سَاعِدَة، فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جاءها فدخل عليها، فإذا امرأة منكِّسة رأسها، فلمَّا كلمها، قالت: أَعوذُ باللِّهِ منك، قال: "قَدْ أَعَذْتُكِ مِنِّى"، فقالوا لها: أتدرينَ مَنْ هذا؟ قالتْ: لا، قالوا: هذا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءَك لِيخْطُبَك، قالت: أنا كنتُ أشقى من ذلك.
قالوا: وهذه كُلُّهَا أخبارٌ عن قصة واحدة، فى امرأة واحدة، فى مقام واحد، وهى صريحة أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن تزوَّجها بعدُ، وإنما دخل عليها لِيخْطُبَها.
وقال الجمهور منهم الأئمة الأربعة وغيرهم: بل هذا من ألفاظ الطلاق إذا نوى به الطلاق، وقد ثبت فى صحيح البخارى: أن أبانا إسماعيل بن إبراهيم طلَّق به امرأَته لما قال لها إبراهيم: "مُرِيه فلِّيغَيِّرْ عَتَبَةَ بابِهِ"، فقال لها: أنتِ العتبةُ، وقد أمرنى أن أُفارِقَكِ، الحقى بأهلك وحديث عائشة كالصريح، فى أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عَقَدَ عليها، فإنه قالت: لما أُدخلت عليه، فهذا دخولُ الزوج بأهِله، ويُؤكّده قولها: ودنا منها.
وأما حديث أبى أُسيد، فغايةُ ما فيه قوله: "هِبى لِى نَفْسَكِ"، وهذا لا يدل على أنه لم يتقدم نِكاحُه لها، وجاز أن يكون هذا استدعاءً منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للدُّخول لا للعقد.
وأما حديث سهل بن سعد، فهو أصرحُها فى أنه لم يكن وُجدَ عقد،
فإنَّ فيه أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما جاء إليها قالُوا: هذا رسولُ الله جاء لِيخطُبَكِ، والظاهرُ أنها هى الجونية، لأن سهلاً قال فى حديثه: فأمر أبا أُسيد أن يُرْسِلَ إليها، فأرسل إليها. فالقصةُ واحدة دارت على عائشة رضى الله عنها وأبى أسيد وسهل، وكُلٌّ منهم رواها، وألفاظُهم فيها متقاربة، ويبقى التعارض بين قوله: جاء ليخطبك، وبين قوله: فلما دخل عليها، ودنا منها: فإما أن يكون أحدُ اللفظين وهماً، أو الدخولُ ليس دخول الرجل على امرأته، بل الدخول العام، وهذا محتمل.
وحديثُ ابنِ عباس رضى الله عنهما فى قصة إسماعيل صريح، ولم يزل هذا اللفظُ من الألفاظ التى يُطلَّقُ بها فى الجاهلية والإسلام، ولم يغيره النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل أقرهم عليه، وقد أوقع أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطلاقَ وهُمُ القدوةُ: بأنتِ حرام، وأمرُك بيدك، واختاري، ووهبتُك لأهلك، وأنت خلية وقد خلوتِ مني، وأنت برية وقد أبرأتك، وأنتِ مبرَّأة، وحبلُك على غاربِك، وأنتِ الحرجُ. فقال على وابن عمر: الخليةُ ثلاث، وقال عمر: واحدة، وهو أحقُّ بهَا. وفرَّق معاوية بين رجل وامرأته قال لها: إن خرجت فأنت خلية، وقال على وابنُ عمر رضي الله عنهما، وزيد فى البرية: إنها ثلاث. وقال عمر رضى الله عنه: هى واحدة وهو أحق بها، وقال على في الحرج: هى ثلاث، وقال عمر: واحدة، وقد تقدم ذكر أقوالهم فى أمرك بيدك، وأنت حرام.،والله سبحانه ذكر الطلاقَ ولم يُعين له لفظاً، فعلم أَنه ردَّ الناسَ إلى ما يتعارفونه طلاقاً، فإن جرى عرفهم به، وقع به الطلاقُ مع النيَّة، والألفاظُ لا تُراد لعينها، بل للدلالة على مقاصد لافظها، فإذا تكلَّم بلفظ دال على معنى، وقصد به ذلك المعنى، ترتَّب عليه حكمه،
ولهذا يقع الطلاقُ مِن العجمى والتركى والهندى بألسنتهم، بل لو طلَّق أحدهم بصريحِ الطلاق بالعربية ولم يفهم معناه، لم يقع به شىء قطعاً، فإنه تكلّم بما لا يفهم معناه ولا قصده، وقدْ دل حديثُ كعب بن مالك على أن الطلاقَ لا يقعُ بهذا اللفظ وأمثاله إلا بالنية.
والصوابُ أن ذلك جارٍ فى سائر الألفاظ صرِيحِها وكنايِتها، ولا فرق بين ألفاظِ العتق والطلاق، فلو قال: غلامى غلامٌ حرٌ لا يأتى الفواحش، أو أمتى أمةٌ حرة لا تبغى الفجورَ، ولم يخطر بباله العتقُ ولا نواه، لم يعتق بذلك قطعاً، وكذلك لو كانت معه امرأته فى طريق فافترقا، فقيل له: أين امرأتُكَ؟ فقال: فارقتُها، أو سرَّح شعرها وقال: سرحتُها ولم يُرد طلاقاً، لم تطلق. كذلك إذا ضربها الطلق وقال لغيره إخباراً عنها بذلك: إنها طالق، لم تطلق بذلك، وكذلك إذا كانت المرأة فى وثَاق فأطلقت منه، فقال لها: أنتِ طالق، وأراد من الوثاق. هذا كله مذهبُ مالك وأحمد فى بعض هذه الصور، وبعضها نظير ما نص عليه، ولا يقعُ الطلاقُ به حتى ينويَه، ويأتى بلفظ دال عليه، فلو انفرد أحدُ الأمرين عن الآخر، لم يقع الطلاق، ولا العتاق، وتقسيمُ الألفاظ إلى صريح وكناية وإن كان تقسيماً صحيحاً فى أصل الوضع، لكن يختلِفُ بإختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فليس حكماً ثابتاً للفظ لذاته، فُربَّ لفظٍ صريح، عند قوم كناية آخرين، أو صريح فى زمان أو مكان كنايةٌ فى غير ذلك الزمان والمكان، والواقعُ شاهد بذلك، فهذا لفظ السَّراحِ لا يكادُ أحدٌ يستعمله فى الطلاق لا صريحاً ولا كناية، فلا يسوغُ أن يقال: إن من تكلم به، لزمه طلاقُ امرأته نواه أو لم ينوه، ويدَّعى أنه ثبت له عُرف الشرع والاستعمال، فإن هذه دعوة باطلة شرعاً واستعمالاً، أما الاستعمال،
فلا يكاد أحدٌ يطلق به البتة، وأما الشرعُ، فقد استعمله فى غير الطلاق، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُم المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَالَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وسرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَميلاً} [الأحزاب: 49]، فهذا السراح غير الطلاق قطعاً، وكذلكَ الفراق استعمله الشرعُ فى غير الطلاق، كقوله تعالى: {يَأَيُّهَا النُّبىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إلى قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] فالإمساك هنا: الرجعة، والمفارقةُ: تركُ الرجعة لا إنشاء طلقة ثانية، هذا مما لا خلاف فيه البتة، فلاَ يجوز أن يُقال: إن من تكلم به طلقت زوجته، فهم معناه أو لم يفهم، وكلاهما فى البطلان سواء، وبالله التوفيق.
حُكم رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الظهار، وبيان ما أنزل الله فيه، ومعني العودِ الموجبِ للكفارة
قال تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُم مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ القَوْلِ وَزُوراً وإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * والَّذِينَ يُظَاهِروُنَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَماسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْن مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَماسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمنُوا بِاللهِ وَرَسُولِه وَتِلْكَ حُدُودُ الله ولِلْكَافِرين عَذَابٌ ألِيمٌ} [المجادلة: 2-4] ، ثبت فى "السنن" و"المسانيد": أن أوس بن الصامت ظاهر مِن زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة، وهي التى جادلت فيه رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
واشتكت إلى الله، وسمع الله شكواها مِن فوقِ سبعِ سماوات، فقالت: يا رسولَ الله، إن أوسَ بنَ الصامت تزوَّجنى وأنا شابة مرغوب فىَّ، فلما خلا سنى، ونثرت له بطنى، جعلنى كأمِّهِ عنده، فقال لها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا عِنْدِى فى أمرِك شَىءٌ " فقالت: اللهم إنى أشكو إليك، ورُوى أنها قالت: إن لى صبيةً صِغاراً إن ضمَّهم إليه، ضاعُوا وإن ضممتُهم إلىَّ جَاعُوا، فنزلَ القرآنُ، وقالت عائشة: الحمدُ لِلَّهِ الذى وَسِعَ سمعُه الأصواتَ، لقد جاءت خولةُ بنتُ ثعلبة تشكو إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا فى كِسْرِ البيت يَخْفى علىَّ بعضُ كلامِها، فأنزل الله عزَّ وجَلَّ :{قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتى تُجَادِلُكَ فى زَْوْجِهَا وتَشْتكى إلى اللهِ واللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكما إنَّ اللهَ سميعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لِيُعْتِقْ رَقَبَةً"، قالت: لا يجد، قال: "فَيَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ"، قالت: يا رسول الله، إنه شيخ كبير ما بهِ مِنْ صيام، قال : "فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً" قالت: ما عنده من شىء يتصدَّقُ به، قالت: فأنى ساعتئذ بِعَرق مِنْ تَمْرٍ" قلت: يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنى أعينه بعَرقٍ آخرَ، قالَ: "أَحْسَنْتِ فَأَطْعِمى عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِيناً وارْجِعى إلى ابْنِ عَمِّكِ".
وفى "السنن": أن سلمة بن صخر البياضى ظاهر مِن امرأته مدةَ شهرِ رمضان، ثم واقعها ليلةً قبل انسلاخه، فقال له النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنتَ بِذَاكَ يَا سَلمة"، قال: قلت: أنا بِذَاكَ يا رسولَ الله مرتين وأنا صابر لأمر الله، فاحكمْ فىَّ بما أراك الله قال: "حَرِّرْ رَقَبَةَ"، قلتُ: والذى بعثك بالحقِّ نبياً ما أملِكُ رقبة غيرَها، وضربتُ صفحة رقبتى، قال: "فَصُمْ شَهْرَيْنِ متتابِعَين" ، قال: وهل أصبتُ الذى أصبتُ إلا فى الصيام، قال: "فاطعم، وسْقًا مِن تمر بين سِتينَ مسكيناً" قلت: والَّذى بعثك بالحقِّ لقد بِتْنَا وَحْشَيْنِ ما لنا طَعَام، قال: "فانْطَلِقْ إلى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِى زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إِليْكَ فَأطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً وَسْقاً مِنْ تَمرِ وكُلْ أَنْتَ وعِيَالُكَ بَقِيَّتَها". قال: فَرُحْتُ إلى قومى، فقلتُ: وجدت عندكم الضيقَ وسوء الرأى، ووجدتُ عندَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّعَةَ وحُسْنَ الرأى، وقد أمر لى بصدَقَتِكم.،وفى جامع الترمذى عن ابن عباس، أنَّ رجلا أتى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ظاهَرَ مِن امرأته فوقع عليها، فقال: يا رسولَ الله إنى ظاهرتُ مِن امرأتى، فوقعتُ عليها قَبْلَ أن أكفِّر، قال: "وَمَا حَمَلَكَ عَلى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ
الله" قال: رَأَيْتُ خَلْخَالَها فى ضَوْءِ القَمَرِ، قال: "فَلاَ تَقْرَبْها حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ الله". قال: هذا حديث حسن غريب صحيح.،
وفيه أيضاً: عن لسمة بن صخر، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فى المظاهر يُواقِعُ قبل أن يُكَفِّر، فقال: "كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ". وقال: حسن غريب، انتهى، وفيه انقطاع بين سليمان بن يسار، وسلمة بن صخر، وفى مسند البزار، عن إسماعيل بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس رضى الله عنه، قال: أتى رجلٌ إلى النبى الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إنى ظاهرتُ من امرأتى، ثم وقعتُ عليها قبل أن أُكفِر، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألم يقل الله :{مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3]؟ فقال: أَعْجَبَتْنى، فقال: "أَمْسِكْ عنها حَتَّى تُكَفِّرَ" قال البزار: لا نعلمهُ يُروى بإسناد أحسنَ من هذا، على أن إسماعيل ابن مسلم قد تُكلِّم فيه، وروى عنه جماعة كثيرة من أهل العلم.
فتضمنت هذه الأحكام أموراً.
أحدُها: إبطال ما كانوا عليه فى الجاهلية، وفى صدرِ الإسلام مِن كون الظهار طلاقاً، ولو صرَّح بنيته له، فقال: أنتِ علىَّ كظهر أمى، أعنى به الطلاق، لم يكن طلاقاً وكان ظهاراً، وهذا بالاتفاق إلا ما عساه مِن خلاف شاذ، وقد نصَّ عليه أحمد والشافعى وغيرهما. قال الشافعى:
ولو ظاهر يُريد طلاقاً، كان ظهاراً، أو طلَّق يُريد ظهاراً كان طلاقاً، هذا لفظه، فلا يجوز أن يُنسب إلى مذهبه خلافُ هذا، ونص أحمد: على أنه إذا قال: أنت علىَّ كظهر أمى أعنى به الطلاقَ أنه ظهار، ولا تطلُق به، وهذا لأن الظهار كان طلاقاً فى الجاهلية، فنسخ، فلم يجزْ أن يُعاد إلى الحكم المنسوخ، وأيضاً فأْوس بن الصامت إنما نوى به الطلاقَ على ما كان عليه، وأجرى عليه حكم الظهار دون الطلاق.وأيضاً فإنه صريح فى حكمه، فلم يجز جعلُه كناية فى الحكم الذى أبطله عز وجل بشرعه، وقضاءُ الله أحقُّ، وحكم اللهِ أوجبُ.
ومنها أن الظهار حرام لا يجوزُ الإقدامُ عليه لأنه كما أخبر الله عنه منكر من القول وزور، وكلاهما حرام، والفرقُ بين جهة كونه منكراً وجهةِ كونه زوراً أن قوله: أنت علىَّ كظهر أمى يتضمنُ إخباره عنها بذلك، وإنشاءه تحريمها، فهو يتضمن إخباراً وإنشاءً، فهو خبر زُورٌ وإنشاءٌ منكر، فإن الزور هو الباطل خلاف الحق الثابت، والمنكر خلاف المعروف، وختم سبحانه الآية بقوله تعالى :{وَإنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُور} [المجادلة:2] وفيه شعار بقيام سبب الإثم الذى لولا عفوُ الله ومغفرتُه لآخذ به
ومنها: إن الكفارة لا تجب بنفسِ الظهار، وإنما تجبُ بالعود، وهذا قولُ الجمهور، وروى الثورى، عن ابن أبى نَجيح، عن طاووس قال: إذا تكلَّم بالظهار، فقد لَزِمَه، وهذه رواية ابن أبى نجيح عنه، وروى معمر، عن طاووس، عن أبيه فى قوله تعالى: {ثمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3]، قال: جعلها عليه كظهر أمه، ثم يعودُ، فيطؤها، فتحرير رقبة. وحكى الناس عن مجاهد: أنه تجب الكفارةُ بنفس الظهار، وحكاه
ابنُ حزم عن الثورى، وعثمان البتي، وهؤلاء لم يخف عليهم أن العود شرط فى الكفارة، ولكن العود عندهم هو العود إلى ما كانوا عليه فى الجاهلية من التظاهر، كقوله تعالى فى جزاء الصيد :{ومَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] أى: عاد إلى الاصطياد بعد نزول تحريمه، ولهذا قال: {عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: 95] قالوا: ولأن الكفارة إنما وجبت فى مقابلة ما تكلم به من المنكر والزور، وهو الظهارُ دون الوطء، أو العزم عليه، قالوا: ولأن الله سبحانه لما حرَّم الظهار، ونهى عنه كان العود هو فعل المنهى عنه، كما قال تعالى: {عَسى رَبُّكُم أَنْ يَرْحَمَكُم وإنْ عُدْتُم عُدْنَا} [الإسراء:8] أى: إن عدتم إلى الذنب، عدنا إلى العقوبة، فالعودُ هنا نفسُ فعلِ المنهى عنه،
قالوا: ولأن الظهارَ كان طلاقاً فى الجاهلية، فنُقِلَ حكمُه من الطلاق إلى الظهار، ورتب عليه التكفير، وتحريم الزوجة حتى يكفِّر، وهذا يقتضى أن يكون حكمُه معتبراً بلفظه كالطلاق، ونازعهم الجمهور فى ذلك، وقالوا: إن العود أمرٌ وراءه مجرد لفظ الظهار، ولا يَصِحُّ حمل الآية على العود إليه فى الإسلام لثلاثة أوجه.
أحدها: أن هذه الآية بيان لحكم من يُظاهر فى الإسلام، ولهذا أتى فيها بلفظ الفعل مستقبلاً، فقال: يُظاهرون، وإذا كان هذا بياناً لحكم ظِهار الإسلام، فهو عندكم نفسُ العود، فكيف يقول بعده: ثم يعودون، وإن معنى هذا العود غير الظهر عندكم؟
الثانى: أنه لو كان العُود ما ذكرتم، وكان المضارُ بمعنى الماضي، كان تقديرُه: والذين ظاهروا مِن نسائهم، ثم عادوا فى الإسلام، ولما وجبت الكفارةُ إلا على من تظاهر فى الجاهلية ثم عاد فى الإسلام، فمن أين
تُوجبونها على من ابتدأ الظهار فى الإسلام غيرَ عائد؟ فإن هنا أمرين: ظِهار سابق، وعود إليه، وذلك يبطلُ حكم الظهار الآن بالكلية إلا أن تجعلوا "يظاهرون" لفرقة ويعودون لفرقة،ولفظ المضارع نائباً عن لفظ الماضى، وذلك مخالف للنظم، ومخرج عن الفصاحة.
الثالث: أن رسولَ اللهِ أمر أوسَ بن الصَامت، وسلمة بن صخر بالكفارة، ولم يسألهما: هل تظاهرا فى الجاهلية أم لا؟ فإن قلتُم: ولم يسألهُما عن العود الذى تجعلونه شرطاً، ولو كان شرطا لسألهما عنه. قيل: أما من يجعلُ العود نفس الإمساك بعد الظهار زمناً يُمْكِنُ وقوع الطلاق فيه، فهذا جارٍ على قوله، وهو نفسُ حجته، ومن جعل العودَ هو الوطء والعزم، قال: سياق القصة بيِّن فى أن المتظاهرين كان قصدُهم الوطء، وإنما أمسكوا له، وسيأتى تقريرُ ذلك إن شاء الله تعالى، وأما كون الظهار منكراً من القول وزوراً، فنعم هو كذلك، ولكن الله عز وجل إنما أوجب الكفارة فى هذا المنكر والزور بأمرين: به، وبالعود، كما أن حكم الإيلاء إنما يترتب عليه وعلى الوطء لا على أحدهما.
فصل
وقال الجمهور: لا تجبُ الكفارةُ إلا بالعود بعد الظهار، ثم اختلفوا فى معنى العود: هل هو إعادة لفظ الظهارِ بعينه، أو أمر وراءه؟ على قولين، فقال أهلُ الظاهر كُلُّهم: هو إعادة لفظِ الظهارِ، ولم يحكُوا هذا عن أحد من السلف البتة، وهو قولٌ لم يُسبقوا إليه، وإن كانت هذه الشَّكاةُ
لا يكاد مذهب من المذاهب يخلو عنها. قالوا: فلم يوجب اللهُ سبحانَه الكفارة إلا بالظهار المعاد لا المبتدأ. قالوا: والاستدلال بالآية من ثلاثة وجوه.
أحدهما: أن العرب لا يُعقل فى لغاتها العودُ إلى الشىء إلا فعل مثله مرةً ثانية، قالوا: وهذا كتابُ الله، وكلامُ رسوله، وكلامُ العرب بيننا وبينكم. قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، فهذا نظيرُ الآية سواء فى أنه عدَّى فعل العود باللام، وهو إتيانُهم مرة ثانية بمثل ما أتوا به أولاً، وقال تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا} [الإسراء: 8] أى: إن كررتم الذنب، كررنا العقوبة، ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نُهُوا عَن النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة: 8] وهذا فى سورة الظهار نفسها، وهو يُبين المرادَ مِن العود فيه، فإنه نظيرُه فعلاً وإرادة، والعهد قريب بذكره.
قالوا: وأيضاً، فالذى قالوه: هو لفظُ الظهار، فالعود إلى القول هو الإتيانُ به مرة ثانية لا تعقِلُ العرب غيرَ هذا. قالوا: وأيضاً فما عدا تكرار اللفظ إما إمساكٌ، وإما عزم، وإما فعل، وليس واضحٌ منها بقول، فلا يكون الإتيان به عوداً، لا لفظاً ولا معنى، ولأن العزم والوطء َ والإمساكَ ليس ظهاراً، فيكون الإتيان بها عوداً إلى الظهار.
قالوا: ولو أريد بالعودِ الرجوعُ فى الشىء الذى منع منه نفسه كما يُقال، عاد فى الهبة، لقال: ثم يعودون فيما قالوا، كما فى الحديث : "العَائِدُ فى هِبتهِ، كَالعَائِدِ فى قَيْئهِ" ،
واحتج أبو محمد ابن حزم، بحديث عائشة رضى الله عنها. أن أوس بن الصامت كان به لمم، فكان إذا اشتدَّ بِه لَمَمُه، ظاهَرَ من زوجته، فأنزل اللهُ عز وجَلَّ فيه كفارةَ الظهار. فقال: هذا يقتضى التكرارَ ولا بُدَّ، قال: ولا يصِحُّ فى الظهارِ إلا هذا الخبرُ وحدَه. قال: وأما تشنيعُكم علينا بأن هذا القولَ لم يَقُلْ به أحد من الصحابة، فأرونا مِن الصحابه من قال: إن العود هو الوطء، أو العزم، أو الإمساك، أو هو العود إلى الظهار فى الجاهلية ولو عن رجل واحدٍ من الصحابة، فلا تكونون أسعدَ بأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منا أبداً.
فصل
ونازعهم الجمهورُ فى ذلك، وقالوا: ليسَ معنى العود إعادة اللفظ الأول، لأن ذلك لو كان هو العود، لقال: ثُمَّ يعيدون ما قالوا، لأنه يُقال: أعاد كلامَه بعينه، وأما عاد، فإنما هو فى الأفعال، كما يقال: عاد فى فعله، وفى هبته،فهذا استعماله ب"فى". ويقال: عاد إلى عمله وإلى ولايته، وإلى حاله، وإلى إحسانه وإساءتهِ، ونحو ذلك، وعاد له أيضاً.
وأما القول: فإما يقال: أعاده كما قال ضِماد بن ثعلبة للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعِدْ عَلَىَّ كَلِمَاتِكَ" وكما قال أبو سعيد: "أَعِدْهَا عَلَىَّ يا رسول
الله"، وهذا ليس بلازم، فإنه يقال: أعاد مقالته، وعاد لِمقالته، وعاد لِمقالته، وفى الحديث: "فعاد لمقالته"، بمعنى أعادها سواء، وأفسدُ مِن هذا ردُّ مَنْ رَدَّ عليهم بأن إعادةَ القول محال، كإعادة أمس. قال: لأنه لا يتهيأ اجتماعُ زمانين، وهذا فى غاية الفساد، فإن إعادةَ القولِ من جنس إعادة الفعل، وهى الإتيان بمثل الأول لا بعينه، والعجبُ مِن متعصِّب يقول: لا يُعْتَدُّ بخلاف الظاهرية، ويبحثُ معهم بمثل هذه البحوث، ويردُّ عليهم بمثل هذا الردُّ، وكذلك ردُّ من ردَّ عليهم بمثل العائدِ في هبته، فإنه ليس نظيرَ الآية، وإنما نظيرُها: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نُهُوا عَن النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة: 8]، ومع هذا فهذِهِ الآية تُبين المرادَ مِن آية الظهار، فإن عودَهم لِمَا نُهُوا عنه، هو رجوعُهم إلى نفس المنهى عنه، وهو النجوى، وليس المرادُ به إعادةَ تلك النجوي بعينها، بل رجوعُهم إلى المنهى عنه، وكذلك قولُه تعالى فى الظهار: {يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أى: لقولهم. فهو مصدر بمعنى المفعول، وهو تحريمُ الزوجة بتشبيهها بالمحرَّمة، فالعودُ إلى المحرم هو العودُ إليه، وهو فعلُه، فهذا مأخذُ من قال: إنه الوطء.
ونكتة المسألة: أن القولَ فى معنى المقول، والمقول هو التحريم، والعود له هو العودُ إليه، وهو استباحته عائداً إليه بعد تحريمه، وهذا جار على قواعد اللغة العربية واستعمالها، وهذا الذى عليه جمهورُ السلف والخلف، كما قال قتادة، وطاووس، والحسن، والزهرىُّ، ومالك، وغيرُهم، ولا يُعرف عن أحد مِن السلف أنه فسر الآية بإعادة اللفظ البتة لا من الصحابة، ولا مِن التابعين، ولا مَنْ بعدهم، وها هنا أمرٌ خفىَ على مَنْ جعله إعادةَ اللفظ، وهو أن العودَ إلى الفعل يستلزِمُ مفارقة الحال التى هو عليها الآن، وعودَه إلى الحال التى كان عليها أولاً،كما قال تعالى {وإنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8]
ألا ترى أن عودهم مفارقة ما هم عليه من الإحسان، وعودُهم إلى الإساءة، وكقول الشاعر:
وإنْ عَادَ لِلإِحْسَانِ فَالعَوْدُ أَحْمَدُ.
والحَالُ التى هو عليها الآن التحريمُ بالظهار، والتى كان عليها إباحةُ الوطء بالنكاح الموجِبِ للحل، فَعَوْدُ المظاهر عودٌ حِلِّ كان عليهِ قبلَ الظهار، وذلك هو الموجبُ للكفارة فتأمله، فالعودُ يقتضى أمراً يعودُ إليه بعدَ مفارقته، وظهر سِرُّ الفرق بينَ العود فى الهبة، وبينَ العود لما قال المظاهرُ، فإنَّ الهبة بمعنى الموهوب وهو عين يتضمَّن عودُه فيه إدخالَه فى مُلكه وتصرُّفَه فيه، كما كان أولاً، بخلاف المظاهر، فإنه بالتحريم قد خرج عن الزوجية، وبالعودِ قد طلب الرجوعَ إلى الحالِ التى كان عليها معها قبلَ التحريم، فكان الأَلْيق أن يقال: عاد لكذا، يعنى: عاد إليه. وفى الهبة: عاد إليها، وقد أمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوسَ بن الصامِت، وسلمةَ ابن صخر بكفارة الظِّهار، ولم يتلفظا به مرتين، فإنَّهما لم يُخبرا بذلك عن أنفسهما، ولا أخبر به أزواجُهما عنهما، ولا أحدٌ من الصحابة، ولا سألهما النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ قلُتما ذلك مرة أو مرتين؟ ومثلُ هذا لو كان شرطاً لما أهمل بيانه.
وسرُّ المسألة أن العودَ يتضمن أمرين: أمراً يعود إليه، وأمراً يعود عنه، ولا بُدَّ منهما فالذى يعود عنه يتضمَّن نقضَه وإبطاله، والذى يعودُ إليه يتضمَّن إيثاره وإرادته، فعودُ المظاهر يقتضى نقضَ الظِهار وإبطاله، وإيثار ضدِّه وإرادته، وهذا عينُ فهم السلفِ من الآية، فبعضُهم يقول: إن العود هو الإصابة، وبعضُهم يقول: الوطء، وبعضُهم يقول: اللمس، وبعضُهم يقول: العزم.
وأما قولُكم: إنه إنما أوجب الكفارة فى الظهار، إن أردتم به
المعاد لفظُه، فدعوى بحسب ما فهمتموه، وإن أردتم به الظهارَ المعادَ فيه لما قال المظاهِرُ، لم يَسْتَلزمْ ذلك إعادة اللفظ الأول. وأما حديث عائشة رضى الله عنها فى ظِهار أوس بن الصامت، فما أصحَّه، وما أبعدَ دلالته على مذهبكم.
فصل
ثمَّ الذين جعلوا العودَ أمراً غيرَ إعادة اللفظ اختلفُوا فيه: هل هو مجردُ إمساكِها بعد الظهار، أو أمرٌ غيره؟ على قولين. فقالت طائفة: هو إمساكُها زمناً يتَّسعُ لقوله: أنت طالق، فمتى لم يَصِل الطلاق بالظهار لزمته الكفارة وهو قول الشافعي قال منازعوه وهو في المعنى قول مجاهد والثوري فإن هذا النفس الواحد لا يخرج الظهار عن كونه موجبَ الكفارة، ففى الحقيقة لم يُوجب الكفارة إلا لفظُ الظَّهار، وزمنُ قوله: أنت طالق لا تأثيرَ له فى الحكم إيجاباً ولا نفياً، فتعليقُ الإيجابِ به ممتنع، ولا تُسمى تلك اللحظةُ والنَّفسُ الواحد مِن الأنفاس عوداً لا فى لغة العرب ولا فى عُرف الشارع، وأىُّ شىء فى هذا الجزء اليسير جداً مِن الزمان من معنى العود أو حقيقته؟
قالوا: وهذا ليس بأقوى مِن قول من قال: هو إعادةُ اللفظ بعينه، فإن ذلك قولٌ معقول يفهم منه العودُ وحقيقةً، وأما هذا الجزءُ مِن الزمان، فلا يفهمُ من الإنسان فيه العود البتة. قالوا: ونحنُ نُطالبكم بما طالبتُم به الظاهرية: من قال هذا القولَ قبل الشافعى؟ قالوا: واللهُ سبحانه أوجبَ الكفارةَ بالعودِ بحرف "ثم" الدالة على التراخى عن الظهار،ر
فلا بد أن يكونَ بينَ العود وبين الظهار مدةٌ متراخية، وهذا ممتنع عندكم، وبمجردِ انقضاء قوله: أنت علىَّ كظهر أمى صار عائداً ما لم يصله بقوله: أنتِ طالق، فأين التراخى والمهلة بين العود والظهار؟ والشافعى لم ينقل هذا عن أحد من الصحابة والتابعين، وإنما أخبر أنه أولى المعانى بالآية، فقال: الذى عَقَلْتُ ممَّا سَمِعْتُ فى "يعودون لما قالوا"، أنه إذا أتت على المظاهِرِ مدةٌ بعد القول بالظهار، لم يُحرِّمْهَا بالطلاق الذى يحرم به، وجبت عليه الكفارةُ، كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسكَ ما حرَّم على نفسه أنه حلال، فقد عاد لما قال، فخالفه، فأحلَّ ما حرم، ولا أعلمُ له معنى أولى به من هذا. انتهى.
فصل
والذين جعلوه أمراً وراءَ الإمساك اختلفوا فيه، فقال مالك فى إحدى الروايات الأربع عنه، وأبو عُبيد: هو العزم على الوطء، وهذا قول القاضى أبى يعلى وأصحابه، وأنكره الإمام أحمد، وقال مالك: يقول: إذا أجمع، لزمته الكفارة، فكيف يكون هذا لو طلَّقها بعد ما يُجمع، أكان عليه كفارة إلا أن يكون يذهبُ إلى قول طاووس إذا تكلم بالظهارِ، لزمه مثلُ الطلاق؟
ثم اختلف أربابُ هذا القول فيما لو مات أحدُهما، أو طلَّق بعد العزم، وقبل الوطء، هل تستقر عليه الكفارة؟ فقال مالك وأبو الخطاب: تستقِرُّ الكفارةُ. وقال القاضى وعامةُ أصحابه: لا تستقِرُّ، وعن مالك رواية ثانية: أنه العزم على الإمساك وحدَه، وروايةُ "الموطأ" خلاف
هذا كله: أنه العزمُ على الإمساك والوطء معاً. وعنه رواية رابعة: أنه الوطء نفسه، وهذا قولُ أبى حنيفة وأحمد. وقد قال أحمد فى قوله تعالى :{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3]، قال: الغشيانُ إذا أراد أن يغشى، كَفَّرَ، وليس هذا باختلاف رواية، بل مذهبُه الذى لا يُعرف عنه غيره أنه الوطء ويلزمه إخراجها قبله عند العزم عليه.
واحتج أرباب هذا القول بأن الله سبحانه قال فى الكفارة: {مِنْ قَبْلِ أن يتماساً} [المجادلة: 3 ] فأوجب الكفارة بعد العودِ، وقبل التماس، وهذا صريح فى أن العود غير التماس، وأن ما يحرم قبل الكفارة، لا يجوز كونُه متقدماً عليها. قالوا: ولأنه قصد بالظهار تحريمها، والعزم على وطئها عود فيما قصده. قالوا: ولأن الظِّهار تحريم، فإذا أراد استباحتها، فقد رجع فى ذلك التحريم، فكان عائداً.
قال الذين جعلوه الوطء: لا ريب أن العود فعلُ ضدِّ قولِه كما تقدم تقريره، والعائد فيما نهى عنه وإليه وله: هو فاعلُه لا مريدُه، كما قال تعالى: {ثُمَّ يَعُودونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة: 8]، فهذا فعل المنهى عنه نفسه لإرادته، ولا يلزم أربابَ هذا القول ما ألزمهم به أصحابُ العزم، فإن قولهم: إن العودَ يتقدم التكفير، والوطءُ متأخر عنه، فهم يقولون: إن قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أى: يريدون العود كما قال تعالى: {فَإذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ باللهِ} [النحل: 98]، وكقوله تعالى: {إذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وجُوهَكُم} [المائدة: 6] ونظائره مما يطلق الفعل فيه على إرادته لوقوعه بها. قالوا: وهذا أولى مِن تفسير العود بنفس اللفظ الأول، وبالإمساك نَفَساً واحداً بعد الظهار، وبتكرار لفظ الظهار، وبالعزم المجرَّدِ لو طلَّقَ بعده، فإن هذِهِ الأقوال كُلَّها قد تبين ضعفها، فأقرب الأقوال إلى دلالة اللفظ وقواعد الشريعة وأقوال المفسرين، هو هذا، وبالله التوفيق.
فصل
ومنها: أن من عجز عن الكفارة، لم تسقُط عنه، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعان أوسَ ابن الصامت بِعَرَقٍ من تمر، وأعانته امرأته بمثله، حتى كفَّر، وأمر سلمةَ بن صخر أن يأخذ صدقةَ قومه، فيكفِّر بها عن نفسه، ولو سقطت بالعجز، لما أمرهما بإخراجها، بل تبقى فى ذمته ديناً عليه، وهذا قول الشافعى، وأحد الروايتين عن أحمد.
وذهبت طائفة إلى سقوطِها بالعجز، كما تسقط الواجبات بعجزه عنها، وعن إبدالها.
وذهبت طائفة أن كفارةَ رمضان لا تبقى فى ذمته، بل تسقُط، وغيرُها من الكفارات لا تسقط، وهذا الذى صححه أبو البركات ابن تيمية.
واحتجَّ من أسقطها بأنها لو وجبت مع العجز، لما صُرِفَتْ إليه، فإن الرجل لا يكونُ مَصْرِفاً لكفارته، كما لا يكون مَصْرِفا لزكاته، وأربابُ القول الأول يقولون: إذا عجز عنها، وكفر الغيرُ عنه، جاز أن يَصْرِفَهَا إليه، كما صرف النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفارةَ من جامع فى رمضان إليه وإلى أهله، وكما أباح لسلمة بن صخر أن يأكُل هو وأهلُه من كفارته التى أخرجها عنه من صدقة قومه، وهذا مذهبُ أحمد، رواية واحدة عنه فى كفارة من وطىء أهله فى رمضان، وعنه في سائر الكفارات روايتان
والسنة تدل على أنه إذا أعسر بالكفارة ، وكفَّرَ عنه غيرُه، جاز صرف كفارته إليه، وإلى أهله.
فإن قيل: فهل يجوز له إذا كان فقيراً له عيال وعليه زكاة يحتاج إليها أن يصرفها إلى نفسه وعياله؟ قيل: لا يجوز ذلك لعدم الإخراج المستحق
عليه، ولكن للإمام أو الساعى أن يدفع زكاتَه إليه بعد قبضها منه فى أصحِّ الروايتين عن أحمد، فإن قيل: فهل له أن يسقطها عنه؟ قيل: لا، نص عليه، والفرق بينهما واضح، فإن قيل: فإذا أذن السيد لعبده فى التكفير بالعتق، فهل له أن يعتق نفسه؟ قيل: اختلفت الرواية فيما إذا أذن له فى التكفير بالمال، هل له أن ينتقلَ عن الصيامِ إليه؟ على روايتين إحداهما: أنه ليس له ذلك، وفرضُه الصيام، والثانية: له الانتقال إليه، ولا يلزمُه لأنَّ المنع لِحقِّ السيد، وقد أذن فيه. فإذا قلنا: له ذلك، فهل له العتقُ؟ اختلف الروايةُ فيه عن أحمد، فعنه فى ذلك روايتان، ووجهُ المنع: أنه ليس من أهل الولاء، والعتق يَعْتَمِدُ الولاء، واختار أبو بكر وغيرُه أن له الإعتاق، فعلى هذا، هل له عِتقُ نفسه؟ فيه قولان فى المذهب، ووجهُ الجواز إطلاقُ الإذن ووجهُ المنع أن الإذن فى الإعتاق ينصرفُ إلى إعتاق غيره، كما لو أذن له فى الصدقة انصرف الإذن إلى الصدقة على غيره.
فصل
ومنها: أنه لا يجوز وطء المظاهر منها قبل التكفير، وقد اختلف ها هنا فى موضعين. أحدهما: هل له مُبَاشَرتها دُونَ الفرج قبل التكفير، أم لا؟ والثانى: أنه إذا كانت كفارتُه الإطعام، فهل له الوطء قبلَه أم لا؟ فى المسألتين قولان للفقهاء، وهما روايتانِ عن أحمد، وقولان للشافعى.
ووجه منع الاستمتاع بغير الوطء، ظاهرُ قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَتَماسَّا} [المجادلة: 3]، ولأنه شبَّهها بمن يحرم وطؤها ودواعيه، ووجهُ الجواز أن التَّماسَّ كنايةٌ عن الجماع، ولا يلزم مِن تحريم الجماع تحريمُ دواعيه، فإن الحائضَ يحرم جماعُها دون دواعيه، والصائمُ يحرم منه الوطُء دون دواعيه، والمسبية يحرم وطُؤها دونَ دواعيه، وهذا قولُ أبى حنيفة.
وأما المسألةُ الثانية وهى وطؤها قبل التكفير: إذا كان بالإطعام، فوجه الجواز أن الله سبحانه قيَّد التكفيرَ بكونه قبل المسيس فى العتق والصيام، وأطلقه فى الإطعام، ولكل منهما حِكمة، فلو أراد التقييدَ فى الإطعام، لذكره، كما ذكره فى العتق والصيام، وهو سبحانه لم يقيد هذا ويطلق هذا عبثاً، بل لِفائدة مقصودة، ولا فائدة إلا تقييد ما قيَّده، وإطلاقُ ما أطلقه. ووجهُ المنع استفادةُ حكم ما أطلقه مماقيده، إما بياناً على الصحيح، وإما قياساً قد ألغى فيه الفارق بين الصورتين، وهو سبحانه لا يُفرِّقُ بين المتماثلين، وقد ذكر: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] مرتين، لو أعاده ثالثاً، لطال به الكلام، ونبَّه بذكره مرتين على تكرر حكمه فى الكفارات، ولو ذكره فى آخر الكلام مرةً واحدةً، لأوهم اختصاصه بالكفارة الأخيرة، ولو ذكره فى أول مرة لأوهم اختصاصه بالأولى، وإعادته فى كُلِّ كفارة تطويل، وكان أفصحَ الكلام وابلَغه وأوجزَه ما وقع.
وأيضاً فإنه نبه بالتكفير قبل المسيس بالصوم مع تطاول زمنه، وشدة الحاجة إلى مسيس الزوجة على أن اشتراط تقدمه فى الإطعام الذى لا يطول زمنه أولى.
فصل
ومنها: أنه سبحانه أمر بالصيام قبل المسيسِ، وذلِكَ يَعُمُّ المسيسَ ليلاً ونهاراً، ولا خلاف بين الأئمة فى تحريم وطئها فى زمنِ الصوم ليلاً ونهاراً، وإنما اختلفُوا، هل يبطل التتابُع به؟ فيه قولان. أحدهما: يبطل وهو قولُ مالك، وأبى حنيفة، وأحمد فى ظاهر مذهبه، والثانى: لا يبطل، وهو قولُ الشافعى، وأحمد فى رواية أخرى عنه.
والذين أبطلوا التتابعَ معهم ظاهرُ القرآن، فإنه سبحانه أمر بشهرين متتابعين قبل المسيسِ، ولم يوجد، ولأن ذلك يتضمَّن النهى عن المسيس قبل إكمال الصيام وتحريمه، وهو يُوجب عدم الاعتدادِ بالصوم، لأنه عمل ليس عليه أمرُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكون رداً.
وسر المسألة أنه سبحانه أوجب أمرين، أحدهما: تتابع الشهرين والثانى: وقوعُ صيامهما قبل التماس، فلا يكون قد أتى بما أمر به إلا بمجموع الأمرين.
فصل
ومنها: أنه سبحانه وتعالى أطلق إطعامَ المساكين ولم يُقيده بقدر، ولا تتابع، وذلك يقتضى أنه لو أطعمهم فغدَّاهم وعشاهم مِن غير تمليك حبٍّ أو تمر، جاز، وكان ممتثلاً لأمر الله، وهذا قولُ الجمهور ومالك، وأبى حنيفة، وأحمد فى إحدى الروايتين عنه، وسواء أطعمهم جملة أو متفرقين.
فصل
ومنها: أنه لا بُدَّ من استيفاء عدد الستين، فلو أطعم واحداً ستين يوماً لم يجزه إلاَّ عن واحدٍ، هذا قول الجمهور: مالك، والشافعى، وأحمد فى إحدى الروايتين عنه. والثانية: أن الواجب إطعام ستين مسكيناً، ولو لواحدٍ وهو مذهب أبى حنيفة. والثالثة: إن وجد غيرَه لم يجز، وإلا أجزأه، وهو ظاهرُ مذهبه، وهى أصح الأقوال.
فصل
ومنها: أنه لا يجزئه دفعُ الكفارة إلا إلى المساكين، ويدخُلُ فيهم الفقراء كما يدخل المساكينُ فى لفظ الفقراء عند الإطلاق، وعمم أصحابُنا وغيرهم الحكمَ فى كلِّ من يأخذ من الزكاة لحاجته، وهم أربعة: الفقراء، والمساكين، وابنُ السبيل، والغارمُ لمصلحته، والمكاتب. وظاهر القرآن اختصاصُها بالمساكين، فلا يتعدَّاهم.
فصل
ومنها: أن الله سبحانه أطلقَ الرقبةَ هاهنا، ولم يُقيدها بالإيمان، وقيَّدها فى كفارة القتل بالإيمان، فاختلف الفقهاء فى اشتراط الإيمان فى غير كفارة القتل، على قولين: فشرطه الشافعىُّ، ومالك، وأحمد فى ظهر مذهبه، ولم يشترطه أبو حنيفة، ولا أهلُ الظاهر، والذين لم يشترطوا الإيمان قالوا: لو كان شرطاً لبيَّنه الله سبحانه، كما بينه فى
كفارة القتل، بل يُطلق ما أطلقه، ويُقيد ما قيده، فيعمل بالمطلق والمقيد. وزادت الحنفيّة أن اشتراط الإيمان زيادة على النص، وهو نسخ، والقرآن لا يُنسخ إلا بالقرآن أو خبرٍ متواترٍ، قال الآخرون: واللفظ للشافعى: شرط الله سبحانه فى رقبة القتل مؤمنة، كما شرطَ العدلَ فى الشهادة، وأطلق الشهودَ فى مواضع، فاستدللنا به على أن ما أطلقَ مِن الشهادات على مثل معنى ما شَرَطَ وإنما رد الله أموال المسلمين على المسلمين لا على المشركين وفرض الله الصدقاتِ، فلم تجز إلا للمؤمنين، فكذلك ما فرضَ مِن الرقاب لا يجوزُ إلا لمؤمن، فاستدل الشافعىُّ بأن لسان العرب يقتضى حملَ المطلق على المقيد إذا كان مِن جنسه، فحملَ عرفَ الشرع على مقتضى لسانهم، وهاهنا أمران.أحدهما: أن حمل المطلق على المقيد بيانٌ لا قياس. الثانى: أنه إنما يحمل عليه بشرطين. أحدهما: اتحاد الحكم. والثانى: أن لا يكون للمطلق إلا أصل واحد. فإن كان بين أصلين مختلفين، لم يُحمل إطلاقُه على أحدهما إلا بدليل يُعينه. قال الشافعى: ولو نذر رقبةً مطلقةً لم يُجزه إلا مؤمنة، وهذا بناء على هذا الأصل، وأن النذر محمولٌ على واجب الشرع، وواجبُ العتق لا يتأدى إلا بعتق المسلم. ومما يدل على هذا، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لمن استفتى فى عتق رقبة منذورة: ائتنى بها، فسألها أينَ اللهُ؟ فقالت: فى السماء، فقال: من أنا؟ قالت: أنتَ رسولُ اللهِ، فقال: أعتقها فإنها مُؤمنة. قال الشافعى: فلما وصفت الإيمانَ،
أمر بعتقها انتهى.
وهذا ظاهر جداً أن العِتقَ المأمورَ به شرعاً لا يُجزىء إلا فى رقبة مؤمنة، وإلا لم يكن للتعليل بالإيمان فائدة، فإن الأعم متى كان عِلة للحكم كان الأخصُّ عديمَ التأثير، وأيضاً فإن المقصود من إعتاق المسلم تفريغُه لعبادة ربه، وتخليصُه من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق، ولا ريبَ أن هذا أمرٌ مقصودٌ للشارع محبوب له، فلا يجوزُ إلغاؤُه، وكيف يستوى عند الله ورسوله تفريغُ العبد لعبادته وحدَه، وتفريغُه لعبادة الصليب، أو الشمس والقمر والنار، وقد بيَّن سبحانه اشتراط الإيمان فى كفارة القتل، وأحال ما سكتَ عنه على بيانه، كما بيّن اشتراطَ العدالة فى الشاهدين، وأحال ما أطلقه، وسكت عنه على ما بينه، وكذلك غالبُ مطلقات كلامه سبحانه ومقيداته لمن تأملها، وهى أكثرُ من أن تُذكر، فمنها: قوله تعالى فيمن أمر بصدقة، أو معروف، أو إصلاح بين الناس: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤتِيهِ أَجْراَ عَظِيماً} [النساء: 114] وفى موضع آخر، بل مواضع يُعلق الأجر بنفس العمل اكتفاءً بالشرط المذكور فى موضعه، وكذلك قولُه تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94]، وفى موضع يُعلِّق الحزاء بنفس الأعمال الصالحة اكتفاءً بما علم من شرط الإيمان، وهذا غالب فى نصوص الوعد والوعيد
فصل
ومنها: أنه لو أعتق نِصفي رقبتين لم يكن معتقاً لرقبة، وفى هذا ثلاثةُ أقوال للناس، وهى روايات عن أحمد، ثانيها الإجزاء، وثالثها وهو أصحها: أنه إن تكملت الحريةُ فى الرقبتين أجزأه، وإلا فلا، فإنه يَصْدُقُ عليه أنه حرَّر رقبة، أى: جعلها حرة بخلاف ما إذا لم تكمل الحرية.
فصل
ومنها: أن الكفارة لا تسقُط بالوطء قبلَ التكفير، ولا تتضاعف، بل هى بحالها كفارةٌ واحدة، كما دل عليه حكمُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذى تقدم، قال الصلتُ بنُ دينار: سألتُ عشرة مِن الفقهاء عن المظاهر يُجامع قبل أن يُكفر، فقالوا: كفارة واحدة. قال: وهم الحسنُ، وابنُ سيرين، ومسروق، وبكر، وقتادة، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وعكرمة. قال: والعاشر: أراه نافعاً، وهذا قولُ الأئمة الأربعة.
وصحَّ عن ابن عمر، وعمرو بن العاص، أن عليه كفارتين، وذكر سعيد ابن منصور، عن الحسن، وإبراهيم فى الذى يُظاهر، ثم يطؤها قبل أن يكفِّر: عليه ثلاثُ كفارات، وذكر عن الزهرى، وسعيد بن جبير، وأبى يوسف، أن الكفارة تسقُطُ، ووجه هذا أنه فات وقتُها، ولم يبق له سبيل إلى إخراجها قبل المسيس.
وجواب هذا، أن فوات وقت الأداء لا يُسقطُ الواجب فى الذمّة كالصلاةِ والصيام وسائر العبادات، ووجهُ وجوب الكفارتين أن إحداهما
للظهار الذى اقترن به العودُ، والثانية للوطء المحرَّم، كالوطء فى نهار رمضان، وكوطء المحرِمِ، ولا يُعلم لإيجاب الثلاثِ وجه، إلا أن يكونَ عقوبة على إقدامه على الحرام، وحكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدلُّ على خلاف هذه الأقوال، والله أعلم
حُكْمُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الإِيلاء
ثبت فى صحيح البخارى: عن أنس قال: آلى رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نسائه، وكانت انفكت رجلُه، فأقام فى مَشْرُبَةٍ له تِسعاً وعشرين ليلة، ثم نزل، فقالُوا: يا رسَولَ الله: آليتَ شهراً، فقال: "إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعاً وعِشْرِينَ" ، وقد قال سبحانه: {للَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَربُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226-227].
الإيلاء: لغة: الامتناع باليمين، وخُصَّ فى عرف الشرع بالامتناعِ باليمينِ مِن وطء الزوجة، ولهذا عُدّىَ فعلُه بأداة "من" تضميناً له، معنى "يمتنعون" من نسائهم، وهو أحسنُ من إقامةِ "من" مقام "عَلَى"، وجعل سبحانه للأزواج مُدَّةَ أربعة أشهر يمتنعونَ فيها مِن وطء نسائهم بالإيلاء، فإذا مضت فإما أن يَفىء، وإما أن يُطلِّق، وفد اشتهر عن على، وابنِ عباس، أن الإيلاء إنما يكون فى حال الغضب دون الرضي، كما وقع
لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع نسائه، وظاهرُ القرآن مع الجمهور.
وقد تناظر فى هذه المسألة محمد بنُ سيرين، ورجل آخر، فاحتج على محمد بقول على، فاحتج عليه محمد بالآية، فسكت.
وقد دلت الآية على أحكام.
منها: هذا. ومنها: أن من حلف على ترك الوطء أقلَّ من أربعة أشهر لم يكن مؤلياً، وهذا قولُ الجمهور، وفيه قول شاذ، أنه مؤل.
ومنها: أنه لا يثبت له حكم الإيلاء حتى يَحْلِفَ على أكثر من أربعة أشهر، فإن كانت مدة الامتناع أربعة أشهر، لم يثبت له حكمُ الإيلاء، لأن الله جعل لهم مدةَ أربعة أشهر، وبعدَ انقضائها إما أن يُطلِّقوا، وإما أن يفيؤوا، وهذا قولُ الجمهور، منهم، أحمد، والشافعى، ومالك، وجعله أبو حنيفة مؤلياً بأربعة أشهر سواء، وهذا بناء على أصله أن المدةَ المضروبة أجلٌ لوقوع الطلاق بانقضائها، والجمهور يجعلون المدة أجلاً لاستحقاق المطالبة، وهذا موضع اختلف فيه السلفُ من الصحابة رضى الله عنهم والتابعين ومَنْ بعدهم، فقال الشافعى، حدثنا سفيانَ، عن يحيى ابن سعيد، عن سليمانَ بن يسار، قال: أدركتُ بضعة عشرَ رجلاً مِن الصحابة، كلهم يُوقِفُ المؤلى. يعنى: بعد أربعةِ أشهر. وروى سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، قال: سألتُ اثنى عشر رجلاً مِن أصحابِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المؤلى، فقالوا: ليس عليه شىء حتى تمضىَ أربعةُ أشهر. وهذا قولُ الجمهور مِن الصحابة والتابعين، ومن بعدهم.
وقال عبد الله بن مسعود، وزيدُ بن ثابت: إذا مضت أربعة أشهر ولم يفىء فيها، طلقت منه بمضيها، وهذا قولُ جماعةٍ من التابعين، وقولُ أبى حنيفة وأصحابه، فعند هؤلاء يستحِقُّ المطالبة قبل مضى الأربعة الأشهر، فإن فاء وإلا طلقت بمضيها. وعند الجمهور، لا يستحق المطالبة حتى تمضى الأربعة الأشهر، فحينئذ يقال: إما أن تفىء، وإما أن تُطلق، وإن لم يفىء، أُخِذَ بإيقاع الطلاق، إما بالحاكم، وإما بحبسه حتى يطلِّق.
قال الموقعون للطلاق بمضى المدة: آية الإيلاء تدل على ذلك من ثلاثة أوجه.
أحدها: أن عبدَ الله بن مسعود قرأ :{فَإنْ فَاءوا فَإنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] فإضافة الفيئة إلى المدة تدل على استحقاق الفيئة فيها، وهذه القراءة إما أن تُجرى مجرى خبر الواحد، فتوجب العمل، وإن لم تُوجب كونها مِن القرآن، وإما أن تكون قرآناً نسخ لفظه، وبقى حكمه لا يجوز فيها غير هذا البتة.
الثانى: أن الله سبحانه جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر، فلو كانت الفيئةُ بعدها، لزادت على مدة النص، وذلك غيرُ جائز.
الثالث: أنه لو وطئها فى مدة الإيلاء، لوقعت الفيئةُ موقِعَها، فدل على استحقاق الفيئة فيها.
قالوا: ولأن الله سبحانه وتعالى جعل لهم تربصَ أربعة أشهر، ثم قال: { فَإنْ فَاءوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإن عَزَمُو الطَّلاَقَ} [البقرة: 226-227] وظاهر هذا أن هذا
لتقسيم فى المدة التى لهم فيها التربص، كما إذا قال لغريمه: أصبر عليك بدينى أربعة أشهر، فإن وفيتنى وإلا حبستك، ولا يُفهم من هذا إلا أن وفَّيتنى فى هذه المدة، ولا يُفهم منه إن وفيتنى بعدها، وإلا كانت مدة الصبر أكثر من أربعة أشهر، وقراءة ابن مسعود صريحة فى تفسير الفيئة بأنها فى المدة، وأقلُّ مراتبها أن تكون تفسيراً. قالوا: ولأنه أجلٌ مضروب للفرقة، فتعقبه الفرقة كالعدة، وكلأجل الذى ضُرِبَ لوقوع الطلاق، كقوله: إذا مضت أربعة أشهر، فأنت طالق.
قال الجمهور: لنا مِن آية الإيلاء عشرة أدلة.
أحدها: أنه أضاف مدة الإيلاء إلى الأزواج، وجعلَها لهم، ولم يجعلها عليهم، فوجبَ ألا يستحق المطالبة فيها، بل بعدَها، كأجلِ الدَّين، ومن أوجبَ المطالبةَ فيها لم يكن عنده أجلاً لهم، ولا يُعقل كونها أجلاً لهم، ويستحق عليهم فيها المطالبة.
الدليل الثانى: قوله: {فَإنْ فَاءُوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]، فذكر الفيئةَ بعد المدة بفاء التعقيب، وهذا يقتضى أن يكونَ بعدَ المدة، ونظيرُه قولُه سبحانه: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وهذا بعدَ الطلاق قطعاً.
فإن قيل: فاء التعقيب تُوجب أن يكونَ بعد الإيلاء لا بعدَ المدة؟ قيل: قَد تقدَّمَ فى الآية ذكر الإيلاء، ثم تلاه ذكر المدة، ثم أعقبها بذكر الفيئة، فإذا أوجبت الفاءُ التعقيبُ بعد ما تقدم ذكرُه، لم يجز أن يعود إلى أبعدِ المذكورين، ووجب عودُها إليهما أو إلى أقربهما.
الدليل الثالث: قوله: {وإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ} [البقرة: 227] ، وإنما العزم ما عزم العازمُ على فعله، كقوله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ
النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] فإن قيل: فتركُ الفيئة عزم على الطلاق؟ قيل: العزمُ هو إرادة جازمة لفعل المعزوم عليه أو تركه، وأنتم تُوقعون الطلاقَ بمجرد مضىِّ المدة وإن لم يكن منه عزم لا على وطء ولا على تركه، بل لو عزم على الفيئة، ولم يُجامع طلقتم عليه بمضىِّ المدة، ولم يعزم الطلاق، فكيفما قدرتم، فالآيةُ حجة عليكم.
الدليل الرابع: أن الله سبحانه خيَّره فى الآية بين أمرين: الفيئةِ أو الطلاقِ، والتخييرُ بين أمرين لا يكون إلا فى حالة واحدة كالكفارات، ولو كان فى حالتين، لكانتا ترتيباً لا تخييراً، وإذا تقرر هذا، فالفيئة عندكم فى نفس المدة، وعزمُ الطلاق بانقضاء المدة، فلم يقع التخييرُ فى حالة واحدة.
فإن قيل: هو مخيَّر بين أن يفىء فى المدة، وبين أن يترك الفيئة، فيكون عازماً للطلاق بمضى المدة.
قيل: ترك الفيئة لا يكون عزماً للطلاق وإنما يكون عزماً عندكم إذا انقضت المدة، فلا يتأتَّى التخييرُ بين عزم الطلاق وبين الفيئة البتة، فإنه بمضى المدة يقع الطلاق عندكم، فلا يُمكنه الفيئة، وفى المدة يمكنه الفيئة، ولم يحضر وقتُ عزم الطلاق الذى هو مضى المدة، وحينئذ فهذا دليل خامس مستقل.
الدليل السادس: أن التخيير بين أمرين يقتضى أن يكون فِعلُهما، إليه ليصح منه اختيارُ فعل كل منهما وتركه، وإلا لبطل حكمُ خياره، ومضى المدة ليس إليه.
الدليل السابع: أنه سبحانه قال :{وإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227]. فاقتضى أن يكون الطلاقُ قولاً يُسمع، ليحسن ختم الآية بصفة السمع.
الدليل الثامن: أنه لو قال لغريمه: لك أجلُ أربعة أشهر، فإن وفيتنى قبلتُ منك، وإن لم تُوفنى حبستُك، كان مقتضاه أن الوفاء والحبس بعد المدة لا فيها، ولا يَعْقِلُ المخاطبُ غيرَ هذا.
فإن قيل: ما نحن فيه نظيرُ قوله: لك الخيار ثلاثة أيام فإن فسخت البيع وإلا لزمك، ومعلومٌ أن الفسخَ إنما يقع فى الثلاث لا بعدها؟ قيل: هذا من أقوى حُججنا عليكم فإن موجبَ العقد اللزومُ، فجعل له الخيار فى مدة ثلاثة أيام، فإذا انقضت ولم يفسخ عاد العقدُ إلى حكمه وهو اللزومُ وهكذا الزوجة لها حقٌّ على الزوج فى الوطء كما له حقٌّ عليها، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بالمعْرُوف} [البقرة: 228] فجعل له الشارعُ امتناعَ أربعة أشهر لا حقَّ لها فيهن، فإذا انقضت المدةُ، عادت على حقِّها بموجبِ العَقد، وهو المطالبة لا وقوع الطلاق، وحينئذ فهذا دليل تاسع مستقل.
الدليل العاشر: أنه سبحانه جعل للمؤلين شيئاً، وعليهم شيئين، فالذى لهم تربُّصُ المدة المذكورة، والذى عليهم إما الفيئةُ وإما الطلاقُ، وعندكم ليس عليهم إلا الفيئةُ فقط، وأما الطلاقُ، فليس عليهم، بل ولا إليهم، وإنما هو إليه سبحانه عند انقضاء المدة، فيُحكم بطلاقها عقيب انقضاء المدة شاء أو أبى، ومعلوم أن هذا ليس إلى المؤلى ولا عليه، وهو خلافُ ظاهر النص.
قالوا: ولأنها يمين بالله تعالى توجب الكفارةَ. فلم يقع بها الطلاق كسائر الأيمان، ولأنها مدة قدرها الشرعُ، لم تتقدمها الفرقة، فلا يقع بها بينونة، كأجل العنِّين، ولأنه لفظ لا يَصِحُّ أن يقع به الطلاق المعجَّل، فلم يقع به المؤجَّلُ كالظهار، ولأن الإيلاء كان طلاقاً فى الجاهلية، فنسخ كالظهار، فلا يجوز أن يقع به الطلاق لأنه استيفاءٌ
للحكم المنسوخ، ولما كان عليه أهلُ الجاهلية.
قال الشافعى: كانت الفِرَقُ الجاهلية تَحلِفُ بثلاثة أشياء: بالطَّلاق، والظِّهار، والإيلاء، فنقل الله سبحانه وتعالى الإيلاء والظِّهار عما كانا عليه فى الجاهلية من إيقاع الفرقة على الزوجة إلى ما استقَّر عليه حكمُهما فى الشرع، وبقى حكمُ الطلاق على ما كان عليه، هذا لفظه.
قالوا: ولأن الطلاقَ إنما يقع بالصريح والكناية، وليس الإيلاء واحداً منهما، إذ لو كان صريحاً، لوقع معجَّلاً إن أطلقه، أو إلى أجل مسمَّى إن قيَّده، ولو كان كنايةٍ، لرجع فيه إلى نيته، ولا يَرِدُ على هذا اللعان، فإنه يُوجب الفسخَ دونَ الطلاق، والفسخُ يقع بغير قول، والطلاقُ لا يقع إلا بالقول.
قالوا: وأما قراءةُ ابن مسعود، فغايتُها أن تدُلَّ على جواز الفيئة فى مدة التربُّص، لا على استحقاقِ المطالبة بها فى المدة، وهذا حقٌّ لا ننكِرُه.
وأما قولُكم: جوازُ الفيئة فى المدة دليلٌ على استحقاقها فيها، فهو باطل بالدَّيْنِ المؤجَّلِ.
وأما قولُكم: إنه لو كانت الفيئة بعد المدة، لزادت على أربعة أشهر، فليس بصحيح، لأن الأربعة أشهر مدة لزمن الصبرِ الذي لا يستحِقُّ فيه المطالبة، فبمجرد انقضائها يستحِقُّ عليه الحقُّ، فلها أن تعجِّل المطالبة به. وإمَّا أن تُنْظِرَه، وهذا كسائِرِ الحقوق المعلَّقة بآجال معدودة، إنما تُستحق عند انقضاء آجالها، ولا يُقال: إن ذلك يستلزِمُ الزيادةَ على الأجل، فكذا أجلُ الإيلاء سواء.
فصل
ودلت الآية على أن كلَّ مَنْ صحَّ منه الإيلاء بأىِّ يمين حلف، فهو مؤلٍ حتى يَبَرَّ، إما أن يفىءَ، وإما أن يُطلِّقَ، فكان فى هذا حجةٌ لما ذهب إليه مَن يقول مِن السلف والخلفِ: إن المؤلى باليمين بالطلاق، إما أن يفىء، وإما أن يطلِّقَ.
ومن يُلزمه الطلاق على كل حال لم يُمكنه إدخال هذه اليمين فى حكم الإيلاء، فإنه إذا قال: إن وطئتك إلى سنة، فأنت طالق ثلاثاً، فإذا مضت أربعةُ أشهر لا يقولون له: إما أن تطأ، وإما أن تُطلِّقَ، بل يقولون له: إن وطئتها طلقت، وإن لم تطأها، طلقنا عليك، وأكثرُهم لا يُمكنه من الإيلاج لوقوع النزع الذى هو جزء الوطء فى أجنبية، ولا جواب عن هذا إلا أن يقال: بأنه غير مؤل، وحينئذ فيقال: فلا تُوقفوه بعد مضى الأربعة الاشهر، وقولوا: إن له أن يمتنع مِن وطئها بيمينِ الطلاق دائماً، فإن ضربتم له الأجل، أثبتم له حكم الإيلاء مِن غير يمين، وإن جعلتموه مؤلياً ولم تجيزوه، خالفتم حكم الإيلاء، وموجب النص، فهذا بعضُ حجج هؤلاء على منازعيهم.
فإن قيل: فما حكمُ هذه المسألة، وهى إذا قال: إن وطئتُك، فأنتِ طالق ثلاثاً.
قيل: اختلف الفقهاءُ فيها، هل يكون مؤلياً أم لا؟ على قولين، وهما روايتان عن أحمد، وقولان للشافعى فى الجديد: بأنه يكون مؤلياً، وهو مذهب أبى حنيفة، ومالك. وعلى القولين: فهل يُمكَّنُ مِن الإيلاجِ؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد والشافعى.
أحدهما: أنه لا يُمكن منه، بل يحرمُ عليه، لأنها بالإيلاج تطلق
عندهم ثلاثاً، فيصيرُ ما بعد الإيلاج محرماً، فيكون الإيلاج محرماً، وهذا كالصائم إذا تيقن أنه لم يبق إلى طلوع الفجر إلا قدر إيلاج الذكر دون إخراجه، حَرُمَ عليه الإيلاجُ، وإن كان فى زمن الإباحة، لوجود الإخراج فى زمن الحظر، كذلك ها هنا يحرُم عليه الإيلاجُ، وإن كان قبل الطلاق لوجود الإخراج بعده.
والثانى: أنه لا يحرم عليه الإيلاج، قال الماوردى: وهو قولُ سائر أصحابنا، لأنها زوجته، ولا يحرم عليه الإخراج، لأنه ترك. وإن طلقت بالإيلاج، ويكون المحرمُ بهذا الوطء استدامة الإيلاج لا الابتداء والنزع، وهذا ظاهر نص الشافعى، فإنه قال: لو طلع الفجرُ على الصائم وهو مجامع وأخرجه مكانَه كان على صومه، فإن مكث بغير إخراجه، أفطر، ويكفِّرُ. وقال فى كتاب الإيلاء: ولو قال: إن وطئتُك، فأنتِ طالق ثلاثاً، وقف، فإن فاء، فإذا غيَّب الحشفة، طلقت منه ثلاثاً، فإن أخرجه ثم أدخله، فعليه مهرُ مثلها. قال هؤلاء: ويدل على الجواز أن رجلاً لو قال لرجل: ادخل دارى، ولا تقم، استباح الدخول لوجوده عن إذن، ووجب عليه الخروجُ لمنعه من المقام، ويكون الخروجُ وإن كان فى زمن الحظر مباحاً، لأنه تركٌ، كذلك هذا المؤلى يستبيحُ أن يولج، ويستبيحُ أن ينزع، ويحرم عليه استدامةُ الإيلاج، والخلاف فى الإيلاج قبل الفجر والنزع بعده للصائم، كالخلاف فى المؤلى، وقيل: يحرم على الصائم الإيلاج قبل الفجر، ولا يحرم على المؤلى، والفرق أن التحريم قد يطرأ على الصائم بغير الإيلاج، فجاز أن يحرُمَ عليه الإيلاج، والمؤلى لا يطرأ عليه التحريم بغير الإيلاج، فافترقا.
وقالت طائفة ثالثة: لا يحرُمٌُ عليه الوطءُ، ولا تطلُق عليه الزوجةُ،
بل يُوقف، ويقال له: ما أمر الله إما أن تفىء، وإما أن تُطلق. قالوا: وكيف يكون مؤلياً ولا يُمكن من الفيئة، بل يلزم بالطلاق، وإن مكن منها، وقع به الطلاق، فالطلاق واقع به على التقديرين مع كونه مؤلياً؟ فهذا خلافُ ظاهرِ القرآن، بل يقال لهذا: إن فاء لم يقع به الطلاقُ، وإن لم يفىء، أُلزِمَ بالطلاق،. وهذا مذهبُ من يرى اليمينَ بالطلاق لا يُوجب طلاقاً، وإنما يُجزئه بكفارة يمين، وهو قولُ أهل الظاهر، وطاووس، وعكرمة، وجماعة من أهل الحديث؟ واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه.
فصل حُكم رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى اللعان
...
حُكم رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى اللعان
قال تعالى :{والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ولَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ باللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ والخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبينَ ويَدْرَؤُاْ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبِينَ وَالخَامِسةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6-9].
وثبت فى "الصحيحين": من حديث سهل بن سعد، أن عُوَيْمِراً العجلانىَّ قال لِعَاصم بن عدى: أَرأَيتَ لو أن رجلاً وَجَدَ مَعَ امرأتِهِ رجلاً أَيقتُلُه فتقتُلُونه، أم كيف يفعلُ؟ فسل لى رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكره رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَسَائِلَ وعَابَها، حتى كَبْرَ على عاصمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم إن عويمراً سأل رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، فقال: "قَدْ نَزَلَ فيكَ وفى صاحِبَتِكَ، فاذْهَبْ، فَأْتِ بِهَا، فَتَلاَعَنَا
عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا فَرَغَا قال: كذبتُ عَلَيْهَا يا رسولَ اللهِ إن أمسكتُها، فطلَّقها ثلاثاً قَبْلَ أَن يأمُرَهُ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الزهرىُّ: فكانت تِلْكَ سنةَ بالمتلاعِنْينِ. قال سهل: وكانت حَامِلاً، وكان ابنُهَا يُنْسَبُ إلى أمه، ثم جرت السُّنةُ أَن يَرِثَها وتَرِثَ مِنْهُ ما فَرَضَ اللهُ لها.
وفى لفظ: فتلاعنا فى المسجد، ففارقها عندَ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذاكُم التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلاعِنَيْن".
وقولُ سهل: وكانت حاملاً إلى آخره، هو عند البخارى مِن قول الزهرى، وللبخارى: ثم قالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انْظُرُوا فَإنْ جَاءتْ بِه أَسْحَمَ أَدْعَجَ العَيْنَيْنِ عَظيمَ الألْيَتَيْن، خَدَلَّج السَّاقَيْنِ فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِراً إلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا، وإِنْ جَاءتْ بهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وحْرَةٌ فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِراً إلاَّ قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا"، فجاءت به على النَّعْتِ الذى نعتَ به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تصديق عويمر.
وفى لفظ: وكانت حَامِلاً، فأنكر حملَها.
وفى صحيح مسلم: من حديث ابن عمر، أن فلانَ بنَ فلان، قال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ لو وجد أحدُنا امرأتَه على فاحِشةٍ، كيف يصنعُ، إن تكلم، تكلَّم بأمر عظيم، وإن سكت، سَكَتَ على مِثْل ذلِكَ؟ فسكت النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فلم يُجِبْهُ، فلما كان بعدَ ذلك، أتاه فقال: " إنَّ الَّذِى سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابتُلِيتُ بِهِ "، فأنزلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ هؤلاءِ الآيات فى سُورَةِ النُّورِ :{والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ} [النور: 6]، ف تلاهن عليه ووعظَه، وذكَّره وأخبره أن عذابَ الدنيا أهونُ مِن عذابِ الآخرة، قال: لا والَّذِى بَعَثَك بِالحَقِّ ما كذبتُ عليها، ثم دعاها فوعظَهَا، وذكرها، وأخبرها أن عذابَ الدنيا أهونُ مِن عذابِ الآخرة، قالَت: لا والَّذِى بَعَثَكَ بالحَقِّ إنه لكاذِبٌ، فبدأ بالرَّجُلِ فَشَهدَ أربعَ شهادَاتٍ باللهِ إنه لمن الصادقين، والخامسة أنَّ لعنةَ اللهِ عليه إن كان مِن الكَاذِبِينَ، ثم ثنَّى بالمرأةِ، فشَهِدَتْ أربعَ شهادَاتٍ باللهِ إنَّه لمن الكاذبينَ، والخا مسة أنَّ غَضَبَ اللهِ عليها إن كان من الصَّادِقينَ، ثم فرَّق بينهُمَا.
وفى "الصحيحين" عنه، قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمتُلاعنين: "حِسَابُكُما عَلى اللهِ أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا"، قال: يا رسولَ اللهِ، مالى؟ قال: لاَ مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِن فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا".
وفى لفظ لهما: فرَّق رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ المُتَلاعِنَيْنِ، وقال: واللهِ إِن أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تائِبٌ"؟.
وفيهما عنه: أن رجلاً لاعَنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففرَّقَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، وألحق الولد بأمِّه.
وفى صحيح مسلم: من حديث ابن مسعود رضى الله عنه فى قِصةِ
المتلاعنين، فشهد الرجلُ أربعَ شهادات بالله إنَّهُ لَمِنَ الصادقين، ثم لعن الخامسةَ أنَّ لعنةَ اللهِ عليه إن كانَ مِنَ الكَاذِبينَ، فذهبتْ لتلعنَ، فقال لها رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَهْ" فَأَبَتْ، فَلَعَنَتْ، فلما أدبرا، قال: لَعَلَّهَا أَنْ تَجِىءَ بهِ أَسْوَدَ جَعْدَاً"، فجاءتْ بهِ أسْوَدَ جَعْداً.
وفى "صحيح مسلم" من حديث أنس بن مالك، أن هِلالَ بن أمية قذف امرأته بِشَرِيك بْنِ سَحْمَاء، وكان أخا البرَاءِ بنِ مالك لأمِّه، وكان أوَّلَ رجلٍ لاعن فى الإسلام، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْصِرُوهَا فإنْ جَاءتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبطاً قضىءَ العَيْنَيْنِ، فَهُوَ لهلال بْن أُمَيَّة، وَإنْ جَاءتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْداً حَمْشَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ ابن سَحْمَاء، قال: فأُنبئتُ أَنها جاءت به أكحلَ جعداً حَمْش السَّاقين.
وفى "الصحيحين": من حديث ابن عباس نحوُ هذه القصة، فقال له، رجل: أهى المرأةُ التى قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ رَجَمْتُ أَحَداً بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هذِهِ" ، فقال ابنُ عباس: لا، تِلْكَ امرأَة كانت تُظْهِرُ فى الإسْلامِ السُّوءَ.
ولأبى داود فى هذا الحديث عن ابن عباس: ففرَّق رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُما وقضى أن لا يُدعى ولدُها لأب، ولا تُرمى، ولا يُرمى ولدُها ومَنْ رماها، أو رمى ولدها، فعليه الحدُّ، وقضَى ألاَّ بَيْتَ لها عليه، ولا قوت من أجل أنهما يتفرَّقان مِن غير طلاق، ولا متوفى عنها.
وفى القصة قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميراً على مصر وما يُدعى لأب.
وذكر البخارى: أن هلالَ بن أمية قذف امرأتهُ عند رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشريكِ بن سَحْمَاء، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "البَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فى ظَهْرِكَ"، فقال: يا رسولَ اللهِ: إذا رأى أحدُنا على امرأتِه رجلاً ينطلِقُ يلتمِسُ البينة؟ فجعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "البَيِّنَةُ وإلاَّ حَدٌّ فى ظَهْرِكَ "، فقال: والذى بعثك بالحق إنى لصَادِق، وليُنْزِلَنَّ اللهُ ما يُبرِّىءُ ظَهْرِى مِن الحَدِّ، فنزلَ جبريلُ عليه السلام، وأنزل عليه :{ والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُم الآية} [النور: 6]، فانصرفَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليها، فجاء هِلال، فشهِدَ والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إنَّ اللهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائبٌ"؟ فَشَهِدَت، فلما كانت عند الخامِسة وقَّفُوهَا، وقالوا: إنها مُوجِبَة، قال ابنُ عباس رضى الله عنهما: فتلكَّأَت ونَكَصَتْ حتَّى ظَننَّا أنها تَرْجعُ، ثم قالت: لا أَفْضحُ قَوْمِى سَائِرَ اليومِ، فَمَضَتْ، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "أَبْصِرُوهَا فَإنْ جَاءتْ بِهِ أَكْحَلَ العَيْنَيْنِ، سَابغَ الأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّج السَّاقَيْن، فَهُوَ لَشَرِيكِ بن سَحْمَاء، فجاءت به كذلكَ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ الله كَانَ لى وَلَهَا شَأْنٌ".
وفى "الصحيحين": أن سعدَ بنَ عُبادة، قال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ الرَّجُلَ يَجِدُ مع امرأتِهِ رجلاً أيقتلُه؟ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا"،
فقال سَعْدٌ: بلَى والَّذِى بعثك بالحقِّ، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْمَعُوا إلى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُم": وفى لفظٍ آخَرَ: يا رسولَ اللهِ، إن وجدتُ مع امرأتى رجلاً أُمْهِلُه حتى آتىَ بأربعة شهداء؟ قال: "نعم". وفى لفظ آخر: لو وجَدْتُ مع أَهْلى رجلاً لم أهجْهُ حَتَّى آتىَ بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نعم"، قال: كلاَّ والَّذِى بَعَثَكَ بالحَقِّ نَبياًّ إِنْ كُنْتُ لأُعاجلُهُ بالسَّيْفِ قَبْلِ ذلِكَ، قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْمَعوا إلى ما يقُولُ سَيِّدُكُم إِنَّه لَغَيُورٌ وأَنَا أغْيَرُ مِنْهُ، واللهُ أَغْيَرُ مِنِّى".
وفى لَفْظٍ: " لو رأيتُ مَعَ امرأتى رجلاً لضربتُه بالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، فَوَاللهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، واللهُ أَغْيَرُ مِنِّى، ومِنْ أَجْلِ ذلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ، ولا شَخْصَ أَغٌيَرُ مِنَ الله، ولا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ بَعَثَ اللهُ المُرْسَلِينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذَرِينَ، ولا شخص أحَبُّ إلَيْهِ المِدْحَةُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ وَعَدَ اللهُ الجَنَّةَ".
فصل
[المستفاد من حديث سعد بن عبادة]
واستُفيدَ من هذا الحكم النبوىِّ عدَةُ أحكام.
الحكم الأول: أن اللعانَ يَصِحُّ من كل زوجين سواءً كانا مسلمين أو كافريْنِ، عدلين فاسقْينِ محدودين فى قذف، أو غير محدودين، أو أحدهما كذلك، قال الإمام أحمد فى رواية إسحاق بن منصور: جميعُ
الأزواج يلتعِنُونَ، الحُر من الحرة والأمة إذا كانت زوجة، والعبد من الحرة والأمة إذا كانت زوجة، والمسلم من اليهودية والنصرانية، وهذا قول مالك وإسحاق وقولُ سعيد بن المسيب، والحسن، وربيعة، وسليمان بن يسار.
وذهب أهلُ الرأى، والأوزاعى، والثورى، وجماعة إلى أن اللِّعان لا يكون إلا بينَ زوجينِ مسلمين عدلين حرين غير محدودين فى قذف، وهو روايةٌ عن أحمد.
ومأخذ القولين: أن اللعان يجمع وصفين، اليمينَ والشهادةَ، وقد سماه الله سبحانه شهادةً، وسماه رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يميناً حيث يقول: "لَوْلاَ الأيمَانُ، لَكَانَ لى وَلَهَا شَأْنٌ" ، فمن غلَّب عليه حُكم الأيمان قال: يَصِحُّ مِن كل من يصح يمينه: قالوا: ولعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ} [النور: 6] قالوا: وقد سمَّاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يميناً. قالوا: ولأنه مفتقِر إلى اسم الله، وإلى ذكر القسم المؤكد وجوابه. قالوا: ولأنه يستوى فيه الذكرُ والأنثى، بخلاف الشهادة. قالوا: ولو كان شهادة، لما تكرَّر لفظُه، بخلاف اليمين، فإنه قد يشرع فيها التكرار، كأيمان القسامة. قالوا: ولأن حاجة الزوج التى لا تَصِحُّ منه الشهادة إلى اللعان ونفى الولد، كحاجة من تصِحُّ شهادته سواء، والأمر الذى ينزل به مما يدعو إلى اللعان، كالذى ينزلُ بالعدل الحر، والشريعة لا ترفع ضررَ أحدِ النوعين، وتجعلُ له فرجاً ومخرجاً مما نزل به، وتدعُ النوع الآخر فى الآصار والأغلال، لا فرج له مما نزل به، ولا مخزج، بل يستغيثُ فلا يُغاث، ويستجيرُ فلا يُجار، إن تكلَّمَ تكلَّم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثله، قد ضاقت عنه الرحمةُ التى وسعت من تَصِحُّ شهادته، وهذا تأباه الشريعةُ الواسعة الحنيفية السمحةُ.
قال الآخرون: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُم فَشَهَادَةُ أَحَدِهمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ} [النور: 6]، وفى الآية دليل من ثلاثة أوجه.
أحدها: أنه سبحانه استثنى أنفسَهم مِن الشهادة، وهذا استثناءُ متَّصِلٌ قطعاً، ولهذا جاء مرفوعاً.
والثانى: أنه صرح بأن التعانَهم شهادة، ثم زاد سبحانه هذا بياناً، فقال: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبينَ} [النور: 8].
والثالث: أنه جعله بدلاً من الشهود، وقائماً مقامَهم عند عدمهم.
قالوا: وقد روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ لِعَانَ بَيْنَ مَمْلُوكَيْنِ وَلاَ كَافِرَيْنِ"، ذكره أبو عمر بن عبد البر فى "التمهيد".
وذكر الدارقطنى من حديثه أيضاً، عن أبيه، عن جده مرفوعاً: "أَرْبَعَةٌ لَيْسَ بَيْنَهُمْ لِعَانٌ: لَيْسَ بَيْنَ الحُرِّ والأمةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الحُرَّةِ والعَبْدِ لِعَانٌ، ولَيْسَ بَيْنَ المُسْلِم وَاليَهُودِيَّةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ المُسْلِمِ والنَّصْرَانِيَّةِ لِعَانٌ".
وذكر عبد الرزاق فى "مصنفه"، عن ابن شهاب، قال: من وصية النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعتَّاب بن أَسِيد: أن لا لِعان بين أربع، فذكر معناه.
قالوا: ولأن اللَّعانَ جُعِلَ بدلَ الشهادة، وقائماً مقامَها عند عدمها، فَلا يَصِحُّ إلا ممن تصح منه، ولهذا تُحدُّ المرأة بِلعان الزَّوج، ونُكولها تنزيلاً لللِعانه منزلةَ أربعةِ شهود.
قالُوا: وأما الحديثُ: "لولا مَا مَضَى مِنَ الأيْمَانِ، لَكَانَ لى وَلَهَا شَأْنٌ"، فالمحفوظ فيه: لولا ما مضى من كتاب الله، هذا لفظ البخارى فى "صحيحه". وأما قوله: لَوْلاَ مَا مَضَى مِنَ الأَيْمَانِ، فمن رواية عباد ابن منصور، وقد تكلم فيه غير واحد. قال يحيى بن معين: ليس بشىء. وقال على بن الحسين بن الجنيد الرازى: متروك قدرى. وقال النسائي: ضعيف.
وقد استقرت قاعدة الشريعة أن البينةَ على المدَّعي، واليمينَ على المدَّعَى عليه، والزوج ها هنا مُدَّعٍ، فلِعانُه شهادة، ولو كان يميناً لم تُشرع فى جانبه.قال الأولون: أما تسميتُه شهادةً، فلِقول الملتعِنِ فى يمينه: أشهد بالله، فسمى بذلك شهادة، وإن كان يميناً اعتباراً بلفظها. قالوا: وكيف وهو مصرَّح فيه بالقسم وجوابه، وكذلك لو قال: أشهد باللهِ، انعقدت يمينُه فبذلك، سواء نوى اليمينَ أو أطلق، والعربُ تَعُدُّ ذلك يميناً فى لغتها واستعمالها. قال قيس:
فَأَشْهَدُ عِنْدَ اللهِ أَنِّى أُحِبُّهَا ... فَهذَا لَهَا عِنْدِى فَمَا عِنْدَهَا لِيَا
وفى هذا حجة لمن قال: إن قوله: "أشهد" تنعقِد به اليمين، ولو لم يقُلْ: باللهِ، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد. والثانية، لا يكون يميناً
إلا بالنيةِ، وهو قولُ الأكثرين. كما أن قوله: أشهد بالله يمين عند الأكثرين بمطلقة.
قالوا: وأما استثناؤُه سبحانه أنفسَهم مِن الشهداء، فيقال أولاً: "إلا" ها هنا: صفة بمعنى غير، والمعنى: ولم يكن لهم شهداء غيرُ أنفسهم، فإن "غيراً"، و"وإلاَّ" يتعارضان الوصفية والاستثناء، فيُستثنى ب "غير" حملاً على "إلاَّ"، ويُوصف ب "إلاَّ" حملاً على "غير".
ويقال ثانياً: إن "أنفسهم" مستثنى من الشهداء، ولكن يجوز أن يكون منقطعاً على لغة بنى تميم، فإنهم يُبذلون فى الانقطاع، كما يُبْدِل أهلُ الحجاز وهم فى الاتصال.
ويقال ثالثاً: إنما استثنى "أنفسهم" من الشهداء لأنه نزَّلهم منزلتهم فى قبول قولهم، وهذا قوى جداً على قول من يرجم المرأة بالتعان الزوج إذا نكلت وهو الصحيح، كما يأتى تقريره إن شاء الله تعالى. والصحيح: أن لعانهم يجمع الوصفين، اليمين والشهادة، فهو شهادة مؤكَّدة بالقسم والتكرار، ويمين مغلَّظة بلفظ الشهادة والتكرار لاقتضاء الحال تأكيد الأمر.
ولهذا اعتبر فيه من التأكيد عشرة أنواع.
أحدها: ذكر لفظ الشهادة.
الثانى: ذكر القسم بأحد أسماءِ الربّ سبحانه وأجمعها لمعانى أسمائه الحسنى، وهو اسم الله جَلَّ ذِكرُه.
الثالث: تأكيدُ الجواب بِما يُؤكِّد به المقسم عليه، من "إن، واللام"، وإتيانه باسم الفاعل الذي هو صادق وكاذب دون الفعل الذى هو صدق وكذب.
الرابع: تكرارُ ذلك أربع مرات.
الخامس: دعاؤه على نفسه فى الخامسة بلعنة الله إن كان من الكاذبين.
السادس: إخبارُه عند الخامسة أنها الموجِبةُ لعذاب الله وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة
السابع: جعل لعانه مقتضى لحصول العذاب عليها، وهو إما الحدُّ أو الحبسُ، وجعل لعانها دارئاً للعذاب عنها.
الثامن: أن هذا اللعان يُوجب العذاب على أحدهما إما فى الدنيا، وإما فى الآخرة.
التاسع: التفريقُ بين المتلاعنين، وخرابُ بيتها، وكسرها بالفراق.
العاشرُ: تأبيد تلك الفرقة ودوام التحريم بينهما، فلما كان شأنُ هذا اللعانِ هذا الشأن، جُعِلَ يميناً مقروناً بالشهادة، وشهادة مقرونة باليمين، وجعل الملتعن لقبول قوله كالشاهد، فإن نكلت المرأةُ، مضت شهادته وحُدِّتْ، وأفادت شهادتُه ويمينهُ شيئين: سقوط الحد عنه، ووجوبه عليها. وإن التعنت المرأة وعارضت لعانه بلعان آخر منها، أفاد لعانُه سقوطَ الحد عنه دون وجبه عليها، فكان شهادة ويميناً بالنسبة إليه دونها، لأنه إن كان يميناً محضة فهى لا تحدُّ بمجرد حلفه، وإن كان شهادة فلا تحدُّ بمجرد شهادته عليها وحده. فإذا انضم إلى ذلك نكولُها، قوىَ جانبُ الشهادة واليمين فى حقِّه بتأكُّدهِ ونكولها، فكان دليلاً ظاهراً على صدقة، فأسقط الحد عنه، وأوجبه عليها، وهذا أحسنُ ما يكون من الحكم، ومن أَحْسنُ من اللهِ حكماً لِقوم يُوقِنُونَ، وقد ظهر بهذا أنه يمين فيها معنى الشهادة، وشهادةٌ فيها معنى اليمين.
وأما حديثُ عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده، فما أبينَ دلالته لو كان صحيحاً بوصوله إلى عمرو، ولكن فى طريقه إلى عمرو مَهالكُ
ومفاوز. قال أبو عمر بن عبد البر: ليس دون عمرو بن شعيب من يحتج به.
وأما حديثُه الآخر الذي رواه الدارقطنى، فعلى طريق الحديث عثمان بن عبد الرحمن الوقاصى، وهو متروك بإجماعهم، فالطريق به مقطوعة.
وأما حديثُ عبد الرزاق، فمراسيلُ الزهرىِّ عندهم ضعيفة لا يُحْتَجُّ بها، وعَتَّابُ بنُ أسيد كان عاملاً للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مكة، ولم يكن بمكة يهودىٌ ولا نصرانى البتة حتى يُوصِيُه أن لا يلاعِنَ بينهما.
قالوا: وأما ردُّكم لقوله: "لولا ما مضى من الأيمان، لكَانَ لى ولها شأن"، وهو حديث رواه أبو داود فى سننه، وإسناده لا بأس به، وأما تعلُّقكم فيه على عبَّاد بن منصور، فأكثر ما عيب عليه أنه قدرىٌّ داعية إلى القدر، وهذا لا يوجب ردَّ حديثهِ، ففى الصحيح: الاحتجاجُ بجماعة مِنَ القدرِيَّة والمرجئة والشيعة ممن عُلِمَ صِدْقُه، ولا تنافى بينَ قوله: "لولا ما مَضَى مِن كتاب الله تعالى"، "ولولا ما مضى من الأيمان"، فيحتاج إلى ترجيح أحدِ اللفظين، وتقديمه على الآخر، بل الأيمان المذكورة هى فى كتابِ الله، وكتابُ الله تعالى حكمُه الذى حكم به بين المتلاعنين، وأراد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لولا ما مضى مِن حكم اللهِ الذى فصلَ بين المتلاعنَين، لكان لها شأن آخر
قالوا: وأما قولُكم: إن قاعدةَ الشريعةِ استقرَّت على أن الشهادةَ فى جانب المدَّعى، واليمين فى جانب المدَّعَى عليه، فجوابه مِن وجوه، أحدها: أن الشريعةَ لم تستقِرَّ على هذا، بل قد استقرت فى القَسامة بأن يبدأ بأيمان المدَّعينَ، وهذ لقوة جانبهم باللَّوْثِ، وقاعدةُ الشريعة أن اليمين تكون من جنبة أقوى المتداعيين، فلما كان جانبُ المدَّعى عليه قوياً بالبراءة الأصلية، شرعت اليمينُ فى جانبه، فلما قوى جانبُ المدعى فى القسامة باللوث كانت اليمينُ فى جانبه، وكذلك على الصحيح لما قوي جانبه بالنكول صارت اليمين في جانبه فيقال له: احلف واستحق، وهذا مِن كمال حكمة الشارع واقتضائه للمصالح بحسب الإمكان، ولو شرعت اليمينُ مِن جانب واحد دائماً، لذهبت قوةُ الجانب الراجح هدراً، وحكمة الشارع تأبى ذلك، فالذى جاء به هو غايةُ الحكمة والمصلحة.
وإذا عُرِفَ هذا، فجانب الزوج ها هنا أقوى من جانبها، فإن المرأة تُنْكِرُ زناها، وتبهتُه، والزوجُ ليس له غرضٌ فى هتك حرمته، وإفساد فراشه، ونسبة أهله إلى الفجور، بل ذلك أشوشُ عليه، وأكره شىء إليه، فكان هذا لوثاً ظاهراً، فإذا انضاف إليه نكولُ المرأة قوى الأمرُ جداً فى قلوبِ الناسِ خاصِّهم وعامِّهم، فاستقلَّ ذلك بثبوت حكم الزنى عليها شرعاً، فحدَّتْ بلعانه، ولكن لما تكن أيمانُه بمنزلة الشهداء الأربعة حقيقةً، كان لها أن تُعارِضَها بأيمان أخرى مثلِها يدرأ عنها بها العذابَ عذابَ الحدِّ المذكور فى قوله تعالى :{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، ولو كان لِعانُه بينةً حقيقةً، لما دفعت أيمانها عنها شيئاً.
وهذا يتَّضِحُ بالفصل الثانى المستفاد من قضاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أن المرأةَ إذا لم تلتعِنْ، فهل تُحَدُّ أو تُحبَسُ حتى تُقِرَّ، أو تُلاعن؟ فيه قولان للفقهاء. فقال الشافعى، وجماعة من السلف والخلف: تُحَدُّ، وهو قولُ
أهلِ الحجاز. وقال أحمد: تُحبسُ حتى تُقِرَّ أو تُلاعِنَ، وهو قولُ أهل العِراق. وعنه رواية ثانية: لا تحبَسُ ويُخلَّى سبيلُها.
قال أهل العراق ومَنْ وافقهم: لو كان لِعانُ الرجل بينةً تُوجِبُ الحدَّ عليها، لم تملك إسقاطَه باللعانِ، وتكذيب البينة، كما لو شهد عليها أربعة.
قالوا: ولأنه لو شهد عليها مع ثلاثة غيرِه، لم تحد بهذه الشهادة، فلأن لا تُحدَّ بشهادته وحده أولى وأحرى. قالُوا: ولأنه أحدُ المتلاعنين، فلا يُوجِبُ حدَّ الآخر، كما لم يُوجب لِعانُها حدَّه.
قالوا: وقد قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "البَيِّنَةُ عَلى المُدَّعى". ولا ريب أن الزوج ها هنا مدَّع.
قالوا: ولأن موجبَ لِعانه إسقاط الحد عن نفسه لا إيجابَ الحد عليها، ولهذا قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "البَيِّنَةُ وإلا حَدٌّ فى ظَهْرِكَ"، فإن موجِبَ قذفِ الزوج، كموجِب قذفِ الأجنبى وهو الحدُّ، فجعل الله سبحانه له طريقاً إلى التخلص منه باللعان، وجعل طريق إقامة الحد على المرأة أحدَ أمرين: إما أربعة شهود، أو اعتراف، أو الحَبَلُ عند من يَحُدُّ به مِن الصحابة، كعمر بن الخطاب ومن وافقه، وقد قال عمر بن الخطاب على منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والرجمُ واجِبٌ على كفِّ من زَنَى مِن الرجال والنساء إذا كان محصَناً إذا قامَت بينةٌ، أو كان الحَبَلُ، أو الاعترافُ، وكذلك قال علىٌّ رضى الله عنه، فجعلا طريق الحدِّ ثلاثة لم يجعلا فيها اللعان.
قالوا: وأيضاً فهذه لم يتحقق زناها، فلا يجبُ عليها الحد، لأن تحقق زناها إما أن يكونُ بِلعان الزوج وحدَه، لأنه لو تحقق به، لم يسقُطْ بِلعانها الحدُّ، ولما وجب بعد ذلك حد على قاذفها، ولا يجوزُ أن يتحقق بنكُولها أيضاً، لأن الحدَّ لا يثبُت بالنكول، فإن الحدَّ يُدرأ بالشُّبهاتِ، فكيف يجب بالنكولِ، فإن النكولَ، يحتمل أن يكون لِشدة خَفَرِهَا، أو لعُقْلَةِ لِسانها، أو لِدهشها فى ذلك المقام الفاضح المخزى، أو لغير ذلك من الأسباب، فكيف يثبتُ الحدُّ الذى اعُبِرَ فى بينته من العدد ضعف ما اعتبر فى سائر الحدود، وفى إقراره أربع مرات بالسنة الصحيحة الصريحة، واعتُبِرَ فى كل من الإقرار والبينة أن يتضمَّن وصفَ الفعل والتصريح به مبالغة فى الستر، ودفعاً لإثبات الحدِّ بأبلغ الطرق وآكِدها، وتوسلاً إلى إسقاط الحدِّ بأدنى شُبهة، فكيف يجوزُ أن يقضى فيه بالنكولِ الذي هو فى نفسه شبهة لا يُقضي به فى شىء من الحدود والعقوبات البتة ولا فيما عد الأموال؟
قالوا: والشافعى رحمه الله تعالى لا يرى القضاء بالنكول فى درهم فما دونَه، ولا فى أدنى تعزير، فكيف يُقضَى به فى أعظم الأمور وأبعدِها ثبوتاً، وأسرعها سقوطاً، ولأنها لو أقرَّت بلسانها، ثم رجعت، لم يجب عليها الحدّ، فلأن لا يجب بمجرد امتناعها مِن اليمين على براءتها أولي، وإذا ظهر أنه لا تأثير لواحد منهما فى تحقق زناها، لم يجز أن يُقال بتحققه بهما لوجهين.
أحدهما: أن ما فى كل واحد منهما من الشبهة لا يزول بضم أحدهما إلى الآخر، كشهادة مائة فاسق، فإن احتمالَ نكولها لفرط حيائها، وهيبة ذلك المقام، والجمع، وشدة الخَفَرِ، وعجزها عن النطق، وعُقلة لسانها
لا يزولُ بلعان الزوج ولا بنكولها.
الثانى: أن ما لا يقضى فيه باليمين المفردة لا يقضى فيه باليمين مع النكول كسائر الحقوق.
قالوا: وأما قوله تعالى: {ويَدْرَؤاْ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8]، فالعذاب ها هنا يجوز أن يُراد به الحدُّ، وأن يُرادَ به الحبسُ والعقوبةُ المطلوبة، فلا يتعين إرادة الحدِّ به، فإنَّ الدال على المطلق لا يدلُّ على المقيد إلا بدليل من خارج، وأدنى درجاتِ ذلك الاحتمال، فلا يثبتُ الحدُّ مع قيامه، وقد يُرجَّحُ هذا بما تقدم مِن قول عمر وعلى رضى الله عنهما: إن الحدَّ إنما يكون بالبينة أو الاعتراف أو الحبل.
ثم اختلف هؤلاء فيما يصنع بها إذا لم تُلاعِنْ، فقال أحمد: إذا أبت المرأة أن تلتعِنَ بعدًَ التعان الرجل، أجبرتُها عليه، وهِبْتُ أن أحْكُمَ عليها بالرجم، لأنها لو أقرت بلسانها، لم أرجمها إذا رجعت، فكيف إذا أبتِ اللعان؟ وعنه رحمه الله تعالى رواية ثانية: يخلى سبيلُها، اختارها أبو بكر، لأنها لا يجبُ عليها الحد، فيجب تخلية سبيلها، كما لو لم تكمل البينة.
فصل
قال الموجبون للحدِّ: معلومٌ أن الله سبحانه وتعالى جعل التعانَ الزوج بدلاً عن الشهود، وقائماً مقامهم، بل جعل الأزواج الملتعنِينَ شهداءَ كما تقدَّم، وصرَّحَ بأن لِعانهم شهادةٌ، وأوضح ذلك بقوله: {ويَدْرَؤُاْ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ} [النور: 8]، وهذا يدلُّ على أن سببَ العذاب الدنيوى قد وُجِدَ، وأنه لا يدفعه عنها إلا لعانُها، والعذاب المدفوع عنها
بلعانها هو المَذكُور فى قوله تعالى: {ولْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، وهذا عذابُ الحدِّ قطعاً، فذكره مضافاً، ومعرَّفاً بلام العهد، فلا يجوزُ أن ينصرِفَ إلى عُقوبةٍ لم تُذكر فى اللفظ، ولا دلَّ عليها بوجهٍ مِن حبس أو غيره، فكيف يُخلَّى سبيلُها، ويدرأ عنها العذابُ بِغير لِعان، وهل هذا إلاَّ مخالفةٌ لِظاهر القرآن؟
قالُوا: وقد جعل اللهُ سبحانه لِعانَ الزوج دارئاً لحدِّ القذف عنه، وجعل لِعانَ الزوجة دارئاً لعذاب حدِّ الزِّنى عنها، فكما أن الزوج إذا لم يُلاعن يُحدُّ حَدَّ القذف، فكذلك الزوجةُ إذا لم تُلاعن يجب عليها الحدُّ.
قالُوا: وأما قولكم: إن لعانَ الزوج لو كان بيِّنة تُوجب الحدِّ عليها لم تملك هى إسقاطه باللعان، كشهادة الأجنبى.
فالجواب: أن حكم اللَّعان حُكمٌ مستقلٌ بنفسه غيرُ مردود إلى أحكام الدعاوى والبيِّنات، بل هو أصل قائم بنفسه شَرَعَه الذى شرع نظيرَه مِن الأحكام، وفصَّله الذى فصَّل الحلالَ والحرام، ولما كان لِعانُ الزوج بدلاً عن الشهود لا جَرَمَ نزل عن مرتبة البينة، فلم يستقِلَّ وحدَه بحكم البينة، وجعل للمرأة معارضته بلعان نظيره، وحينئذ فلا يظهر ترجيحُ أحد اللعانين على الآخر لنا، والله يعلم أن أحدهما كاذب، فلا وجه لحد المرأة بمجردِ لِعان الزوج، فإذا مُكنت من معارضته وإتيانها بما يُبرىء ساحتها، فلم تفعل، ونكلت عن ذلك، عَمِلَ المقتضى عمَله، وانضاف إليه قرينة قوَّته وأكَّدته، وهى نكولُ المرأة وإعراضُها عما يُخلِّصها مِن العذاب، وَيَدْرَؤُه عنها.
قالوا: وأما قولُكم: إنه لو شهد عليها مع ثلاثة غيره لم تُحَدَّ بهذه الشهادة، فكيف تُحدُّ بشهادته وحدَه؟ فجوابُه أنها لم تُحد بشهادة مجرَّدة، وإما حُدَّت بمجموع لِعانه خمسَ مرات، ونكولِها عن معارضته مع قدرتها
عليها، فقامَ من مجموع ذلك دليل فى غاية الظهور والقوة على صحة قوله، والظنُّ المستفاد منه أقوى بكثره من الظن المستفاد من شهادة الشهود.
وأما قولُكم: إنه أحد اللعانين، فلا يُوجب حد الآخر، كما لم يُوجب لِعانُها حدَّه، فجوابه أن لِعانها إنما شرع للدفع، لا للإيجاب، كما قال تعالى :{وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8]، فدلَّ النصُّ على أن لعانه مقتض لإيجاب الحد، ولعانها دافع ودارىء لا موجب، فقياسُ أحد اللعانينِ على الآخر جمع بين ما فرَّق الله سبحانه بينهما وهو باطل. قالُوا: وأما قولُ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِى"، فسمعاً وطاعةً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا ريبَ أن لِعان الزوجِ المذكورِ المكرر بينة، وقد انضم إليها نكولُها الجارى مجرى إقرارها عند قوم، ومجرى بينة المدعين عند آخرين، وهذا مِن أقوى البينات، ويدل عليه أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: "البينةُ وإلاَّ حَدٌّ فى ظهرك"، ولم يُبطل اللهُ سبحانه هذا، وإنما نقله عند عجزه عن بينة منفصلة تُسقط الحد عنه يعجز عن إقامتها، إلى بينة يتمكَّن مِن إقامته، ولما كانت دونها في الرتبة اعتبر لها مقو منفصل وهو نكول المرأة عن دفعها ومعارضتها مع قدرتها وتمكنها، قالوا: وأما قولُكم: إن موجب لعانه إسقاط الحد عن نفسه لا إيجابُ الحدِّ عليها إلى آخره، فإن أردتُم أن من موجبه إسقاطُ الحد عن نفسه فحق، وإن أردتُم أن سقوطَ الحدِّ عنه يسقط جميع موجبه، ولا موجب له سواه، فباطل قطعاً، فإن وقوع الفرقة، أو وجوب التفريق والتحريم المؤبَّد، أو المؤقت، ونفى الولد المصرح بنفيه، أو المكتفى فى نفيه باللعان، ووجوب العذاب على الزوجة إما عذاب الحد، أو عذاب الحبس، كُلٌّ ذلك من موجب اللعان، فلا يصح أنه يقال: إنما يوجب سقوط حد القذف عن الزوج فقط.
قالوا: وأما قولُكم: إن الصحابة جعلُوا حدَّ الزنى بأحد ثلاثة أشياء: إما البينة، أو الاعترافِ، أو الحَبَلِ، واللعانُ ليس منها، فجوابُه: أن منازعيكم يقولُون: إن كان إيجاب الحدِّ عليها باللعان خلافاً لأقوال هؤلاء الصحابة، فإن إسقاطَ الحدِّ بالحبل أدخلُ فى خلافهم وأظهر، فما الذى سوَّغ لكم إسقاطَ حدٍّ أوجبوه بالحبل، وصريح مخالفتهم، وحرَّم على منازعيكم مخالفتَهم فى إيجاب الحدِّ بغير هذه الثلاثة، مع أنهم أعذرُ منكم، لثلاثة أوجه.
أحدُها: أنهم لم يُخالفوا صريحَ قولهم، وإنما هو مخالفة لمفهومٍ سكتُوا عنه، فهو مخالفة لسكوتهم، وأنتم خالفتهم صريح أقوالهم.
الثانى: أن غاية ما خالفوه مفهومٌ قد خالفه صريحٌ عن جماعة منهم بإيجاب الحدِّ، فلم يُخالفوا ما أجمعَ عليه الصحابة، وأنتم خالفتُم منطوقاً، لا يُعْلَمُ لهم فيه مخالف البتة ها هنا، وهو إيجابُ الحدِّ بالحبل، فلا يُحفظ عن صحابى قطُّ مخالفة عمر وعلى رضى الله عنهما فى إيجاب الحد به.
الثالث: أنهم خالفوا هذا المفهومَ لمنطوق تلك الأدِلَّةِ التى تقدَّمت، ولمفهوم قوله :{ويَدْرَؤُاْ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8]، ولا ريْبَ أن هذا المفهومَ أقوى مِن مفهوم سقوط الحد بقولهم: إذا كانت البينةُ أو الحبلُ أو الاعترافُ، فهم تركوا مفهوماً لِما هو أقوى منه وأولى، هذا لو كانوا قد خالفوا الصحابة، فكيف وقولُهم موافق لأقوال الصحابة؟ فإنَّ اللعانَ مع نكولِ المرأة مِن أقوى البينات كما تقرر.
قالوا: وأما قولُكم: لَمْ يتحقق زِناها إلى آخره، فجوابُه إن أردتم بالتحقيق اليقينَ المقطوعَ به كالمحرمات، فهذا لا يُشترط فى إقامة الحد، ولو كان هذا شرطاً، لما أقيمَ الحدُّ بشهادةِ أربعة، إذ شهادتُهم لا تجعلُ الزِّنى محققاً
بهذا الاعتبار. وإن أردتُم بعدم التحقق أنه مشكوكٌ فيه على السواء، بحيث لا يترجّح ثبوته، فباطل قطعاً، وإلا لما وجب عليها العذابُ المدرَأُ بلعانها، ولا ريبَ أن التحقُّقَ المستفادَ مِن لعانه المؤكد المكرَّْر مع إعراضها عن معارضة ممكنة منه أقوى من التحقق بأربع شهود، ولعل لهم غرضاً فى قذفها وهتكِها وإفسادها على زوجها، والزوجُ لا غرض له فى ذلك منها.
وقولكم: إنه لو تحقق، فإما أن يتحقق بلعانِ الزوج، أو بنكولها، أو بهما، فجوابُه: أنه تحقَّق بهما، ولا يلزم مِن عدم استقلال أحدِ الأمرين بالحدِّ وضعفه عنه عدمُ استقلالهما معاً، إذا هذا شأنُ كُلِّ مفرد لم يستقِلَّ بالحكم بنفسه، ويستقل به مع غيرِهِ لقوته به.
وأما قولُكم: عجباً للشافعىِّ كيف لا يقضى بالنكول فى درهم، ويقضى به فى إقامة حدٍ بَالَغَ الشّرعُ فى ستره، واعتبر له أكملَ بيِّنة، فهذا موضع لا يُنتصر فيه للشافعى ولا لغيره من الأئمة، وليس لِهذا وُضعَ كِتَابُنَا هذا، ولا قصدنا به نُصرَةَ أحدٍ من العالمين، وإنما قصدنا به مجرَّد هدى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سيرته وأقضيته وأحكامه، وما تضمَّن سوى ذلك، فتبع مقصودٌ لغيره، فهب أن من لم يقض بالنكول تناقض، فماذ يَضُرُّ ذلك هدى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عنه عَارُهَا.
على أن الشَّافِعىَّ رَحمَه الله تعالى لم يتناقض، فإنه فرَّق بين نكولٍ مجرد لا قولة له، وبين نُكولٍ قد قارنَه التعان مؤكَّدٌ مكرَّرٌ أُقيم فى حق الزوج مقامَ البينة مع شهادة الحال بكراهة الزوج، لزنى امرأته، وفضيحتها، وخراب بيتها، وإقامة نفسه وحِبه فى ذلك المقام العظيم بمشهد المسلمين يدعو على نفسه باللعنة إن كان كاذباً بعد حلفه بالله جَهْدَ أيمانه أربعَ مرات إنه لمن الصادقين، والشافعى رحمه الله إنما حكم بنكول قد قارنه ما هذا شأنُه، فمن أين يلزمه أن يحكم بنكول مجرد؟
قالوا: وأما قولُكم: إنها أقرَّت بالزنى ثم رجعت، لسقط عنها الحدُّ، فكيف يجِبُ بمجرَّدِ امتناعِها من اليمين؟ فجوابه: ما تقرر آنفاً.
قالوا: وأما قولُكم: إنَّ العذاب المُدْرَأَ عنها بلعانها هو عذابُ الحبس أو غيره، فجوابُه: أن العذابَ المذكورَ، إما عذابُ الدنيا، أو عذابُ الآخرة، وحملُ الآية على عذاب الآخرة باطل قطعاً، فإن لِعانها لا يدرؤه إذا وجب عليها، وإنما هو عذابُ الدنيا وهو الحدُّ قطعاً فإنه عذابُ المحدود، وهو فِداء له من عذابِ الآخرة، ولهذا شرعه سبحانه طُهرةً وفدية من ذلك العذاب، كيف وقد صرَّح به فى أول السورة بقوله: {وَليَشْهَدْ عَذَابَهُما طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، ثم أعاده بعينه بقوله: {ويَدْرَؤُاْ عَنْهَا العَذَابَ} [النور: 8] ، فهذا هو العذابُ المشهودُ مكَّنها مِن دفعه بلعانها، فأين هنا عذابُ غيره حتَّي تُفَسَّرَ الآيةُ به؟ وإذا تبيَّن هذا، فهذا هو القولُ الصحيح الذى لا نعتقِدُ سواه، ولا نرتضي إلا إياه، وبالله التوفيق.
فإن قيل: فلو نكل الزوج عن اللعان بعد قذفه، فما حكمُ نكولِهِ؟ قلنا: يُحَدُّ حدَّ القذفِ عند جمهور العلماءِ مِن السلف والخلف، وهو قولُ
الشافعى ومالك وأحمد وأصحابهم، وخالف فى ذلك أبو حنيفة وقال: يُحبس حتى يُلاعِنَ، أو تُقِرَّ الزوجة،. وهذا الخلاف مبنى على أن موجب قذفِ الزوج لامرأته هَل هو الحد، كقذف الأجنبى، وله إسقاطه باللعان، أو موجبه اللعان نفسه؟ فالأول: قول الجمهور. والثانى: قول أبو حنيفة، واحتجُّوا عليه بعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، وبقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهلال بن أمية: "البَيِّنَةُ أَوْحَدٌّ فى ظَهْرِكَ"، وبقوله له: "عَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخرَةَ "، وهذا قاله لِهلال بن أمية قبل شروعه فى اللعان. فلو لم يجب الحدُّ بقذفه، لم يكن لهذا معنى، وبأنه قَذف حرة عفيفة يجرى بينَه وبينها القود، فَحُدَّ بقذفها كالأجنبى، وبأنه لو لاعنها، ثم أكذَبَ نفسه بعد لعنها، لوجب عليه الحدُّ، فدل على أن قذفه سببٌ لوجوب الحد عليه، وله إسقاطُه باللعان، إذ لو لم يكن سبباً لما وجب بإكذابه نفسه بعد اللعان، وأبو حنيفة يقول: قذفه لها دعوى تُوجب أحد أمرين، إما لعانه، وإما إقرارها، فإذا لم يُلاعن، حُبِسَ حتى يلاعن، إلا أن تُقِرَّ فيزول موجبُ الدعوى، وهذا بخلاف قذف الأجنبى، فإنه لا حقّ له عند المقذوفة، فكانَ قاذفاً محضاً، والجمهور يقولون: بل قذفُه جناية منه على عرضها، فكان موجبهاً الحدُّ كقذف الأجنبى، ولما كان فيها شائبةُ الدعوى عليها بإتلافها لحقه وخيانتها فيه، ملك إسقاطَ ما يُوجبه القذفُ مِن الحدِّ بلعانه، فإذا لم يُلاعِنْ مع قدرته على اللعان، وتمكنه منه، عمل مقتضى القذِف عملَه، واستقل بإيجاب الحدِّ، إذ لا معارض له، وباللهِ التوفيق
فصل
ومنها: أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما كان يقضى بالوحي، وبما أراه اللهُ، لا بما رآه هو، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَقْضِ بين المتلاعِنَيْن حتَّى جاءه الوحىُ، ونزل القرآن، فقال لِعويمر حينئذ: "قد نزل فيك وفى صاحبتك، فاذهب فأْتِ بها"، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ يَسْأَلُنى الله عَزَّ وَجَلَّ عَنْ سُنَّةٍ أَحْدَثْتُهَا فِيكُم لَمْ أُومَرْ بِهَا " وهذا فى الأقضية، والأحكام، والسنن الكلية، وأما الأمور الجزئية التى لا تَرْجِعُ إلى أحكام، كالنزول فى منزل معيَّن، وتأمير رجل معيَّن، ونحو ذلك مما هو متعلق بالمشاورةِ المأمورِ بها بقوله: {وشَاوِرْهُم فى الأَمْرِ} [آل عمران: 159] فتلك للرأى فيها مدخل، ومن هذا قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى شأن تلقيح النخل: "إِنَّمَا هُوَ رَأْىٌ رَأَيْتُه ". فهذا القِسم شىء، والأحكامُ والسننُ الكلية شىء آخر.
فصل
ومنها: أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره بأن يأتىَ بها، فتلاعنا بحضرته، فكان فى هذا بيانُ أن اللعان إنما يكونُ بحضرةِ الإمام أو نائبة، وأنه ليس لآحادِ الرعية أن يُلاعِنَ بينهما، كما أنه ليس له إقامة الحد، بل هو للإمام أو نائبه.
فصل
ومنها: أنُه يسن التلاعن بمحضر جماعةٍ من الناس يشهدُونه، فإن ابن عباس، وابن عمر، وسهل بن سعد، حضروه مع حداثة أسنانهم، فدلَّ ذلك على أنه حضره جمع كثير، فإن الصبيان إنما يحضرون مثلَ هذا الأمر تبعاً للرجال. قال سهل ابنُ سعد: فتلاعنا وأنا مع الناس عند النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وحكمة هذا والله أعلم، أن اللعان بنى على التغليظ مبالغةً فى الردع والزجر، وفعلُه فى الجماعة أبلغُ فى ذلك.
فصل
ومنها: أنهما يتلاعنان قياماً، وفى قصة هلال بن أمية أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: "قم فاشهد أربع شهادات بالله".
وفى "الصحيحين": فى قصة المرأة، ثم قامت فشهدت، ولأنه إذا قام شاهده الحاضِرُون، فكان أبلغَ فى شهرته، وأوقعَ فى النفوس، وفيه سِر آخر، وهو أن الدعوة التى تُطلب إصابتُها إذا صادفت المدعوَّ عليه قائماً نفذت فيه، ولهذا لما دعا خُبيبٌ على المشركين حين صلبوه، أخذ أبو سفيان معاوية فأضجعَه، وكانوا يرون أن الرجل إذا لطىء بالأرض، زلَّت عنه الدعوة.
فصل
ومنها: البداءة بالرجل فى اللعان، كما بدأ اللهُ عز وجل ورسولُه به، فلو بدأت هى، لم يُعتدَّ بلعانها عند الجمهور، واعتدَّ به أبو حنيفة. وقد بدأ الله سبحانه فى الحدِّ بذكر المرأة فقال: {الزَّانِيَةُ والزَّانى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، وفى اللعان بذكر الزوج، وهذا فى غاية المناسبة، لأن الزِنى من المرأة أقبحُ منه بالرجل، لأنها تزيد على هتكِ حقِّ الله إفسادَ فراشِ بعلها، وتعليقَ نسبٍ من غيره عليه، وفضيحةَ أهلها وأقاربها والجناية على محض حق الزوج وخيانته فيه وإسقاط حرمته عند الناس، وتعييره بإمساك البغى، وغير ذلك من مفاسد زناها، فكانت البداءة بها فى الحدّث أهمَّ، وأما اللعانُ: فالزوجُ هو الذى قذفها وعرضها للِّعان، وهتك عرضها، ورماها بالعظيمة، وفضحها عند قومها وأهلها، ولهذا يجب عليه الحدُّ إذا لم يُلاعن، فكانت البُداءة به فى اللعان أولى من البداءة بها.
فصل
ومنها: وعظُ كلِّ واحد من المتلاعنين عند إرادة الشروع فى اللعان، فيُوعظُ ويُذكَّر، ويقال له: عذاب الدنيا أهونُ مِن عذاب الآخرة، فإذا كان عند الخامسة، أُعِيدَ ذلك عليهما، كما صحت السنة بهذا وهذا.
فصل
ومنها: أنه لا يُقبل من الرجل أقلُّ من خمس مرات، ولا من المرأة، ولا يُقبل منه إبدالُ اللعنة بالغضب والإبعاد والسُّخط، ولا منها إبدالُ الغضب باللعنة والإبعاد والسخط، بل يأتى كُلٌّ منهما بما قسم الله له من ذلك شرعاً وقدراً، وهذا أصحُّ القولين فى مذهب أحمد ومالك وغيرهما.
ومنها: أنه لا يفتقِرُ أن يزيد على الألفاظ المذكورة فى القرآن والسنة شيئاً، بل لا يُستحب ذلك، فلا يحتاج أن يقول: أشهدُ بالله الذى لا إله إلا هُو عالم الغيب والشهادة الذى يعلم من السر ما يعلم من العلانية، ونحو ذلك، بل يكفيه أن يقول: أشهد باللهِ إنى لمن الصادقين، وهى تقول: أشهد بالله إنَّه لمن الكاذبين، ولا يحتاجُ أن يقول: فيما رميتها به من الزنى، ولا أن تقول هى: إنه لمن الكاذبين فيما رمانى به من الزنى، ولا يُشترط أن يقول إذا ادَّعى الرؤية: رأيتُها تزنى كالمِروَدِ فى المُكْحُلَةِ، ولا أصلَ لذلك فى كتاب الله، ولا سنة رسوله، فإن الله سبحانه بعلمه وحكمته كفانا بما شرعه لنا وأمرنا به عن تكلُّف زيادة عليه.
قال صاحب "الإفصاح" وهو يَحْيَى بن محمد بن هبيرة فى "إفصاحه": مِن الفقهاء من اشترط أن يزاد بعد قوله من الصادقين: فيما رميتها به من الزنى، واشترط فى نفيها عن نفسها أن تقول: فيما رمانى به من الزنى. قال: ولا أراه يحتاج إليه، لأن الله تعالى أنزل ذلك وبينه، ولم يذكر هذا الاشتراط.
وظاهر كلام أحمد، أنه لا يشترط ذكر الزنى فى اللعان، فإن إسحاق بن منصور قال: قلت لأحمد: كيف يُلاعِنُ؟ قال: على ما فى كتاب الله يقول أربعَ مراتٍ: أشهد بالله إنى فيما رميتُها به لمن الصادقين، ثم يقف
عند الخامسة فيقول: لعنةُ اللهِ عليه إن كان من الكاذبين، والمرأة مثلُ ذلك.
ففى هذا النص أنه لا يُشترط أن يقول: من الزنى، ولا تقولُه هى، ولا يُشترط أن يقولَ عند الخامسة: فيما رميتُها به، وتقول هى: فيما رمانى به، والذين اشترطوا ذلك حجتهم أن قالوا: ربما نوى: إنى لمن الصادقين فى شهادة التوحيد أو غيره مِن الخبر الصادق، ونوت: إنه لمن الكاذبين فى شأن آخر، فإذا ذكرا ما رُميت به من الزنى، انتفى هذا التأويل.
قال الآخرون: هب أنهما نويا ذلك، فإنهما لا ينتفعان بنيتهما، فإن الظالم لا ينفعُه تأويلُه، ويمينه على نية خصمه، ويمينُه بما أمر الله به إذا كان مجاهراً فيها بالباطل، والكذب موجبه عليه اللعنة أو الغضب، نوى ما ذكرتم، أو لم ينوه، فإنه لا يموّه على من يعلم السر وأخفى بمثل هذا.
فصل
ومنها: أن الحمل ينتفى بلعانه، ولا يحتاجُ أن يقول: وما هذا الحملُ منى، ولا يحتاج أن يقول: وقد استبرأتُها، هذا قول أبى بكر عبد العزيز من أصحاب أحمد، وقولُ بعضِ أصحاب مالك، وأهل الظاهر، وقال الشافعىُّ: يحتاجُ إلى ذِكر الولد، ولا تحتاجُ المرأة إلى ذِكره، وقال الخِرقى وغيرُه: يحتاجان إلى ذِكره، وقال القاضى: يشترط أن يقول: هذا الولد من زنى وليس هوَ مِنِّى. وهو قولُ الشافعى، وقول أبى بكر أصح الأقوال، وعليه تدل السنة الثابتة.
فإن قيل: فقد روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضى الله عنهما، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاعن بَيْنَ رجل وامرأته، وانتفى من ولدها، ففرَّق بينهما،
وألحقَ الولدَ بالمرأةِ.
وفى حديث سهل بن سعد: وكانت حاملاً فأنكر حملَها.
وقد حكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بأن الولد للفراش" وهذه كانت فِراشاً له حال كونها حاملاً، فالولُد له، فلا ينتفى عنه إلا بنفيه.
قيل: هذا موضعُ تفصيل لا بُدَّ منه، وهو أن الحملَ إن كان سابقاً على ما رماها به، وعلم أنها زنت وهى حامل منه، فالولد له قطعاً، ولا ينتفى عنه بلعانه، ولا يَحِلُّ له أن ينفيَه عنه فى اللعان، فإنها لما علقت به، كانت فراشاً له، وكان الحملُ لاحقاً به، فزناها لا يُزيل حكم لحوقه به، وإن لم يعلم حملَها حالَ زناها الذى قد قذفها به، فهذا ينظر فيه، فإن جاءت به لأقلَّ مِن ستة أشهر من الزنى الذى رماها به، فالولُد له، ولا ينتفى عنه بلعانه، وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر من الزنى الذى رماها به، نظر، فإما أن يكون استبرأها قبل زناها، أو لم يستبرئها، فإن كان استبرأها، انتفى الولد عنه بمجرد اللعان، سواء نفاه، أو لم ينفه، ولا بُدَّ من ذِكره عند من يشترط ذِكره، وإن لم يستبرئها، فها هنا أمكن أن يكون الولُد منه، وأن يكون من الزانى، فإن نفاه فى اللعان، انتفى، وإلا لحق به، لأنه أمكن كونُه منه ولم ينفه.
فإن قيل: فالنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حكم بعدَ اللعان، ونفى الولد بأنه إن جاء
يُشْبِهُ الزوجَ صاحبَ الفراش فهو له، وإن جاء يُشبه الذى رميت به، فهو له، فما قولُكم فى مثل هذه الواقعة إذا لاعن امرأته وانتفى من ولدها، ثم جاء الولدُ يُشبه، هل تُلِحقُونه به بالشبه عملاً بالقافة، أو تحكمون بانقطاع نسبه منه عملاً بموجب لعانه؟ قيل: هذا مجال ضَنْكٌ، وموضع ضيِّق تجاذب أعِنَّتَه اللعانُ المقتضى لانقطاع النسب، وانتفاء الولد، وأنه يُدعى لأمه ولا يدعى لأب، والشبه الدال على ثبوت نسبه من الزواج، وأنه ابنُه، مع شهادة النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنها إن جاءت به على شبهه، فالولدُ له، وأنه كذب عليها، فهذا مضيق لا يتخَلَّصُ منه إلا المستبصرُ البصير بأدلة الشرع وأسراره، والخبيرُ بجمعه وفرقه الذي سافرت به هِمَّتُه إلى مطلع الأحكام، والمشكاة التى منها ظهر الحلالُ والحرامُ، والذى يظهر فى هذا، والله المستعان وعليه التكلان، أن حكم اللعان قطع حكم الشبه، وصار معه بمنزلة أقوى الدليلين مع أضعفهما، فلا عبرة للشبه بعد مضى حكم اللعان فى تغيير أحكامه، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُخِبرْ عن شأن الولد وشبهه ليغير بذلك حكم اللعان، وإنما أخبر عنه، ليتبين الصادقُ منهما من الكاذب الذي قد استوجبَ اللعنة والغضب، فهو إخبار عن أمر قدرى كونى يتبين به الصادقُ مِن الكاذب بعد تقرر الحكم الدينى، وأن الله سبحانه سيجعل فى الولد دليلاً على ذلك، ويدل عليه أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك بعد انتفائِه من الود، وقال: "إن جاءت به كذا وكذا، فلا أراه إلا صدق عليها، وإن جاءت به كذا وكذا، فلا أراه إلا كذب عليها"، فجاءت به على النعتِ المكروه، فعلم أنه صَدَقَ عليها، ولم يَعْرِضْ لها، ولم يفسخ حكم اللعان، فيحكم عليها بحكم الزانية مع العلم بأنه صدق عليها، فكذلك لو جاءت به على شبه الزوج يعلم أنه كَذَبَ عليها، ولا يُغير ذلك حكم اللعان، فيحد الزوج ويلحق به الولد، فليس قوله: إن جاءت به كذا وكذا فهو الهلال بن أمية إلحاقاً له به
فى الحكم، كيف وقد نفاه باللعان، وانقطع نسبُه به، كما أن قوله: وإن جاءت به كذا وكذا، فهو للذى رميت به. ليس إلحاقاً به، وجعله ابنه، وإنما هو إخبارٌ عن الواقع، وهذا كما لو حكم بأيمان القَسَامَةِ ثمَ أظهر الله سبحانه آيةً تدل على كذب الحالفين، لم ينتقض حُكْمُها بذلك، وكذا لو حكم بالبراءة مِن الدعوى بيمين، ثم أظهر الله سبحانه آية تدل على أنها يمينٌ فاجرة، لم يبطل الحكم بذلك.
فصل
ومنها: أن الرجلَ إذا قذف امرأَته بالزنى برجل بعينه، ثم لا عنها، سقطَ الحدُّ عنه لهما، ولا يحتاجُ إلى ذِكر الرجل فى لعانه، وإن لم يُلاعن، فعليه لكل واحد منهما حَدُّه، وهذا موضعٌ اختُلِفَ فيه، فقال أبو حنيفة ومالك: يُلاعن للزوجة، ويحد للأجنبى، وقال الشافعى فى أحد قوليه: يجب عليه حدٌّ واحد، ويسقط عنه الحَدُّ لهما بلعانه، وهو قولُ أحمد، والقول الثانى للشافعى: أنه يحد لِكل واحد حداً، فإن ذكر المقذوفَ فى لِعانه، سقط الحدُّ، وإن لم يذكره فعلى قولين، أحدهما: يستأنِفُ اللعان، ويذكره فيه، فإن لم يذكره، حُدَّ له. والثانى: أنه يسقط حدُّه بلعانه، كما يسقط حدُّ الزوجة.
وقال بعضُ أصحاب أحمد: القذفُ للزوجة وحدها، ولا يتعلَّق بغيرها حق المطالبة ولا الحد. وقال بعضُ أصحاب الشافعى: يجبُ الحدُّ لهما، وهل يجب حدٌّ أو حدَّانِ؟ على وجهينِ، وقال بعض أصحابه: لا يجب إلا حداً واحداً قولاً واحداً، ولا خلاف بين أصحابه
أنه إذا لاعن الأجنبى فى لعانه: أنه يسقط عنه حُكمُه، وإن لم يذكره، فعلى قولين: الصحيح عندهم: أنه لا يسقط.
والذين أسقطوا حكم قذفِ الأجنبى باللعان، حجتُّهم ظاهرة وقوية جداً، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يحد الزوج بشريك بن سحماء، وقد سماه صريحاً، وأجاب الآخرون عن هذا بجوابين: أحدهما: أن المقذوفَ كان يهودياً، ولا يجب الحدُّ بقذف الكافر. والثانى: أنه لم يُطالب به، وحدُّ القذف إنما يُقام بعد المطالبة.
وأجاب الآخرون عن هذين الجوابين، وقالوا: قولُ من قال: إنه يهودى باطل، فإنه شريك بن عبدة وأمه سحماء، وهو حليفُ الأنصار، وهو أخو البراء بن مالك لأمه. قال عبد العزيز بن بزيزة فى شرحه لأحكام عبد الحق: قد اختلفَ أهلُ العلم فى شريك بن سحماء المقذوف، فقيل: إنه كان يهودياً وهو باطل، والصحيح: أنه شريك بن عدة حليف الأنصار، وهو أخو البراء بن مالك لأمه. وأما الجواب الثانى، فهو ينقلب حُجَّةَ عليكم، لأنه لما استقرَّ عنده أنه لا حق له فى هذا القذف لم يطالِب به، ولم يتعرَّض له، وإلا كيف يسكت عن براءة عرضه، وله طريق إلى إظهارها بحدِّ قاذفة، والقوم كانُوا أشدَّ حميَّةً وأنَفَةً مِن ذلك؟ وقد تقدَّم أن اللعان أقيمَ مقام البينة للحاجة، وجعل بدلاً مِن الشهود الأربعة، ولهذا كان الصحيح أنه يُوجِبُ الحدَّ عليها إذا نكلت، فإذا كان بمنزلة الشهادة فى أحد الطرفين كان بمنزلتها فى الطرف الآخر، ومِن المحال
أن تحدَّ المرأة باللعان إذا نَكَلَت، ثم يُحد القاذف حدَّ القذف وقد أقام البينة على صدق قوله، وكذلك إن جعلناه يميناً فإنها كما درأت عنه الحدَّ مِن طرف الزوجة، درأت عنه مِن طرف المقذوف، ولا فرق، لأن به حاجة إلى قذف الزانى لما أفسد عليه مِن فراشه، وربما يحتاجٌ إلى ذِكره ليستدل بشبه الولد له على صدق قاذفه، كما استدل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صِدق هلال بشبه الولد بشريك بن سحماء، فوجب أن يسقط حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها، وقد قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للزوج: "البينة وإلا حدّ فى ظهرك"، ولم يقل: وإلا حَدَّانِ، هذا والمرأةُ لم تُطالِبْ بحدِّ القذف، فإن المطالبة شرطٌ فى إقامة الحدِّ، لا فى وجوبه، وهذا جواب آخر عن قولهم: إن شريكاً لم يُطالب بالحدِّ، فإن المرأةَ أيضاً لم تُطالب به، وقد قال له النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "البينةُ وإلا حَدُّ فى ظهرك".
فإن قيل: فما تقولون: لو قذف أجنبية بالزنى برجل سماه؟ فقال: زنى بكِ فلان، أو زنيتِ به؟ قيل: هاهنا يجب عليه حدانِ، لأنه قاذف لكل واحد منهما، ولم يأتِ بما يُسقط موجبَ قذفه، فوجبَ عليه حكمه، إذ ليس هنا بينة بالنسبة إلى أحدهما، ولا ما يقومُ مقامَها.
فصل
ومنها: أنه إذا لاعنها وهى حامل، وانتفى مِن حملها، انتفى عنه، ولم يَحْتَجْ إلى أن يلاعن بعد وضعه كما دلت عليه السنةُ الصحيحةُ الصريحةُ، وهذا موضع اختلف فيه. فقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يُلاعن لِنفيه حتى تَضَعَ لاحتمال أن يكون رِيحاً فَتَنْفَشَّ، ولا يكون لِلعان حينئذ معنى، وهذا
هو الذى ذكره الخِرقى فى "مختصره"، فقال: وإن نفى الحمل في التعانه لم يَنْتَفِ عنه حتى ينفِيَه عند وضعها له ويُلاعن، وتبعه الأصحابُ على ذلك، وخالفهم أبو محمد المقدسى كما يأتى كلامُه. وقال جمهورُ أهل العلم: له أن يُلاعِنَ فى حال الحمل اعتماداً على قصة هلال بن أمية، فإنها صريحةٌ صحيحه فى اللعان حال الحمل، ونفى الولدِ فى تلك الحال، وقد قال النبى: "إن جاءت به على صِفَةِ كذا وكَذَا، فلا أراه إلا قد صدق عليها" الحديثَ. قال الشيخ فى "المغنى": وقال مالك، والشافعى، وجماعة من أهل الحجاز: يَصِحُّ نفى الحمل، وينتفى عنه، محتجين بحديثِ هلال، وأنه نفى حملها، فنفاه عنه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وألحقه بالأمِّ، ولا خَفَاءَ أنه كان حملاً، ولهذا قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انظروها، فإن جَاءَتْ به كذا وكذا"، قال: ولأن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه، ولهذا تثبت للحامل أحكامٌ تُخالف فيها الحائلَ من النفقة والفِطر فى الصيام، وتركِ إقامة الحدِّ عليها، وتأخيرِ القِصاص عنها، وغيرِ ذلك مما يطولُ ذِكُره، ويَصِحُّ استلحاقُ الحمل، فكان كالولد بعد وضعه قال: وهذا القولُ هو الصحيح، لموافقته ظواهر الأحاديث، وما خالف الحديثَ لا يُعبأ به كائناً ما كان. وقال أبو بكر: ينتفى الولد يزوالِ الفراش، ولا يحتاجُ إلى ذِكره فى اللعان احتجاجاً بظاهر الأحاديث، حيثَ لم ينقل نفىُ الحمل، ولا تعرض لنفيه.
وأما مذهب أبى حنيفة رحمه الله، فإنه لا يَصِحُّ نفىُ الحمل واللعان عليه، فإن لاعنها حاملاً، ثم أتت بالولد، لزمه عنده، ولم يتمكن من نفيه أصلاً، لأن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين، وهذه قد بانت بلعانها فى حال حملها.
قال المنازعون له: هذا فيه إلزامُه ولداً ليس منه، وسدُّ باب الانتفاء
مِن أولاد الزنى، واللهُ سبحانه قد جعل له إلى ذلك طريقاً، فلا يجوز سَدُّها، قالوا: وإنما تعتبر الزوجية فى الحال التى أضاف الزنى إليها فيها، لأن الولد الذى تأتى به يلحقُه، إذا لم ينفه، فيحتاج إلى نفيه، وهذِهِ كانت زوجتَه فى تلك الحال، فملك نفىَ ولدها. وقال أبو يوسف. ومحمد: له أن ينفىَ الحمل بين الولادة إلى تمامِ أربعينَ ليلة منها. وقال عبد الملك بن الماجشُون: لا يُلاعن لنفى الحمل إلا أن ينفيَهُ ثانية بعد الولادة. وقال الشافعىُّ: إذا عَلِمَ بالحمل فأمكنه الحاكم مِن اللعان، فلم يلاعن، لم يكن له أن ينفيَهُ بعدُ.
فإن قيل: فما تقولون: لو استحلق الحملَ، وقذفها بالزنى، فقال: هذا الولدُ منى وقد زنت، ما حُكمُ هذه المسألة؟ قيل: قد اختلف العلماء فى هذه المسألة على ثلاث أقوال:
أحدها: أنه يُحَدُّ ويُلحق به الولدُ، ولا يُمكَّن من اللعان.
والثانى: أنه يُلاعن، وينتفى الولد.
والثالث: أنه يُلاعن للقذف، ويلحقه الولدُ، والثلاثة روايات عن مالِك، والمنصوص عن أحمد: أنه لا يَصِحُّ استلحاقُ الولد كما لا يصح نفيه،.قال أبو محمد: وإن استلحق الحمل، فمن قال: لا يَصِحُّ نفيه، قال: لا يصح استلحاقُه، وهو المنصوصُ عن أحمد. ومن أجاز نفيه، قال: يَصِحُّ استلحقاقُه، وهو مذهبُ الشافعى، لأنه محكومٌ بوجوده بدليل وجوب النفقة ووقف الميراث، فصح الإقرار به كالمولود، وإذا استلحقه، لم يملك نفيَه بعد ذلك، كما لو استلحقه بعد الوضع. ومن قال: لا يَصِحُّ استلحاقُه، قال: لو صح استلحاقُه، للزمه بترك نفيه
كالمولود، ولا يلزمُه ذلك بالإجماع، وليس لِلشَّبَه أثرٌ فى الإلحاق، بدليل حديثِ المُلاعنة، وذلك مختص بما بعدَ الوضع، فاختص صحة الإلحاق به، فعلى هذا لو استلحقه، ثم نفاه بعد وضعه كان له ذلك، فأما إن سكت عنه، فلم ينفه، ولم يستلحقه، لم يلزمه عند أحد علمنا قولَه، لأن تركه محتمل، لأنه لا يتحقَّقُ وجودُه إلا أن يُلاعنها، فإن أبا حنيفة ألزمه الولَد على ما أسلفناه.
فصل
وقولُ ابن عباس: ففرَّق رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما، وقضي ألاَّ يُدعى ولدها لأب، ولا تُرمى، ومن رماها، أو رمى ولدها، فعليه الحدُّ، وقضى أن لا بيتَ لها عليه ولا قوت، ومن أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها.
وقولُ سهل: فكان ابنُها يُدعى إلى أمه، ثم جرت السنةُ أنه يرثها وترِث منه ما فرض الله لها.
وقوله: مضت السنة فى المتلاعنين أن يُفرَّقَ بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً.
وقال الزهرى، عن سهل بن سعد: فرَّق رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما، وقال: لا يجتمعان أبداً.
وقول الزوج: يا رسولَ الله، مالى؟ قال: "لا مال لك، إن كُنْتَ صَدَقْتَ عليها، فهو بما استحللتَ مِن فرجها، وإن كنتَ كذبتَ عليها، فهو أبعدُ لك منها".
فتضمنت هذه الجملةُ عشرةَ أحكام:
الحكم الأول: التفريقُ بين المتلاعنين، وفى ذلك خمسة مذاهب.
أحدها: أن الفرقةَ تحصلُ بمجرد القذفِ، هذا قولُ أبى عبيد، والجمهورُ خالفوه فى ذلك، ثم اختلفوا.
فقال جابر بن زيد، وعثمان البَتِّى، ومحمد بن أبى صُفرة، وطائفة من فُقهاء البصرة: لا يقع باللعان فرقةٌ البتة، وقال ابن أبى صفرة: اللعانُ لا يَقْطَعُ العِصمة، واحتجوا بأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُنكِر عليه الطلاقَ بعد اللعانِ، بل هو أنشأ طلاقَها، ونزَّه نفسه أن يُمْسِكَ من قد اعترف بأنها زنت، أو أن يقومَ عليه دليل كذب بإمساكها، فجعل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعلَه سنة، ونازع هؤلاء جمهور العلماء، وقالوا: اللعانُ يُوجِبُ الفرقة، ثم اختلفوا على ثلاثة مذاهب.
أحدها: أنها تقع بمجرد لِعان الزوج وحدَه، وإن لم تلتعِن المرأة، وهذا القولُ مما تفرَّد به الشافعى، واحتج له بأنها فُرقة حاصلة بالقول، فحصلت بقول الزوج وحدَه كالطلاق.
المذهب الثانى: أنها لا تحصلُ إلا بلعانهما جميعاً، فإذا تَمَّ لِعانهما، وقعت الفرقةُ، ولا يعتبر تفريقُ الحاكم، وهذا مذهبُ أحمد فى إحدى الروايتين عنه اختارها أبو بكر، وقولُ مالك وأهلِ الظاهر، واحتج لهذا القول بأن الشرعَ إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين، ولا يكونان متلاعنين بلعان الزوج وحده، وإنما فرَّق النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما بعد تمامِ اللعان منهما، فالقولُ بوقوع الفرقِة قبلَه مخالفٌ لمدلولِ السنة وفعل النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واحتجُّوا بأن لفظ اللعان لا يقتضى فُرقة، فإنه إما أيمان على زناها، وإما شهادة به، وكلاهما لا يقتضى فُرقة، وإنما ورد الشرع بالتفريق بينهما بعد تمامِ لعانهما لِمصلحة ظاهرة، وهى أن اللهَ سبحانه جعل بين الزوجين مودة ورحمة، وجعل كلاً منهما سكناً للآخر، وقد زال هذا بالقذف، وأقامها مقام
الخزى والعار والفضيحة، فإنه إن كان كاذباً فقد فضحها وبهتها، ورماها بالداء العُضال، ونكَّسَ رأسها ورؤوس قومها، وهتكها على رؤوس الأشهاد. وإن كانت كاذبة، فقد أفسدت فراشه، وعرَّضته للفضيحة والخزى والعار بكونه زوجَ بغى، وتعليق ولد غيره عليه، فلا يحصلُ بعد هذا بينهما مِن المودة والرحمة والسكن ما هو مطلوبٌ بالنكاح، فكان مِن محاسن شريعة الإسلام التفريقُ بينهما، والتحريمُ المؤبد على ما سنذكره، ولا يترتب هذا على بعض اللعان كما لا يترتَّبُ على بعض لعان الزوج. قالوا: ولأنه فسخ ثبت بأيمان متحالفين، فلم يثبت بأيمان أحدهما، كالفسخ لتخالف المتبايعين عند الاختلاف.
المذهب الثالث: أن الفرقةَ لا تحصُل إلا بتمام لعانهما، وتفريق الحاكم، وهذا مذهبُ أبى حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهى ظاهر كلام الخِرقى، فإنه قال: ومتى تلاعنا، وفرق الحاكمُ بينهما، لم يجتمعا أبداً. واحتج أصحابُ هذا القولِ بقول ابن عباس فى حديثه: ففرَّق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما. وهذا يقتضى أن الفُرقة لم تتَحصُلْ قبله، واحتجوا بأن عويمراً قال: كذبتُ عليها يا رسول الله، إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمُرَهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا حجةٌ مِن وجهين، أحدهما: أنه يقتضى إمكان إمساكها. والثانى: وقوع الطلاق، ولو حصلت الفرقةُ باللعان وحده، لما ثبت واحدٌ مِن الأمرين، وفى حديث سهل بن سعد: أنه طلقها ثلاثاً، فأنفذه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رواه أبو داود.
قال الموقعون للفُرقة بتمام اللعان بدون تفريق الحاكم: اللعان معنىً
يقتضى التحريمَ المؤبَّد، كما سنذكره، فلم يقف على تفريق الحاكم كالرضاع، قالوا: ولأن الفُرقة لو وقعت على تفريقِ الحاكم، لساغ تركُ التفريق إذا كرهه الزوجان، كالتفريق بالعيب والإعسار، قالوا: وقولُه: فرَّق النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يحتمل أموراً ثلاثة. أحدها: إنشاء الفرقة. والثانى: الإعلامُ بها. والثالث: إلزامُه بموجبها من الفرقة الحسية.
وأما قوله: كذبت عليها إن أمسكتها، فهذا لا يدل على أن إمساكها بعد اللعان مأذون فيه شرعاً، بل هو بادر إلى فراقها، وإن كان الأمر صائراً إلى ما بادر إليه، وأما طلاقُه ثلاثةً، فما زاد الفُرقة الواقعة إلا تأكيداً، فإنها حرمت عليه تحريماً مؤبَّداً، فالطلاقُ تأكيد لهذا التحريم، وكأنه قال: لا تَحِلُّ لى بعد هذا وأما إنفاذُ الطلاقِ عليه، فتقريرٌ لموجبه من التحريم، فإنها إذا لم تَحِل له باللعان أبداً، كان الطلاقُ الثلاث تأكيداً للتحريم الواقع باللعان، فهذا معنى إنفاذه، فلما لم ينكره عليه، وأَقرَّه على التكلم به وعلى موجبه، جعل هذا إنفاذاً من النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسهل لم يحكِ لفظَ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: وقع طلاقُك، وإنما شاهد القِصَّة، وعدمَ إنكار النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للطلاق، فظن ذلك تنفيذاً، وهو صحيح بما ذكرنا من الاعتبار، والله أعلم.
فصل
الحكم الثانى: أن فرقة اللعان فسخ، وليست بطلاقٍ، وإلى هذا ذهب الشافعىُّ وأحمد، ومن قال بقولهما، واحتجوا بأنها فرقةٌ تُوجب تحريماً مؤبَّداً، فكانت فسخاً كفُرقة الرضاع، واحتجوا بأن اللعان ليس صريحاً فى الطلاق، ولا نوى الزوجُ به الطلاَق، فلا يقع به الطلاقُ، قالوا:
ولو كان اللعان صريحاً فى الطلاق، أو كناية فيه، لوقع بمجرد لعان الزوج، ولم يتوقف على لِعان المرأة، قالوا: ولأنه لو كان طلاقاً، فهو طلاق من مدخول بها بغير عوض لم ينو به الثلاث، فكأن يكون رجعياً. قالوا: ولأنَّ الطلاقَ بيد الزوج، إن شاء طلقَ، وإن شاء أمسكَ، وهذا الفسخُ حاصِل بالشرع وبغير اختياره، قالوا: وإذا ثبت بالسنة وأقوالِ الصحابة، ودلالةِ القرآن، أن فرقة الخُلع ليست بطلاقٍ، بل هى فسخ مع كونها بتراضيهما، فكيف تكونُ فرقةُ اللعانِ طلاقاً؟.
فصل
الحكم الثالث: أن هذه الفُرقة توجب تحريماً مؤبداً لا يجتمعان بعدها أبداً. قال الأوزاعى: حدثنا الزبيدى، حدثنا الزهرى، عن سهل بن سعد، فذكر قصة الملاعنين، وقال: ففرق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما وقال: لا يجتمعان أبداً.
وذكر البيهقى من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عمر، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبداً،.
قال: وروينا عن على، وعبد الله بن عباس رضى الله عنهم، قالا: مضت السنة فى المتلاعنين أن لا يجتمعا أبداً. قال: وروى عن عمر بن
الخطاب رضى الله عنه أنه قال: يفرق بينهما ولا يجتمعان أبداً وإلى هذا ذهب أحمد، والشافعى ومالك، والثورىُّ، وأبو عُبيد، وأبو يوسف.
وعن أحمد رواية أخرى: أنه إن أكذب نفسه، حلَّت له، وعاد فِراشه بحاله، وهى رواية شاذة شذَّ بها حنبل عنه. قال أبو بكر: لا نعلَمُ أحداً رواها غيره، وقال صاحب "المغنى": وينبغى أن تُحمل هذه الرواية على ما إذا لم يُفّرق بينهما. فأما مع تفريقِ الحاكم بينهما، فلا وجهَ لبقاء النكاح بحاله.
قلت: الروايةُ مطلقة، ولا أثر لتفريقِ الحاكم فى دوام التحريم، فإن الفُرقة الواقعة بنفس اللعان أقوى من الفُرقة الحاصلة بتفريق الحاكم، فإذا كان إكذاب نفسه مؤثراً فى تلك الفُرقة القوية، رافعاً للتحريم الناشىء منها، فلأن يُؤثِّرَ فى الفُرقة التى هى دونها، ويرفعَ تحريمها أولى.
وإنما قُلنا: إن الفرقة بنفس اللعان أقوى مِن الفرقةِ بتفريق الحاكم، لأن فُرقة اللعان تستنِدُ إلى حكم الله ورسوله، وسواءٌ رضى الحاكمُ والمتلاعِنانِ التفريقَ أو أَبَوْهُ، فهى فُرقة من الشارع بغير رِضى أحدٍ منهم ولا اختياره، بخلافِ فُرقة الحاكم فإنه إنما يفرق باختياره.
وأيضاً فإن اللعان يكون قد اقتضى بنفسه التفريق لقوته وسلطانه عليه، بخلاف ما إذا توقَّف على تفريق الحاكم، فإنه لم يقو بنفسه على اقتضاء الفرقة، ولا كان له سلطانٌ عليها، وهذه الروايةُ هى مذهبُ سعيدِ بن المسيب، قال: فإن أكذب نفسَه، فهو خاطبٌ من الخُطَّاب، ومذهبُ أبى حنيفة ومحمد، وهذا على أصله اطرد، لأن فُرقة اللعان عنده طلاق. وقال سعيدُ بن جبير: إن أكذب نفسه، رُدَّت إليه ما دامت فى العدة.
والصحيح: القولُ الأوَّلُ الذى دلت عليه السنةُ الصحيحةُ الصريحةُ،
وأقوالُ الصحابة رضى الله عنهم، وهو الذى تقتضيه حِكمةُ اللعان، ولا تقتضى سواه، فإن لعنة الله تعالى وغضَبه قد حَلَّ بأحدهما لا محالة، ولهذا قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الخامسة: "إنها الموجِبَةُ"، أى الموجبة لهذا الوعيد، ونحن لا نعلم عينَ مَنْ حلَّت به يقيناً، ففرق بينهما خشيةَ أن يكونَ هو الملعونَ الذى قد وجبت عليه لعنةُ الله وباءَ بها، فيعلُو امرأةً غيرَ ملعونه، وحِكمة الشرع تأبى هذا، كما أبت أن يَعْلُوَ الكافِرُ مسلمة والزانى عفيفةً.
فإن قيل: فهذا يوجب ألا يتزوج غيرَها لما ذكرتم بعينه؟
قيل: لا يُوجب ذلك، لأنا لم نتحقق أنه هو الملعون، وإنما تحققنا أن أحدهما كذلك، وشككنا فى عينه، فإذا اجتمعا، لزمه أحدُ الأمرين ولابد، إما هذا وإما إمساكُه ملعونةً مغضوباً عليها قد وجب عليها غضبُ الله، وباءت به، فأما إذا تزوَّجت بغيره، أو تزوَّج بغيرها، لم تتحقق هذه المفسدة فيهما.
وأيضاً فإن النفرة الحاصلة من إساءة كُلِّ واحدٍ منهما إلى صاحبه لا تزولُ أبداً، فإن الرجل إن كان صادقاً عليها، فقد أشاعَ فاحِشتها، وفضحَها على رؤوس الأشهاد، وأقامها مقام الخزى، وحقق عليها الخزى والغضب، وقطع نسب ولدها، وإن كان كاذباً، فقد أضافَ إلى ذلك بهتَها بهذه الفرية العظيمة، وإحراق قلبها بها والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الاشهاد، وأوجبت عليه لعنة الله. وإن كانت كاذبة، فقد أفسدت فراشه وخانته فى نفسها، وألزمته العارَ والفضيحة وأحوجتُه إلى هذا المقام المُخزى، فحصل لِكُلِّ واحدٍ منهما من صاحبه من النُّفرة والوحشة، وسوء الظن ما لا يكاد يلتئم معه شملُهما أبداً، فاقتضت حِكمة مَنْ شَرْعُهُ كُلُّه حِكْمَةٌ ومصلحةٌ وعَدْلٌ ورحمةٌ تحتُّم الفرقة بينهما، وقطع الصحبة المتمحِّضةِ مفسدة.
وأيضاً فإنه إذا كان كاذباً عليها، فلا ينبغى أن يُسلَّطَ على إمساكها مع ما صَنَعَ مِن القبيح إليها، وإن كان صادقاً، فلا ينبغى أن يُمسِكَهَا مع علمه بحالها، ويرضى لنفسه أن يكون زوجَ بغى.
فإن قيل: فما تقولون: لو كانت أمة ثم اشتراها، هل يَحِلُّ له وطؤها بملك اليمين؟ قلنا: لا تَحِلُّ له لأنه تحريم مؤبَّد، فحرمت على مشتريها كالرضاع، ولأن المطلِّق ثلاثاً إذا اشترى مطلقته لم تَحِلَّ له قبل زوج وإصابة، فهاهنا أولى، لأن هذا التحريمَ مؤبد، وتحريم الطلاق غير مؤبد.
فصل
الحكم الرابع: أنها لا يَسْقُطُ صداقُها بعد الدخول، فلا يَرجعُ به عليها، فإنه إن كان صادقاً، فقد استحلَّ من فرجها عوضَ الصداق، وإن كان كاذباً فأولى وأحرى.
فإن قيل: فما تقولون: لو وقع اللعانُ قبلَ الدخول، هل تحكمون عليه بنصف المهر، أو تقولون: يسقط جملة؟
قيل: فى ذلك قولانِ للعلماء، وهما روايتان عن أحمد مأخذهُما: أن الفُرقة إذا كانت بسبب من الزوجين كلعانهما أو منهما ومن أجنبى، كشرائها لزوجها قبل الدخول، فهل يسقط الصداقُ تغليباً لجانبها كما لو كانت مستقِلّضة بسبب الفُرقة أو نِصفُه تغليباً لجانبه، وأنه هو المشاركُ فى سبب الإسقاط، والسيد الذى باعه متسبب إلى إسقاطه ببيعه إياها؟ فهذا الأصل فيه قولان. وكُلُّ فُرقة جاءت مِن قبل الزوج نصَّفَتِ الصداق
كطلاقه، إلا فسخه لِعيبها، أو فواتِ شرطٍ شَرَطَه، فإنه يسقطُ كُلُّه، وإن كان هو الذى فسخ، لأن سبب الفسخ منها وهى الحاملة له عليه. ولو كانت الفرقُة بإسلامه، فهل يسقط عنه، أو تُنصفه؟ على روايتين فوجهُ إسقاطه، أنه فعل الواجب عليه، وهى الممتنعة من فعل ما يجبُ عليها، فهى المتسببة إلى إسقاط صداقها بامتناعها من الإسلام، ووجهُ التنصيفِ أن سبب الفسخ من جهته.
فإن قيل: فما تقولون فى الخلع: هل يُنصفه أو يُسقطه؟
قيل: إن قلنا: هو طلاق نَصَّفه، وإن قلنا: هو فسخ، فقال أصحابنا: فيه وجهان. أحدهما: كذلك تغليباً لجانبه. والثانى: يسقطه لأنه لم يستقل بسبب الفسخ، وعندى، أنه إن كان مع أجنبى نصفه وجهاً واحداً، وإن كان معها، ففيه وجهان.
فإن قيل: فما تقولون: لو كانت الفُرقة بشرائه لِزوجته من سيدها: هل يُسقطه أو يُنصفه؟
قيل: فيه وجهان: أحدهما: يسقطه، لأن مستحق مهرها تسبَّب إلى إسقاطه ببيعها، والثانى: ينصِّفه لأن الزوج تسبب إليه بالشراء، وكُلُّ فرقة جاءت من قبلها كردتها، وإرضاعها من يفسَخُ إرضاعُه نِكَاحَها، وفسخها لإعسارِه أو عيبه فإنه يسقط مهرُها.
فإن قيل: فقد قلتم: إن المرأة إذا فسخت لعيب فى الزوج سقط مهرها، إذ الفُرقة من جهتها، وقلتم: إن الزوجَ إذا فسخ لِعيب فى المرأة سقط أيضاً ولم تجعلوا الفسخَ من جهته فتنصفوه، كما جعلتموه لِفسخها لعيبه من جهتها، فأسقطتموه، فما الفرق؟ قيل: الفرقُ بينهما أنه إنما بذل المهر فى مقابلة بُضع سليم من العيوب، فإذا لم يتبين كذلك، وفسخ، عاد إليها كما خرج
منها، ولم يستوفه، ولا شيئاً منه، فلا يلزمه شىء من الصداق، كما أنها إذا فسخت لِعيبه لم تُسلم إليه المعقود عليه، ولا شيئاً منه، فلا تستحِقُّ عليه شيئاً من الصداق.
فصل
الحكم الخامس: أنها لا نفقةَ لها عليه ولا سكنى، كما قضى به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا موافق لحكمه فى المبتوتة التى لا رجعةَ لزوجها عليها، كما سيأتى بيانُ حكمه فى ذلك، وأنه موافقٌ لكتاب الله، لا مخالف له، بل سقوطُ النفقة والسكنى للملاعنة أولى مِن سقوطها للمبتوتة، لأن المبتوتَة له سبيلُ إلى أن ينكِحهَا فى عِدتها، وهذهِ لا سبيل له إلى نكاحها لا فى العدة ولا بعدَها، فلا وجه أصلاً لوجوب نفقتها وسُكناها، وقد انقطعت العصمةُ انقطاعاً كلياً.
فأقضيتُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوافِقُ بعضُها بعضاً، وكلها تُوافق كتابَ الله والميزانَ الذى أنزل ليقومَ الناسُ بالقسط، وهو القياسُ الصحيحُ، كما ستقر عينُك إن شاء الله تعالى بالوقوف عليه عن قريب
وقال مالك، والشافعي: لها السكنى. وأنكر القاضى إسماعيل بن إسحاق هذا القول إنكاراً شديداً.
وقوله: "من أحل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها" لا يدل مفهومه على أن كل مطلقة، ومتوفى عنها لها النفقةُ والسكنى، وإنما يدل على أن هاتين الفُرقتين قد يجبُ معهما نفقة وسكنى، وذلك إذا كانت المرأة حاملاً، فلها ذلك فى فرقة الطلاق اتفاقاً، وفى فرقة الموت ثلاثة
أقوال، أحدها: أنه لا نفقة لها ولا سكنى، كما لو كانت حائلاً، وهذا مذهبُ أبى حنيفة وأحمد فى إحدى روايتيه، والشافعى فى أحد قوله، لزوال سبب النفقة بالموت على وجه لا يُرجى عودهُ، فلم يبق إلا نفقةُ قريب، فهى فى مال الطفل إن كان له مال، وإلا فعلى من تلزمه نفقته من أقاربه.
والثانى: أن لها النفقة والسكنى فى تركته تُقدم بها على الميراث، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، لأن انقطاع العصمة بالموت لا يزيد على انقطاعها بالطلاق البائن، بل انقطاعها بالطلاق أشد، ولهذا تغسلُ المرأةُ زوجَها بعد موته عند جمهور العلماء حتى المطلقة الرجعية عند أحمد ومالك فى إحدى الروايتين عنه، فإذا وجبت النفقةُ والسُّكنى للبائن الحامل، فوجوبُها للمتوفى عنها زوجها أولى وأحرى.
والثالث: أن لها السكنى دون النفقة حاملاً كانت أو حائلاً، وهذا قولُ مالك وأحدُ قولى الشافعى إجراء لها مجرى المبتوتة فى الصحة، وليس هذا موضعَ بسطِ هذه المسائل وذكر أدلتها، والتمييز بين راجحها ومرجوحها إذ المقصود أن قوله: "من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها زوجها" إنما يدل على أن المطلقة والمتوفى عنها قد يجب لهما القوتُ والبيتُ فى الجملة، فهذا إن كان هذا الكلام مِن كلام الصحابى، والظاهر والله أعلم أنهُ مُدْرَجٌ مِن قول الزهرى.
فصل
الحكم السادس: انقطاعُ نسب الولد من جهة الأب، لأن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى ألا يدعى ولدُها لأب، وهذا هو الحقُّ، وهو قولُ الجمهور،
وهو أجلُّ فوائد اللعان، وشذ بعضُ أهل العلم، وقال: المولود للفراش لا ينفيه اللعانُ البتة، لأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى أن الولد لِلفراش، وإنما ينفى اللعانُ الحمل، فإن لم يُلاعنها حتى ولدت، لاعن لإسقاط الحد فقط، ولا ينتفى ولدُها منه، وهذا مذهبُ أبى محمد بن حزم، واحتج عليه بأن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى أن الولد لصاحب الفراش، قال: فصح أن كل مَنْ وُلِدَ على فراشه ولد، فهو ولدُه إلا حيثُ نفاه الله على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو حيث يوقن بلا شك أنه ليس ولده، ولم ينفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وهى حامل باللعان فقط، فبقى ما عدا ذلك على لحاق النسب، قال: ولذلك قلنا: إن صدقته فى أن الحمل ليس منه، فإن تصديقها له لا يُلتفت إليه لأن الله تعالى يقول: {وَلاَ تَكْسِب كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] فوجب أن إقرار الأبوين يصدُق على نفى الولد، فيكون كسباً على غيرهما، وإنما نفى اللهُ الولدَ إذا أكذبته الأمُّ، والتعنت هى والزوج فقط، فلا ينتفى فى غير هذا الموضع، انتهى كلامه.
وهذا ضد مذهبِ من يقول: إنه لا يصح اللعان على الحمل حتى تضع، كما يقول أحمد وأبو حنيفة، والصحيح: صحتُه على الحمل، وعلى الولد بعد وضعه، كما قاله مالك والشافعى، فالأقوال ثلاثة.
ولا تنافى بين هذا الحكم وبين الحكم بكون الولد للفراش بوجه ما، فإن الفراش قد زال باللعان، وإنما حكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الولدَ للفراش عند تعارض الفراش، ودعوى الزانى، فأبطل دعوى الزانى للولد وحكم به لصاحب الفراش، وهاهنا صاحبُ الفراش قد نفى الولَد عنه.
فإن قيل: فما تقولون: لو لاعن لمجرد نفى الولد مع قيام الفراش،
فقال: لم تزن، ولكن ليس هذا الولدُ ولدى؟
قيل: فى ذلك قولان للشافعى، وهما روايتان منصوصتان عن أحمد.
إحداهما: أنه لا لِعان بينهما، ويلزمه الولدُ، وهى اختيار الخرقى.
والثانية: أن له أن يُلاعِنَ لنفى الولد، فينتفى عنه بلعانه وحده، وهى اختيارُ أبى البركات ابن تيمية، وهى الصحيحة.
فإن قيل: فخالفتم حكمَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أن الولد للفراش" قلنا: معاذ الله، بل وافقنا أحكامَه حيث وقع غيرُنا فى خلاف بعضها تأويلاً، فإنه إنما حكم بالولد للفراش حيث ادعاه صاحبُ الفراش، فرجح دعواه بالفراش، وجعله له، وحكم بنفيه عن صاحب الفراش حيث نفاه عن نفسه، وقطع نسبه منه، وقضى ألاَّ يُدعى لأب، فوافقنا الحكمين، وقلنا بالأمرين، ولم نفرق تفريقاً بارداً جداً سمجاً لا أثر لَهُ فى نفى الولد حملاً ونفيه مولوداً، فإن الشريعة لا تأتى على هذا الفرق الصُّورى الذى لا معنى تحته البتة، وإنما يرتضى هذا مَنْ قَلَّ نصيبه مِن ذوق الفقه وأسرارِ الشريعةِ وحِكمِهَا ومعانِيها، والله المستعان، وبه التوفيق.
فصل
الحكم السابع: إلحاقُ الولد بأمِّه عند انقطاع نسبه مِن جهة أبيه، وهذا الإلحاق يُفيد حكماً زائداً على إلحاقه بها مع ثبوت نسبه من الأب، وإلا كان عديمَ الفائدة فإن خروجَ الولدِ منها أمر محقق، فلابد فى الإلحاق من أمر زائد عليه، وعلى ما كان حاصلاً مع ثبوتِ النسب من الأب، وقد اختُلفَ فى ذلك.
فقالت طائفة: أفادَ هذا الإلحاق قطعَ توهمِ انقطاعِ نسبِ الولد من الأم، كما انقطعَ مِن الأب، وأنه لا يُنسب إلى أمِّ، ولا إلى أبٍ، فقطع النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الوَهم وألحق بالأم، وأكَّدَ هذا بإِيجابه الحدَّ على من قذفه أو قذفَ أمه، وهذا قول الشافعى ومالك، وأبى حنيفة، وكُل من لا يرى أن أمه وعصباتها له.
وقالت طائفة ثانية: بل أفادنا هذا الإلحاق فائدةً زائدة، وهى تحويلُ النسب الذى كان إلى أبيه إلى أمه، وجعل أمَّه قائمةً مقام أبيه فى ذلك، فهى عصبتُه وعصباتُها أيضاً عصبته، فإذا مات، حازَت ميراثَهُ، وهذا قولُ ابن مسعود، ويُروى عن على، وهذا القولُ هو الصواب، لما روى أهل السنن الأربعة، من حديث واثلة بن الأسقع، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "تَحُوزُ المَرْأَةُ ثَلاثَةَ مَوَارِيثَ: عَتِيقها، ولَقِيطَها، وَوَلَدَها الَّذى لاَعَنَتْ عَلَيْهِ" ، ورواه الإمام أحمد وذهب إليه.
وروى أبو داود فى "سننه": من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه جعل مِيرَاثَ ابن المُلاَعَنَةِ لأمَّه ولِورثِتهَا مِنْ بَعْدِهَا.
وفى السنن أيضاً مرسلاً: من حديث مكحول، قال: جعلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميراثَ ابنِ المُلاَعَنَةِ لأُمِّه ولوِرثِتها مِنْ بَعْدِهَا. هذه الآثارُ موافقة لمحضِ القياس، فإن النسَب فى الأصل للأب،
فإذا انقطع مِن جهته صار للأم، كما أن الولاء فى الأصل لمعتق الأب، فإذا كان الأب رقيقاً كان لمعتق الأم. فلو أعتق الأبُ بعد هذا، انجز الولاءُ مِن موالى الأم إليه، ورجع إلى أصله، وهو نظيرُ ما إذا كذب الملاعن نفسه، واستلحق الولد، رجع النسبُ والتعصيب من الأم وعصبتها إليه. فهذا محضُ القياس، وموجبُ الأحاديث والآثار، وهو مذهبُ حَبْرِ الأمة وعالمِها عبد اللهِ بن مسعود، ومذهبُ إمامى أهل الأرض فى زمانهما، أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وعليه يَدُلُّ القرآن بألطف إِيماء وأحسنه، فإن الله سبحانه جعل عيسى مِن ذرية إبراهيم بواسطة مريم أمِّه، وهَى مِن صَميم ذرية إبراهيم، وسيأتى مزيدُ تقرير لهذا عند ذكر أقضيةِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحكامه فى الفرائض إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: فما تصنعون بقوله فى حديث سهل الذى رواه مسلم فى "صحيحه" فى قصة اللعان: وفى آخره: ثم جرت السنةُ أن يِرَثَ مِنْهَا وتَرِثَ منه ما فرضَ الله لها؟ قيل: نتلقاه بالقبول والتسليم والقول بموجبه، وإن أمكن أن يكون مدرجاً من كلام ابن شهاب وهو الظاهِرُ، فإن تعصيبَ الأم لا يُسقط ما فرض الله لها من ولدها فى كتابه، وغايتُها أن تكونَ كالأب حيث يجتمع له الفرض والتعصيب، فهى تأخذ فرضها ولابُدَّ فإن فصل شىءٌ أخذته بالتعصيب، وإلا فازت بفرضها، فنحن قائلون بالآثار كُلِّها فى هذا الباب بحمد الله وتوفيقه.
فصل
الحكمُ الثامن: "أنها لا تُرمى ولا يُرمى ولدُها، ومَنْ رماها أو رَمَى ولَدَها، فعليه الحَدُّ" وهذا لأن لِعانها نفى عنها تحقيقَ ما رُمِيَتْ به، فيُحدُّ قاذِفُها وقاذِفُ ولدها، هذا الذى دلَّت عليهِ السّنةُ الصحيحةُ الصريحةُ، وهو قولُ جمهور الأمة، وقال أبو حنيفة: إن لم يكن هناك ولد نُفِىَ نسبُه، حُدَّ قاذفها، وإن كان هناك ولد نُفى نسبه، لم يُحَدَّ قاذفها، والحديثُ إنما هو فيمن لها ولد نفاه الزوجُ، والذى أوجب له هذا الفرقَ أنه متى نَفَى نسب ولدها، فقد حكم بزناها بالنسبة إلى الولد فأثر ذلك شبهةً فى سقُوط حدِّ القذف.
فصل
الحكم التاسع: أن هذه الأحكام إنما ترتبت على لِعانهما معاً، وبعد أن تَمَّ اللعانانِ، فلا يترتب شىء منها على لِعان الزوج وحده، وقد خرَّج أبو البركات ابن تيمية على هذا المذهب انتفاء الولد بلعان الزوج وحدَه، وهو تخريجٌ صحيح، فإن لِعانه كما أفاد سقوطَ الحد وعارَ القذف عنه مِن غير اعتبار لعانها، أفاد سقوطَ النسب الفاسد عنه، وإن لم تُلاعن هى، بطريق الأولى، فإنَّ تضرره بدخول النسب الفاسِد عليه أعظمُ مِن تضرره بحدِّ القذف، وحاجته إلى نفيه عنه أشدُّ مِن حاجته إلى دفعِ الحد، فلِعانه كما استقلَّ بدفعِ الحد استقلَّ بنفى الولد، والله أعلم.
فصل
الحكم العاشِرُ: وجوبُ النفقة والسكنى للمطلقة والمتوفَّى عنها إذا كانتا حامِلَين فإنه قال: "من أجل أنهما يفترقان عن غير طلاق ولا متوفى عنها"، فأفاد ذلك أمريْنِ، أحدهما: سقوطُ نفقة البائن وسكناها إذا لم تكن حامِلاً مِن الزوج. والثانى: وجوبهُما لها، وللمتوفَّى عنها إِذا كانتا حاملَين من الزوج.
فصل
وقولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْصِروُها فَإِنْ جَاءَت بِهِ كَذا وكذا، فَهُوَ لِهِلالِ بن أُميَّة، وإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذا وكَذا فهُو لِشَرِيكِ بن سَحْمَاء"، إِرشادٌ منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اعتبارِ الحُكْم بالقَافَةِ، وأَنّ لِلشَّبَهِ مدخلاً فى معرفة النسب، وإلحاقِ الولد بمنزلة الشبه، وإنما لم يُلحق بالملاعن لو قُدِّر أن الشبهَ له، لمعارضة اللعان الذى هو أقوى مِن الشبه له كما تقدم.
فصل
وقوله فى الحديث: " لَوْ أنّ رجلاً وَجَدَ مع امرأتِهِ رجلاً يقتُلُه فتقتُلُونه به" دليل على أن من قتل رجلاً فى داره، وادَّعى أنه وجده مع امرأتِه أو حريِمه، قتل فيه ولا يُقبل قوله، إذ لو قُبِلَ قولُه، لأُهدِرَتِ الدماءُ، وكان كل من أراد قتلَ رجل أدخله دارَه، وادعى أنه وجده مع امرأته.
ولكن هاهنا مسألتان يجب التفريقُ بينهما. إحداهما: هل يسعه فيما
بينه وبين الله تعالى أن يقتُلَه، أم لا؟ والثانية: هل يُقبل قوله فى ظاهر الحكم أم لا؟ وبهذا التفريق يزولُ الإِشكالُ فيما نُقلَ عن الصحابة رضى الله عنهم فى ذلك، حتى جعلها بعض العلماء مسألَة نزاع بين الصحابة، وقالوا: مذهب عمر رضى الله عنه: أنه لا يُقتل به، ومذهب على: أنه يُقتل به، والذى غره ما رواه سعيدُ بن منصور فى "سننه"، أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه بينا هو يوماً يتغدى، إذ جاءه رجلٌ يعدو وفى يده سيف ملطخ بدم، ووراءه قوم يعدون، فجاء حتى جلسَ مع عمر، فجاء الآخرون، فقالوا يا أميرَ المؤمنين: إن هذا قتل صاحبنا، فقال له عمر رضى الله عنه: ما تقول؟ فقال له: يا أميرَ المؤمنين، إنى ضربت بين فخذى امرأتى، فإن كان بينَهما أحد فقد قتلتُه، فقال عمر ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنه ضرَب بالسَّيْفِ، فوقع فى وسط الرجل وفخذى المرأة، فأخذ عمرُ رضى الله عنه سيفَه فهزّه، ثم دفعه إليه، وقال: إن عادوا، فعد. فهذا ما نُقِل عن عُمر رضى الله عنه.
وأما على، فسُئِلَ عمن وَجَدَ مع امرأته رجلاً فقتله، فقال: إن لم يأتِ بأربعةِ شُهداء، فليُعْطَ بِرُمَّتِهِ، فظن أن هذا خلافُ المنقول عن عمر، فجعلها مسألةَ خلافٍ بينَ الصحابة، وأنتَ إِذا تأملتَ حُكميهما، لم تَجِدْ بينهما اختلافاً، فإن عمر إنما أسقط عنه القودَ لما اعترف الولىُّ بأنه كان مع امرأته، وقد قال أصحابنا واللفظ لصاحب "المغنى": فإن اعترفَ الولىُّ بذلك، فلا قِصاصَ ولا دِية، لما رُوى عن عمر، ثم ساق القِصة، وكلامه يُعطى أنه لا فرق بين أن يكون محصناً وغيرَ محصن، وكذلك حكمُ عمر فى هذا القتيل، وقولُه أيضاً: "فإن عادوا فعد" ولم يفرق بين المحصَن
وغيره، وهذا هو الصوابُ، وإن كان صاحب "المستوعب" قد قال: وإن وجد مع امرأته رجلاً ينال منها ما يُوجب الرجم، فقتله، وادّعى أنه قتله لأجل ذلك، فعليه القصاصُ فى ظاهر الحكم، إلاَّ أن يأتىَ بينِّة بدعواه، فلا يلزمه القصاصُ، قال: وفى عدد البينة روايتان، إحداهما: شاهدان، اختارها أبو بكر لأن البينة على الوجود لا على الزنى، والأخرى لا يُقبل أقلُّ مِن أربعة، والصحيح أن البينة متى قامت بذلك، أو أقرَّ به الولىُّ، سقط القصاص محصناً كان أو غيره وعليه يدل كلام على، فإنه قال فيمن وجد مع امرأته رجلاً فقتله: إن لم يأت بأربعة شهداء فليُعْطَ بِرُمَّتِهِ" وهذا لأن هذا القتل ليس بحد للزنى، ولو كان حداً لما كان بالسيف ولاعتُبِرَ له شروطُ إقامة الحد وكيفيته، وإنما هو عقوبةٌ لمن تعدَّى عليه، وهتك حريمَه، وأفسد أهلَه، وكذلك فعل الزبير رضى الله عنه لما تخلف عن الجيش ومعه جارية له، فأتاه رجلان فقالا: أعطنا شيئاً، فأعطاهما طعاماً كان معه، فقالا: خلِّ عن الجارية، فضربهما بسيفه فقطعهما بضربة واحدة وكذلك من اطَّلَعَ فى بيت قومٍ من ثُقب، أو شق فى الباب بغير إذنهم، فنظر حرمة أو عورة، فلهم خذفه وطعنه فى عينه، فإن انقلعت عينُه، فلا ضَمان عليهم. قال القاضى أبو يعلى: هذا ظاهرُ كلام أحمد أنهم يدفعونه، ولا ضمان عليهم من غير تفصيل.
وفصل ابن حامد فقال: يدفعه بالأسهل، فيبدأ بقوله: انصرف واذهب، وإلا نفعل بك كذا.
قلت: وليس فى كلام أحمد، ولا فى السنة الصحيحة ما يقتضى هذا التفصيلَ بل الأحاديث الصحيحة تدل على خلافه، فإن فى "الصحيحين" عن أنس، أن رجلاً أطلع مِن جُحر في بعض حُجر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام إليه
بمِشْقًص أو بمشَاقِص، وجعل يَخْتِلُه ليطْعُنَه، فأين الدفعُ بالأسهل وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يختِلُه، أو يختبىء له، ويختفى لِيَطْعُنَه.
وفى "الصحيحين" أيضاً: من حديث سهل بن سعد، أن رجلاً اطلع فى جُحْر فى باب النبىّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفى يد النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرَىً يَحُكُّ بِهِ رَأْسَه، فلمَّا رآهُ قال: "لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تنظُرنى لَطَعَنْتُ به فى عَيْنِك، إِنَّمَا جُعِلَ الإذْنُ مِنْ أَجْلِ البَصَر".
وفيهما أيضاً: عن أبى هُريرة رضى الله عنه، قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ أَنَّ امْرءاً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ".
وفيهما أيضاً: "مَنْ اطَّلَعَ فى بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَفَقؤوا عَيْنَهُ فَلاَ دِيَةَ لَهُ وَلاَ قِصَاصَ".
وهذا اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: ليس هذا مِن بابِ دفعِ الصائل، بل مِن باب عقوبةِ المعتدى المؤذى، وعلى هذا فيجوزُ له فيما بينَه وبين الله تعالى قتلُ من اعتدى على حريمِه، سواء كان محصَناً أو غيرَ محصن، معروفاً بذلك أو غيرَ معروف، كما دل عليه كلام
الأصحاب، وفتاوى الصحابة، وقد قال الشافعى وأبو ثور: يسعُه قتلُه فيما بينه وبين الله تعالى إذا كان الزانى محصناً، جعلاه من باب الحدود. وقال أحمد وإسحاق: يُهدَرُ دمُه إذا جاء بشاهدين ولم يُفصِّلا بين المحصن وغيره. واخْتلّفَ قولُ مالك في هذه المسألة، فقال ابنُ حبيب: إن كان المقتولُ محصناً، وأقام الزوجُ البينة، فلا شىء عليه، وإلا قُتِل به، وقال ابنُ القاسم: إذا قامت البينةُ فالمحصَنُ وغيرُ المحصَنِ سواء، ويُهدر دمه، واستحب ابنُ القاسم الديةَ فى غير المحصَن.
فإن قيل: فما تقولون فى الحديث المتفق على صحته، عن أبى هريرة رضى الله عنه، أن سعد بن عبادة رضى الله عنه قال: يا رسولَ الله: أرأيتَ الرجلَ يَجِدُ مع امرأته رجلاً أيقتُلُه؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا"، فقال سَعْدٌ: بَلَى والَّذِى بَعَثَكَ بالحَقِّ، فقال رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْمَعُوا إلى مَا يَقُولُ سًيِّدُكُم".
وفى اللفظ الآخر: "إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امرأتِى رَجُلاً أُمْهِلُهُ حَتَّى آتى بأَرْبَعَةِ شُهَدَاء؟ قال: "نعم" قال: والَّذى بَعَثَكَ بالحَقِّ إِنْ كُنْتُ لأُعَاجِلُهُ بالسَّيْفِ قَبْلَ ذلِكَ، قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْمَعُوا إِلى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُم إِنَّهُ لَغَيُورٌ وأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، واللهُ أَغْيَرُ مِنِّى؟".
قلنا:نتلقاه بالقبول والتسليم، والقول بموجبه، وآخِرُ الحديث دليل على أنه لو قتله لم يُقد به، لأنه قال: بلى والذى أكرمَكَ بالحق، ولو وجب عليه القصاصُ بقتله، لما أقره على هذا الحلف، ولما أثنى على غَيْرَته، ولقال: لو قتلَته قُتِلتَ به وحديث أبى هريرة صريحٌ فى هذا، فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : "أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَة سَعْدٍ فَوَاللهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ واللهُ أَغْيَرُ مِنِّى" ، ولم
ينكر عليه، ولا نهاه عن قِتله لأن قولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكم ملزم، وكذلكَ فتواه حكم عام للأمة، فلو أذن له فى قتله، لكان ذلك حكماً منه بأن دمه هدرٌ فى ظاهر الشرع وباطنه، ووقعت المفسدةُ التى درأها اللهُ بالقِصاص، وتهالك الناس فى قتل من يريدون قتله فى دورهم، ويدَّعونَ أنهم كانُوا يَرَوْنَهُم على حريمهم، فسدَّ الذَّرِيعَةَ، وحَمى المفسدَة، وصان الدماء، وفى ذلك دليل على أنه لا يُقبل القاتل، ويُقاد به فى ظاهر الشرع، فلما حلف سعد أنه يقتلُه ولا ينتظر به الشهود، عَجِبَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غَيْرَتِه، وأخبر أنه غَيُورٌ، وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أغيرُ منه، واللهُ أشدُّ غَيرةً، وهذا يحتمِلُ معنيين.
أحدهما: إقراره وسكوُته على ما حلف عليه سعدٌ أنه جائز له فيما بينَه وبَيْنَ اللهِ، ونهيه عن قتله فى ظاهر الشرع، ولا يناقض أولُ الحديث آخِرَه.
والثانى: أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك كالمنكِرِ على سعد، فقال: "أَلاَ تَسْمَعُونَ إلى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُم " يعنى: أنا أنهاه عن قتلِه وهو يقُول: بلى، والذى أكرمك بالحق، ثم أخبر عن الحامل له على هذه المخالفة، وأنه شِدَّةُ غَيْرَتِه، ثم قال: أنا أغيرُ مِنْهُ، والله أغيرُ منى. وقد شرع إِقامة الشهداء الأربعة مع شِدَّةِ غيرته سبحانه، فهى مقرونةٌ بحكمة ومصلحة، ورحمة وإحسان، فالله سبحانه مع شدّة غَيرته أعلم بمصالح عباده، وما شرعه لهم من إقامة الشهود الأربعة دون المبادرة إلى القتل، وأنا أغيرُ من سعد، وقد نهيته عن قتله، وقد يُريد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلا الأمرين، وهو الأليقُ بكلامه وسياق القصة.
فصل: فى حُكمِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى لُحُوق النسب بالزَّوج إذا خالف لونُ ولده لونَه
ثبت عنه فى "الصحيحين" أن رَجلاً قال له: إن امرأتى ولدت غلاماً أَسْوَدَ كأَنه يُعَرِّضُ بنفيهِ، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ك "هَلْ لَكَ مِنْ إِبلٍ"؟ قال: نعم. قال: "مَا لَوْنُهَا؟" قال: حُمْرٌ. قال: "فَهَل فيها مِنْ أَوْرَق؟" قال: نَعَمْ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَنَّى أَتَاهَا ذلِكَ؟" قال: لَعَلْهُ يَا رَسُول اللهِ يكونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ. فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وهذَا لَعَلَّهُ يَكُونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ".
وهذا الحديث مِن الفقه: أن الحدّ لا يجِبُ بالتعرِيضِ إِذا كان على وجهِ السؤالِ والاستفتاء، ومن أخذ منه أنه لا يجبُ بالتعريضِ ولو كان على وجه المُقَابَحة والمشاتمة، فقد أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، ورُبَّ تعريضٍ أفهمُ، وأوجعُ للقلب، وأبلغُ فى النكاية من التصريح، وبساطُ الكلام وسياقُه يردُّ ما ذكروه من الاحتمال، ويجعلُ الكلام قطعىَّ الدِّلالة على المراد.
وفيه أن مجرد الرِّيبةِ لا يُسَوِّغُ اللِّعانَ ونفى الولد.
وفيه ضربُ الأمثال والأشباه والنظائر فى الأحكام، ومِن تراجم البخارى فى "صحيحه" على هذا الحديث: باب من شبه أصلاً معلوماً بأصل مبين قد بيَّن الله حكمه ليُفهمَ السائِلَ، وساق معه حديثَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ كانَ عَلَى أمِّكَ دَيْنٌ؟ ".
فصل: فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالولدِ لِلفراش، وأن الأمة تكون فراشاً، وفيمن استلحق بعدَ مَوْتِ أبيه
ثبت فى "الصحيحين"، من حديث عائشة رضى الله عنها، قالت: اختصم سعدُ بنُ أبى وقَّاص، وعبدُ بنُ زمعة فى غلام، فقال سعد: هذا يا رسولَ الله ابنُ أخى عتبة بن أَبى وقاص عَهِدَ إِلىَّ أنه ابنُه، انْظُرْ إِلى شَبَههِ، وقال عبدُ بنُ زمعة: هذا أخى يا رسولَ الله وُلِدَ على فِراش أبى مِن وَليدَتِهِ، فنظر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرأى شبهاً بيناً بعُتبة، فقال: "هُوَ لَكَ يا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الوَلَدُ لِلفِراشِ، ولِلْعَاهِرِ الحَجَرُ واحْتَجِبى مِنْهُ يا سَوْدَةُ"، فلم تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ.
فهذا الحكمُ النبوىُّ أصلٌ فى ثبوتِ النسب بالفراش، وفى أن الأمة تكون فِرَاشاً بالوطء، وفى أن الشَّبه إذا عارضَ الفِراش، قُدِّمَ عليه الفِراشُ، وفى أن أحكامَ النسب تتبعَّضُ، فتثبُت من وجهٍ دُونَ وجه، وهو الذى يُسميه بعضُ الفقهاء حُكمَاً بينَ حُكمين، وفى أن القافةَ حقٌ، وأنها من الشرع.
فأما ثبوتُ النسبِ بالفِراش، فأجمعت عليه الأمةُ، وجهاتُ ثبوتِ النسب أربعةٌ: الفراشُ، والاستلحاقُ، والبيِّنةُ، والقَافَةُ.
فالثلاثة الأول، متفق عليها، واتفق المسلمون على أن النِّكاحَ يثبُت به الفراشُ، واختلفوا فى التسرِّى، فجعله جمهورُ الأمة موجباً للفراش، واحتجوا بصريحِ
حديثِ عائشة الصحيح، وأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بالولدِ لِزمعة، وصرّح بأنه صاحبُ الفراش، وجعل ذلك عِلة للحكم بالولد له فسبَبُ الحكم ومحلُه إِنما كان فى الأمة، فلا يجوزُ إِخلاءُ الحديث منه وحملُه على الحرة التى لم تذكر البتة، وإنما كان الحكمُ فى غيرها، فإن هذا يستلزِمُ إِلغاءَ ما اعتبره الشارعُ وعلَّق الحكمَ به صريحاً، وتعطيلَ محلِّ الحكم الذى كان لأجله وفيه.
ثم لو لم يَرِدِ الحديثُ الصحيح فيه، لكان هو مقتضى الميزانِ الذى أنزل له الله تعالى لِيقومَ الناسُ بالقسْطِ، وهو التسويةُ بين المتماثلين، فإن السُّرِّيَّة فِراشٌ حِسَّاً وحقيقةً وحُكماً، كما أن الحُرَّةَ كذلك، وهى تُراد لما تُراد له الزوجةُ مِن الاستمتاع والاستيلادِ، ولم يزل الناسُ قديماً وحديثاً يرغبون فى السَّرارى لاستيلادِهن واستفراشهن، والزوجةُ إِنما سُمِّيَتْ فِراشاً لمعنى هى والسُّرِّيَّةُ فيه على حدٍّ سواء.
وقال أبو حنيفة: لا تكونُ الأمة فراشاً بأوَّلِ ولد ولدته مِن السيد، فلا يلحقُه الولدُ إلا إذا استلحقه، فيلحقه حينئذ بالاستلحاق، لا بالفِراشِ، فما ولدت بعد ذلك لَحقه إلا أن يَنْفِيَه، فعندهم ولدُ الأمة لا يلحق السيدَ بالفراش، إلا أن يتقدَّمه ولد مُسْتَلْحَقٌ، ومعلومٌ أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألحق الولدَ بزَمْعَةَ، وأثبتَ نسبه منه، ولمْ يثْبُتْ قَطُّ أن هذِهِ الأَمَة ولَدَتْ له قبل ذلك غيره، ولا سأل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك ولا استفصل فيه.
قال منازعوهم: ليس لهذا التفصيلِ أصلٌ فى كتابٍ ولا سُنة، ولا أثرٍ عن صاحب، ولا تقتضيهِ قواعدُ الشرع وأصوله، قالت الحنفية: ونحن لا نُنكر كونَ الأمة فراشاً فى الجملة، ولكنه فراش ضعيف، وهى فيه دونَ الحرة، فاعتبرنا ما تعتق به بأن تَلِدَ منه ولداً فيستلحقه، فما ولدت
بعد ذلك، لحق به إلا أن يَنْفِيَه، وأما الولد الأوَّل، فلا يلحقه إلا بالاستلحاق، ولهذا قُلتُم: إنه إذا استحلق ولداً مِن أمته لم يلحقه ما بعدَه إلا باستلحاقٍ مستأنف، بخلاف الزوجة، والفرقُ بينهما: أن عقدَ النكاح إنما يُراد للوطء والاستفراش، بخلاف مُلك اليمين، فإن الوطء والاستفراش فيه تابع، ولهذا يجوزُ ورودُه على من يحرم عليه وطؤُها بخلافِ عقد النكاح. قالوا: والحديثُ لا حُجَّةَ لكم فيه، لأن وطء زمعة لم يثبُتْ، وإِنما ألحقه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعبد أخاً، لأنه استلحقه، فألحقه باستلحاقه، لا بفراش الأب.
قال الجمهورُ: إذا كانت الأمةُ موطوءة، فهى فِراش حقيقة وحُكماً، واعتبارُ ولادتها السابقة فى صيرورتها فراشاً اعتبارُ ما لا دليل على اعتباره شرعاً، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعتبره فى فِراش زَمْعَة، فاعتبارُه تحكم.
وقولُكم: إن الأمةَ لا تفرد للوطء، فالكلام فى الأمة الموطوءة التى اتخذت سِّريَّة وفِراشاً، وجُعِلَتْ كالزوجة أو أحظى منها لا فى أمته التى هى أختُه من الرضاع ونحوها.
وقولُكم: إن وطء زمعةَ لم يثُبت حتَّى يلحق به الولدُ، ليس علينا جوابُه، بل جوابُه على من حكم بلحوق الولد بزمعة، وقال لابنه: هو أخوك.
وقولكم: إنما ألحقه بالأخ لأنه استلحقه: باطل، فإن المستلحق إن لم يُقِرَّ به جميعُ الورثة، لم يلحق بالمقر إلا أن يشهدَ منهم اثنان أنه وُلِدَ على فراش الميت، وعَبْدٌ لم يكن يُقِرُّ له جميعُ الورثة، فإن سودة زوجة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخته، وهىَ لم تُقِرَّ به، ولم تَسْتَلحقهُ، وحتى لو أقَرَّت به مع أخيها عبدٍ، لكان ثبوتُ النسب بالفراش لا بالاستلحاق، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صرَّح عقيب حكمه بإلحاق النسب، بأن الولد للفراش معللاً بذلك، منبهاً على قضية
كُلِّية عامة تتناولُ هذهِ الواقعةَ وغيرها. ثم جوابُ هذا الاعتراض الباطل المحرِّم، أن ثبوتَ كون الأمة فراشاً بالإقرار من الواطىء، أو وارثه كافٍ فى لحقوق النسب، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألحقه به بقوله: "ابن وليدة أبى وُلِدَ على فراشه"، كيف وزَمْعَةُ كان صِهرَ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وابنتُه تحته، فكيف لا يثُبت عنده الفِراشُ الذى يلحق به النسب؟
وأما ما نقضتُم به علينا أَنَّه إذا استحلق ولداً مِن أمته، لم يلحقه ما بعدَه إلا بإقرارٍ مستأنَف، فهذا فيه قولان لأصحاب أحمد، هذا أحدُهما، والثانى: أنه يلحقُه وإن لم يستأنِفْ إقراراً، ومن رجَّح القولَ الأول قال: قد يستبرئها السيدُ بعد الوِلادة، فيزولُ حكمُ الفِراش بالاستبراء، فلا يلحقُه ما بعد الأول بإعتراف مستأنف أنه وطئها، كالحال فى أول ولد.
ومن رجَّح الثانى قال: قد يثبت كونُها فراشاً أولاً، والأصلُ بقاء الفراش حتى يَثْبُتَ ما يُزيله، إذ ليس هذا نظيرَ قولكم: إنه لا يلحقُه الولدُ مع اعترافه بوطئها حتى يستلحِقَه، وأبطلُ من هذا الاعتراض قولُ بعضهم، إنه لم يُلحقه به أخاً، وإنما جعله له عبداً، ولهذا أتى فيه بلام التمليك فقال: "هُوَ لَكَ"، أى: مملوك لك، وقوَّى هذا الاعتراض بأن فى بعض ألفاظ الحديث "هُوَ لَكَ عبد"، وبأنه أمر سودَةَ أن تحتجِبَ منه، ولو كان أخاً لها لما أمرها بالاحتجاب منه، فدلَّ على أنه أجنبى منها. قال: وقوله: "الولد للِفراش"، تنبيه على عدم لحوق نسبه بزمعة أى: لم تكن هذه الأمة فراشاً له، لأن الأمة لا تكون فراشاً، والولد إنما هو للِفراش، وعلى هذا يَصِحُّ أمرُ احتجاب سودة منه، قال: ويُؤكده أن فى بعض طرق الحديث: "احتجبى منه، فإنه ليس لك بأخ" قالوا: وحينئذ فتبيَّن إنا أسعدُ بالحديث وبالقضاء النبوى منكم.
قال الجمهورُ: الآن حَمِىَ الوطيسُ، والتقت حلقتا البطان فنقول والله المستعان: أمّا قولُكم: إنه لم يُلحقه به أخاً، وإنما جعله عبداً، يردُّه ما رواه محمد بن إسماعيل البخارى فى "صحيحه" فى هذا الحديث: "هو لك، هو أخوك يا عبد بن زمعة" وليس اللام للتمليك، وإنما هى للاختصاص، كقوله: "الولد للفراش". فأما لفظة قوله: "هو لك عبد"، فرواية باطلة لا تَصِحُّ أصلاً. وأما أمرُه سودة بالاحِتجاب منه، فإما أن يكونَ على طريقِ الاحتياطِ لمكان الشبهة التى أورثها الشَّبهُ البَيِّنُ بعُتبة، وإما أن يكون مراعاةً للشَّبهَيْنِ وإعمالاً للدليلين، فإن الفِراش دليلُ لحوق النسب، والشبه بغير صاحبه دليلُ نفيه، فأعمل أمرَ الفراش بالنسبة إِلى المدَّعى لقوته، وأعمل الشَّبه بعُتبة بالنسبة إلى ثبوت المحرمية بينه وبَين سودة، وهذا مِن أحسن الأحكام وأبينها، وأوضحها، ولا يمنع ثبوتُ النسبِ مِن وجه دونَ وجه، فهذا الزانى يثبُت النسبُ منه بينه وبين الولد فى التحريم والبعضية دون الميراثِ والنفقةِ والوِلاية وغيرها، وقد يتخلَّف بعضُ أحكام النسب عنه مع ثبوته لمانع، وهذا كثيرٌ فى الشريعة، فلا يُفكر مِن تخلُّف المحرمية بينَ سودة وبينَ هذا الغلام لمانع الشبه بعتبة، وهل هذا إلا محضُ الفقه؟ وقد علم بهذا معنى قوله: "ليس لكِ بأخ"، لو صحت هذه اللفظة مع أنها لا تصِحُّ، وقد ضعفها أهلُ العلم بالحديث، ولا نُبالى بصحتها مع قوله لعبد: "هُو أَخُوكَ"، وإذا جمعت أطرافَ كلام النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقرنت قوله: "هو أخوك"، بقوله: "الولد للفراش، وللعاهر الحجرُ"، تبيَّن لك بطلانُ ما ذكروهُ من التأويل، وأن الحديثَ صريحٌ فى خلافه لا يحِتملُه بوجه والله أعلم. والعجب أن منازعينا فى هذه المسألة
يجعلُون الزوجة فراشاً لمجرد العقد، وإن كان بينَها وبين الزوج بعد المشرقين، ولا يجعلونَ سُرِّيّتَه التى يتكرَّر استفراشُه لها ليلاً ونهاراً فِراشاً.
فصل
واختلف الفقهاءُ فيما تصيرُ به الزوجة فراشاً، على ثلاثة أقوال:
أحدُها: أنه نفسُ العقد وإن علم أنه لم يجتمع بها، بل لو طلَّقها عقيبَه فى المجلس، وهذا مذهب أبى حنيفة.
والثانى: أنه العقدُ مع إمكان الوطء، وهذا مذهب الشافعى وأحمد.
والثالث: أنه العقدُ مع الدخول المحقَّقِ لا إمكانه المشكوك فيه، وهذا اختيارٌ شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: إن أحمد أشار إليه فى رواية حرب، فإنه نص فى روايته فيمن طلق قبل البناء، وأتت امرأتُه بولد، فأنكره أنه ينتفى عنه بغير لعان وهذا هو الصحيحُ المجزوم به، وإلا فكيف تصيرُ المرأة فراشاً ولم يدخُلْ بها الزوجُ ولم يَبْنِ لمجرد إمكان بعيدٍ؟ وهل يَعُدُّ أهلُ العرف واللغة المرأة فراشاً قبل البناء بها وكيف تأتى الشريعةُ بإلحاق نسبٍ بمن لم يبن بامرأته، ولا دخلَ بها، ولا اجتمع بها بمجرَّدِ إمكان ذلك؟ وهذا الإمكانُ قد يقطع بإنتفائه عادة، فلا تصيرُ المرأة فِراشاً إلا بدخول محقق، وبالله التوفيق. وهذا الذى نص عليه فى رواية حرب، هو الذى تقتضيه قواعِدُه وأصولُ مذهبه والله أعلم.
واختلفوا أيضاً فيما تصير به الأمةُ فراشاً، فالجمهور على أنه لا تصير فراشاً إلا بالوطءِ، وذهب بعضُ المتأخرين من المالكية إلى أن الأمة التى تشترى للوطء دونَ الخِدمة، كالمرتفعة التى يُفهم من قرائن الأحوال أنها إنما
تُراد للتسرى، فتصير فِراشاً بنفس الشراء، والصحيح أن الأمة والحرة لا تصيران فِراشاً بالدخول.
فصل
فهذا أحدُ الأمور الأربعة التي يثبتُ بها النسب، وهو الفراش.
الثانى: الاستلحاق وقد اتفق أهلُ العلم على أن للأبِ أن يستلحِقَ فأما الجدُّ، فإن كان الأبُ موجوداً لم يؤثر استلحاقه شيئاً، وإن كان معدوماً، وهو كُلُّ الورثة، صح إقراره، وثبت نسبُ المُقِرِّ به، وإن كان بعضَ الورثة وصدَّقوه، فكذلك، وإلا لم يثْبُتْ نسبه إلا أن يكون أحد الشاهدين فيه.
والحكم فى الأخ كالحكم فى الجد سواء، والأصل فى ذلك أن مَن حاز المالَ يثبُت النسبُ بإقراره واحداً كان أو جماعة، وهذا أصلُ مذهب أحمد والشافعى، لأن الورثة قامُوا مقامَ الميت، وحلُّوا محلَّه. وأورد بعضُ الناس على هذا الأصل، أنه لو كان إجماعُ الورثة على إلحاق النسب يُثْبِتُ النسب، للزم إذا اجتمعوا على نفى حملٍ مِن أمة وطئها الميت أن يحلوا محلَّه فى نفى النسب، كما حلوا محلَّه فى إلحاقه، وهذا لاَ يَلْزَمُ، لأنا اعتبرنا جميعَ الورثة والحمل من الورثة، فلم يُجْمِعِ الورثة على نفيه.
فإن قيل: فأنتم اعتبرتُم فى ثبوت النسب إقرارَ جميع الورثة، والمقر هاهنا إنما هو عبدٌ، وسودةُ لم تُقِرَّ به وهى أختُه، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألحقَهُ بعبد باستلحاقه، ففيه دليل على استلحاق الأخ وثبوت النسب بإقراره، ودليلٌ على أن استلحاقَ أحدِ الأخوة كافٍ.
قيل: سودةُ لم تكن منكرة، فإن عبداً استلحقه، وأقرته سودةُ
على استلحاقه، وإقرارُها وسكوتُها على هذا الأمر المتعدى حكمُه إليها من خلوته بها، وبرؤيته إياها وصيرورته أخاً لها تصديقٌ لأخيها عَبْدٍ، وإقرارٌ بما أقر به، وإلا لبادرت إلى الإنكار والتكذيبِ، فجرى رِضاها وإقرارُها مجرى تصدِيقها، هذا إن كان لَمْ يَصْدُرْ منها تصديقٌ صريح، فالواقعة واقعةُ عين، ومتى استلحق الأخُ أو الجدُّ أو غيرُهما نسبَ من لو أقَّر به مورثهم لحقه، ثبت نسبُه ما لم يكن هنا وارثٌ منازع، فالاستلحاقُ مقتضٍ لثبوتِ النسب، ومنازعة غيره مِن الورثة مانعٌ من الثبوتِ، فإِذا وُجِدَ المقتضى، ولم يمنع مانِعٌ من اقتضائه، ترتّبَ عليه حكمُه. ولكن هاهنا أمر آخر، وهو أن إقرارَ من حاز الميراثَ واستلحاقه: هل هو إقرارُ خلافةٍ عن الميت أو إِقرارُ شهادة؟ هذا فيه خلافٌ، فمذهبُ أحمد والشافعى رحمهما الله، أنه إقرارُ خِلافه، فلا تُشترط عدالة المستلحق، بل ولا إسلامُه، بل يَصِحُّ ذلك مِن الفاسق والدَّيِّن، وقالت المالكية: هو إقرارُ شهادة، فتعتبرُ فيه أهليةُ الشهادة، وحكى ابن القصار عن مذهب مالك: أن الورثة إذا أقرُّوا بالنسب، لحق، وإن لم يكونوا عدولاً، والمعروف من مذهب مالك خلافُه.
فصل
الثالث: البينة، بأن يشهد شاهِدانِ أنَّه ابنه، أو أنه وُلِدَ على فراشه مِن زوجتِه أو أمته، وإذا شهد بذلك اثنان من الورثة لم يلتفت إلى إنكار بقيتهم وثبت نسبة، ولا يُعرف فى ذلك نزاع.
فصل
الرابع: القافة، حكم رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقضاؤُه باعتبار القافة وإلحاق النسب بها.
ثبت فى "الصحيحين": من حديث عائشة رضى الله عنها قالت: دخل علىَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذاتَ يومٍ مسروراً تَبْرُقٌ أساريرُ وجهه، فقال: "أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ مُجَزِّزاً المُدْلِجِى نَظَر آنفاً إِلى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُؤُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فقال: إِنَّا هذِهِ الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ "، فَسُرَّ النبىّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقول القائف ولو كانت كما يقول المُنازِعُونَ مِن أَمر الجاهلية كالكهانة ونحوها لما سُرَّ بها، ولا أُعْجِبَ بِهَا، ولكانت بمنزلة الكَهانة. وقد صحَّ عنه وعيدُ مَن صَدَّق كاهناً. قال الشافعي: والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أثبته عِلماً، ولم يُنْكِره، ولو كان خطأ لأنكره، لأن فى ذلك قذفَ المحصَناتِ، ونفىَ الأنساب، انتهى.
كيف والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد صرَّح فى الحديث الصحيح بصحتها واعتبارها، فقال فى ولد الملاعنة: "إن جاءت به كذا وكذا فهو لهلالِ بنِ أمية، وإن جاءت به كذا وكذا فهو لشريك بن سَحْماء"، فلما جاءت به على شَبَهِ
الذى رُمِيَتْ به قال: "لَوْلاَ الأيْمَانُ لَكَانَ لِى وَلَهَا شَأْنٌ" وهل هذا إلا اعتبار للشبه وهو عينُ القافة، فإن القائِفَ يتبعُ أَثرَ الشبه، وينظرُ إلى من يتَّصِلُ، فيحكم به لصاحب الشبه، وقد اعتبر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشبه وبيَّن سببه، ولهذا لما قالت له أمٌّ سلمة: أو تحتلم المرأة، فقال: "مِمَّ يَكُونُ الشَّبَهُ".
وأخبر فى الحديث الصحيح، أن ماء الرَّجُل إذا سَبَقَ ماءَ المرأة، كان الشَّبَهُ لَهُ، وإِذا سَبَقَ مَأُوهَا مَاءَهُ، كان الشَّبَهُ لَهَا". فهذا اعتبار منه للشبه شرعاً وقدراً، وهذا أقوى ما يكون مِن طرق الأحكام أن يتوارَدَ عليه الخلقٌ والأمرُ والشرعُ والقدرُ ولهذا تبعه خلفاؤه الراشِدُونَ فى الحُكم بالقَافه.
قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، عن عمر فى امرأة وَطئهَا رجلانِ فى طهرٍ، فقال القائفُ، قد اشتركا فيه جميعاً، فجعلَه بينهما.
قال الشعبي: وعلى يقول: هو ابنُهما، وهما ابواه يرثانه، ذكره سعيد أيضاً.
وروى الأثرم بإسناده، عن سعيد بن المسيِّب، فى رجلين اشتركا فى طُهْرِ امرأةٍ فحملت، فولَدَتْ غُلاماً يُشبههما، فرُفِعَ ذلك إلى عمرَ
بنِ الخطاب، فدعا القافة فنظرُوا، فقالوا: نراه يُشِبهُهُمَا، فألحقه بهما، وجعَلَه يَرثُهما ويرثانه.
ولا يُعْرَفُ قطُّ فى الصحابة مَنْ خالف عمر وعلياً رضى الله عنهما فى ذلك، بل حكم عمر بهذا فى المدينة، وبحَضرته المهاجرون والأنصار، فلم يُنْكِرْهُ منهم منكر.
قال الحنفية: قد أجلبتم علينا فى القافة بالخيلِ والرَّجلِ، والحُكُمُ بالقيافة تعويلٌ على مجرَّد الشَّبه والظن والتخمين، ومعلوم أن الشَّبه قد يُوجد من الأجانب، وينتفى عن الأقارب، وذكرتُم قِصة أسامة وزيد، ونسيتُم قِصةَ الذى ولدت امرأتُه غلاماً أسود يُخالِفُ لونَهما، فلم يُمكنه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نفيه، ولا جَعَلَ للشبه ولا لِعدمه أثراً، ولو كان للِشبه أثر، لاكتفى به فى وَلدِ الملاعنة، ولم يحتج إلى اللعان، ولكان ينتظِرُ ولادته، ثم يُلحق بصاحب الشبه، ويستغنى بذلك عن اللعان بل كانَ لا يَصِحُّ نفيُه مع وجودِ الشبه بالزوج، وقد دَلَّت السنةُ الصحيحةُ الصريحة على نفيه عن الملاعين، ولو كان الشبه له، فإن النبىّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أَبْصِرُوها فإن جَاءَتْ بِهِ كَذَا وكَذَا، فَهُوَ لِهِلال بْنِ أُميَّة" ، وهذا قاله بعد اللِّعان ونفى النسب عنه فعُلِمَ أنه لو جاء على الشبه المذكور، لم يَثْبُتْ نسبُه منه، وإنما كان مجيئه على شبه دليلاً على كذبه، لا على لحوق الولد به.
قالوا: وأما قصةُ أسامةَ وزيدٍ، فالمنافقون كانوا يطعنون فى نسبه من زيد لمخالفة لونه لون أبيه، ولم يكونوا يكتفون بالفِراش، وحكم الله ورسُولُه فى أنه ابنُه، فلما شهد به القائفُ وافقت شهادتُه حكمَ اللهِ ورسوله، فسر به النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لموافقتِها حكمه، ولتكذيبها قولَ المنافقين، لا أنه أثبت نسبه بها، فأين فى هذا إِثباتُ النسب بقول القائف؟
قالوا: وهذا معنى الأحاديث التى ذكر فيها اعتبارُ الشبه، فإنها إنما اعتبرت فيه الشبه بنسب ثابت بغير القافة، ونحن لا نُنكرُ ذلك. قالوا: وأما حكم عمر وعلى، فقد اختُلِفَ على عمر، فرُوى عنه ما ذكرتُم، ورُوى عنه أن القائف لما قال له: قد اشتركا فيه، قال وَالِ أيَّهما شئت. فلم يعتبر قولَ القائف
قالوا: وكيف تقولون بالشبه، ولو أقر أحدُ الورثة بأخ، وأنكره الباقون، والشَّبَهُ موجود، لم تُثبِتُو النسبَ به، وقلُتم: إن لم تتفق الورثة على الإقرارِ به لم يثبُتِ النَّسَبُ؟.
قال أهلُ الحديث: مِن العجب أن يُنكِرَ علينا القولَ بالقافة، ويجعلَها مِن باب الحَدْسِ والتخمين مَنْ يُلْحِقُ ولدَ المشرقى بمن فى أقصى المغرب، مع القطع بأنهما لم يتلاقيا طرفةَ عين، ويلُحق الولَد باثنين مع القطع بأنه ليس ابناً لأحدهما، ونحنُ إنما ألحقنا الولدَ بقول القائف المستند إلى الشبه المعتبر شرعاً وقدراً، فهو إستناد إلى ظن غالب، ورأى راجح، وأمارة ظاهرة بقول من هو مِن أهل الخبرة، فهو أولى بالقبول مِن قول المقومين، وهل يُنكر مجىءُ كثير من الأحكام مستنداً إلى الأمارات الظاهرة، واالظنون الغالبة؟
وأما وجود الشبه بين الأجانب، وانتفاؤه بين الأقارب، وإن كان واقعاً فهو مِن أندر شىء وأقَلَّه، والأحكام إنما هى للغالب الكثير، والنادرُ فى حكم المعدوم.
وأما قصةُ من ولدت امرأتُه غلاماً أسود، فهو حجةٌ عليكم، لأنها
دليل على أن العادة التى فطر الله عليها الناسَ اعتبارُ الشبه، وأن خلافَه يُوجب ريبة، وأن فى طباع الخلق إنكارَ ذلك ولكن لما عارض ذلك دليلٌ أقوى منه وهو الفِراش، كان الحكمُ للدليل القوى، وكذلك نقول نحن وسائر الناس: إن الفراش الصحيح إذا كان قائماً، فلا يُعارَض بقافة ولا شَبَهِ، فمخالفةُ ظاهر الشبه لدليلٍ أقوى منه وهو الفِراشُ غيرُ مستنكر، وإنما المستنكرُ مخالفةُ هذا الدليل الظاهر بغير شىء.
وأما تقديمُ اللعان على الشبه، وإلغاءُ الشبه مع وجوده، فكذلك أيضاً هو مِن تقديم أقوى الدليلين على أضعفهما، وذلك لا يمنع العملَ بالشبه مع عدم ما يُعارضه، كالبينة تُقدم على اليد والبراءة الأصلية، ويُعمل بهما عند عدمهما. وأما ثبوتُ نسبِ أسامة من زيد بدون القيافة، فنحن لم نُثبت نسبه بالقيافة، والقيافةُ دليل آخر موافق لدليل الفِراش، فسرورُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفرجُه بها، واستبشارُه لتعاضُد أدلة النسب وتضافرها، لا لإثبات النسب بقولِ القائف وحدَه، بل هو من باب الفرح بظهور أعلامِ الحق وأدلته وتكاثرها، ولو لم تصلُحِ القيافةُ دليلاً لم يَفْرَحْ بها ولم يُسر، وقد كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرح ويُسر إذا تعاضدت عنده أدلةُ الحق، ويُخبر بها الصحابةَ، ويُحب أن يسمعوها من المخبر بها، لأن النفوسَ تزدادُ تصديقاً بالحق إذا تعاضدت أدلته، وتُسُّر به وتفرح، وعلى هذا فطر اللهُ عباده، فهذا حكم اتفقت عليه الفطرة والشرعة وبالله التوفيق.
وأما ما رُوى عن عمر أنه قال: وَالِ أيهما شئت، فلا تعرف صحته عن عمر، ولو صحّ عنه لكان قولاً عنه، فإن ما ذكرنا عنه فى غاية
الصحة، مع أن قوله: وال أيهما شئت ليس بصريح فى إبطال قول القائف، ولو كان صريحاً فى إبطال قوله، لكان فى مثل هذا الموضع إذا ألحقه باثنين، كما يقوله الشافعى ومن وافقه.
وأما إذا أقر أحدُ الورثة بأخ، وأنكره الباقون، فإنما لم يثبُتْ نسبُه لمجرد الإقرار، فأما إذا كان هناك شبهٌ يستنِدُ إليه القائف، فإنه لا يُعتبر إنكارُ الباقين، ونحن لا نقصُر القَافَةَ على بنى مُدْلِج، ولا نعتبِرُ تعدد القائف، بل يكفى واحد على الصحيح بناء على أنه خبر، وعن أحمد رواية أخرى: أنه شهادة، فلا بد من اثنين، ولفظُ الشهادة بناء على اشتراط اللفظ.
فإن قيل: فالمنقول عن عمر أنه ألحقه بأبوين، فما تقولون فيما إذا ألحقته القافة بأبوين، هل تُلحِقُونه بهما، أو لا تُلحقونه إلا بواحدٍ، وإذا ألحقتمُوه بأبوين، فهل يختصُّ ذلك باثنين، أم يلحقُ بهم وإن كثروا، وهل حُكمُ الاثنين فى ذلك حكم الأبوين أم ماذا حُكمهما؟
قيل: هذه مسائل فيها نزاع بين أهل العلم، فقال الشافعى ومن وافقه: لا يُلحق بأبوين، ولا يكون للرجل إلا أبٌ واحد، ومتى ألحقته القافة باثنين، سقط قولُها، وقال الجمهورُ: بل يلحق باثنين، ثم اختلفوا، فنص أحمد فى رواية مهنا بن يحيى: أنه يُلحق بثلاثة، وقال صاحب المغنى: ومقتضى هذا أنه يُلحق بمن أحلقته القافةُ به وإن كثروا، لأنه إذا جاز إلحاقُه باثنين، جاز إلحاقه بأكثرَ من ذلك وهذا مذهبُ أبى حنيفة، لكنه لا يقولُ بالقافة، فهو يُلحقه بالمدَّعين وإن كثروا، وقال القاضى: يجب أن لا يُلحق بأكثر من ثلاثة، وهو قولُ محمد بن الحسن،
وقال ابنُ حامد: لا يُلحق بأكثرَ من اثنين، وهو قولُ أبى يوسف، فمن لم يُلحقه بأكثرَ من واحد، قال: قد أجرى الله سبحانه عادته أن للولد أباً واحداً، وأماً واحدة، ولذلك يُقال: فلانُ ابن فلان، وفلان ابن فلانه فقط. ولو قيل: فلان ابن فلان وفلان، لكان ذلك منكراً، وعُد قذفاً، ولهذا إنما يُقال يومَ القيامة: أين فُلان بن فلان؟ وهذه غَدْرَةُ فلان بن فلان، ولم يُعهد قطُّ فى الوجود نسبة ولد إلى أبوين قط، ومن ألحقه باثنين، احتج بقول عمر، وإقرار الصحابة له على ذلك، وبأن الولد قد ينعقِدُ من ماء رجلين، كما ينعقد من ماء الرجل والمرأة، ثم قال أبو يوسف: إنما جاء الأثرُ بذلك، فيُقتصر عليه. وقال القاضى: لا يتعدى به ثلاثة، لأن أحمد إنما نص على الثلاثة، والأصل ألا يُلحق بأكثرَ مِن واحد، وقد دل قول عمر على إلحاقه باثنين مع انعقاده من ماء الأم، فدل على إمكان انعقاده من ماء ثلاثة، وما زاد على ذلك، فمشكوكٌ فيه.
قال المُلْحِقُونَ له بأكثرَ مِن ثلاثة: إذا جاز تخليقه من ماء رجلين وثلاثة، جاز خلقُه مِن ماء أربعة وخمسة، ولا وجه لاقتصاره على ثلاثة فقط، بل إما أن يُلحق بهم وإن كُثروا، وإما أن لا يتعدى به أحد، ولا قول سوى القولين والله أعلم.
فإن قيل: إذا اشتمل الرحمُ على ماء الرجل، وأراد الله أن يخلُق منه الولدَ، انضم عليه أحكمَ انضمام، وأتمّه حتى لا يَفٍسُدَ، فكيف يدخل عليه ماء آخر؟ قيل: لا يمتنِعُ أن يَصِلَ الماءُ الثانى إلى حيث وصل الأول، فينضم عليهما، وهذا كما أن الولدَ ينعقِد من ماءِ الأَبَويْنِ، وقد سبق ماءُ الرجل ماء المرأة أو بالعكس، ومع هذا فلا يمتنِعُ وصولُ الماء الثانى إلى حيث وصل الأول، وقد علِم بالعادة أن الحامل إذا تُوبع وطؤها،
جاء الولد عبل الجسم ما لم يُعارِضْ ذلك مانع، ولهذا ألهم الله سبحانَه الدوابَّ إذا حملت أن لا تُمكِّنَ الفحلَ أن ينزوَ عليها، بل تَنْفِرُ عنه كُلَّ النِّفار، وقال الإمام أحمد: إن الوطء الثانى يزيد فى سمع الولد وبصره، وقد شبَّهه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسقى الزرع، ومعلومٌ أن سقيَه يزيدُ فى ذاته والله أعلم.
فإن قيل: فقد دلَّ الحديثُ على حكم استلحاق الولد، وعلى أن الولد للفراش، فما تقولون لو استلحق الزانى ولداً لا فِراش هُناك يُعارضه، هل يلحقُه نسبُه، ويثبتُ له أحكامُ النسب؟
قيل: هذه مسألة جليلة اختلف أهلُ العلم فيها، فكان إسحاق بن راهويه يذهبُ إلى أن المولودَ مِن الزِّنى إذا لم يكن مولوداً على فراش يدَّعيه صاحبه، وادعاه الزانى، أُلحِقَ به، وأوَّل قول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الولد للفراش"، على أنه حكم بذلك عند تنازُع الزانى وصاحب الفراش، كما تقدم، وهذا مذهب الحسن البصرى، رواه عنه إسحاق بإسناده، فى رجل زنى بامرأة، فولدت ولداً، فادَّعى ولدَها فقال: يُجلد ويلزمُه الولد، وهذا مذهبُ عروة بن الزبير، وسليمانَ بن يسار ذكر عنهما أنهما قالا: أيُّما رجل أتى إلى غلام يزعم أنه ابن له، وأنه زنى بأمه ولم يَدَّعِ ذلك الغلامَ أحد، فهو ابنُه، واحتج سليمان، بأن عمر بن الخطاب كان يُلِيطُ أولادَ الجاهلية بمن ادعاهم فى الإسلام، وهذا المذهبُ كما تراه قوة ووضوحاً، وليس مع الجمهور أكثرُ مِن "الولد للفراش"
وصاحبُ هذا المذهب أوَّلُ قائل به، والقياسُ الصحيح يقتضيه، فإن الأبَ أحدُ الزانيين، وهو إذا كان يلحق بأمه، وينسب إليها وترثه ويرثُها، ويثبت النسب بينه وبين أقارب أمه مع كونها زنت به، وقد وُجِدَ الولدُ مِن ماء الزانيين، وقد اشتركا فيه، واتفقا على أنه ابنهُما، فما المانِعُ مِن لحوقه بالأب إذا لم يدَّعِهِ غيرُه؟ فهذا محضُ القياس، وقد قال جريج للغلام الذى زنت أمُّه بالراعى: من أبوك يا غلام؟ قال: فلان الراعى، وهذا إنطاق من الله لا يُمكن فيه الكذبُ.
فإن قيل: فهل لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى هذه المسألة حُكم؟ قيل: قد رُوى عنه فيها حديثانِ، نحن نذكرُ شأنهما.
فصل: ذكر حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في استلحاقِ ولد الزنى وتوريثه
ذكر أبو داود في "سننه": من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا مساعاة في الإسلام، من ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته، ومن ادعى ولدا من غير رشدة، فلا يرث ولا يورث".
المساعاة: الزنى، وكان الأصمعي يجعلها في الإماء دون الحرائر، لأنهن يسعين لمواليهن، فيكتسبن لهم، وكان عليهن ضرائب مقررة،
فأبطل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المساعاة في الاسلام، ولم يلحق النسب بها، وعفا عما كان في الجاهلية منها، وألحق النسب به. وقال الجوهري: يقال: زنى الرجل وعهر، فهذا قد يكون في الحرة والأمة، ويقال في الأمة خاصة: قد ساعاها. ولكن في إسناد هذا الحديث رجل مجهول، فلا تقوم به حجة. وروى أيضا في "سننه" من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده "أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قضى أن كل مستلحق استلحق بعد أبيه الذي يدعى له، ادعاه ورثته، فقضى أن كل من كان من أمة يملكها يوم أصابها، فقد لحق بمن استلحقه، وليس له مما قسم قبله من الميراث، وما أدرك من ميراث لم يقسم، فله نصيبه، ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره، وإن كان من أمة لم يملكها، أو من حرة عاهر بها، فإنه لا يلحق ولا يرث، وإن كان الذي يدعى له هو ادعاه، فهو من ولد زني من حرة كان أو أمة".
وفي رواية: "وهو ولد زنى لأهل أمه من كانوا حرة أو أمة". وذلك فيما استلحق في أول الإسلام، فما اقتسم من مال قبل الإسلام، فقد مضى" وهذا لأهل الحديث في إسناده مقال، لأنه من رواية محمد بن راشد المكحولي. وكان قوم في الجاهلية لهم إماء بغايا، فإذا ولدت أمة أحدهم وقد وطئها غيره بالزنى، فربما ادعاه سيدها، وربما ادعاه الزاني، واختصما
في ذلك، حتى قام الإسلام، فحكم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالولد للسيد، لأنه صاحب الفراش، ونفاه على الزاني. ثم تضمن هذا الحديث أمورا. منها: أن المستلحق إذا استلحق بعد أبيه الذي يدعى له ادعاه ورثته، فإن كان الولد من أمة يملكها الواطىء يوم أصابها، فقد لحق بمن استلحقه، يعني إذا كان الذي استلحقه ورثة مالك الأمة، وصار ابنه من يومئذ، ليس له مما قسم قبله من الميراث شيء، لأن هذا تجديد حكم نسبه، ومن يومئذ يثبت نسبه، فلا يرجع بما اقتسم قبله من الميراث، إذ لم يكن حكم البنوة ثابتا، وما أدرك من ميراث لم يقسم، فله نصيبه منه، لأن الحكم ثبت قبل قسمه الميراث، فيستحق منه نصيبه، وهذا نظير من أسلم على ميراث قبل قسمه، قسم له في أحد قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وإن أسلم بعد قسم الميراث، فلا شيء له، فثبوت النسب هاهنا بمنزلة الإسلام بالنسبة إلى الميراث. قوله: "ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره" هذا، يبين أن التنازع بين الورثة، وأن الصورة الأولى أن يستلحقه ورثة أبيه الذي كان يدعى له، وهذه الصورة إذا استلحقه ورثته وأبوه الذي يدعى له كان ينكر، فإنه لا يلحق، لأن الأصل الذي الورثة خلف عنه منكر له، فكيف يلحق به مع إنكاره؟ فهذا إذا كان من أمة يملكها، أما إذا كان من أمة لم يملكها، أو من حرة عاهر بها، فانه لا يلحق، ولا يرث، وإن ادعاه الواطىء وهو ولد زنية من أمة كان أو من حرة، وهذا حجة الجمهور على إسحاق ومن قال بقوله: إنه لا يلحق بالزانى إذا ادعاه، ولا يرثه، وأنه ولد زنى لأهل أمه من كانوا حرة كانت أو أمة.
وأما ما اقتسم من مال قبل الإسلام، فقد مضى، فهذا الحديث يرد قول إسحاق ومن وافقه، لكن فيه محمد بن راشد، ونحن نحتج بعمرو بن شعيب، فلا يعلل الحديث به، فإن ثبت هذا الحديث، تعين القول بموجبه، والمصير إليه، وإلا فالقول قول إسحاق ومن معه، والله المستعان.
ذكر الحكم الذي حكم به علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الجماعة الذين وقعوا على امرأة في طهر واحد، ثم تنازعوا الولد، فأقرع بينهم فيه، ثم بلغ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضحك ولم ينكره
ذكر أبو داود والنسائي في "سننهما"، من حديث عبد الله بن الخليل، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء رجل من أهل اليمن، فقال: إن ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا عليا يختصمون إليه في ولد، قد وقعوا على امرأة في طهر واحد، فقال لاثنين: طيبا بالولد لهذا فغليا، ثم قال لاثنين: طيبا بالولد لهذا، فغليا، ثم قال لاثنين: طيبا بالولد لهذا، فغليا، فقال: أنتم شركاء متشاكسون، إني مقرع بينكم، فمن قرع، فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا الدية، فأقرع بينهم، فجعله لمن قرع، فضحك رسول الله حتى بدت أضراسه أو نواجذه. وفي إسناده يحيى بن عبد الله الكندي الأجلح ولا يحتج بحديثه، لكن رواه أبو داود والنسائي بإسناد كلهم ثقات إلى عبد خير، عن زيد بن أرقم. قال: أتي علي بن أبي طالب بثلاثة وهو باليمن وقعوا على امرأة في طهر واحد، فسأل اثنين  أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا، حتى سألهم جميعا، فجعل كلما سأل اثنين قالا: لا، فأقرع بينهم، فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة، وجعل عليه ثلثي الدية، قال: فذكر ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضحك حتى بدت نواجذه. وقد أعل هذا الحديث بأنه روي عن عبد خير بإسقاط زيد بن أرقم، فيكون مرسلا. قال النسائي: وهذا أصوب. وهذا أعجب، فإن إسقاط زيد بن أرقم من هذا الحديث لا يجعله مرسلا، فإنه عبد خير أدرك عليا وسمع منه، وعلي صاحب القصة، فهب أن زيد بن أرقم لا ذكر له في السند فمن أين يجيء الإرسال، إلا أن يقال: عبد خير لم يشاهد ضحك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلي إذ ذاك كان باليمن، وإنما شاهد ضحكه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد بن أرقم أو غيره من الصحابة وعبد خير لم يذكر من شاهد ضحكه، فصار الحديث به مرسلا. فيقال: إذا: قد صح السند عن عبد خير، عن زيد بن أرقم، متصلا، فمن رجح الاتصال، لكونه زيادة من الثقة فظاهر، ومن رجح رواية الأحفظ والأضبط، وكان الترجيح من جانبه ولم يكن علي قد أخبره بالقصة، فغايتها أن تكون مرسلة، وقد يقوى الحديث بروايته من طريق أخرى متصلا.
وبعد، فاختلف الفقهاء في هذا الحكم، فذهب إليه إسحاق بن راهويه، وقال: هو السنة في دعوى الولد، وكان الشافعي يقول به في القديم، وأما الامام أحمد، فسئل عن هذا الحديث، فرجح عليه حديث القافة، وقال: حديث القافة أحب إلي.
وهاهنا أمران، أحدهما: دخول القرعة في النسب، والثاني.......يتبع إن شاء الله الصفحة التالية 6//3



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق