الاثنين، 14 مايو 2018

ج1//3 زاد المعاد



ج1/3 زاد المعاد وقد اختلف الفقهاءُ: أيُّ الصلاتين آكدُ، سنة الفجر أو الوتر؟ قولين: ولا يمكن الترجيحُ باختلاف الفقهاء في وجوب الوتر، فقد اختلفوا أيضاً في وجوب سنة الفجر، وسمعت شيخَ الإِسلام ابن تيمية يقول: سنة الفجر تجري مجرى بداية العمل، والوتر خاتمته. ولذلك كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلى سنة الفجر والوتر بسورتي الإِخلاص، وهما الجامعتان لتوحيدِ العلم والعمل، وتوحيدِ المعرفة والإِرادة، وتوحيدِ الاعتقادِ والقصد، انتهى.
فسورة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد}: متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرَب تعالى من الأَحَدِيَّةِ المنافية لمطلق المشاركة بوجه من الوجوه، والصمديَّة المثبتة له جميع صفات الكمال التي لا يلحقها نقصّ بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد الذي هو من لوزام الصمدية، وغناه وَأَحَديَّته ونفي الكفء المتضمِّن لخفي التشبيه والتمثيل والتنظير، فتضمنت هذه السورة إثباتَ كل كمال له، ونفي كل نقص عنه، ونفيَ إثبات شبيه أو مثيل له في كماله، ونفي مطلق الشريك عنه، وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقاد في الذي يُباين صاحبُه جميعَ فرق الضلال والشرك، ولذلك كانت تَعْدِل ثلثَ القرآن، فإن القرآن مدارُه على الخبر والإِنشاء، والإِنشاء ثلاثة: أمر، ونهي، وإباحة. والخبر نوعان: خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه. فأخلصت سورة {قل هو الله أحد} الخبرَ عنه، وعن أسمائه، وِصفاته، فعدلت ثلثَ القرآن، وخلَّصت قارئها المؤمنَ بها من الشرك
العلمى، كما خلَّصت سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون} من الشرك العملي الإِرادي القصدي. ولما كان العلم قبل العمل وهو إمامُه وقائدُه وسائقُه، والحاكُم عليه ومنزله منازِله، كانت سورة {قُل هُوَ اللهُ أَحَد} تعدِل ثلثَ القران. والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغ التواتر، و{قل يا أيها الكافرون}، تعدِل ربع القرآن، والحديث بذلك في الترمذي من رواية ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: "إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ نِصْفَ القُرآنِ، وَقُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ، تَعدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ". رواه الحاكم في "المستدرك" وقال: صحيح الإِسناد.
ولما كان الشرك العملي الإِرادي اغلبَ على النفوس لأجل متابعتها هواها، وكثيرٌ منها ترتكبه مع علمها بمضرَّته وبطلانِه، لِمَا لهَا فيه من نيل الأغراض، وإزالتُه، وقلعُه منها أصعبُ، وأشدّ من قلع الشرك العلمي وإزالته، لأن هذا يزول بالعلم والحُجَّة، ولا يمكن صاحبُه أن يعلم الشىء على غير ما هو عليه، بخلاف شرك الإِرادة والقصد، فإن صاحبه يرتكِب ما يدله العلم على بطلانه وضرره لأجل غلبة هواه، واستيلاء سُلطان الشهوة والغضب على نفسه، فجاء من التأكيد والتكرار في سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون} المتضمنة لإِزالة الشرك العملي، ما لم يجىء مثلُه في سورة {قُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، ولما كان القرآن شطرين: شطراً في الدنيا وأحكامِها، ومتعلقاتِها، والأمورِ الواقعة
فيها من أفعال المكلفين وغيرها، وشطراً في الآخرة وما يقع فيها، وكانت سورة {إِذَا زُلْزِلَتْ} قد أُخْلِصت من أولها وآخرها لهذا الشطر، فلم يذكر فيها إلا الآخرة. وما يكون فيها من أحوال الأرض وسُكَّانها، كانت تَعدِلُ نصفَ القرآن، فأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحاً - والله أعلم - ولهذا كان يقرأ بهاتين السورتين في ركعتي الطواف، ولأنهما سورتا الإِخلاص والتوحيد، كان يفتتح بهما عمل النهار، ويختمها بهما، ويقرأ بهما في الحج الذي هو شعار التوحيد.
فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضطجع بعد سنة الفجر على شِقه الأيمن، هذا الذي ثبت عنه فى "الصحيحين" من حديث عائشة رضي الله عنها وذكر الترمذي من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبحِ، فَلْيَضْطَجعْ عَلَى جَنْبِهِ الأَيْمَنِ " قال الترمذي:
حديث حسن غريب. وسمعت ابن تيمية يقول: هذا باطل، وليس بصحيح، وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمرُ بها، والأمر تفرد به عبد الواحد بن زياد وغلط فيه، وأما ابن حزم ومن تابعه، فإنهم يوجبون هذه الضجعة، ويُبطل ابن حزم صلاةَ من لم يضجعها بهذا الحديثِ، وهذا مما تفرد به عن الأمة، ورأيت مجلداً لبعض أصحابه قد نصر فيه هذا المذهب. وقد ذكر عبد الرزَّاق في "المصنف" عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، أن أبا موسى، ورافعَ بن خَديج، وأنسَ بن مالك رضي الله عنهم، كانوا يضطجعون بعد ركعتي الفجر، ويأمرون بذلك، وذكر عن معمر، عن أيوب، عن نافع، أن ابن عمر كان لا يفعله، ويقول: كفانا بالتسليم. وذكر عن ابن جريج: أخبرني من أصدق أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: "إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يضطجع لسنة، ولكنه كان يدأَبُ ليله فيستريح". قال: وكان ابنُ عمر يَحصِبُهم إذا رآهم يضطجعون على أيمانهم. وذكر ابن أبي شيبة عن أبي الصِّدِّيق الناجي، أن ابن عمر رأى قوماً اضطجعوا بعد ركعتي الفجر، فأرسل إليهم فنهاهم، فقالوا: نريد بذلك السنة، فقال ابنُ عمر: ارجع إليهم وأخبرهم أنها بدعة. وقال أبو مِجلز: سألتُ ابن عمر عنها فقال: يلعبُ بكم الشَّيطانُ. قال ابنُ عمر رضي الله عنه: ما بالُ الرجل إذا صَلَّى الركعتين يفعل كما يفعل الحمار إذا تمعَّك.
وقد غلا في هذه الضجعة طائفتان، وتوسط فيها طائفةّ ثالثة، فأوجبها جماعة من أهل الظاهر، وأبطلوا الصلاةَ بتركها كابن حزم ومن وافقه، وكرهها جماعة من الفقهاء، وسموها بدعة، وتوسط فيها مالك وغيره،
فلم يروا بها بأساً لمن فعلها راحة، وكرهوها لمن فعلها استناناً، واستحبها طائفة على الإِطلاق، سواء استراح بها أم لا، واحتجوا بحديث أبي هريرة. والذين كرهوها، مِنهم مَن احتج بآثار الصحابة كابن عمر وغيره، حيث كان يحصبُ مَن فعلها، ومنهم من أنكر فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها، وقال: الصحيح أن اضطجاعه كان بعد الوتر، وقبل ركعتي الفجر، كما هو مصرح به في حديث ابن عباس قال: وأما حديثُ عائشة، فاختلف على ابن شهاب فيه، فقال مالك عنه: فإذا فرغ يعني من الليل، اضطجع على شِقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فصلي ركعتين خفيفتين وهذا صريح أن الضجعة قبل سنة الفجر، وقال غيرُه عن ابن شهاب: فإذا سكت المؤذن من أذان الفجر، وتبين له الفجرُ، وجاءه المؤذن، قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن. قالوا: وإذا اختلف أصحاب ابن شهاب فالقول ما قاله مالك، لأنه أثبتُهم فيه وأحفظُهم. وقال الآخرون:بل الصواب هذا مع من خالف مالكاً، وقال أبو بكر الخطيب: روى مالك عن الزهري، عروة، عن عائشة: كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها، اضطجع على شِقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن، "ركعتين خفيفتين". وخالف مالكاً، عقيلٌ، ويونس، وشعيب، وابنُ أبي ذئب. والأوزاعي، وغيرهم، فرووا
عن الزهري، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يركع الركعتين للفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن، فيخرج معه فذكر ما أن اضطجاعه كان قبل ركعتي الفجر وفي حديث الجماعة، أنه اضطجع بعد فحكم العلماء أن مالكاً أخطأ وأصاب غيره، انتهى كلامه.
وقال أبو طالب: قلتُ لأحمد: حدثنا أبو الصلت، عن أبي كُدَينة،عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه اضطجع بعد ركعتي الفجر، قال: شعبة لا يرفعه، قلتُ: فإن لم يضطجع عليه شيء؟ قال: لا، عائشة ترويه وابن عمر ينكره. قال الخلال: وأنبأنا المروزي أن أبا عبد الله قال: حديثُ أبي هريرة ليس بذاك. قلت: إن الأعمش يُحدث به عن أبي صالح، عن أبي هريرة. قال: عبد الواحد وحده يُحدث به. وقال إبراهيم بن الحارث: إن أبا عبد الله سئل عن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر قال: ما أفعلُه، وإن فعله رجل، فحسن. انتهى. فلو كان حديث عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن أبي صالح صحيحاً عنده، لكان أقلُّ درجاته عنده الاستحبابَ، وقد تقال: إن عائشة رضي الله عنها روت هذا، وروت هذا، فكان يفعلُ هذا تارة، وهذا تارة، فليس في ذلك خلاف، فإنه من المباح، والله أعلم.
وفي اضطجاعه على شِقه الأيمن سر، وهو أن القلب معلَّق في الجانب الأيسر، فإذا نام الرجل على الجنب الأيسر، استثقل نوماً، لأنه يكون في دَعة واستراحة، فيثقل نومه، فإذا نام على شِقه الأيمن، فإنه يقلق ولا يستغرق في النوم، لقلق القلب، وطلبه مستقره، وميله إليه، ولهذا استحب الأطباء
النوم على الجانب الأيسر لكمال الراحة وطيب المنام، وصاحب الشرع يستحب النوم على الجانب الأيمن، لئلا يثقل نومه فينام عن قيام الليل، فالنوم على الجانب الأيمن أنفعُ للقلب، وعلى الجانب الأيسر أنفع للبدن، والله أعلم.
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قيام الليل
قد اختلف السلفُ والخلف في أنه: هل كان فرضاً عليه أم لا؟ والطائفتان احتجوا بقوله تعالى: { وَمِنَ الْلَيْلِ فَتَهَجَّد بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإِسراء: 79] قالوا: فهذا صريح في عدم الوجوب، قال الآخرون. أمره بالتهجد في هذه السورة، كما أمره في قوله تعالى: {يَأَيُّهَا المزَّمِّلُ قُمِ الْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل:1] ولم يجىء ما ينسخُه عنه، وأما قولُه تعالى: {نَافِلَةً لَكَ} فلو كان المرادُ به التطوعَ، لم يخصه بكونه نافلة له، وإنما المراد بالنافلة الزيادة، ومطلقُ الزيادة لا يدل على التطوع، قال تعالى: {وَوَهَبنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72]، أى زيادة على الولد، وكذلك النافلة في تهجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيادة في درجاته، وفي أجره ولهذا خصه بها، فإن قيامَ الليل في حق غيره مباحٌ، ومكفِّر للسيئات، وأما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد غَفَرَ اللهُ له ما تقدم مِن ذنبه وما تأخر، فهو يعمل في زيادة الدرجات وعلو المراتب، وغيره يعمل في التكفير. قال مجاهد: إنما كان نافلةً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكانت طاعته نافلة، أي: وزيادة في الثواب، ولغيره كفارة لذنوبه، قال ابن المنذر في تفسيره: حدثنا يعلى بن أبي عبيد، حدثنا الحجاج، عن ابن
جريج، عن عبد الله بن كثير، عن، مجاهد قال: ما سوى المكتوبة، فهو نافلة مِن أجل أنه لا يعمل في كفارة الذنوب، وليست للناس نوافل، إنما هي للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، والناس جميعاً يعملون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها.
حدثنا محمد بنُ نصر، حدثنا عبد الله، حدثنا عمرو، عن سعيد وقبيصة، عن سفيان، عن أبي عثمان، عن الحسن في قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة لَكَ} [الإسراء: 79]، قال: لا تكون نافلة الليل إلا للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وذكر عن الضحاك، قال: نافلة للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة.
وذكر سُليم بن حيان، حدثنا أبو غالب، حدثنا أبو أمامة، قال: إذا وضعتَ الطهورَ مواضعه، قمتَ مغفوراً لك، فإن قمتَ تصلي، كانت لك فضيلةً وأجراً، فقال رجل: يا أبا أمامة، أرأيت إن قام يصلي تكون له نافلة؟ قال: لا، إنما النافلةُ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف يكون له نافلة، وهو يسعى في الذنوب والخطايا؟! تكون له فضيلة وأجراً قلتُ: والمقصودُ أن النافلة في الآية، لم يُرد بها ما يجوز فعلُه وتركه، كالمستحب، والمندوب، وإنما المراد بها الزيادة في الدرجات، وهذا قدر مشترك بين الفرض والمستحب، فلا يكون قوله: {نافلة لك} نافياً لما دلَّ عليه الأمر من الوجوب، وسيأتي مزيدُ بيان لهذه المسألة إن شاء الله تعالى، عند ذكر خصائص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولم يكن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدع قيامَ الليل حضراً ولا سفراً، وكان إذا غلبه نوم أو وجع، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة. فسمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: في هذا دليل على أن الوتر لا يُقض لفوات محله، فهو كتحية المسجد، وصلاةِ الكسوف والاستسقاءِ ونحوها، لأن المقصودَ به أن يكون آخرُ صلاة الليل وتراً، كما أن المغرب آخر صلاة النهار، فإذا انقضى الليل وصليت الصبح، لم يقع الوتر موقعَه. هذا معنى كلامه. وقد روى أبو داود، وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخُدري، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ نَامَ عَنِ الوِتْرِ أَوْ نَسِيه، فَلْيُصَلِّه إذا أصبَحَ أَو ذَكَرَ " ولكن لهذا الحديث عدة علل.
أحدُها: أنه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف.
الثاني: أن الصحيح فيه أنه مرسل له عن أبيه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الترمذي. هذا أصح، يعني المرسل.
الثالث : أن ابن ماجه حكى عن محمد بن يحيى بعد أن روى حديث أبى سعيد: الصحيح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أَوْتِرُوا قَبْلَ أَن تصْبِحُوا" . قال: فهذا الحديث دليل على أن حديث عبد الرحمن واهٍ
وكان قيامُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل إحدى عشرة ركعة، أو ثلاثَ عشرة، كما قال ابن عباس وعائشة، فإنه ثبت عنهما هذا وهذا، ففي "الصحيحين" عنها: ما كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة. وفى "الصحيحين" عنها أيضاً، كان رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي من الليل ثلاثَ عشر. ركعة، يُوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شيء إلا في آخِرِهِن والصحيح عن عائشة الأول: والركعتان فوق الإِحدى عشرة هما ركعتا الفجر، جاء ذلك مبيناً عنها في هذا الحديث بعينه، كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر، ذكره مسلم في "صحيحه". وقال البخاري: في هذا الحديث: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي بالليل ثلاثَ عشرة ركعة، ثم يُصلي إذا سمع النداء بالفجر ركعتين خفيفتين وفي "الصحيحين" عن القاسم بن محمد قال: سمعتُ عائشة رضي الله عنها تقول: كانت صلاةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الليل عشرَ ركعات، ويُوتر بسجدة،
ويركع ركعتي الفجر، وذلك ثلاثَ عشرة ركعة، فهذا مفسر مبين.
وأما ابنُ عباس، فقد اختلف عليه، ففي "الصحيحين" عن أبي جمرة عنه: كانت صلاةُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثَ عشرة ركعةً يعني بالليل لكن قد جاء عنه هذا مفسراً أنها بركعتي الفجر. قال الشعبي: سألتُ عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن صلاةِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل، فقالا: ثلاثَ ركعات ركعة، منها ثمان، ويُوتر بثلاث، وركعتين قبل صلاة الفجر. وفي "الصحيحين" عن كُريب عنه، في قصة مبيته عند خالته ميمونة بنت الحارث، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى ثلاث عشرة ركعة، ثم نام حتى نفخ، فلما تبيَّن له الفجرُ، صلَّى ركعتين خفيفتينِ وفي لفظ: فصلَّى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذِّنُ. فقام فصلَّى ركعتين خفيفتين، ثم خرج يُصلي الصبح. فقد حصل الاتفاقُ على إحدى عشرة ركعة
واختلف في الركعتين الأخيرتين هل هما ركعتا الفجر أو هما غيرهما. فإذا انضاف ذلك إلى عدد ركعات الفرض والسنن الراتبة التي كان يُحافظ عليها، جاء مجموعُ ورده الراتب بالليل والنهار أربعين ركعة، كان يُحافظ عليها دائماً سبعة عشر فرضاً، وعشر ركعات، أو ثنتا عشرة سنة راتبة، وإحدى عشرة، أو ثلاث عشرة ركعة قيامه بالليل، والمجموع أربعون ركعة، وما زاد على ذلك، فعارض غيرُ راتب، كصلاة الفتح ثمان ركعات، وصلاة الضحى إذا قَدِمَ من سفر، وصلاته عند من يزوره، وتحية المسجد ونحو ذلك، فينبغي للعبد أن يُواظب على هذا الورد دائماً إلى الممات، فما أسرع الإِجابة وأعجل فتح الباب لمن يقرعُه كلَّ يوم وليلة أربعين مرة. والله المستعان.
فصل: في سياق صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل ووتره وذكر صلاة أول الليل.

قالت عائشةُ رضي الله عنها: ما صلَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العِشاء قطُّ فدخل علي، إلا صلَّى أربع ركعات، أو ست ركعات، ثم يأوي إلى فراشه.
وقال ابن عباس لما بات عنده: صلَّى العِشاء، ثم جَاء، ثُمَّ صلَى، ثم نام ذكرهما أبو داود. وكان إذا استيقظ، بدأ بالسواك، ثم يذكُر الله تعالى، وقد تقدم ذكرهما كان يقوله عند استيقاظه، ثم يتطهر، ثم يُصلى ركعتين خفيفتين، كما في "صحيح مسلم"، عن عائشة قالت: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من الليل، افتتح صلاتَه بركعتينِ خفيفتين وأمر بذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إذا قام أحدُكم مِن الليل، فليفتَتح صلاتَه بركعتين خفيفتين" "رواه مسلم" وكان يقومُ تارة إذا انتصف الليلُ، أو قبله بقليل، أو بعدَه بقليل، وربما كان يقوم إذا سمع الصارِخَ وهو الدِّيكُ وهو إنما يصيح في النصف الثاني، وكان يقطع ورده تارة، ويصله تارة وهو الأكثر، ويقطعه كما قال ابن عباس في حديث مبيته عنده، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استيقظ، فتسوَّك، وتوضأ، وهو يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ، والأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الألبَاب} [آل عمران: 190] فقرأ هؤلاء الآيات حتى ختم السورة، ثم قام فصلَّى ركعتين أطال فيهما القيامَ والركوع والسجودَ، ثم انصرف، فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاثَ مرات بست ركعات كل ذلك يَستاك ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث، فأَذن المؤذِّن؟ فخرج إلى الصلاة وهو يقول: "اللهُمَّ اجْعَلْ في قَلبي نُوراً، وَفِي لِسَانِي. وَاجْعَلْ في سَمْعِي نُوراً، وَاجعَل في بَصَرِي نُوراً، وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُوراَ، ومن أَمَامِي نُوراً، وَاجْعَل مِنْ فَوْقِي نُوراً،
وَمِنْ تَحْتِي نُوراُ، اللهُمَّ أَعْطِني نوراً " رواه مسلم. ولم يذكر ابنُ عباس افتتاحَه بركعتين خفيفتين كما ذكرته عائشة، أنه كان يفعل هذا تارة، وهذا تارة، وَإِمَّا أن تكون عائشةُ حفظت ما لم يحفظ بن عباس، وهو الأظهر لملازمتها له، ولمراعاتها ذلك، ولكونها أعلمَ الخلق. بقيامه بالليل، وابنُ عباس إنما شاهده ليلة المبيت عند خالته، وإذا اختلف ابنُ عباس وعائشة في شيء من أمر قيامِه بالليل، فالقولُ ما قالت عائشة.
وكان قيامُه بالليل ووِترُه أنواعاً، فمِنها هذا الذي ذكره ابن عباس.
النوع الثاني : الذي ذكرته عائشة، أنه كان يفتتح صلاته بركعتين. ثم يُتمم ورده إحدى عشرة ركعة، يُسلم من كل ركعتين ويوتر بركعة.
النوع الثالث : ثلاث عشرة ركعة كذلك.
النوع الرابع: يُصلي ثمانَ ركعات، يُسلم من كل ركعتين، ثم يُوتر. سرداً متوالية، لا يجلس في شيء إلا في آخرهن.
النوع الخامس: تسع ركعات، يسرُد منهن ثمانياً لا يجلِس في شيء إلا في الثامنة، يجلِس يذكر الله تعالى ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يُصلي التاسعة، يسلم ثم يقعد، ويتشهد، ويُسلِّم، ثم يُصلي ركعتين جالساً بعدما يسلم.
النوع السادس: يُصلي سبعاً كالتسع لمذكورة، ثم يُصلي بعدها ركعتين جالساً.
النوع السابع: أنه كان يُصلي مَثنى مَثنى، ثم يُوتر بثلاث لا يفصِل بينهن فهذا رواه الإِمام أحمد رحمه الله عن عائشة، أنه كان يُوتِر بثلاث لا فصل فيهن وروى النسائي عنها: كان لا يُسلم في ركعتي الوتر وهذه الصفة فيها نظر، فقد روى أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" عن أبي هريرة، النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تُوتِرُوا بِثَلاَثٍ، أَوْتِرُوا بِخَمسٍ أَوْ سَبْعٍ، وَلاَ تَشَبَّهُوا بِصَلاةِ المَغرِبِ". قال الدارقطني: رواته كلهم ثقات، قال مهنا: سألتُ أبا عبد الله: إلى أي شيء تذهب في الوتر، تُسلم في الركعتين؟ قال: نعم. قلتُ: لأَي شيء؟ قال: لأن الأحاديث فيه أقوى وأكثر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الركعتين. الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سلم من الركعتين وقال حرب: سئل أحمد عن الوتر؟ قال: في الركعتين. وإن لم يسلم، رجوت ألا يضرَّه، إلا أن التسليم أثبتُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وقال أبو طالب: سألتُ أبا عبد الله: إلى أي حديث تذهب في، الوتر؟ قال: أذهب إليها كلِّها: مَنْ صلَّى خمساً لا يجلس إلا في آخرهن، ومن صلَّى سبعاً لا يجلس إلا في آخرهن، وقد روي فَي حديث زرارة عن عائشة: يُوتر بتسع يجلَس في الثامنة قال: ولكن أكثر الحديث وأقواه ركعة، فأنا أذهبُ إليهاَ. قلت: ابن مسعود يقول: ثلاث، قال: نعم، قد عاب على سعد ركعة، فقال له سعد أيضاً شيئاً يرد عليه.
النوع الثامن: ما رواه النسائي، عن حُذيفة، أنه صلَّى مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رمضان، فركع، فقال في ركوعه: "سُبْحَانَ رَبيَ الْعَظيمِ" مثل ما كان قائماً، ثم جلس يقول: "رَبِّ اغفرْ لي، رَبِّ اغْفِرْ لي " مثلَ مَا كان قائماً. ثم سجد، فقال: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلًى" مثلَ ما كان قائماً، فما صلَّى إلا أربع ركعات حتى جاء بلال يدعوه إلى الغداة، وأوتر أوّل الليل، ووسطه، وآخرَه. وقام ليلة تامة بآية يتلوها ويردِّدُها حتى الصباح وهي: {إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادُكَ} [المائدة: 118].
وكانت صلاته بالليل ثلاثةَ أنواع
أحدها - وهو أكثرها: صلاته قائماً
الثاني : أنه كان يُصلي قاعداً، ويركع قاعداً
الثالث : أنه كان يقرأ قاعداً، فإذا بقي يسيرٌ مِن قراءته، قام فركع
قائماً، والأنواع الثلاثة صحت عنه.
وأما صفة جلوسه في محل القيام، ففي "سنن النسائي"، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة قالت: رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي متربِّعاً قال النسائي: لا أعلم أحداً روى هذا الحديثَ غيرَ أبي داود، يعني الحفري، وأبو داود ثقة، ولا أحسب إلا أن هذا الحديث خطأ والله أعلم.
فصل
وقد ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين جالساً تارة، وتارة يقرأ فيهما جالساً، فإذا أراد أن يركع، قام فركع، وفي "صحيح مسلم" عن أبي سَلَمة قال: سألتُ عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: كان يُصلي ثلاثَ عشرة ركعةً، يُصلي ثمانَ ركعات، ثم يُوتِر، ثم يُصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع، قام فركع، ثم يُصلي ركعتين بين النداءِ والإِقامةِ مِن صلاة الصبح وفي "المسند" عن أم
سلمة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يُصلي بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس وقال الترمذي: روي نحوُ هذا عن عائشة، وأبي أمامة، وغيرِ واحدٍ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي "المسند" عن أبي أمامة، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يُصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس، يقرأ فيهما ب{إِذَا زُلزِلَت} و{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}.
وروى الدارقطني نحوَه من حديث أنس رضي الله عنه.
وقد أشكل هذا على كثير من الناس، فظنوه معارضاً، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُم بِالْلَّيْلِ وِتْراً". وأنكر مالك رحمه الله هاتين الركعتين، وقال أحمد: لا أفعله ولا أمنعُ مَنْ فعله، قال: وأنكره مالك وقالت طائفة: إنما فعل هاتين الركعتين، ليبين جوازَ الصلاة بعد الوتر، وأن فعله لا يقطع التنفُّل، وحملوا قولُه: "اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُم بِالْلَّيْلِ وِتْراً " على الاستحباب، وصلاة الركعتين بعده على الجواز.
والصواب: أن يقال: إن هاتين الركعتين تجريان مجرى السنة، وتكميل الوتر، فإن الوترَ عبادة مستقلة، ولا سيما إن قيل بوجوبه، فتجري الركعتان بعده. مجرى سنة المغربِ مِن المغرب، فإنها وِتر النهار، والركعتان بعدها تكميل لها، فكذلك الركعتان بعد وتر الليل، والله أعلم.
فصل
ولم يُحفظ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قنت في الوتر، إلا في حديث رواه ابن ماجه، عن علي بن ميمون الرَّقي، حدثنا مخلد بن يزيد، عن سفيان، عن زُبيد اليامي، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبي بن كعب، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُوتر فيقنُت قبل الركوع وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله: أختار القنوت بعد الركوع، إنَّ كُلَّ شيء ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القنوت، إنما هو في الفجر لمَا رفع رأسه من الركوع، وقنوت الوتر أختارُه بعد الركوع، ولم يصحَّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قنوت الوتر قبلُ أو بعدُ شيء. وقال الخلاَّل: أخبرني محمد بن يحيى الكحال، أنه قال لأبي عبد الله في القنوت في الوتر؟ فقال: ليس يُروى فيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء، ولكن كان عمر يقنُت من السنة إلى السنة.
وقد روى أحمد وأهل "السنن" من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علَّمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلماتٍ أقولهن في الوتر: "اللهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِني فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَولَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِك لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَاَليْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ " زاد
البيهقي والنسائي: "وَلاَ يَعِزُّ من عَادَيْتَ".
وزاد النسائي في روايته: "وَصَلَّى الله عَلَى النَبيّ"
وزاد الحاكم في "المستدرك" وقال: "علَّمني رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود". ورواه ابن حبان في "صحيحه" ولفظه سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو.
قال الترمذي: وفي الباب عن علي رضي الله عنه، وهذا حديث لا نعرِفُه إلا مِن هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي، واسمه ربيعة بن شيبان، ولا نعرف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القنوت في الوتر شيئاً أحسنَ مِن هذا انتهى.
والقنوت في الوتر محفوظ عن عمر، وابن مسعود، والرواية عنهم أصح من القنوت في الفجر، والروايةُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قنوت الفجر، أصح الرواية في قنوت الوتر. والله أعلم.
وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في آخر وتره: "اللهُمَّ إنّي أعوذ بِرِضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنكَ
لاَ أُحْصِي ثَناءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ". وهذا يحتمِل، أنه قبل فراغه منه وبعده، وفي إحدى الروايات عن النسائي: كان يقولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلاته، وتبوَّأَ مضجعه، وفي هذه الرواية: "لاَ أُحْصِي ثنَاءً عَلَيْكَ وَلَوْ حَرَصْتُ" وثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال ذلك في السجود، فلعله قاله في الصلاة وبعدها. وذكر الحاكم في "المستدرك" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، في صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووتره: ثم أوتر، فلما قضى صلاته، سمعته يقول: " اللهُمَّ اجعَلْ في قَلْبي نُوّراً، وَفي بَصَرِي نُوراً، وفي سَمْعِي نُوراً، وَعَنْ يَمِينِي نُوراً، وَعَنْ شِمَالِي نُوراً، وَفَوقِي نُوراً، وَتَحْتِي نُوراً، وَأَمَامِي نُوراً، وَخَلْفِي نُورا، وَاجْعَل لِي يَوْمَ لِقَائِكَ نُوراً". قال كُريب: وسبع في القنوت، فلقيتُ رجلاً مِن ولد العباس، فحدثني بهن، فذكر: "لَحْمِي وَدَمِي، وَعَصَبي وَشَعْرِي وَبَشَرِي"، وذكر خصلتين، وفي رواية النسائي في هذا الحديث، وكان يقولُ في سجوده وفي رواية لمسلم في هذا الحديث: فخرج إلى الصلاة يعني صلاة الصبح، وهو يقول... فذكر هذا الدعاء، وفي رواية له أيضاً، "وفي لِسَاني نُوراً وَاجْعَلْ في نَفْسِي نُوراً، وَأَعْظِمْ لِي نُوراً"، وفي رواية له، "وَاجْعَلْني نُورا".
وذكر أبو داود، والنسائي من حديث أبي بن كعب، قال: "كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الوتر، {سبح اسم ربك الأعلى} و{قل يا أيها الكافرون} و{قل هو اللهُ أحد}، فإذا سلم قال: "سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُوس ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، يَمدُّ بها صَوْتَهُ في الثَّالِثَةِ ويرفع". وهذا لفظ النسائي. زاد الدارقطني "رَبِّ المَلاَئِكَةِ وَالرُّوح".
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقَطِّعُ قراءتَه، ويقِفُ عِندَ كُلِّ آيَةٍ فيقول: "الحَمْدُ للِه رَبِّ العَالَمِين، ويقِف: الرَّحمنِ الرَّحِيم، ويقِفُ: مَالِك يَوْمِ الدِّين".
وذكر الزهري أن قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت آية آية، وهذا هو الأفضل، الوقوفُ على رؤوس الآيات وإن تعلقت بما بعدها، وذهب بعضُ القراء إلى تتبع الأغراض والمقاصد، والوقوف عند انتهائها، واتباعُ هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته أولى. وممّن ذكر ذلك البيهقى في "شعب الإِيمان" وغيره، ورجح الوقوف على رؤوس الآي وإن تعلقت بما بعدها. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرتِّل السورة حتى تكون أطولَ مِنْ أَطْوَلِ منها، وقام بآَية يُرَدِّدُهَا حتى الصباح. وقد اختلف الناسُ في الأفضل من الترتيل وقلة القراءة، أو السرعة
مع كثرة القراءة: أيهما أفضل؟ على قولين.
فذهب ابنُ مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وغيرُهما إلى أن الترتيلَ والتدبر مع قلة القراءة أفضلُ مِن سرعة القراءة مع كثرتها. واحتج أربابُ هذا القول بأن المقصود من القراءة فهمُه وتدبُّره، والفقهُ فيه والعملُ به، وتلاوتُه وحفظُه وسيلة إلى معانيه، كما قال بعض السلف: نزل القرآن لِيعمَل به، فاتخذوا تلاوته عملاً، ولهذا كان أهلُ القرآن هم العالِمون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه، فليس مِن أهله وإن أقام حروفه إقامةَ السهم.
قالوا: ولأن الإِيمان أفضلُ الأعمال، وفهم القرآن وتدبُّره هو الذي يُثمر الإِيمان، وأما مجردُ التلاوة من غير فهم ولا تدبر، فيفعلها البرُّ والفاجرُ، والمؤمن والمنافق، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي يَقرَأُ الْقُرْانَ، كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ، وَطَعْمُهَا مُرٌّ".
والناس في هذا أربع طبقات: أهلُ القرآن والإِيمان، وهم أفضل الناس. والثانية: من عَدِم القرآن والإِيمان. الثالثة: من أوتي قرآناً، ولم يُؤت إيماناً، الرابعة: من أوتي إيماناً ولم يُؤت قرآناً.
قالوا: فكما أن من أوتي إيماناً بلا قرآن أفضلُ ممن أوتي قرآناً بلا إيمان، فكذلك من أوتي تدبراً، وفهماً في التلاوة أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها
بلا تدبر. قالوا: وهذا هديُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه كان يرتِّل السورة حتى تكون أطولَ من أطول منها، وقام بآية حتى الصباح.
وقال أصحابُ الشافعي رحمه الله: كثرة القراءة أفضلُ، واحتجوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَرَأَ حَرْفاً مِنْ كِتَابِ اللهِ، فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ الم حَرْف، وَلَكِنْ أَلِف حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ ". رواه الترمذي. وصححه.
قالوا: ولأن عثمان بن عفان قرأَ القرآن في ركعة، وذكروا آثاراً عن كثير من السلف في كثرة القراءة.
والصواب في المسألة أن يُقال: إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجلُّ وأرفعُ قدراً، وثوابَ كثرة القراءة أكثرُ عدداً، فالأول: كمن تصدَّق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبداً قيمتُه نفيسة جداً، والثاني: كمن تصدَّق بعدد كثير من الدراهم، أو أعتق عدداً من العبيد قيمتُهم رخيصة، وفي "صحيح البخاري" عن قتادة قال: سألت أنساً عن قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "كان يمدُّ مدًّا".
وقال شعبة: حدثنا أبو جمرة، قال: قلت لابن عباس: إني رجل سريعُ القِراءة، وربما قرأتُ القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابنُ عباس: لأن أقرأ سورةَ واحدة أعجبُ إِلَيَّ من أن أفعل ذَلِكَ الذي تفعل، فإن كنت فاعلاً ولا بد، فاقرأ قِراءَةً تُسْمعُ أُذُنَيْك، وَيعيها قلبُك.
وقال إبراهيم: قرأ علقمةُ على ابن مسعود، وكان حسنَ الصوت، فقال: رتِّل فِداك أبي وأمي، فإنه زينُ القرآن.
وقال ابن مسعود: لاَ تَهُذُّوا القُرْآنَ هَذَّ الشِّعْرِ، وَلاَ تَنْثُرُوه نَثْرَ الدَّقَل، وَقِفُوا عِنْدَ عَجَائبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ القُلُوبَ، وَلاَ يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ.
وقال عبد الله أيضاً: إذا سمعتَ الله يقول: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأصغِ لها سمعك، فإنه خيرٌ تُؤمر به، أو شرٌّ تُصرف عنه. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: دخلت عليَّ امرأة وأنا أقرأُ (سورةَ هُود) فقالت: يا عبد الرحمن: هكذا تقرأ سورة هود؟! والله إني فيها منذ ستةِ أشهر وما فرغتُ مِن قراءتها.
وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسرُ بالقراءة في صلاة الليل تارة، ويجهر بها تارة، ويُطيل القيام تارة، ويخفِّفه تارة، ويُوتر آخر الليل - وهو الأكثر - وأوَّله تارة، وأوسطَه تارة.
وكان يُصلي التطوع بالليل والنهار على راحلته في السفر قِبَلَ أي جهة توجهت به، فيركع ويسجد عليها إيماءً، ويجعل سجودَه أخفضَ مِن ركوعه، وقد روى أحمد وأبو داود عن أنس بن مالك، قال: "كانَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد أن يُصلي على راحلته تطوعاً، استقبل القبلة، فكبر للصلاة، ثم خلّى عن راحلته، ثم صلَّى أينما توجهت به" فاختلف الرواة عن أحمد: هل يلزمه أن يفعل ذلك إذا قدر عليه؟ على روايتين: فإن أمكنه الاستدارةُ إلى القبلة في صلاته كلِّها مِثلَ أن يكون في مَحْمِل أو عمارية ونحوها، فهل
يلزمه، أو يجوز له أن يُصلِّيَ حيث توجهت به الراحلةُ؟ فروى محمد بن الحكم عن أحمد فيمن صلَّى في مَحْمِلٍ: أنه لا يُجزئُه إلا أن يستقبل القبلة، لأنه يمكنه أن يدور، وصاحب الراحلة والدابة لا يُمكنه. وروى عنه أبو طالب أنه قال: الاستدارةُ في المَحْمِلِ شديدة يُصلي حيث كان وجهه. واختلفت الرواية عنه في السجود في المَحْمِلِ، فروى عنه ابنه عبد الله أنه قال: وإن كان مَحْمِلاً فقدر أن يسجد في المَحْمِل، فيسجد. وروى عنه الميموني، إذا صلَّى في المَحْمِلِ أحبُّ إليَّ أن يسجد، لأنه يمُكنه. وروى عنه الفضل بن زياد: يسجد في المَحْمِلِ إذا أمكنه وروى عنه جعفر بن محمد: السجود على المِرْفَقَةِ إذا كان في المَحْمِلِ، وربما أسند على البعير، ولكن يُومىء ويجعل السجودَ أخفضَ مِن الركوع، وكذا روى عنه أبو داود.
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى صلاة الضحى
روى البخاري في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ما رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي سُبْحةَ الضحى، وإني لأُسبِّحُها. وروى أيضاً من حديث مُوَرِّقٍ العِجلي، قلتُ لابن عمر: أتُصلي الضحى؟ قال
لا، قلتُ: فَعُمَر؟ قال: لا، قلتْ: فأبو بكر؟ قال: لا. قلت: فالنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: لا إخاله.
وذكر عن ابن أبي ليلى قال: ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي الضحى غيرَ أم هانىء، فإنها قالت: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل بيتَها يومَ فتح مكة، فاغتسل، وصلَّى ثمانَ ركعات، فلم أرَّ صلاةً قطُّ أخفَ مِنها، غير أنهُ يُتم الركوعَ والسجود.
وفي "صحيح مسلم"، عن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة هل كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي الضحى؟ قالت: لا إلا أن يَجيءَ مِن مغيبه.
قلتُ: هل كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرُنُ بين السور؟ قالت: مِن المفصل.
وفي "صحيح مسلم" عن عائشة، قالت: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله وفي "الصحيحين" عن أم هانئ، أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى يوم الفتح ثمان ركعات وذلك ضحى.
وقال الحاكم في "المستدرك": حدثنا الأصم، حدثنا الصغاني،
حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا بكر بن مضر، حدثنا عمرو بن الحارث، عن بكر بن الأشج، عن الضحاك بن عبد الله، عن أنس رضي الله عنه قال: رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى في سفر سُبْحةَ الضُّحى، صلَّى ثمانَ ركعات، فلما انصرف، قال: "إِنِّي صَلَّيْتُ صلاَةَ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، فَسَأَلْتُ رَبِّي ثَلاَثاً، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُهُ أَلاَ يَقْتُلَ أُمَّتِي بِالسِّنِينَ فَفَعَلَ، وسألتُه أَلاَّ يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّاً، فَفَعَلَ، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُلبسَهُمْ شِيَعاً فَأَبَى عَلَيَّ". قال الحاكم صحيح قلت: الضحاك بن عبد الله هذا يُنظر من هو وما حاله؟
وقال الحاكم: في كتاب "فضل الضحى": حدثنا أبو بكر الفقيه، أخبرنا بشر بن يحيى، حدثنا محمد بن صالح الدولابي، حدثنا خالد بن عبد الله بن الحصين، عن هلال بن يساف، عن زاذان، عن عائشة رضي الله عنها قالت: صلَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضحى، ثم قال: "اللهُمَّ اغْفِرْ لي، وَارحَمْني، وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ الغَفُورُ" حتى قالها مائة مرة.
حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أسد بن عاصم، حدثنا الحصين بن حفص، عن سُفيان، عن عمر بن ذر، عن مجاهد، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صلَّى الضحى ركعتين، وأربعاً، وستاً وثمانياً
وقال الإِمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عثمان بن عبد الملك العمري، حدثتنا عائشة بنت سعد، عن أم ذرة، قالت: رأيتُ
عائشة رضي الله عنها تُصلي الضُّحى وتقول: ما رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي إلا أربعَ ركعات.
وقال الحاكم أيضاً: أخبرنا أبو أحمد بكر بن محمد المروزي، حدثنا أبو قِلابة، حدثنا أبو الوليد، حدثنا أبو عَوانة، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن مرة، عن عمارة بن عمير، عن ابن جبير بن مطعم، عن أبيه أنه رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي صلاة الضحى.
قال الحاكم أيضاً: حدثنا إسماعيل بن محمد، حدثنا محمد بن عدي بن كامل، حدثنا وهب بن بقية الواسطي، حدثنا خالد بن عبد الله، عن محمد بن قيس، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى الضُّحى ستَّ ركعات.
ثم روى الحاكم عن إسحاق بن بشير المحاملي، حدثنا عيسى بن موسى، عن جابر، عن عمر بن صبح، عن مقاتل بن حيان، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، قالتا: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي صلاة الضحى ثنتي عشرة ركعة، وذكر حديثاً طويلاً.
وقال الحاكم: أخبرنا أبو أحمد بن محمد الصيرفي، حدثنا أبو قِلابة الرقاشي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عاصم
بن ضُمرة، عن علي رضي الله عنه: "أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصلي الضحى".
وبه إلى أبي الوليد. حدثنا أبو عَوانة، عن حُصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن مرة، عن عِمارة بن عمير العبدي، عن ابن جبير بن مُطعم، عن أبيه، أنه رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي الضحى. قال الحاكم: وفي الباب عن أبي سعيد الخُدري، وأبي ذر الغِفاري، وزيد بن أرقم، وأبي هريرة، وبُريدة الأسلمي، وأبي الدرداء، وعبد الله بن أبي أوفى، وعِتبان بن مالك، وأنس بن مالك، وعُتبة بن عبد الله السلمي، ونعيم بن همَّار الغطفاني، وأبي أمامة الباهلي رضي الله عنهم، ومن النساء، عائشة بنت أبي بكر، وأم هانىء، وأم سلمة رضى الله عنهن، كلهم شهدوا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصليها. وذكر الطبراني من حديث علي، وأنس، وعائشة، وجابر، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصلي الضحى ست ركعات. فاختلف الناس في هذه الأحاديث على طرق، منهم من رجح رواية الفعل على الترك بأنها مثبتة تتضمن زيادةَ علم خفيت على النافي. قالوا: وقد يجوز أن يذهب علمُ مثل هذا على كثير من الناس، ويُوجد عند الأقل.
قالوا: وقد أخبرت عائشة، وأنس، وجابر، وأم هانىء، وعليُّ بنُ أبي طالب، أنه صلاها. قالوا: ويؤيد هذا الأحاديثُ الصحيحة المتضمنةُ للوصية بها، والمحافظةِ عليها، ومدحِ فاعلها، والثناءِ عليه، ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي محمد بصيامِ ثلاثَةِ أيام مِن كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أُوتِرَ قبل أن أنام.
وفي "صحيح مسلم" نحوه عن أبي الدرداء.
وفي "صحيح مسلم"، عن أبي ذر يرفعه، قال: "يُصبِحُ عَلَى كُلِّ سُلاَمىَ مِن أَحَدِكُم صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسبِيْحَةٍ صدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحمِيْدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وتجْزِىءُ مِن ذَلِكَ رَكْعَتانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضحَى".
وفي "مسند الإِمام أحمد"، عن مُعاذ بن أنس الجُهَني، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: "مَن قَعَدَ في مُصَلاَّهُ حينَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ حَتَّى يُسَبِّحَ رَكعتَي الضُّحى لا يقول إِلاَّ خَيراً، غَفَرَ الله خَطَايَاهُ وإِن كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البحْرِ".
وفي الترمذى، و"سنن ابن ماجه" عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَن حَافَظَ على سُبْحَةِ الضُّحَى، غفِرَ لَهُ ذُنُوبُه وإِن كانَت مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ ".
وفي "المسند" والسنن، عن نعيم بن همَّار قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول "قال الله عز وجل: يا ابْنَ آدَمَ لاَ تَعْجزَنَّ عَنْ أَرْبعِ رَكَعاتٍ في أوَّلِ النَّهار أكفك آخِرَه" رواه الترمذي من حديث أبي الدرداء، وأبي ذر.
وفي "جامع الترمذي" و"سنن ابن ماجه"، عن أنس مرفوعاً: "مَنْ صَلَّى الضُّحَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، بَنَى اللهُ لَهُ قَصْراً مِن ذَهَبٍ في الجنة".
وفي "صحيح مسلم"، عن زيد بن أرقم أنه رأى قوماً يُصلون من الضحى في مسجد قُباء، فقال: أما لقد عَلِموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضلُ إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "صلاَةُ الأوَّابين حينَ تَرْمَض الفِصَالُ".
وقوله: ترمَضُ الفِصال، أي: يشتد حر النهار، فتجد الفِصال حرارةَ الرمضاء. وفي "الصحيح" أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى الضُّحى في بيت عِتبان بن
مالك ركعتين.
وفي "مستدرك" الحاكم من حديث خالد بن عبد الله الواسطي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا يُحافِظُ عَلى صَلاةِ الضُّحَى إلا أَوَاب " وقال: "هذا إسناد قد احتج بمثله مسلمُ بن الحجاج، وأنه حدث عن شيوخه، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا أَذِنَ الله لِشَيء ما أَذِنَ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالقُرْآنِ " قال: ولعل قائلاً يقول: قد أرسله حماد بن سلمة، وعبد العزيز بن محمد الدَّرَاوردي، عن محمد بن عمرو، فيقال له: خالد بن عبد الله ثقة، والزيادة من الثقة مقبولة.
ثم روى الحاكم: حدثنا عبدان بن يزيد، حدثنا محمد بن المغيرة السكري، حدثنا القاسم بن الحكم العرَني، حدثنا سليمان بن داود اليمامي، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَ لِلْجَنَّةِ باباً يُقالُ لَهُ بابُ الضُّحَى، فَإِذَا كَانَ يَوْم القِيَامَة نادَى مُنَادٍ: أَيْنَ الَّذِينَ كانوا يُداوِمونَ عَلى صلاة الضحَى، هذا بابكم، فادْخُلُوه
بِرَحْمَةِ اللهِ ".
وقال الترمذي في "الجامع": حدثنا أبو كُريبٍ محمد بن العلاء، حدثنا يُونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني موسى بن فلان، عن عمه ثُمامة بن أنس بن مالك، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَن صَلَّى الضّحَى ثِنْتَيْ عَشرَةَ رَكْعَةً، بَنَى اللهُ لَهُ قَصْراً مِنْ ذَهَبٍ في الجَنَّة"،. قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وكان أحمد يرى أصحَّ شيء في هذا الباب حديثَ أم هانئ. قلت: وموسى ابن فلان هذا، هو موسى بن عبد الله بن المثنى بن أنس بن مالك.
وفي "جامعه" أيضاً مِن حديث عَطية العَوْفي، عن أبي سعيد الخُدري، قال: كانَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي الضُّحَى حتى نقولَ: لا يدعُها، ويدعُها حتى نقولَ: لا يصليها. قال: هذا حديث حسن غريب.
وقال الإِمام أحمد في "مسنده" حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن الحارث الذِّمَاريَ، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "مَنْ مَشى إلى صَلاةٍ مكَتوبَةٍ وَهوَ مُتَطَهِّر، كانَ لَه كَأَجْرِ الحاجِّ المُحرِم، ومَنْ مَشى إلى سُبحَة الضُّحَى
كَانَ لَهُ كَأَجْرِ المُعتَمِرِ، وَصَلاة عَلى إِثرِ صَلاة لاَ لَغْوَ بَيْنَهمَا كِتَابٌ في عِلِّيِين " قال أبو أمامة: الغدو والرواح إلى هذِهِ المَساجِدِ مِنَ الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ عزّ وَجَلّ.
وقال الحاكم: حدثنا أبو العباس، حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا أبو المورِّع محاضر بن المورِّع، حدثنا الأحوصُ بن حكيم، حدثني عبد الله بن عامر الألهاني، عن منيب بن عيينة بن عبد الله السّلمي، عن أبي أمامة، عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول: "مَن صَلَّى الصبحَ في مَسجِدِ جَمَاعَةٍ، ثمَّ ثبتَ فيهِ حَتَّى الضُّحَى، ثمَّ يُصلِّي سُبحَةَ الضُّحَى، كانَ لَهُ كَأَجرِ حاجٍّ أَوْ مُعْتَمِرٍ تَام لَهُ حَجَّتُه وَعُمرَتُه".
وقال ابن أبي شيبة: حدثني حاتم بن إسماعيل، عن حميد بن صخر، عن المقبُري، عن الأعرج، عن أبي هُريرة رضي الله عنه، قال: بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيشاً، فأعظموا الغنيمةَ، وأسرعوا الكَرَّة. فقال رجل: يا رسول الله ! ما رأينا بعثاً قطُّ أسرعَ كرةً ولا أعظَمَ غنيمة من هذا البَعثِ، فقال: "أَلا أُخبِركُمْ بِأَسرَعَ كَرَّةً، وَأَعْظَمَ غَنيمَةً: رَجُلٌ توضأَ في بَيتِهِ فَأَحْسَنَ وُضوءَه، ثَمَّ عَمَدَ إلى المَسجِد، فَصَلَّى فيهِ صَلاَةَ الغَداةِ، ثُمَّ أَعقَبَ بِصلاةِ الضّحَى، فَقَد أَرَعَ الكَرَةَ وَأعْظَمَ الغَنِيمَة".
وفي الباب أحاديث سوى هذه، لكم هذه أمثلها قال الحاكم: صحبتُ جماعةً من أئمة الحديث، فوجدتهم يختارون هذا العددَ، يعني أربعَ ركعات، ويُصلون هذه الصلاة أربعاً، لتواتر الأخبار الصحيحة فيه، وإليه أذهب، وإليه أدعو اتِّباعاَ للأخبار المأثورة، واقتداء بمشايخ الحديث فيه.
قال ابن جرير الطبري وقد ذكر الأخبارَ المرفوعةَ في صلاة الضحى، واختلاف عددها: وليس في هذه الأحاديث حديثّ يدفع صاحبه، وذلك أن من حكى أنه صلى الضحى أربعاً جائز أن يكون رآه في حال فعلِه ذلك، ورآه غيرُه في حالٍ أخرى صلى ركعتين، ورآه آخرُ في حال أخرى صلاها ثمانياً، وسمعه آخر يحثّ على أن يُصلي ستاً، وآخر يحثُّ على أن يُصلي ركعتين، وآخر على عشر، وآخر على ثنتي عشرة، فأخبر كلُّ واحد منهم عما رأى وسمع. قال: والدليل على صحة قولنا، ما روِيَ عن زيد بن أسلم قال. سمعتُ عبد الله بن عمر يقول لأبي ذر: أوصني يا عم، قال: سألتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما سألتني، فقال؟ " مَنْ صَلَّى الضّحَى رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يكْتَبْ مِن الغَافِلِينَ، وَمَنْ صَلًى أربَعاً، كتِبَ مِنَ العَابِدين، ومَن صَلَّى سِتّاً، لَمْ يَلْحَقْةُ ذَلِكَ اليَوْمَ ذَنْبٌ، وَمَنْ صَلَّى ثَمانِياَ، كُتِبَ مِنَ القَانِتِينَ، ومَنْ صَلَّى عَشْراً بَنى الله لَهُ بَيْتا في الجَنَّة".
وقال مجاهد: صلَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً الضحى ركعتين، ثم يوماً أربعاً، ثم يوماً سِتّاً، ثم يوماً ثمانياً ثم تركَ. فأبان هذا الخبر عن صحة
ما قلنا من احتمال خبر كل مُخْبِرٍ ممن تقدم أن يكون إخبارُه لِما أخبر عنه في صلاة الضُّحى على قدر ما شاهده وعاينه.
والصواب: إذا كان الأمر كذلك: أن يُصلّيها من أراد على ما شاء من العدد. وقد روِيَ هذا عن قوم من السلف حدثنا ابنُ حميد، حدثنا جرير، عن إبراهيم، سأل رجل الأسود، كم أصلي الضحى؟ قال: كم شئت.
وطائفة ثانية، ذهبت إلى أحاديث الترك، ورجَّحتها من جهة صحة إسنادها، وعمل الصحابة بموجبها، فروى البخاري عن ابن عمر، أنه لم يكن يُصليها، ولا أبو بكر، ولا عمر. قلت: فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا إخاله. وقال وكيع: حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم بن كُليب، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: ما رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى صلاة الضحى إلا يوماً واحداً. وقال علي بن المديني: حدثنا معاذ بن معاذ، حدثنا شعبة، حدثنا فضيل بن فَضالة، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: رأى أبو بكرة ناساً يُصلون الضحى، قال: إنكم لتصلون صلاة ما صلاها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عامَةُ أصحابه.
وفي "الموطأ": عن مالك، عن ابن شهاب، عن عُروة، عن عائشة قالت: ما سبَّح رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبحةَ الضّحى قطُّ، وإني لأسبِّحُها، وإن كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليَدَعُ العمل وهو يحب أن يعمل به خشيةَ أن يعمل به الناس، فَيُفرض عليهم.
وقال أبو الحسن علي بن بطَّال: فأخذ قوم من السَّلف بحديث عائشة، ولم يَرَوا صلاةَ الضحى، وقال قوم: إنها بدعة، روى الشعبي، عن قيس بن عُبيد، قال: كنت أختلِف إلى ابن مسعود السَّنَةَ كلَّها، فما رأيتُه مصلياً الضحى. وروى شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه أن عبد الرحمن بن عوف، كان لا يصلي الضحى. وعن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجدَ، فإذا ابنُ عمر جالس عند حُجرة عائشة، وإذا الناس في المسجد يُصلون صلاة الضحى، فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة،. وقال مرة: ونِعمَتِ البِدْعةُ.
وقال الشعبي: سمعتُ ابن عمر يقول: ما ابتدع المسلمون أفضل صلاة مِن الضحى، وسئل أنس بن مالك عن صلاة الضحى، فقال: الصلوات خمس.
وذهبت طائفة ثالثة إلى استحباب فعلها غِبّاً، فتُصلى في بعض الأيام دون بعض، وهذا أحدُ الروايتين عن أحمد، وحكاه الطبري عن جماعة، قال: واحتجوا بما روى الجُريري، عن عبد الله بن شَقيق، قال: قلتُ لعائشة أكانَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي الضحى؟ قالت: لا إلا أن يَجيءَ مِن مغيبه ثم ذكر حديث أبي سعيد: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي الضحى، حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول: لا يصليها، وقد تقدم. ثم قال كذا ذكر من كان يفعل ذلك مِن السلف وروى شعبة، عن حبيب بن الشهيد، عن عكرمة قال: كان ابنُ عباس يُصليها يوماً، ويدعها عشرة
أيام يعني صلاةَ الضحى وروى شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أنه كان لا يُصلي الضحى. فإذا أتى مسجد قُباء، صلَّى، وكان يأتيه كلَّ سبت. وروى سفيان، عن منصور، قال كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة، ويُصلون ويدعون يعني صلاة الضحى. وعن سعيد بن جبير: إني لأدع صلاة الضحى وأنا أشتهيها، مخافة أن أراها حتماً علي وقال مسروق: كنا نقرأ في المسجد، فنبقى بعد قيام ابن مسعود، ثم نقوم، فنصلي الضحى، فبلغ ابن مسعود ذلك فقال: لِم تُحمِّلون عبادَ الله ما لم يُحمِّلهم الله؟! إن كنتم لا بُدَّ فاعلين، ففي بيوتكم وكان أبو مِجْلَز يصلي الضحى في منزله.قال هؤلاء: وهذا أولى لئلا يتوهم متوهمٌ وجوبَها بالمحافظة عليها، أو كونَها سنةَ راتبةً ولهذا قالت عائشة: لو نُشِرَ لي أَبَواي ما تَرَكتها. فإنها كانت تُصليها في البيت حتى لا يراها الناس.
وذهبت طائفة رابعة إلى أنها تُفعل بسبب من الأسباب، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما فعلها بسبب، قالوا: وصلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ الفتح ثمان ركعات ضحى، إنما كانت مِن أجل الفتح، وأن سنة الفتح أن تصلى عنده ثمان ركعات، وكان الأمراء يُسمونها صلاة الفتح وذكر الطبريَ في "تاريخه" عن الشعبي قال: لما فتح خالد بن الوليد الحِجرة، صلَى صلاة الفتح ثمانَ ركعات لم يُسلم فيهن، ثم انصرف. قالوا: وقول أم هانىء: "وذلك ضحى". تريد أن فعله لهذه الصلاة كان ضحى، لا أن الضحى اسم لتلك الصلاة. قالوا: وأما صلاته في بيت عِتبان بن مالك، فإنما كانت لسبب أيضاَ، فإن عِتْبان قال له: إنِّي أنكرتَ بصري، وإنَّ السيول تحولُ بيني وبين مسجد قومي، فَودِدتُ أنك جئت، فصليتَ في بيتي مكاناً أتخذه مسجداَ، فقال: "أفعل إن شاء
الله تعالى" قال: فغدا عليَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر معه بعدما أشتدَّ النهارُ فاستأذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأذنت له، فلم يجلِس حتى قال: "أين تحِبّ أَن أصَلِّيَ مِن بَيتِكَ"،؟ فأشرت إليه من المكان الذي أُحب أن يصلي فيه، فقام وصففنا خلفه، وصلى، ثم سلم، وسلمنا حين سلم. متفق عليه.
فهذا أصل هذه الصلاة وقصتها، ولفظ البخاري فيها، فاختصره بعض الرواة عن عِتبان، فقال: إن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى في بيتي سُبحة الضحى، فقاموا وراءه فصلَّوْا.
وأما قولُ عائشة: لم يكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي الضحى إلا أن يَقْدَمَ مِنْ مغيبه، فهذا من أبين الأمور أن صلاته لها إنما كانت لسبب، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا. قَدِمَ من سفر، بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين.
فهذا كان هديَه، وعائشةُ أخبرت بهذا وهذا، وهي القائلةُ: "ما صلَّى
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاةَ الضحى قطّ".
فالذي أثبتته فعلها بسبب، كقدومه من سفر، وفتحه، وزيارتِه لقوم ونحوه، وكذلك إتيانُه مسجد قباء للصلاة فيه، وكذلك ما رواه يوسف بن يعقوب، حدَّثنا محمد بن أبي بكر، حدَّثنا سلمة بن رجاء، حدَّثتنا الشعثاء، قالت: رأيتُ ابنَ أبي أوفى صلى الضُّحى ركعتين يوم بُشِّر برأس أبي جهل. فهذا إن صحَّ فهي صلاة شكر وقعت وقت الضحى، كشُكر الفتح والذيَ نفته، هو ما كان يفعله الناس، تصلونها لغير سبب، وهي لم تقل: إن ذلك مكروه، ولا مخالفٌ لسنته، ولكن لم يكن مِن هديه فعلُها لغير سبب. وقد أوصى بها وندب إليها، وحضَّ عليها، وكان يَستغني عنها بقيام الليل، فإن فيه غُنية عنها وهي كالبدل منه، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذي جَعَلَ اللَيْلَ والنَّهارَ خِلْفَةً لِمَن أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أوْ أرادَ شُكورَاً} [الفرقان: 62] قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: عوضاً وخلفاً يقوم أحدُهما مقامَ صاحبه، فمن فاته عمل في أحدهما، قضاه في الآخر.
قال قتادة: فأدوا للّه من أعمالكم خيراً في هذا الليل والنهار، فإنهما مطيَّتان يُقحِمَان الناسَ إلى آجالهم، ويُقرِّبان كلَّ بعيد، ويبليان كلَّ جديد، ويَجيئان بكلَّ موعود إلى يوم القيامة.
وقال شقيق: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: فاتتني الصلاةُ الليلة، فقال: أدرك ما فاتك مِن ليلتك في نهارك، فإن الله عزّ وجل جعل الليلَ والنهار خِلفة لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شُكورا.
قالوا: وفِعل الصحابة رضي الله عنهم يدل على هذا، فإن ابن عباس كان يُصليها يوماً، ويدعها عشرة، وكان ابنُ عمر لا يصليها، فإذا أتى مسجد قُباء، صلاها، وكان يأتيه كلَّ سبت وقال سفيان، عن منصور: كانوا يكرهون
أن يُحافظوا عليها، كالمكتوبة، ويصلون ويَدعون، قالوا: ومِن هذا الحديثُ الصحيح عن أنس، أن رجلاً من الأنصار كان ضخماً، فقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني لا أستطيع أن أُصليَ معك، فصنع للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاماً، ودعاه إلى بيته، ونضح له طرفَ حصير بماء، فصلى عليه ركعتين قال أنس ما رأيته صلى الضحى غير ذلك اليوم رواه البخاري.
ومن تأمل الأحاديث المرفوعة وآثارَ الصحابة، وجدها لا تدل إلا على هذا القول، وأما أحاديثُ الترغيب فيها، والوصيةُ بها، فالصحيح منها كحديث أبي هريرة وأبي ذر لايدل على أنها سنة راتبة لكل أحد، وإنما أوصى أبا هريرة بذلك، لأنه قد روي أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة، فأمره بالضحى بدلاً من قيام الليل، ولهذا أمره ألا ينام حتى يوتر، ولم يأمر بذلك أبا بكر وعمر وسائر الصحابة.
وعامة أحاديث الباب في أسانيدها مقال، وبعضها منقطع، وبعضها موضوع لا يحل الاحتجاج به، كحديث يروى عن أنس مرفوعاً "مَنْ دَاوَمَ على صَلاَةِ الضُّحَى ولمْ يَقطَعْهَا إلا عَنْ عِلّة، كنتُ أَنَا وَهُو في زَوْرَقٍ مِنْ نُورٍ في بَحرٍ مِنْ نورٍ" وضعه زكريا بن دُويد الكِندي، عن حميد.
وأما حديث يعلى بن أشدق، عن عبد الله بن جراد، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "من صَلَّى مِنْكُم صلاَةَ الضُحى، فَلْيصلها مُتَعَبِّداً، فإنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّيها السَّنَةَِ من
الدَّهْرِ ثمَّ يَنسَاهَا وَيَدَعهَا، فَتَحِنُّ إليهِ كَمَا تَحِنُّ النَّاقَة إلى وَلَدِهَا إذا فَقَدَته" فيا عجباً للحاكم كيف يحتج بهذا وأمثاله، فإنه يروي هذا الحديثُ في كتاب أفرده للضحى، وهذه نسخة موضوعة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعنى نسخة يعلى بن الأشدق. وقال ابن عدى: روى يعلى بن الأشدق، عن عمه عبد الله بن جراد، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحاديث كثيرة منكرة، وهو وعمُّه غيرُ معروفين، وبلغي عن أبي مسهر، قال: قلت ليعلى بن الأشدق: ما سمع عمُّك من حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: جامعَ سفيان، وموطأ مالك، وشيئاً من الفوائد. وقال أبو حاتم بن حبان: لقي يعلى عبد الله بن جراد، فلما كَبِر، اجتمع عليه من لا دِين له، فوضعوا له شهباً بمائتي حديث، فجعل يحدِّث بها وهو لا يدري، وهو الذي قال له بعضُ مشايخ أصحابنا: أيُّ شيء سمعته من عبد الله بن جراد؟ فقال: هذه النسخة، وجامعُ سفيان لا تحِلُ الرواية عنه بحال.
وكذلك حديثُ عمر بن صُبح عن مقاتل بن حيان حديث عائشة المتقدم: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي الضحى ثنتي عشرة ركعة، وهو حديث طويل ذكره الحاكم في "صلاة الضحى" وهو حديث موضوع، المتهم به عمر بن صبح قال البخاري: حدَثني يحيى، عن علي بن جرير، قال سمعت عمر بن صبح يقول: أنا وضعت خطبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال ابن عدى منكر الحديث. وقال ابن حبان: يضع الحديث على الثقات، لا يَحِلّ كتب حديثه إلا على جهة التعجب منه، وقال الدارقطني: متروك، وقال الأزدي كذاب.
وكذلك حديثُ عبد العزيز بن أبان، عن الثوري، عن حجاج بن فُرَافِصة، عن مكحول، عن أبي هريرة مرفوعاً "مَن حافظ على سبحة الضحى غفرت ذنوبه وإن كانت بعدد الجراد وأكثر من زبد البحر"
ذكره الحاكم أيضاً. وعبد العزيز هذا، قال ابن نمير: هو كذّاب، وقال يحيى: ليس بشيء، كذاب خبيث يضع الحديث، وقال البخاري، والنسائي، والدارقطني: متروكُ الحديث.
وكذلك حديث النهاس بن قهم، عن شداد، عن أبي هريرة يرفعه "من حَافَظَ عَلَى شُفْعَةِ الضُحَى، غُفِرَتْ ذُنُوبُه وَإنْ كَانَتْ أَكْثَر مِن زَبَدِ البحر". والنهاس، قال يحيى: ليس بشيء ضعيف كان يروي عن عطاء، عن ابن عباس أشياء منكرة، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن عدي: لايساوى شيئاً، وقال ابن حبان: كان يروي المناكير عن المشاهير، ويخالف الثقات، لا يجوز الاحتجاج به، وقال الدارقطني: مضطرب الحديث، تركه يحيى القطان.
وأما حديث حُميد بن صخر، عن المقبري، عن أبي هريرة: بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعثاً الحديثَ، وقد تقدم. فحميد هذا ضعفه النسائي، ويحيى بن معين، ووثقه آخرون، وأُنكِرَ عليه بعض حديثه، وهو ممن لا يحتج به إذا انفرد والله أعلم.
وأما حديث محمد بن إسحاق، عن موسى، عن عبد الله بن المثنى، عن أنس، عن عمه ثُمامة، عن أنس يرفعه "مَنْ صَلَّى الضُّحَى، بنى الله له قَصْراً في الجَنَّةِ مِنْ ذَهَبٍ"، فمن الأحاديث الغرائب، وقال الترمذيَ: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وأما حديث نعيم بن همَّار: "ابن آدَمَ لاَ تَعْجِزْ لي عَنْ أرْبَعِ ركَعَات فى أوَّلِ النَّهَارِ، أَكْفِكَ آخِرَهُ"، وكذلك حديث أبي الدرداء، وأبي ذر،
فسمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: هذه الأربع عندي هي الفجر وسنتها.
فصل
وكان مِن هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهدي أصحابه سجودُ الشكر عند تجدُّد نِعمة تسُرُ أو اندفاع نِقمة، كما في "المسند" عن أبي بكرة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أتاه أمرٌ يَسُرُّه، خرَّ لله سَاجِداً شُكْراً لله تَعَالى.
وذكر ابنُ ماجه، عن أنس، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُشِّرَ بحَاجَةٍ، فخَرَّ للّه سَاجِداً.
وذكر البيهقي بإسناد على شرط البخاري، أن علياً رضي الله عنه، لما كتب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسلام همْدَان، خرَّ ساجداً ثم رفع رأسه، فقال: "السَّلاَم عَلَى هَمْدَانَ، السَّلاَمَ عَلى هَمْدان" وصدر الحديث في صحيح البخاري وهذا تمامه بإسناده عند البيهقي.
وفي "المسند" من حديث عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سجد شكراً لما جاءته البُشرى من ربه، أنه من صلَّى عليك، صلَّيْت عليه، ومن سلَّم عليك، سلمتُ عليه.
وفي سنن أبي داود من حديث سعد بن أبي وقاص، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رفع يديه فسأل الله ساعة، ثم خرّ ساجداً ثلاثَ مرات، ثم قال: " إنِّي سَأَلْتُ رَبي وشَفَعْتُ لأمَّتي، فَأَعْطَاني ثلُثَ أُمَّتي، فَخرَرْت سَاجِداً شُكْرَاً لِرَبِّي، ثُمَّ رَفعت رأسْي، فَسَألتُ رَبِّي لأمَّتي، فَأَعْطَاني الثُّلثَ الثاني، فَخَرَرَت سَاجداً شكْراً لِرَبي ثمّ رَفَعت رَأسي، فَسَأَلْتُ رَبِّي لأُمَّتي، فأعطَاني الثُّلثَ الآخَرَ، فَخَررَتُ ساجداً لربِّي".
وسجد كعب بن مالك لما جاءته البشرى بتوبة الله عليه، ذكره البخاري.
وذكر أحمد عن علي رضي الله عنه، أنه سجد حين وجد ذا الثُّدَيَّة في قتلى الخوارج.
وذكر سعيد بن منصور، أن أبا بكر الصِّديق رضي الله عنه، سجد حين جاءه قتلُ مسيلِمة.
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سجود القرآن
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا مرَّ بسجدة، كبَّر وسجد، وربما قال في سجوده " سَجَدَ وَجهي لِلّذي خَلَقَهُ وَصوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصرَهُ بِحَولِهِ وَقُوَّتِهِ".
وربما قال: " اللهم احطط عَنِّي بها وِزرا، واكْتُب لي بها أَجْرَاً، واجْعَلْهَا لي عِنْدَكَ ذُخْرَاً، وَتَقبَّلها مِنِّي كَمَا تَقَبَّلتَها مِن عَبْدِكَ داودَ". ذكرهما أهل السنن.
ولم يُذكر عنه أنه كان يكبر للرفع من هذا السجود، ولذلك لم يذكره الخِرقي ومتقدمو الأصحاب، ولا نُقِلَ فيه عنه تشهد ولا سلام البتة وأنكر أحمد والشافعي السلامَ فيه، فالمنصوص عن الشافعي: إنه لا تشهدَ فيه
ولا تسليم، وقال أحمد: أما التسليمُ، فلا أدري ما هو، وهذا هو الصواب الذي لا ينبغي غيره.
وصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سجد في (الم تنزيل)، وفي (ص)، وفي (النجم) وفي؟ (إذا السَماء انشقَّت)، وفي (اقرأ باسْم رَبِّكَ الذي خَلَق).
وذكر أبو داود عن عمرو بن العاص، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أقرأه خمسَ عشرة، سجدة، منها ثلاث في المفصّل، وفي سورة الحج سجدتان.
وأما حديث أبي الدرداء، سجدت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحدى عشرة سجدة، ليس فيها من المفصَّل شيء: (الأعراف)، و(الرعد)، و(النحل)، و(بني إسرائيل)، و(مريم)، و(الحج)، و(سجدة الفرقان)، و(النمل)، و(السجدة)، وصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، و(سجدة الحواميم)، فقال أبو داود: روى أبو الدرداء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحدى عشرة سجدة، وإسناده واهٍ.
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة. رواه أبو داود فهو حديث ضعيف، في إسناده أبو قدامة الحارث بن عبيد، لا يحتج بحديثه. قال الإِمام أحمد: أبو قدامة مضطرِب الحديث. وقال يحيى بن معين: ضعيف، وقال النسائي: صدوق عنده مناكير، وقال أبو حاتم البستي: كان شيخاً صالحاً ممن كثر
وهمه وعلَّله ابن القطان بمطر الوراق، وقال: كان يشبهه في سوء الحفظ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعيب على مسلم إخراجُ حديثه انتهى كلامه.
ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه، لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلِط فيه، فغلِط في هذا المقام من استدرك عليه إخراجَ جميع حديث الثقة، ومن ضعَّف جميع حديث سيىء الحفظ، فالأولى: طريقة الحاكم وأمثاله، والثانية: طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله، وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن والله المستعان.
وقد صح عن أبي هريرة أنه سجد مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في (اقرأ باسْم رَبِّكَ الَذي خَلَق)، وفي (إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّت)، وهو إنما أسلم بعد مَقدَم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدَينة بست سنين أو سبع، فلو تعارض الحديثان من كل وجه، وتقاوما في الصحة، لتعين تقديمُ حديث أبي هريرة، لأنه مثبت معه زيادة علم خفيت على ابن عباس، فكيف وحديثُ أبي هريرة في غاية الصحَة متفق على صحته، وحديث ابن عباس فيه من الضعف ما فيه. والله أعلم.
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجمعة وذكر خصائص يومها
ثبت في "الصحيحين" عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "نَحْنُ الآخرُون
الأَوّلُونَ السَّابِقونَ يَوْمَ القِيامَة، بَيْدَ أنَّهم أوتُوا الكتاب مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرضَ اللهُ عَلَيْهِم، فاخْتَلَفوا فِيهِ، فهَدانَا اللهُ له، والنَّاسُ لَنا فيه تَبَع، اليَهُودُ غداً، والنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ".
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة، وحُذيفة رضي الله عنهما قال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَضَلَّ اللهُ عَن الجُمُعة مَنْ كان قَبْلَنا، فَكانَ لِلْيَهُودِ السَّبْتِ، وكَانَ لِلنَّصارى يَوْمُ الأَحَدِ، فجاء اللهُ بِنَا، فَهَدَانَا ليومِ الجمعة فَجَعَلَ الجُمُعَةَ والسّبْتَ والأَحَدَ، وكَذلِكَ هُم تَبَعٌ لَنَا يَومَ القِيَامَةِ، نحن الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنيا، والأَوَّلونَ يَوْمَ القِيامَةِ، المَقْضيُّ لهم قبل الخلائِق".
وفي "المسند" والسنن، من حديث أوس بن أوس، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضل أَيَّامِكُم يَومُ الجمعَةِ، فيه خَلَقَ اللهُ آدَمَ، وفيه قُبضَ، وفيه النَّفخَةُ، الصعْقَةُ، فأكثِرُوا عليَّ مِنَ الصَّلاةِ فيه، فإِنَّ صَلاَتَكُم مَعرُوضةٌ عليَّ" قالوا: يا رسولَ الله وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاتنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَمْتَ؟ (يعني: قدْ بَلِيتَ). "إنَّ الله حَرَّمَ على الأَرضِ أَنْ تأْكُلَ أَجْسَادَ الأنبياءِ". ورواه الحاكم، في"المستدرك" وابن حبان في "صحيحه".
وفي "جامع الترمذي"، من حديث أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فيه الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فيه خَلَقَ اللهُ آدَمَ، وفيه أدْخِلَ الجَنَّةَ، وفيه أُخرِجَ منها، ولا تَقومُ السَّاعَةُ إِلاَّ في يَوْمِ الجُمُعَةِ ". قال: حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم.
وفي "المستدرك" أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً "سَيِّدُ الأيَّام يَوْمُ الجُمُعةِ، فيه خُلِقَ آدَمُ، وفيه أُدْخِلَ الجَنَّة، وفيه أُخْرِجَ مِنْهَا، ولا تَقومُ السَّاعَةُ إِلاَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ".
وروى مالك في "الموطأ"، عن أبي هريرة مرفوعاً "خيْر يَوْمٍ طَلَعَت عليه الشَّمْس يومُ الجُمُعةِ، فيه خُلِقَ آدمُ، وفيه أُهْبِطَ، وفيه تِيبَ عَليه، وفيه مَاتَ، وفيه تقومُ السَّاعةُ، وما منْ دابَّةٍ إلا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الجُمُعةِ مِنْ حِينَ تصبِحُ حتَّى تَطْلعَ الشّمْسُ شَفَقاً مِنَ السَّاعَةِ إِلاَّ الجِنَّ والإِنسَ، وفِيهِ سَاعَةٌ لا يُصادِفُهَا عَبدٌ مُسْلِمِّ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ الله شَيْئاً إِلاَّ أَعْطَاهُ إيَّاه". قال كعب: ذلك في كلِّ سنَةٍ يَوْمٌ، فقلتُ: بَلْ في كُلِّ جُمُعَةٍ، فَقَرأَ كَعْبّ التَّوْراةَ، فَقَال: صدَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، ثُمَّ لَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلاَمٍ، فحَدَّثْتهُ بِمَجْلِسي مَعَ كَعبٍ، قَالَ: قَدْ عَلِمتُ أَيَّة سَاعَةٍ هي، قُلت: فأَخبِرْنِي بِهَا، قال: هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ في يَوْمِ الجُمُعَةِ، فَقُلتُ: كَيفَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يصَادِفُهَا عَبدٌ مسلِمّ وَهوَ يصَلِّي
وَتِلْكَ السَّاعَةُ لاَ يُصَلَّى فيها؟ فَقَالَ ابن سلام: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ الله "مَن جَلَسَ مَجلِساً يَنْتَظِرُ الصلاَةَ، فَهُوَ في صًلاةٍ حَتَّى يُصلِّيَ"؟
وفي "صحيح ابن حبان" مرفوعاً: "لا تطلع الشمس على يوم خير من يَوْمِ الجُمُعة".
وفي "مسند الشافعي" من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه، قال: أتى جبريلُ عليه السلام رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بمرْآة بَيْضَاءَ، فِيها نُكتةٌ، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما هذِهِ؟ فقال : "هذِهِ يَومُ الجُمُعةِ، فُضِّلْتَ بِهَا أَنْتَ وَأُمَّتُكَ، والنَّاسُ لَكُمْ فيها تَبَعٌ، اليهودُ والنَّصارى، ولكم فيها خَيْرٌ، وفيها سَاعَةٌ لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يدعو الله بِخَيْرٍ إلا اسْتُجِيبَ لَهُ وهُوَ عِنْدَنَا يَوْمُ المزيد، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا جِبْريلُ ! ما يومُ المزيدِ؟ قال: إِنَّ رَبَّكَ اتَّخَذَ فِي الفِرْدَوْسِ وَادِياً أفيحَ فِيهِ كُثُبٌ مِنْ مِسْكٍ، فإذا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ أنزلَ الله سُبحَانَهُ ما شَاءَ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ، وَحَوْلَهُ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ عَليها مَقَاعِدُ النَّبيِّينَ، وحَفَّ تِلكَ المنابِرَ بِمنَابِرَ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ بالياقوت وَالزَّبَرجَدِ، عليها الشُّهَداءُ والصِّدِّيقُونَ، فجلسوا مِنْ وَرَائهم على تِلْكَ الكُثُبِ"، فيقولُ اللهُ عزّ وجَلَّ: "أَنا رَبّكم قَدْ صَدَقتكم وعدي، فسَلُوني أُعْطِكُم، فيقولون: ربَّنا نسألك رضوانَك، فيقول: قَدْ رَضِيتُ عنْكُم وَلَكُم مَا تَمَنيْتُم وَلَدَيَّ
مَزيد، فهم يُحِبُّونَ يَوْمَ الجُمُعةِ لِما يُعطيهم فيه ربُّهم مِنَ الخَيْرِ، وهُوَ اليومُ الَّذي اسْتوى فيه ربُّك تَبَارَكَ وتَعالى على العرش، وفيه خَلَقَ آدم، وفيه تقوم السَّاعة".
رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد، حدثني موسى بن عُبيدة، قال: حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة، عن عبد الله بن عبيد، عن عمير بن أنس.
ثم قال: وأخبرنا إبراهيم قال: حدثني أبو عمران إبراهيم بن الجعد، عن أنس شبيهاً به.
وكان الشافعي حسنَ الرأي في شيخه إبراهيم هذا، لكن قال فيه الإِمام أحمد رحمه للّه: معتزلي جهمي قدري كُلُّ بلاء فيه.
ورواه أبو اليمان الحكم بن نافع، حدثنا صفوان: قال: قال أنس: قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أتاني جِبْريلُ فذكره" ورواه محمد بن شعيب، عن عمر مولى غُفرة، عن أنس ورواهُ أبو ظبية، عن عثمان بن عُمير، عن أنس. وجمع أبو بكر بن أبي داود طرقه.
وفي "مسند أحمد" من حديث علي بن أبي طلحة، عن أبي هريرة، قال: قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأي شيء سُمِّيَ يَوْم الجمعة؟ قال " لأَنَّ فيه طُبِعَت طِينَةُ أَبيكَ آدَمَ، وفيه الصَّعْقَةُ، والبعْثَةُ، وفيه البَطْشَةُ، وفي آخِرِهِ ثَلاثُ سَاعاتٍ،
منها سَاعَةٌ مَنْ دعا الله فيها اسْتُجِيبَ له ".
وقال الحسن بن سفيان النَّسوي في "مسنده" حدثنا أبومروان هشام بن خالد الأزرق، حدثنا الحسن بن يحيى الخُشني، حدثنا عمر بن عبد الله مولى غُفرة، حدثني أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أتاني جِبريلُ وفي يَده كَهَيْئَة المِرْآة البيضاء، فيها نكْتَةٌ سَوْداءُ، فقلت: ما هذه يا جِبريلُ؟ فقال: هذه الجُمُعَة بُعِثْتُ بها إِلَيْكَ تكُونُ عيداً لكَ وَلأُمَّتِكَ مِنْ بعدِك. فقلت: وما لَنا فيها يا جِبْريل؟ قال: لَكمْ فيها خَيْرٌ كَثير، أَنْتُمُ الآخِرُون السَابقونَ يَوْمَ القِيَامَة، وفيها سَاعَةٌ لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ يصلِّي يَسْألُ اللهَ شَيئاً إِلاَّ أَعْطاه. قلتُ: فما هذه النّكْتَةُ السَّوداء يا جِبرِيلُ؟ قال: هذه السَّاعة تكون في يوم الجُمُعة وهو سَيِّد الأَيَّام، ونحنُ نسميه عندنا يومَ المَزيد. قلت: وما يومُ المَزيد يا جِبْريل؟ قال: ذلك بِأَنَّ رَبَّكَ اتَّخَذَ في الجَنَّة وادياً أفيحَ مِنْ مِسْكٍ أبْيض، فإذا كان يَوْمُ الجُمُعة مِنْ أَيَّام الآَخرة، هَبَطَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ مِن عَرْشِهِ إِلى كُرسِيِّه، ويُحَفُّ الكُرْسيّ بِمنابِرَ مِنَ النُّورِ فيجلسُ عليها النَّبِيُّونَ وتُحَفُّ المنابِرُ بِكَراسِي مِنْ ذَهَب، فيجلِسُ عليها الصِّدِّيقون والشُّهداء، ويَهْبِطُ أهلُ الغُرَفِ من غُرَفهم، فيجلسون على كُثبانِ المِسكِ لا يرون لأهلِ المنابِر والكراسي فَضلاً في المجلِس، ثمَّ يَتَبدَّى لهم ذو الجَلال والإِكرام تبارك وتعالى، فيقول: سلوني، فيقولون بِأَجْمَعِهم: نَسْأَلُك الرِّضى يا ربُّ، فيَشْهَدُ لَهم عَلى الرِّضى، ثم يقول: سَلوني، فيسألونَه حَتَّى تَنتَهِيَ نَهْمَةُ كُلِّ عَبْدٍ مِنْهُم، قال: ثُمَّ يُسْعى عَلَيْهِم بِما لا عَيْنٌ رَأت، ولا
أُذنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَر على قَلب بَشَر، ثُمَّ يَرتَفع الجَبَّار مِنْ كُرْسيِّه إِلى عَرشِهِ، وَيَرْتَفعُ أهْلُ الغُرَف إلى غُرَفِهم، وهي غُرفَةٌ مِنْ لُؤلُؤَةٍ بَيْضاء، أو ياقُوتَةٍ حَمراء، أو زُمرُّدةٍ خضراء، ليس فيها فَصْمٌ وَلاَ وَصمٌ مُنَوَّرة، فيها أنهارُها، أو قال: مُطَّرِدةٌ مُتَدَليَةٌ فيها ثِمَارُها، فيها أزواجُها وَخَدمُها وَمَساكِنُها قال: فأهلُ الجَنَّة يَتباشَرون في الجنَّة بِيَومِ الجُمُعة، كما يَتبَاشَرُ أهل الدُّنيا في الدُّنيا بالمطر".
وقال ابن أبي الدنيا في كتاب "صفة الجنة": حدثني أزهر بن مروان الرقاشي، حدثني عبد الله بن عَرَادة الشيباني، حدثنا القاسم بن مُطيِّب، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حُذيفة، قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتاني جِبْرِيل وفي كَفّه مِرْآةٌ كأحْسَنِ المرَائي وأضْوَئِها، وإذا في وَسَطِها لَمْعَةٌ سوداءُ، فقلت: ما هذه اللَّمْعَةُ التي أرى فيها؟ قال: هذه الجُمُعَةُ، قلت: وما الجُمعَةُ؟ قال: يَوْمٌ مِنْ أَيَّام رَبِّكَ عظيم، وَسَأخْبِرُكَ بِشَرَفِهِ وفَضْلِهِ في الدّنيا، وما يرجى فيه لأهله، وأُخْبِرُك باسْمه في الآخِرة، فأما شَرَفه وَفَضْلُهُ في الدنيا، فإن الله عزَّ وجَلَّ جَمَعَ فيه أمر الخلق، وأمَّا ما يُرجَى فيه لأهله، فإنَّ فيه سَاعَةً لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ أَوْ أَمَةٌ مُسْلِمَةٌ يَسْأَلانِ الله تعالى فيها خَيْراً إلا أعطاهما إياه، وأمَّا شَرَفُهُ وَفضْلُهُ في الآخِرَة واسْمه، فإنَّ الله تباركَ وتَعَالى إذا صَيَّرَ أهْلَ الجنَة إلى الجَنَّة، وأهْل النار إلى الناَّر، جَرَتْ عليهم هذه الأّيَام وهذه اللَّيالي، ليس فيها لَيلٌ وَلاَ نَهَارّ إِلاَّ قَدْ علم اللهُ عزَ وَجَلَّ مِقدَارَ ذَلِكَ وَسَاعَاتِه، فإذا كان يَوْمُ الجمُعَة حين يخرج أهل الجُمُعَةِ إلى جُمُعَتِهم، نادى أَهْلَ الجنَّة مُنَادٍ، يا أهْل الجَنَّة اخرجوا إلى وادي المَزيد، ووَادي المَزيد لا يعلم سعَة طوله وعرضه إلاَّ اللهُ، فيه كُثبَانُ المِسك، رؤوسها في السَّمَاء
قال: فَيخْرُج غِلْمَانُ الأنْبِياء بمنابرَ مِنْ نور، ويخرج غِلْمَانُ المؤمنين بِكَراسي مِنْ يَاقوتٍ، فإذا وُضِعَتْ لَهم، وَأَخَذَ القَوْمُ مَجَالِسَهم، بَعَثَ اللهُ عليهم ريحاً تدعى المُثيرة، تُثيرُ ذلك المِسكَ، وتُدْخِله مِن تَحتِ ثِيابِهِم، وتُخْرِجهُ في وجوهِهِم وأشْعارِهِم، تِلْك الرِّيح أَعْلَم كَيفَ تَصْنَع بِذلِكَ المِسكِ مِن امرأةِ أحَدِكُم، لو دُفعَ إليها كُلُّ طِيب على وَجْه الأرض. قال: ُثم يُوحي الله تبارك وتعالى إلى حَمَلَة عَرْشِهِ: ضَعُوه بَين أَظهُرِهِم، فيكون أوّلَ ما يَسمَعونَهُ منه: إليَّ يا عبادي الذين أطاعُوني بِالغَيب وَلم يَروني، وصَدَّقوا رُسُلِي، واتَّبَعوا أمْري، سَلُوني فهذا يَومُ المَزيد، فيجَتَمِعُونَ على كَلِمَةٍ واحِدَةٍ: رضِيْنا عَنْك فَارْضَ عَنَّا، فيرْجِعُ اللهُ إلَيهم: أَنْ يَا أَهلَ الجَنَّة إِنِّي لَوْ لم أَرْضَ عَنْكُم لم أُسْكِنْكُم داري، فَسَلُوني فهذا يَوْمُ المَزيد، فَيَجْتَمِعُونَ على كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ: يا رَبَّنَا وَجْهَكَ نَنْظُرْ إليه، فيَكْشِفُ تلْكَ الحُجُبَ، فَيَتجَلَّى لهم عَزَّ وجَلَّ، فَيَغْشَاهُم مِنْ نُوره شَيءٌ لَوْلا أَنّه قَضَى ألا يَحْتَرِقُوا، لاحْترَقوا لِما يَغْشَاهُم مِنْ نُورِهِ، ثُمَّ يُقالُ لَهُم: ارْجعوا إلى مَنازِلِكم، فيَرْجِعون إلى مَنَازِلِهِم وَقَدْ أَعْطَى. كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ الضِّعْفَ عَلَى مَا كانوا فيه، فَيَرْجِعُون إلى أَزْوَاجِهِم وقد خَفُوا عَلَيْهِنَّ وَخَفِينَ عليهم ممَّا غَشِيَهمْ مِن نُورِهِ، فإذا رَجعُوا تَرادَّ النُّورُ حَتَّى يَرْجِعُوا إلى صُوَرِهم الّتي كانوا عَلَيْها، فَتَقول لَهُم أَزْوَاجُهُم: لَقَدْ خَرَجْتُم مِنْ عِنْدِنَا على صورة ورَجَعْتُم عَلى غَيْرِها، فيقولون: ذلك لأنَّ اللهَ عَزّ وجَلُّ تَجَلَّى لنا، فَنَظَرْنا مِنْه قال: وإِنَّهُ وَاللهِ ما أحاطَ به خَلْقٌ، وَلكنَّهُ قَد أراهم مِنْ، عظَمَتِهِ وَجَلالِهِ ما شَاءَ أَنْ يُرِيَهُم قال: فَذلِكَ قولهم فَنَظَرْنا مِنْه، قال: فَهُم يَتَقَلَّبُون في مِسْكِ الجَنَّة ونَعيمِها في كلِّ سَبعَةِ أَيَّام الضعفَ عَلى مَا كَانوا فيه . قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَلِكَ قَوْلُه تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم مِنْ قُرَةِ أَعْينٍ جَزاءً بِمَا كَانوا يَعمَلون} [السجدة: 17].
ورواه أبو نُعيم في "صفة الجنة" من حديث عِصمة بن محمد حدثنا، موسى بن عقبة، عن أبي صالح، عن أنس شبيهاً به.
وذكر أبو نعيم في "صفة الجنة" من حديث المسعودي، عن المِنهال، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: سارعوا إلى الجُمُعة في الدنيا، فإن الله تبَارك وتعالى يَبْرُزُ لأهل الجنة في كل جمعة على كثيب من كافور أبيض، فيكونون منه سبحانه بالقرب على قدر سُرعتهم إلى الجمعة، ويُحدِثُ لهم من الكرامة شيئاً لم يكونوا رأوه قبل ذلك، فيرجِعون إلى أهليهم وقد أحدث لهم.
فصل: في مبدإ الجمعة
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، قال: حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كنت قائدَ أبي حين كُفَّ بصرُه، فإذا خرجتُ به إلى الجمعة، فسمع الأذانَ بها، استغفر لأبي أمامة أسعد بنِ زُرارة، فمكث حيناً على ذلك فقلت: إن هذا لعجز ألا أسأله عَنْ هذا، فخرجتُ به كما كنتُ أخرج، فلما سمع الأذان للجمعة، استغفرَ له، فقلت: يا أبتاه ! أرأيتَ استغفارَك لأسعد بنِ زُرارة كلما سمعتَ الأذان يومَ الجمعة؟ قال: أي بُنَيَّ ! كان أسعدُ أولَ من جمَّع بنا بالمدينة قبل مَقْدَمِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هَزْم النَّبيتِ مِن حَرَّة بني بَياضة في نقيع يُقال
له: نقيع الخَضَماتِ. قلتُ: فكم كُنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلاً.
قال البيهقي، ومحمد بن إسحاق إذا ذكر سماعه من الراوي، وكان الراوي ثقة، استقام الإِسنادُ، وهذا حديث حسن صحيح الإِسناد انتهى.
قلت: وهذا كان مبدأ الجمعة. ثم قَدم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، فأقام بقُباء في بني عمرو بن عوف، كما قاله ابنُ إسحاَق يوم الاثنين، ويومَ الثلاثاء، ويومَ الأربعاء، ويومَ الخميس، وأسسَّ مسجدَهم، ثم خرج يومَ الجمعة، فأدركته الجمعةُ في بني سالم بن عوف، فصلاَّها في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانت أوَّل جمعة صلاها بالمدينة، وذلك قبل تأسيسِ مسجده.
قال ابن إسحاق: وكانت أوَّل خطبة خطبها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما بلغني عن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن -ونعوذ بالله أن نقول على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لم يقُلْ - أنه قام فِيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "أمَّا بَعْدُ أيُها النَّاسُ، فَقَدِّموا لأَنْفُسكمَ تَعْلَمُنَّ وَالله لَيُصْعَقَنَّ أحَدُكم، ثُمَّ لَيَدَعَنَّ غَنَمَه لَيس لها رَاع، ثُمَّ ليقولَنَّ لَهُ ربُّه ولَيْس لَة تُرْجُمان، ولا حاجبٌ يَحْجبُه دُونه اْلَمْ يَاْتكَ رَسولي، فَبَلَّغَك، وآتَيْتك مَالاً، وأفْضَلْتُ عَلَيْكَ، فَمَا قَدَّمْتَ لِنَفسِك، فَلَيَنْظرنَّ يَميناً وشِمالاً، فلا يَرى شَيئاً، ثُمَّ لَيَنْظرَنَّ قدَّامَه فَلاَ يَرَى غَيْرَ
جَهنَّم، فَمَنِ اسْتَطاعَ أنْ يَقِيَ وَجْهَهُ منَ النَّارِ ولو بشقٍّ منْ تَمْرة، فَلْيَفْعَل، ومن لَمْ يَجد، فَبكَلمَةٍ طيِّبةٍ، فَإنَّ بِهَا تُجْزى اَلحَسنةُ بعَشْرَ أَمْثَالهَا إلى سًبعمائة ضعف، والسلام علَيكَم ورحمة الله وبركاته".
قال ابن إسحاق: ثم خطب رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرة أخرى، فقال: "إن الحمد للّه أَحمَدُهُ وأَسْتَعِينُه، نَعوذُ بالله مِنْ شرور أنْفُسِنا، وسَيِّئاتِ أعْمالِنا مَنْ يَهْدِه الله، فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِل، فلا هادِيَ له، وأشْهَدُ أن لا إله إلاَّ اللهُ وَحْدَه لا شَريكَ له، إنَّ أحسَن الحَديث كِتابُ الله، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَيَّنَه الله في قلبه، وأدخله في الإِسلام بعد الكفر، فاختارَه على ما سواه مِنْ أحاديث النَّاس، إنَّه أَحْسَنُ الحديثِ وأبْلغُه، أَحِبُّوا ما أَحَبَّ اللهُ، أَحِبُّوا اللهَ مِنْ كُلِّ قُلوبِكُم، ولا تَمَلوا كَلامَ اللهِ وذِكْرَه، ولا تَقسُ قُلوبُكم، فإنَّه مِنْ كُلِّ مَا يَخْلُقُ الله يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي، قد سمَّاه الله خِيرَته مِنَ الأعمال، ومُصطفَاهُ من العِبَادِ والصَّالح مِنَ الحديث، ومِنْ كُلِّ مَا أُوتيَ النَّاسُ من الحَلالِ وَالحَرَامِ، فاعْبُدوا الله ولا تُشْرِكوا به شَيْئاً، واتَّقوه حَقَّ تُقَاتِه، واصْدُقُوا اللهَ صالحَ ما تقولون بأفْواهِكم، وَتَحابُّوا بِرُوح اللهِ بَيْنكم، إنَّ اللهَ يَغْضَبُ أَنْ يُنكَثَ عَهْدُه، والسَّلامُ عَلَيكم وَرَحْمَة الله وبركاته".
وقد تقدم طرف من خطبته عليه السلام عند ذكر هديه في الخطب
فصل
وكان من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعظيمُ هذا اليوم وتشريفه، وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره. وقد اختلف العلماء: هل هو أفضلُ، أم يومُ عرفة؟ على قولين: هما وجهان لأصحاب الشافعي.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في فجره بسورتي (الم تنزيل) و(هل أتى على الإِنسان). ويظن كثير ممن لا علم عنده أن المراد تخصيصُ هذه الصلاة بسجدة زائدة، ويسمونها سجدة الجمعة، وإذا لم يقرأ أحدُهم هذه السورة، استحبَّ قراءة سورة أخرى فيها سجدة، ولهذا كره من كره من الأئمة المداومة على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة، دفعاً لتوهم الجاهلين، وسمعت شيخَ الإِسلام ابن تيمية يقول: إنما كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة، لأنهما تضمنتا ما كان ويكون في يَومِها، فإنهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذِكر المعاد، وحشر العباد، وذلك يكون يومَ الجمعة، وكان في قراءتهما في هذا اليوم تذكيرٌ للأمة بما كان فيه ويكون، والسجدة جاءت تبعاً ليست مقصودة حتى يقصدَ المصلي قراءتها حيثُ اتفقت. فهذه خاصة من خواص يوم الجمعة.
الخاصة الثانية: استحبابُ كثرة الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه وفي ليلته، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أكثِروا مِنَ الصلاة عَلَّي يوم الجُمُعة وَلَيْلَة الجُمُعة". ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيدُ الأنام، ويوم الجمعة سيدُ الأيام، فللصلاةِ عليه في هذا اليوم مزيةٌ ليست لغيره مع حكمة أخرى، وهي أن كل خير نالته أمتُه في الدنيا والآخرة، فإنما نالته على يده، فجمع الله لأمته به بين خيري الدنيا والآخرة، فأعظمُ كرامة تحصل لهم، فإنما تحصل يوم الجمعة، فإن فيه بعثَهم إلى منازلهم وقصورِهم في الجنَّة، وهو يومُ المزيد لهم إذا دخلوا الجنَّة، وهو يوم عيد لهم في الدنيا، ويوم فيه يُسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم، ولا يَرُدُّ سائلهم، وهذا كلُ إنما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده، فمن شكرِه وحمده، وأداءِ القليل من حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نكثر الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته.
الخاصة الثالثة: صلاة الجمعة التي هي من آكد فروض الإِسلام، ومِن أعظم مجامع المسلمين، وهي أعظمُ مِن كل مجمع يجتمعون فيه وأفرضُه سوى مجمع عرفة، ومن تركها تهاوناً بها، طبع اللهُ على قلبه، وقُربُ أهل الجنة يومَ القيامة، وسبقُهم إلى الزيارة يومَ المزيد بحسب قُربهم من الإِمام يومَ الجمعة وتبكيرهم.
الخاصة الرابعة: الأمر بالاغتسال في يومها، وهو أمرٌ مؤكد جداً، ووجوبه أقوى مِن وجوب الوتر، وقراءة البسملة في الصلاة، ووجوب الوضوءِ من مس النساء، ووجوب الوضوءِ مِن مرِّ الذكر، ووجوب الوضوءِ من القهقهة في الصلاة، ووجوب الوضوءِ من الرُّعاف، والحِجامة، والقيء، ووجوب الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد الأخير، ووجوب القراءة على المأموم.
وللناس في وجوبه ثلاثةُ أقوال: النفيُ والإِثبات، والتفصيلُ بين من به رائحة يحتاج إلى إزالتها، فيجب عليه، ومن هو مستغن عنه، فيستحب له، والثلاثة لأصحاب أحمد.
الخاصة الخامسة: التطيب فيه، وهو أفضل من التطيب في غيره من أيام الأسبوع.
الخاصة السادسة: السِّواك فيه، وله مزية على السواك في غيره.
الخاصة السابعة: التبكير للصلاة.
الخاصة الثامنة: أن يشتغل بالصلاة، والذكر، والقراءة حتى يخرج الإِمام.
الخاصة التاسعة: الإِنصات للخطبة إذا سمعها وجوباً في أصح القولين، فإن تركه، كان لاغياً، ومن لغا، فلا جمعة له، وفي "المسند"، مرفوعاً "والذي يقول لِصاحِبِه أنصِتْ، فَلا جُمُعَةَ لَهُ".
الخاصة العاشرة: قراءة سورة الكهف في يومها، فقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرأَ سُورَةَ الكَهْفِ يَوْمَ الجمُعَةِ، سَطَعَ لَهُ نُورٌ مِن تَحتِ قَدَمِهِ إلى عَنَانِ السَّمَاء يُضىء بِه يَوْمَ القِيامَةِ، وغُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ الجُمُعَتَيْنِ".
وذكره سعيد بن منصور مِن قول أبي سعيد الخُدري وهو أشبه.
الحادية عشرة: إنه لا يُكره فعلُ الصلاة فيه وقتَ الزوال عند الشافعى رحمه الله ومن وافقه، وهو اختيار شيخنا أبي العباس بن تيمية، وَلَم يكن اعتمادُه. على حديث ليث، عن مجاهد، عن أبي الخليل، عن أبي قتادة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كره الصلاة نِصف النهار إلا يومَ الجمعة. وقال: إنَّ جَهَنَّمَ تُسَجَّرُ إلاَّ يَوْمَ الجُمُعَة وإنما كان اعتمادُه على أن من جاء إلى الجمعة يُستحب له أن يُصلِّيَ حتى يخرج الإِمام، وفي الحديث الصحيح "لا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِن دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِن طِيبِ بَيتِه، ثُمَّ يَخرُجُ، فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْن، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ ينْصِتُ إذا تَكَلَّمَ الإِمَامُ إلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَينةُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأخْرَى". رواه البخاري فندبه إلى الصلاة ما كتِب له، ولم يمنعه عنها إلا في وقت خروج الإِمام، ولهذا قال غيرُ واحد من السلف، منهم عمر
بن الخطاب رضي الله عنه، وتبعه عليه الإِمام أحمد بن حنبل: خروجُ الإِمام يمنع الصلاة، وخطبتُه تمنع الكلام، فجعلوا المانع من الصلاة خروجَ الإِمام، لا انتصافَ النهار.
وأيضاً، فإن الناس يكونون في المسجد تحت السقوف، ولا يشعرُون بوقت الزوال، والرجلُ يكون متشاغِلاً بالصلاة لا يدرى بوقت الزوال، ولا يُمكنه أن يخرج، ويتخطَّى رقاب الناس، وينظُر إلى الشمس ويرجِعَ، ولا يشرع له ذلك.
وحديث أبي قتادة هذا، قال أبو داود: هو مرسل لأن أبا الخليل لم يسمع من أبي قتادة، والمرسل إذا اتصل به عمل، وَعَضَدَهُ قياسٌ، أو قولُ صحابي، أو كان مرسله معروفاً باختيار الشيوخ ورغبتهِ عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين ونحو ذلك مما يقتضي قوته، عُمِلَ به.
وأيضاً، فقد عضده شواهد أخر، منها ما ذكره الشافعي في كتابه فقال: روي عن إسحاق بن عبد الله، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهى عَنِ الصَّلاةِ نِصفَ النهار حتى تزول الشمسُ إلا يومَ الجمعة. هكذا رواه رحمه الله في كتاب "اختلاف الحديث" ورواه في "كتاب الجمعة" حدثنا إبراهيم بن محمد، عن إسحاق، ورواه أبو خالد الأحمر، عن شيخ من أهل المدينة، يقال له: عبد الله بن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد رواه البيهقي في "المعرفة" من حديث عطاء بن عجلان، عن أبي نضرة، عن أبى سعيد وأبي هريرة قالا: كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن الصلاة نِصفَ النهار، إلا يوم الجمعة ولكن
إسناده فيه من لا يحتج به، قاله البيهقي، قال: ولكن إذا انضمت هذه الأحاديث إلى حديث أبي قتادة أحدثت بعض القوة. قال الشافعي: من شأن الناس التهجير إلى الجمعة، والصلاةُ إلى خروج الإِمام، قال البيهقى: الذي أشار إليه الشافعي موجود في الأحاديث الصحيحة وهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رغَّب في التبكير إلى الجمعة، وفي الصلاة إلى خروج الإِمام من غير استثناء، وذلك يُوافِق هذه الأحاديث التي أُبيحت فيها الصلاة نصف النهار يوم الجمعة، وروينا الرُّخصة في ذلك عن عطاء، وطاووس، والحسن، ومكحول. قلت: اختلف الناسُ في كراهة الصلاةِ نِصفَ النهار على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ليس وقت كراهة بحال، وهو مذهب مالك.
الثاني : أنه وقت كراهة في يوم الجمعة وغيرها، وهو مذهب أبي حنيفة، والمشهور من مذهب أحمد.
والثالث : أنه وقت كراهة إلا يومَ الجمعة، فليس بوقت كراهة، وهذا مذهب الشافعي.
الثانية عشرة: قراءة (سورة الجمعة) و(المنافقين)، أو (سبح) و(الغاشية) في صلاة الجمعة، فقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بهن في الجمعة، ذكره مسلم في "صحيحه".
وفيه أيضاً: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يقرأ فيها ب (الجُمُعةِ) و(هَلْ أتاك حديثُ الغاشية) ثبت عنه ذلك كلُّه.
ولا يُستحب أن يقرأ مِن كل سورة بعضها، أو يقرأ إحداهما في الركعتين، فإنه خلافُ السنة، وجُهَّال الأمة يُداومون على ذلك.
الثالثة عشرة،: أنه يومُ عيد متكرِّر في الأسبوع، وقد روى أبو عبد الله بن ماجه في "سننه" من حديث أبي لُبابة بنِ عبدِ المُنذر قال: قال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن يَومَ الجُمُعَةِ سَيِّد الأيام، وأَعْظَمُها عنِد الله، وهُوَ أَعْظَم عِنْدَ الله مِنْ يَوْمِ الأضْحَى، وَيَوْمِ الفِطْر، فيه خَمسُ خِلالٍ: خَلَقَ الله فيه آدم، وأَهْبَطَ فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفَّى الله آدم، وفيه ساعَةٌ لا يَسْأَلُ الله العَبدُ فيها شيئاً إلا أعطاه، ما لم يسأل حراماً، وفيه تقومُ السَّاعَةُ، ما مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، ولا سماءٍ، ولا أرضٍ، وَلا رِيَاحٍ، ولا جِبالٍ، ولا شَجَرٍ إلا وهنّ يُشْفِقن مِنْ يَوْمِ الجمعة".
الرابعة عشرة: إنه يُستحب أن يلبَس فيه أحسَنَ الثياب التي يقدِرُ عليها، فقد روى الإِمام أحمد في "مسنده" من حديث أبي أيوب قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "مَنِ اغْتَسَلَ يوم الجمُعةِ وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إنْ كانَ له، ولَبِسَ مِن أَحسَنِ ثيابِهِ، ثمَّ خَرَجَ وعليه السَّكِينةُ حتَّى يَأْتيَ المسجدَ، ثُمَّ يَرْكَعَ إنْ بَدا له، ولمْ يُؤْذِ أحداً ثُمَّ أَنصَتَ إذا خَرَج إمامُه حتَّى صَلِّيَ، كانت كَفَّارَةً لما بينهما.
وفي "سنن أبي داود"، عن عبد الله بن سلام، أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول على المِنبَر في يَوْمِ الجمعة: "ما على أحَدِكم لو اشتَرى ثَوبين لِيَومِ
الجُمعة سِوى ثَوْبَيْ مِهْنَتِه".
وفي "سنن ابن ماجه"، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب الناسَ يومَ الجمعة، فرأى عليهم ثِيابَ النِّمار، فقال: "ما على أَحَدِكُمْ إن وَجَدَ سَعَةً أَنْ يَتَخِّذَ ثَوبَيْن لِجُمُعَتِهِ سِوَى ثَوبَيْ مِهنَتِه".
الخامسة عشرة: أنه يستحب فيه تجميرُ المسجد، فقد ذكر سعيدُ بن منصور، عن نعيم بن عبد الله المُجمِر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أن يجمَّرَ مسجدُ المدينة كُلَّ جمعة حين ينتصِف النهار.
قلت: ولذلك سمي نعيم المجْمِر.
السادسة عشرة: أنه لا يجوز السفرُ في يومها لمن تلزمه الجمعة قبل فعلها بعد دخول وقتها، وأما قبله، فللعلماء ثلاثةُ أقوال، وهي روايات منصوصات عن أحمد، أحدها: لا يجوز، والثاني: يجوز، والثالث: يجوز للجهاد خاصة.
وأما مذهب الشافعي رحمه الله، فيحرم عنده السفر يومَ الجمعة بعد الزوال، ولهم في سفر الطاعة وجهان، أحدهما: تحريمه، وهو اختيار النووي، والثاني: جوازه وهو اختيار الرافعي.
وأما السفر قبل الزوال، فللشافعي فيه قولان: القديم: جوازه، والجديد: أنه كالسفر بعد زوال.
وأما مذهب مالك، فقال صاحب "التفريع": ولا يسافر أحدٌ يوم الجمعة بعد الزوال حتى يُصليَ الجمعة، ولا بأس أن يسافر قبل الزوال، والاختيار: أن لا يسافر إذا طلع الفجر وهو حاضر حتى يُصليَ الجمعة.
وذهب أبو حنيفة إلى جواز السفر مطلقاً، وقد روى الدارقطني في "الأفراد"، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول أللّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَن سَافرَ مِنْ دارِ إقامَته يومَ الجمعةِ، دَعَتْ عَلَيهِ المَلائِكةُ الا يصحَب في سَفَرِه". وهو من حديث ابن لهيعة.
وفي "مسند الإِمام أحمد" من حديث الحكم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس قال: بعثَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن رواحة في سرية، فوافق ذلِكَ يَومَ الجمعة، قال: فغدا أصحابُه، وقال: أتخلَّف وأصلي مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ألحقهم، فلما صلَّى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رآه، فقال: ما مَنَعَك أَنْ تَغْدُوَ مَع أصحَابِك؟ فقال: أردت أن أصلّيَ معك، ثم ألحقَهم، فقال: (لَوْ أَنفَقْتَ مَا في الأَرضِ ما أدْرَكتَ فَضلَ غَدْوَتِهم".
وأُعِلَّ هذا الحديثُ، بأن الحكم لم يسمع من مقسم.
هذا إذا لم يَخَفِ المسافرُ فَوتَ رفقته، فإن خاف فوت رفقته وانقطاعَه بعدهم، جاز له السفرُ مطلقاً، لأن هذا عذر يُسقط الجمعة والجماعة.
ولعل ما روي عن الأوزاعي - أنه سئل عن مسافر سمع أذان الجمعة وقد أسرج دابته، فقال: لِيمضِ على سفرهِ - محمولٌ على هذا، وكذلك قولُ ابن عمر رضي الله عنه: الجمعة لا تحبِسُ عن السفر. وإن كان مرادهم جواز السفر مطلقاً، فهي مسألة نزاع. والدليل: هو الفاصل، على أن عبد الرزاق قد روى في "مصنفه" عن معمر، عن خالد الحذاء، عن ابن سيرين أو غيره، أن عمر بن الخطاب رأى رجلاً عليه ثيابُ سَفَر بعد ما قضى الجمعة، فقال: ما شأنُك؟ قال: أردتُ سفراً، فكرِهْتُ أن أخرُجَُ حتى أصلي، فقال عمر: إن الجمعة لا تمنعُك السفرَ ما لم يحضُرْ وقتُها فهذا قول من يمنع السفر بعد الزوال، ولا يمنع منه قبله.
وذكره. عبد الرزاق أيضاً عن الثوري، عن الأسود بن قيس، عن أبيه قال: أبصرَ عمرُ بن الخطاب رجلاً عليه هيْئَةُ السَّفرِ، وقال الرجلُ: إن اليومَ يوم جمعة ولولا ذلك، لخرجتُ، فقال عمر: إن الجمعة لا تحبسُ مسافرا، فاخرُج ما لم يَحِنِ الرواح.
وذكر أيضاً عن الثوري، عن ابن أبي ذئب، عن صالح بن كثير، عن الزهري قال: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسافراً يوم الجمعة ضُحى قبل الصلاة.
وذكر عن معمَر قال: سألت يحيى بن أبي كثير: هل يخرج الرجل يومَ الجمعة؟ فكرهه، فجعلت أحدِّثه بالرخصة فيه، فقال لي: قلما يخرج رجل في يوم الجمعة إلا رأى ما يكرهه، لو نظرت في ذلك، وجدتَه كذلك.
وذكر ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن حسان بن أبي عطية، قال: إذا سافر الرجُلُ يوم الجمعة، دعا عليه النهارُ أن لا يُعَانَ على حاجته، ولا يُصاحب في سفره.
وذكر الأوزاعي، عن ابن المسيَب، أنه قال: السفر يومَ الجمعة بعد الصلاة. قال ابن جُريج: قلت لعطاء: أبلغك أنه كان يُقال: إذا أمسى في قرية جامعة مِن ليلة الجمعة، فلا يذهب حتى يُجمِّعَ؟ قال: إن ذلك ليكره. قلت: فمِن يوم الخميس؟ قال: لا، ذلك النهار فلا يضره.
السابعة عشرة: أن للماشي إلى الجمعة بكل خُطوة أجرَ سنة صيامَها وقيامَها، قال عبد الرزاق: عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من غسَّل واغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وبَكَّرَ وابتكَرَ، ودنا مِنَ الإمام، فأَنْصَتَ، كانَ لَه بِكُلِّ خطْوَةٍ يَخْطُوها صِيامُ سَنَةٍ وقيامها، وذلِكَ على اللًّهِ يسير" . ورواه الإِمام أحمد في "مسنده".
وقال الإِمام أحمد: غَسَّلَ بالتشديد: جامع أهله، وكذلك فسَّره وكيع.
الثامنة عشرة: أنه يوم تكفير السيِّئات، فقد روى الإِمام أحمد في. "مسنده" عن سلمان قال: لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَتَدريَ ما يَومُ الجُمعة؟" قلت: هُوَ اليوم الذي جَمعَ اللّة فيه أَباكم آدم قال: "ولكنِّي أَدْري ما يَومُ الجُمُعة، لا يَتَطَهَّر الرَّجُلُ فَيحسِن طهُورَة، ثمَ يأتي الجُمُعة،
فَيُنْصت حَتَّى يَقضِيَ الإمام صَلاتَه إلا كانت كَفَّارَةَ لما بَيْنَه وبَين الجمعةِ المقبلَة ما اجْتُنِبَتِ المَقْتَلة".
وفي "المسند" أيضاً من حديث عطاء الخراساني، عن نُبيشة الهُذلي، أنه كان يُحدِّث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّ المسلِمَ إذا اغتَسَلَ يَومَ الجُمُعَةِ، ثُمَّ أَقبَلَ إِلَى المَسجِد لا يؤذي أحَداَ، فَإن لَمْ يَجِدِ الإِمام خَرَج، صَلّى مَا بَدَا لَهُ، وَإِن وَجَدَ الإِمَامَ قد خَرَجَ، جَلَسَ، فَاسْتَمَع وَأَنصَتَ حَتّى يَقضِيَ الإِمَامُ جُمُعَتَهُ وكَلامَهُ، إن لَمْ يُغْفَرْ لَه في جُمعَتِه تِلْك ذُنوبُه كلُّها، أن تكُون كَفَارَةً لِلْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيها".
وفي "صحيح البخاري"، عن سلمان قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لا يَغْتَسِل رَجُلٌ يَومَ الجُمُعَةِ وَيَتَطهَّرُ ما استطَاعَ مِن طُهْر، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهنِهِ أَوْ يَصرَّ مِن طيبِ بَيْتِه، ثُمَّ يَخْرج، فلايفرِّقُ بَينَ اثنينِ، ثُمَّ يُصَلي مَاكتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنصتُ إذَا تَكَلَّمَ الإِمَام، إلا غفِرَ لَهُ مَا بيْنهُ وبَينَ الجُمعةِ الأُخرَى".
وفي "مسند أحمد"، من حديث أبي الدرداء قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعة، ثمَّ لَبِسَ ثِيابَه، وَمَسَّ طيباً إن كان عنده، ثُمَّ مَشى إلى الجمُعة وعَلَيْه السَّكِينَةُ، ولم يَتَخَطَّ أَحَداً، ولم يُؤذِه، وركَعَ ما قُضِي له،
ثُمَّ انتظرَ حتَّى يَنْصَرِفَ الإِمام، غُفِرَ لَه ما بَين الجمُعَتَين".
التاسعة عشرة: أن جهنم تسَجَّر كُلَّ يومٍ إلا يومَ الجمعة. وقد تقدم حديثُ أبي قتادة في ذلك، وسر ذلك - والله أعلم - أنه أفضل الأيام عِند الله، ويقعُ فيه من الطاعات، والعبادات، والدعوات، والابتهال إلى الله سبحانه وتعالى، ما يمنع من تسجير جهنم فيه. ولذلك تكُون معاصي أهل الإِيمان فيه أقلَّ مِن معاصيهم في غيره، حتى إن أهلَ الفجور ليمتنِعون فيه مما لا يمتنِعون منه في يوم السبت وغيره.
وهذا الحديث الظاهر منه أن المراد سَجْر جهنمِ في الدنيا، وأنها توقد كلَّ يوم إلا يومَ الجمعة، وأما يوم القيامة، فإنه لا يفتَّر عَذَابُها، ولا يخَفَّف عن أهلها الذين هم أهلها يوماً من الأيام، ولذلك يَدعون الخزنةَ أن يدعوا ربَّهم ليخفف عنهم يوماً من العذاب، فلا يُجيبونهم إلى ذلك.
العشرون: أن فيه ساعةَ الإِجابة، وهي الساعة التي لا يسأل اللهَ عبدٌ مسلم فيها شيئاً إلا أعطاه، ففي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إنَّ في الجُمُعَةِ لَساعَةً لا يوافِقها عبدّ مُسلم وهو قائم يصلِّي يسألُ الله شَيئاً إِلاَّ أعْطَاهُ إِيَّاهُ، وقال: بِيدِه يقَلِّلها"
وفي المسند من حديث أبي لُبابة بن عبد المنذر، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "سيِّدُ الأيَّام يومُ الجُمُعَة، وأَعْظَمُها عِندَ الله، وأعظم غِد الله مِنْ يومِ الفِطْرِ، وَيَوْمِ الأضْحى، وفيهِ خَمسُ خِصَالٍ: خَلَقَ اللهُ فِيهِ آدَمَ، وأَهبَطَ اللهُ فِيهِ آدَمَ إلى الأرْضِ، وفيه تَوَفَّى الله عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ، وفيه ساعةٌ لا يَسْأَلُ اللهَ العبد فيهَا شَيْئاً إِلاَّ أَتاهُ الله إِيَّاهُ ما لم يَسْأَل حَرَاماً، وفيهِ تَقُومُ الساعَةُ، ما مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، ولا أرْضٍ، ولا رِياحٍ، ولا بَحْرٍ، ولا جِبالٍ، ولا شَجَرٍ، إلا وهنَّ يُشْفِقْنَ مِن يَوْمِ الجُمُعَة".
فصل
وقد اختلف الناس في هذه الساعة: هل هي باقية أو قد رُفِعت؟ على قولين، حكاهما ابن عبد البَر وغيرُه، والذين قالوا: هي باقية ولم تُرفع، اختلفوا، هل هي في وقت من اليوم بعينه، أم هي غير معينة؟ على قولين. ثم اختلف من قال بعدم تعيينها: هل هي تنتقل في ساعات اليوم، أو لا؟ على قولين أيضاً، والذين قالوا بتعيينها، اختلفوا على أحد عشر قولاً.
قال ابن المنذر: روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: هي مِن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وبعدَ صلاة العصر إلى غروبِ الشمس.
الثاني: أنها عند الزوالِ، ذكره ابن المنذر عن الحسن البَصري، وأبي العالية.
الثالث: أنها إذا أذن المؤذِّن بصلاة الجمعة، قال ابن المنذر: روينا ذلك عن عائشة رضي الله عنها.
الرابع: أنها إذا جلس الإمامُ على المنبر يخطُب حتى يفرُغ قال ابن المنذر: رويناه عن الحسن البصري.
الخامس: قاله أبو بردة: هي الساعة التي اختار الله وقتها للصلاة.
السادس: قاله أبو السوار العدوي، وقال: كانوا يرون أن الدعاء مستجاب ما بين زوال الشمس إلى أن تدخل الصلاة.
السابع: قاله أبو ذر: إنها ما بين أن ترتفع الشمس شبراً إلى ذراع.
الثامن: أنها ما بين العصر إلى غروب الشمس، قاله أبو هريرة، وعطاء، وعبد الله بن سلام، وطاووس، حكى ذلك كله ابن المنذر.
التاسع: أنها آخرُ ساعة بعد العصر، وهو قول أحمد، وجمهور الصحابة، والتابعين.
العاشر: أنها من حين خروج الإِمام إلى فراغ الصلاة، حكاه النووي وغيره.
الحادي عشر: أنها الساعة الثالثةُ من النهار، حكاه صاحب "المغني" فيه. وقال كعب: لو قسم الإِنسان جمعة في جمع، أتى على تلك الساعة. وقال عمر: إن طلبَ حاجة في يوم ليسير.
وأرجح هذه الأقوال: قولان تضمنتهما الأحاديث الثابتة، وأحدهما أرجح من الآخر.
الأول: أنها من جلوس الإِمام إلى انقضاء الصلاة، وحجة هذا القول ما روى مسلم في "صحيحه" من حديث أبي بُردة بن أبي موسى، أن عبد الله بن عمر قال له: أسمعتَ أباك يحدِّث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شأن ساعة الجمعة شيئاً؟ قال: نعم سمعتُه يقول: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
" هِيَ مَا بَيْنَ أَن يَجْلِسَ الإِمَامُ إلى أن تُقْضَى الصَّلاَةُ".
وروى ابن ماجه، والترمذي، من حديث عمرو بن عوف المزني، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنَّ في الجمُعة سَاعةً لا يسألُ اللهَ العبد فيها شيئاً إلاَّ آتاه اللهُ إيَاه" قالوا: يا رسول الله ! أَيَّةُ سَاعَةٍ هِيَ؟ قال: "حِينَ تُقام الصَّلاة إلى الانصراف منها".
والقول الثاني: أنها بعد العصر، وهذا أرجح القولين، وهو قول عبد الله بن سلام، وأبي هريرة، والإِمام أحمد، وخلق. وحجة هذا القول ما رواه أحمد في "مسنده" من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: "إنَ في الجمعة ساعةً لا يُوافِقها عَبْدٌ مسلم يَسأَلُ الله فيهَا خَيْراً إِلاَّ أعْطاه إيَّاهُ وهِيَ بَعْدَ العَصرِ".
وروى أبو داود والنسائي، عن جابر، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يوم الجمعةِ اثنَا عَشَرَ سَاعَةً، فِيهَا سَاعَةٌ لاَ يُوجَدُ مُسلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ فِيهَا شَيْئاً إلاَّ أعطَاه، فالتَمِسُوها آخِرَ سَاعَةٍ بَعدَ العَصر".
وروى سعيد بن منصور في "سننه" عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن ناساً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجتمعوا، فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة، فتفرَّقوا ولم يختلِفوا أنها آخرُ ساعة من يوم الجمعة.
وفي "سنن ابن ماجه": عن عبد الله بن سلام، قال: قلت ورسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالِس: إنَّا لَنَجِدُ في كِتَابِ الله (يعني التوراة) في يَومِ الجمُعَة سَاعَة لا يُوافِقُها عَبدٌ مُؤمِنٌ يُصلي يسألُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئاً إِلاِّ قَضَى الله لَهُ حَاجَتَهُ قَالَ عَبدُ اللهِ: فأشارَ إلي رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بَعْضَ سَاعَةٍ. قلت: صدقتَ يا رسُولَ الله، أو بَعضَ سَاعة. قلت: أَيُّ ساعةٍ هي؟ قال: "هي آخرُ ساعةٍ من سَاعات النَّهار". قلت: إنها ليست ساعةَ صلاة، قال: بلى إن العبدَ المؤمنَ إذا صلَّى، ثم جَلَسَ لا يجلِسُه إلاً الصلاَة، فهو في صَلاةٍ".
وفي "مسند أحمد" من حديث أبي هريرة، قال: قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأي شيء سُمِّيَ يوم الجمعة؟ قال: "لأنّ فيها طُبِعَتْ طينَةُ أبيك آدَمَ، وفيها الصَّعْقَةُ والبَعْثَةُ، وفيها البَطْشَةُ، وفي آخِر ثَلاثِ سَاعَاتٍ مِنْها سَاعَةٌ مَنْ دَعَا الله فِيهَا استُجيبَ لَهُ".
وفي "سنن أبي داود"، والترمذي، والنسائي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: قالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمس يَوْمُ الجُمُعَة، فيه خُلِقَ آدَمُ، وفيه أهْبِطَ، وفيه تِيبَ عليه، وفيه مات، وفيه تقومُ الساعة، وما مِن دابَّةِ إلا وهي مُصيخَةٌ يَومَ الجُمُعَة، من حين تُصبِحُ حتيَ تَطْلُعَ الشَّمْسُ شَفَقاً من السَّاعَة، إلا الجنَّ والإنسَ، وفيه ساعةٌ لا يُصادفها عَبْد مُسْلِمٌ وهو يُصَلِّي يَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حاجةً إلا أعطاهُ إيَّاها" قال كعب: ذلك في كلِّ سنةٍ يوم؟ فقلتُ: بل في كل جمُعَةٍ قال: فقرأ كعبٌ التوراة، فقال: صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال أبو هريرة: ثمَّ لَقِيْت عبدَ الله بنَ سلام، فحدثته بمجلِسي مَعَ كَعْب، فَقالَ عَبْدُ الله بنُ سلام: وقد علمتُ أيَّة سَاعَةٍ هِيَ. قال أبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: أَخْبِرني بِهَا، فَقَالَ عَبْدُ الله بنُ سَلاَم: هي آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ، فقلت: كَيْفَ هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِم وَهُوَ يُصَلِّي" وتِلْكَ السَّاعَةُ لا يُصَلَّى فِيهَا؟ فقال عبدُ الله بن سلام: ألَم يَقُل رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من جَلَسَ مَجْلِساً يَنْتَظِرُ الصلاَةَ، فَهُوَ في صَلاَةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ"؟ قال: فقلت: بلى. فقال: هُوَ ذَاكَ
قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي "الصحيحين" بعضه.
وأما من قال إنَّها من حين يفتتح الإِمامُ الخطبة إلى فراغه من الصلاة، فاحتج بما رواه مسلم في "صحيحه"، عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، قال: قال عبد الله بن عمر: أسمعتَ أباك يُحدِّث عن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى شأن ساعة الجمعة؟ قال: قُلت: نعم سمعتُه يقول: سمعتُ رسول الله يقول: "هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجلِس الإِمامُ إلى أن يقضِيَ الإِمام الصلاة".
وأما من قال: هي ساعة الصلاة، فاحتج بما رواه الترمذي، وابن ماجه، من حديث عمرو بن عوف المزني، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إنَّ في الجُمُعَة لَسَاعَةً لا يَسْأَلُ اللهَ العَبْدُ فِيهَا شَيْئاً إِلاَّ آتاهُ اللهُ إِيَّاهُ". قالوا: يا رسولَ الله أيةُ ساعة هِيَ؟ قال: " حِينَ تُقامُ الصَّلاة إلى الانصِرَافِ مِنْهَا ". ولكن هذا الحديث ضعيف، قال أبو عمر بن عبد البر: هو حديث لم يروه فيما علمت إلا كثيرُ بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده، وليس هو ممن يُحتجُّ بحديثه. وقد روى روحُ بن عبادة، عن عوف، عن معاوية بن قرة، عن أبي بردة عن أبي موسى، أنه قال لعبد الله بن عمر: هي الساعة التي يخرج فيها الإِمام إلى أن تقضَى الصلاةُ. فقال ابن عمر: أصابَ اللهُ بك.
وروى عبد الرحمن بن حُجَيْرَةَ، عن أبي ذر، أن امرأته سألته عن الساعة التي يُستجابُ فيها يومَ الجمعة للعبد المؤمن، فقال لها: هي مع رفع الشمس بيسير، فإن سألتنِي بعدها، فأنت طالق.
واحتج هؤلاء أيضاً بقوله في حديث أبي هريرة "وهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي" وبعد العصر لا صلاة في ذلك الوقت، والأخذ بظاهر الحديث أولى. قال أبو عمر يحتج أيضاً من ذهب إلى هذا بحديث علي، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إذا زالت الشَّمْسُ، وفاءت الأَفياءُ، ورَاحَتِ الأَرْواح، فاطلبوا إلى الله حوائجكم، فإنَّها ساعة الأوابين، ثم تلا: {فَإِنَّهُ كَانَ للأَوَّابِينَ غَفُوراً} [الإِسراء: 25]".
وروى سعيدُ بن جُبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: الساعة التي تُذكر يومَ الجمعة: ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. وكان سعيد بن جُبير، إذا صلى العصر، لم يُكلّم أحدا حتى تغرب الشمس، وهذا هو قول أكثر السلف، وعليه أكثر الأحاديث. ويليه القول: بأنها ساعة الصلاة، وبقية الأقوال لا دليل عليها.
وعنديَ أن ساعة الصلاة ساعةٌ ترجى فيها الإِجابةُ أيضاً، فكلاهما ساعةُ إجابة، وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخِرُ ساعة بعد العصر، فهي ساعة معينة من اليوم لا تتقدم ولا تتأخر، وأما ساعةُ الصلاة، فتابعة للصلاة تقدمت أو تأخرت، لأن لاجتماع المسلمين وصلاتهم وتضرُّعهم وابتهالِهم إلى الله تعالى تأثيراً في الإِجابة، فساعة اجتماعهم ساعةٌ تُرجي في الإجاِبةُ، وعلى هذا تتفق الأحاديث كلها، ويكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حضَّ أمته على الدعاء والابتهال إلى الله تعالى في هاتين الساعتين.
ونظير هذا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد سئل عن المسجد الذي أسّسَ على التقوى، فقال: "هُوَ مَسجِدُكم هذا" وأَشارَ إلى مَسْجِدِ المَدِينَة. وهذا لا ينفي أن يكون مسجد قباء الذى نزلت فيه الآية مؤسساً على التقوى، بل كلٌّ منهما مؤسس على التقوى.
وكذلك قولُه في ساعة الجمعة "هي ما بَيْنَ أن يجلس الإمامُ إلى أن تنقضي الصلاة" لا يُنافي قوله في الحديث الآخر "فالتَمسُوها آخرَ سَاعَة بَعْدَ العَصْرِ".
ويشبه هذا في الأسماء قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما تَعُدُّون الرَّقوبَ فيكم"؟ قالوا: مَن لَمْ يُولَد له، قال: "الرَّقوبُ مَنْ لَمْ يُقَدِّم مِنْ وَلَدِه شَيْئاً".
فأخبر أن هذا هو الرَّقوب، إذ لم يحصل له من ولده من الأجر ما حصل لمن قَدَّم منهم فرطاً، وهذا لا ينافي أن يُسمى من لم يولد له رقوباً.
ومثله قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ما تعُدُّونَ المُفْلسَ فيكم"؟ قالوا: من لا درْهَمَ له ولا مَتَاع. قال: "المُفْلسُ من يَأتي يَومَ القيامَة بحًسَنات أمْثَال الجبال، ويأَتي وقد لَطمَ هذا، وضَرَبَ هذَا، وسَفَكَ دَمَ هذَا،َ فَيَأخُذ هذا من حَسًناتَه، وَهَذَا منْ حَسَنَاته" الحديث
ومثلُه قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس المسكينُ بهذا الطَوَّاف الَّذي تَرُدّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمتَان، والتَّمْرةُ والتَّمْرتَانِ، وَلكِنَّ المسْكينَ الَّذي لا يَسْاُلُ النَّاسَ، ولا يُتَفَطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عليه".
وهذه الساعة هي آخِر ساعة بعد العصر، يعظِّمها جميع أهل الملل. وعند أهل الكتاب هي ساعة الإِجابة، وهذا مما لا غرض لهم في تبديله وتحريفه، وقد اعترف به مؤمنُهم.
وأما من قال بتنقلها، فرام الجمع بذلك بين الأحاديث، كما قيل ذلك في ليلة القدر، وهذا ليس بقوي، فإن ليلةَ القدر قد قال فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فالتَمِسُوها في خَامِسَةٍ تَبْقَى، في سَابِعَةٍ تَبقَى، في تَاسِعَةٍ تَبْقَى". ولم يجىء مثلُ ذلك في ساعة الجمعة.
وأيضاً فالأحاديث التي في ليلة القدر، ليس فيها حديثّ صريح بأنها ليلة كذا وكذا، بخلاف أحاديث ساعة الجمعة، فظهر الفرق بينهما.
وأما قول من قال: إنَها رُفعت، فهو نظيرُ قول مَن قال: إن ليلة القدر رُفِعَت، وهذا القائل، إنْ أراد أنَّها كانت معلومة، فرفع علمُها عن الأمة، فيقال له: لم يُرفع علمها عن كُلِّ الأمة، وإن رُفعَ عن بعضهم، وإن أراد أن حقيقتها وكونَها ساعة إجابة رفِعَتْ، فقولٌ باطل مخالف
للأحاديث الصحيحة الصريحة، فلا يعول عليه. والله أعلم.

الحادية والعشرون: أن فيه صلاةَ الجمعة التي خُصَّت من بين سائر الصلوات المفروضات بخصائص لا توجد في غيرها من الاجتماع، والعدد المخصوص، واشتراط الإِقامة، والاستيطان، والجهر بالقراءة. وقد جاء من التشديد فيها ما لم يأتِ نظيرُه إلا في صلاة العصر، ففي السنن الأربعة، من حديث أبي الجَعْدِ الضَّمْرِي - وكانت له صحبة - إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَن تَرَكَ ثَلاثَ جُمَع تَهاوُناً، طَبعَ اللهُ عَلى قَلْبِهِ ". قال الترمذي: حديث حسن، وسألت محمد بن إسماعيل عن اسم أبي الجعد الضمري، فقال: لم يُعرف اسمه، وقال: لا أعرِفُ له عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا هذا الحديث. وقد جاء في السنن عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمرُ لمن تركها أن يتصدَّق بدينار، فإن لم يجد، فنصف دينار. رواه أبو داود، والنسائي من رواية قدامة بن وبرة، عن سمرة بن جندب. ولكن قال أحمد: قدامة بن وبرة لا يعرف. وقال يحيى بن معين: ثقة، وحُكي عن البخاري، أنه لا يصح سماعه من سمرة
وأجمع المسلمون على أن الجمعة فرض عين ، إلا قولاً يحكى عن الشافعي ، أنها فرض كفاية ، وهذا غلط عليه منشؤه أنه قال : وأما صلاة العيد .
فتجب على كل من تجب عليه صلاة الجمعة ، فظن هذا القائل أن العيد لما كانت فرض كفاية ، كانت الجمعة كذلك .
وهذا فاسد ، بل هذا نص من الشافعي أن العيد واجب على الجميع ، وهذا يحتمل أمرين ، أحدهما : أن يكون فرض عين كالجمعة ، وأن يكون فرض كفاية ، فإن فرض الكفاية على الجميع ، كفرض الأعيان سواء ، وإنما يختلفان بسقوطه عن البعض بعد وجوبه بفعل الآخرين .

الثانية والعشرون : أن فيه الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده ، والشهادة له بالوحدانية ، ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة ، وتذكير العباد بأيامه ، وتحذيرهم من بأسه ونقمته ، ووصيتهم بما يقربهم إليه ، وإلى جنانه ، ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره ، فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها .

الثالثة والعشرون : أنه اليوم الذي يستحب أن يتفرغ فيه للعبادة ، وله على سائر الأيام مزية بأنواع من العبادات واجبة ومستحبة ، فالله سبحانه جعل لأهل كل ملة يوماً يتفرغون فيه للعبادة ، ويتخلون فيه عن أشغال الدنيا ، فيوم الجمعة يوم عبادة ، وهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور ، وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان .
ولهذا من صح له يوم جمعته وسلم ، سلمت له سائر جمعته ، ومن صح له رمضان وسلم ، سلمت له سائر سنته ، ومن صحت له حجته وسلمت له ، صح له سائر عمره ، فيوم الجمعة ميزان الأسبوع ، ورمضان ميزان العام ، والحج ميزان العمر ، وبالله التوفيق .

الرابعة والعشرون : أنه لما كان في الأسبوع كالعيد في العام ، وكان العيد مشتملاً على صلاة وقربان ، وكان يوم الجمعة يوم صلاة ، جعل الله سبحانه
التعجيلَ فيه إلى المسجد بدلاً من القربان، وقائماً مقامه، فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاةُ، والقربان، كما في "الصحيحين" عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: "مَن رَاحَ في السَّاعَةِ الأُولى، فَكَأنما قَرَّبَ بَدَنَةً، ومَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأنَّما قَرَّبَ بَقَرَةً، ومَنْ رَاحَ في السَّاعة الثَّالِثَةِ، فَكأنَّما قَرَّبَ كَبْشَاً أَقرَنَ ".
وقد اختلف الفقهاء في هذه الساعة على قولين:
أحدهما : أنها من أول النهار، وهذا هو المعروف في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما.
والثاني : أنها أجزاء من الساعة السادسة بعد الزوال، وهذا هو المعروف في مذهب مالك، واختاره بعضُ الشافعية، واحتجوا عليه بحجتين:
إحداهما: أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال، وهو مقابلُ الغُدوِّ الذي لا يكون إلا قبل الزوال، قال تعالى: {غُدُوّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12]. قال الجوهري: ولا يكون إلا بعد الزوال.
الحجة الثانية: أن السلف كانوا أحرصَ شيء على الخير، ولم يكونوا يَغْدون إلى الجمعة من وقت طلوع الشمس، وأنكر مالك التبكيرَ إليها في أول النهار، وقال: لم نُدرك عليه أهل المدينة.
واحتج أصحابُ القول الأول، بحديث جابر رضي اللله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَوْمُ الجُمُعَةِ ثِنْتَا عشرَة سَاعَةً ". قالوا: والساعات المعهودة، هي الساعات التي هي ثنتا عشرة ساعة، وهي نوعان: ساعات تعديلية، وساعات زمانية، قالوا: ويدل على هذا القول، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما بَلَغَ بالساعات إلى ست، ولم يزد عليها، ولو كانت الساعة أجزاء صغاراً مثل الساعة التي تُفعل فيها الجمعة، لم تنحصر في ستة أجزاء، بخلاف ما إذا كان المُرادُ بها الساعات المعهودة، فإن الساعة السادسة متى خرجت، ودخلت السابعة، خرج الإِمامُ، وطُويتِ الصحف، ولم يكتب لأحد قربان بعد ذلك، كما جاء مصرحاً به في "سنن أبي داود" من حديث علي رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ، غَدَتِ الشَّياطِينُ بِرَايَاتِهَا إلى الأَسْوَاق، فَيَرْمُونَ النَّاسَ بالترابيثِ أَو الرَّبَائِثِ وَيُثَبِّطُونَهُم عَنِ الجُمُعَةِ، وَتَغْدُو المَلاَئِكَةُ، تَجْلِسُ عَلَى أبْوَاب المَسَاجِدِ، فَيَكتُبونَ الرَّجُلَ مِن سَاعَةٍ، والرَّجُلَ مِنْ سَاعَتَيْن حتَّى يَخْرُجَ الإِمَام".
قال أبو عمر بن عبد البر: أختلف أهلُ العلم في تلك الساعات، فقالت طائفة منهم: أراد الساعاتِ مِن طلوع الشمس وصفائِها، والأفضلُ عندهم التبكيرُ في ذلك الوقت إلى الجمعة، وهو قول الثوري، وأبي حنيفة والشافعي، وأكثر العلماء، بل كلهم يستحب البكور إليها.
قال الشافعي رحمه الله: ولو بكر إليها بعد الفجر، وقبل طلوع الشمس،
كان حسناً. وذكر الأثرم، قال: قيل لأحمد بن حنبل: كان مالك بن أنس يقول: لا ينبغي التهجير يومَ الجمعة باكراً، فقال: هذا خلاف حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال: سبحان الله إلى أي شيء ذهب في هذا، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "كالمُهْدِي جَزُوراً ". قال: وأما مالك فذكر يحيى بن عمر، عن حرملة، أنه سأل ابن وهب عن تفسير هذه الساعات: أهو الغدُّو من أول ساعات النهار، أو إنما أراد بهذا القولِ ساعاتِ الرواح؟ فقال ابنُ وهب: سألتُ مالكاً عن هذا، فقال: أما الذي يقع بقلبي، فإنه إنما أراد ساعة واحدة تكونُ فيها هذه الساعاتُ، من راح من أول تلك الساعة، أو الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، أو الخامسة، أو السادسة. ولو لم يكن كذلك، ما صُلِّيتِ الجُمُعَةُ حتَّى يكون النهارُ تسعَ ساعات في وقت العصر، أو قريباً من ذلك. وكان ابنُ حبيب، يُنكر مالك هذا، ويميل إلى القول الأول، وقال: قول مالك هذا تحريف في تأويل الحديث، ومحال من وجوه. وقال: يدلُك أنه لا يجوز ساعات في ساعة واحدة: أن الشمس إنما تزول في الساعة السادسة من النهار، وهو وقت الأذان، وخروجِ الإِمام إلى الخطبة، فدل ذلك على أن الساعات في هذا الحديث هي ساعات النهار المعروفات، فبدأ بأول ساعات النهار، فقال: من راح في الساعة الأولى، فكأنَّما قرب بدنة، ثم قال: في الساعة الخامسة بيضة، ثم انقطع التهجير، وحان وقت الأذان، فشرحُ الحديث بيِّن في لفظه، ولكنه حُرِّفَ عن موضعه، وشُرِحَ بالخُلْفِ مِن القول، وما لا يكون، وزهَّد شارحُه الناسَ فيما رغبهم فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التهجير من أول النهار، وزعم أن ذلك كلَّه إنما يجتمع في ساعة واحدة قربَ زوالا الشمس، قال: وقد جاءت الآثارُ بالتهجير إلى الجمعة في أول النهار، وقد سُقنا ذلك في موضعه من كتاب واضح السنن بما فيه بيان وكفاية.
هذا كله قول عبد الملك بن حبيب، ثم رد عليه أبو عمر، وقال: هذا تحامل منه على مالك رحمه الله تعالى، فهو الذي قال القول الذىِ أنكره وجعله خُلفاً وتحريفاً من التأويل، والذي قاله مالك تشهد له الآثار الصحاح من رواية الأئمة، ويشهد له أيضاً العملُ بالمدينة عنده، وهذا مما يصحُ فيه الاحتجاجُ بالعمل، لأنه أمر يتردَّد كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء. فمن الآثار التي يحتج بها مالك ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذَا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ، قَامَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوابِ المَسْجِدِ مَلاَئِكةٌ، يَكتُبُونَ النَّاسَ، الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ، فالمُهَجِّرُ إلَى الجُمُعَةِ كَالمُهْدي بَدَنَةً، ثُمَ الَّذِي يَليهِ كالمُهْدِي بَقَرةً، ثُمَّ الَّذِي يَليهِ كَالمُهدِي كَبْشَاً، حَتَّى ذكَرَ الدَّجَاجَة وَالبَيْضةَ، فإذَا جَلَسَ الإِمَامُ، طُويَتِ الصّحُفُ، واسْتَمَعُوا الخُطْبَة ". قال: ألا ترى إلى ما في هذا الحديث، فإنه قال: يكتبونَ الناس الأول فالأول، فالمهجِّرُ إلى الجمعة كالمهدي بدنة، ثم الذي يليه فجعل الأول مهجراً، وهذه اللفظة إنما هي مأخوذة من الهاجرة والتهجير، وذلك وقت النهوض إلى الجمعة، وليس ذلك وقتَ طلوع الشمس، لأن ذلك الوقت ليس بهاجرة ولا تهجير، وفي الحديث: "ثمَّ الذي يليه، ثمَّ الذي يليه". ولم يذكر الساعة. قال: والطرق بهذا اللفظ كثيرة، مذكورة في "التمهيد"، وفي بعضها "المتعجِّلُ إلى الجُمُعَةِ كالمُهْدِي بَدَنَةً". وفي أكثرها: "المهجِّرُ كالمُهْدِي جَزُورَا" الحديث. وفي بعضها، ما يدل على أنه جعل الرائح إلى الجمعة في أول الساعة كالمُهدي بدنة، وفي آخرها كذلك، وفي أول الساعة الثانية كالمهدي بقرة، وفي آخرها كذلك. وقال بعض أصحاب
الشافعي: لم يُرد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "المهجِّرُ إلى الجُمُعَةِ كالمُهْدِيَ بَدَنَةً"، الناهض إليها في الهجير والهاجرة، وإنما أراد التارك لأشغاله وأعماله من أغراض أهل الدنيا للنهوض إلى الجمعة، كالمُهدي بدنة، وذلك مأخوذ من الهجرة وهو تركُ الوطن، والنهوضُ إلى غيره، ومنه سمِّي المهاجرون. وقال الشافعي رحمه الله: أحبُّ التبكير إلى الجمعة، ولا تُؤتى إلا مشياً. هذا كله كلامُ أبي عمر.
قلت: ومدار إنكار التبكير أول النهار على ثلاثة أمور ، أحدها: على لفظة الرواح، وإنها لا تكون إلا بعد الزوال، والثاني: لفظة التهجير، وهي إنما تكون بالهاجرة وقت شدة الحر، والثالث: عمل أهل المدينة، فإنهم لم يكونوا يأتون من أول النهار. فأما لفظة الرواح، فلا ريب أنها تُطلق على المضى بعد الزوال، وهذا إنما يكون في الأكثر إذا قُرنت بالغُدوِّ، كقوله تعالى: {غُدُوّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12]، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ غَدا إلى المَسجِد وَرَاحَ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ نُزُلاً في الجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ ". وقول الشاعر:
نَرُوحُ وَنَغْدُو لِحَاجَاتِنَا ... وَحَاجَةُ مَنْ عَاشَ لا تَنْقَضِي
وقد يُطلق الرواح بمعنى الذهاب والمضي، وهذا إنما يجيء، إذا كانت مجردة عن الاقتران بالغدو.
وقال الأزهري في "التهذيب": سمعت بعضَ العرب يستعمِلُ الرواح في السير في كل وقت، يقال: راح القوم: إذا سارُوا، وغدَوْا كذلك، ويقول أحدهم لصاحبه: تروَّح، ويخاطب أصحابه، فيقول: رُوحوا أي: سيروا، ويقول الآخر: ألا تروحُونَ؟ ومِنْ ذلك ما جاء في الأخبار الصحيحة الثابتة، وهو بمعنى المضي إلى الجمعة والخِفَّةِ إليها، لا بمعنى الرواح بالعشي.
وأما لفظ التهجير والمهجِّر، فمن الهجير، والهاجرة، قال الجوهري: هي نصف النهار عند اشتداد الحر، تقول منه: هجَّر النهارُ، قال امرؤ القيس:
فَدَعْها وَسَلِّ الهَمَّ عنهابجَسْرةٍ إذَا صَامَ النَّهارُ وهَجَّرا
ويقال: أتينا أهلنا مهجِّرين، أي: في وقت الهاجرة، والتهجير والتهجّر: السير في الهاجرة، فهذا ما يقرِّر به قولُ أهل المدينة.
قال الآخرون: الكلام في لفظ التهجير، كالكلام في لفظ الرواح، فإنه يطلق ويُراد به التبكير.
قال الأزهري في "التهذيب": روى مالك، عن سُمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو يَعْلَمُ النَّاسُ ما في التَهجير، لاستَبقوا إليه".
وفي حديث آخر مرفوع: "المهجِّرُ إلى الجُمُعة كالمُهْدِي بَدَنة". قال: ويذهب كثيرٌ من الناس إلى أن التهجير في هذه الأحاديث تفعيل من الهاجرة وقتَ الزوال وهو غلط، والصواب فيه ما روى أبو داود المصاحفي، عن النَّضر بن شُميل، أنه قال: التهجير إلى الجمعة وغيرها: التبكير والمبادرة إلى كل شيء قال: سمعتُ الخليلَ يقول ذلك، قاله في تفسير هذا الحديث.
قال الأزهري: وهذا صحيح، وهي لغة أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس، قال لبيد:
رَاحَ القَطينُ بِهَجْرٍ بَعْدَما ابْتكَرُوا ... فَمَا تُواصلهُ سَلْمَى وَمَا تَذَرُ
فقرن الهَجر بالابتكار، والرواحُ عندهم: الذهاب والمضي، يقال: راح القوم: إذا خفُّوا ومَرُّوا أيَّ وقت كان. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ يَعلَمُ النَّاس مَا في التَّهجِيرِ، لاستبَقُوا إِلَيهِ" أراد به التبكيرَ إلى جميع الصَّلوات، وهو المضي إليها في أول أوقاتها، قال الأزهري: وسائر العرب يقولون: هجَّر الرجل: إذا خرج وقت الهاجرة، وروى أبو عبيد عن أبي زيد: هجَّر الرجل: إذا خرج بالهاجرة. قال: وهي نصف النهار. ثم قال الأزهري: أنشدني المنذري فيما روى ثعلب، عن ابن الأعرابي في "نوادره"، قال: قال جِعْثنَة بنُ جوَّاس الرَّبعِي في ناقته:
هَلْ تَذْكُرِينَ قَسَمِي ونَذْرِي ... أَزْمَانَ أَنْتِ بِعُرُوضِ الجَفْرِ
إذْ أَنْتِ مِضْرَارٌ جوادُ الحُضْرِ ... عَلَيَّ إنْ لَمْ تَنْهَضِي بِوِقْري
بِأَرْبَعِينَ قدِّرَتْ بِقَدْرِ ... بِالخَالِدِيِّ لا بِصَاعِ حَجرِ
وتَصْحَبي أَيانِقاً في سَفرِ ... يُهَجِّرُونَ بِهَجِيرِ الفَجْرِ
ثمَّتَ تَمْشِي لَيلَهُم فَتَسرِي ... يَطْوُونَ أَغرَاضَ الفِجَاجِ الغُبرِ
طَيَّ أَخِي التَّجْرِ بُرُودَ التَّجْرِ
قال الأزهري: يُهجِّرون بهجير الفجر، أي: يبكرون بوقت السَّحَرِ.
وأما كون أهل المدينة لم يكونوا يَرُوحون إلى الجمعة أوَّل النهار، فهذا غايةُ عملهم في زمان مالك رحمه الله، وهذا ليس بحجة، ولا عند مَن يقول: إجماعُ أهل المدينة حجة، فإن هذا ليس فيه إلا تركُ الرواح إلى الجمعة من أول النهار، وهذا جائز بالضرورة. وقد يكون اشتغالُ الرجل بمصالحه ومصالح أهله ومعاشِه وغيرِ ذلك من أمور دينه ودنياه أفضلَ مِن رَوَاحه إلى الجمعة من أوَل النهار، ولا ريبَ أن انتظارَ الصلاة بعد الصلاة، وجلوسَ الرجل في مصلاه حتى يُصليَ الصلاة الأخرى، أفضلُ من ذهابه وعوده في وقت آخر للثانية، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والَّذِي يَنْتَظِر الصَلاَةَ، ثُمَّ يُصَلِّيهَا مَعَ الإِمام أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يُصَلِّي، ثُمَّ يَرُوح إِلى أَهْلِه " وأخبر: "أن الملائِكَة لم تَزَلْ تُصلي عليه ما دامَ في مُصلاه" وأخبر: "أن انتظار الصلاة بعد
الصلاة، مما يمحُو اللهُ به الخَطايا ويَرْفَعُ بِهِ الدرجات، وأنه الرَباط " وأخبر: "أن الله يُبَاهِي مَلاَئِكَتَه بمَن قَضَى فَرِيضَة وجَلَسَ يَنتَظِرُ أُخْرَى" وهذا يدل على أن من صلَّى الصبح، ثم جلس ينتظِر الجمعة، فهو أفضلُ ممن يذهب، ثم يجيء في وقتها، وكون أهل المدينة وغيرهم لا يفعلون ذلك، لا يدل على أنه مكروه، فهكذا المجيء إليها والتبكيرُ في أول النهار، والله أعلم.
الخامسة والعشرون: أن للصدقة فيه مزيةً عليها في سائر الأيام، والصدقةُ فيه بالنسبة إلى سائر أيام الأسبوع، كالصدقةِ في شهر رمضان بالنسبة إلى سائر الشهور. وشاهدتُ شيخَ الإِسلام ابن تيمية قدس الله روحه، إذا خرج إلى الجمعة يأخذُ ما وجد في البيت من خبز أو غيره، فيتصدق به في طريقه سراً، وسمعته يقول: إذا كان الله قد أمرنا بالصدقة بين يدي مناجاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالصدقة بين يدي مناجاته تعالى أفضلُ وأولى بالفضيلة. وقال أحمد بن زهير بن حرب: حدثنا أبي، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: اجتمع أبو هريرة، وكعب، فقال أبو هريرة: إن في الجمعة لساعةً لا يُوافِقها رجلٌ مسلم في صلاة يسألُ الله عز وجل شيئاً إلا آتاه إيَّاه، فقال كعب: أنا أحدِّثُكم عن يوم الجمعة، إنه إذا كان يومُ الجمعة فَزِعت له السماواتُ والأرضُ، والبرُّ، والبحرُ، والجبال، والشجرُ، والخلائقُ كلُها، إلا ابنَ آدم والشياطين، وحفَّت الملائكة بأبواب المسجد، فيكتُبون من جاء الأول فالأول حتى يخرج الإِمام، فإذا خرج الإمام، طَوَوا صحُفَهم، فمن جاء بعد، جاء لحق الله، لما كُتب عليه، وحقّ
على كُلًّ حالِم أن يغتسِل يومئذ كاغتساله من الجنابة، والصدقةُ فيه أعظمُ من الصدقة في سائر الأَيَّامِ، ولم تطلُعِ الشمس ولم تغرُب على مثل يوم الجمعة. فقال ابن عباس: هذا حديث كعب وأَبي هريرة، وأنا أرى إن كان لأهله طيبٌ يمس منه.
السادسة والعشرون: أنه يوم يتجلَّى الله عزَّ وجلَّ فيه لأوليائه المؤمنين في الجنة، وزيارتهم له، فيكون أقربُهم منهم أقربَهم من الإِمام، وأسبقهم إلى الزيارة أسبقَهم إلى الجمعة. وروى يحيى بن يمان، عن شريك، عن أبي اليقظان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، في قوله عز وجل: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] قال: يتجلَّى لهم في كلِّ جمعة.
وذكر الطبراني في "معجمه"، من حديث أبي نعيم المسعودي، عن المِنهال بن عمرو، عن أبي عُبيدة قال: قال عبد الله: سارعوا إلى الجمُعةِ، فإن الله عز وجل يَبْرُز لأهلِ الجنة في كل جُمعَة في كَثِيبٍ مِنْ كافور فيكونون منه في القُرب على قدر تسارعهم إلى الجمعة، فيُحدِثُ اللهُ سُبحانه لهم مِن الكرامة شيئاً لم يكُونوا قد رأوْه قبل ذلك، ثم يَرجعُون إلى أهليهم، فيُحدِّثونهم بما أحدث الله لهم. قال: ثم دخل عبدُ الله المسجَد، فإذا هو برجلين، فقال عبدُ الله: رجلان وأنا الثالث، إن يشأِ اللهُ يُبارك في الثالث.
وذكر البيهقى في "الشُّعَبِ" عن علقمة بن قيس قال: رُحت مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلى جمعة، فوجد ثلاثة قد سبقوه، فقال: رابع أربعة، وما رابعُ
أربعة ببعيد. ثم قال: إني سمعت رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول " إنَّ النَّاسَ يَجلِسُونَ يَومَ القِيَامَةِ مِنَ اللهِ عَلَى قَدْرِ رَوَاحِهِمْ إلى الجمُعَةَ، الأول، ثُمَّ الثاني، ثمَّ الثالث، ثُمَّ الرابع". ثم قَالَ: "وَمَا راْبَع أَرْبَعَةٍ بِبَعِيدٍ".
قال الدارقطني في كتاب "الرؤية": حدثنا أحمد بن سلمان بن الحسن، حدثنا محمد بن عثمان بن محمد، حدثنها مروان بن جعفر، حدثنا نافع أبو الحسن مولى بني هاشم، حدثنا عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ، رَأَى المُؤْمِنُونَ رَبَّهم، فأَحْدَثُهُم عَهْداً بِالنَّظَرِ إلَيهِ مَنْ بَكَّرَ في كُلِّ جُمعَةِ، وَتَرَاهُ المُؤْمنَاتُ يَوْمَ الفطر وَيَوْمَ النَّحْرِ ".
حدثنا محمد بن نوح، حدثنا محمد بن موسى بن سفيان السكري، حدثنا عبد الله بن الجهم الرازي، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن أبي طيبة، عن عاصم، عن عثمان بن عمير أبي اليقظان، عن أنس بن مالك رضي اللهِ عنه، عن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال : "أَتَانِي جِبْرِيْلُ وَفِي يَدِهِ كَالمِرْآَةِ البَيْضاءِ فِيهَا كَالنكْتَةِ السوْدَاءِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هذِهِ الجمُعَة يَعْرِضهَا اللَهُ عَلَيْكَ لِتكُونَ لَكَ عِيداً ولِقَوْمِكَ مِنْ بَعْدِكَ، قُلْتُ: وَمَا لَنَا فيها؟ قَالَ: لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ، أَنْتَ فِيهَا الأَوَّلُ، واليَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ بَعْدِكَ، وَلَكَ فِيهَا سَاعَةٌ لاَ يَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدٌ فِيهَا شَيْئاً هُوَ لَهُ قَسْمٌ إِلاَّ أَعْطَاهُ، أَوْ لَيْسَ لَهُ قَسْمٌ إِلاَّ أَعطَاهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَأَعَاذُه اللهُ مِنْ شَرِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ، وإِلاَّ دَفَعَ عَنْهُ مَا هُوَ أَعظَمُ مِنْ ذلِك. قال: قُلْتُ: وَمَا هذِهِ النّكتَةُ السَّوْدَاءُ؟ قَالَ: هِيَ السَّاعَةُ تَقُومُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَهُوَ عِنْدَنَا سَيِّدُ الأَيَّامِ، وَيَدْعُوهُ أَهْلُ الآخِرَةِ يَوْمَ المَزيدِ.
قَالَ: قُلْتُ: يَا جِبرِيلُ ! وَمَا يَوْمُ المَزِيدِ؟ قال: ذلِكَ أَنَّ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ اتَّخَذَ في الجَنَّةِ وَادِياً أَفْيَحَ مِنْ مِسْكٍ أَبْيَضَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ، نَزَلَ عَلَى كُرْسِيِّه، ثُمَّ حُفَّ الكُرْسِيُّ بِمَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، فَيَجِيءُ النَّبِيُونَ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ حُفَّ المَنَابِرُ بِمَنَابِرَ مِنْ ذَهَبٍ، فَيَجِيءُ الصِّدِّيقونَ والشُهدَاءُ حَتَى يَجْلِسُوا عَلَيْهَا، وَيَجيءُ أَهْلُ الغُرفِ حَتَّى يَجلِسُوا عَلَى الكُثُبِ، قَالَ: ثمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلًّ، قال: فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي صدَقْتكُمْ وَعدِي، وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِي، وهَذَا مَحَلّ كَرَامَتِي فَسَلُونِي، فَيَسأَلُونَهُ الرِّضى. قَالَ: رِضَايَ أنزِلَكُمْ دَارِي، وأَنالَكُمْ كَرَامَتِي، فَسَلُوني، فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضى. قَالَ: فَشْهَدُ لَهُمْ بِالرِضى، ثُمَّ يَسْأَلُونَهُ، حَتَّى تَنْتَهِيَ رَغْبَتُهمْ، ثمَّ يُفْتَحُ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ مَا لاَ عَينّ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. قَالَ: ثمَّ يَرْتَفعُ رَبُّ العِزَّةِ، وَيَرْتَفعُ مَعَهُ النَّبِيُّونَ والشُّهَدَاء، ويَجِيءُ أَهْلُ الغُرَفِ إِلى غُرَفِهِم. قَال: كُلُّ غُرْفَةٍ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ لا وَصْلَ فِيهَا وَلاَ فَصْمَ، يَاقُوتَة حَمْرَاءُ، وغُرْفَةٌ مِنْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْراء، أَبوابها وعَلاَلِيهَا وسقَائِفُهَا وأَغْلافُها مِنها أنهارُها مُطَّرِدَة متدلِّية فِيهَا أَثْمَارُهَا، فِيها أَزْواجُهَا وخَدَمُها. قال: فلَيْسُوا إِلى شَيء أَحوجَ مِنْهُمْ إِلى يَوْمِ الجُمُعَةِ لِيزْدَادُوا منْ كَرَامَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ والنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الكَرِيمِ، فَذلِكَ يَوْمُ المَزِيدِ".
ولهذا الحديثِ عدةُ طرق، ذكرها أبو الحسن الدارقطني في كتاب "الرؤية".
السابعة والعشرون: أنه قد فُسِّرَ الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه بيوم الجمعة، قال حُميد بن زنجويه: حدثنا عبد الله بن موسى، أنبأنا موسى بن عُبيدة، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اليَوْمُ المَوْعُودُ: يَوْمُ القِيَامَةِ، والْيَوْمُ المَشْهود: هو يَومُ عَرَفَة، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ، وَلاَ غَرَبَتْ عَلَى أَفْضَلَ مِن يَومِ الجُمُعَةِ، فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنِّ يَدْعُو اللهَ فيهَا بخَير إلاَّ اسْتَجَابَ لَهُ، أَوْ يَسْتَعِيذُهُ منْ شَرٍّ إِلاَّ أعَاذَ مِنْهُ".
ورواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده"، عن روح، عن موسى بن عبيدة.
وفي "معجم الطبراني"، من حديث محمد بن إسماعيل بن عياش، حدثني أبي، حدثني ضَمضم بن زرعة، عن شُريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْيَوْمُ المَوْعُودُ: يَوْمُ القِيَامَةِ، والشَّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، والمَشهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ الجُمُعَةِ ذَخَرَهُ اللهُ لَنَا، وَصَلاةُ الوُسْطَى صَلاَةُ العَصْرِ" وقد رُوي من حديث جُبير بن مطعم.
قلت: والظاهر - والله أعلم -: أنه من تفسير أبي هريرة، فقد قال الإِمام أحمد: حدثنا
محمد بن جعفر، حدثنا شعبة سمعت علي بن زيد ويونس بن عبيد يحدثان عن عمارٍ مولى بني هاشم، عن أبي هريرة، أما علي بن زيد، فرفعه إلى النبي، وأما يونس، فلم يَعْدُ أبا هريرة أنه قال: في هذه الآية: {وشَاهِدٍ وَمَشْهُود} قال: الشاهِد: يوم الجمعة، والمشهود يومُ عرفة، والموعود: يوم القيامة.
الثامنة والعشرون: أنه اليوم الذي تفزع منه السماواتُ والأرضُ، والجبالُ والبحارُ، والخلائقُ كلها إلا الإِنسَ والجِنَّ، فروى أبو الجوَّاب، عن عمّار بن رزيق، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: اجتمع كعب وأبو هريرة، فقال أبو هريرة: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ في الجمُعَةِ لَسَاعَةً لا يُوافِقُهَا عَبْدٌ مُسلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ فِيهَا خَيرَ الدُنيَا والآخِرَة إلاّ أعطاه إياه". فَقَالَ كَعْبٌ: ألا أُحَدِّثكم عَنْ يَومِ الجُمُعَةِ، إنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فزِعَتْ لَهُ السَّماواتُ والأَرْض، والجبال، والبحار، والخلائق كلُّها إلا ابنَ آدم والشياطين، وحفَّتِ الملائكةُ بأبَواب المساجد، فيكتُبُونَ الأَوَلَ فالأَوَّل حتى يخرجَ الإِمامُ، فَإِذَا خَرَجَ الإِمامُ، طَوَوْا صُحفَهُم، ومَنْ جَاءَ بَعْدُ جَاءَ لِحَقِّ اللهِ، ولِمَا كُتِبَ عَلَيْهِ، ويَحِقُّ عَلَى كُلِّ حالِم أَن يَغْتَسِلَ فيه، كاغتِسالِه مِنَ الجَنَابَة، والصَّدَقَةُ فِيهِ أَفضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ في سَائِرِ الأيَّامِ، وَلَم تَطْلُعِ الشَّمس وَلَمْ تَغْرُب عَلَى يَوْم كَيَوْمِ الجُمُعةِ. قال ابن عباس: هذا حديث كعب وأبي هريرة، وأنا أرى، من كان لأهله طِيب أن يصرَّفه يومئذ.
وفي حديث أبي هُريرة: عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لا تطلع الشمس ولا تغرب على
يوم أفضلَ مِن يوم الجمعة، وما من دابة إلا وهي تفزَعُ ليوم الجمعة إلا هذين الثَّقلين مِن الجن والإِنس"، وهذا حديث صحيح وذلك أنه اليوم الذي تقومُ فيه الساعة، ويُطوى العالم، وتَخْرَب فيه الدنيا، ويُبعث فيه الناس إلى منازلهم من الجنة والنار.
التاسعة والعشرون: أنه اليومُ الذي ادَّخره الله لهده الأمة، وأضلَّ عنه أهلَ الكِتاب قبلهم، كما في "الصحيح"، من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ما طلعتِ الشَّمْسُ، ولا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ خَيِر مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ، هَدَانا اللهُ لَهُ، وَضَلَّ الناَّسُ عنَه، فالنَّاس لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، هوَ لَنَا، وَلليَهودِ يَوْمُ السَّبْت، وللنَّصَارَى يَومُ الأحد". وفي حديث آخر "ذخره اللهُ لَنَا".
وقال الإِمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمر بن قيس، عن محمد بن الأشعث، عن عائشة قالت: "بينما أنا عنِد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ استأذن رجلٌ من اليهود، فأذِن له، فقال: السَّامُ عَلَيْكَ، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وعَلَيْكَ. قالت: فَهَمِمْت أن أَتكلَّم، قالت: ثم دخل الثانية، فقال مِثلَ ذلك، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَلَيكَ، قالت. فهممتُ أن أتكلَّم، ثم دخل الثالثة، فقال: السَّامُ عليكم، قالت، فقلتُ: بل السَّامُ عَلَيْكُم، وغَضَبُ الله، إخوانَ القردة والخنازير، أتُحَيُون رسولَ الله بما لم يُحيِّه به اللهُ عَزَّ وجَلَّ. قالت: فنظر إليَّ فقال: مَهْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفُحْشَ وَلاَ التَّفَحُّشَ، قَالُوا قَوْلاً فَرَدَدْنَاه عَلَيْهِم، فَلَم يَضُرَّنَا شيئاً، وَلَزِمَهُم إلى يَومِ القِيَامَةِ،إِنّهُم لا يَحْسُدُونناَ عَلَى شيء كَمَا يَحْسُدُوننَا عَلَى الجُمُعَةِ التي هَدَانَا اللهُ لَها، وضَلّوا عَنْهَا، وَعَلى القِبْلَةِ الَّتي هَدَانَا اللهُ لهَا، وضَلوا عَنْها، وعَلَى قَوْلِنَا خلف الإِمام: آمين"
وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "نَحنُ الآخِرونَ السَّابِقونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، بَيْدَ أَنّهُمْ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِنَا، وأُوتِينَاهُ مِن بَعدِهمْ، فَهَذا يَوْمُهُمُ الَذِي فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيه، فَهَدانَا اللهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فيه تَبَعٌ، اليَهُودُ غَداً، والنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ".
وفي "بيد" لغتان بالباء، وهي المشهورة، ومَيْدَ بالميم، حكاها أبو عبيد.
وفي هذه الكلمة قولان، أحدهما: أنها بمعنى "غير" وهو أشهر معنييها، والثاني: بمعى "على" وأنشد أبو عبيد شاهداً له:
عَمْداً فَعلت ذَاكَ بيدَ أَنِّي ... إخَالُ لَو هَلَكْتُ لَمْ ترِنِّي
: ترِنِّي: تَفعلي مِن الرنين.
الثلاثون: أنه خِيرة الله من أيام الأسبوع، كما أن شهر رمضان خيرتُه من شهور العام، وليلة القدر خيرتُه من الليالي، ومكةُ خيرتُه مِن الأرض، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِيرتُه مِن خلقه. قال آدم بن أبي إياس: حدثنا شيبان أبو معاوية، عن عاصم بن أبي النّجود، عن أبي صالح، عن كعب الأحبار. قال: إن الله عزَّ وجَلَ اختار الشهورَ، واختار شهرَ رمضان، واختار الأيامَ، واختار يومَ الجمعة، واختار الليالي، واحتار ليلةَ القدر، واختار الساعاتِ، واختار ساعةَ الصلاة، والجمعةُ تكفِّر ما بينها وبين الجمعة الأخرى، وتزيد ثلاثاً، ورمضانُ يُكفِّرُ ما بينه وبين رمضان، والحجُّ يكفر ما بينه وبين الحج، والعُمْرَة تكفِّر ما بينها
وبين العمرة، ويموت الرجل بين حسنتين: حسنةٍ قضاها، وحسنةٍ ينتظرها يعني صلاتين، وتُصفَّد الشياطين في رمضان، وتُغْلَقُ أبواب النار، وتُفتحُ فيه أبوابُ الجنة، ويقال فيه: يا بَاغِيَ الخير؟ هلُم. رمضان أجمع، وما مِن ليالٍ أحب إلى الله العملُ فيهنَّ من ليالي العشر.
الحادية والثلاثون: إن الموتى تدنو أرواحُهم مِن قبورهم، وتُوافيها في يوم الجمعة، فيعرفون زُوَّارهم ومَن يَمُرُّ بهم، ويُسلم عليهم، ويلقاهم في ذلك اليوم أكثر من معرفتهم بهم في غيره من الأيام، فهو يوم تلتقي فيه الأحياء والأموات، فإذا قامت فيه الساعةُ، التقى الأولون والآخِرون، وأهلُ الأرض وأهلُ السماء، والربُّ والعبدُ، والعاملُ وعمله، والمظلومُ وظالِمُه والشمسُ والقمرُ، ولم تلتقيا قبل ذلك قطُّ، وهو يومُ الجمع واللقاء، ولهذا يلتقي الناسُ فيه في الدنيا أكثَر من التقائهم في غيره، فهو يومُ التلاق. قال ابو التياح يزيد بن حميد: كان مطرِّف بن عبد الله يبادر فيدخل كل جمعة، فأدلج حتى إذا كان عند المقابر يوم الجمعة، قال: فرأيت صاحبَ كلِّ قبر جالساً على قبره، فقالوا: هذا مطرِّف يأتي الجمعة، قال فقلت لهم: وتعلمون عن عندكم الجمعة؟ قالوا: نعم، ونعلم ما تقولُ فيه الطير، قلت: وما تقول فيه الطير؟ قالوا: تقول: ربي سلِّم سلِّم يوم صالح.
وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب "المنامات" وغيره، عن بعض أهل عاصم الجَحدري، قال: رأيت عاصماً الجحدريَّ في منامي بعد موته لسنتين، فقلتُ: أليس قد مِتَّ؟ قال: بلى، قلتُ: فأينَ أنت؟ قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة، أنا ونفرٌ مِن أصحابي، نجتمعُ كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني، فنتلقى أخباركم. قلت: أجسامُكم أم
أرواحكم؟ قال: هيهاتَ بَلِيت الأجسام، وإنما تتلاقى الأرواحُ، قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا لكم؟ قال: نعلم بها عشيَة الجمعة، ويومَ الجمعة كله، وليلةَ السبت إلى طلوع الشمس. قال: قلتُ: فكيف ذلك دونَ الأيام كلِّها؟ قال: لفضل يوم الجمعة وعظمته.
وذكر ابن أبي الدنيا أيضاً، عن محمد بن واسع، أنه كان يذهب كل غَداةِ سبت حتى يأتي الجبَّانة، فيقِف على القبور، فيُسلم عليهم، ويدعو لهم، ثم ينصرف. فقيل له: لو صيّرَت هذا اليومَ يوم الاثنين. قال: بلغني أن الموتى يعلمون بزوَّارِهم يومَ الجمعة، ويوماً قبله، ويوماً بعده.
وذكر عن سفيان الثوريَ قال بلغني عن الضحاك،أنه قال: من زار قبراًَ يومَ السبت قبل طلوع الشمس، علم الميت بزيارته فقيل له: كيف:ذلك؟ قال لِمكان يوم الجمعة.
الثانية والثلاثون: أنه يكره إفرادُ يوم الجمعة بالصوم، هذا منصوصُ أحمد، قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: صيام يوم الجمعة؟ فذكر حديثَ النهي عن أن يُفرد، ثم قال: إلا أن يكون في صيام كان يصومه، وأما أن يفردَ، فلا. قلت: رجل كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً، فوقع فطره يومَ الخميس، وصومه يوم الجمعة، وفِطره يومَ السبت، فصار الجمعة مفرداً؟ قال: هذا إلا أن يتعمَّد صومَه خاصة، إنما كُرِه أن يتعمد الجمعة.
وأباح مالك، وأبو حنيفة صومَه كسائر الأيام، قال مالك: لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه ومن يُقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيتُ بعض أهل العلم يصومُه، وأراه كان يتحراه. قال ابن عبد البر: اختلفت الآثارُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صيام يوم الجمعة،
v
فروى ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصوم ثلاثة أيام مِن كل شهر، وقال: قلَّمَا رأيته مفطِراً يومَ الجمعة وهذا حديث صحيح. وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: ما رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفطر يومَ الجمعة قطُ. ذكره ابن أبي شيبة، عن حفص بن غياث، عن ليث بن أبي سليم، عن عمير بن أبي عمير، عن ابن عمر.
وروى ابنُ عباس، أنه كان يصومُه ويُواظب عليه. وأما الذي ذكره مالك، فيقولون: إنه محمد بن المنكدر. وقيل: صفوان بن سليم.
وروى الدراوردي، عن صفوان بن سليم، عن رجل من بني جشم، أنه سمع أبا هُريرة يقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صامَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، كُتِبَ لَهُ عَشْرَةُ أيَّامٍ غُرَرٌ زُهْرٌ مِن أيَّامِ الآخِرَة لا يُشاكِلهُنَّ أيامُ الدُّنيا".
والأصل في صوم يوم الجمعة أنه عمل بر لايمنع منه إلا بدليل لا معارِض له. قُلتُ: قد صح المعارِض صحةً لامطعن فيها البتة، ففي "الصحيحين"، عن محمد بن عباد، قال: سألت جابراً: أنهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صيام يوم الجمعة؟ قال: نعم.
وفي "صحيح مسلم"، عن محمد بن عباد، قال: سألتُ جابر بن عبد الله، وهو يطوفُ بالبيت: أنهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صيام يوم الجمعة؟ قال: نعم وربِّ هذه البَنِيَّةِ.
وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة، قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لا يَصُومَنَّ أحدُكُم يَوْمَ الجُمُعَةِ إلا أنْ يَصُومَ يَوْمَاً قبلَهُ، أَو يَوَمَاًَ بَعْدَه". واللفظ للبخاري.
وفي "صحيح مسلم"، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "لا تَخصوا لَيْلَةَ الجُمُعَةِ بِقِيامِ من بين الليالي، ولا تَخُصُّوا يَومَ الجُمُعَةِ بصِيَام منْ بَيْن سَائِرِ الأَيَّامِ، إلا أَنْ يَكُونَ في صَوْمِ يَصُومُهُ أَحَدُكُم ".
وفي "صحيح البخاري"، عن جُويرية بنت الحارث، " أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل عليها يومَ الجمعة وهي صائمة، فقال: أصُمت أَمْسِ؟ قَالَتْ: لا. قَالَ: فَتُرِيدِينَ أن تَصُومي غداً؟ قالت: لا. قَالَ: فأَفطِري ".
وفي "مسند أحمد" عن ابن عباس، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تَصُومُوا يَومَ الجُمُعَةِ وَحْدَهُ".
وفي "مسنده" أيضاً عن جنادة الأزدي قال: دخلتُ على رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
يومَ جمعة في سبعة من الأزد، أنا ثامنهم وهو يتغدَّى، فقال: "هلموا إلى الغداء" فقلنا: يا رسولَ الله ! إنا صيام. فقال: أصُمتم أمسِ؟ قلنا: لا. قال: فتصومُون غداً؟ قلنا: لا. قال: فأَفْطِروا. قال: فأكلنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال.: فلما خرج وجَلَس على المنبر، دعا بإناء ماء، فشرب وهو على المنبر، والناسُ ينظرون إليه، يُريهم أنه لا يَصومُ يَومَ الجمعة".
وفي "مسنده" أيضاً، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَوْمُ الجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ، فَلاَ تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكم يَوْمَ صِيَامِكُم إلاَّ أَنْ تَصُومُوا قَبلَهُ أَوْ بَعْدَه".
وذكر ابن أبي شيبة، عن سفيان بن عُيينة، عن عمران بن ظبيان، عن حُكيم بن سعد، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: من كان منكم متطوعاً مِن الشهر أياماً، فليكن في صومه يوم الخميس، ولا يصمْ يومَ الجمعة، فإنه يومُ طعام وشراب، وذكر، فيجمع الله له يومين صالحين: يوم صيامه، ويوم نسكه مع المسلمين.
وذكر ابن جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: إنهم كرهوا صوم الجمعة لِيقْوَوْا على الصلاة.
قلتُ: المأخذ في كراهته: ثلاثة أمور، هذا أحدها، ولكن يُشكل عليه زوال الكراهية بضم يوم قبله، أو بعده إليه.
والثاني: أنه يوم عيد، وهو الذي أشار إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أُورِدَ على هذا
التعليل إشكالان. أحدهما: أن صومه ليسر بحرام، وصوم يوم العيد حرام. والثاني: إن الكراهة تزول بعدم إفراده، وأجيب عن الإِشكالين، بأنه ليس عيد العامٍ، بل عيد الأسبوع، والتحريمُ إنما هو لصوم عيد العام. وأما إذا صام يوماً قبله، أو يوماً بعده، فلا يكون قد صامه لأجل كونه جمعة وعيداً، فتزول المفسدة الناشئة من تخصيصه، بل يكون داخلاً في صيامه تبعاً، وعلى هذا يحمل ما رواه الإِمام أحمد رحمه الله في "مسنده" والنسائي، والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود إن صح قال: قَلَّمَا رأيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفطر يَوْمَ جمُعَةٍ. فإن صحّ هذا، تعين حمله على أنه كان يدخل في صيامه تبعاً، لا أنه كان يُفرده لصحة النهي عنه. وأين أحاديثُ النهي الثابتة في "الصحيحين"، من حديث الجواز الذي لم يروه أحد من أهل الصحيح، وقد حكم الترمذي بغرابته، فكيف تعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة، ثم يُقدم عليها؟!
والمأخذ الثالث: سد الذريعة من أن يُلحق بالدِّين ما ليس فيه، ويُوجب التشبه بأهل الكتاب في تخصيص بعض الأيام بالتجرد عن الأعمال الدنيوية، وينضم إلى هذا المعنى: أن هذا اليوم لما كان ظاهرَ الفضل على الأيام، كان الداعي إلى صومه قوياَ، فهو في مَظِنّةِ تتابع الناس في صومه، واحتفالِهم به ما لا يحتفلون بصوم يومٍ غيره، وفي ذلك إلحاق بالشرع ما ليس منه. ولهذا المعنى -والله أعلم - نهي عن تخصيص ليلةِ الجمعة بالقيام من بين الليالي، لأنها من أفضل الليالي، حتى فضَّلها بعضهم على ليلة القدر، وحكيت رواية عن أحمد، فهى في مَظِنَّةِ تخصيصها بالعبادة، فحسم الشارعُ الذريعة، وسدَّها بالنهي عن تخصيصها بالقيام. والله أعلم.
فإن قيل: ما تقولون في تخصيص يوم غيره بالصيام؟ قيل: أما تخصيص
ما خصصه الشارع، كيوم الاثنين، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، فسُنَّةٌ، وأما تخصيصُ غيره، كيوم السبت، والثلاثاء، والأحد، والأربعاء، فمكروه. وما كان منها أقربَ إلى التشبه بالكفار لتخصيص أيام أعيادهم بالتعظيم والصيام، فأشد كراهةً، وأقربُ إلى التحريم.
الثالثة الثلاثون: إنه يوم اجتماع الناس وتذكيرهم بالمبدأ والمعاد، وقد شرع الله سبحانه وتعالى لكل أمة في الأسبوع يوماً يتفرَّغون فيه للعبادة، ويجتمعون فيه لتذكُّر المبدإ والمعاد، والثواب والعقاب، ويتذَّكرون به اجتماعهم يوم الجمع الأكبر قياماً بينهن يدي رب العالمين، وكان أحق الأيام بهذا العرض المطلوب اليوم الذي يجمع الله فيه الخلائق، وذلك يوم الجمعة، فادَّخره الله لهذه الأمة لفضلها وشرفها، فشرع اجتماعهم في هذا اليومٍ لطاعته، وقدَّر اجتماعهم فيه مع الأمم لنيل كرامته، فهو يوم الاجتماع شرعا في الدنيا، وقدراً في الآخرة، وفي مقدار انتصافه وقت الخطبة والصلاة يكون أهل الجنة في منازلهم، وأهل النار في منازلهم، كما ثبت عن ابن مسعود من غير وجه أنه قال: لا ينتصف النهارُ يوم القيامة حتى يَقِيلَ أهلُ الجنة في منازلهم، وأهل النارِ في منازلهم، وقرأ: {أصحابُ الجَنَّةِ يومئذٍ خير مستقراً وأحسنُ مَقيلاً} [الفرقان:24] وقرأ: {ثُمَّ إنَّ مَقِيلَهْم لإِلى الجَحِيم} ، وكذلك هي في قراءته. ولهذا كون الأيام سبعة إنما تعرِفُه الأمم التي لها كتاب، فأما أمة لا كتاب لها، فلا تعرف ذلك إلا من تلقَّاه منهم عن أمم الأنبياء، فإنه ليس هنا علامة حِسِّية يُعرف بها كونُ الأيام سبعة، بخلاف الشهر والسنة، وفصولها، ولما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام.
وتعرَّف بذلك إلى عباده على ألسنة رسله وأنبيائه، شرع لهم في
الأسبوع يوماً يُذكِّرهم فيه بذلك، وحكمةِ الخلق وما خلقوا له، وبأجَل العالمِ، وطيِّ السماوات والأرض، وعَودِ الأمر كما بدأه سبحانه وعداً عليه حقاً، وقولاً صدقاً، ولهذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في فجر يوم الجمعة سورتي (الم تنزيل)؟ (هل أتى على الإِنسان) لما اشتملت عليه هاتان السورتان مما كان ويكون من المبدأ والمعاد، وحشر الخلائق، وبعثِهم من القبور إلى الجنة والنار، لا لأجل السجدة كما يظنه من نقص علمه ومعرفته، فيأتي بسجدة من سورة أخرى، ويعتقد أن فجر يوم الجمعة فضِّل بسجدة، وينكر على من لم يفعلها. وهكذا كانت قراءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المجامع الكبار، كالأعياد ونحوها، بالسورة المشتملة على التوحيد، والمبدإ والمعاد، وقصصِ الأنبياء مع أممهم، وما عامل الله به من كذَّبهم وكفر بهم من الهلاك والشقاء، ومن آمن منهم وصدَّقهم من النجاة والعافية. كما كان يقرأ في العيدين بسورتي (ق والقرآن المجيد)، و(اقتربت الساعةُ وانشقَّ القمرُ)؟ تارة: ب (سبح اسم ربك الأعلى)، و(هل أتاك حديث الغاشية)، وتارة يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة لما تضمَّنت
من الأمر بهذه الصلاة، وإيجابِ السَّعي إليها، وتركِ العلم العائق عنها، والأمر بإكثار ذكر الله ليحصُل لهم الفلاحُ في الدارين، فإن في نسيان ذكره تعالى العطبَ والهلاكَ في الدارين، ويقرأ في الثانية بسورة (إذا جاءك المنافقون) تحذيراً للأمة من النفاق المردي، وتحذيراً لهم أن تشغلَهَم أموالهُم وأولادهم عن صلاة الجمعة، وعن ذِكر الله، وأنهم إن فعلوا ذلك خسروا ولا بد، وحضاً لههم على الإِنفاق الذي هو من أكبر أسباب سعادتهم، وتحذيراً لهم من هجوم الموت وهم على حالة يطلبون الإِقالة، ويتمنَون الرجعة، ولا يُجابون إليها، وكذلك كان: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل عند قدوم وفد يريد أن يُسمعهم القرآن، وكان يُطيل قراءة الصلاة الجهرية لذلك، كما صلَّى المغرب ب (الأعراف) وب (الطور)، و(ق). وكان يُصلي الفجر بنحو مائة آية.
وكذلك كانت خطبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما هي تقرير لأصول الإِيمان من الإِيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائِه، وذكرِ الجنة، والنار، وما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعدَّ لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب مِن خُطبته إيماناًَ وتوحيداً، ومعرفة بالله وأيامه، لا كخُطب غيره التي إنما تُفيد أموراً مشتركة بين الخلائق، وهي النَّوح على الحياة، والتخويف بالموت، فإن هذا أمر لا يُحصِّلُ في القلب إيماناً بالله، ولا توحيداً له، ولا معرفة خاصة به، ولا تذكيراً بأيامه، ولا بعثاً للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة، غير أنهم يموتون، وتُقسم أموالهم، ويُبلي الترابُ أجسامهم، فيا ليت شعري أيّ إيمان حصل بهذا؟! وأيِّ توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟!.
ومن تأمل خطب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخطب أصحابه، وجدها كفيلة ببيان
الهدى والتوحيد، وذِكر صفات الربِّ جل جلاله، وأصولِ الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذِكر آلائه تعالى التي تُحبِّبه إلى خلقه وأيامِه التي تخوِّفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يُحبِّبهم إليه، فيذكرون مِن عظمة الله وصفاته وأسمائه، ما يُحبِّبه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره، وذِكره ما يُحبِّبهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم، ثم طال العهد، وخفي نور النبوة، وصارت الشرائعُ والأوامرُ رسوماً تُقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطَوْها صورها، وزيّنوها بما زينوها به فجعلوا الرسوم والأوضاع سنناً لا ينبغي الإخلالُ بها، وأخلُّوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإِخلال بها، فرصعوا الخُطب بالتسَجيع والفِقر، وعلم البديع، فَنقَص بل عَدمَ حظُ القلوب منها، وفات المقصود بها.
فمما حفظ من خطبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يكثر أن يخطُب بالقرآن وسورة (ق). قالت أم هشام بنت الحارث بن النعمان: ما حفظت (ق) إلا منْ في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يخطب بها على المنبر.
وحُفظ من خطبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من رواية علي بن زيد بن جدعان وفيها ضعف، "يا أيُّها الناسُ توبوا إلى الله عز وجل قبل أن تَموتوا، وبادِرُوا بالأعمال الصالحة قَبل أَن تُشغَلوا، وصِلوا الَّذي بينكم وبين ربَكم بكثرة ذِكركم له، وكثرةِ الصدقة في السرِّ والعلانية تُؤجروا، وتحمَدوا، وتُرزقوا. واعلموا أن الله عز وجل، قد فرض عليكم الجمعةَ فريضةَ مكتوبةَ في مقامي هذا، في شهري هذا، في عَامي هَذَا، إِلى يَوْمِ القِيامَةِ، مَنْ وَجَدَ إليها سَبِيلاً، فَمَن تَركَهَا في حياتي، أو بعد مماتي جحوداً بها، أو استخفافاً بها، وله إمامٌ جائر أو
عادِل، فلا جمع الله شملَه، ولا بارَك له في أمره، ألا ولا صَلاة له، ألا ولا وضوءَ له، ألا ولا صَومَ له، ألا ولا زَكَاةَ له، ألا ولا حجَ له، ألا ولا بَرَكَة له حتى يتوبَ، فإن تابَ، تابَ اللهُ عليه، ألا ولا تَؤُمَنَّ امْرَأَةٌ رَجُلاً، ألا ولا يَؤُمَنَّ أعرابي مُهاجِراً، ألا ولا يَؤمَنَّ فَاجرٌ مُؤمنَاً، إلا أن يَقهَرَهُ سلطَانٌ فَيخَافَ سَيْفَه وسَوطَه".
وحفظ مِن خطبته أيضاً: "الحمدُ لِله نستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله مِنْ شُرورِ أنفسنا، مَنْ يَهْدِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلِل فَلا هادي له، وأشهدُ أَلاَّ إله إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ لَهُ، وأشهدُ أن مُحمداً عبده ورسولُه، أرسله بالحقِّ بشيراً ونذيراً بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ، مَنْ يُطعِ اللهَ وَرَسُولَه، فَقَد رَشَدَ ومن يَعْصِهِمَا، فإنه لا يَضُرُّ إلا نَفْسَة، ولا يَضُرُّ الله شيئا ". رواه أبو داود وسيأتي إن شاء الله تعالى ذِكر خطبه في الحج.
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبه
كان إذا خطب، احمرَّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتد غضبُه حتى كأنه منذرُ جيش، يقول: "صَبَّحَكُمْ ومساكم" ويقول: "بُعِثتُ أَنَا والسَّاعَة كَهَاتَينِ، وَيَقْرُنُ بَيْنَ أصبُعَيهِ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى". ويقول: "أَمَّا بَعْدُ، فإنَّ خَيْرَ الحَديثِ كِتَابُ الله، وَخَيْرَ الهدْي هَدْي مُحَمَّدِ، وَشَرَّ الأُمورِ مُحْدَثَاتُها، وَكُلَّ بِدعَةٍ ضَلاَلَة ". ثم يقول: "أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، مَن ترَكَ مَالاً، فَلأَهلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنَاً أَو ضَيَاعاً، فإليَّ وعليَّ" رواه مسلم.
وفي لفظ: كانت خُطبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الجمعَةِ، يَحْمَدُ الله ويُثْنِي عَلَيهِ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى أثَرِ ذلِكَ وَقَدْ عَلاَ صَوْتُه فَذَكَرُه. في لفظ: يَحْمَدُ الله وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُه، ثُمَّ يَقُولُ: "مَنْ يَهْدِ اللهُ، فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ، فلاَ هَادِيَ لَهُ، وَخَيْر الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ".
وفي لفظ للنسائي، "وكُلُ بِدْعةٍ ضلاَلَةٌ، وَكُلّ ضلاَلَةٍ في النَّارِ".
وكان يقول في خطبته بعد التحميدِ والثناءِ والتشهد "أَمَّا بَعْدُ".
وكان يُقصِّرُ الخُطبة، ويطيل الصلاة، ويكثر الذِّكر، ويَقْصدُ الكلماتِ
الجوامع، وكان يقول: "إنَّ طُولَ صَلاَةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِه، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهٌ"
وكان يُعَلِّمُ أصحابَه في خُطبته قواعِدَ الإِسلام، وشرائعَه، ويأمرهم، وينهاهم في خطبته إذا عَرَض له أمر، أو نهى، كما أمر الداخل وهو يخطب أن يُصلي ركعتين.
ونهى المتخطِّي رِقابَ الناس عن ذلك، وأمره بالجلوس. وكان يقطعُ خطبته للحاجة تعْرِضُ، أو السؤالِ مِنْ أَحَدٍ من أصحابه، فيُجيبه، ثم يعود إلى خُطبته، فيتمُّها.
وكان ربما نزل عن المنبر للحاجة، ثم يعودُ فَيُتِمُّها، كما نزل لأخذ الحسن والحسين رضي الله عنهما، فأخذهما، ثم رَقِيَ بهما المنبر، فأتم خطبته.
وكان يدعو الرجل في خطبته: تعالَ يا فلان، اجلِسْ يا فلان، صلِّ يا فُلان.
وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته، فإذا رأىَ منهم ذا فاقة وحاجة، أمرهم بالصدقة، وحضهم عليها.
وكان يُشير بأصبعه السَّبَّابَة في خطبته عند ذكر الله تعالى ودعائه.
وكان يستسقي بهم إذا قَحَطَ المطر في خطبته.
وكان يمهل يوم الجمعة حتى يجتمعَ الناسُ، فإذا اجتمعوا، خرج إليهم وحدَه من غير شاويش يصيح بين يديه، ولا لبس طيلسان، ولا طرحة، ولا سواد، فإذا دخل المسجد، سلَّم عليهم، فإذا صَعِد المنبر، استقبل الناسَ بوجهه، وسلَّم عليهم، ولم يدع مستقبلَ القبلة، ثم يجلِس، ويأخذ بلالٌ في الأذان، فإذا فرغ. منه، قام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخطب من غير فَصلٍ بين الأذان والخطبة، لا بإيراد خبر ولا غيره.
ولم يكن يأخذ بيده سيفاً ولا غيرَه، وإنما كان يعتَمِد على قوس أو عصاً قبل أن يتَّخذ المنبر، وكان في الحرب يَعتمد على قوس، وفي الجمعة يعتمِد على عصا. ولم يُحفظ عنه أنه اعتمد على سيف، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائماً، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف، فَمِن فَرطِ جهله، فإنه لا يُحفظ عنه بعد اتخاذ المنبر أنه كان يرقاه بسيف، ولا قوس، ولا غيره، ولا قبل اتخاذه أنه أخذ بيده سيفاً البتة، وإنما كان يعتمِد على عصا أو قوس.
وكان منبره ثلاثَ درجات، وكان قبلِ اتخاذه يخطُب إلى جِذع يستند إليه، فلما تحوَّل إلى المنبر، حنَّ الجِذْعُ حنيناً سمعه أهل المسجد، فنزل إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضمَّه قال أنس: حنَّ لما فقد ما كان يسمع من الوحي، وفقده التصاق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولم يُوضع المنبر في وسط المسجد، وإنما وضع في جانبه الغربي قريباً من الحائط، وكان بينه وبين الحائط قدر ممر الشاة.
وكان إذا جلس عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير الجمعة، أو خطب قائماً في الجمعة، استدار أصحابُه إليه بوجوههم، وكان وجهه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبلَهم في وقت الخطبة.
وكان يقوم فيخطب، ثم يجلِس جلسة خفيفة، ثم يقوم، فيخطب الثانية، فإذا فرغ منها، أخذ بلال في الإِقامة. وكان يأمر الناس بالدنِّو منه، ويأمرهم بالإِنصات، وتخبرهم أن الرجل إذا قَالَ لِصاحبه: أَنْصِت فَقَدْ لَغَا. ويقول: "مَنْ لَغَا فَلاَ جمُعَة لَهُ". وكان يقول: "مَن تَكَلَّمَ يَوْمَ الجمُعَة
والإِمامُ يَخْطُبُ، فَهُوَ كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسفَاراً، والَذِي يَقُولَ لَه: أنْصت لَيْسَت لَهُ جُمُعَة ". رواه الإِمام أحمد.
وقال أبي بن كعب: قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الجمعة (تبارك) وهو قائم، فذكَّرنا بأيَّام الله، وأبو الدرداء أو أبو ذر يَغمِزُني، فقال: متى أُنزِلَتْ هذه السورة؟ فإني لم أسمعها إلى الآَن، فأشار إليه أن اسكت، فلما انصرفوا، قال: سألتُك متى أُنزلت هذه السورة فلم تخبرني، فقال: إنّه ليحسن لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوتَ، فذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر له ذلك، وأخبره بالذي قال له أُبي، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "صَدَق أبيُّ ". ذكره ابن ماجه، وسعيد بن منصور، وأصله في "مسند أحمد ".
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَحْضُر الجُمُعَة ثَلاثَةُ نَفَر: رَجُلٌ حَضرَها يَلغُو وَهُوَ حَظُه منها، ورَجُلٌ حَضَرَها يَدْعو، فَهُوَ رَجُلُ دَعا الله عَزَّ وَجَلَّ إن شَاءَ أَعْطَاهُ، وإنْ شَاءَ مَنَعَهْ، وَرَجلٌ حَضَرهَا بإنْصاتٍ وَسُكُوتٍ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُؤْذِ أحداً، فَهي كَفَّارَةٌ له إلى يَوْمِ الجُمُعَةِ التي تَليها، وَزيادَة ثَلاثَةَ أيْامٍ، وَذَلِكَ أن الله عزَّ وجَلَ يقول: {مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثَالِها} [الأنعام: 160]"، ذكره أحمد وأبو داود.
وكان إذا فرغ بلال من الأذان، أخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخطبة، ولم يقم أحدٌ يركع ركعتين البتة، ولم يكن الأذانُ إلا واحداً، وهذا يدل على أن الجمعة
كالعيد، لا سُنَّة لها قبلها، وهذا أصحُّ قولي العلماء، وعليه تدلُّ السُّنَّة، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يخرج مِن بيته، فإذا رَقِي المنبر، أخذ بلالٌ في أذان الجمعة، فإذا أكمله، أخذ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخطبة من غير فصل، وهذا كان رأَيَ عين، فمتى كانوا يُصلون السُّنَّة؟! ومن ظن أنهم كانوا إذا فرغ بلال رضي الله عنه من الأذان، قاموا كلُّهم، فركعوا ركعتن، فهو أجهلُ الناس بالسُّنَّة، وهذا الذي ذكرناه من أنه لا سُنَّة قبلها، هو مذهب مالك، وأحمد في المشهور عنه، وأحدُ الوجهين لأصحاب الشافعي.
والذين قالوا: إن لها سُنَّة، منهم من احتج أنها ظهرٌ مقصورة، فيثبت لها أحكامُ الظهر، وهذه حجة ضعيفة جداً، فإن الجمعة صلاةٌ مستقِلة بنفسها تُخالف الظهر في الجهر، والعدد، والخطبة، والشروط المعتبرة لها، وتُوافقها في الوقت، وليس إلحاقُ مسألة النزاع بموارد الاتفاق أولى من إلحاقها بموارد الافتراق، بل إلحاقها بموارد الافتراق أولى، لأنها أكثر مما اتفقا فيه.
ومنهم من أثبت السُّنَّة لها بالقياس على الظهر، وهو أيضاً قياس فاسد، فإن السُنَّة ما كان ثابتاً عن النبي من قول أو فعل، أو سُنة خلفائه الراشدين، وليس في مسألتنا شيء من ذلك، ولا يجوز إثباتُ السنن في مثل هذا بالقياس، وأن هذا مما انعقد سببُ فعله في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا لم يفعله ولم يشرعه، كان تركُه هو السُنَّة، ونظيرُ هذا، أن يُشرع لصلاة العيد سنة قبلها أو بعدها بالقياس، فلذلك كان الصحيحُ أنه لا يسن الغسل للمبيت بمزدلفة، ولا لِرمي الجمار، ولا للطواف، ولا للكسوف، ولا للاستسقاء، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابَه لم يغتسلوا لذلك مع فعلهم لهذه العبادات.
ومنهم من احتج بما ذكره البخاري في "صحيحه" فقال: باب الصلاة قبل الجمعة وبعدها: حدثنا عبد الله بن يُوسف، أنبأنا مالك، عن نافع،
عن ابن عمر، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يُصلي قبلَ الظُّهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وقبل العشاء ركعتين، وكان لا يُصلي بعد الجمعة حتى ينصَرِف، فيُصلي ركعتين وهذا لا حُجة فيه، ولم يُرد به البخاري إثباتَ السنة قبل الجمعة، وإنما مرادُه أنه هل ورد في الصلاة قبلها أو بعدها شيء؟ ثم ذكر هذا الحديث، أي: أنه لم يُرو عنه فعلُ السنة إلا بعدها، ولم يرد قبلها شيء.
وهذا نظير ما فعل في كتاب العيدين، فإنه قال: باب الصلاة قبل العيد وبعدها، وقال أبو المعلَّى: سمعت سعيداً عن ابن عباس، أنه كره الصلاة قبل العيد. ثم ذكر حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يوم الفطر، فصلَّى ركعتين، لم يصل قبلَهما ولا بعدَهما ومعه بلال الحديث.
فترجم للعيد مثلَ ما ترجم للجمعة، وذكر للعيد
حديثاً دالاً على أنه لا تشرع الصلاةُ قبلَها ولا بعدَها، فدل على أن مراده من الجمعة كذلك.
وقد ظن بعضُهم أن الجمعة لما كانت بدلاً عن الظهر- وقد ذكر في الحديث السنة قبل الظهر وبعدها - دلَّ على أن الجمعة كذلك، وإنما قال: "وكان لا يُصلي بعد الجمعة حتى ينصرِفَ" بياناً لموضع صلاة السنة بعد الجمعة، وأنه بعد الانصراف، وهذا الظن غلط منه، لأن البخاري قد ذكر في باب التطوع بعد المكتوبة حديثَ ابن عمر رضي الله عنه: صليتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدتينِ قبل الظهر، وسجدتين بعدَ الظهر، وسجدتين بعدَ المغرب، وسجدتينِ بعد العشاء، وسجدتينِ بعد الجمعة. فهذا صريح في أن الجمعة عند الصحابة صلاةٌ مستقِلَة بنفسها غير الظهر، وإلا لم يحتج إلى ذِكرها لِدخولها تحتَ اسم الظهر، فلما لم يذكر لها سنةً إلا بعدها، عُلِمَ أنه لا سنة لها قبلها.
ومنهم من احتج بما رواه ابن ماجه في "سننه" عن أبي هريرة وجابر، قال: جاء سُلَيك الغَطفاني ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطبُ فقال له: "أَصَلَّيْتَ ركْعَتَيْن قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ؟" قال: لا. قال: "فَصلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّز فيهما ". وإسناده ثقات.
قال أبو البركات ابن تيمية: وقوله: "قبل أن تجيء" يدل عن أن هاتين الركعتين سنة الجمعة، وليست تحية المسجد. قال: شيخنا حفيدُه أبو العباس: وهذا غلط، والحديث المعروف في "الصحيحين" عن جابر، قال: دخل رجال يومَ الجمعة ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، فقال "أَصلَّيْتَ" قال: لا.
قال: فَصّل رَكْعَتَيْن. وقال: "إذا جاء أَحَدُكُم الجُمُعَةَ والإِمَامُ يَخْطُبُ، فَليَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيتَجَوَّزْ فيهما ". فهذا هو المحفوظ في هذا الحديث، وأفراد ابن ماجه في الغالب غيرُ صحيحة، هذا معنى كلامه.
وقال شيخنا أبو الحجَّاج الحافظ المزي: هذا تصحيف من الرواة، إنما هو "أصليتَ قبل أن تجلس" فغلط فيه الناسخُ. وقال: وكتابُ ابنِ ماجه إنما تداولته شيوخ لم يعتنوا به، بخلاف صحيحي البخاري ومسلم، فإن الحفاظ تداولوهما، واعتَنَوْا بضبطهما وتصحيحهما، قال: ولذلك وقع فيه أغلاطٌ وتصحيف.
قلت: ويدل على صحة هذا أن الذين اعتَنَوْا بضبط سنن الصلاة قبلها وبعدها، وصنفوا في ذلك من أهل الأحكام والسنن وغيرها، لم يذكر واحدٌ منهم هذا الحديثَ في سنة الجمعة قبلها، وإنما ذكروه في استحباب فعل تحية المسجد والإِمام على المنبر، واحتجوا به على من منع مِن فعلها في هذه الحال، فلو كانت هي سنةَ الجمعة، لكان ذكرها هناك، والترجمةُ عليها، وحفظُها، وشهرتُها أولى من تحية المسجد. ويدل عليه أيضاً أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يأمر بهاتين الركعتين إلا الداخل لأجل أنها تحيةُ المسجد. ولو كانت سنة الجمعة، لأمر بها القاعدين أيضاً، ولم يخص بها الداخل وحده.
ومنهم من احتج بما رواه أبو داود في "سننه"، قال: حدثنا مسدَّد، قال: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر يُطيل الصلاة قبل الجمعة، ويُصلي بعدها ركعتين في بيته، وحدث أن رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل ذلك. وهذا لا حجة فيه على أن للجمعة سنةً قبلها، وإنما أراد بقوله: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل ذلك: أنه كان يُصلي الركعتين بعد الجمعة في بيته لا يُصليهما في المسجد، وهذا هو الأفضل فيهما، كما ثبت في "الصحيحين" عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته. وفي "السنن" عن ابن عمر، أنه إذا كان بمكة، فصلى الجمعة، تقدم، فصلّى ركعتين، ثم تقدم فصلَّى أربعاً، وإذا كان بالمدينة، صلى الجمعة، ثم رجع إلى بيته، فصلَّى ركعتين، ولم يُصل بالمسجد، فقيل له، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك. وأما إطالة ابن عمر الصلاة قبل الجمعة، فإنه تطوعٌ مطلق، وهذا هو الأولى لمن جاء إلى الجمعة أن يشتغِل بالصلاة حتى يخرج الإِمام، كما تقدم من حديث أبي هريرة، ونُبيشة الهذلي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من اغتسل يوم الجمعة، ثم أتى المسجدَ، فصلَّى ما قُدِّرَ له، ثم أنصتَ حتى يَفرُغَ الإمامُ من خُطبته، ثم يُصلي معه، غُفِرَ له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيَّامٍ". وفي حديث نُبيشة الهذلي: "إن المسلمَ إذا اغتسل يومَ الجمعة، ثم أقبلَ إلى المسجد لا يُؤذي أحداً، فإن لم يجد الإِمام خَرج، صلَّى ما بدا له، وإن وجد الإمامَ خرج، جلس، فاستمع وأنصت حتى يقضيَ الإمامُ جمعته وكلامَه، إن لمَ يُغفر له في جُمعته تلك ذنوبه كلُّها أَنْ تكون كَفَّارَةً للجمعة التي تليها" هكذا كان هديُ الصحابة
رضي الله عنهم.
قال ابن المنذر: روينا عن ابن عمر: أنه كان يُصلي قبل الجمعة ثِنتي عشرة ركعة.
وعن ابن عباس، أنه كان يصلي ثمان ركعات. وهذا دليل على أن ذلك كان منهم من باب التطوع المطلق، ولذلك اختلف في العدد المرويَ عنهم في ذلك، وقال الترمذي في "الجامع": ورُوي عن ابن مسعود، أنه كان يُصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً. وإليه ذهب ابنُ المبارك والثوريُّ.
وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء النيسابوري: رأيتُ أبا عبد الله، إذا كان يوم الجمعة يُصلي إلى أن يعلمَ أن الشمس قد قاربت أن تزول، فإذا قاربت، أمسك عن الصلاة حتى يُؤذِّنَ المؤذِّن، فإذا أخذ في الأذان، قام فصلى ركعتين أو أربعاً، يَفصِل بينهما بالسلام، فإذا صلى الفريضة، انتظر في المسجد، ثم يخرج منه، فيأتي بعض المساجد التي بحضرة الجامع، فيُصلي فيه ركعتين، ثم يجلس، وربما صلَّى أربعاً، ثم يجلس، ثم يقوم، فيصلي ركعتين أخريين، فتلك ست ركعات على حديث علي، وربما صلى بعد الست ستاً أخر، أو أقل، أو أكثر. وقد أخذ من هذا بعضُ أصحابه رواية: أن للجمعة قبلها سنة ركعتين أو أربعاً، وليس هذا بصريح، بل ولا ظاهر، فإن أحمد
كان يُمسك عن الصلاة في وقت النهي، فإذا زال وقت النهي، قام فأتم تطوعه إلى خروج الإِمام، فربما أدرك أربعاً، وربما لم يُدرك إلا ركعتين.
ومنهم من احتج على ثبوت السنة قبلها، بما رواه ابن ماجه في "سننه" حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا يزيد بن عبد ربِّه، حدثنا بقية، عن مبشر بن عبيد، عن حجاج بن أرطاة، عن عطية العَوْفي، عن ابن عباس، قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يركع قبل الجُمعة أربعاً، لا يفصِل بينها في شيء منها. قال ابن ماجه: باب الصلاة قبل الجمعة، فذكره.
وهذا الحديث فيه عدة بلايا، إحداها: بقية بن الوليد: إمام المدلسين وقد عنعنه، ولم يصرح بالسماع.
الثانية : مبشر بن عُبيد، المنكر الحديث. وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: شيخ كان يقال له: مبشر بن عبيد كان بحمص، أظنه كوفياً، روى عنه بقية، وأبو المغيرة، أحاديثُه أحاديث موضوعة كذب. وقال الدارقطني: مبشر بن عبيد متروك الحديث، أحاديثه لا يتابع عليها.
الثالثة: الحجاج بن أرطاة الضعيف المدلس.
الرابعة :.عطية العوفي، قال البخاري: كان هشيم يتكلم فيه، وضعفه أحمد وغيره.
وقال البيهقي: عطية العَوْفي لا يحتج به، ومبشر بن عبيد الحمصي منسوب إلى وضع الحديث، والحجاج بن أرطاة، لا يحتج به. قال بعضهم: ولعل الحديث انقلب على بعضِ هؤلاء الثلاثة الضعفاء، لعدم ضبطهم
وإتقانهم، فقال: قَبْلَ الجُمُعة أربعاً، وإنما هو بعد الجمعة، فيكون موافقاً لما ثبت في "الصحيح" ونظير هذا: قول الشافعي في رواية عبد الله بن عمر العمري: "للفارس سهمان، وللراجل سهم". قال الشافعي: كأنه سمع نافعاً يقول: للفرس سهمان، وللراجل سهم، فقال: للفارس سهمان، وللراجل سهم. حتى يكون موافقاً لحديث أخيه عبيد الله، قال: وليس يشك أحد من أهل العلم في تقديم عبيد الله بن عمر على أخيه عبد الله في الحفظ.
قلت: ونظير هذا ما قاله شيخُ الإِسلام ابن تيمية في حديث أبي هريرة "لا تَزَالُ جَهَنم يُلقى فيهَا، وهي تَقُول: هَل مِن مَزيد؟ حتى يَضَعَ ربُّ العِزَّةِ فيها قدمَه، فَيَرْوِي بَعضُها إلى بَعْض، وتقول: قَط، قَط. وأما الجنةُ: فيُنشىء الله لها خلقاً" فانقلب على بعض الرواة فقال أما النار: فينشىء الله لها خلقاً.
قلت: ونظيرُ هذا حديثُ عائشة "إن بلالاً يؤذِّن بلَيل، فكُلُوا واشرَبُوا حتى يُؤذِّن ابنُ أم مكتوم" وهو في "الصحيحين" فانقلب على بعض الرواة، فقال: ابنُ أم مكتوم يؤذِّن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذِّن بلال.
ونظيره أيضاً عندي حديث أبي هريرة "إذا صَلَى أَحَدُكُم فَلاَ يَبْرُك كمَا يَبْرُكُ البَعيرُ وليضَعْ يَدَه قَبْلَ رُكبَتَيْهِ" وأظنه وَهِمَ - والله أعلم - فيما قاله رسولُه
الصادق المصدوق، "وليضع ركبتيه قبل يديه". كما قال وائل بن حُجر: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إذا سجد، وضع رُكبتيه قبل يديه". وقال الخطابي وغيره: وحديثُ وائل بن حجر، أصح من حديث أبي هريرة. وقد سبقت المسألة مستوفاة في هذا الكتاب والحمد لله.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى الجمعة، دخل إلى منزله، فصلى ركعتين سُنَّتَها، وأمر مَنْ صلاها أن يُصليَ بعدها أربعاً. قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية: إن صلى في المسجد، صلى أربعاً، وإن صلى في بيته، صلى ركعتين. قلتُ: وعلى هذا تدل الأحاديث، وقد ذكر أبو داود عن ابن عمر أنه كان إذا صلَّى في المسجد، صلى أربعاً، وإذا صلى في بيته، صلى ركعتين.
وفي "الصحيحين": عن ابن عمر، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته. وفي "صحيح مسلم"، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الجُمُعَة، فَلْيصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ". والله أعلم.
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في العيدين
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي العيدين في المُصَلَّى، وهو المصلَّى الذي على باب المدينة الشرقي، وهو المصلَّى الذي يُوضع فيه مَحْمِلُ الحاج، ولم يُصلِّ العيدَ بمسجده إلا مرةً واحدة أصابهم مطر، فصلَّى بهم العيدَ في المسجد إن ثبت الحديث، وهو في سنن أبي داود وابن ماجة وهديُه كان فِعلهما في المصلَّى دائماً.
وكان يلبَس للخروج إليهما أجملَ ثيابه، فكان له حُلَّة يلبَسُها للعيدين والجمعة، ومرة كان يَلبَس بُردَين أخضرين، ومرة برداً أحمر، وليس هو أحمرَ مُصمَتاً كما يظنه بعضُ الناس، فإنه لو كان كذلك، لم يكن بُرداً، وإنما فيه خطوط حمر كالبرود اليمنية، فسمي أحمر باعتبار ما فيه من ذلك. وقد صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن غير معارضٍ النهيُ عن لُبس المعصفر والأحمر، وأمر عبد الله بن عمرو لما رأى عليه ثوبين أحمرين أن يَحرِقَهما فلم يكن ليكره الأحمر هذه الكراهة الشديدة ثم يلبَسُه، والذي يقُوم عليه الدليل تحريمُ لِباس الأحمر، أو كراهيتُه كراهية شديدة.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكُل قبلَ خروجه في عيد الفطر تمرات، ويأكلهن وتراً، وأما في عيد الأضحى، فكان لا يَطعَمُ حتى يَرجِعَ مِن المصلَّى، فيأكل من أضحيته.
وكان يغتسل للعيدين، صح الحديث فيه، وفيه حديثان ضعيفان:
حديث ابن عباس، من رواية جبارة بن مُغَلِّس، وحديث الفاكِه بن سعد، من رواية يوسف بن خالد السمتي. ولكن ثبت عن ابن عمر مع شِدة اتِّباعه للسُنَّة، أنه كان يغتسل يوم العيد قبل خروجه.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرج ماشياً، والعَنَزَةُ تحمل بين يديه، فإذا وصل إلى المصلَّى، نُصِبت بين يديه ليصليَ إليها، فإن المصلَّى كان إذ ذاك فضاءً لم يكن فيه بناءٌ ولا حائط، وكانت الحربةُ سُترتَه.
وكان يُؤَخِّر صلاة عيد الفطر، ويُعجِّل الأضحى، وكان ابنُ عمر مع شدة اتباعه للسنة، لا يخرُج حتى تطلُع الشمسُ، ويكبِّر مِن بيته إلى المصلى. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا انتهى إلى المصلَّى، أخذ في الصلاة من غير أذان ولا إقامة ولا قول: الصلاة جامعة، والسنة: أنه لا يُفعل شيء من ذلك.
ولم يكن هو ولا أصحابُه يُصلون إذا انتهوا إلى المصلَّى شيئاً قبل الصلاة ولا بعدها.
وكان يبدأ بالصلاة قبلَ الخُطبة، فيُصلِّي ركعتين، يكبِّر في الأولى سبعَ تكبيراتِ مُتوالية بتكبيرة الافتتاح، يسكُت بين كُل تكبيرتين سكتةً يسيرة، ولم يُحفَظ عَنه ذكرٌ معين بين التكبيرات، ولكن ذُكرَ عن ابن مسعود أنه قال: يَحمَدُ اللهَ، ويُثنيَ عليه، ويصلِّي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكرهَ الخلال. وكان ابنُ عمر مع تحريه للاتباع، يرفع يديه مع كُلِّ تكبيرة.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أتم التكبير، أخذ في القراءة، فقرأ فاتِحة الكتاب، ثم قرأ بعدها (ق والقرآن المجيد) في إحدى الركعتين، وفي الأخرى، (اقتربَت الساعَةُ وانشقَّ القَمَرُ).
وربما قرأ فيهما (سبحِّ اسمَ ربِّك الأعلى)، و(هل أتاك حديثُ الغَاشية) صح عنه هذا وهذا، ولم يَصِح عنه غيرُ ذلك.
فإذا فرغ من القراءة، كبَّر وركع، ثم إذا أكمل الركعة، وقام من السجود،
كبَّر خمساً متوالية، فإذا أكمل التكبيرَ، أخذ في القراءةِ، فيكون التكبيرُ أَوَّل ما يبدأ به في الركعتين، والقراءة يليها الركوع، وقد رُوي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه والى بين القراءتين، فكبر أولاً، ثم قرأ وركع، فلما قام في الثانية، قرأ وجعل التكبير بعد القراءة، ولكن لم يثبت هذا عنه، فإنه من رواية محمد بن معاوية النيسابوري. قال البيهقي: رماه غيرُ واحد بالكذب.
وقد روى الترمذي من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.كبَّر في العيدين في الأولى سبعاً قَبل القِرَاءَة، وفي الآخِرَة خمساً قَبلَ القراءة. قال الترمذي: سألت محمداً يعني البخاريَّ عن هذا الحديث، قال: ليس في الباب شيء أصحَّ مِن هذا، وبه أقول، وقال: وحديث عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده في هذا الباب، هو صحيح أيضاً.
قلت: يُريد حديثه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كبَّر في عيد ثِنتي عشرة تكبيرة، سبعاً في الأُولى، وخمساً في الآخرة، ولم يُصل قبلها ولا بعدها. قال أحمد: وأنا أذهب إلى هذا. قلت: وكثير بن عبد الله بن عمرو هذا ضرب أحمد على حديثه في "المسند" وقال: لا يُساوي حديثُه شيئاً، والترمذي تارة يُصحح
حديثه، وتارة يُحسنه، وقد صرح البخاريُّ بأنه أصح شيء في الباب، مع حكمه بصحة حديث عمرو بن شعيب، وأخبر أنه يذهب إليه. والله أعلم.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أكمل الصلاةَ، انصرف، فقام مُقابِل الناس، والناسُ جلوس على صفوفهم، فيعِظهم ويُوصيهم، ويأمرهم وينهاهم، وإن كان يُريد أن يقطع بعثاً قطعه، أو يأمر بشيء أمر به. ولم يكن هُنالك مِنبر يرقى عليه، ولم يكن يخْرِجُ منبر المدينة، وإنما كان يخطبهم قائماً على الأرض، قال جابر: شهِدتُ مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة يومَ العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال، فامر بتقوى الله، وحثَّ على طاعته، ووعظ الناَّس، وذكَّرهم، ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكَّرهُن، متفق عليه. وقال أبو سعيد الخُدري: كانَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرُج يوم الفِطر والأضحى إلى المُصلَّى، فأول ما يَبدأ به الصَّلاةُ، ثم ينصرِفُ، فيقُوم مقابِلَ الناس، والناسُ جلوس على صفوفهم... الحديث. رواه مسلم.
وذكر أبو سعيد الخُدري: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كان يخرج يوم العيد، فيُصلي بالناس ركعتين، ثم يُسَلِّم، فيقِف على راحلته مستقبِلَ الناس وهم صفوف جلوسٌ، فيقول: "تَصَدَّقوا" ، فأكثرُ من يتصدق النساء، بالقُرط والخاتم والشيء. فإن كانت له حاجة يُريد أن يبعث بعثاً يذكره لهم، وإلا انصرف.
وقد كان يقع لي أن هذا وهم، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما كان يخرج إلى
العيد ماشياً، والعنزة بين يديه، وإنما خطب على راحلته يومَ النحر بمِنى، إلى أن رأيتُ بَقِي بنَ مَخْلَد الحافظ قد ذكر هذا الحديث في "مسنده" عن أبي بكر بن أبي شيبة، حدَّثنا عبد الله بن نُمير، حدَّثنا داود بن قيس، حدَّثنا عِياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخُدري، قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرُج يَوْمَ العِيد مِن يَومِ الفِطر، فيُصلي بالناس تَيْنِكَ الركعتين، ثم يُسلم، فيستقبل الناس، فيقول: "تَصَدَّقُوا". وكان أكثرُ من يتصدق النساء وذكر الحديث.
ثم قال: حدَّثنا أبو بكر بن خلاَّد، حدَّثنا أبو عامر، حدَّثنا داود، عن عِياض، عن أبي سعيد: كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرُج في يوم الفطر، فيُصلي بالناس، فيبدأ بالركعتين، ثم يستقبِلُهم وهم جلوس، فيقول: "تَصدَّقُوا" فذكر مثله وهذا إسنادُ أبن ماجه إلا أنه رواه عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن داود. ولعله: ثم يقوم على رجليه، كما قال جابر: قام متوكئاً على بلال، فتصحَّف على الكاتب: براحلته. والله أعلم.
فإن قيل: فقد أخرجا في "الصحيحين" عن ابن عباس، قال شهِدتُ صلاةَ الفِطر مع نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبي بكر، وعمر، وعثمانَ رضي الله عنهم، فكلُّهم يُصَلِّيها قبل الخطبة، ثم يخطُب، قال: فنزل نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كأني أنظر إليه حين يُجَلِّسُ الرِّجالَ بيده، ثم أقبل يشقُّهم حتى جاء إلى النساء ومعه بلال، فقال: {يَأَيُّها النَّبيُّ إذا جَاءكَ المُؤمِناتُ يُبايِعْنَكَ على أَنْ لا
يُشْرِكْنَ بِالله شَيْئاً} [الممتحنة: 12] فتلا الآية حتى فرغ منها، الحديثَ.
وفي "الصحيحين" أيضاً، عن جابر، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام، فبدأ بالصلاة، ثم خطب النَّاسَ بَعْدُ، فلما فرغ نبيُّ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل فأتى النساء فذكَّرهن، الحديث. وهو يدل على أنه كان يخطب على منبر، أو على، راحلته، ولعله كان قد بُني له منبر من لَبِنٍ أو طين أو نحوه؟
قيل: لا ريب في صحة هذين الحديثين، ولا ريب أن المِنبر لم يكن يُخرَج من المسجد، وأول من أخرجه مروانُ بن الحكم، فأُنكِرَ عليه، وأما منبر اللَّبن والطين، فأول من بناه كثير بن الصلت في إمارة مروان على المدينة، كما هو في "الصحيحين" فلعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يقوم في المصلَى على مكان مرتفع، أو دُكان وهي التي تسمى مِصطَبة، ثم ينحدر منه إلى النساء، فيقِف عليهن، فيخطبهُن، فيعِظهن، ويذكِّرُهن. والله أعلم.
وكان يفتتح خُطَبه كلَّها بالحمد الله، ولم يُحفظ عنه في حديث واحد، أنه كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير، وإنما روى ابن ماجه في "سننه"
عن سعد القرظ مؤذِّن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه كان يُكثر التكبير بَيْنَ أضعافِ الخطبة، ويكثر التكبير في خطبتي العيدين. وهذا لايدل على أنه كان يفتتحها به. وقد اختلف الناسُ في افتتاح خُطبة العيدين والاستسقاء، فقيل: يُفتتحان بالتكبير، وقيل تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار، وقيل: يُفتتحان بالحمد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو الصواب، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال "كلُّ أَمْرٍ ذي بالٍ لاَ يُبْدَأ فيهِ بِحَمْدِ الله، فَهُوَ أَجْذَمُ".
وكان يفتتح خطبَه كلَّها بالحمد لله.
ورخص صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن شهد العيد: أن يجلس للخطبة، وأن يذهب، ورخَّص لهم إذا وقع العيدُ يومَ الجمعة أن يجتزئوا بصلاة العيد عن حضور الجمعة وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخالف الطريقَ يوم العيد، فيذهب في طريق، ويرجعُ
في آخر فقيل: ليسلِّمَ على أهل الطريقين، وقيل: لينال بركتَه الفريقان، وقيل: ليقضيَ حاجة من له حاجة منهما، وقيل: ليظهر شعائِرَ الإِسلام في سائر الفِجاج والطرق، وقيل: ليغيظ المنافقين برؤيتهم عِزَّة الإسلام وأهله، وقيام شعائره، وقيل: لتكثر شهادةُ البِقاع، فإن الذاهب إلىَ المسجد والمصلَّى إحدى خطوتيه ترفعُ درجة، والأخرى تحطُّ خطيئة حتى يرجع إلى منزله، وقيل وهو الأصح: إنه لذلك كُلِّه، ولغيره من الحِكَم التي لا يخلو فعلُه عنها.
وروي عنه، أنه كان يُكبِّر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكبَر، وَللَّهِ الحَمْدُ.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق