الاثنين، 14 مايو 2018

ج4//1 زاد المعاد ج ٤ / ١



ج4//1 زاد  المعاد   ج ٤ / ١
ج4 زاد المعاد ابن قيم الجوزية
الغانمون رباعها ودورَها، وكانوا أحقَّ بها مِن أهلها، وجاز إخراجهم منها، فحيثُ لم يحكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها بهذا الحُكم، بل لم يَرُدَّ على المهاجرين دُورَهُم التى أُخْرِجُوا منها، وهى بأيدى الذين أخرجوهم، وأقرَّهم على بيع الدور وشرائها وإجارتها وسكناها، والانتفاع بها، وهذا مناف لأحكام فتوح العَنوة، وقد صرَّح بإضافة الدُور إلى أهلها، فقال: "مَنْ دَخَلَ دَارَ أبى سُفْيَانَ، فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُ، فَهُوَ آمِنٌ".
قال أرباب العَنوة: لو كان قد صالحهم لم يكن لأمانه المقيَّد بدخول كُلِّ واحد داره، وإغلاقِه بابه، وإلقائه سلاحه فائدة، ولم يُقاتِلْهم خالدُ بن الوليد حتى قتل منهم جماعة، ولم يُنكر عليه، ولَمَا قَتَلَ مَقيسَ بن صُبابة، وعبدَ الله بن خَطَلٍ ومَن ذُكِرَ معهما، فإن عقد الصلح لو كان قد وقع، لاستثنى فيه هؤلاء قطعاً، ولنقل هذا وهذا، ولو فُتِحَتْ صُلحاً، لم يُقاتِلْهم، وقد قال: "فإنْ أحَدٌ ترخَّصَ بقتال رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُولُوا: إنَّ اللهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ"، ومعلوم أن هذا الإذن المختصَّ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما هو الإذن فى القتال لا فى الصلح، فإن الإذن فى الصلح عام.
وأيضاً فلو كان فتحُها صلحاً، لم يقل: إن الله قد أحلَّها له ساعةً من نهار، فإنها إذا فُتِحَت صُلحاً كانت باقية على حُرْمتها، ولم تخرج بالصُّلْح عن الحُرْمة، وقد أخبر بأنها فى تلك الساعة لم تكن حراماً، وأنها بعد انقضاء ساعة الحربِ عادت إلى حُرْمتها الأُولى.
وأيضاً فإنها لو فُتِحَتْ صُلحاً لم يعبئْ جيشه: خيالَتهم ورجالَتهم مَيمنةً ومَيسرة، ومعهم السِّلاح، وقال لأبى هريرة: "اهتِفْ لى بالأنصَارِ"، فهتفَ بهم، فجاؤوا، فأطافُوا برسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "أَتَروْنَ إلى أوْبَاشِ قُرَيْش وأتْبَاعِهِمْ"، ثم قال بيديه إحداهما على الأُخرى: "احْصُدُوهُمْ
حَصْدَاً حَتَّى توافُونى عَلَى الصَّفَا" ، حتى قال أبو سفيان: يا رسول الله ؛ أُبيحت خضراءُ قريش، لا قريشَ بعد اليوم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ، فَهُوَ آمِنٌ ". وهذا محال أن يكون مع الصلح، فإن كان قد تقدَّم صلح وكَلاَّ فإنه ينتقِضُ بدون هذا.
وأيضاً فكيف يكون صلحاً، وإنما فُتِحت بإيجاف الخيلِ والرِّكاب، ولم يَحبِسِ اللهُ خيلَ رسوله ورِكابه عنها، كما حبسها يومَ صُلح الحُدَيبية، فإن ذلكَ اليوم كان يوم الصلح حقاً، فإن القَصواء لما بركت به، قالوا: خَلأَتِ القَصْوَاءُ، قال: "ما خلأت وما ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ"، ثم قال: "واللهِ لاَ يَسْأَلُونى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فًيهَا حُرْمَةً مِنْ حُرُماتِ الله إلاَّ أَعْطَيْتُهُمُوهَا".
وكذلك جرى عقدُ الصلح بالكتاب والشهود، ومحضر ملإٍ من المسلمين والمشركين، والمسلمون يومئذ ألف وأربعمائة، فجرى مثلُ هذا الصلح فى يومِ الفتح، ولا يُكتب ولا يُشهد عليه، ولا يحضُرُه أحد، ولا ينقل كيفيته والشروط فيه، هذا مِن الممتنع البيِّنِ امتناعه، وتأمل قوله: "إن اللهَ حَبَسَ عَنْ مكَّةَ الفيلَ، وسلَّط عليها رسولَه والمؤمنين"، كيف يُفهم منه أن قهر رسوله وجنده الغالبين لأهلها أعظم من قهر الفيل الذى كان يدخُلها عليهم عَنوة، فحبسه عنهم، وسلَّط رسولَه والمؤمنين عليهم حتى فتحوها عَنوة بعد القهر، وسلطان العَنوة، وإذلال الكفر وأهله، وكان ذلك أجَلَّ قدراً، وأعظمَ خطراً، وأظهرَ آيةً، وأتمَّ نُصرةً، وأعلى كلمةً من أن يُدخلهم تحت رِقِّ الصلح، واقتراحِ العدو وشروطهم، ويمنعهم سلطان العَنوة وعِزَّها وظفرها فى أعظم فتح فتحه على رسوله، وأعزَّ به دينه، وجعله آيةً للعالمين.
قالوا: وأما قولكم: إنها لو فُتِحَت عَنوة، لقُسِمت بين الغانمين، فهذا مبنىٌ على أن الأرض داخلةٌ فى الغنائم التى قسمها اللهُ سبحانه بين الغانمين بعد تخميسها، وجمهورُ الصحابة والأئمةِ بعدهم على خِلافِ ذلك، وأن الأرض ليست داخلة فى الغنائم التى تجب قسمتُها، وهذه كانت سيرةَ الخُلفَاءِ الراشدين، فإن بلالاً وأصحابَه لما طلبوا مِن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن يقسِمَ بينهم الأرض التى افتتحوها عَنوة وهى الشامُ وما حولها، وقالوا له: خُذ خُمسها واقسِمْهَا، فقال عمر: هذا غيرُ المال، ولكن أحبسه فَيْئاً يجرى عليكم وعلى المسلمين، فقال بلال وأصحابه رضى الله عنهم: اقسمها بينَنَا، فقال عمر: "اللهُمَّ اكْفِنِى بلالاً وذَوِيهِ"، فما حال الْحَوْلُ ومنهم عين تَطْرِفُ، ثم وافق سائِرُ الصحابة رضى الله عنهم عمرَ رضى الله عنه على ذلك، وكذلك جرى فى فتوح مِصرَ والعِراق، وأرض فارس، وسائرِ البلاد التى فُتحتْ عَنوة لم يَقْسِمْ منها الخلفاءُ الراشدون قريةً واحدة.
ولا يَصحُّ أن يُقال: إنه استطابَ نفوسَهم، ووقفها برضاهم، فإنَّهم قد نازعُوهُ فى ذلك، وهو يأبى عليهم، ودعا على بلالٍ وأصحابه رضى الله عنهم وكان الذى رآه وفعله عَيْنَ الصواب ومحضَ التوفيق، إذ لو قُسِمَتْ، لتوارثها ورثةُ أُولئك وأقاربُهم، فكانت القريةُ والبلدُ تصير إلى امرأة واحدة، أو صبىٍّ صغير، والمقاتلة لا شئ بأيديهم، فكان فى ذلك أعظمُ الفسادِ وأكبرُه، وهذا هو الذى خاف عمرُ رضى الله عنه منه، فوفَّقه الله سبحانه لترك قسمة الأرض، وجعلها وقفاً على المقتالةِ تجرى عليهم فَيْئاً حتى يغزوَ منها آخِرُ المسلمين، وظهرت بركةُ رأيه ويُمنه على الإسلام وأهله، ووافقه جمهور الأئمة.
واختلفوا فى كيفية إبقائها بلا قسمة، فظاهر مذهب الإمام أحمد وأكثرُ نصوصه، على أن الإمام مخيَّر فيها تخييرَ مصلحة لا تخييرَ شهوة، فإن كان الأصلحُ للمسلمين قسمتَها، قسمها، وإن كان الأصلحُ أن يَقِفَها على جماعتهم، وقفها، وإن كان الأصلح قِسمة البعضِ ووقفَ البعض، فعلَه، فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل الأقسام الثلاثة، فإنه قَسَمَ أرض قُريظة والنًَّضير، وترك قِسمة مكة، وقسمَ بعضَ خيبر، وترك بعضَها لما يَنُوبُه مِن مصالح المسلمين.
وعن أحمد روايةٌ ثانية: أنها تصير وقفاً بنفس الظهور والاستيلاء عليها من غير أن يُنشئ الإمام وقفها، وهى مذهب مالك.
وعنه رواية ثالثة: أنه يقسِمُها بين الغانمين كما يَقْسِمُ بينهم المنقولَ، إلا أن يتركوا حقوقَهم منها، وهى مذهب الشافعى.
وقال أبو حنيفة: الإمام مخيَّر بين القسمة، وبين أن يُقِرَّ أربابَها فيها بالخراج، وبين أن يُجلىَهم عنها وينفذ إليها قوماً آخرين يضرِبُ عليهم الخراجَ.
وليس هذا الذى فعل عمرُ رضى الله عنه بمخالفٍ للقرآن، فإن الأرض ليست داخلةً فى الغنائم التى أمر الله بتخميسها وقسمتها، ولهذا قال عمر: إنها غيرُ المال، ويدل عليه أن إباحةَ الغنائم لم تكن لغير هذِه الأُمة، بل هو مِن خصائصها، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الحديث المتفق على صحته: "وَأُحِلَّتْ لى الغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلُّ لأَحد قَبْلِى" ، وقد أحلَّ اللهُ سبحانه الأرض التى كانت بأيدى الكفارِ لمن قبلنا مِن أتباع الرسل إذا استوْلَوْا عليها عَنوة، كما أحلَّها لِقوم موسى، فلهذا قال موسى لقومه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُواْ الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّواْ عَلَى أَدْبارِكُمْ
فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21]. فموسى وقومُه قاتلوا الكُفَّارَ، واستولَوْا على ديارهم وأموالهم، فجمعُوا الغنائِم، ثمَّ نزلت النارُ مِن السماء فأكلتها، وسكنُوا الأرض والدِّيار، ولم تُحَرَّم عليهم، فعُلِم أنها ليست مِن الغنائمِ، وأنها للهِ يُورِثُها مَنْ يشاء.
فصل
وأما مكة، فإن فيها شيئاً آخر يمنع مِن قسمتها ولو وجبت قسمةُ ما عداها مِن القُرى، وهى أنها لا تُملك، فإنها دارُ النُّسُك، ومتعبَّدُ الخلق، وحرَمُ الربِّ تعالى الذى جعله للناس سواءً العاكِفُ فيه والباد، فهى وقف من الله على العالمين، وهم فيها سواء، ومِنَى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ، قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ والْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ، وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الحج: 25]، والمسجد الحرام هنا، المراد به الحرم كُلُّهُ، كقوله تعالى: { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}[التوبة: 28]. فهذا المرادُ به الحرم كُلُّه، وقولُه سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}[الإسراء: 1] ، وفى الصحيح: أنه أُسْرِىَ به مِّنَ بيت أُم هانئ، وقال تعالى: {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[البقرة: 196]
وليس المراد به حضورَ نفس موضع الصلاة اتفاقاً، وإنما هو حضورُ الحرم والقُرب منه، وسياقُ آية الحج تدُلُّ على ذلك، فإنه قال: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، وهذا لا يختصُّ بمقام الصلاةِ قطعاً، بل المراد به الحَرَمُ كُلُّه، فالذى جعله للناس سواءً العاكف فيه والباد، هو الذى توعَّد مَنْ صَدَّ عنه، ومَن أراد الإلحادَ بالظلم فيه، فالحرمُ ومشاعرُه كالصَّفا والمروة، والمسعى ومِنَى، وعَرَفَة، ومُزْدَلِفَة، لا يختصُّ بها أحدٌ دونَ أحد، بل هى مشتركة بين الناس، إذ هى مَحلُّ نُسُكهم ومتعبدِهم، فهى مسجد من الله، وقفه ووضعه لخلقه، ولهذا امتنع النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُبنى له بيت بمِنَى يُظِلُّه من الحر، وقال: "مِنَى مُناخُ مَن سَبَقَ".
ولهذا ذهب جمهورُ الأئمةِ مِن السَّلَف والخَلَف، إلى أنه لا يجوزُ بيعُ أراضى مكة، ولا إجارةُ بيوتها، هذا مذهبُ مجاهد وعطاء فى أهل مكة، ومالك فى أهل المدينة، وأبى حنيفة فى أهل العراق، وسفيان الثورى، والإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه.
وروى الإمام أحمد رحمه الله، عن علقمة بن نضلة، قال: كانت رِباعُ مكة تُدعى السَّوائب على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبى بكر وعمر، مَن احتاج سكن، ومَن استغنى أسكن.
وروى أيضاً عن عبد الله بن عمر: "مَن أكل أُجُورَ بيوتِ مكة، فإنما يأكُلُ فى بطنه نار جهنم" رواه الدارقطنى مرفوعاً إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيه: "إنَّ الله حَرَّمَ مَكَّة، فَحَرامٌ بَيْعَ رِبَاعِهَا وأَكْلُ ثَمَنِهَا".
وقال الإمام أحمد: حدثنا معمر، عن لَيْثٍ، عن عطاء، وطاووس،
ومجاهد، أنهم قالوا: يُكره أن تُباع رِباعُ مكَّة أو تُكرى بيوتها.
وذكر الإمام أحمد، عن القاسم بن عبد الرحمن، قال: مَن أكل من كِراء بيوتِ مكة، فإنما يأكُلُ فى بطنه ناراً.
وقال أحمد: حدَّثنا هُشيم، حدَّثنا حجَّاج، عن مجاهد، عن عبد الله ابن عمر، قال: نَهَى عَنْ إجارَةِ بُيوتِ مَكَّة وعَنْ بَيْعِ رَباعِهَا، وذكر عن عطاء، قال: نهى عن إجارة بيوتِ مكة.
وقال أحمد: حدَّثنا إسحاق بن يوسف قال: حدَّثنا عبد الملك، قال: كتب عُمَرُ بنُ عبد العزيز إلى أمير أهل مكة ينهاهم عن إجارة بيوتِ مكة، وقال: إنه حرام، وحكى أحمد عن عمر، أنه نهى أن يتَّخِذَ أهلُ مكَّة للدورِ أبواباً، لِينزِلَ البادى حيث شاء، وحكى عن عبد الله بن عمر، عن أبيه، أنه نهى أن تُغْلَقَ أبوابُ دورِ مكة، فنهى مَن لا باب لداره أن يتَّخِذَ لها باباً، ومَن لداره باب أن يُغْلِقَه، وهذا فى أيام المَوْسِم.ِ
قال المجوِّزون للبيع والإجارة: الدليلُ على جواز ذلك، كتابُ الله وسُنَّةُ رسولِه، وعملُ أصحابه وخُلفائه الراشدين. قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ}[الحشر: 8]، وقال: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ}[آل عمران: 195]، وقال: {إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ}[الممتحنة: 9] فأضاف الدورَ إليهم، وهذه إضافة تمليك، وقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قيل له: أين تنزِلُ غداً بدارك بمكة؟ فقال: "وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِباعٍ" ، ولم يقل: إنه لا دار لى، بل أقرَّهم على الإضافة، وأخبر أن عقيلاً استولى عليها ولم ينزِعْهَا مِن يده،
وإضافةُ دورهم إليهم فى الأحاديث أكثرُ من أن تُذكر، كدار أُم هانىء، ودار خديجة، ودار أبى أحمد بن جحش وغيرها، وكانوا يتوارثُونها كما يتوارثون المنقولَ، ولهذا قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِلِ"، وكان عقيل هو ورث دورَ أبى طالب، فإنه كان كافراً، ولم يرثه على رضى الله عنه، لاختلاف الدينِ بينهما، فاستولى عَقِيلٌ على الدور، ولم يزالوا قبل الهجرة وبعدها، بل قبل المبعث وبعده، مَن مات، ورِثَ ورثتُه داره إلى الآن، وقد باع صفوانُ بنُ أُميَّة داراً لعمر بن الخطاب رضى الله عنه بأربعة آلاف درهم، فاتخذها سجناً، وإذا جاز البيعُ، والميراثُ، فالإجارة أجْوزُ وأجوز، فهذا موقف أقدام الفريقين كما ترى، وحججُهم فى القوة والظهور لا تُدفع، وحُجج الله وبيناتُه لا يُبطِلُ بعضُها بعضاً بل يُصَدِّقُ بعضُهَا بعضاً، ويجبُ العملُ بموجبها كُلِّهَا، والواجبُ اتباعُ الحق أين كان.
فالصوابُ القولُ بموجب الأدلة مِن الجانبين، وأنَّ الدورَ تملك، وتُوهب، وتُورث، وتُباع، ويكون نقلُ الملك فى البناء لا فى الأرض والعرصة، فلو زال بناؤه، لم يكن له أن يبيعَ الأرض، وله أن يَبنيها ويُعيدَها كما كانت، وهو أحقُّ بها يسكُنها ويُسْكِنُ فيها مَن شاء، وليس له أن يُعاوض على منفعة السكنى بعقد الإجارة، فإن هذه المنفعة إنما يستحق إن يقدَّم فيها على غيره، ويختصُ بها لسبقه وحاجته، فإذا استغنى عنها، لم يكن له أن يُعاوض عليها، كالجلوس فى الرِّحاب، والطرقِ الواسعة، والإقامة على المعادن وغيرها من المنافع والأعيان المشتركة التى مَن سبق إليها، فهو أحق بها ما دام ينتفع، فإذا استغنى، لم يكن له أن يُعاوض، وقد صرَّح أربابُ هذا القول بأن البيعَ ونقلَ الملك فى رباعها إنما يقع على البناء لا على الأرض، ذكره أصحاب أبى حنيفة.
فإن قيل: فقد منعتم الإجارة، وجوَّزتُم البيع، فهل لهذا نظيرٌ فى الشريعة، والمعهود فى الشريعة أن الإجارة أوسعُ من البيع، فقد يمتنع البيع، وتجوز الإجارة، كالوقف والحر، فأما العكس، فلا عهد لنا به؟.
قيل: كُلُّ واحد من البيع والإجارة عقدٌ مستقل غيرُ مستلزم للآخر فى جوازه وامتناعه، وموردهما مختلِف، وأحكامُهما مختلفة، وإنما جاز البيعُ، لأنه وارد على المحل الذى كان البائعُ أخصَّ به من غيره، وهو البناء، وأما الإجارة فإنما ترد على المنفعة، وهى مشتركة، وللسابق إليها حقُّ التقدم دون المعاوضة، فلهذا أجزنا البيع دون الإجارة، فإن أبيتم إلا النظيرَ، قيل: هذا المكاتبُ يجوزُ لسيده بيعُه، ويصيرُ مكاتباً عند مشتريه، ولا يجوزُ له إجارتُه إذ فيها إبطالُ منافعه وأكسابه التى ملكها بعقد الكتابة، والله أعلم. على أنه لا يمنعُ البيع، وإن كانت منافع أرضها ورباعها مشتركةً بين المسلمين، فإنها تكون عند المشترى كذلك مشتركة المنفعة، إن احتاج سكن، وإن استغنى أسكن كما كانت عند البائع، فليس فى بيعها إبطالُ اشتراك المسلمين فى هذه المنفعة، كما أنه ليس فى بيع المكاتب إبطالُ ملكه لمنافعه التى ملكها بعقد المكاتبة، ونظيرُ هذا جوازُ بيع أرض الخَراج التى وقفها عمر رضى الله عنه على الصحيح الذى استقر الحال عليه من عمل الأُمة قديماً وحديثاً، فإنها تنتقل إلى المشترى خَراجية، كما كانت عند البائع، وحق المقاتلة إنما هو فى خَراجها، وهو لا يَبْطُلُ بالبيع، وقد اتفقت الأُمة على أنها تُورث، فإن كان بطلان بيعها لكونها وقفاً، فكذلك ينبغى أن تكون وقفيتها مبطلة لميراثها، وقد نصّ أحمد على جواز جعلها صداقاً فى النكاح، فإذا جاز نقلُ الملك فيها بالصداق والميراث والهبة، جاز البيعُ فيها قياساً، وعملاً، وفقهاً.. والله أعلم.
فصل
فإذا كانت مكةُ قد فُتِحَتْ عَنوة، فهل يُضرب الخراجُ على مزارعها كسائر أرض العَنوة، وهل يجوز لكم أن تفعلوا ذلك أم لا؟
قيل: فى هذه المسألة قولان لأصحاب العَنوة:
أحدهما: المنصوصُ المنصور الذى لا يجوز القولُ بغيره، أنه لا خَراج على مزارعها وإن فتحت عَنوة، فإنها أجَلُّ وأعظم من أن يُضرب عليها الخَراج، لا سيما والخَراجُ هو جزية الأرض، وهو على الأرض كالجزية على الرؤوس، وحرَمُ الرَّبِّ أجَلُّ قَدراً وأكبرُ من أن تُضرب عليه جزية، ومكة بفتحها عادت إلى ما وضعها الله عليهِ مِن كونها حرماً آمناً يشترِكُ فيه أهلُ الإسلام، إذ هو موضع مناسِكهم ومتعبدهم وقِبْلةُ أهل الأرض.
والثانى وهو قول بعض أصحاب أحمد أن على مزارعها الخَراج، كما هو على مزارع غيرها من أرض العَنوة، وهذا فاسد مخالف لنص أحمد رحمه الله ومذهبه، ولفعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفائه الراشدين مِن بعده رضى الله عنهم، فلا التفات إليه.. والله أعلم.
وقد بنى بعضُ الأصحاب تحريمَ بيع رِباع مكَّة على كونها فُتِحَتْ عَنوة، وهذا بناء غيرُ صحيح، فإن مساكن أرض العَنوة تُباع قولاً واحداً، فظهر بطلان هذا البناء.. والله أعلم.
وفيها: تعيينُ قتلِ السَّابِّ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن قتله حدٌ لا بُدَّ من استيفائه، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُؤمِّن مقيسَ بنَ صُبابة، وابن خطل، والجاريتين اللَّتين كانتا تُغنِّيان بهجائه، مع أن نساء أهل الحرب لا يُقتلن كما لا تُقتل الذُرِّية، وقد أمر بقتل هاتين الجاريتين، وأهدر دم أُمِّ ولد
الأعمى لما قتلها سيدُها لأجل سبِّها النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقتل كعب بن الأشرف اليهودى، وقال: "مَنْ لِكَعْب فإنَّهُ قَدْ آذى اللهَ ورَسُولَهُ"، وكان يسبه، وهذا إجماعٌ من الخلفاء الراشدين، ولا يُعلم لهم فى الصحابة مخالفٌ، فإن الصِّدِّيقَ رضى الله عنه قال لأبى برزة الأسلمى وقد همَّ بقتل مَن سبَّه: لم يكن هذا لأحد غير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومرَّ عمر رضى الله عنه براهب، فقيل له: هذا يسبُّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال: لو سمعته لقتلتُه، إنَّا لم نعطهم الذِّمَّة على أن يسبُّوا نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا ريبَ أن المحاربة بسَبِّ نبينا أعظمُ أذيَّةً ونِكاية لنا من المحاربة باليد، ومنع دينار جزيةٍ فى السنة، فكيف يُنقض عهدُه ويُقتل بذلك دون السبِّ، وأىُّ نسبة لمفسدة منعه ديناراً فى السنة إلى مفسدة منع مجاهرته بسَبِّ نبينا أقبحَ سبّ على رؤوس الأشهاد، بل لا نِسبة لمفسدة محاربته باليد إلى مفسدة محاربته بالسبِّ، فأولى ما انتقض به عهدُه وأمانُه سبُّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا ينتقض عهدُه بشىء أعظمَ مِنه إلا سبَّه الخالق سبحانه، فهذا محضُ القِياس، ومقتضى النصوص، وإجماعُ الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم وعلى هذه المسألة أكثرُ من أربعين دليلاً.
فإن قيل: فالنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقتُلْ عبد الله بن أُبَىّ وقد قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، ولم يقتل ذَا الخُويصرة التميمى وقد قال له: اعْدِلْ فإنَّكَ لم تَعْدِلْ، ولم يقتل مَن قال له: يقولون:
إنك تنهى عن الغى وتستخلى به، ولم يقتل القائل له: إنَّ هذِهِ القِسْمَةَ ما أُرِيدَ بهَا وجْهُ اللهِ، ولم يقتل مَن قال له لما حكم للزبير بتقديمه فى السقى: أن كان ابنَ عمتك، وغيرُ هؤلاء ممن كان يبلُغه عنهم أذى له وتنقُّص.
قيل: الحقُّ كان له فله أن يستوفِيَهِ، وله أن يُسْقِطَه، وليس لمن بعده أن يُسْقِطَ حقَّه، كما أن الربَّ تعالى له أن يَستوفى حقَّه، وله أن يُسقِطَ، وليس لأحد أن يُسْقِطَ حقَّه تعالى بعد وجوبه، كيف وقد كان فى ترك قتل من ذكرتُم وغيرهم مصالحُ عظيمة فى حياته زالت بعد موته مِن تأليف الناس، وعدم تنفيرهم عنه، فإنه لو بلغهم أنه يقتُلُ أصحابَه، لنفروا، وقد أشار إلى هذا بعينه، وقال لعمر لما أشار عليه بقتل عبد الله بن أُبَىّ: "لاَ يَبْلُغُ النَّاسَ أنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أصْحَابه".
ولا ريب أن مصلحةَ هذا التأليف، وجمعَ القلوب عليه كانت أعظمَ عنده وأحبَّ إليه مِن المصلحة الحاصلة بقتل مَن سبَّه وآذاه، ولهذا لما ظهرت مصلحة القتل، وترجَّحت جداً، قتل السابَّ، كما فعل بكعب بن الأشرف، فإنه جاهر بالعداوة والسَّبِّ فكان قتلُه أرجحَ من إبقائه، وكذلك قتلُ ابنِ خَطَل، ومقيس، والجاريتين، وأُم ولدِ الأعمى، فَقَتَلَ للمصلحة الراجحة، وكفَّ للمصلحة الراجحة، فإذا صار الأمر إلى نُوَّابه وخلفائه، لم يكن لهم أن يُسقطوا حقه
فصل: فيما فى خطبته العظيمة ثانى يوم الفتح من أنواع العلم
فمنها قولُه: "إنَّ مَكَّة حَرَّمَها اللهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ" ، فهذا تحريمٌ شرعى قَدَرى سبق به قدرُه يومَ خلق هذا العالَم، ثم ظهر به على لسان خليله إبراهيم، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما كما فى "الصحيح" عنه، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "اللهُمَّ إنَّ إبْرَاهيمَ خَليلَكَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وإنِّى أُحرِّمُ المدِينَة "، فهذا إخبارٌ عن ظهور التحريم السابق يومَ خلق السمواتِ والأرضَ على لسان إبراهيم، ولهذا لم يُنازع أحد من أهل الإسلام فى تحريمها، وإن تنازعُوا فى تحريم المدينة، والصوابُ المقطوعُ به تحريمُها، إذ قد صحَّ فيه بضعةٌ وعِشرونَ حديثاً عن رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا مطعن فيها بوجه.
ومنها: قوله: "فلا يَحلُّ لأَحَدٍ أنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمَاً" ، هذا التحريمُ لسفك الدم المختصِّ بها، وهو الذى يُباح فى غيرها، ويُحرم فيها لكونها
حرماً، كما أن تحريم عَضْدِ الشجر بها، واختلاء خلائها، والتقاط لُقطتها، هو أمر مختصٌ بها، وهو مباحٌ فى غيرها، إذ الجميعُ فى كلام واحد، ونظام واحد، وإلا بطلت فائدة التخصيص، وهذا أنواعٌ:
أحدها وهو الذى ساقه أبو شريح العدوى لأجله: أن الطائفة الممتنعة بها من مبايعة الإمام لا تُقاتَل، لا سيما إن كان لها تأويل، كما امتنع أهلُ مكة مِن مبايعة يزيد، وبايعُوا ابنَ الزبير، فلم يكن قِتالهُم، ونصبُ المنجنيق عليهم، وإحلالُ حَرَمِ الله جائزاً بالنص والإجماع، وإنما خالف فى ذلك عمرو بن سعيد الفاسق وشيعتُه، وعارض نصَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برأيه وهواه، فقال: إنَّ الحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِياً، فيقال له: هو لا يُعيذ عاصياً مِن عذاب الله، ولو لم يُعِذْه من سفك دمه، لم يكن حرماً بالنسبة إلى الآدميين، وكان حرماً بالنسبة إلى الطير والحيوان البهيم، وهو لم يزل يُعيذُ العصاةَ مِن عهد إبراهيم صلوات الله عليه وسلامُه، وقام الإسلام على ذلك، وإنما لم يُعِذ مقيس ابن صُبابة، وابن خَطَل، ومَن سُمِّىَ معهما، لأنه فى تلك الساعة لم يكن حَرَماً، بل حِلاً، فلما انقضت ساعةُ الحرب، عاد إلى ما وضع عليه يوم خلق الله السموات والأرضَ. وكانت العربُ فى جاهليتها يرى الرجلُ قاتِلَ أبيه، أو ابنه فى الحرم، فلا يَهيجُه، وكان ذلك بينهم خاصية الحرم التى صار بها حرماً، ثم جاء الإسلام، فأكَّدَ ذلك وقوَّاه، وعلم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن مِن الأُمة مَن يتأسَّى به فى إحلاله بالقتال والقتل، فقطع الإلحاق، وقال لأصحابه: "فإنْ
أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقولوا: إنَّ الله أذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكَ"، وعلى هذا فَمَن أتى حداً أو قِصاصاً خارِجَ الحرم يُوجِبُ القتل، ثم لجأ إليه، لم يَجُزْ إقامتُه عليه فيه، وذكر الإمام أحمد عن عمرَ بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: لو وجدتُ فيه قاتِلَ الخطاب ما مَسِسْتُه حتَّى يخرُجَ منه. وذُكِر عن عبد الله بن عمر أنه قال: لو لقيتُ فيه قاتِلَ عمر مَا نَدَهْتُه، وعن ابن عباس، أنه قال: لو لقيتُ قاتِلَ أبى فى الحرم ما هِجتُه حتى يخرُجَ منه، وهذا قولُ جمهورِ التابعين ومَنْ بعدهم، بل لا يُحفظ عن تابعىّ ولا صحابىّ خلافُه، وإليه ذهب أبو حنيفةَ ومَنْ وافقه من أهل العراق، والإمامُ أحمد ومَنْ وافقه مِن أهل الحديث.
وذهب مالك والشافعىُّ إلى أنه يُستوفى منه فى الحرم، كما يُستوفى منه فى الحِلِّ، وهو اختيارُ ابن المنذر، واحتج لهذا القول بعمومِ النُّصوص الدالة على استيفاء الحدودِ والقِصاص فى كُلِّ مكانٍ وزمانٍ، وبأن النبىَّْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل ابن خَطَل، وهو متعلِّق بأستار الكعبة، وبما يُروى عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إنَّ الحَرَمَ لاَ يُعيذُ عَاصِياً وَلاَ فَاراً بِدَمٍ وَلاَ بِخَرْبَةٍ"، وبأنه لو كان الحدودُ والقِصاصُ فيما دونَ النفسِ، لم يُعِذْهُ الحرم، ولم يمنعه من إقامته عليه، وبأنه لو أتى فيه بما يُوجب حداً أو قِصاصاً، لم يعذه الحرم، ولم يَمنع من إقامته عليه، فكذلك إذا أتاه خارِجَه، ثم لجأ إليه، إذ كونُه حَرَماً بالنسبة إلى عصمته، لا يختلِفُ بين الأمرين،
وبأنه حيوان أُبيح قتلُه لِفساده، فلم يفترِق الحالُ بين قتله لاجئاً إلى الحرم، وبين كونه قد أوجب ما أُبيح قتلُه فيه، كالحيَّة، والحِدَأةِ، والكَلْبِ العَقُور، ولأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "خَمْسٌ فَواسِقُ يُقْتَلْنَ فى الحِلِّ والحَرَم"، فنبَّه بقتلهن فى الحِلِّ والحَرَم على العِلَّة، وهى فسقُهن، ولم يجعل التجاءَهن إلى الحرم مانِعاً مِن قتلهن، وكذلك فاسق بنى آدم الذى قد استوجب القتلَ.
قال الأوَّلون: ليس فى هذا ما يُعارِضُ ما ذكرنا من الأدلة ولا سيما قوله تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}[آل عمران: 97]، وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخُلْفِ فى خبره تعالى، وإما خبرٌ عن شرعه ودينه الذى شرعه فى حرمه، وإما إخبارٌ عن الأمرِ المعهود المستمِرِّ فى حرمه فى الجاهلية والإسلام، كما قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}[العنكبوت: 67] ، وقوله تعالى: { وَقَالُواْ إن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا، أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَىْءٍ}[القصص: 57] وما عدا هذا من الأقوال الباطلة، فلا يُلتفت إليه، كقول بعضهم: ومَن دخله كان آمناً مِن النار، وقول بعضهم: كان آمناً مِن الموت على غير الإسلام، ونحو ذلك، فكم ممن دخله، وهو فى قعر الجحيم.
وأما العموماتُ الدالة على استيفاء الحدودِ والقِصاص فى كل زمان ومكان، فيقال أولاً: لا تعرُّضَ فى تلك العموماتِ لِزمان الاستيفاء، ولا مكانه، كما لا تعرُّضَ فيها لشروطه وعدم موانعه، فإن اللَّفظ لا يدل عليها بوضعه ولا بتضمُّنه، فهو مطلَقٌ بالنسبة إليها، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع، لم يُقَلْ: إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام،
فلا يقول محَصِّل: إن قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}[النساء: 24] مخصوص بالمنكوحة فى عِدَّتها، أو بغير إذن وليها، أو بغير شهود، فهكذا النصوصُ العامة فى استيفاء الحدود والقِصاص لا تعرُّض فيها لزمنه، ولا مكانه، ولا شرطه، ولا مانعه، ولو قُدِّر تناول اللَّفظ لذلك، لوجب تخصيصُه بالأدلة الدالة على المنع، لئلا يبطُل موجبها، ووجب حملُ اللَّفظ العام على ما عداها كسائِر نظائره، وإذا خصصتُم تلك العموماتِ بالحامل، والمرضِعِ، والمريض الذى يُرجى برؤه، والحال المحرمةِ للاستيفاء، كشِدَّةِ المرض، أو البردِ، أو الحر، فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة؟ وإن قلتم: ليس ذلك تخصيصاً، بل تقييداً لمطلقها، كِلنا لكم بهذا الصاع سواء بسواء.
وأما قتلُ ابن خَطَل، فقد تقدَّم أنه كان فى وقت الحِلِّ، والنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطع الإلحاق، ونصَّ على أن ذلك مِن خصائصه، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وإنَّمَا أُحِلَّت لى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ" صريح فى أنه إنما أُحِلَّ له سفكُ دمٍ حلال فى غيرِ الحرم فى تلك الساعة خاصة، إذ لو كان حلالاً فى كل وقت، لم يختصَّ بتلك الساعة، وهذا صريحٌ فى أن الدم الحلالَ فى غيرها حرام فيها، فيما عدا تلك الساعة، وأما قوله: "الحَرَمُ لا يُعِيذُ عَاصِياً" فهو مِن كلام الفاسِق عمرو بن سعيد الأشدق، يردُّ به حديثَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين روى له أبو شُريح الكعبى هذا الحديث، كما جاء مبيناً فى "الصحيح" فكيف يُقَدَّمُ علَى قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما قولُكم: لو كان الحدُّ والقِصاصُ فيما دون النفس، لم يُعِذْهُ الحرمُ منه، فهذه المسألةُ فيها قولان للعلماء، وهما روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد، فمَن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصِمة بالنسبة
إلى النفس وما دونها، ومَن فرَّق، قال: سفكُ الدم إنما ينصِرفُ إلى القتل، ولا يلزمُ من تحريمه فى الحرم تحريمُ ما دونَه، لأن حُرمة النفس أعظم، والانتهاك بالقتل أشدُّ، قالوا: ولأن الحد بالجَلْد أو القطع يجرى مجرى التأديب، فلم يمنع منه كتأديب السَّيِّدِ عبدَه، وظاهرُ هذا المذهب أنه لا فرق بين النفس وما دُونها فى ذلك، قال أبو بكر: هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمِّه، أن الحدود كلَّها تُقام فى الحرم إلا القتل، قال: والعمل على أن كل جانٍ دخل الحرمَ لم يقُم عليه الحدُّ حتى يخرُجَ منه، قالوا: وحينئذ فنجيبُكم بالجواب المركَّب، وهو أنه إن كان بينَ النفس وما دونَها فى ذلك فرق مؤثر، بطل الإلزام، وإن لم يكن بينهما فرق مؤثر، سوَّينا بينهما فى الحكم، وبطل الاعتراض، فتحقق بطلانُه على التقديرين.
قالوا: وأما قولكم: إن الحرمَ لا يُعيذ مَن انتهكَ فيه الحُرمةَ إذ أتى فيه ما يُوجب الحد، فكذلك اللاجىء إليه، فهو جمعُ بينَ ما فَرَّقَ اللهُ ورسُوله والصحابةُ بينهما، فروى الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "مَنْ سَرَقَ أو قَتَلَ فى الحِلِّ ثُمَّ دَخَلَ الحَرَمَ، فإنَّه لا يُجَالَسُ ولا يُكَلَّمُ، ولا يُؤوى، ولكنَّهُ يُناشَدُ حَتَّى يَخْرُجَ، فَيُؤْخَذَ، فَيُقَامَ عَلَيْهِ الحَدُّ، وَإنْ سَرَقَ أَو قَتَلَ فى الحَرَمِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ فى الحَرَم". وذكر الأثرم، عن ابن عباس أيضاً: منْ أحدَثَ حَدَثاً فى الحَرَمِ، أُقِيمَ عليهِ ما أَحْدَثَ فيهِ من شىء، وقد أمر الله سبحانه بقتل مَنْ قاتل فى الحرم، فقال: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُم}.[البقرة: 191]
والفرق بين اللاجئ والمتهتِك فيه من وجوه:
أحدها : أن الجانى فيه هاتكٌ لحُرمته بإقدامه على الجِنَاية فيه، بخلاف مَنْ جَنَى خارِجَه ثم لجأ إليه، فإنَّه معظِّمٌ لحُرمته مستشعِرٌ بها بالتجائه إليه، فقياس أحدهما على الآخر باطلٌ.
الثانى: أن الجانى فيه بمنزلة المفسد الجانى على بساطِ الملك فى دارِهِ وحَرَمِه، ومَنْ جنى خارِجَه، ثم لجأ إليه، فإنَّه بمنزلة مَن جَنَى خارِجَ بِساط السلطانِ وحَرَمِه، ثم دخل إلى حَرَمِه مستجيراً.
الثالث: أن الجانى فى الحرم قد انتهك حُرمة الله سبحانه، وحُرمة بيته وحَرَمه، فهو هاتِك لحُرمتين بخلاف غيره.
الرابع: أنه لو لم يُقم الحدُّ على الجُنَاة فى الحرم، لعمَّ الفسادُ، وعَظُمَ الشَّرُّ فى حرم الله، فإن أهلَ الحرم كغيرهم فى الحاجة إلى صِيانة نفوسهم، وأموالهم، وأعراضهم، ولو لم يُشرع الحد فى حقِّ مَن ارتكب الجرائم فى الحرم، لتعطلت حدودُ الله، وعمَّ الضررُ للحرم وأهله.
والخامس : أن اللاجىء إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصل اللاجىء إلى بيت الرب تعالى، المتعلق بأستاره، فلا يُناسب حالُه ولا حالُ بيته وحرمه أن يُهاج، بخلاف المُقْدِم على انتهاك حُرْمته، فظهر سِرُّ الفرق، وتبيَّن أن ما قاله ابن عباس هو محضُ الفقه.
وأما قولُكم: إنه حيوان مفسد، فأُبيحَ قتلُه فى الحِلِّ والحَرَمِ كالكلبِ العَقور، فلا يَصِحُّ القياسُ، فإن الكلبَ العقور طبعُه الأذى، فلم يُحرمه الحرمُ ليدفع أذاه عن أهله، وأما الآدمىُّ فالأصل فيه الحُرْمةُ، وحُرْمتُه عظيمة، وإنما أُبيحَ لِعارض، فأشبه الصائلَ مِن الحيوانات المباحة مِن المأكولات، فإن الحرم يَعْصِمُهَا.
وأيضاً فإن حاجةَ أهلِ الحرم إلى قتل الكلب العَقُور، والحيَّة، والحِدَأة كحاجة أهل الحِلِّ سواء، فلو أعاذها الحرم لَعظُمَ عليهم الضررُ بها.
فصل
ومنها: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ولا يُعْضَدُ بِهَا شَجَرٌ"، وفى اللَّفظ الآخر: "ولا يُعْضَدُ شَوْكُهَا"، وفى لفظ فى "صحيح مسلم": "ولاَ يُخْبَطُ شَوْكُهَا" لا خلاف بينهم أن الشجر البرىَّ الذى لم يُنْبِتْهُ الآدمىُّ على اختلاف أنواعه مراد من هذا اللَّفظ، واختلفوا فيما أنبته الآدمىُّ مِن الشجر فى الحرم على ثلاثة أقوال، وهى فى مذهب أحمد:
أحدها: أن له قلعَه، ولا ضمانَ عليه، وهذا اختيارُ ابن عقيل، وأبى الخطاب، وغيرهما.
والثانى: أنه ليس له قلعُه، وإن فعل، ففيه الجزاءُ بكل حال، وهو قولُ الشافعى، وهو الذى ذكره ابن البناء فى "خصاله".
الثالث : الفرق بين ما أنبته فى الحِلِّ، ثم غرسَه فى الحرم، وبين ما أنبته فى الحَرم أوَّلاً، فالأول: لا جزاء فيه، والثانى: لا يُقلع وفيه الجزاء بكل حال، وهذا قول القاضى.
وفيه قول رابع: وهو الفرقُ بين ما يُنبت الآدمى جنسه كاللَّوز والجَوز، والنخل، ونحوه، وما لا يُنبت الآدمى جنسه كالدَّوح، والسَّلَم،
ونحوه، فالأول يجوز قلعُه ولا جزاء فيه، والثانى: لا يجوزُ، وفيه الجزاء.
قال صاحب "المغنى": والأولى الأخذ بعُموم الحديث فى تحريم الشجر كُلِّه، إلا ما أنبتَ الآدمىُّ مِن جنس شجرهم بالقياس على ما أنبتوه من الزرع، والأهلى من الحيوان، فإننا إنما أخرجنا مِن الصيد ما كان أصلُه إنسياً دون ما تأنَّسَ مِن الوحشى، كذا ههنا، وهذا تصريح منه باختيار هذا القول الرابع، فصار فى مذهب أحمد أربعةُ أقوال.
والحديث ظاهر جداً فى تحريم قطع الشوك والعَوْسَج، وقال الشافعى: لا يحرُم قطعه، لأنه يُؤذى الناس بطبعه، فأشبه السباع، وهذا اختيارُ أبى الخطاب، وابن عقيل، وهو مروى عن عطاء ومجاهد وغيرهما.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُعْضَدُ شَوْكُهًَا "،وفى اللَّفظ الآخر: "لا يُخْتَلَى شَوْكُهَا" صريح فى المنع، ولا يَصِحُّ قياسُه على السباع العادِية، فإن تلك تَقْصِدُ بطبعها الأذى، وهذا لا يُؤذى مَن لم يَدْنُ منه.
والحديثُ لم يُفرِّق بين الأخضر واليابس، ولكن قد جوَّزُوا قَطْعَ اليابس، قالوا: لأنه بمنزلة الميت، ولا يُعرف فيه خلاف، وعلى هذا فسياقُ الحديث يدل على أنه إنما أراد الأخضر، فإنه جعله بمنزلة تنفير الصيد، وليس فى أخذ اليابسِ انتهاكُ حُرمة الشجرة الخضراء التى تُسبِّحُ بحمدِ ربِّها، ولهذا غرس النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على القبرين غُصنين أخضرين، وقال: "لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا".
وفى الحديث دليل على أنه إذا انقلعت الشجرةُ بنفسها، أو انكسر الغصنُ، جاز الانتفاعُ به، لأنه لم يَعْضُدْهُ هوَ، وهذا لا نزاع فيه.
فإن قيل: فما تقولون فيما إذا قلعها قالِع، ثم تركها، فهل يجوز له أو لِغيره أن ينتفع بها؟
قيل: قد سُئِل الإمام أحمد عن هذه المسألة، فقال: مَن شبَّهه بالصيد، لم ينتفع بحطبها، وقال: لم أسمع إذا قطعه ينتفِعُ به. وفيه وجه آخر، أنه يجوز لغير القاطع الانتفاعُ به، لأنه قُطِع بغير فعله، فأُبيح له الانتفاعُ به كما لو قلعته الريح، وهذا بخلاف الصيد إذا قتله مُحْرم حيث يَحْرُمُ على غيره، فإنَّ قَتْلَ المُحْرم له جعله ميتةً. وقوله فى اللَّفظ الآخر (ولا يُخْبَطُ شَوْكُها" صريح أو كالصريح فى تحريم قطع الورق، وهذا مذهبُ أحمد رحمه الله، وقال الشافعى: له أخذه، ويُروى عن عطاء، والأول أصحُّ لظاهر النصِّ والقياس، فإن منزلته من الشجرة منزلةُ ريش الطائر منه، وأيضاً فإن أخذ الورق ذريعة إلى يبس الأغصان، فإنه لباسُها ووقايتُها.
فصل
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ولا يُخْتَلَى خلاها" لا خلاف أن المراد مِن ذلك ما يَنْبُتُ بنفسه دون ما أنبته الآدميون، ولا يدخل اليابسُ فى الحديث، بل هو للرَّطبِ خاصة، فإن الخلا بالقصر: الحشيش الرطب ما دام رطباً، فإذا يبس، فهو حشيش، وأخلتِ الأرض، كَثُرَ خَلاها، واخْتلاء الخَلى: قطعه، ومنه الحديث: كان ابن عمر يَخْتَلِى لِفرسه، أى: يقطع لها الخَلى، ومنه سميت المِخلاة: وهى وعاء الخَلى، والإذخر: مستثنى بالنص، وفى تخصيصه بالاستثناء دليل على إرادة العموم فيما سواه.
فإن قيل: فهل يتناول الحديثُ الرعى أم لا؟
قيل: هذا فيه قولان،
أحدهما: لا يتناولُه، فيجوز الرعىُ، وهذا قولُ الشافعىوالثانى: يتناولُه بمعناه، وإن لم يتناوله بلفظه، فلا يجوز الرعى، وهو مذهب أبى حنيفة، والقولان لأصحاب أحمد.
قال المحرِّمون: وأىُّ فرق بين اختلائه وتقديمه للدابة، وبين إرسالِ الدابة عليه ترعاه؟
قال المبيحون: لما كانت عادةُ الهَدَايا أن تدخل الحَرَم، وتكثُر فيه، ولم يُنقل قطُّ أنها كانت تُسَدُّ أفواهُها، دل على جواز الرعى.
قال المحرِّمون: الفرقُ بين أن يُرسلها ترعى، ويُسلطها على ذلك، وبين أن تَرعى بطبعها مِن غير أن يُسلِّطَهَا صاحِبُهَا، وهو لا يجب عليه أن يَسُدَّ أفواهها، كما لا يجب عليه أن يَسُدَّ أنفَه فى الإحرام عن شمِّ الطيب، وإن لم يجز له أن يتعمَّد شمَّه، وكذلك لا يجبُ عليه أن يمتنع من السير خشية أن يُوطئ صيداً فى طريقه، وإن لم يجز له أن يقصد ذلك، وكذلك نظائرهُ. فإن قيل: فهل يدخُلُ فى الحديث أخذ الكمأة والفقع، وما كان مغيباً فى الأرض؟
قيل: لا يدخل فيه، لأنه بمنزلة الثمرة، وقد قال أحمد: يُؤكل من شجر الحرم الضغابيسُ والعِشْرِق.
فصل
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ولا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا" صريحٌ فى تحريم التسبُّب إلى قتل
الصيد واصطيادِهِ بكل سبب، حتى إنه لا يُنفِّره عن مكانه، لأنه حيوان محترَم فى هذا المكان، قد سبق إلى مكان، فهو أحقُّ به، ففى هذا أن الحيوان المحترم إذا سبق إلى مكان، لم يُزعج عنه.
فصل
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ولا يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَها إلا مَنْ عَرَّفَهَا". وفى لفظ: "ولاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إلاَّ لِمُنْشِدٍ"، فيه دليل على أن لُقَطَةَ الحرم لا تُملك بحال، وأنها لا تُلتقط إلا للتعريف لا للتمليكِ، وإلا لم يكن لِتخصيص مكة بذلك فائدة أصلاً، وقد اختُلِفَ فى ذلك، فقال مالك وأبو حنيفة: لُقَطَةُ الحِلِّ والحَرَم سواء، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وأحدُ قولى الشافعى، ويُروى عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة رضى الله عنهم، وقال أحمد فى الرواية الأخرى، والشافعى فى القول الآخر: لا يجوز التقاطُها للتمليك، وإنما يجُوز لِحفظها لِصاحبها، فإن التقطها، عرَّفها أبداً حتى يأتى صَاحبُها، وهذا قول عبد الرحمن بن مهدى، وأبى عُبيد، وهذا هو الصحيح، والحديثُ صريحٌ فيه، والمُنشِدُ: المعرِّف. والناشد: الطالب، ومنه قوله:
إصَاخَة الناشِدِ لِلمُنْشِدِ
وقد روى أبو داود فى "سننه": أن النَبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الحَاجِّ" ، وقال ابنُ وهب: يعنى يترُكُها حتى يَجِدَها صاحبُها.
قال شيخنا: وهذا من خصائص مكة، والفرقُ بينها وبين سائر الآفاق فى ذلك، أن الناس يتفرَّقون عنها إلى الأقطار المختلفة، فلا يتمكن صاحبُ الضالةِ مِن طلبها والسؤالِ عنها، بخلاف غيرها من البلاد.
فصل
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الخطبة: "ومَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إمَّا أَنْ يَقْتُلَ، وَإمَّا أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ " فيه دليل على أن الواجب بقتل العمدِ لا يتعيَّن فى القِصاص، بل هُو أحدُ شيئين: إما القِصاصُ، وإما الدِّيَةُ.
وفى ذلك ثلاثة أقوال: وهى روايات عن الإمام أحمد.
أحدها: أن الواجب أحد شيئين، إما القِصاصُ، وإما الدِّيَةُ، والخيرةُ فى ذلك إلى الولى بين أربعة أشياء: العفوِ مجاناً، والعفوِ إلى الدِّيَةِ، والقِصاصِ، ولا خلاف فى تخييره بين هذه الثلاثة. والرابع: المصالحة على أكثر من الدِّيَةِ، فيه وجهان. أشهرهما مذهباً: جوازه. والثانى: ليس له العفو على مال إلا الدِّيَة أو دونها، وهذا أرجحُ دليلاً، فإن اختار الدِّيَة، سقط القودُ، ولم يملِكْ طلبَه بعد، وهذا مذهبُ الشافعى، وإحدى الروايتين عن مالك.
والقول الثانى : أن موجِبَه القَود عَيْناً، وأنه ليس له أن يعفو إلى الدِّيَة إلا برضى الجانى، فإن عدل إلى الدية ولم يرض الجانى، فقَودُه بحاله، وهذا مذهبُ مالك فى الرواية الأُخرى وأبى حنيفة.
والقولُ الثالث : أن موجِبَه القَودُ عَيْناً مع التخيير بينه وبين الدِّيَة، وإن لم يرض الجانى، فإذا عفا عن القِصاص إلى الدِّيَة، فرضىَ الجانى،
فلا إشكالَ، وإن لم يرض، فله العودُ إلى القِصاص عَيْناً، فإن عفا عن القَود مطلقاً، فإن قلنا: الواجبُ أحدُ الشيئين، فله الديَة، وإن قلنا: الواجبُ القِصاص عَيْناً، سقط حقُّه منها.
فإن قيل: فما تقولون فيما لو مات القاتل؟
قلنا: فى ذلك قولان: أحدهما: تسقطُ الدِّيَة، وهو مذهبُ أبى حنيفة، لأن الواجبَ عندهم القِصاصُ عَيْناً، وقد زال محلُّ استيفائه بفعل الله تعالى، فأشبه ما لو مات العبدُ الجانى، فإن أرشَ الجناية لا ينتقِلُ إلى ذِمَّة السيدِ، وهذا بخلاف تلف الرهن وموت الضامن، حيثُ لا يسقُطُ الحقُّ لثبوته فى ذِمة الراهن والمضمونِ عنه، فلم يسقط بتلف الوثيقة.
وقال الشافعى وأحمد: تتعينُ الدِّيَةُ فى تِرْكته، لأنه تعذَّر استيفاءُ القِصاصِ من غير إسقاط، فوجب الدِّيَةُ لئلا يذهبُ الورثة من الدم والدِّيَة مجاناً، فإن قيل: فما تقولون لو اختار القِصَاص، ثم اختار بعده العفو إلى الدِّيَة، هل له ذلك؟
قلنا: هذا فيه وجهان، أحدهما: أنَّ له ذلك، لأن القِصاص أعلى، فكان له الانتقالُ إلى الأدنى، والثانى: ليس له ذلك، لأنه لما اختار القِصاص، فقد أسقط الدِّيَة باختياره له، فليس له أن يعودَ إليها بعد إسقاطها.
فإن قيل: فكيف تجمعون بين هذا الحديث، وبينَ قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَتَلَ عَمْدَاً، فَهُوَ قَوَدٌ" ؟.
قيل: لا تعارُضَ بينهما بوجه، فإن هذا يدل على وجوب القَوْد بقتل العمد، وقوله: "فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ" يدل على تخييره بين استيفاء هذا الواجب له وبين أخذ بدله، وهو الدِّيَةُ، فأىُّ تعارض؟، وهذا الحديثُ نظيرُ قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ}، وهذا لا ينفى تخيير المستحق له بين ما كُتِبَ له، وبين بدله.. والله أعلم.
فصل
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الخطبة: "إلاَّالإذْخِرَ" ، بعد قولِ العباس له: إلا الإذْخِرَ، يدل على مسألتين:
إحداهما: إباحة قطع الإذَخِرَ.
والثانية : أنه لا يُشترط فى الاستثناء أن ينويَه من أول الكلام، ولا قبل فراغه، لأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو كان ناوياً لاستثناء الإذْخِر من أول كلامه، أو قبلَ تمامه، لم يتوقف استثناؤه له على سؤال العباس له ذلك، وإعلامه أنهم لا بدَّ لهم منه لِقَيْنِهِمْ وبيوتهم، ونظير هذا استثناؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسهيل ابن بيضاء من أسارى بدر بعد أن ذكَّرهُ به ابنُ مسعود، فقال: "لا يَنْفَلِتَنَّ أحَدٌ مِنْهُم إلا بِفِدَاء أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ" فقال ابنُ مسعود: إلا سهيلَ ابْنَ بيضاء، فإنى سمعتُه يذكر الإسلام، فقال: "إلاَّ سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاء" ومن المعلوم أنه لم يكن قد نوى الاستثناء فى الصورتين من أول كلامه.
ونظيره أيضاً قولُ المَلَك لِسليمان لما قال:"لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ امرأَةٍ غُلاماً يُقَاتِلُ فى سبيلِ اللهِ"، فقال له المَلَكُ: قُلْ: إنْ شَاءَ
اللهُ تَعَالَى، فَلَمْ يَقُلْ، فَقَالَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ قَالَ:إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، لَقَاتَلُوا فى سبيل الله أَجمَعُون" ،وفى لفظ: "لَكَانَ دَرَكاً لِحَاجَتِهِ" فأخبر أن هذا الاستثناء لو وقع منه فى هذه الحالة لنفعه، ومَن يشترط النية يقول: لا ينفعُه.
ونظيرُ هذا قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "واللهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً، واللهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً" ثلاثاً، ثم سكت، ثم قال:" إنْ شَاءَ اللهُ"، فهذا استثناء بعد سكوت، وهو يتضمن إنشاء الاستثناء بعد الفراغ من الكلام والسكوت عليه، وقد نص أحمد على جوازه، وهو الصوابُ بلا ريب، والمصيرُ إلى موجب هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة أولى.. وبالله التوفيق.
فصل
وفى القصة: أن رجلاً مِن الصحابة يقال له: أبو شاه، قام، فقال: اكتُبوا لى، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اكْتُبُوا لأبى شَاه"، يُريدُ خطبته، ففيه دليل على كتابة العلم، ونسخ النهى عن كِتابة الحديث، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ كَتَبَ عَنِّى شَيْئاً غَيْرَ القُرْآنِ، فَلْيَمْحُهُ" وهذا كان فى أول الإسلام خشية أن يختلِط الوحىُ الذى يُتلَى بالوحى الذى لا يُتلَى،
ثم أذِن فى الكتابة لحديثه.
وصح عن عبد الله بن عَمْرو أنه كان يكتُب حديثه، وكان مما كتبه صحيفة تُسمَّى الصادقة، وهى التى رواها حفيده عَمْرو بن شعيب، عن أبيه عنه، وهى من أصح الأحاديث، وكان بعض أئمة أهل الحديث يجعلها فى درجة أيوب عن نافع عن ابن عمر، والأئمة الأربعة وغيرهم احتجوا بها.
فصل
وفى القصة: أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل البيت، وصلَّى فيه، ولم يدخله حتى مُحيت الصورُ منه، ففيه دليل على كراهة الصلاة فى المكان المصوّرِ، وهذا أحقُّ بالكراهة من الصلاة فى الحمَّام، لأن كراهة الصلاة فى الحمَّام، إما لكونه مَظِنَّة النجاسة، وإما لكونه بيتَ الشيطان، وهو الصحيح، وأما محلُّ الصور، فَمَظِنَّةُ الشِّرْكِ، وغالِبُ شرك الأُمم كان من جهة الصور والقبور.
فصل
وفى القصة: أنه دخل مكة، وعليه عمامة سوداء، ففيه دليل على جواز لِبْس السواد أحياناً، ومِنْ ثَمَّ جعل خلفاء بنى العباس لِبْس السواد شعاراً
لهم، ولِولاتهم، وقضاتهم، وخطبائهم، والنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يلبسه لباساً راتباً، ولا كان شعارَه فى الأعياد، والجُمَع، والمجامع العظام البتة، وإنما اتفق له لبسُ العمامة السوداء يومَ الفتح دون سائر الصحابة، ولم يكن سائِرُ لباسه يومئذ السواد، بل كان لواؤه أبيض.
فصل
ومما وقع فى هذه الغزوة، إباحةُ مُتعة النساء، ثم حرَّمها قبلَ خروجه مِن مكة،واخْتُلِفَ فى الوقت الذى حُرِّمت فيه المُتعة، على أربعة أقوال:
أحدها: أنه يوم خَيْبَر، وهذا قولُ طائفة من العلماء.منهم: الشافعى، وغيره.
والثانى : أنه عامَ فتح مكة، وهذا قولُ ابنِ عيينة، وطائفة.
والثالث: أنه عام حُنَيْن، وهذا فى الحقيقة هو القولُ الثانى، لاتصال غزاة حُنَيْن بالفتح.
والرابع : أنه عامَ حَجَّةِ الوداع، وهو وهم من بعض الرواة، سافر فيه وهمُه من فتح مكة إلى حَجَّةِ الوداع، كما سافر وهم معاوية من عُمْرةِ الجِعرانة إلى حَجَّةِ الوداع حيث قال: قصرتْ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمشقص على المروة فى حَجَّته، وقد تقدَّم فى الحَج، وسفرُ الوهم مِن زمان إلى زمان، ومِن مكان إلى مكان، ومِن واقعة إلى واقعة، كثيراً ما يعرض للحُفَّاظ فمَن دونهم.
والصحيح:أنَّ المُتعةإنماحُرِّمت عام الفتح، لأنه قد ثبت فى "صحيح
مسلم" أنهم استمتعوا عامَ الفتح مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإذنه، ولو كان التحريمُ زمنَ خَيْبَر، لزم النسخُ مرتين، وهذا لا عهد بمثله فى الشريعة البتة، ولا يقعُ مثلُه فيها، وأيضاً: فإن خَيْبَر لم يكن فيها مسلمات، وإنما كُنَّ يهوديات، وإباحة نساء أهل الكتاب لم تكن ثبتت بعد، إنما أُبِحْنَ بعد ذلك فى سورة المائدة بقوله: { اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ، وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌ لَّكُمْ، وَطَعَامُكُمْ حِلٌ لَهُمْ،وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ}[المائدة: 5]، وهذا متصل بقوله: {اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة: 3] ، وبقوله: {اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ}[المائدة: 3]، وهذا كان فى آخِر الأمر بعد حجة الوداع، أو فيها، فلم تكن إباحةُ نساء أهل الكتاب ثابتة زمنَ خَيْبَر، ولا كان للمسلمين رغبةٌ فى الاستمتاع بنساء عدوهم قبل الفتح، وبعد الفتح استُرِقَّ مَن استُرِقَّ منهن، وصِرْنَ إماءً للمسلمين. فإن قيل: فما تصنعون بما ثبت فى "الصحيحين" من حديث على بن أبى طالب: "أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن مُتعة النساء يوم خَيْبَر، وعن أكْلِ لُحُوم الحُمُر الإنسية" وهذا صحيح صريح؟
قيل: هذا الحديثُ قد صحَّت روايتُه بلفظين: هذا أحدُهما. والثانى: الاقتصار على نهى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نِكاح المُتعة، وعن لُحوم الحُمُر الأهلية يومَ خَيْبَر، هذه رواية ابن عُيينة عن الزهرى، قال قاسم بن أصبغ: قال سفيان ابن عيينة: يعنى أنه نهى عن لحوم الحُمُر الأهلية زمنَ خَيْبَر، لا عن نكاح المُتعة،ذكره أبو عمر،وفى "التمهيد": ثم قال: على هذا
أكثرُ الناس انتهى، فتوهم بعضُ الرواة أن يومَ خَيْبَر ظرفٌ لتحريمهن، فرواه: حرَّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُتعة زمن خَيْبَر، والحُمُرَ الأهلية، واقتصر بعضهم على رواية بعض الحديث، فقال: حرَّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُتعة زمَن خَيْبَر، فجاء بالغلط البيِّن.
فإن قيل: فأى فائدة فى الجمع بين التحريمين، إذا لم يكونا قد وقعا فى وقت واحد، وأين المُتعةُ مِن تحريم الحُمُرِ؟ قيل: هذا الحديثُ رواه على بن أبى طالب رضى الله عنه محتجاً به على ابن عمه عبد الله بن عباس فى المسألتين، فإنه كان يُبيح المُتعة ولحوم الحُمُر، فناظره على بن أبى طالب فى المسألتين، وروى له التحريمين، وقيَّد تحريمَ الحُمُر بزمن خَيْبَر، وأطلق تحريمَ المُتعة وقال: إنك امرؤ تائه، إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرَّم المُتعة، وحرَّم لحوم الحُمُر الأهلية يومَ خَيْبَر، كما قاله سفيانُ بنُ عُيينة، وعليه أكثرُ الناس، فروى الأمرين محتجاً عليه بهما، لا مقيِّداً لهما بيوم خَيْبَر.. والله الموفق.ولكن ههنا نظر آخر، وهو أنه: هَلْ حرَّمها تحريمَ الفواحش التى لا تُباح بحال، أو حرَّمها عند الاستغناء عنها، وأباحها للمضطر؟ هذا هو الذى نظر فيه ابنُ عباس وقال: أنا أبحتُها للمضطر كالميتة والدم، فلما توسَّعَ فيها مَنْ توسَّع، ولم يقف عند الضرورة، أمسك ابنُ عباس عن الإفتاء بحلِّها، ورجع عنه، وقد كان ابنُ مسعود يرى إباحتها ويقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللهُ لَكُمْ}[المائدة: 87]، ففى
"الصحيحين" عنه قال: كنَّا نغزو مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس لنا نِساء، فقلنا: ألا نختصِى؟ فنهانا، ثم رخَّص لنا أن ننكح المرأة بالثوبِ إلى أجل، ثم قرأ عبد الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَاأَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا،إنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[المائدة: 87]
وقراءة عبد الله هذه الآية عقيب هذا الحديث يحتمل أمرين: أحدهما: الردُّ على مَن يُحرِّمها، وأنها لو لم تكن مِن الطيبات لما أباحها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والثانى: أن يكون أراد آخِرَ هذه الآية، وهو الرد على مَن أباحها مطلقاً، وأنه معتد، فإن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما رخَّص فيها للضرورة، وعند الحاجة فى الغزو، وعند عدم النساء، وشدة الحاجة إلى المرأة. فمَن رخَّص فيها فى الحَضَر مع كثرة النساء، وإمكان النكاح المعتاد، فقد اعتدى، والله لا يُحب المعتدين.
فإن قيل: فكيف تصنعون بما روى مسلم فى "صحيحه" من حديث جابر، وسلمة بن الأكوع، قالا: خرج علينا منادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أذِن لكم أن تستمتعوا، يعنى: مُتعة النساء.
قيل: هذا كان زمنَ الفتح قبل التحريم، ثم حرَّمها بعد ذلك بدليلِ ما رواه مسلم فى "صحيحه"، عن سلمة بن الأكوع قال: رخَّص لنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامَ أوطاسٍ فى المُتعة ثلاثاً، ثم نهى عنها. وعام أوطاس: هو عام الفتح، لأن غزاة أوطاس متصلة بفتح مكة.
فإن قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم فى "صحيحه"، عن جابر بن عبد الله، قال: كنا نستمتع بالقَبْضَةِ مِن التمر والدقيق الأيامَ على عهدِ
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبى بكر حتى نهى عنها عُمَرُ فى شأن عَمْرو بن حريث، وفيما ثبت عن عمر أنه قال: مُتعتانِ كانتا على عهدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنا أنهى عنهما: مُتعةُ النساءِ ومُتعةُ الحجِّ.
قيل: الناس فى هذا طائفتان: طائفة تقول: إن عُمَر هو الذى حرَّمها ونهى عنها، وقد أمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتباع ما سَنَّه الخلفاء الراشدون، ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سَبْرَة بن معبد فى تحريم المُتعة عامَ الفتح، فإنه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سَبْرَة، عن أبيه، عن جده، وقد تكلم فيه ابنُ معين، ولم ير البخارىُّ إخراجَ حديثه فى "صحيحه" مع شدة الحاجة إليه، وكونه أصلاً من أُصول الإسلام، ولو صح عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به، قالوا: ولو صح حديثُ سبرة، لم يخفَ على ابن مسعود حتى يروى أنهم فعلوها، ويحتجّ بالآية، وأيضاً ولو صح لم يقل عُمَر: إنها كانت على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أنهى عنها، وأُعاقب عليها، بل كان يقول: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرَّمها ونهى عنها. قالوا: ولو صح لم تُفعل على عهد الصِّدِّيق وهو عهدُ خلافة النبوة حقاً
والطائفة الثانية: رأت صحةَ حديثِ سَبْرَة، ولو لم يصح، فقد صحَّ حديثُ على رضى الله عنه: أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرَّم مُتعة النساء، فوجب حملُ حديث جابر على أن الذى أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريمُ، ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمنُ عُمَررضىالله عنه، فلما وقع فيها النزاعُ،
ظهر تحريمُها واشتهر، وبهذا تأتَلِفُ الأحاديثُ الواردة فيها.. وبالله التوفيق
فصل [فى جواز إجارة المرأة وأمانها للرجل والرجلين]
وفى قصة الفتح من الفقه: جوازُ إجارة المرأةِ وأمانِها للرجل والرجلين،كما أجاز النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمانَ أُمِّ هانىء لِحموَيْها.
وفيها من الفقه جوازُ قتل المرتد الذى تغلَّظت رِدَّتُه من غير استتابة، فإن عبد الله بن سعد بن أبى سرح كان قد أسلم وهاجر، وكان يكتُب الوحىَ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ارتدَّ، ولحق بمكة، فلما كان يومُ الفتح، أتى به عثمانُ ابن عفان رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليبايعه، فأمسك عنه طويلاً، ثم بايعه، وقال: "إنما أمسكتُ عنه ليقوم إليه بعضُكُم فيضربَ عنقه"، فقال له رجل: هلاَّ أومأتَ إلىَّ يا رسول الله؟ فقال: "مَا يَنْبَغِى لِنَبىٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُن"، فهذا كان قد تغلَّظ كفرُه برِدَّته بعد إيمانه، وهجرته، وكتابةِ الوحى، ثم ارتدَّ ولَحِقَ بالمشركين يطعن على الإسلام ويعيبُه، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُريدُ قتله، فلما جاء به عثمانُ بنُ عفان وكان أخاه مِن الرضاعة، لم يأمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتله حياءً مِن عثمان، ولم يُبايعه ليقوم إليه بعضُ أصحابه فيقتله، فهابُوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُقْدِمُوا على قتله بغير إذنه، واستحيى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عثمان، وساعدَ القدرُ السَّابقُ لما يريد الله سبحانه بعبد الله مما ظهر منه بعد ذلك من الفتوح، فبايعه،
وكان ممن استثنى الله بقوله: {كَيْفَ يَهْدِى اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أنَّ الرَّسُولَ حَقٌ وَجَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ، وَاللهُ لاَ يَهْدِى القَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكََ وَأَصْلَحُواْ فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحيمٌ}[آل عمران: 86-89] ، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَا يَنْبَغِى لِنَبىٍّ أَن تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ" ، أى: أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُخالِفُ ظاهِرُه باطِنَه، ولا سِرُّه علانِيتَه، وإذا نفذ حكمُ اللهِ وأمرُه، لم يُومِ به، بل صرَّحَ به، وأَعلَنه، وأظهره.
فصل: فى غزوة حُنَيْن وتُسمى غزوة أوطاس
وهما موضعان بينَ مكة والطائف، فسُمِّيت الغزوةُ باسم مكانها، وتُسمى غزوةَ هَوازن، لأنهم الذين أَتَوْا لِقتال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ابن إسحاق: ولما سمعت هَوازِنُ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما فتح اللهُ عليه مِن مكة، جمعها مالكُ بنُ عوف النَّصْرى، واجتمع إليه مع هَوازِن ثقيفٌ كُلُّها، واجتمعت إليه مُضَرُ وجُشَمُ كُلُّها، وسعدُ بن بكر، وناسٌ من بنى هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قَيْس عَيلان إلا هؤلاء،
ولم يحضُرْهَا مِن هَوازِن: كعبٌ، ولا كِلاب، وفى جشم: دريدُ بنُ الصِّمة، شيخ كبير ليس فيه إلا رأيُهُ ومعرفتُه بالحرب، وكان شجاعاً مجرَّباً، وفى ثقيف سيِّدَانِ لهم، وفى الأحلاف: قاربُ بن الأسود، وفى بنى مالك: سُبيع بن الحارث وأخوه أحمر ابن الحارث، وجِماعُ أمر الناس إلى مالك بن عوف النَّصْرى، فلما أجمع السيرَ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ساق مع الناس أموالَهم ونساءَهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس، اجتمع إليه الناسُ وفيهم دُرَيْدُ بن الصِّمة، فلما نزل قال: بأى واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نِعْمَ مَجَالُ الخيل، لا حَزْنٌ ضِرْس، ولا سَهْلٌ دَهْسٌ، مالى أسمع رُغاء البعير، ونُهاق الحمير، وبُكاء الصبى، ويُعار الشاء؟ قالوا: ساق مالِكُ بن عوفٍ مع الناسِ نِساءَهُم وأموالَهم وأبناءهم. قال: أَيْنَ مالك؟ قيل: هذا مالك، ودُعي له. قال: يا مالك ؛ إنك قد أصبحتَ رئيسَ قومك، وإن هذا يومٌ كائن له ما بعده من الأيام، مالى أسمع رُغاء البعير، ونُهاق الحمير، وبُكاء الصغير، ويُعار الشاء؟، قال: سقتُ مع الناس أبناءهم، ونساءَهم، وأموالَهم. قال: ولِمَ؟ قال: أردتُ أن أجعل خلفَ كُلِّ رجل أهلَه وماله ليقاتل عنهم. فقال: راعي ضأنٍ واللهِ، وهل يردُّ المنهزمَ شيء ، إنها إن كانت لك لم ينفعْك إلا رجلٌ بسيفه ورمحه، وإن كانت عليكَ، فُضِحْتَ فى أهلك ومالك، ثم قال: ما فعلت كعبٌ وكِلاب؟ قالوا: لم يشهدْها أحدٌ منهم. قال: غاب الحَدُّ
والجِدُّ، لو كان يوم علاءٍ ورِفعة، لم تَغِبْ عنه كعبٌ ولا كِلاب، ولوَدِدْت أنكم فعلتم ما فعلت كعبٌ وكلاب، فمَن شهدها منكم؟ قالوا: عَمْرو بن عامر، وعَوْف بن عامر، قال: ذَانِكَ الجَذَعَانِ من عامر، لا ينفعان ولا يضران. يا مالك ؛ إنك لم تصنع بتقديم البَيْضةِ بَيْضةِ هَوازِن إلى نحورِ الخيل شيئاً، ارفعهم إلى مُتمنَّع بلادهم وعُليا قومهم، ثم الق الصُّباة على متون الخيل، فإن كانت لك، لحقَ بك مَنْ وراءَك، وإن كانت عليك، ألْفاك ذلك، وقد أحرزتَ أهلك ومالك. قال: واللهِ لا أفعلُ، إنك قد كَبِرْتَ وَكَبِرَ عَقلُكَ، واللهِ لتُطِيعُنَّنى يا معشَرَ هَوازِن، أو لأتَّكئِنَّ على هذا السيف حتى يخرُجَ مِن ظهرى، وكره أن يكون لِدُريد فيها ذِكر ورأى، فقالوا: أطعناك، فقال دُريد: هذا يوم لم أشهده ولم يَفُتْنى.
يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ
أقُودُ وَطْفَاءَ الزَّمَعْ ... كَأَنَّهَا شَاةٌ صَدَعْ
ثم قال مالك للناس: إذا رأيتمُوهم فاكسروا جُفون سيوفكم، ثم شُدُّوا شدةَ رجل واحد.. وبعث عيوناً مِن رجاله، فأَتَوْه وقد تفرَّقت أوصالُهم، قال: ويلكم ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رِجالاً بيضاً على خيل بُلقٍ، واللهِ ما تماسكنا أن أصابَنَا ما ترى، فواللهِ ما ردَّه ذلك عن وجهه
أن مَضَى على ما يُريدُ.
ولما سمع بهم نبىُّ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعث إليهم عبد الله بن أبى حَدْرَدٍ الأسلمى، وأمره أن يدخُل فى الناس، فيُقيم فيهم حتى يعلَم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبى حدرد، فدخل فيهم حتى سمِعَ وعلم ما قد جمعوا له من حرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسَمِعَ مِن مالك وأمر هوازن ما هُم عليه، ثم أقبل حتى أتى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره الخبر
فلما أجمع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السير إلى هَوازِن، ذُكِرَ له أن عند صفوان بنِ أُمية أدراعاً وسلاحاً، فأرسل إليه، وهو يومئذ مشرك، فقال: يا أبا أُمية ؛ أعِرْنا سِلاحك هذا نلقى فيه عدونا غداً، فقال صفوان: أغصباً يا محمد؟ قال: "بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ حَتَّى نُؤَدِّيَهَا إلَيْكَ"، فقال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة دِرع بما يكفيها مِن السلاح، فزعموا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأله أن يكفيَهم حملها، ففعل.
ثم خرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معه ألفانِ مِن أهل مكة، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه، ففتح الله بهم مكة، وكانوا اثنى عشر ألفاً، واستعمل عتَّابَ بن أسيد على مكة أميراً، ثم مضى يُريد لقاء هوازن.
قال ابن إسحاق: فحدَّثنى عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن ابن جابر، عن أبيه جابر بن عبد الله، قال: لما استقبلنا وادى حُنَيْن، انحدرنا فى وادٍ من أودية تِهامة أجوفَ حَطُوط، إنما ننحدر فيه
انحداراً. قال: وفى عَماية الصبح، وكان القومُ قد سبقونا إلى الوادى، فكَمَنُوا لنا فى شِعابه وأحْنائه ومضايقه، قد أجمعوا، وتهيؤوا، وأعدوا فواللهِ ما راعنا ونحن منحطُّون إلا الكتائبُ، قد شدُّوا علينا شَدَّةَ رجل واحد، وانشمر الناسُ راجعين لا يَلْوِى أحدٌ منهم على أحد،وانحازرسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذاتَ اليمين، ثم قال: "إلى أيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟ هَلُمَّ إلىَّ، أنا رَسُولُ الله، أنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله"، وبقى مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ من المهاجرين والأنصارِ وأهلِ بيته، وفيمن ثبت معه من المهاجرين: أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته: على والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه، والفَضل بن العباس، وربيعةُ بن الحارث، وأُسامةُ بن زيد، وأيمن ابن أُم أيمن، وقُتِلَ يومئذ. قال: ورجل من هَوازِن على جمل له أحمر بيده راية سوداء فى رأس رُمح طويل أمامَ هَوازِن، وهَوازِنُ خلفه، إذا أدرك، طعن برمحه، وإذا فاته الناسُ، رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه، فبينا هو كذلك إذ أهوى عليه على بن أبى طالب، ورجل من الأنصار يُريدانه، قال: فأتى على منْ خَلْفِهِ، فضرب عرقوبى الجمل، فوقع على عجزه، ووثب الأنصارىُّ على الرجل، فضربه ضربةً أطن قدَمه بنصف ساقه، فانجعفَ عن رحله، قال: فاجتلد الناسُ، قال: فواللهِ ما رجعت راجعةُ الناس مِن هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ابن إسحاق: ولما انهزم المسلمون، ورأى مَن كان مَع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن جُفاة أهل مكة الهزيمة، تكلَّم رجال منهم بما فى أنفسهم من الضِّغنِ، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهى هزيمتهُم دونَ البحر، وإن الأزلامَ لمعه فى كِنانته، وصرخ جَبَلَة بن الحنبل وقال ابن هشام:
صوابه كَلَدَة: ألا بطل السِّحْرُ اليوم، فقال له صفوانُ أخوه لأُمه وكان بعدُ مشركاً: اسكت فضَّ اللهُ فاك، فواللهِ لأن يَرُبَّنى رَجُلٌ مِن قريش، أحبُّ إلىَّ من أن يربَّنى رجلٌ مِن هَوازِن.
وذكر ابنُ سعد عن شيبة بن عُثمان الحَجَبى، قال: لما كان عامُ الفتح، دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة عَنوة، قلت: أسيرُ مع قريش إلى هَوازِن بحُنَيْن، فعسى إن اختلطوا أن أُصيب مِن محمد غِرَّة، فأثارَ منه، فأكون أنا الذى قمتُ بثأر قريش كُلِّها، وأقولُ: لو لم يبقَ مِن العرب والعجم أحد إلا اتبع محمداً، ما تبعتُه أبداً، وكنت مُرْصداً لما خرجتُ له لا يزدادُ الأمر فى نفسى إلا قوةً، فلما اختلط الناسُ، اقتحم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بغلته، فأصلتَ السيف، فدنوتُ أريدُ ما أريدُ منه، ورفعتُ سيفى حتى كِدتُ أشعره إياه، فرُفِعَ لى شُواظٌ مِن نار كالبرق كاد يمحشُنى، فوضعتُ يدى على بصرى خوفاً عليه، فالتفتَ إلىَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنادانى: "يَا شَيْبُ؛ ادْنُ مِنِّى" فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَمَسَحَ صَدْرِى، ثم قال: "اللهُمَّ أَعِذْهُ مِنَ الشَّيْطَانَ" قال: فواللهِ لهو كان ساعتَئِذٍ أحبَّ إلىَّ مِنْ سمعى، وبصرى، ونفسى، وأذهبَ اللهُ ما كان فى نفسى، ثم قال: "ادْنُ فقاتِلْ"، فتقدمتُ أمامَه أضربُ بسيفى، الله يعلمُ أنى أحب أن أقيَه بنفسى كُلَّ شئ، ولو لقيتُ تلك الساعة أبى لو كان حياً لأوقعتُ به السيف، فجعلتُ ألزمُه فيمن لزمه حتى تراجعَ المسلمون، فكرُّوا كَرَّةَ رجل واحد، وقُرِّبَتْ بغلةُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستوى عليها، وخرج فى أثرهم حتى تفرَّقوا فى كُلِّ وجه، ورجع إلى معسكره، فدخل خِباءه، فدخلتُ عليه، ما دخل عليه أحدٌ غيرى حباً لرؤية وجهه، وسروراً به،
فقال: "يا شَيْبُ؛ الذى أرادَ اللهُ بكَ خَيْرٌ ممَّا أرَدْتَ لِنَفْسِك"، ثم حدَّثنى بكلِّ ما أضمرتُ فى نفسى ما لم أكن أذكره لأحد قط، قال: فقلتُ: فإنى أشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ، وأنكَ رسولُ الله، ثم قلت: استغفر لى. فقال: "غَفَرَ اللهُ لَكَ".
وقال ابن إسحاق: وحدَّثنى الزُّهْرى، عن كثير بن العباس، عن أبيه العباس ابن عبد المطلب، قال: إنى لمعَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخذٌ بِحَكَمَةِ بغلته البيضاء، قد شَجَرْتُها بها، وكنت امرءاً جسيماً شديدَ الصوت، قال رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول حين رأى ما رأى من الناس: "إلى أيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ". قال: فلم أر الناس يَلْوُون على شىء، فقال: "يا عَبَّاسُ اصْرَخْ: يا مَعْشَر الأنْصَارِ، يَامَعْشَرَ أَصْحَاب السَّمُرَةِ"، فأجابوا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ.قال: فيذهبُ الرجلُ ليثنى بعيرَه، فلا يقدِرُ على ذلك، فيأخذ دِرعه فيقذفها فى عُنُقه، ويأخذ سيفَه وقوسه وتُرسَه، ويقتحِمُ عن بعيره، ويُخلى سبيلَه، ويؤم الصوت حتى ينتهىَ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة، استقبلُوا النَّاس، فاقتتلُوا فكانت الدعوة أوَّلَ ماكانت: يا للأنصار، ثم خلصت آخراً: يا للخزرج، وكانوا صُبُرَاً عند الحرب، فأشرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ركائبه، فنظر إلى مُجْتَلَدِ القوم، وهم يَجْتَلِدُونَ، فقال: "الآنَ حَمِىَ الوَطيسُ" وزَاد غيره:
أنَا النَّبِىُّ لاَ كَذِبْ ... أنا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ
وفى "صحيح مسلم": ثم أخذ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصيَاتٍ،فرمى بها فى وجوه الكُفَّارِ،ثم قال:"انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ"، فما هو إلا أن
رماهم، فما زِلْتُ أرى حَدَّهُم كليلاً، وأمرَهم مُدْبِرَاً.
وفى لفظ له: إنه نزل عن البغلة، ثم قبضَ قبضة مِن تُراب الأرض، ثم استقبل بها وجوهَهم، وقال: "شَاهَتِ الوُجُوهُ"، فما خلق اللهُ منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولَّوا مدبرين.
وذكر ابن إسحاق عن جُبير بن مطعم، قال: لقد رأيت قبل هزيمةِ القوم، والناس يقتتلون يومَ حُنَيْنٍ مثلَ البَجادِ الأسود، أقبل مِن السماء حتى سقط بيننا وبينَ القوم، فنظرتُ فإذا نمل أسودُ مبثوث قد ملأ الوادى، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فلم أشك أنها الملائكة.
قال ابن إسحاق: ولما انهزم المشركون، أتوا الطائف، ومعهم مالكُ بن عَوْف، وعسكر بعضُهم بأوطاس، وتوجَّه بعضُهم نحو نخلةَ، وبعثَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى آثار مَن توجَّه قِبل أوطاس أبا عامر الأشعرىَّ، فأدرك مِن الناس بعضَ مَن انهزم، فناوشُوه القِتَال، فرُمِى بسهم فقُتِل، فأخذ الراية أبو موسى الأشعرى، وهو ابن أخيه، فقاتلهم، ففتح الله عليه، فهزمهم اللهُ، وقتل قاتل أبى عامر، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهُمَّ اغْفِرْ لعُبَيْدٍ أبى عَامِرٍ وَأَهْلهِ، واجْعَلْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ" واستغفر لأبى موسى.
ومضى مالكُ بن عوف حتى تحصَّن بحصن ثقيف، وأمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسَّبْى والغنائمِ أن تُجْمَعَ فَجُمِعَ ذلكَ كُلُّهُ، ووجَّهوه إلى الجِعْرَانَةِ،
وكان السَّبىُ ستةَ آلاف رأس، والإبلُ أربعةً وعشرين ألفاً، والغنم أكثرَ من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أُوقية فضة، فاستأنى بهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقدَموا عليه مسلمين بِضْعَ عشرة ليلة
ثم بدأ بالأموال فقسمها، وأعطى المؤلَّفةَ قلوبُهم أوَّلَ الناسِ، فأعطى أبا سفيان بنَ حرب أربعين أُوقية، ومائةً من الإبل، فقال: ابنى يزيد؟ فقال: "أعْطُوهُ أرْبَعِينَ أُوقِيَّةً وَمِائةً مِنَ الإبل"، فقال: ابنى معاوية؟ قال: "أعْطُوهُ أرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَمِائَةً من الإبل"، وأعطى حكيم بن حِزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أُخرى فأعطاه، وأعطى النضر بن الحارث بن كلدة مائة من الإبل، وأعطى العلاء بن حارثة الثقفى خمسين، وذكر أصحاب المائة وأصحاب الخمسين وأعطى العباسَ بن مرداس أربعين، فقال فى ذلك شعراً، فكمَّل له المائة.
ثم أمر زيد بن ثابت بإحصاءِ الغنائم والناس، ثم فضَّها على الناس، فكانت سهامُهم لكل رجل أربعاً من الإبل وأربعينَ شاة، فإن كان فارساً أخذ اثنى عشر بعيراً وعشرين ومائة شاة.
قال ابن إسحاق: وحدَّثنى عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبى سعيد الخدرى قال: لما أعطى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أعطى مِن تلك العطايا فى قريش، وفى قبائل العرب، ولم يكن فى الأنصار منها شىء، وَجَدَ هذا الحىُّ من الأنصار فى أنفسهم، حتى كَثُرت فيهم القالةُ، حتى قال قائلُهم: لقى واللهِ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قومَه، فدخل عليه سعدُ بنُ عبادة، فقال: يا رسول الله؛ إن هذا الحىَّ من الأنصار قد وَجَدوا عليك فى أنفسهم لِما صنعتَ فى هذا الفئ الذى أصبتَ، قسمتَ فى قومك، وأعطيتَ عطايا عِظاماً فى قبائل العرب، ولم يكن فى هذا الحىِّ من الأنصار
منها شىء. قال:
"فأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ"؟ قال: يا رسولَ الله؛ ما أنا إلا مِن قومِى. قال: "فاجْمَعْ لى قَومَكَ فى هذِهِ الحَظِيرَةِ" قال: فجاء رجالٌ من المهاجرينَ، فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردَّهم، فلما اجتمعوا، أتى سعدٌ، فقال: قد اجتمع لك هذا الحىُّ من الأنصار، فأتاهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ؛ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنى عَنْكُم، وجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فى أَنْفُسِكُمْ، ألَمْ آتِكُمْ ضُلاَّلاً فَهَداكُم اللهُ بى، وعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بى، وأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبكُم"؟ قالوا: الله ورسولُه أمَنُّ وأفضلُ، ثم قال: "أَلاَ تُجيبُونى يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ"؟ قالوا: بماذَا نجيبُك يا رسولَ الله، للهِ ولِرسُولِه المنُّ والفَضْلُ؟ قال: "أَمَا واللهِ لَوْ شِئْتُم، لَقُلْتُم، فَلَصَدَقْتُم ولَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ، ومَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيداً فآوَيْنَاكَ، وعائِلاً فآسيناكَ، أَوجَدْتم علىَّ يَا مَعْشَرَ الأنْصارِ فى أَنْفُسِكُم فى لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قوماً لِيُسْلِمُوا، وَوكَلْتُكُم إلى إسْلامِكُم، ألا تَرْضَوْنَ يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ أنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاء والبَعير، وتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ الله إلى رحالِكم، فَوالَّذى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ لَمَا تَنْقَلِبُون بِهِ خيرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ، وَلَوْلا الهِجْرَةُ، لَكُنْتُ امْرُءاً مِن الأنْصارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْباً وَوَادياً، وسَلَكَت الأنصار شِعْباً وَوَادياً لَسَلكْتُ شِعْبَ الأنْصارِ وواديها، الأنصارُ شِعَارٌ، والنَّاسُ دِثارٌ، اللهُمَّ ارْحَمِ الأنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الأنْصار، وأبناءَ أبناءِ الأنْصار".
قال: فبكى القومُ حتَّى أخضلُوا لِحاهم، وقالوا: رَضينَا برسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمَاً وحظاً، ثم انصرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتفرَّقوا.
وقدمت الشَّيماءُ بنت الحارث بن عبد العُزَّى أُختُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرّضاعة، فقالت: يا رسول الله؛ إنى أختُك مِن الرضاعة، قال: "وما علامَةُ ذلك"؟ قالت: عضَّةٌ عَضَضتنيها فى ظهرى، وأنا متورِّكَتُكَ. قال: فعرف رسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العلامة. فبسط لها رداءَهُ، وأجلسها عليه وخيَّرها، فقال: "إنْ أحْبَبْتِ الإقامَةَ فَعِنْدِى مُحَبَّبَةً مُكَرَّمَةً، وإنْ أحْبَبْتِ أنْ أُمَتِّعَكِ فَتَرْجِعى إلى قَوْمِكِ"؟ قالت: بل تُمَتِّعنى وتردُّنى إلى قومى، ففعل، فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غُلاما يقال له: "مكحول" وجارية، فزوجت إحداهما من الآخر، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية. وقال أبو عمر: فأسلمت، فأعطاها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثة أعبد وجارية، ونعما، وشاءً، وسماها حذافة. وقال: والشيماء لقب.
فصل
وقدم وفد هَوازِنَ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم أربعةَ عشر رجلاً، ورأسُهم زُهَيرُ بن صُرَد، وفيهم أبو بُرقان عمُّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرضاعة،
فسألوه أن يَمُُنَّ عليهم بالسَّبْى والأموال، فقال: "إنَّ مَعِى مَنْ تَرَوْنَ، وإنَّ أحَبَّ الحَدِيث إلىَّ أصْدَقُهُ، فَأَبْنَاؤُكُم ونِسَاؤُكُمْ أحَبُّ إلَيْكُم أمْ أمْوَالُكُمْ"؟ قالوا: ما كنا نعدِلُ بالأحساب شيئاً فقال: "إذا صَلَّيْتُ الغَدَاةَ فَقُومُوا فقولوا: إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المُؤمِنينَ، ونَسْتَشْفِعُ بِالمُؤمنين إلى رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يَرُدُّوا عَلَيْنَا سَبْينَا"، فلما صلَّى الغداة،
قاموا فقالُوا ذلِكَ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمَّا مَا كَانَ لى ولبنى عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَهُوَ لَكُمْ، وَسَأَسْأَلُ لَكُمُ النَّاسَ"، فقال المهاجِرُونَ والأنصار: ما كان لنا فهو لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال الأقرعُ بنُ حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عُيينة بن حِصن: أما أنا وبنو فَزارة فلا، وقال العباسُ بنُ مرداس: أما أنا وبنُو سليم فلا، فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال العباسُ بنُ مرداس: وهَّنتمونى، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّ هؤلاء القَّوْمَ قَدْ جَاؤوا مُسْلِمِينَ، وقَدْ كُنْتُ اسْتَأنَيْتُ سَبْيَهُم، وقَد خَيَّرْتُهم، فَلَمْ يَعْدِلُوا بالأبناء والنِّساء شَيئاً، فمنْ كانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شئ، فَطَابَتْ نَفْسَهُ بأن يَرُدَّه، فسبيلُ ذلكَ، وَمَنْ أحَبَّ أنْ يَسْتَمْسِكَ بِحَقِّهِ، فليردَّ عليهِمْ، ولَهُ بِكُلِّ فَرِيضَةٍ ستُّ فرائضَ منْ أوَّلِ ما يفئ اللهُ علينا" ، فقال الناسُ: قد طيبنا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال: "إنَّا لا نعرِفُ مَنْ رَضِىَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَرْضَ، فارْجِعُوا حَتَّى يَرفَعَ إلينَا عرفاؤُكم أَمْرَكُم "، فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم.
ولم يتخلف منهم أحد غير عُيينة بن حصن، فإنه أبى أن يرد عجوزاً صارت فى يديه، ثم ردَّها بعد ذلك، وكسا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبىَ قُبطية قُبطية.
فصل: فى الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهية والنُّكت الحكمية
كان اللهُ عَزَّ وجَلَّ قد وعد رسولَه، وهو صادقُ الوعد، أنه إذا فتح مكَّة، دخل النَّاسُ فى دينه أفواجاً، ودانت له العربُ بأسرها، فلما تمَّ له الفتحُ المبين، اقتضت حِكمتُه تعالى أن أمسك قلوبَ هَوازِنَ ومَن تَبِعَهَا عن الإسلام، وأن يجمعوا ويتألَّبوا لحرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين، لِيظهر أمرُ الله، وتمامُ إعزازه لرسوله، ونصره لدينه، ولِتكون غنائمُهم شكراناً لأهل الفتح، وليُظهرَ اللهُ سبحانه رسولَه وعِبادَه، وقهرَه لهذه الشَوْكة العظيمة التى لم يلق المسلمون مثلها، فلا يُقاومهم بعدُ أحدٌ من العرب، ولغير ذلك مِن الحكم الباهرة التى تلوحُ للمتأملين، وتبدو للمتوسمين
واقتضت حكمتُه سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارةَ الهزيمة والكسرة مع كثرة عَددهم، وعُددهم، وقوةِ شَوْكتهم لِيُطامِنَ رُؤوساً رُفِعت بالفتح، ولم تدخل بلدَه وحرمه كما دخله رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واضعاً رأسه منحنياً على فرسه، حتى إنَّ ذقنه تكادُ تَمَسُّ سرجه تواضعاً لربه، وخضوعاً لعظمته، واستكانةً لعزَّته، أن أحلَّ له حَرَمهُ وبلده، ولم يَحِلَّ لأحد قبله ولا لأحد بعدَه، ولِيبين سُبحانه لمن قال: "لَنْ نُغْلَبَ اليَوْمَ عن قِلَّةٍ" أن النصرَ إنما هو من عنده، وأنه مَن ينصرُه، فلا غالب له، ومَن يخذُله، فلا ناصر له غيره، وأنه سبحانه هو الذى تولَّى نصر رسوله ودينه، لا كثرتُكم التى أعجبتكم، فإنها لم تُغن عنكم شيئاً، فوليتُم مُدبرين، فلما انكسرت قلوبُهم، أُرسلت إليها خِلَعُ الجبر مع بَرِيدِ النصر،
فأنزل الله سكينتَه على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها، وقد اقتضت حكمتُه أن خِلَعَ النصر وجوائزَه إنما تفِيضُ على أهل الانكسار: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثينَ ونُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وهَامَانَ وجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُون}[القصص: 6]
ومنها: أن الله سبحانه لما منع الجيش غنائمَ مكة، فلم يغنمُوا منها ذهباً، ولا فضةً، ولا متاعاً، ولا سبياً، ولا أرضاً كما روى أبو داود، عن وهب ابن منبِّه، قال: سألتُ جابراً: هَلْ غَنِمُوا يَوْمَ الفَتْح شَيْئاً؟ قال: لا. وكانوا قد فتحوها بإيجافِ الخيل والركاب، وهُم عشرةُ آلاف، وفيهم حاجة إلى ما يحتاج إليه الجيشُ مِن أسباب القوة، فحرَّك سبحانَه قلوبَ المشركين لغزوهم، وقذفَ فى قلوبهم إخراجَ أموالهم، ونَعمهم، وشائهم، وسَبيهم معهم نُزُلاً، وضِيافةً، وكرامةً، لِحزبه وجنده، وتمَّمَ تقديرَه سبحانه بأن أطمعهم فى الظفر، وألاح لهم مبادئ النصر، ليقضى اللهُ أمراً كان مفعولاً، فلما أنزل اللهُ نصرَهُ على رسوله وأوليائه، وبردت الغنائمُ لأهلها، وجرت فيها سهامُ الله ورسوله، قيل: لا حاجةَ لنا فى دمائكم، ولا فى نسائكم وذراريكم، فأوحى اللهُ سبحانه إلى قلوبهم التوبةَ والإنابةَ، فجاؤوا مسلمين. فقيل: إن مِن شُكْرِ إسلامِكم وإتيانكم أن نَرُدَّ عَلَيْكُمْ نِسَاءَكُم وأَبْنَاءَكُم وَسَبْيَكُم، و{إن يَعْلَمِ اللهُ فِى قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[الأنفال: 70]
ومنها: أن الله سبحانه افتتح غزو العرب بغزوةِ بدر، وختم غزوهم بغزوة حُنَيْن، ولهذا يُقْرَنُ بين هاتين الغزاتين بالذكر، فيقال: بدرٌ وحُنَيْن، وإن كان بينهما سبعُ سنين، والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين فى هاتين الغزاتين، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رمى فى وجوه المشركين بالحصباء فيهما، وبهاتين الغزاتين طُفِئَت جمرةُ العرب لغزو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين، فالأُولى:خوَّفتهم وكسرت مِن حَدِّهم، والثانية: استفرغت قواهم، واستنفدت سهامَهم، وأذلَّت جمعهم حتى لم يجدوا بُداً من الدخول فى دين الله.
ومنها: أن الله سبحانه جَبَرَ بها أهلَ مكة، وفرَّحهم بما نالُوه من النصر والمغنم، فكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم، وإن كان عينَ جبرهم، وعرَّفهم تمامَ نعمته عليهم بما صرف عنهم من شر هَوازِن، فإنه لم يكن لهم بهم طاقة، وإنما نُصِرُوا عليهم بالمسلمين، ولو أُفردوا عنهم، لأكلهم عدوُّهم... إلى غير ذلك من الحكم التى لا يُحيط بها إلا الله تعالى.
فصل
وفيها من الفقه: أن الإمام ينبغى له أن يبعث العيونَ ومَنْ يدخلُ بين عدوه ليأتيه بخبرهم، وأن الإمام إذا سمع بقصد عدوِّه له، وفى جيشه قوة ومَنَعَة لا يقعُد ينتظرهم، بل يسيرُ إليهم، كما سار رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هَوازِن حتى لقيهم بحُنَيْن.
ومنها: أن الإمام له أن يستعيرَ سلاحَ المشركين وعُدَّتهم لِقتال عدوه، كما استعار رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدراع صفوان، وهو يومئذ مشركٌ.
ومنها: أن مِن تمام التوكل استعمالَ الأسبابِ التى نصبها الله لمسبباتها قدراَ وشرعاً، فإن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أكملُ الخلق توكُّلاً، وإنما كانوا يَلْقَوْنَ عدوَّهم، وهم متحصِّنُون بأنواع السِّلاح، ودخل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكَّة، والبَيْضَةُ على رأسه، وقد أنزل الله عليه: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة: 67]
وكثير ممن لا تحقيق عنده، ولا رسوخ فى العلم يستشكلُ هذا، ويتكايس فى الجواب تارة بأن هذا فعله تعليماً للأُمة، وتارة بأن هذا كان قبلَ نزول الآية. ووقعت فى مصر مسألة سأل عنها بعضُ الأمراء، وقد ذُكِرَ له حديثٌ ذكره أبو القاسم بن عساكر فى "تاريخه الكبير" أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بعد أن أهدت له اليهوديةُ الشاةَ المسمومةَ لا يأكل طعاماً قُدِّمَ له حتى يأكل منه مَن قدَّمه.
قالوا: وفى هذا أُسوة للملوك فى ذلك. فقال قائل: كيف يُجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}؟ فإذا كانَ الله سبحانه قد ضمن له العِصْمةَ، فهو يعلم أنه لا سبيلَ لبَشَرٍ إليه.
وأجاب بعضهُم بأن هذا يدل على ضعف الحديث، وبعضُهم بأن هذا كان قبلَ نزولِ الآية، فلما نزلت لم يكن لِيفعل ذلك بعدَها، ولو تأمل هؤلاء أن ضمان الله له العِصمة، لا يُنافى تعاطيه لأسبابها، لأغناهم عن هذا التكلُّف، فإن هذا الضمانَ له من ربه تبارك وتعالى لا يُناقِضُ احتراسَه مِن الناس، ولا يُنافيه، كما أن إخبارَ الله سبحانه له بأنه يُظهر دينَه على الدِّينِ كُلِّه، ويُعليه، لا يُناقض أمره بالقتال، وإعدادِ العُدَّة، والقوة، ورباط الخيل، والأخذ بالجد، والحذر، والاحتراس من عدوه، ومحاربته بأنواع الحرب، والتورية، فكان إذا أراد الغزوة، ورَّى
بغيرها، وذلك لأن هذا إخبار من الله سبحانه عن عاقبة حاله ومآله بما يتعاطاه من الأسباب التى جعلها الله مُفضية إلى ذلك، مقتضية له، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلمُ بربِّه، وأتبعُ لأمره من أن يعطِّل الأسبابَ التى جعلها الله له بحكمته موجبة لما وعده به من النصر والظفر، وإظهار دينه، وغلبته لعدوه، وهذا كما أنه سبحانه ضمن له حياتَه حتَّى يُبلِّغ رسالاتِه، ويُظهر دينه، وهو يتعاطى أسبابَ الحياة مِن المأكل والمشرب، والملبس والمسكن، وهذا موضِعٌ يغلَطُ فيه كثير مِن الناس، حتى آل ذلك ببعضهم إلى أن ترك الدُّعاء، وزعم أنه لا فائدةَ فيه، لأن المسؤول إن كان قد قُدِّر، ناله ولا بد، وإن لم يُقدَّر، لم ينله، فأى فائدة فى الاشتغال بالدعاء؟ ثم تكايسَ فى الجواب، بأن قال: الدعاءُ عبادة، فيقال لهذا الغالِط: بقى عليك قسم آخر وهو الحقُّ أنه قد قدَّر له مطلوبَه بسببٍ إن تعاطاه، حصل له المطلوبُ، وإن عطل السبب، فاته المطلوب، والدعاء من أعظم الأسباب فى حصول المطلوب، وما مثل هذا الغالط إلا مثلُ مَن يقول: إن كان الله قد قدَّر لى الشبع، فأنا أشبع، أكلتُ أو لم آكل، وإن لم يُقدِّر لى الشبع، لم أشبع أكلتُ أو لم آكل، فما فائدة الأكل؟ وأمثال هذه التُّرَّهات الباطلة المنافية لحكمة الله تعالى وشرعه.. وبالله التوفيق
فصل
وفيها: أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرط لصفوان فى العارية الضمان، فقال: "بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ" فهل هذا إخبار عن شرعه فى العارية، ووصف لها بوصفٍ شرعه الله فيها، وأن حكمها الضمانُ كما يُضمن المغصوب، أو إخبار عن ضمانها بالأداء بعينها، ومعناه: أنى ضامن لك تأديَتَها،
وأنها لا تذهب، بل أردها إليك بعينها؟ هذا مما اختلف فيه الفقهاء.
فقال الشافعى وأحمد بالأول، وأنها مضمونة بالتلف، وقال أبو حنيفة ومالك بالثانى، وأنها مضمونة بالرد على تفصيل فى مذهب مالك، وهو أن العَيْن إن كانت مما لا يُغاب عليه، كالحيوان والعَقار، لم تُضمن بالتلف إلا أن يظهر كَذِبه، وإن كانت مما يُغاب عليه كالحلى ونحوه، ضُمنت بالتلف إلا أن يأتىَ ببينة تشهد على التلف، وسر مذهبه أن العارية أمانة غيرُ مضمونة كما قال أبو حنيفة، إلا أنه لا يُقبل قوله فيما يخالف الظاهر، فلذلك فرَّق بين ما يُغاب عليه، وما لا يُغاب عليه.
ومأخذ المسألة أن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصفوان: "بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ"، هل أراد به أنها مضمونة بالرد أو بالتلف؟ أى: أضمنها إن تلفت، أو أضمن لك ردَّها، وهو يحتمل الأمرين، وهو فى ضمان الرد أظهرُ لثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّ فى اللَّفظ الآخر: "بَلْ عَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ"، فهذا يبينُ أن قوله: "مضمونة"، المراد به: المضمونة بالأداء.
الثانى: أنَّه لم يسأله عن تلفها، وإنما سأله هل تأخذها منى أخذَ غصب تحولُ بينى وبينها؟ فقال: "لا بل أخذ عارية أُؤديها إليك". ولو كان سأله عن تلفها وقال: أخاف أن تذهب، لناسب أن يقول: أنا ضامن لها إن تلفت.
الثالث: أنَّه جعل الضمانَ صِفة لها نفسها، ولو كان ضمانَ تلف، لكان الضمانُ لِبدلها، فلما وقع الضمانُ على ذاتها، دل على أنه ضمانُ أداء.
فإن قيل: ففى القصة أن بعض الدروع ضاع، فعرض عليه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يضمنها، فقال: أنا اليوم فى الإسلام أرغبُ، قيل: هل عرض عليه أمراً واجباً أو أمراً جائزاً مُستحَباً الأَوْلى فعلُه، وهو من مكارم الأخلاق
والشيم، ومن محاسن الشريعة؟ وقد يترجح الثانى بأنه عرض عليه الضمان، ولو كان الضمان واجباً، لم يعرضه عليه، بل كان يفى له به، ويقول: هذا حقُّك، كما لو كان الذاهب بعينه موجوداً، فإنه لم يكن ليعرض عليه رده فتأمله
فصل
وفيها: جوازُ عقرِ فرسِ العدو ومركُوبه إذا كان ذلك عوناً على قتله، كما عقر علىُّ رضى الله عنه جمل حامل راية الكفار، وليس هذا مِن تعذيب الحيوان المنهى عنه.
وفيها: عفُو رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمن همَّ بقتله، ولم يُعاجله، بل دعا له ومسح صدره حتى عاد، كأنه ولى حميم.
ومنها: ما ظهر فى هذه الغزاة من معجزات النبوة وآيات الرسالة، من إخباره لشيبة بما أضمر فى نفسه، ومن ثباته، وقد تولَّى عنه الناسُ، وهو يقول:
أنَا النَّبِىُّ لاَ كَذِبْ ... أنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ
وقد استقبلته كتائبُ المشركين.
ومنها: إيصالُ الله قبضته التى رمى بها إلى عيون أعدائه على البُعْدِ منه، وبركتُه فى تلك القبضة، حتى ملأت أعينَ القوم، إلى غير ذلك من معجزاته فيها، كنزول الملائكة للقتال معه، حتى رآهم العدوُّ جهرة، ورآهم بعض المسلمين.
ومنها: جوازُ انتظار الإمام بقسم الغنائمُ إسلامَ الكفار ودخولَهم
فى الطاعة، فيرد عليهم غنائِمَهَم وسبيَهم، وفى هذا دليل لمن يقول: إن الغنيمة إنما تُملك بالقسمة، لا بمجرد الاستيلاء عليها، إذ لو ملكها المسلمون بمجرد الاستيلاء، لم يستأنِ بهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيردها عليهم، وعلى هذا فلو مات أحد من الغانمين قبل القسمة، أو إحرازها بدار الإسلام، رُدَّ نصيبُه على بقية الغانمين دون ورثته، وهذا مذهب أبى حنيفة: لو مات قبل الاستيلاء لم يكن لورثته شئ، ولو مات بعد القسمة فسهمه لورثته
فصل
وهذا العطاء الذى أعطاه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقريش، والمؤلَّفة قلوبُهم، هل هو مِن أصل الغنيمة أو من الخُمُس، أو من خُمس الخُمُس؟ فقال الشافعى ومالك: هو من خُمس الخُمُس، وهو سهمُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذى جعله الله له من الخُمس، وهو غير الصَّفىِّ وغيرُ ما يُصيبه من المغنم، لأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يستأذن الغانمين فى تِلك العطية، ولو كان العطاءُ من أصل الغنيمة، لاستأذنهم لأنهم ملكوها بحوزها والاستيلاء عليها، وليس من أصل الخُمُس، لأنه مقسوم على خمسة، فهو إذاً من خُمس الخُمُسِ، وقد نص الإمام أحمد على أن النفل يكون من أربعة أخماس الغنيمة، وهذا العطاءُ هو من النفل، نَفَلَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به رؤوسَ القبائِلِ والعشائِرِ ليتألَّفهم به وقومَهم على الإسلام، فهو أولى بالجواز من تنفيل الثُلث بعد الخُمس، والرُّبع بعده، لما فيه من تقوية الإسلام وشَوْكته وأهله، واستجلاب عدوه إليه، هكذا وقع سواء كما قال بعضُ هؤلاء الذين نفلهم: لقد أعطانى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنه لأبغض الخلق إلىَّ، فما زال يُعطينى حتى إنه لأحب
الخلق إلىَّ، فما ظنك بعطاءٍ قوَّى الإسلامَ وأهله، وأذلَّ الكفرَ وحِزبه، واستجلب به قلوبَ رؤوس القبائل والعشائر الذين إذا غضِبُوا، غَضِبَ لغضبهم أتباعهم، وإذا رَضُوا رَضُوا لرضاهم. فإذا أسلم هؤلاء، لم يتخلف عنهم أحدٌ مِن قومهم، فللَّهِ ما أعظمَ موقِعَ هذا العطاء، وما أجداه وأنفعه للإسلام وأهله.
ومعلوم: أن الأنفال لله ولرسوله يقسِمُها رسوله حيث أمره لا يتعدى الأمر، فلو وضع الغنائم بأسرها فى هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة، لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل، ولمَا عَمِيَتْ أبصارُ ذى الخويصرة التميمى وأضرابه عن هذه المصلحة والحكمة. قال له قائلهم: اعْدِل فإنَّكَ لم تعدل. وقال مشبِهُه:
إن هذه لقسمة ما أُريد بها وجه الله، ولعَمر الله إن هؤلاء من أجهل الخلق برسوله، ومعرفته بربه، وطاعته له، وتمام عدله، وإعطائه لله، ومنعه لله، ولله سبحانه أن يقسم الغنائم كما يحب، وله أن يمنعها الغانمين جملة كما منعهم غنائم مكة، وقد أوجفوا عليها بخيلهم وركابهم، وله أن يُسلِّط عليها ناراً من السماء تأكلها، وهو فى ذلك كله أعدلُ العادلين، وأحكمُ الحاكمين، وما فعل ما فعله من ذلك عبثاً، ولا قدَّرَهُ سُدى، بل هو عَيْن المصلحة والحكمة والعدل والرحمة، مصدره كمال علمه، وعِزَّته، وحكمته، ورحمته، ولقد أتمَّ نعمته على قوم ردَّهم إلى منازلهم برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقودونه إلى ديارهم، وأرضى مَن لم يعرف قدر هذه النعمة بالشاة والبعير، كما يعطى الصغير ما يناسب عقله ومعرفته، ويعطى العاقل اللبيب ما يناسبه، وهذا فضله، وليس هو سبحانه تحت حجر أحد من خلقه، فيوجبون عليه بعقولهم، ويُحرِّمون، ورسولُه منفِّذٌ لأمره
فإن قيل: فلو دعت حاجةُ الإمام فى وقت من الأوقات إلى مثل هذا مع عدوه، هل يسوغ له ذلك؟
قيل: الإمام نائب عن المسلمين يتصرَّفُ لمصالحهم، وقيام الدين. فإن تعيَّن ذلك للدفع عن الإسلام، والذب عن حَوْزته، واستجلاب رؤوس أعدائه إليه ليأمن المسلمون شرهم، ساغ له ذلك، بل تعيَّن عليه، وهل تُجوِّز الشريعة غير هذا، فإنه وإن كان فى الحرمان مفسدة، فالمفسدة المتوقَّعَةُ مِن فوات تأليف هذا العدو أعظمُ، ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، بل بناء مصالح الدنيا والدين على هذين الأصلين.. وباللهِ التوفيق.
فصل
وفيها: أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَن لم يُطيِّبْ نَفْسَه، فَلَهُ بِكُلِّ فريضَةٍ ستُّ فرائض مِنْ أوَّل ما يفئ اللهُ عَلَيْنَا".
ففى هذا دليل على جواز بيع الرقيق، بل الحيوان بعضه ببعض نسيئةً ومتفاضلاً.
وفى "السنن" من حديث عبد الله بن عمرو، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره أن يجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة، وكان يأخذُ البعيرَ بالبعيرين إلى إبل الصَّدَقَةِ.
وفى "السنن" عن ابن عمر، عنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نهى عن بَيْع الحَيَوانِ بالحيوان نسيئةً، ورواه الترمذى من حديث الحسن عن سمرة، وصحَّحه.
وفى الترمذى من حديث الحجاج بن أرطاة، عن أبى الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الحَيَوَانُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ لا يَصْلُحُ نَسِيئاً، ولا بَأسَ بِهِ يَداً بيدٍ" قال الترمذى: حديث حسن.
فاختلف الناس فى هذه الأحاديث، على أربعة أقوال، وهى روايات عن أحمد.
أحدها : جواز ذلك متفاضلاً، ومتساوياً، نسيئة، ويداً بيدٍ، وهو مذهب أبى حنيفة، والشافعى.
والثانى : لا يجوز ذلك نسيئةً، ولا متفاضلاً.
والثالث: يحرم الجمع بين النَّساء والتفاضل،ويجوز البيع مع أحدهما، وهو قولُ مالك رحمه الله.
والرابع : إن اتحد الجنس، جاز التفاضُلُ، وحَرمَ النَّساء، وإن اختلف الجنس، جاز التفاضل والنَّساء.
وللناس فى هذه الأحاديث والتأليفِ بينها ثلاثة مسالك:
أحدها : تضعيفُ حديث الحسن عن سمرة، لأنه لم يُسمع منه سوى حديثين ليس هذا منهما، وتضعيفُ حديث الحجاج بن أرطاة.
والمسلك الثانى : دعوى النسخ، وإنلم يتبين المتأخِّر منها من المتقدِّم، ولذلك وقع الاختلاف.
والمسلك الثالث : حملُها على أحوال مختلفة، وهو أن النهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، إنما كان لأنه ذريعة إلى النسيئة فى الربويات، فإن البائع إذا رأى ما فى هذا البيعِ من الربح لم تقتصر نفسه عليه، بل تجره إلى بيع الربوى كذلك، فسدَّ عليهم الذريعة، وأباحه يدَاً بيدٍ، ومنع من النَّساء فيه، وما حُرِّم للذريعة يُباح للمصلحة الراجحة، كما أباح مِن المُزابنة العرايا للمصلحة الراجحة، وأباح ما تدعو إليه الحاجةُ منها، وكذلك بيعُ الحيوان بالحيوان نسيئة متفاضلاً فى هذه القصة، وفى حديث ابن عمر إنما وقع فى الجهاد، وحاجة المسلمين إلى تجهيز الجيش، ومعلوم أن مصلحةَ تجهيزه أرجحُ من المفسدة فى بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، والشريعةُ لا تُعطِّلُ المصلحة الراجحة لأجل المرجوحة، ونظير هذا جوازُ لبس الحرير فى الحرب، وجوازُ الخُيلاء فيها، إذ مصلحة ذلك أرجح من مفسدة لبسه، ونظيرُ ذلك لِباسه القَبَاء الحرير الذى أهداه له ملك "أيلة" ساعة، ثم نزعه للمصلحة الراجحة فى تأليفه وجبره، وكان هذا بعد النهى عن لباس الحرير، كما بيَّناه مستوفًى فى كتاب "التخيير فيما يحل ويحرم من لباس الحرير"، وبيَّنا أن هذا كان عامَ الوفود سنة تسع، وأن النهىَ عن لباس الحريركان قبلَ ذلك، بدليل أنه نهى عمر عن لبس الحُلة الحرير التى أعطاه إياها، فكساها عمر أخاً له مشركاً بمكة، وهذا كان قبلَ الفتح، ولباسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هدية ملك "أيلة" كان بعد ذلك، ونظير هذا نهيُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصلاة قبل طلوع الشمس، وبعد العصر، سداً لذريعة التشبه بالكفار، وأباح ما فيه مصلحة راجحة
مِن قضاء الفوائت، وقضاء السنن، وصلاة الجنازة، وتحية المسجد، لأن مصلحة فعلها أرجح من مفسدة النهى.. والله أعلم.
وفى القصة دليل على أن المتعاقدين إذا جعلا بينهما أجلاً غيرَ محدود، جاز إذا اتفقا عليه ورضيا به، وقد نص أحمد على جوازه فى رواية عنه فى الخيار مدة غير محدودة، أنه يكون جائزاً حتى يقطعاه، وهذا هو الراجح، إذ لا محذور فى ذلك، ولا عذر، وكل منهما قد دخل على بصيرة ورضى بموجب العقد، فكلاهما فى العلم به سواء، فليس لأحدهما مزية على الآخر، فلا يكون ذلك ظلماً
فصل
وفى هذه الغزوة أنه قال:"مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً، لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُه" وقاله فى غزوة أُخرى قبلها، فاختلف الفقهاء، هل هذا السَلَب مُستحَقٌ بالشرع أو بالشرط؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد.
أحدهما: أنه له بالشرع، شرطه الإمامُ أو لم يَشرِطه، وهو قول الشافعى.
والثانى : أنه لا يُستحَق إلا بشرط الإمام، وهو قول أبى حنيفة. وقال مالك رحمه الله: لا يُستحَق إلا بشرط الإمام بعد القتال. فلو نص قبله، لم يجز. قال مالك: ولم يبلغنى أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك إلا يوم حُنَيْن، وإنما نفَّل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن برد القتال.
ومأخذ النزاع أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان هو الإمام، والحاكم، والمفتى، وهو الرسول، فقد يقول الحكمَ بمنصب الرسالة، فيكون شرعاً عاماً
إلى يوم القيامة كقوله: "مَنْ أَحْدَثَ فى أمْرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُو رَدٌّ ". وقوله : "مَنْ زَرَعَ فى أرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْع شَىءٌ، وَلَهُ نَفَقَتُهُ"، وكحكمه "بالشَّاهدِ، واليمينِ"، و"بالشُّفعة فيما لم يُقْسَمْ".
وقد يقول بمنصب الفتوى، كقوله لهِند بنتِ عُتبة امرأة أبى سُفيان، وقد شكَتْ إليه شُحَّ زوجِها، وأنه لا يُعطيها ما يكفيها: "خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ" فهذه فتيا لا حكم، إذ لم يدعُ بأبى سفيان، ولم يسأله عن جواب الدعوى، ولا سألها البيِّنة.
وقد يقوله بمنصب الإمامة، فيكون مصلحة للأُمة فى ذلك الوقت، وذلك المكان، وعلى تلك الحال، فيلزم مَن بعده من الأئمة مراعاة ذلك على حسب المصلحة التى راعاها النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زماناً ومكاناً وحالاً، ومن ههنا تختلِفُ الأئمة فى كثير من المواضع التى فيها أثر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ" هل قاله بمنصب الإمامة، فيكون حكمه متعلقاً بالأئمة، أو بمنصب الرسالة والنبوة،فيكون شرعاً عاماً؟وكذلك قوله: "مَنْ أَحْيا أرْضاً مَيتَةً فَهِىَ لَهُ " هل هو شرع عام لكل أحد،
أَذِنَ فيه الإمام، أو لم يأذن، أو هو راجع إلى الأئمة، فلا يُملك بالإحياء إلا بإذن الإمام؟ على القولين، فالأول: للشافعى وأحمد فى ظاهر مذهبهما.
والثانى : لأبى حنيفة، وفرَّق مالك بين الفلوات الواسعة، وما لا يتشاح فيه الناس، وبين ما يقع فيه التشاح، فاعتبر إذن الإمام فى الثانى دون الأول.
فصل
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "لهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ" دليل على مسألتين:
إحداهما: أن دعوى القاتل أنه قتل هذا الكافِرَ، لا تُقبل فى استحقاق سَلَبِهِ.
الثانية : الاكتفاء فى ثبوت هذه الدعوى بشاهد واحد من غير يمين، لما ثبت فى الصحيح عن أبى قتادة قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام حُنَيْن، فلما التقينا، كانت للمسلمين جولةٌ، فرأيتُ رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فاستدرتُ إليه حتى أتيتُه مِن ورائه، فضربتُه على حبل عاتقه، وأقبل علىَّ، فضمَّنى ضمَّة، وجدتُ منها ريحَ الموت، ثم أدركه الموتُ، فأرسلنى، فلحقت عمر بن الخطاب فقال: ما للناس؟ فقلت: أمر الله، ثم إن الناس رجعُوا، وجلس رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ" ، قال: فقمتُ فقلت: مَن يشهد لى؟ ثم جلست، ثم قال مثل ذلك قال: فقمتُ فقلت: مَن يشهد لى؟ ثم قال ذلك الثالثة، فقمتُ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما لكَ يا أبا قتادة"؟ فقصصتُ عليه القِصَّةَ، فقال رجل من القوم: صدق يا رسُول الله، وسَلَبُ ذلك القتيل عندى، فأرضه من حقه، فقال أبو بكر الصِّدِّيق: لاهَا اللهِ إذاً
لا يَعْمِدُ إلى أَسَدٍ مِن أُسْدِ الله يُقَاتِلُ عَنْ الله ورسوله، فيُعطيك سَلَبه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"صَدَقَ فَأعْطِهِ إيَّاهُ"، فأعطانى، فبعتُ الدرع، فابتعتُ بهِ مخَرَفاً فى بنى سلمة، فإنه لأوَّل مال تأثَّلْتُه فى الإسلام.
وفى المسألة ثلاثة أقوال، هذا أحدها، وهو وجه فى مذهب أحمد.
والثانى: أنه لا بد من شاهد ويمين، كإحدى الروايتين عن أحمد.
والثالث وهو منصوص الإمام أحمد: أنه لا بُدَّ من شاهدين، لأنها دعوى قتل، فلا تُقبل إلا بشاهدين
وفى القصة دليل على مسألة أُخرى، وهى أنه لا يُشترط فى الشهادة التلفظُ بلفظ: "أشهد" وهذا أصح الروايات عن أحمد فى الدليل، وإن كان الأشهر عند أصحابه الاشتراط، وهى مذهبُ مالك. قال شيخنا: ولا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراطُ لفظ الشهادة، وقد قال ابن عباس: شهد عندى رجال مرضيون وأرضاهم عندى عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الصلاة بعد العصر، وبعد الصبح، ومعلوم: أنهم لم يتلفظوا له بلفظ: "أشهد"، إنما كان مجرد إخبار، وفى حديث ماعز: فلما شهد على نفسه أربع شهادات رجَمَه، وإنما كان منه مجرد إخبار عن نفسه، وهو إقرار، وكذلك قوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى، قُلْ لاَ أَشْهَدُ} [الأنعام: 19]، وقوله: {قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا، وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ}[الأنعام: 130]، وقوله: {لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إلَيْكَ، أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ، وَالمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ، وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً}[النساء: 166]، وقوله: {ءَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِى، قَالُواْ أَقْرَرْنَا، قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ}[آل عمران: 81]، وقوله: {شَهِدَ اللهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِماً بالْقِسْطِ}[آل عمران: 18] إلى أضعافِ ذلك مما ورد فى القرآن والسُّنَّة من إطلاق لفظ الشهادة على الخبر المجرَّد عن لفظ: "أشهد".
وقد تنازع الإمام أحمد وعلى بن المدينى فى الشهادة للعشرة بالجنَّة، فقال على: أقول: هُم فى الجنَّة، ولا أقولُ: أشهد أنهم فى الجنَّة. فقال الإمام أحمد: متى قلتَ: هم فى الجنَّة، فقد شهدتَ، وهذا تصريح منه بأنه لا يُشترط فى الشهادة لفظ "أشهد". وحديث أبى قتادة من أبين الحجج فى ذلك.
فإن قيل: إخبار مَن كان عنده السَلَب إنما كان إقراراً بقوله: هو عندى، وليس ذلك من الشهادة فى شئ. قيل: تضمَّن كلامه شهادةً وإقراراً بقوله: "صدق"، شهادة له بأنه قتله، وقوله:"هو عندى" إقرارٌ منه بأنه عنده، والنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما قضى بالسَلَب بعد البيِّنة، وكان تصديق هذا هو البيِّنة
فصل
وقوله صَلى الله عَليه وسلم: " فَلَهُ سَلَبُه" ، دليل على أنَّ له سَلَبُه كله غيرَ مخمَّس، وقد صرَّح بهذا فى قوله لسلمة بن الأكوع لما قتل قتيلاً: "له سَلَبُهُ أَجْمَعُ".
وفى المسألة ثلاثة مذاهب، هذا أحدها.
والثانى : أنه يُخمَّس كالغنيمة، وهذا قولُ الأوزاعى وأهل الشام،
وهو مذهب ابن عباس لدخوله فى آية الغنيمة.
والثالث: أن الإمام إن استكثره خمَّسه، وإن استقلَّه لم يُخمِّسه وهو قول إسحاق، وفعله عمر بن الخطاب، فروى سَعيد فِى "سننه" عن ابن سيرين، أن البَرَاء بن مالك بارز مرزُبانَ المرازبة بالبحرين، فطعنَه، فَدَقَّ صُلْبَه، وأخذ سِوارَيْهِ وسَلَبه، فلما صلَّى عمرُ الظهرَ، أتى البَرَاء فى داره فقال: إنَّا كنا لا نُخَمِّسُ السَّلَبَ، وإن سَلَب البَرَاء قد بلغ مالاً، وأنا خامِسُه، فكان أوَّلَ سَلَبٍ خُمِّس فى الإسلام سَلَبُ البَرَاء، وبلغ ثلاثين ألفاً، والأول: أصح، فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُخَمِّسِ السَّلَب وقال: "هو له أجمع"، ومضت على ذلك سُنَّته وسُنَّةُ الصِّدِّيق بعده، وما رآه عمرُ اجتهاد منه أداه إليه رأيه.
والحديث يدل على أنه مِن أصل الغنيمة، فإنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى به للقاتل، ولم ينظُرْ فى قيمته، وقدره، واعتبار خروجه من خُمس الخُمس، وقال مالك: هو من خُمس الخُمس، ويدل على أنه يستحقه مَن يُسهم له، ومن لا يُسهم له من صبى وامرأة، وعبد ومشرك. وقال الشافعى فى أحد قوليه: لا يستحق السَّلَب إلا مَن يستحق السهم، لأن السهم المجمَع عليه إذا لم يستحقه العبد والصبى، والمرأة والمشرك، فالسَّلَبُ أولى، والأول أصحُّ للعموم، ولأنه جار مجرى قول الإمام: مَن فعل كذا وكذا، أو دلَّ على حصن، أو جاء برأس، فله كذا مما فيه تحريض على الجهاد، والسهم مُستحَق بالحضور، وإن لم يكن منه فعل، والسَّلَب مستحق بالفعل، فجرى مجرى الجعالة.
فصل [فى أنه يستحق سَلَب جميع مَن قتله وإن كثروا]
وفيه دلالة على أنه يستحق سَلَبَ جميع مَن قتله، وإن كَثُروا، وقد ذكر أبو داود أن أبا طلحة قتل يوم حُنَيْن عشرين رجلاً، فأخذ أسلابهم.
فصل: فى غزوة الطائف
فى شوَّال سنة ثمان قال ابن سعد: قالوا: ولما أراد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسير إلى الطائف، بعث الطُّفيل بن عمرو إلى ذى الكَفَّيْنِ: صنم عمرو بن حُمَمَة الدوسى، يَهدِمه، وأمره أن يستمدَّ قومه، ويُوافيه بالطائف، فخرج سريعاً إلى قومه، فهدم ذا الكَفَّيْنِ، وجعل يَحُشُّ النار فى وجههِ ويُحَرِّقه ويقول:
يَا ذَا الكَفَيْنِ لَسْتُ مِنْ عُبَّادِكا ... مِيلادُنَا أقْدَمُ مِنْ مِيلاَدِكَا
إنى حَشَشْتُ النَّار فى فُؤادِكَا
وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعاً، فوافَوا النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالطائف بعد مقدمه بأربعة أيام، وقدم بِدَبَّابَةٍ ومنجنيق.
قال ابن سعد: ولما خرجَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن حُنَيْن يُريد الطائفَ، قَدِمَ خالدُ ابن الوليد على مقدمته، وكانت ثقيف قد رَمُّوا حِصنهم، وأدخلوا فيه ما يصلُح لهم لسنة، فلما انهزموا من أوطاس، دخلوا حِصنهم وأغلقوه عليهم، وتهيؤوا للقتال، وسار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزل قريباً من حصن الطائف، وعسكر هناك، فرَمَوا المسلمين بالنبل رمياً شديداً، كأنه رِجْلُ جَرَادٍ حتى أُصيب ناسٌ من المسلمين بجراحة، وقُتِلَ منهم اثنا عشر رجلاً، فارتفع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى موضع مسجد الطائف اليومَ، وكان معه من نسائه أمُّ سلمة وزينب، فضرب لهما قُبَّتين، وكان يُصَلِّى بين القُبَّتين مدة حصار الطائف، فحاصرهم ثمانية عشر يوماً، وقال ابن إسحاق: بِضعاً وعشرين ليلة.
ونصب عليهم المنجنيق، وهو أول ما رمى به فى الإسلام.
وقال ابن سعد: حدَّثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن ثور بن يزيد، عن مكحول أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصب المنجنيق على أهل الطائف أربعين يوماً.
قال ابن إسحاق: حتى إذا كان يوم الشَّدْخَةِ عند جِدار الطائف، دخل نَفَر مِن أصحابِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحتَ دبابةٍ، ثم دخلوا بها إلى جدار الطائف ليحرقوه، فأرسلت عليهم ثقيف سِكَكَ الحديد مُحماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنَّبل، فقتلُوا منهم رجالاً، فأمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقطع أعناب ثقيف، فوقع الناسُ فيها يقطعون.
قال ابن سعد: فسألوه أن يدعها للهِ وللرَّحم، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"فإنى أدَعُهَا للهِ ولِلرَّحمِ" فَنَادى منادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيُّما عبدٍ نزل من الحِصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج منهم بضعةَ عشر رجلاً، منهم أبو بكرة، فأعتقهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودفع كُلَّ رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونهُ، فشَقَّ ذلك على أهلِ الطائف مشقةً شديدة
ولم يُؤذَن لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى فتح الطائف، واستشار رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نوفلَ ابنَ معاوية الدِّيلى، فقال: "ما ترى"؟ فقال: ثَعْلَبٌ فى جُحْرٍ، إن أقمتَ عليه أخذتَه، وإن تركتَه لم يضرك. فأمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرَ بن الخطاب، فأذَّن فى الناس بالرحيل، فضجَّ الناسُ من ذلك، وقالوا: نرحل ولم يُفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فاغدُوا على القتال " فَغَدَوْا فأصابت المسلمين جراحات، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّا قَافِلُونَ غداً إن شاء اللهُ"، فسُرُّوا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضحك، فلما ارتحلوا واستقلُّوا، قال: "قولوا: آيبُون تَائِبُونَ، عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ"، وقيل: يا رسول الله؛ ادعُ الله على ثقيف، فقال: "اللهُمَّ اهْدِ ثَقيفاً وائتِ بِهِمْ".
واستشهدَ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالطائف جماعةٌ، ثم خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الطائف إلى الجِعرانة، ثم دخل منها محرماً بعُمْرَة، فقضى عُمْرتَه، ثم رجع إلى المدينة.
فصل
قال ابن إسحاق: وقدم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة مِن تبوك فى رمضانَ، وقَدِمَ عليه فى ذلك الشهر وفدُ ثقيف، وكان مِن حديثهم: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما انصرف عنهم اتَّبع أثَره عروةُ بن مسعود حتى أدركه قبل أن يدخُل المدينة، فأسلم وسأله أن يرجعَ إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كما يتحدث قومُك أنهم قاتلوك"، وعرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن فيهم نخوة الامتناع الذى كان منهم، فقال عُرْوَة: يا رسول الله؛ أنا أحبُّ إليهم مِن أبكارهم، وكان فيهم كذلك محبَّباً مطاعاً، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء ألا يُخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف لهم على عُلِّيَّة له، وقد دعاهم إلى الإسلام، وأظهر لهم دينَه، رمَوْه بالنبل مِن كل وجه، فأصابه سهمٌ فقتله، فقيل لعُرْوة: ما ترى فى دمك؟ قال: كرامة أكرمنى الله بها، وشهادةٌ ساقها الله إلىَّ، فليس فىَّ إلا ما فى الشهداء الذين قُتِلُوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يرتحِلَ عنكم، فادفِنونى معهم، فدفنُوه معهَم، فزعموا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فيه: "إن مَثَلَه فى قَوْمِهِ، كَمَثَلِ صَاحبِ يَس فى قَوْمِهِ".
ثم أقامت ثقيف بعد قتل عُرْوَة أشهراً، ثم إنهم ائتمروا بينَهم، ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب مَنْ حولهم مِن العرب، وقد بايعوا وأسلموا، فأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً، كما أرسلوا عُرْوَة،
فكلَّموا عبد ياليل ابن عمرو بن عُمير، وكان فى سن عُرْوَة بن مسعود، وعرضوا عليه ذلك، فأبى أن يفعل وخشى أن يُصنع به كما صُنِع بعُرْوَة، فقال: لستُ بفاعل حتى تُرسلوا معى رجالاً، فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف، وثلاثةً من بنى مالك، فيكونون ستة، فبعثوا معه الحَكَم بن عَمْرو بن وَهْب، وشُرَحبيل بن غيلان، ومن بنى مالك: عثمان بن أبى العاص، وأوس ابن عوف، ونمير بن خَرَشَة، فخرج بهم، فلما دَنَوْا من المدينة، ونزلوا قناة لَقُوا بها المغيرة بن شعبة، فاشتدَّ ليبشر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر فقال: أقسمتُ عليك بالله لا تسبقنى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أكونَ أنا أُحدِّثه، ففعل، فدخل أبو بكر على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بقدومهم عليه، ثم خرج المغيرةُ إلى أصحابه، فروَّح الظهر معهم، وأعلمهم كيف يُحيُّون رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية، فلما قَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ضرب عليهم قُبَّة فى ناحية مسجده كما يزعمون.
وكان خالدُ بن سعيد بن العاص هو الذى يمشى بينهم، وبين رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى اكتتبوا كِتابهم، وكان خالد هو الذى كتبه، وكانوا لا يأكلون طعاماً يأتيهم من عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يأكُلَ منه خالد، حتى أسلموا.
وقد كان فيما سألوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدع لهم الطاغيةَ، وهى اللاتُ لا يَهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم، فما برِحُوا يسألونه سنةً سنةً، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحداً بعد قدومهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمَّى، وإنما يريدون بذلك فيما يُظهرون أن يَسْلَمُوا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يُروِّعوا قومهم بهدمها حتى
يدخُلَهُمُ الإسلامُ، فأبىَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها، وقد كانوا يسألونه مع ترك الطاغية أن يُعفيهم مِن الصلاة، وأن لا يكسروا أوثانَهم بأيديهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أما كسرُ أوثانكم بأيديكم، فسنُعفيكم منه، وأما الصلاةُ، فلا خير فى دين لا صلاة فيه". فلما أسلمُوا وكتب لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاباً، أمَّر عليهم عثمان بن أبى العاص، وكان من أحدثهم سناً، وذلك أنه كان من أحرصهم على التفقه فى الإسلام، وتعلُّم القرآن.
فلما فرغوا من أمرهم وتوجَّهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة فى هدم الطاغية، فخرجا مع القوم، حتى إذا قدموا الطائف، أراد المغيرة بن شعبة أن يُقَدِّمَ أبا سفيان، فأبى ذلك عليه أبو سفيان، فقال: ادخل أنت على قومك، وأقام أبو سفيان بماله بذى الهَدْمِ، فلما دخل المغيرةُ بن شعبة، علاها يضربُها بالمعول، وقام دونَه بنو مُعتِّب خشية أن يُرمى أو يُصاب كما أُصيب عُروة، وخرج نساء ثقيف حُسَّراً يبكين عليها، ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس "واهاً لك واهاً لك" فلما هدمها المغيرةُ، وأخذ مالها وحُليها، أرسل إلى أبى سفيان مجموعَ مالها مِن الذهب والفضَّة والجَزْع.
وقد كان أبو مليح بن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل وفد ثقيف حين قُتِلَ عُروة يريدان فراق ثقيف، وأن لا يُجامعاهم
على شيء أبداً، فأسلما، فقال لهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تولَّيا مَنْ شِئْتُمَا" قالا: نتولَّى الله ورسوله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وخالَكُمَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ"، فقالا: وخالنا أبا سفيان.
فلما أسلم أهل الطائف، سأل أبو مليح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقضى عن أبيه عُروة دَيْنًا كان عليه من مال الطاغية، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نعم"، فقال له قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله فاقْضِهِ وعُروة والأسود أخوان لأب وأُم فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الأَسْوَدَ مَاتَ مُشْرِكاً" فقال قارب ابن الأسود: يا رسول الله؛ لكن تَصِلُ مسلماً ذا قرابة يعنى نفسَه وإنما الدَّيْنُ علىَّ، وأنا الَّذى أُطْلَبُ به، فأمر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا سفيان أن يَقضى دَيْنَ عُروة والأسود من مال الطاغية، ففعل.
وكان كتابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذى كتب لهم: "بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد النبى رسول الله إلى المؤمنين، إن عِضَاه وَجٍّ وصيدَه حرام، لا يُعضد، من وُجِدَ يصنعُ شيئاً مِن ذلك، فإنه يُجلد، وتُنزع ثيابه، فإن تعدَّى ذلك، فإنه يؤخذ، فيبلغ به إلى النبى محمد، وإن هذا أمرُ النبى محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
فكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمد بن عبد الله، فلا يتعداه أحد، فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله. فهذه قصة ثقيف من أولها إلى آخرها، سُقناها كما هى، وإن تخلل بين غزوها وإسلامها غزاةُ تبوك وغيرها، لكن آثرنا أن لا نقطع قِصتهم، وأن ينتظم أوَّلُهَا بآخرها ليقع الكلام على فقه هذه القصة وأحكامها فى موضع واحد
فنقول: فيها مِن الفقه: جوازُ القتال فى الأشهر الحُرُم، ونسخُ تحريم ذلك، فإنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج من المدينة إلى مكة فى أواخر شهر رمضان بعد مضى ثمان عشرة ليلة منه، والدليل عليه ما رواه أحمد فى "مسنده": حدثنا إسماعيل عن خالد الحذَّاء، عن أبى قِلابة، عن أبى الأشعث، عن شدادِ ابن أوس، أنه مَرَّ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زمَنَ الفتح على رجل يحتجِمُ بالبقيع لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، وهو آخذ بيدى، فقال: "أفْطَرَ الحَاجِمُ والْمَحْجومُ"، وهذا أصح مِن قول مَن قال: إنه خرج لعشر خلون من رمضان، وهذا الإسناد على شرط مسلم، فقد رَوى به بعينه: "إنَّ اللهَ كَتَبَ الإحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىء".
وأقام بمكة تسع عشرة ليلة يقصرُ الصلاة، ثم خرج إلى هوازن، فقاتلهم، وفرغ منهم، ثم قصد الطائف، فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة فى قول ابن إسحاق، وثمان عشرة ليلة فى قول ابن سعد، وأربعين ليلة فى قول مكحول. فإذا تأملت ذلك، علمتَ أن بعض مدةِ الحصار فى ذى القعدة، ولا بُد، ولكن قد يُقال: لم يبتدئ القتال إلا فى شوَّال، فلما شرع فيه، لم يقطعه للشهر الحرام، ولكن من أين لكم أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابتدأ قِتالاً فى شهر حرام، وفرق بين الابتداء والاستدامة.
فصل
ومنها: جواز غزوِ الرجل وأهلُه معه، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان معه فى هذه الغزوة أُم سلمة وزينب.
ومنها: جواز نصب المنجنيق على الكفار، ورميهم به وإن أفضى إلى قتل مَن لم يُقاتل مِن النساء والذُرِّية.
ومنها: جوازُ قطع شجر الكُفار إذا كان ذلك يُضعفهم ويَغيظهم، وهو أنكى فيهم
ومنها: أنَّ العبد إذا أَبَقَ من المشركين ولحق بالمسلمين، صار حراً. قال سعيد ابن منصور: حدَّثنا يزيد بن هارون، عن الحجاج، عن مِقْسَم، عن ابن عباس، قال: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتِقُ العبيد إذا جاؤوا قَبْلَ مواليهم.
وروى سعيد بن منصور أيضاً، قال: قضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العبد وسيده قضيتين: قضى أن العبدَ إذا خرجَ مِن دار الحرب قبل سيده أنه حر، فإن خرج سيدُّه بعده لم يُرد عليه، وقضى أن السيد إذا خرج قبل العبد، ثم خرج العبد، رُدَّ على سيده.
وعن الشعبى، عن رجل مِن ثقيف، قال: سألنا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يَرُدَّ علينا أبا بَكْرَةَ، وكان عبداً لنا أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محاصِر ثقيفاً، فأسلم، فأبى أن يَرُدَّهُ علينا، فقال: "هُوَ طَلِيقُ الله، ثمَّ طَلِيقُ رَسُولِهِ" فلم يرده علينا.
قال ابن المنذر: وهذا قول كل مَن يُحفظ عنه من أهل العلم.
فصل
ومنها: أن الإمام إذا حاصر حِصناً، ولم يُفتح عليه، ورأى مصلحةَ المسلمين فى الرحيل عنه، لم يَلزمه مصابرتُه، وجاز له ترك مصابرته، وإنما تلزم المصابرةُ إذا كان فيها مصلحة راجحة على مفسدتها.
فصل
ومنها: أنه أحرم من الجِعْرَانَةِ بعُمْرة، وكان داخلاً إلى مكة، وهذه هى السُّنَّة لمن دخلها من طريق الطائف وما يليه، وأما ما يفعلُه كثيرٌ ممن لا علم عندهم من الخروج من مكة إلى الجِعْرانة ليُحرم منها بعُمْرة، ثم يرجع إليها، فهذا لم يفعله رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أحدٌ من أصحابه البتة، ولا استحبَّه أحدٌ من أهل العلم، وإنما يفعله عوام الناس، زعموا أنه اقتداء بالنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغلطوا، فإنه إنما أحرم منها داخلاً إلى مكة، ولم يخرج منها إلى الجِعرانة ليُحرم منها، فهذا لون، وسُنَّته لون.. وبالله التوفيق
فصل
ومنها: استجابةُ الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاءه لثقيف أن يهديَهم، ويأتى بهم، وقد حاربوه وقاتلوه، وقتلوا جماعةً من أصحابه، وقتلوا رسولَ
رسوله الذى أرسله إليهم يدعوهم إلى الله، ومع هذا كُلِّه فدعا لهم، ولم يدع عليهم، وهذا من كمال رأفته، ورحمته، ونصيحته صلوات الله وسلامه عليه.
فصل
ومنها: كمالُ محبة الصِّدِّيق له، وقصدُه التقربَ إليه، والتحبب بكل ما يمكنه، ولهذا ناشد المغيرة أن يدعه هو يُبشِّر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدوم وفد الطائف، ليكون هو الذى بشَّره وفرَّحه بذلك، وهذا يدل على أنه يجوز للرجل أن يسأل أخاه أن يؤثِرَهُ بقُرْبَةٍ من القُرْبِ، وأنه يجوز للرجل أن يُؤثر بها أخاه، وقول مَن قال من الفقهاء: لا يجوز الإيثار بالقُرَبِ، لا يصح. وقد آثرتْ عائشةُ عمرَ بن الخطاب بدفنه فى بيتها جوار النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسألها عمرُ ذلك، فلم تكره له السؤال، ولا لها البذلَ، وعلى هذا، فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه فى الصف الأول، لم يُكره له السؤال، ولا لذلك البذل، ونظائره. ومَن تأمل سيرةَ الصحابة، وجدهم غيرَ كارهين لذلك، ولا ممتنعين منه، وهل هذا إلا كرمٌ وسخاء، وإيثارٌ على النفس بما هوأعظمُ محبوباتها تفريحاً لأخيه المسلم، وتعظيماً لقدره، وإجابة له إلى ما سأله، وترغيباً له فى الخير، وقد يكون ثواب كل واحد من هذه الخصال راجحاً على ثواب تلك القُرْبة، فيكون المؤثر بها ممن تاجر، فبذل قُرْبةً، وأخذ أضعافها، وعلى هذا فلا يمتنع أن يُؤثر صاحب الماءِ بمائه أن يتوضأ به ويتيمم هو إذا كان لا بُد مِن تيمم أحدهما، فآثر أخاه، وحاز فضيلة الإيثار، وفضيلة الطُّهر بالتراب، ولا يمنع هذا كتاب ولا سُنَّة، ولا مكارم أخلاق، وعلى هذا فإذا اشتد العطش بجماعة،
وعاينوا التلف ومع بعضهم ماء، فآثر على نفسه، واستسلم للموت، كان ذلك جائزاً، ولم يقل: إنه قاتل لنفسه، ولا أنه فعل مُحَرَّماً، بل هذا غاية الجود والسخاء كما قال تعالى: {وَيُؤثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر: 9]، وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة فى فتوح الشام، وعُدَّ ذلك من مناقبهم وفضائلهم، وهل إهداء القُرَب المجمَع عليها والمتنازَع فيها إلى الميتِ إلا إيثارٌ بثوابها، وهو عَيْن الإيثار بالقُرَب، فأى فرق بين أن يُؤثره بفعلها ليحرز ثوابَها، وبين أن يعمل، ثم يؤثره بثوابها. وبالله التوفيق
فصل
ومنها: أنه لا يجوزُ إبقاء مواضع الشِّرك والطواغيت بعد القُدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، فإنها شعائرُ الكفر والشِّرك، وهى أعظمُ المنكرات، فلا يجوز الإقرارُ عليها مع القُدرة ألبتة، وهذا حكمُ المشاهد التى بُنيت على القبور التى اتُخِذَت أوثاناً وطواغيت تُعبد من دون الله، والأحجار التى تُقصد للتعظيم والتبرك، والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شىء منها على وجه الأرض مع القُدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعُزَّى، ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركاً عندها، وبها والله المستعان.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق، وتُميت وتُحيى، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعلُه إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سَنَن مَن كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القُذَّة بالقُذَّة، وأخذوا مأخذهم شِبراً بشِبر، وذراعاً بذراع،
وغلب الشِّرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، فصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسُّنَّة بدعة، والبدعة سُنَّة، ونشأ فى ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطُمست الأعلام، واشتدت غربةُ الإسلام، وقلَّ العُلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأسُ، وظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس، ولكن لا تزالُ طائفة مِن العِصابة المحمَّدية بالحق قائمين، ولأهل الشِّرك والبِدع مجاهدين إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومَن عليها، وهو خير الوارثين
فصل
ومنها: جواز صرف الإمام الأموال التى تصير إلى هذه المشاهد والطواغيت فى الجهاد ومصالح المسلمين، فيجوز للإمام،بل يجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التى تُساق إليها كلها، ويصرفها على الجند والمقاتلة، ومصالح الإسلام، كما أخذ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أموال اللات، وأعطاها لأبى سفيان يتألَّفه بها، وقضى منها دَيْن عُروة والأسود، وكذلك يجب عليه أن يهدم هذه المشاهد التى بُنيت على القبور التى اتُخِذت أوثاناً، وله أن يقطعها للمقاتلة، أو يبيعها ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين، وكذلك الحكم فى أوقافها، فإن وقفها، فالوقف عليها باطل، وهو مال ضائع، فيُصرف فى مصالح المسلمين، فإن الوقف لا يصح إلا فى قُرْبة وطاعة لله ورسوله، فلا يَصِحُّ الوقف على مشهد، ولا قبر يُسرج عليه ويُعظَّم، ويُنذَر له، ويُحَج إليه، ويُعبد من دون الله، ويُتخَذ وثناً من دونه، وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام، ومَن اتبع سبيلهم.
فصل
ومنها: أنَّ وادى وَجّ وهو وادٍ بالطائف حَرَمٌ يحرم صيدُه، وقطعُ شجره، وقد اختلف الفقهاء فى ذلك، والجمهور قالوا: ليس فى البقاع حَرَمٌ إلا مكة والمدينة، وأبو حنيفة خالفهم فى حَرَم المدينة، وقال الشافعى رحمه الله فى أحد قوليه: وَجٌ حَرَم يحرم صيده وشجره، واحتجَّ لهذا القول بحديثين أحدهما هذا الذى تقدم، والثانى: حديث عُروة بن الزبير، عن أبيه الزبير، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنَّ صَيْدَ وَجّ وعِضَاهَه حَرَم مُحَرَّم لله" رواه الإمام أحمد وأبو داود. وهذا الحديث يُعرف بمحمد بن عبد الله بن إنسان عن أبيه عن عُروة. قال البخارى فى تاريخه: لا يُتابَع عليه.
قلت: وفى سماع عُروة من أبيه نظر، وإن كان قد رآه.. والله أعلم
فصل
ولما قدم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، ودخلت سنة تسع، بعث المُصَدِّقين يأخذون الصدقات من الأعراب، قال ابن سعد: ثم بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُصَدِّقِين، قالوا: لما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هلال المحرَّم سنة تسع، بعث المُصَدِّقين يصدقون العرب، فبعث عُيينة بن حِصن إلى بنى تميم، وبعث يزيد بن الحُصين إلى أسلم وغِفار، وبعث عَبَّاد بن بشر الأشهلى
إلى سليم ومُزينة، وبعث رافع بن مكيث إلىجُهينة،وبعث عمرو بن العاص إلى بنى فَزَارَة، وبعث الضحَّاك بن سفيان إلى بنى كِلاب، وبعث بشر بن سفيان إلى بنى كعب، وبعث ابن اللُّتْبِيَّة الأزدى إلى بنى ذبيان، وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُصَدِّقين أن يأخذوا العفوَ منهم، ويتوقَّوْا كرائم أموالهم. قيل: ولما قدم ابن اللُّتْبِيَّة حاسبه. وكان فى هذا حُجَّة على محاسبة العمال والأمناء، فإن ظهرت خيانتُهم عزلهم، وولَّى أميناً.
قال ابن إسحاق: وبعث المهاجر بنَ أبى أُمية إلى صنعاء، فخرج عليه العَنسى وهو بها، وبعث زياد بن لبيد إلى حضرموت، وبعث عدىًَّ بنَ حاتم إلى طئ وبنى أسد، وبعث مالك بن نُويرة على صدقات بنى حنظلة، وفرَّق صدقات بنى سعد على رجلين، فبعث الزِّبْرقان بن بدر على ناحية، وقيس بن عاصم على ناحية، وبعث العلاء بن الحضرمى على البحرين، وبعث علياً رضوان الله عليه إلى نجران ليجمع صدقاتهم، ويقدم عليه بجزيتهم
فصل: فى السرايا والبعوث فى سنة تسع
ذكر سَرِيَّة عُيينة بن حصن الفَزَارى إلى بنى تميم، وذلك فى المحرَّم من هذه السنة، بعثه إليهم فى سَرِيَّة لِيغزوهم فى خمسين فارساً ليس فيهم مهاجرى ولا أنصارى، فكان يسيرُ الليل ويكمُن النهار، فهجم عليهم فى صحراء، وقد سرَّحوا مواشيهم، فلما رأوا الجمع ولَّوْا، فأخذ منهم أحد عشر رجلا وإحدى وعشرين امرأة وثلاثين صبياً، فساقهم إلى المدينة،فأُنزِلُوا فى دار رملة بنت الحارث فقدم فيهم عدة من رؤسائهم: عطارد بن حاجب، والزِّبْرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأهتم، ورباح بن الحارث، فلما رأوا نِساءهم وذراريَهم، بكوا إليهم، فَعَجِلُوا، فجاؤوا إلى باب النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنادوا: يا محمد اخرُج إلينا، فخرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقام بلالٌ الصلاة، وتعلَّقُوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكلمونه، فوقف معهم، ثم مضى فصلَّى الظهرَ، ثم جلس فى صحن المسجد، فقدَّموا عُطارد بن حاجب، فتكلَّم وخطب، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثابت بن قيس ابن شماس، فأجابهم، وأنزل الله فيهم :{إنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ، وَاللهُ غَفُورٌ رَّحيمٌ}[الحجرات: 4-5] فردَّ عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأسرى والسبىَ.
فقام الزِّبْرقان شاعر بَنى تميم فأنشد مفاخراً
َنحْن الكِرامُ فَلا حَىٌ يُعادِلُنَا ... مِنَّا المُلُوكُ، وفِينا تُنْصَبُ البِيَعُ
وكم قَسَرْنَا من الأحْياءِ كُلِّهِم ... عند النِّهابِ وفَضْلُ العزِّ يُتَّبِعُ
ونَحْنُ يُطْعِمُ عِنْدَ القَحْطِ مُطْعِمُنَا ... مِن الشِّواءِ إذا لم يُؤْنَس القزَعُ
بِمَا تَرَى النَّاسَ تَأْتِينَا سَرَاتُهُمُ ... مِنْ كُلِّ أرْضٍ هُويّاً ثُمَّ نَصْطَنِعُ
فَنَنْحَرُ الكُومَ عُبْطاً فِى أَرُومَتِنَا ... للنازلين إذا ما أُنْزِلُوا شَبِعُوا
فلا ترانا إلى حىٍّ نُفاخِرُهُم ... إلا اسْتَفَادُوا فَكَانُوا الرَّأْسَ يُقْتَطعُ
فمَنْ يُفَاخِرُنَا فى ذَاكَ نَعْرِفُه ... فَيَرْجِعُ القَوْمُ والأخْبَارُ تُسْتَمَعُ
إنَّا أَبَيْنَا وَلاَ يَأْبَى لَنَا أحَدٌ ... إنَّا كَذلِكَ عِنْدَ الفَخْر نَرْتَفِع
...
فقام شاعر الإسلام حسَّان بن ثابت، فأجابه على البديهة:
إنَّ الذَّوائِبَ مِنْ فِهْرٍ وإخْوَتِهِمْ ... قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاس تُتَّبَعُ
يَرْضَى ِبها كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوى الإله وكُلُّ الخَيْر مُصْطَنَعُ
قَوْمٌ إذا حَارَبُوا ضَرُّوا عَدُوَّهُم ... أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ فى أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا
سَجِيَّةٌ تِلْكَ فِيهمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إنَّ الخَلائِقَ فاعْلَم شَرُّهَا البِدَعُ
إنْ كَانَ فِى النَّاسِ سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمُ ... فَكُلُّ سَبقٍ لأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ
لاَ يَرْقَعُ النَّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفُّهُمُ ... عِنْدَ الدِّفَاعِ ولاَ يُوهُونَ مَا رَقَعُوا
إنْ سَابَقُوا النَّاسَ يَوْمَاً فَازَ سَبْقُهُم ... أَوْ وازَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنَّدى مَتَعُوا
أَعِفَّةٌ ذُكِرَتْ فى الوَحْى عِفَّتُهُمْ ... لاَ يَطْبَعُونَ وَلا يُرْدِيهُمُ الطَّمَعُ
لاَ يَبْخَلُونَ عَلَى جَار بفَضْلِهِمُ ... وَلا يَمَسُّهُمُ مِنْ مَطْمَعٍ طَبَعُ
إذَا نَصَبْنَا لِحَىٍّ لَمْ نَدِبَّ لَهُمْ ... كَمَا يَدِبُّ إلى الوَحْشيّةِ الذُّرُعُ
نَسْمُوا إذا الحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا ... إذا الزَّعَانِفُ مِنْ أَظْفَارِهَا خَشَعُوا
لاَ يَفْخَرُونَ إذَا نَالُوا عَدُوَّهُمُ ... وإنْ أُصِيبُوا فَلا جَوْرٌ وَلاَ هَلَعُ
كَأَنَّهُمْ فى الوَغَى والمَوْتُ مُكْتَنِعٌ ... أُسْدٌ بحلية فى أرسَاغِها فَدَعُ
خُذْ مِنْهُمُ مَا أتَوا عَفْواً إذا غضبُوا ... وَلا يَكُنْ هَمكَ الأمْرَ الَّذِى منعُوا
فَإنَّ فى حَرْبِهِمْ فَاتْرُكْ عَدَاوَتَهُمْ ... شَراً يُخاضُ عَلَيْهِ السُّمُّ والسَّلَعُ
أَكْرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللهِ شِيعَتُهُمْ ... إذَا تَفَاوَتَتِ الأهوَاءُ والشِّيَعُ
أَهْدَى لَهُمْ مِدْحَتِى قَلْبٌ يُوَازِرُهُ ... فيما أحَبَّ لِسَانٌ حائِكٌ صَنَعُ
فَإنَّهُمْ أَفْضَلُ الأَحْيَاءِ كُلِّهِم ... إنْ جَدَّ بِالنَّاسِ جِدُّ القَوْل أو شمعوا
فلما فرغ حسَّان، قال الأقرع بن حابس: إنَّ هذا الرجل لَمُؤَتَّى له، لَخطيبُه أخطبُ مِن خطيبنا، ولَشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، ثم أسلموا، فأجازهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأحسن جوائزهم.
فصل
قال ابن إسحاق: فلما قدم وفد بنى تميم، دخلوا المسجد، ونادوا
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أخرج إلينا يا محمد، فآذى ذلك رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن صياحهم، فخرج إليهم، فقالوا: جئنا لِنفاخِرك، فأْذن لشاعرنا وخطيبنا قال: "نعم قَدْ أذِنْتُ لخطيبكم فليقم"، فقام عُطارد بن حاجب، فقال: الحمدُ لله الذى جعلنا ملوكاً، الذى له الفضل علينا، والذى وهب لنا أموالاً عِظاماً نفعل فيها المعروفَ، وجعلنا أعزَّ أهلِ المشرق وأكثَره عدداً، وأيسرَه
عُدّة، فمَن مثلُنا فى الناس؟ ألسنا رؤوس الناس، وأُولى فضلهم، فمَن فاخرنا، فليعُدّ مثل ما عَدَدْنَا، فلو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكن نستحيى من الإكثار لما أعطانا، أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا، أو أمرٍ أفضل مِن أمرنا. ثم جلس، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لثابت بن قيس بن شماس: "قُمْ فَأَجِبْهُ"، فقام فقال:
الحمد لله الذى السَّمواتُ والأرضُ خلقه، قضى فيهن أمرَه، ووسع كرسيَّه علمه، ولم يكن شىء قط إلا من فضله، ثم كان من فضله أن جعلنا ملوكاً، واصطفى من خير خلقه رسولاً، أكرمَه نَسَباً، وأصدقَه حديثاً، وأفْضلَه حسباً، فأنزل عليهِ كِتاباً، وائتمنه على خلقه، وكان خيرة الله مِن العالمين، ثم دعا الناسَ إلى الإيمان بالله، فآمن به المهاجرون من قومه ذوى رحمه، أكرم الناس أحساباً، وأحسنهم وجوهاً، وخير الناس فعلاً، ثم كان أوَّل الخلق إجابة واستجابة لله حين دعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحن، فنحن أنصار الله، ووزراءُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نُقاتِلُ الناسَ حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسولِه منع ماله ودمه، ومَن نكث جاهدناه فى الله أبداً، وكان قتلُه علينا يسيراً، أقول هذا، وأستغفر الله العظيم للمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم.
ثم ذكر قيام الزِّبْرقان وإنشاده، وجواب حسَّان له بالأبيات المتقدمة، فلما فرغ حسَّان من قوله، قال الأقرع بن حابس: إن هذا الرجل خطيبُه
أخطبُ مِن خطيبنا، وشاعِرُه أشعر من شاعرنا، وأقوالُهم أعلى من أقوالنا، ثم أجازهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأحسن جوائزهم.
فصل: فى ذكر سَرِيَّة قُطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم وكانت فى صفر سنة تسع
قال ابن سعد: قالُوا: بعث رسولُ الله قُطبة بن عامر فى عشرين رجلاً إلى حيٍّ مِن خثعم بناحية تَبَالة، وأمره أن يَشُنَّ الغارة، فخرجوا على عشرة أبعِرة يعتقِبُونها، فأخذوا رجلاً، فسألوه، فاستعجمَ عليهم، فجعل يصيحُ بالحاضرة ويحذِّرهم، فضربوا عنقه، ثم أقاموا حتى نام الحاضرة، فشنُّوا عليهم الغارة، فاقتتلوا قِتالاً شديداً حتى كَثُر الجرحى فى الفريقين جميعاً، وقَتَل قُطبةُ بن عامر مَن قتل، وساقُوا النَّعَم والنساءَ والشَّاء إلى المدينة، وفى القصة: أنه اجتمع القوم وركبوا فى آثارهم، فأرسل اللهُ سبحانه عليهم سيلاً عظيماً حال بينهم وبين المسلمين، فساقُوا النَّعَم والشاءَ والسبى، وهم ينظرون لا يستطيعون أن يعبروُا إليهم حتى غابوا عنهم.
فصل: فى ذكر سَرِيَّة الضحاك بن سفيان الكلابى إلى بنى كلاب فى ربيع الأول سنة تسع
قالوا: بعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيشاً إلى بنى كلاب، وعليهم الضحاك
بن سفيان بن عوف الطائى، ومعه الأصْيَدُ بن سلمة، فلقوهم بالزُّجِّ "زُجِّ لاوة"، فدعَوْهم إلى الإسلام، فأبَوْا، فقاتلوهم، فهزموهم. فلحق الأصْيَد أباه سلمة، وسلمة على فرس له فى غدير بالزُجِّ، فدعاه إلى الإسلام، وأعطاهُ الأمان، فسبَّه وسبَّ دينه، فضرب الأصْيَد عرقوبى فرس أبيه، فلما وقع الفرس على عرقوبيه، ارتكز سلمة على الرمح فى الماء، ثم استمسك حتى جاءه أحدُهم فقتله، ولم يقتله ابنه.
فصل: فى ذكر سرِيَّة علقمة بن مُجَزِّز المدلجى إلى الحبشة سنة تسع فى شهر ربيع الآخر
قالوا: فلما بلغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ ناساً من الحبشة تراياهم أهلُ جدة، فبعث إليهم علقمة بن مُجَزِّز فى ثلاثمائة، فانتهى إلى جزيرة فى البحر، وقد خاض إليهم البحر، فهربُوا منه، فلما رجع تعجَّل بعض القوم إلى أهليهم، فأذن لهم، فتعجَّل عبد الله بن حذافة السهمى، فأمَّره على مَن تعجَّل، وكانت فيه دُعابة، فنزلوا ببعض الطريق، وأوقدوا ناراً يصطلُون عليها، فقال: عزمتُ عليكم إلا تواثبتم فى هذه النار، فقام بعضُ القوم، فتجهَّزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها، فقال: اجلسوا إنما كُنتُ أضحكُ معكم، فذكروا ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "مَنْ أَمَرَكُم بِمَعْصِيَةٍ فلا تُطِيعُوهُ".
قلت: فى "الصحيحين" عن علىّ بن أبى طالب قال: بعث رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّة، واستَعملَ عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويُطيعوا، فأغضبوه، فقال: اجمعوا لى حطباً، فجمعوا، فقال: أوقدوا ناراً، ثم قال: ألم يأمْركُم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تسمعوا لى؟ قالوا: بلى. قال: فادخلوها، فنظر بعضُهم إلى بعض، وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من النار، فكانُوا كذلك حتى سكن غضبُه، وطُفئت النار، فلما رجعوا، ذكروا ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَداً"، وقال: "لا طَاعَة فى مَعْصِيَة الله، إنَّمَا الطَّاعَةُ فى المَعْروف".
فهذا فيه أنَّ الأمير كان من الأنصار، وأنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذى أمَّره، وأنَّ الغضب حمله على ذلك.
وقد روى الإمام أحمد فى "مسنده" عن ابن عباس، فى قوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 99] ، قال: نزلت فى عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدى، بعثه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سَرِيَّة، فإما أن يكونا واقعتين، أو يكون حديث علىّ هو المحفوظ.. والله أعلم.
فصل: فى ذكر سَرِيَّة علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه إلى صنم طيئ ليهدمه فى هذه السنة
قالوا: وبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علىَّ بن أبى طالب فى مائة وخمسين رجلاً من الأنصار على مائة بعير، وخمسين فرساً، ومعه راية سوداء، ولواء أبيض إلى الفُلس، وهو صنم طيئ ليهدمه، فشنوا الغارَة على محلة آل حاتم مع الفجر، فهدموه، وملؤوا أيديَهم من السبى والنَّعَم والشاء، وفى السبى أختُ عدى بن حاتم، وهرب عدى إلى الشام، ووجدوا فى خزانته ثلاثة أسياف، وثلاثة أدراع، فاستعمل على السبى أبو قتادة، وعلى الماشية والرِّثَّةِ عبد الله بن عتيك، وقسم الغنائم فى الطريق، وعزل الصفى لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يقسم على آل حاتم حتى قَدِمَ بهم المدينة.
قال ابن إسحاق: قال عدى بن حاتم: ما كان رجل من العرب أشدَّ كراهية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منى حين سمعتُ به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكنت امرءاً شريفاً، وكنت نصرانياً، وكنت أسير فى قومى بالمرباع، وكنت فى نفسى على دين، وكنت ملكاً فى قومى، فلما سمعتُ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كرهتُه، فقلت لغلام عربى كان لى، وكان راعياً لإبلى: لا أبا لك ؛ اعدد لى من إبلى أجمالاً ذللاً سماناً فاحبسها قريباً منى، فإذا سمعتَ بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذِنِّى، ففعل، ثم إنه أتانى ذات غداة، فقال: يا عدى ؛ ما كنتَ صانعاً إذا غشيتكَ خيلُ محمد، فاصنعه الآن، فإنى قد رأيتُ رايات، فسألت عنها فقالوا: هذه جيوشُ محمد. قال: فقلت: فقرِّب إلىَّ أجمالى،
فقرَّبها، فاحتملتُ بأهلى وولدى، ثم قلت: ألحق بأهل دينى مِن النصارى بالشام، وخلفتُ بنتاً لحاتم فى الحاضرة، فلما قدمتُ الشام، أقمتُ بها، وتحالفنى خيلُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتُصيبُ ابنة حاتم فيمن أصابت، فَقُدِمَ بها على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سبايا من طيئ، وقد بلغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هربى إلى الشام، فمرَّ بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله ؛ غاب الوافد، وانقطع الوالد، وأنا عجوز كبيرة، ما بى من خدمة، فَمُنَّ علىَّ، مَنَّ اللهُ عليك، قال: "مَن وافدك"؟ قالت: عدىُّ بن حاتم. قال: "الذى فَرَّ من الله ورسوله"؟ قالت: فَمُنَّ علىَّ. قال: فلما رجع ورجل إلى جنبه يُرى أنه علىّ، قال: سليه الحملان، قالت: فسألتُه، فأمر لها به. قال عدى: فأتتنى أُختى، فقالت: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلُها، ائته راغباً أو راهباً، فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه، قال عدى: فأتيتُه وهو جالس فى المسجد، فقال القومُ: هذا عدىُّ بنُ حاتم، وجئتُ بغير أمان ولا كتاب، فلما دُفِعْتُ إليه، أخذ بيدى، وقد كان قبل ذلك قال:
"إنى أرجو أن يجعل الله يدَه فى يدى"، قال: فقام لى، فلقيَتْهُ امرأة، ومعها صبى، فقالا: إنَّ لنا إليكَ حاجة، فقام معهما حتى قضى حاجتهما، ثم أخذ بيدى حتى أتى داره، فألقت له الوليدة وسادة، فجلس عليها، وجلستُ بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"ما يُفِرُّكَ؟ أيُفِرُّكَ أن تقول: لا إله إلا الله، فهل تعلم من إله سوى الله"؟ قال: قلت: لا. قال: ثم تكلم ساعة، ثم قال: "إنما تَفِرُّ أن يقال: الله أكبر، وهل تعلم شيئاً أكبرُ من الله"؟ قال: قلت: لا. قال: "فإنَّ اليهود مغضوبٌ عليهم وإنَّ النصارى ضالون" قال: فقلت: إنى حنيف مسلم. قال: فرأيتُ وجهه ينبسِطُ فرحاً. قال: ثم أمرنى فأُنزلتُ عند رجل من الأنصار، وجعلتُ أغشاه، آتيه طرفى النهار، قال: فبينا أنا عنده،
إذ جاء قوم فى ثياب من الصوف من هذه النمار، قال: فصلَّى وقام، فحثَّ عليهم، ثم قال: "يا أيُّهَا النَّاسُ ؛ ارْضَخوا منَ الفَضْل ولَوْ بصَاع، ولَوْ بنِصْفِ صَاع، وَلَوْ بقَبْضَةٍ، وَلَو بِبَعْضِ قَبْضَةٍ، يقى أحَدُكُمْ وَجْهَهُ حَرَّ جَهَنَّمَ أَو النَّارَ وَلَوْ بِتَمْرَةٍ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرةٍ، فَإنْ لَمْ تَجِدوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، فَإنَّ أَحَدَكُم لاقى الله، وقائلٌ لَهُ مَا أَقُولُ لَكُمْ: أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ مَالاً وَوَلَداً؟ فيقول: بَلَى، فيقول: أيْنَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ، فَيَنْظُرُ قُدَّامَهُ، وبَعْدَهُ وعَنْ يمينِهِ وعَنْ شِمَالِهِ، ثم لا يَجدُ شَيْئاً يقى به وَجْهَهُ حَرَّ جَهَنَّمَ، لِيقِ أحَدُكُمْ وَجْهَهُ النَّار وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فإنْ لَمْ يَجدْ فَبكلمةٍ طيِّبةٍ، فإنى لا أخافُ عَلَيْكُم الفَاقَة، فإنَّ الله نَاصِرُكُم ومُعْطيكم حَتَّى تَسيرَ الظَّعِينةُ مَا بَيْنَ يَثْرِبَ والحيرة، وأكثر ما يُخَافُ عَلَى مَطيَّتها السُّرّق"، قال: فجعلتُ أقول فى نفسى: فأين لصوص طيئ؟،
فصل: فى ذكر قصة كعب بن زهير مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانت فيما بين رجوعه من الطائف وغزوة تَبُوك
قال ابن إسحاق: ولما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الطائف، كتب بُجَيْر ابن زُهَيْر إلى أخيه كعب يُخبره أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل رجالاً بمكة
ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأنَّ مَن بقى من شعراء قريش ابن الزَّبَعْرَى، وهُبيرة بن أبى وهب قد هربوا فى كلِّ وجه، فإن كانت لك فى نفسك حاجة، فَطِرْ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه لا يقتل أحداً جاءه تائباً مسلماً، وإن أنت لم تفعل، فانج إلى نجائك، وكان كعب قد قال:
أَلا أَبْلِغَا عَنِّى بُجَيْراً رِسَالَةً ... فَهَلْ لَكَ فيما قُلْتَ وَيْحَكَ هَلْ لَكَا
فبَيِّنْ لَنَا إنْ كُنْتَ لَسْتَ بِفَاعِلٍ ... عَلى أىِّ شَىءٍ غَيْر ذَلِكَ دَلَّكَا
عَلَى خُلُق لَمْ تُلْفِ أُمَّاً ولا أباً ... عَلَيْهِ ولَمْ تُدْرِكْ عليه أخَاًلَكا
فَإنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بآسفٍ ... وَلاَ قَائِلٍ إمَّا عَثَرْتَ لَعًالَكَا
سَقَاكَ بِهَا المَأْمُونُ كَأْسَاً رَويَّةً ... فَأَنْهَلَكَ المَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا
قال: وبعث بها إلى بُجير، فلما أتت بُجيراً، كره أن يكتمها رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنشده إياها، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَقَاكَ المَأْمُونُ، صَدَقَ وإنَّهُ لَكَذُوبٌ، أَنَا المَأْمُونُ "، ولما سمع: "عَلَى خُلُق لَمْ تُلْفِ أُما وَلا أَباً عَلَيْهِ"، فقال: أجل. قال: لم يلف عليه أباه ولا أُمه، ثم قال بجير لكعب:
مَنْ مُبْلِغٌ كَعْباً فَهَلْ لَكَ فى الَّتِى ... تَلُومُ عليها بَاطِلاً وهى أحزَمُ
إلى الله لا العُزَّى ولا اللاتِ وَحْدَهُ ... فَتَنْجُو إذَا كَانَ النَّجَاءُ وتَسْلَمُ
لَدَى يَوْمَ لا يَنْجُو وليس بِمفْلِتٍ ... مِنَ النَّاسِ إلا طَاهِرُ القَلْبِ مُسْلِمُ
فَدِينُ زُهَيْرٍ وهو لا شَىءَ دِينُهُ ... ودِينُ أبى سُلْمى عَلىَّ مُحَرَّمُ
فلما بلغ كعباً الكتاب، ضاقت به الأرضُ، وأشفق على نفسه، وأرجف به مَن كان فى حاضِره من عدوه، فقال: هو مقتول،
فلما لم يجد من شىء بُداً، قال قصيدته التى يمدح فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه، ثم خرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جُهينة، كما ذُكِر لى، فغدا به إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين صلَّى الصبح، فصلَّى مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أشار إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: هذا رسولُ الله، فقم إليه فاستأمِنْه، فَذُكِرَ لى أنه قام إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جلس إليه، فوضع يده فى يده، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعرِفُه، فقال: يا رسول الله؛ إنَّ كعب ابن زهير قد جاء ليستأمِنَك تائباً مسلماً، فهل أنتَ قابلٌ منه إن أنا جئتُك به؟ قال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نعم". قال: أنا يا رسولَ الله كعب بن زهير.
قال ابن إسحاق: فحدَّثنى عاصم بن عمر بن قتادة، أنه وثب عليه رجل من الأنصار، فقال: يا رسولَ الله؛ دعنى وعدو الله أضربْ عنقه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دعه عنك، فقد جاء تائباً نازعاً عما كان عليه" قال: فغضب كعب على هذا الحى من الأنصار لما صنع به صاحبُهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير، فقال قصيدته اللامية التى يصف فيها محبوبته وناقته التى أولها:
َبانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِى اليَوْمَ مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
يَسْعَى الغُوَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَوْلُهُمُ ... إنَّكَ يَا ابْنَ أبى سُلْمَى لَمَقْتُولُ
وَقَالَ كُلُّ صَدِيقٍ كُنْتُ آمُلُهُ ... لا أُلْهِيَنَّكَ إنى عَنْكَ مَشْغُولُ
فَقُلْتُ خَلُّوا طَرِيقِى لاَ أَبَا لَكُم
فَكُلُّ ما قَدَّرَ الرَّحْمنُ مَفْعُولُ
كُلُّ ابن أُنْثَى وإن طَالَتْ سَلاَمَتُه
يَوْماً عَلَى آلةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
نُبِّئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَنى
والعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ
مَهْلاً هَدَاكَ الَّذى أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الـ
ـقُرْآنِ فيهَا مَوَاعيظٌ وَتَفْصِيلُ
لاَ تَأْخُذَنِّى بِأَقْوَالِ الوُشَاةِ ولَمْ
أُذْنِبْ ولو كَثُرَتْ فىَّ الأَقَاويلُ
لَقَدْ أَقُومُ مَقَاماً لَوْ يَقُومُ بِهِ
أرى وأَسْمَعُ مَا لَوْ يَسْمَعُ الفِيلُ
لَظَلَّ تُرْعَدُ مِنْ خَوْفٍ بوادِرُه
إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَسُولِ اللهِ تَنْوِيلُ
حَتَّى وَضَعْتُ يَمِينِى مَا أُنَازِعُهَا
فى كَفِّ ذِى نَقِماتٍ قَوْلُه القِيلُ
فَلَهْوَ أَخْوفُ عندى إذ أُكَلِّمُه
وقيلَ إنَّك منسوبٌ ومسؤولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بِضَراءِ الأَرْضِ مُخْدَرُهُ
فى بَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَه غِيلُ
يَغْدُوُ فيُلْحِمُ ضِرغامَيْن عَيْشُهُمَ
الَحْمٌ مِنَ النَّاسِ، مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ
إذا يُسَاورُ قِرْناً لاَ يَحِلُّ لَهُ
أَنْ يَتْرُكَ القِرْنَ إلاَّ وَهو مَفْلُولُ
مِنْهُ تَظَلُّ سِبَاعُ الجَوِّ نَافِرَةً ... وَلا تَمَشَّى بوَادِيهِ الأرَاجِيلُ
وَلا يَزَالُ بِوَادِيهِ أخُو ثِقَةٍ ... مضرَّج البَزِّ والدُّرْسَانِ مَأْكُولُ
إنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ مَسْلُولُ
فى عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلهُمْ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ لما أسْلَمُوا زُولُوا
زَالُوا فَما زَالَ أَنْكَاسٌ ولا كُشُفٌ ... عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلا مِيلٌ مَعَازِيلُ
يمْشُونَ مَشْىَ الجِمالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُم ... ضَرْبٌ إذَا عَرَّدَ السُودُ التَّنابِيلُ
شُمُّ العَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمُ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فى الهَيْجا سَرَابيلُ
بيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكَّتْ لها حَلَقٌ ... كَأنَّهَا حَلَقُ القَفْعاءِ مَجْدُولُ
لَيْسُوا مَفَارِيحَ إنْ نَالَتْ رِمَاحُهُمُ ... قَوْمَاً ولَيْسُوا مَجَازِيعاً إذا نِيلُوا
لاَ يَقَع الطَّعْنُ إلاَّ فى نُحُورِهمُ ... وَمَا لَهُمْ عَنْ حِياضِ المَوْتِ تَهْلِيلُ
قال ابن إسحاق: قال عاصم بن عمر بن قتادة: فلما قال كعب:
"إذاَ عرَّدَ السُودُ التَّنابِيلُ" وإنما عنى معشر الأنصار لِما كان صاحبنا صنع به ما صنع، وخص المهاجرين بمدحته، غضبت عليه الأنصارُ، فقال بعد أن أسلم يمدح الأنصار فى قصيدته التى يقول فيها:
مَنْ سَرَّهُ كَرَمُ الحَيَاةِ فَلاَ يَزَلْ ... فى مِقْنَبٍ مِنْ صَالحى الأنْصَارِ
وَرِثُوا المَكَارِمَ كَابِراً عَنْ كَابِرٍ ... إنَّ الخِيَارَ هُمُ بَنُو الأَخْيارِ
البَاذِلِينَ نُفُوسَهمْ لِنَبِيِّهمْ ... يَوْمَ الهِيَاجِ وسَطْوَةِ الجَبَّارِ
وَالذَّائِدِينَ النَّاسَ عَنْ أَدْيَانِهِم ... بِالمَشْرَفِىِّ وبِالقَنَا الخَطَّارِ
والبَائِعِينَ نُفُوسَهْمُ لِنَبِيِّهِمْ ... لِلْمَوْتِ يَوْمَ تَعانُقٍ وَكِرارِ
يَتَطَهَّرُونَ يَرَوْنَهُ نُسُكاً لَهُمْ ... بِدِمَاءِ مَنْ عَلِقُوا مِنَ الكُفَّارِ
وَإذَا حَلَلْتَ لِيَمْنَعُوكَ إلَيْهِم ... أَصْبَحْتَ عِنْدَ مَعَاقِلِ الأعْفَارِ
قَوْمٌ إذا خَوَتِ النُّجُومُ فَإنَّهُم ... لِلطارِقِينَ النَّازِلِينَ مَقَارِى
وكعب بن زهير من فحول الشعراء، هو وأبوه، وابنه عقبة، وابن ابنه العوام بن عقبة، ومما يُستحسن لكعب قوله:
لَوْ كُنْتُ أَعْجَبُ مِنْ شَىءٍ لأَعْجَبَنى ... سَعْىُ الفَتَى وهو مَخْبُوءٌ له القَدَرُ
يَسْعَى الفَتَى لأُمُورٍ لَيْسَ يُدْركُهَا ... فَالنَّفْسُ وَاحِدَةٌ وَالهَمُّ مُنْتَشِرُ
وَالمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أمَلٌ ... لاَ تَنْتَهِى العَيْنُ حَتَّى يَنْتَهى الأَثَرُ
ومما يُستحسن له أيضاً قوله فى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تُحْدى بِهِ النَّاقَةُ الأَدْمَاءُ مُعْتَجِراً ... لِلبُرْدِ كَالبَدْرِ جُلِّى لَيْلَة الظُّلَمِ
ففى عِطافَيْهِ أو أَثْنَاءِ بُرْدَتِهِ ... مَا يَعْلَمُ اللهُ مِنْ دِينٍ وَمِنْ كَرَمِ
فصل: فى غزوة تَبُوك وكانت فى شهر رجَب سنةَ تسع
قال ابن إسحاق: وكانت فى زمن عُسْرَةٍ مِنَ الناس، وجَدْبٍ من البلاد، وحين طابت الثمارُ، والناس يُحبون المُقام فى ثمارهم وظِلالهم، ويكرهون شُخوصهم على تلك الحال، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلَّما يخرج فى غزوة إلا كنَّى عنها، وورَّى بغيرها، إلا ما كان مِن غزوة تَبُوك، لبُعْد الشُّقة، وشِدة الزمان.
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذاتَ يوم، وهو فى جَهَازه للجَدِّ بنِ قيس أحد بنى سلمة: "يا جَدُّ؛ هَلْ لَكَ العَامَ فى جِلاَدِ بَنى الأَصْفَرِ"؟ فقال: يا رسول الله؛ أَوَ تأذنُ لى ولا تَفْتِنِّى؟ فواللهِ لقد عرف قومى أنه ما مِن رَجُلٍ بأشدَّ عجباً بالنساء
منى، وإنِّى أخشى إن رأيتُ نساءَ بنى الأصفر أن لا أصبِرَ، فأعرضَ عنه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: "قَدْ أَذِنْتُ لَكَ"، ففيه نزلت الآية: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائذَنْ لِّى وَلا تَفْتِنِّى} [التوبة: 49]
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفِرُوا فى الحَرِّ، فأنزل الله فيهم: {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرِّ} الآية [التوبة: 81].
ثُم إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جدَّ فى سفره، وأمر الناسَ بالجَهَاز، وحضَّ أهلَ الغِنَى على النفقة والحُملان فى سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغِنَى واحتسبُوا، وأنفق عثمانُ بن عفانُ فى ذلك نفقةً عظيمة لم يُنفِقْ أحدٌ مِثلها.
قلت: كانت ثلاثمائة بعير بأحْلاسها وأقتابِها وعُدَّتها، وألفَ دينار عَيْناً.
وذكر ابنُ سعد قال: بلغ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الرومَ قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام، وأن هِرَقْل قد رَزَق أصحابَه لسنة، وأجلبت معه لَخْمٌ،
وجُذام، وعَامِلَة، وغسان، وقدَِّموا مقدماتهم إلى البلقاء.
وجاء البكَّاؤون وهم سبعة يستحمِلُون رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "لا أجدُ مَا أَحْمِلُكم عَلَيْه "، فتولَّوْا وأعينُهم تفيضُ من الدمع حزناً أن لا يجدوا ما يُنفقون، وهم سالمُ بن عُمير، وعُلْبَةُ بنُ زيد، وأبو ليلى المازنى، وعمرو بن عَنَمَة، وسلمة بن صخر، والعِرباض بن سارية.
وفى بعض الروايات: وعبد الله بن مُغَفَّل، ومعقِلُ بن يسار.
وبعضهم يقول: البكَّاؤون بنو مُقَرِّن السبعة، وهم من مُزينة. وابن إسحاق: يعدُّ فيهم عَمْرو بن الحُمام بن الجَموح.
وأرسل أبا موسى أصحابُه إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيحمِلهم، فوافاه غضبان، فقال: "واللهِ لا أحملكم، ولا أَجدُ ما أحمِلُكم عليه"، ثم أتاه إبل، فأرسل إليهم، ثم قال: "مَا أَنَا حمَلْتُكُم، ولَكِنَّ الله حَمَلَكُم، وإنِّى وَاللهِ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرَاً مِنْهَا، إلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينى وَأَتَيْتُ الَّذى هُوَ خَيْرٌ".
فصل
وقام عُلبة بن زيد فصلَّى من الليل وبكى، وقال: اللهُمَّ إنَّك قد أمرتَ بالجهاد، ورغَّبتَ فيه، ثم لم تجعل عندى ما أتقوَّى به مع رسولك، ولم
تجعل فى يد رسولك ما يحمِلُنى عليه، وإنى أتصدَّق على كل مسلم بكل مَظْلِمَةٍ أصابنى فيها مِن مال، أو جسد، أو عِرض، ثم أصبح مع الناس، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أيْنَ المُتَصَدِّقُ هذِهِ اللَّيْلَة"؟. فلم يقم إليه أحد، ثم قال: "أَيْنَ المُتَصَدِّقُ فَلْيَقُمْ"، فَقَام إليه، فأخبرَه، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "أَبْشِرْ فَوالذى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ كُتِبَتْ فى الزَّكَاةِ المتَقَبَّلَة".
وجاءَ المعذِّرُونَ من الأعرابِ ليؤذن لهم، فلم يَعْذِرْهم. قال ابن سعد: وهم اثنان وثمانون رجلاً، وكان عبدُ الله بنُ أُبَىّ بن سَلول قد عسكر على ثنية الوَداع فى حُلفائه من اليهود والمنافقين، فكان يقال: ليس عسكره بأقلِّ العسكرين، واستخلف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المدينة محمد بن مسلمة الأنصارى. وقال ابن هشام: سباع بن عُرْفُطَةَ، والأول أثبت.
فلما سار رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تخلَّف عبدُ الله بن أُبَىّ ومَنْ كان معه، وتخلَّف نَفَر مِن المسلمين مِن غير شك ولا ارتياب، منهم: كعبُ بن مالك، وهِلالُ ابن أُمية، ومُرَارَةُ بنُ الربيع وأبو خَيثمة السالمى، وأبو ذر، ثم لحقه أبو خيثمة، وأبو ذر، وشهدها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ثلاثين ألفاً مِن الناس، والخيلُ عشرة آلاف فرس، وأقام بها عشرين ليلة يقصُر الصَّلاة، وهِرَقْلُ يومئذِ بحمص.
قال ابن إسحاق: ولما أراد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخروجَ، خلَّف علىَّ بنَ أبى طالب على أهله، فأرْجَفَ به المنافقون، وقالوا: ما خلَّفه إلا استثقالاً وتخففاً منه، فأخذ علىُّ رضى الله عنه سِلاحه، ثم خرج حتى أتى رسولَ
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو نازل بالجُرْفِ، فقال: يا نبىَّ الله؛ زعم المنافقون أَنك إنما خلَّفتنى لأنك استثقلتنى وتخففتَ منى، فقال: "كَذَبُوا، ولكِنِّى خَلَّفْتُكَ لما تركْتُ وَرَائِى، فارْجعْ فَاخْلُفْنى فى أهْلِى وَأَهْلِكَ، أَفَلاَ تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّى بِمَنْزِلَةِ هَارُون مِنْ مُوسى؟ إلا أنَّهُ لا نَبِىَّ بَعْدِى" فرجع علىُّ إلى المدينة.
ثُمَّ إنَّ أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أياماً إلى أهله فى يوم حار، فوجد امرأتين له فى عريشينِ لهما فى حائطه، قد رشَّت كُلُّ واحدة منهما عريشَها، وبرَّدَتْ له ماء، وهيأت له فيه طعاماً، فلما دخل، قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الضِّحِّ، والرِّيح، والحر، وأبو خيثمة فى ظِلٍّ بارد، وطعام مُهَيأ، وامرأة حسناء، فى ماله مقيم؟ ما هذا بالنَّصَفِ، ثم قال: واللهِ لا أدخل عريشَ واحدة منكما حتى ألحقَ برسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهيِّئا لى زاداً، ففعلتا، ثم قدَّم ناضِحه، فارتحله، ثم خرج فى طلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أدركه حين نزل تَبُوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عُميرُ بن وهب الجمحى فى الطريق يطلُب رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فترافقا حتى إذا دنوا من تَبُوك، قال أبو خيثمة لِعُمير بن وهب: إنَّ لى ذنباً، فلا عليك أن تتخلَّف عنى حتى آتىَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففعل حتى إذا دنا مِن رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو نازل بتَبُوك، قال الناس: هذا راكبٌ على الطريق مُقبل، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُنْ أبَا خَيْثَمَةَ" قالوا: يا رسول
الله؛ هو واللهِ أبو خيثمة، فلما أناخَ أقبل، فسلَّم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أوْلى لَكَ يَا أبَا خَيْثَمَة"، فأخبرَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرَه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَاً ودعا له بخير.
وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين مرَّ بالحِجْر بديار ثمود، قال: "لا تَشْرَبُوا مِنَ مَائِهَا شَيْئاً، وَلا تَتَوَضَّؤوا مِنْهُ لِلصَّلاةِ، وما كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوه فَاعْلِفُوهُ الإبِلَ، ولا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئاً، ولا يَخْرُجَنَّ أحَدٌ منكم إلا ومعه صَاحِبٌ له"، ففعل النَّاسُ، إلا أنَّ رجلين من بنى ساعدة خرج أحدُهما لحاجته، وخرج الآخرُ فى طلب بعيره، فأما الذى خرج لحاجته، فإنه خُنِق على مذهبه، وأما الذى خرج فى طلب بعيره، فاحتملته الريحُ حتى طرحته بجبلى طيئ، فأُخبرَ بذلك رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "ألمْ أنْهَكُم أَنْ لا يَخْرُجَ أحَدٌ مِنْكُم إلاَّ ومَعَهُ صَاحِبُه"، ثم دعا للذى خُنِقَ على مذهبه فشُفى، وأما الآخر، فأهدته طيئ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قدم المدينة.
قلت: والذى فى "صحيح مسلم"، من حديث أبى حُمَيد: انطلقنا حتى قَدِمْنَا تَبُوكَ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" سَتَهُبُّ عَلَيْكُم اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلا يَقُمْ مِنْكُم أحَدٌ، فَمنْ كانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيَشُدَّ عِقَالهُ" فهبَّت رِيحٌ شَدِيدَة، فقام رجل فحملته الريحُ حتى ألقته بِجَبَلَىْ طَىِّء.
قال ابن هشام: بلغنى عن الزُّهْرى أنه قال: لما مرَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بالحِجْر، سجَّى ثوبه على وجهه، واستحثَّ راحلته، ثم قال: "لا تَدْخُلُوا بُيوتَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم إلاَّ وَأَنْتُم بَاكُونَ خَوْفاً أنْ يُصِيبَكُم مَا أَصَابَهُمْ".
قلت: فى "الصحيحين" من حديث ابن عمر، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تَدْخُلوا عَلى هؤلاءِ القَوْمِ المُعَذَّبِينَ إلاَّ أنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فإنْ لم تَكُونُوا بَاكِينَ، فَلا تَدْخُلوا عَلَيْهِم لا يُصِيبُكم مِثْلُ مَا أَصَابَهُم".
وفى "صحيح البخارى" أنه أمرهم بإلقاء العجين وطرحه.
وفى "صحيح مسلم": أنه أمرهم أن يَعْلِفوا الإبلَ العَجِينَ، وأن يُهرِيقُوا الماءَ، ويستقوا من البئر التى كانت تَرِدُها الناقة. وقد رواه البخارىُّ أيضاً، وقد حفظ راويه ما لم يحفظه مَنْ روى الطرح.
وذكر البيهقىُّ أنه نادى فيهم: الصلاةَ جامعة، فلما اجتمعوا، قال: "علامَ تدخُلون على قوم غَضِبَ اللهُ عليهم"، فناداه رجل فقال: نَعْجَبُ مِنْهُم يَا رَسول الله، فقال: " ألاَ أُنْبِئُكُم بِما هُوَ أعْجَبُ مِنْ ذلِكَ؟ رَجُلٌ مِنْ أنْفُسِكُم يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَكُم وَمَا هُو كَائِنٌ بَعْدَكُم، اسْتَقِيمُوا وَسَدِّدُوا، فإنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَعْبأُ بِعَذِابِكُم شَيْئاً، وَسَيأتِى اللهُ بِقَوْمٍ لا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفْسِهِم شيئاً".
فصل
قال ابن إسحاق: وأصبح الناسُ ولا ماء معهم، فَشكَوْا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسلَ الله سُبحانه سحابةً، فأمطرت حتى ارتوى الناسُ، واحتملُوا حاجَتهم من الماء.
ثم إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سار حتى إذا كان ببعضِ الطريق، ضلَّت ناقتُه، فقال زيد بن اللُّصَيْتِ وكان منافقاً: أليس يزعُمُ أنه نبى، ويُخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدرى أين ناقتُه؟ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ رَجُلاً يَقُولُ، وذَكَرَ مَقَالَتَهُ، وإنِّى والله لا أعْلَمُ إلاَّ ما عَلَّمنى اللهُ، وقَدْ دَلَّنى الله عَلَيْهَا، وهى فى الوَادى فى شِعْبِ كَذا وكَذَا، وقَدْ حَبَسَتْها شَجَرَةٌ بِزِمَامِها، فانْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتونى بها" فذهبوا فأَتَوْهُ بها.وفى طريقه تلك خَرَصَ حديقة المرأة بعشرة أوسق.
ثم مضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل يتخلَّف عنه الرجلُ فيقولون: تخلَّف فلان، فيقول: "دَعُوه فإنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ، فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُم، وإنْ يَكُ غَيْرَ ذلِكَ، فَقَد أرَاحَكُمُ اللهُ مِنْهُ". وتلوَّم على أبى ذَرٍ بعيرُه، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه على ظهره، ثم
خرج يتبعُ أثر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماشياً، ونزل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى بعض منازله، فنظر ناظر مِن المسلمين فقال: يا رسولَ الله؛ إنَّ هذا الرجل يمشى على الطريق وحدَه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُنْ أبَا ذَرٍ"، فلما تأمله القومُ، قالوا: يا رسول الله؛ واللهِ هو أبو ذر. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَحِمَ اللهُ أبا ذَرٍ؛ يَمْشِى وَحْدَهُ، ويَمُوتُ وَحْدَهُ، ويُبْعَثُ وحْدَهُ".
قال ابن إسحاق: فحدَّثنى بريدة بن سفيان الأسلمى، عن محمد بن كعب القُرظى، عن عبد الله بن مسعود قال: لما نفى عثمانُ أبا ذر إلى الرَّبذَةِ، وأصابه بها قَدَرُه، لم يكن معه أحدٌ إلا امرأتُه وغلامُه، فأوصاهما: أن غَسِّلانى وكَفِّنانى، ثم ضعانى على قارعة الطريق، فأوَّل رَكْب يمرُّ بكم فقولُوا: هذا أبو ذر صاحبُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعينونا على دفنه، فلما مات، فعلا ذلك به، ثم وضعاه على قارعة الطريق، وأقبل عبدُ الله بن مسعود فى رهط معه من أهل العِراق عُمَّاراً فلم يَرُعْهُمْ إلا بالجِنازة على ظهر الطَّريق قد كادت الإبلُ تَطَؤُها، وقام إليهم الغلام، فقال: هذا أبو ذر صاحبُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعينونا على دفنه، قال: فاستهلَّ عبدُ الله يبكى ويقول: صدقَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَمْشِى وَحْدَكَ، وتَمُوتُ وَحْدَكَ، وتُبْعَثُ وَحْدَكَ" ، ثم نزل هو وأصحابه، فوارَوْه، ثم حَدَّثهم عبدُ الله بن مسعود حديثه، وما قال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى مسيره إلى تَبُوك.
قلت: وفى هذه القصة نظر، فقد ذكر أبو حاتم بن حبان فى "صحيحه"
وغيره فى قصة وفاته، عن مجاهد، عن إبراهيم بن الأشتر، عن أبيه، عن أُم ذر، قالت: لما حضرت أبا ذَر الوفاةُ، بَكَيْتُ، فقال: ما يُبكيكِ؟ فقلت: ما لى لا أبكى، وأنت تموتُ بفَلاة من الأرض، وليس عندى ثوبٌ يسعُك كفَناً، ولا يدان لى فى تغييبك؟ قال: أبشرى ولا تبكى، فإنى سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لنَفَرٍ أنا فيهم: "لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ منكم بِفلاةٍ مِنَ الأرض يَشْهَدُه عِصَابةٌ من المُسْلمين" وليس أحَدٌ من أولئِكَ النَّفَرِ إلا وقد مات فى قريةٍ وجمَاعةٍ، فأنا ذلِكَ الرَّجُلُ، فواللهِ ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، فأبصرى الطريق، فقُلت: أنَّى وقد ذهب الحاجُّ، وتقطعت الطُّرُقُ؟، فقال: اذهبى فتبصَّرى. قالت: فكنتُ أُسنِدُ إلى الكَثِيبِ أتبصَّر، ثم أرجع فأُمرِّضه، فبينا أنا وهو كذلك، إذ أنا برجال على رِحالهم كأنهم الرَّخَمُ تَخُبُّ بهم رواحِلُهم، قالت: فأشَرتُ إليهم، فأسرعوا إلىَّ حَتى وقفُوا علىَّ فقالوا: يا أَمةَ الله؛ مالك؟ قلت: امرؤ من المسلمين يَمُوت تُكفنونه. قالوا: ومَن هو؟ قلت: أبو ذر. قالوا: صاحِبُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قلت: نعم، ففدَّوْه بآبائهم وأُمهاتِهم، وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه، فقال لهم: أبشِروا فإنى سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لنَفَر أنا فيهم: " لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ منكم بِفَلاةٍ مِن الأرضِ يَشْهَدُه عِصَابةٌ من المؤمنين" وَلَيْسَ مِنْ أُولئِكَ النَّفَرِ رَجُلٌ إلاَّ وقد هَلَكَ فى جَمَاعَةٍ، واللهِ ما كَذَبْتُ ولاَ كُذِبْتُ، إنه لو كان عندى ثوبٌ يسعُنى كفناً لى أو لامرأتى، لم أكُفَّن إلا فى ثوب هُوَ لى أو لها، فإنى أنشُدُكُم الله أن لا يكفِّنَنى رجل منكم كان أميراً، أو عريفاً، أو بريداً، أو نقيباً، وليس من أولئك النَّفَر أحد إلا وقد قارفَ بعضَ ما قال إلا فتًى من الأنصار قال: أنا يا عمُّ، أُكَفِّنُك فى ردائى هذا، وفى ثوبين مِن عَيبتى من غزل أُمى. قال: أنتَ فكفِّنى، فكفَّنه الأنصارى، وقاموا عليه، ودفنوه
فى نَفَر كُلُّهم يمان.
رجعنا إلى قصة تبوك: وقد كان رهطٌ من المنافقين، منهم: وديعة بن ثابت أخو بنى عَمْرو بن عَوْف، ومنهم رجل مِن أشجع حليف لبنى سلمة يقال له: مَخْشى بن حُمَيِّر، قال بعضهم لبعضٍ: أتحسبون جلاد بنى الأصفر، كقتال العرب بَعضِهم لبعض؟ واللهِ لكأنَّا بكم غداً مقرَّنين فى الحِبال، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين. فقال مَخْشِى بن حُمَيِّر: واللهِ لودِدت أنى أُقَاضَى على أن يُضرب كُل منا مائةَ جَلدة، وإنَّا ننفلِتُ أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمَّار بن ياسر: "أدْرِك القَوْمَ، فإنهم قد احْتَرَقُوا فَسَلْهُم عَمَّا قالوا؟ فإن أنكروا، فَقُلْ: بل قُلتُم: كذا وكذا". فانطلق إليهم عمَّار، فقال لهم ذلك، فأتوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتذِرُون إليه، فقال وديعة بن ثاب: كنا نخوضُ ونلعبُ، فأنزل الله فيهم : {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ} [التوبة: 65] فقال مخشى بن حُمْيِّر: يا رسول الله؛ قعد بى اسمى واسمُ أبى، فكان الذى عُفىَ عنه فى هذه الآية، وتسمَّى عبد الرحمن، وسألَ الله أن يُقتل شهيداً لا يُعلم بمكانه، فقُتِل يومَ اليمامة، فلم يوجد له أثر.
وذكر ابن عائذ فى "مغازيه"، أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل تَبُوكَ فى زمان قلَّ ماؤُها فيه، فاغترف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرفةً بيده من ماء، فمضمض بها فاه، ثم بصقه فيها، ففارت عينُها حتى امتلأت، فهى كذلك حتى الساعة.
قلت: فى "صحيح مسلم" أنه قال قبل وصوله إليها: "إنَّكُم سَتَأتُونَ غداً إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى عَيْنَ تَبُوك، وإنَّكُم لَنْ تَأْتُوها حَتَّى يُضْحِىَ النَّهارُ،
فمَن جَاءَهَا فلا يَمَسنَّ مِنْ مائِها شيئاً حتى آتى ". قال: فجئناها وقَدْ سَبَق إليها رَجُلانِ، والعَيْن مِثْلُ الشِّرَاكِ تًبِضُّ بشئ من ماءٍ، فسألهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هل مَسَسْتُما مِن مائها شيئاً"؟ قالا: نَعم، فسبَّهُمَا النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال لهما ما شاء اللهُ أن يقول، ثُمَّ غرفُوا مِن العَيْن قليلاً قليلاً حتى اجتمع فى شئ، وغسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه وجهَه ويَدَيْه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء مُنْهمِرٍ، حتى استقى النَّاسُ، ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُوشِكُ يا مُعاذُ إن طالتْ بكَ حَياةٌ أن ترى ما هاهنا قدْ مُلِئ جِنَاناً".
فصل
ولما انتهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى تَبُوك، أتاه صاحبُ أَيْلَة، فصالحَه وأعطاه الجزيةَ، وأتاه أهل جَرْبا، وأذْرُح، فأعطَوْه الجزيَة، وكتب لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاباً، فهو عِندهم، وكتب لِصاحب أَيْلة: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا أَمَنَةٌ مِن الله، ومحمد النبى رسول الله لِيُحَنَّةَ بن رُؤْبَةَ، وأهلِ أَيْلَة، سُفنهم، وسيارتهم فى البرِّ والبحرِ، لهم ذِمةُ اللهِ، ومحمد النبى، ومَنْ كان معهم مِن أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر، فمَن أحدث منهم حَدَثاً، فإنه لا يَحولُ مالُه دونَ نفسه، وإنَّه لمن أخذه مِن الناس، وإنه لا يحِلُّ أن يُمنعوا ماءً يردونه، ولا طريقاً يردونه من بَحْرٍ أو بَرٍّ".
فصل: فى بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالد بن الوليدإلى أُكَيْدِرِ دُومة
قال ابن إسحاق: ثم إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث خالد بن الوليد إلى أُكَيْدر دُومة، وهو أُكَيْدر بن عبد الملِك، رجل مِن كِندة، وكان نصرانياً، وكان ملكاً عليها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالد: "إنَّكَ سَتجِدُه يَصِيدُ البَقَرَ"، فخرجَ خالد حتى إذا كان مِن حصنه بمنظر العَيْن، وفى ليلة مُقمرة صَافية، وهو على سطح له، ومعه امرأته، فباتَتِ البقرُ تَحُكُّ بِقُرونها بابَ القصر، فقالتْ له امرأتُه: هل رأيتَ مثل هذا قطُّ؟ قال: لا واللهِ. قالت: فمَن يترك هذه؟ قال: لا أحد، فنزل، فأمر بفرسه، فأُسرجَ له، وركب معه نَفَر مِن أهل بيته فيهم أخ له يقال له: حسَّان، فركب وخرجُوا معه بمطاردهم، فلما خرجُوا، تلقَّتهم خيلُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخذته، وقتلوا أخاه، وقد كان عليه قَباء مِن دِيباج مخوَّصٌ بالذهب، فاستلبه خالد، فبعثَ به إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبلَ قدومه عليه، ثم إن خالداً قدم بأُكَيْدر على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحقن له دَمَه، وصالحه على الجزية، ثم خلَّى سبيله، فرجع إلى قريته.
وقال ابنُ سعد: بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالداً فى أربعمائة وعشرين فارساً، فذكر نحو ما تقدَّم. قال: وأجار خالد أُكَيْدر من القتل حتى يأتىَ به رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على أن يَفتح له دُومة الجندل، ففعلَ وصالحه على ألفى بعير، وثمانمائة رأس، وأربعمائة دِرع، وأربعمائة رُمح، فعزل للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَفِيَّهُ خالِصاً، ثم قسم الغنيمة، فأخرج الخُمس، فكان للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قسم ما بقى فى أصحابه، فصار لِكل واحد منهم خَمْسُ فرائض.
وذكر ابنُ عائذ فى هذا الخبر، أنَّ أُكَيْدر قال عن البقر: واللهِ ما رأيتها قط أتتنا إلا البارحة، ولقد كنتُ أُضْمِرُ لها اليومينِ والثلاثة، ولكن قدر الله.
قال موسى بن عُقبة: واجتمع أُكَيْدر، ويُحَنَّة عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعاهما إلى الإسلام، فأبيا، وأقرا بالجزية، فقاضاهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قضية دُومة، وعلى تَبوك، وعلى أَيْلَة، وعلى تيماء، وكتب لهما كتاباً.
رجعنا إلى قصة تبوك: قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتَبُوك بِضعَ عشرة ليلةً لم يُجاوزها، ثم انصرف قافلاً إلى المدينة، وكان فى الطريق ماء يخرج من وَشَل يُروى الراكبَ والراكبين والثلاثة، بوادٍ يقال له: وادى المُشَقَّق، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَبَقَنَا إلى ذلِك المَاءِ، فَلاَ يَسْتَقِينَّ منه شَيْئاً حَتَّى نأتيه" قال: فسبقه إليه نَفَر من المنافقين، فاستَقَوْا، فلم ير فيه شيئاً، فقال: "مَنْ سَبَقَنَا إلى هذَا المَاءِ"؟ فقيل له: يا رسول الله؛ فلان وفلان. فقال: "أوَ لَمْ أَنْهَهُم أَنْ يَسْتَقُوا مِنْهُ شَيْئاً حَتَّى آتيَه"، ثم لَعَنهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودعا عليهم، ثم نَزَل فوضع يده تحتَ الوشل، فجعل يَصُبُّ فى يده ما شاء الله أن يَصُبَّ، ثم نَضَحه به، ومسحه بيده، ودعا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما شاء الله أن يدعوَ به، فانخرق مِن الماءكما يقول مَن سمعه ما إن له حِسّاً كحِسِّ الصواعِق، فشرب الناسُ، واستقوا حاجتهم منه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَئِنْ بَقِيتُم أوْ مَنْ بَقِىَ مِنْكُم لَيَسْمَعَنَّ بهذا الوادى، وهُوَ أخْصَبُ مَا بين يَدَيْهِ ومَا خلفه".
قلت: ثبت فى "صحيح مسلم" أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم: "إنَّكُم
سَتَأْتُونَ غَداً إنْ شَاءَ اللهُ عَيْنَ تَبُوك، وإنَّكُم لَنْ تَأْتُوها حَتَّى يُضْحِى النّهارُ، فَمَنْ جَاءَهَا فَلاَ يَمسَّ مِنْ مَائِها شَيئاً".... الحديث، وقد تقدَّم.فإن كانت القصة واحدة، فالمحفوظُ حديث مسلم، وإن كانت قصتين، فهو ممكن.
قال: وحدَّثنى محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى، أن عبدَ اللهِ ابن مسعود كان يُحَدِّثُ، قال: قُمت مِن جوفِ الليل، وأنا معَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى غزوةِ تَبُوكَ، فرأيت شُعلةً من نار فى ناحية العسكر، فاتَّبَعْتُها أنظُرُ إليها، فإذا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعمر، وإذا عبدُ الله ذو البِجادَيْنِ المزنى قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حُفرته، وأبو بكر وعمر يُدليانه إليه، وهو يقول: "أدنيا إلىَّ أخاكما"، فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه، قال: "اللهُمَّ إنِّى قَدْ أَمْسَيْتُ رَاضِياً عَنْهُ، فَارْضَ عَنْهُ "، قال: يقولُ عبد الله بن مسعود: ياليتنى كنتُ صاحِبَ الحُفرة. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْجعَه مِن غزوة تَبُوك: "إنَّ بالمَدِينَةِ لأَقْواماً ما سِرْتُم مَسيراً، ولا قَطَعْتُمْ وادياً إلاَّ كَانُوا مَعَكُم" قالوا: يا
رسول الله؛ وهُمْ بالمدينة؟ قال: "نَعَمْ حَبَسَهُم العُذْرُ".
فصل: فى خطبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتَبُوك وصلاته
ذكر البيهقى فى "الدلائل"، والحاكم من حديث عُقبة بن عامر، قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى غزوة تَبُوك، فاسترقد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة لمَّا كان منها عَلَى ليلة، فلم يستيقِظ فيها حتَّى كانت الشمسُ قِيدَ رُمح قال: "أَلَمْ أَقُلْ لَكَ يَا بِلالُ اكْلأ لَنا الفَجْرَ"، فقال: يا رسول اللهِ؛ ذهب بى من النومِ الذى ذَهَبَ بك، فانتقلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلكَ المنزل غيرَ بعيد، ثم صلَّى، ثم ذهب بقِيةَ يومه وليلته، فأصبح بتَبُوكَ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهلُه، ثم قال: "أمَّا بَعْدُ.. فَإنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وأَوْثَقُ العُرَى كَلِمَةُ التَّقْوَى، وَخَيْرُ المِلَل مِلَّةُ إبراهيمَ، وخَيْرُ السَّنَنِ سُنَّةُ مُحَمَّدٍ، وأَشْرَفُ الحَدِيثِ ذِكْرُ اللهِ، وأَحْسَنُ القَصَصِ هذا القُرآنُ، وخَيْرُ الأُمُورِ عَوَازِمُها، وَشَرُّ الأُمُور مُحْدَثَاتُها، وأَحْسَنُ الهَدْى هَدْىُ الأَنْبِيَاءِ، وأَشْرَفُ المْوتِ قَتْلُ الشُّهَداءِ، وأَعْمَى العَمَى الضَّلالةُ بَعْدَ الهُدَى، وخَيْرُ الأعْمَالِ مَا نَفَعَ، وخَيْرُ الهُدى ما أتُّبعَ، وشرُّ العَمَى عَمَى القَلْبِ، واليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، ومَا قَلَّ وكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وشَرُّ المَعْذِرَةِ حِينَ يَحْضُرُ المَوْت، وشَرُّ النَّدامَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ، ومِنَ النَّاسِ مَنْ لاَ يأْتى الجُمُعَةَ إلا دُبُراً، ومِنْهُم مَنْ لاَ يَذْكُرُ اللهَ إلا هُجْراً، ومنْ أَعْظَم الخَطَايَا اللِّسانُ
الكَذَّابُ، وخَيْرُ الغِنى غِنى النَّفْسِ، وَخَيْرُ الزَّادِ التَّقْوى، وَرَأْسُ الحُكْمِ مَخَافَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وخَيْرُ مَا وَقَرَ فى القُلوبِ اليَقِينُ، والارْتيابُ مِنَ الكُفْرِ، والنِّياحَةُ مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ، وَالغُلُولُ مِنْ جُثا جَهَنَّمَ، والسُّكْر كَىٌ مِنَ النَّارِ، والشِّعْرُ مِنْ إبْلِيسَ، والخَمْرُ جماعُ الإثْمِ، وشَرُّ المَأْكَلِ مَالُ اليَتِيمِ، والسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِه، والشَّقِىُّ مَنْ شَقى فى بَطْنِ أُمِّهِ، وإنَّما يَصِيرُ أَحَدُكُم إلى مَوْضِع أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ، والأَمْرُ إلى الآخِرَةِ، ومَلاكُ العَمَلِ خَوَاتِمُهُ، وشرُّ الرَّوَايا رَوَايا الكَذِب، وكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وسِبَابُ المُؤْمِنِ فُسوقٌ، وقِتَالُه كُفْرٌ، وأَكْلُ لَحْمِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ، ومَنْ يتألَّ عَلى اللهِ يُكَذِّبْه، ومَنْ يَغْفِرْ يُغْفَرْ لَه، ومَنْ يَعْفُ، يَعْفُ اللهُ عَنْهُ، ومَنْ يَكْظِم الغَيْظَ يَأْجُرْهُ اللهُ، ومَنْ يَصْبِرْ عَلى الرَّزِيِّةِ يُعَوِّضه اللهُ، ومَنْ يَبْتَغِ السُّمْعَةَ، يُسَمِّع اللهُ بِهِ، ومَنْ يَتَصَبَّر، يُضْعِفِ اللهُ لَهُ، ومَنْ يَعْصِ اللهَ يُعَذِّبْه الله".. ثم استغفر ثلاثاً.
وذكر أبو داود فى "سننه" من حديث ابن وهب: أخبرنى معاويةُ، عن سعيد بن غَزوان، عن أبيه أنه نزلَ بتَبُوك، وهو حاجٍ، فإذا رجلٌ مُقْعَدٌ، فسألتُه عن أمره، قال: سأُحدِّثُك حديثاً، فلا تُحَدِّثْ به ما سمعتَ أنِّى حَىٌ: إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزلَ بتَبُوكَ إلى نخلة، فقال: "هذِهِ قِبْلَتُنا"، ثم صلَّى إليهَا، قال: فأقبلتُ وأنا غلامٌ أسعى، حتى مررتُ بينه وبينها، فقال:
"قطَع صلاتَنا، قطعَ الله أثَرَه"، قال: فما قُمتُ عليهما إلى يومى هذا.
ثم ساقه أبو داود من طريق وكيع، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مولى ليزيد بن نمران، عن يزيد بن نِمران، قال: رأيت رجلاً بتَبُوك مقعداً، فقال: مررتُ بين يدىْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حمار وهو يُصلِّى، فقال: "اللهُمَّ اقْطَعْ أَثَرَهُ"، فما مشيتُ عليهما بعد. وفى هذا الإسناد والذى قبله ضعف.
فصل: فى جمعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الصلاتين فى غزوة تَبُوك
قال أبو داود: حدثنا قُتيبة بن سعيد، حدثنا اللَّيث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الطفيلِ، عن عامِر بن واثلة، عن معاذ بن جَبل، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فى غزوةِ تَبُوك إذا ارتحل قبلَ أن تَزِيغَ الشَّمسُ، أَخَّرَ الظُّهر حتى يجمعها إلى العصر، فيُصَلِّيهما جميعاً، وإذا ارتحل قَبْلَ المغرب، أخَّرَ المغربَ حتَّى يُصلىها مع العِشاء، وإذا ارتحلَ بعد المغرب، عَجَّلَ العِشاء، فصلاها مع المغرب.
وقال الترمذى: "إذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ، عَجَّلَ العَصْرَ إلى الظُّهْرِ
وَصَلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ جَمِيعاً"، وقال: حديثٌ حسن غريب.
وقال أبو داود: هذا حديثٌ مُنكر، وليس فى تقديمِ الوقتِ حديثٌ قائِم.
وقال أبو محمد بن حزم: لا يَعْلَمُ أحدٌ مِن أصحابِ الحديثِ ليزيد بنِ أبى حبيب سماعاً مِن أبى الطُّفَيْل.
وقال الحاكم فى حديث أبى الطُّفَيْل هذا: هو حديثٌ رواتُه أئمة ثقات، وهو شاذ الإسناد والمتن، لا نعرِف له عِلَّة نُعلِّله بها، فنظرنا فإذا الحديث موضوع، وذكر عن البخارى: قلت لقُتيبة بن سعيد: مع مَن كتبتَ عن اللَّيث حديثَ يزيد بن أبى حبيب عن أبى الطُّفَيْل؟ قال: كتَبتُه مع خالد المدائنى، وكان خالد المدائنى يُدخل الأحاديثَ على الشيوخ. ورواه أبو داود أيضاً: حدَّثنا يزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله بن موهب الرَّملى، حدثنا مفضَّل بن فضالة، واللَّيث ابن سعد، عن هِشام بن سعد، عن أبى الزُّبير، عن أبى الطُّفَيْل، عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فى غزوة تَبُوكَ إذا زاغَت الشَّمسُ قبل أن يرتَحِلَ جمعَ بين الظُّهر والعصر، وفى المغرب مِثْلَ ذلك: إن غابَتِ الشَّمسُ قبل أن يرتَحِلَ، جمع بينَ المغربِ والعِشاء، وإن ارتحل قبل أن تَغِيبَ الشمسُ، أخَّرَ المغرب حتَّى يَنْزِلَ لِلعِشَاءِ، ثم يجمَع بينهما.
وهِشام بن سعد: ضعيف عندهم، ضعَّفه الإمام أحمد، وابنُ معين، وأبو حاتم، وأبو زُرعة، ويحيى بن سعيد، وكان لا يُحدِّث عنه،
وضعَّفه النسائىُّ أيضاً، وقال أبو بكر البزَّار: لم أر أحداً توقَّف عن حديث هِشام ابن سعد، ولا اعتلَّ عليه بعِلَّة تُوجب التوقف عنه، وقال أبو داود: حديث المفضَّل واللَّيث حديث منكر.
فصل: فى رجوعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تَبُوك وما هَمَّ المنافقون به من الكَيْدِ به وعِصمة الله إياه
ذكر أبو الأسود فى "مغازيه" عن عُرْوَة قال: ورجع رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قافلاً مِن تَبُوك إلى المدينة، حتى إذا كان ببعض الطريق، مكر برسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناسٌ من المنافقين، فتآمرُوا أن يطرحُوه من رأسِ عَقَبَةٍ فى الطريق، فلما بلغوا العقبة، أرادوا أن يسلكُوها معه، فلما غشيَهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُخبر خبرهم، فقال: "مَنْ شَاءَ مِنْكُم أَنْ يَأْخُذَ بِبَطْنِ الوَادِى، فإنَّه أَوْسَعُ لَكُمْ" وأَخذ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العَقَبة، وأخذ الناسُ ببطن الوادى إلا النَّفَرَ الذين هَمُّوا بالمكر برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما سمعوا بذلك، استعدُّوا وتلثَّموا، وقد همُّوا بأمر عظيم، وأمر رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُذيفةَ بنَ اليمان، وعمَّارَ بن ياسر، فمشيا معه، وأمر عمَّاراً أن يأخذ بزِمام الناقة، وأمر حُذيفة أن يسوقها، فبينا هُم يسيرون، إذ سمعوا وكزة القومِ مِن ورائهم قد غَشَوْه، فَغَضِبَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمر حُذيفة أن يردهم، وأبصرَ حذيفة غضبَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرجع ومعه مِحجن، واستقبل وجوهَ رواحلهم، فضربها ضرباً بالمحجن، وأبصرَ القومَ، وهم متلثِّمون، ولا يشعرُ إلا أن ذلك فعل المسافر، فأرعبهم اللهُ سبحانه حين أبصروا حُذيفة، وظنوا أنَّ مكرهم قد ظهر عليه، فأسرعُوا حتى خالَطُوا الناسَ، وأقبل حُذيفة حتى أدرك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فلما أدركه، قال: "اضْرِب الرَّاحِلَة يا حُذَيْفَة، وامْشِ أنْتَ ياعَمَّارُ"، فأسرعوا حتى استووا بِأَعْلاها، فخرجوا من العَقَبَةِ ينتظرون الناسَ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحذيفَة: "هَلْ عَرَفْتَ مِنْ هؤُلاءِ الرَّهْطِ أو الرَّكْبِ أحَداً"؟ قال حُذيفة: عرفتُ راحِلة فلان وفلان، وقال: كانت ظلمة الليل، وغشيتُهم، وهم متلثِّمون، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هل عَلِمْتُم ما كانَ شأن الرَّكْبِ وما أرادوا"؟ قالوا: لا واللهِ يا رسول الله، قال: "فإنهم مَكَرُوا لِيَسِيرُوا مَعِى، حَتَّى إذا اطَّلعتُ فى العَقَبَةِ طَرحُونى منها" قالوا: أَوَ لا تأمُرُ بهم يا رسول الله إذاً، فنضرِبَ أعناقهم، قال: "أكره أن يتحدَّث الناسُ ويقولوا: إنَّ محمداً قد وضع يده فى أصحابه"، فسماهم لهما، وقال:"اكتماهم"
وقال ابن إسحاق فى هذه القصة: "إنَّ الله قد أخبرنى بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وسأُخبِرُك بهم إن شاء الله غداً عند وجه الصبح، فانطلِقْ حتى إذا اصبَحْت، فاجمعهم"، فلما أصبح قال: "ادع عبد الله بن أُبَىّ، وسعد بن أبى سرح، وأبا خاطر الأعرابى، وعامراً، وأبا عامر، والجُلاس بن سويد ابن الصامت، وهو الذى قال: لا ننتهى حتى نرمى محمداً مِن العَقَبَةِ الليلة، وإن كان محمد وأصحابُه خيراً منا، إنا إذاً لغنم وهو الراعى، ولا عقل لنا
وهو العاقِل، وأمره أن يدعُوَ مجمع بن حارثة، ومليحاً التيمى، وهو الذى سرق طِيبَ الكعبة، وارتدَّ عن الإسلام، وانطلق هارِباً فى الأرض، فلا يُدْرى أين ذهب، وأمره أن يدعوَ حِصن بن نمير الذى أغار على تمر الصدقة فسرقه، وقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَيْحَكَ، ما حَمَلَكَ عَلَى هذَا"؟ فقال: حملنى عليه أنى ظننتُ أنَّ الله لا يُطلعك عليه، فأما إذا أطلعك الله عليه، وعلمتَه، فأنا أشهد اليوم أنك رسُولُ الله، وإنى لم أُؤمن بك قطُّ قبل هذه الساعة، فأقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عثرَته، وعفا عنه، وأمره أن يدعو طُعيمة بن أبيرق، وعبدَ الله ابن عُيينة، وهو الذى قال لأصحابه: اسهرُوا هذه الليلة تسلمُوا الدهرَ كُلَّه، فواللهِ ما لكم أمر دون أن تقتلُوا هذا الرجل، فدعاه فقال: "وَيْحَكَ، مَا كَانَ يَنْفَعُكَ مِنْ قَتْلى لَوْ أنِّى قُتِلْتُ"؟ فقال عبد الله: فواللهِ يا رسولَ الله لا نزالُ بخير ما أعطاك الله النصرَ على عدوِّك، إنما نحن باللهِ وبِكَ، فتركه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: "ادعُ مُرَّة بن الربيع"، وهو الذى قال: نقتل الواحد الفرد، فيكون الناسُ عامةً بقتله مطمئنين، فدعاه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "وَيْحَكَ، مَا حَمَلَكَ عَلى أنْ تَقُولَ الَّذى قُلْتَ"؟ فقال: يا رسولَ الله؛ إن كنتُ قلتُ شيئاً من ذلك إنك لعالِم بهِ، وما قلتُ شيئاً من ذلك، فجمعهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم اثنا عشر رجلاً الذين حاربُوا اللهَ ورسولَه وأرادوا قتله، فأخبرهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولهم، ومنطقهم، وسرهم، وعلانيتهم، وأطلعَ اللهُ سبحانه نبيه على ذلك بعلمه، ومات الاثنا عشر منافقين محاربين للهِ ولرسوله، وذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} [التوبة: 74] وكان أبو عامر رأسهم، وله بنوا مسجد الضِّرار، وهو الذى كان يُقال له: "الراهب"، فسمَّاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الفاسق"، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة، فأرسلوا إليه، فقدم عليهم، فلما قدِم عليهم، أخزاه الله وإيَّاهم، فانهارت تلك البقعة فى نار جهنم.
فصل
قلت: وفى سياق ما ذكره ابن إسحاق وَهْمٌ من وجوه:
أحدُها: أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسرَّ إلى حُذيفة أسماء أُولئك المنافقين، ولم يُطلع عليهم أحداً غيره، وبذلك كان يُقال لحذيفة: إنه صاحِبُ السِّرِّ الذى لا يعلمهُ غيرُه، ولم يكن عمر، ولا غيرُه يعلمُ أسماءهم، وكان إذا مات الرجل وشكُّوا فيه، يقول عمر: انظروا، فإن صلَّى عليه حذيفة، وإلا فهو منافق منهم.
الثانى : ما ذكرناه من قوله: فيهم عبد الله بن أُبَىّ، وهو وَهْمٌ ظاهر، وقد ذكر ابن إسحاق نفسه، أنَّ عبد الله بن أُبَىِّ تخلَّف فى غزوة تبوك.
الثالث : أن قوله: وسعد بن أبى سرح وَهْمٌ أيضاً، وخطأ ظاهرٌ، فإن سعد ابن أبى سرح لم يُعرف له إسلام ألبتة، وإنما ابنُه عبد الله كان قد أسلم وهاجر، ثم ارتدَّ ولَحِقَ بمكة، حتى استأمن له عثمانُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الفتح، فأمَّنه وأسلم، فَحَسُنَ إسلامُه، ولم يظهر منه بعد ذلك شئ يُنكر عليه، ولم يكن مع هؤلاء الاثنى عشر ألبتة، فما أدرى ما هذا الخطأ الفاحش.
الرابع: قوله: وكان أبو عامر رأسَهم، وهذا وَهْمٌ ظاهر لا يخفى على مَنْ دونَ ابن إسحاق، بل هو نفسُه قد ذكر قِصة أبى عامر هذا فى قصة الهجرة، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن أبا عامر لما هاجر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، خرجَ إلى مكة ببضعَة عشرَ رجلاً، فلما افتتح رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مكة، خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهلُ الطائف، خرج إلى الشام، فمات بها طريداً وحيداً غريباً، فأين كان الفاسقُ وغزوة تَبُوك ذهاباً وإياباً.
فصل: فى أمر مسجد الضِّرار الذى نهى اللهُ رسولَه أن يقومَ فيه، فهدمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأقبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوك، حتى نزل بذى أوَان، وبينها وبين المدينة ساعة، وكان أصحابُ مسجد الضِّرار أتَوْه وهو يتجهَّز إلى تَبُوك، فقالوا: يا رسولَ الله ؛ إنَّا قد بنينا مسجداً لِذى العِلَّة والحاجة، واللَّيلة المطيرة الشاتية، وإنَّا نُحِبُّ أن تأتيَنا فتُصَلِّىَ لنا فيه، فقال: "إنِّى عَلى جَناح سَفَر، وحَالِ شُغْلٍ، وَلَوْ قَدِمْنا إنْ شَاءَ اللهُ لأَتَيْنَاكُم فَصَلَّيْنَا لَكُم فيه"، فلما نزل بذى أوانَ جاءه خبرُ المسجد من السماء، فدَعا مالك بن الدُّخْشم أخا بنى سلمة بن عوف، ومَعن بن عدى العجلانى، فقال: "انطلقا إلى هذا المسجدِ الظالِمِ أهلُه، فاهدِماه، وحرِّقاه، فخرجا مُسرعَين، حتى أتيا بنى سالم بن عوف، وهم رهطُ مالك بن الدُّخشم، فقال مالك لمعن: أنْظِرْنى حتى أخرُج إليك بنارٍ مِن أهلى، ودخل إلى أهله، فأخذ سعفاً من النخل، فأشعل فيه ناراً، ثم خرجا يشتدَّان حتى دخلاه وفيه أهلُه، فحرقاه وهدماه، فتفَرَّقوا عنه، فأنزل الله فيه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ}[التوبة: 107]. إلى آخر القصة.

ج4//1 والتالي ج4//2 ان شاء الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق